أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل عن أحاديث رويت عن النبي

    ج/ 18 ص -122- سُئِل شيخ الإسلام عما يروى عن النبي ﷺ عن الله - عز وجل - قال‏:‏ ‏"‏ما وسعني لا سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن‏"‏‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد لله، هذا ما ذكروه في الإسرائيليات ليس له إسناد معروف عن النبي ﷺ، ومعناه‏:‏ وسع قلبه محبتي ومعرفتي‏.‏ وما يروى‏:‏ القلب بيت الرب، هذا من جنس الأول، فإن القلب بيت الإيمان بالله تعالى ومعرفته ومحبته‏.‏
    وما يروونه‏:‏ كنت كنزًا لا أعرف‏!‏ فأحببت أن أعرف، فخلقت خلقًا فعرفتهم بي، فبي عرفوني، هذا ليس من كلام النبي ﷺ ولا أعرف له إسنادًا صحيحًا ولا ضعيفًا‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏إن الله خلق العقل، فقال له‏:‏ أقبل‏.‏ فأقبل، ثم قال له‏:‏ أدبر‏.‏ فأدبر، فقال‏:‏ وعزتي

    ج/ 18 ص -123- وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطي‏"‏ هذا الحديث باطل موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث‏.‏
    وما يروونه‏:‏ ‏"‏حب الدنيا رأس كل خطيئة‏"‏، هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي، وأما عن النبي ﷺ فليس له إسناد معروف‏.‏
    وما يروونه‏:‏ ‏"‏الدنيا حظوة رجل مؤمن‏"‏ هذا لا يعرف عن النبي ﷺ ولا غيره من سلف الأمة ولا أئمتها‏.‏ وما يروونه‏:‏ ‏"‏من بورك له في شيء فليلزمه، ومن ألزم نفسه شيئًا لزمه‏"‏، الأول‏:‏ يؤثر عن بعض السلف، والثاني‏:‏ باطل فإن من ألزم نفسه شيئًا قد يلزمه وقد لا يلزمه، بحسب ما يأمر به الله ورسوله‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏اتخذوا مع الفقراء أيادي فإن لهم في غد دولة وأي دولة‏؟‏‏!‏‏"‏، ‏"‏الفقر فخري وبه أفتخر‏"‏ كلاهما كذب لا يعرف في شيء من كتب المسلمين المعروفة‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏أنا مدينة العلم وعلي بابها‏"‏ هذا الحديث ضعيف، بل موضوع عند أهل العلم بالحديث،

    ج/ 18 ص -124- ولكن قد رواه الترمذي وغيره، ورفع هذا وهو كذب‏.‏
    وما يروونه‏:‏ أنه يقعد الفقراء يوم القيامة ويقول‏:‏ ‏"‏وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنكم لهوانكم علي، ولكن أردت أن أرفع قدركم في هذا اليوم، انطلقوا إلى الموقف‏.‏ فمن أحسن إليكم بكسرة، أو سقاكم شربة ماء، أو كساكم خرقة انطلقوا به إلى الجنة‏"‏، قال الشيخ‏:‏ الثاني كذب لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، وهو باطل خلاف الكتاب والسنة والإجماع‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏ لما قدم إلى المدينة خرجن بنات النجار بالدفوف وهن يقلن‏:‏

    طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

    إلي آخر الشعر، فقال لهن رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏هُزُّوا غرابيلكم بارك الله فيكم‏"‏ حديث النسوة وضرب الدف في الأفراح صحيح؛ فقد كان على عهد رسول الله ﷺ‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏"‏هزوا غرابيلكم‏"‏ هذا لا يعرف عنه‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي، فأسكني في أحب البقاع إليك‏"‏، هذا

    ج/ 18 ص -125- حديث باطل كذب، وقد رواه الترمذي وغيره، بل إنه قال لمكة‏:‏ ‏"‏إنك أحب بلاد الله إلي‏"‏‏.‏ وقال ‏"‏إنك لأحب البلاد إلى الله‏"‏‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏مَنْ زارني وزار أبي إبراهيم في عام دخل الجنة‏"‏، هذا كذب موضوع، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث‏.‏
    وما يروونه عن على رضي الله عنه ‏:‏ أن أعرابيًا صلى ونقر صلاته فقال علي‏:‏ لا تنقر صلاتك‏.‏ فقال الأعرابي‏:‏ يا علي، لو نقرها أبوك ما دخل النار‏.‏ هذا كذب‏.‏
    وما يروونه عن عمر‏:‏ أنه قتل أباه، هذا كذب‏.‏ فإن أباه مات قبل مبعث النبي ﷺ‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏‏
    "‏كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين‏"‏‏.‏ ‏"‏وكنت وآدم لا ماء ولا طين‏"‏، هذا اللفظ كذب باطل‏.‏
    وما يروونه‏:‏ ‏"‏العازب فراشه من نار، مسكين رجل بلا امرأة، ومسكينة امرأة بلا رجل‏"‏، هذا ليس من كلام النبي ﷺ‏.‏

    ج/ 18 ص -126- ولم يثبت عن إبراهيم الخليل عليه السلام لما بني البيت صلى في كل ركن ألف ركعة؛ فأوحي الله تعالى إليه‏:‏‏"‏يا إبراهيم، ما هذا سد جوعة أو ستر عورة‏"‏، هذا كذب ظاهر، ليس هو في شيء من كتب المسلمين‏.‏
    وما يروونه‏:‏ ‏"‏لا تكرهوا الفتنة، فإن فيها حصاد المنافقين‏"‏، هذا ليس معروفًا عن النبي ﷺ‏.‏
    وما يروونه‏:‏ ‏"‏من علم أخاه آية من كتاب الله ملك رِقَّه‏"‏، هذا كذب ليس في شيء من كتب أهل العلم‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏اطلعت على ذنوب أمتي، فلم أجد أعظم ذنبًا ممن تعلم آية ثم نسيها‏"‏‏.‏ إذا صح هذا الحديث فهذا عني بالنسيان التلاوة‏.‏ ولفظ الحديث أنه قال‏:‏ ‏"‏يوجد من سيئات أمتي الرجل يؤتيه الله آية من القرآن، فينام عنها حتى ينساها‏"‏ والنسيان الذي هو بمعني الإعراض عن القرآن، وترك الإيمان والعمل به، وأما إهمال درسه حتى ينسي فهو من الذنوب‏.‏
    وما يروونه‏:‏ ‏"‏أن آية من القرآن خير من محمد وآل محمد‏"‏‏.‏ القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق، فلا يشبه بغيره‏.‏ اللفظ المذكور غير مأثور‏.‏

    ج/ 18 ص -127- وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من علم علمًا نافعًا وأخفاه عن المسلمين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار‏"‏، هذا معناه معروف في السنن عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من سئل عن علم يعلمه، فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار‏"‏‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إذا وصلتم إلى ما شجر بين أصحابي فأمسكوا، وإذا وصلتم إلى القضاء والقدر فأمسكوا‏"‏ هذا مأثور بأسانيد منقطعة‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ أنه قال لسلمان الفارسي وهو يأكل العنب ‏:‏
    ‏"‏دو، دو‏"‏ يعني‏:‏ عنبتين، عنبتين هذا ليس من كلام النبي ﷺ، وهو باطل‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏مَنْ زَنَي بامرأة، فجاءت منه ببنت، فللزاني أن يتزوج
    بابنته من الزنا‏"
    ‏ هذا يقوله من ليس من أصحاب الشافعي،وبعضهم ينقله عن الشافعي‏.‏ ومن أصحاب الشافعي من أنكر ذلك عنه، وقال‏:‏ إنه لم يصرح بتحليل ذلك، ولكن صرح بحل ذلك من الرضاعة إذا رضع من لبن المرأة الحامل من الزنا‏.‏ وعامة العلماء؛ كأحمد وأبي حنيفة وغيرهما متفقون على تحريم ذلك‏.‏ وهذا أظهر القولين في مذهب مالك‏.‏ وما يروونه‏:‏ ‏"‏أحق ما أخذتم عليه أجرة كتاب الله‏"‏ نعم، ثبت

    ج/ 18 ص -128- ذلك أنه قال‏:‏ ‏"‏أحق ما أخذتم عليه أجرة كتاب الله‏"‏ لكنه في حديث الرقية، وكان الجعل على عافية مريض القوم لا على التلاوة‏.‏
    وهل يحرم اتخاذ أبراج الحمام إذا طارت من الأبراج تحط على زراعات الناس وتأكل الحب‏.‏ فهل يحرم اتخاذ أبراج الحمام في القري والبلدان لهذا السبب‏؟‏ نعم، إذا كان يضر بالناس منع منه‏.‏
    وما يروونه عن النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏من ظلم ذميًا كان الله خصمه يوم القيامة، أو كنت خصمه يوم القيامة‏"‏ هذا ضعيف، لكن المعروف عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏من قتل معاهدًا بغير حق لم يَرَحْ رائحةَ الجنة‏"‏‏.
    وما يروونه عنه‏:‏ ‏"‏من أسرج سراجًا في مسجد لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في المسجد ضَوْءُ ذلك السراج‏"‏،هذا لا أعرف له إسنادًا عن النبي ﷺ‏.

    ج/ 18 ص -129-وسئل شيخ الإسلام
    عن قوله ﷺ فيما يروي عن ربه عز وجل ‏:‏ ‏"‏وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته‏"‏ ما معنى تردد الله‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا‏:‏ إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب‏.‏ وربما قال بعضهم‏:‏ إن الله يعامل معاملة المتردد‏.‏
    والتحقيق أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله، ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانًا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس؛ وأجهلهم وأسوئهم أدبًا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله ﷺ

    ج/ 18 ص -130- عن الظنون الباطلة؛ والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا‏.‏ فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه، كما قيل‏:‏

    الشيب كره وكره أن أفارقه فأعجب لشيء على البغضاء محبوب

    وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح‏:‏‏"‏حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏كُتِبَ عليكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]
    ومن هذا الباب، يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال‏:‏ ‏"‏لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه‏"‏ فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبًا للحق، محبًا له، يتقرب إليه أولًا بالفرائض، وهو

    ج/ 18 ص -131- يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتي بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين، بقصد اتفاق الإرادة، بحيث يحب ما يحبه محبوبه، ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه‏.‏
    والله سبحانه وتعالى قد قضي بالموت، فكل ما قضي به فهو يريده ولابد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده؛ وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحق من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقة التردد وهو‏:‏ أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، وإن كان لابد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته، كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته‏.‏
    ثم قال بعد كلام سبق ذكره‏:‏ ومن هذا الباب ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان، فإن الله تعالى يبغض ذلك ويسخطه، ويكرهه وينهي عنه، وهو سبحانه قد قدره وقضاه وشاءه بإرادته الكونية، وإن لم يرده بإرادة دينية، وهذا هو فصل الخطاب فيما تنازع فيه الناس، من أنه سبحانه هل يأمر بما لا يريده‏؟‏

    ج/ 18 ص -132- فالمشهور عند متكلمة أهل الإثبات، ومن وافقهم من الفقهاء أنه يأمر بما لا يريده، وقالت القدرية والمعتزلة وغيرهم‏:‏ إنه لا يأمر إلا بما يريده‏.‏
    والتحقيق أن الإرادة في كتاب الله نوعان‏:‏ إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية، فالأول كقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏"‏[‏البقرة‏:‏185‏]‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عليكم‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26: 27‏]‏ ، فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا وهي الإرادة الدينية‏.‏ وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏"‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ ‏.‏
    وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ ، ومثل قول المسلمين‏:‏ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن‏.‏ فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والإشاءة لا يخرج عنها خير ولا شر، ولا عرف ولا نكر، وهذه الإرادة والإشاءة تتناول ما لا يتناوله الأمر الشرعي، وأما الإرادة الدينية فهي مطابقة للأمر الشرعي لايختلفان، وهذا التقسيم الوارد في اسم الإرادة يرد مثله في اسم الأمر والكلمات، والحكم والقضاء، والكتاب والبعث،

    ج/ 18 ص -133- والإرسال ونحوه؛ فإن هذا كله ينقسم إلى‏:‏ كوني قدري، وإلى ديني شرعي‏.‏
    والكلمات الكونية هي‏:‏ التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر، وهي التي استعان بها النبي ﷺ في قوله‏:‏
    ‏"‏أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ ‏.‏
    وأما الدينية فهي‏:‏ الكتب المنزلة التي قال فيها النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏"‏ وقال تعالى‏:‏‏"‏وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ‏"‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏ ‏.‏
    وكذلك الأمر الديني، كقوله تعالى‏:‏
    ‏"‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏"‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ ، والكونية‏:‏ ‏"‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا‏"‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ ‏.‏
    والبعث الديني، كقوله تعالى‏:‏ ‏
    "‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ‏"‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ ، والبعث الكوني‏:‏ ‏"‏بَعَثْنَا عليكم عِبَادًا لَّنَا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏5‏]‏ ‏.‏
    والإرسال الديني، كقوله‏:‏
    ‏"‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ‏"‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏ ، والكوني‏:‏ ‏"‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا‏"‏[‏مريم‏:‏ 83‏]‏ ‏.‏

    ج/ 18 ص -134- وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏ فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية، داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وهو -سبحانه- مع ذلك لم يردها إرادة دينية، ولا هي موافقة لكلماته الدينية، ولا يرضي لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، فصارت له من وجه مكروهة‏.‏ ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن، فإن ذلك يكرهه؛ والكراهة مساءة المؤمن، وهو يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه، وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به، فإنه قد ثبت في الصحيح‏:‏ ‏"‏أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له‏"‏‏.‏
    وأما المنكرات، فإنه يبغضها ويكرهها؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فيرحمون بالتوبة، وإن كانت التوبة لابد أن تكون مسبوقة بمعصية؛ ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب‏.‏
    والثاني‏:‏ أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة خيرًا فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى الله، والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح، وأما المعاصي التي لا يتاب منها فهي شر على صاحبها، والله سبحانه قدر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من

    ج/ 18 ص -135- الحكمة، كما قال‏:‏ ‏"‏صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ‏"‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏ ، فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة‏.‏
    ولكن هذا بحر واسع قد بسطناه في مواضع، والمقصود هنا التنبيه على أن الشيء المعين يكون محبوبًا من وجه، مكروهًا من وجه وأن هذا حقيقة التردد، وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص‏.‏ والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML