ج/ 18 ص -65- قال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
قول أحمد بن حنبل: إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به؛ فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملًا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم؛ ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل الدين المشروع.
وإنما مرادهم بذلك: أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع؛ كتلاوة القرآن، والتسبيح، والدعاء، والصدقة، والعتق، والإحسان إلى الناس، وكراهة الكذب والخيانة، ونحو ذلك، فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال
ج/ 18 ص -66- المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها - فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به، بمعني: أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب، كرجل يعلم أن التجارة تربح، لكن بلغه أنها تربح ربحًا كثيرًا، فهذا إن صدق نفعه وإن كذب لم يضره، ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات، والمنامات، وكلمات السلف والعلماء، ووقائع العلماء، ونحو ذلك، مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي، لا استحباب ولا غيره، ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب، والترجية والتخويف.
فما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإن ذلك ينفع ولا يضر، وسواء كان في نفس الأمر حقًا أو باطلًا، فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه؛ فإن الكذب لا يفيد شيئًا، وإذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام، وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه، وأحمد إنما قال: إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، ومعناه: أنا نروي في ذلك بالأسانيد، وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم. وكذلك قول من قال: يعمل بها في فضائل الأعمال، إنما العمل بها العمل بما فيها من
ج/ 18 ص -67- الأعمال الصالحة، مثل: التلاوة والذكر والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة.
ونظير هذا قول النبي ﷺ في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو: "بَلِّغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" مع قوله ﷺ في الحديث الصحيح: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم"، فإنه رَخَّصَ في الحديث عنهم، ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم، فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به، ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم، فالنفوس تنتفع بما تظن صدقه في مواضع.
فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرًا وتحديدًا مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة لم يجز ذلك؛ لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي، بخلاف ما لو روي فيه من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله كان له كذا وكذا! فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين كما جاء في الحديث المعروف: "ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس".
ج/ 18 ص -68- فأما تقدير الثواب المروي فيه فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته،وفي مثله جاء الحديث الذي رواه الترمذي: "من بَلَغه عن الله شيء فيه فضل فعمل به رجاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك".
فالحاصل أن هذا الباب يروي ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب، ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي.
ج/ 18 ص -69-وسئل عن
قوم اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ ومنهم من يقول: لم يثبت عن النبي ﷺ حديث واحد بالتواتر؛ إذ التواتر نقل الجَمِّ الغفير عن الجم الغفير؟
فأجاب:
أما من أنكر تواتر حديث واحد فيقال له: التواتر نوعان: تواتر عن العامة، وتواتر عن الخاصة، وهم أهل علم الحديث. وهو أيضا قسمان: ما تواتر لفظه، وما تواتر معناه. فأحاديث الشفاعة والصراط والميزان والرؤية وفضائل الصحابة، ونحو ذلك متواتر عند أهل العلم، وهي متواترة المعني، وإن لم يتواتر لفظ بعينه، وكذلك معجزات النبي ﷺ الخارجة من القرآن متواترة أيضًا، وكذلك سجود السهو متواتر أيضًا عند العلماء، وكذلك القضاء بالشفعة ونحو ذلك.
وعلماء الحديث يتواتر عندهم ما لا يتواتر عند غيرهم؛ لكونهم
ج/ 18 ص -70- سمعوا ما لم يسمع غيرهم، وعلموا من أحوال النبي ﷺ ما لم يعلم غيرهم، والتواتر لا يشترط له عدد معين، بل من العلماء من ادعي أن له عددًا يحصل له به العلم من كل ما أخبر به كل مخبر. ونفوا ذلك عن الأربعة وتوقفوا فيما زاد عليها، وهذا غلط فالعلم يحصل تارة بالكثرة، وتارة بصفات المخبرين، وتارة بقرائن تقترن بأخبارهم وبأمور أخر.
وأيضًا، فالخبر الذي رواه الواحد من الصحابة والاثنان، إذا تلقته الأمة بالقبول والتصديق أفاد العلم عند جماهير العلماء، ومن الناس من يسمي هذا: المستفيض. والعلم هنا حصل بإجماع العلماء على صحته؛ فإن الإجماع لا يكون على خطأ؛ ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم صحته عند علماء الطوائف؛ من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية والأشعرية، وإنما خالف في ذلك فريق من أهل الكلام كما قد بسط في موضعه.