ج/ 18 ص -48- قال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
وأما عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين فلفظ المتواتر يراد به معان؛ إذ المقصود من المتواتر ما يفيد العلم، لكن من الناس من لا يسمي متواترًا إلا ما رواه عدد كثير يكون العلم حاصلًا بكثرة عددهم فقط، ويقولون: إن كل عدد أفاد العلم في قضية أفاد مثل ذلك العدد العلم في كل قضية، وهذا قول ضعيف.
والصحيح ما عليه الأكثرون: أن العلم يحصل بكثرة المخبرين تارة، وقد يحصل بصفاتهم لدينهم وضبطهم، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر، يحصل العلم بمجموع ذلك، وقد يحصل العلم بطائفة دون طائفة.
وأيضًا، فالخبر الذي تلقاه الأئمة بالقبول تصديقًا له أو عملًا بموجبه، يفيد العلم عند جماهير الخلف والسلف، وهذا في معني المتواتر، لكن من الناس من يسميه المشهور والمستفيض، ويقسمون الخبر إلى: متواتر،
ج/ 18 ص -49- ومشهور، وخبر واحد، وإذا كان كذلك، فأكثر متون الصحيحين معلومة متقنة، تلقاها أهل العلم بالحديث بالقبول والتصديق، وأجمعوا على صحتها، وإجماعهم معصوم من الخطأ، كما أن إجماع الفقهاء على الأحكام معصوم من الخطأ، ولو أجمع الفقهاء على حكم كان إجماعهم حجة، وإن كان مستند أحدهم خبر واحد أو قياس أو عموم، فكذلك أهل العلم بالحديث إذا أجمعوا على صحة خبر أفاد العلم، وإن كان الواحد منهم يجوز عليه الخطأ، لكن إجماعهم معصوم عن الخطأ.
ثم هذه الأحاديث التي أجمعوا على صحتها قد تتواتر وتستفيض عند بعضهم دون بعض، وقد يحصل العلم بصدقها لبعضهم؛ لعلمه بصفات المخبرين، وما اقترن بالخبر من القرائن التي تفيد العلم، كمن سمع خبرًا من الصديق أو الفاروق يرويه بين المهاجرين والأنصار، وقد كانوا شهدوا منه ما شهد، وهم مصدقون له في ذلك، وهم مُقِرُّون له على ذلك، وقوله: "إنما الأعمال بالنيات" هو مما تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، وليس هو في أصله متواترًا، بل هو من غرائب الصحيح، لكن لما تلقوه بالقبول والتصديق صار مقطوعًا بصحته.
وفي السنن أحاديث تلقوها بالقبول والتصديق، كقوله ﷺ: "لا وصية لوارث" فإن هذا مما تلقته الأمة بالقبول والعمل بموجبه، وهو في السنن ليس في الصحيح.
ج/ 18 ص -50- وأما عدد ما يحصل به التواتر، فمن الناس من جعل له عددًا محصورًا، ثم يفرق هؤلاء، فقيل: أكثر من أربعة، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعون، وقيل: سبعون، وقيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل: غير ذلك. وكل هذه الأقوال باطلة؛ لتكافئها في الدعوي.
والصحيح الذي عليه الجمهور أن التواتر ليس له عدد محصور، والعلم الحاصل بخبر من الأخبار يحصل في القلب ضرورة، كما يحصل الشبع عقيب الأكل والرِّي عند الشرب، وليس لما يشبع كل واحد ويرويه قدر معين، بل قد يكون الشبع لكثرة الطعام، وقد يكون لجودته كاللحم، وقد يكون لاستغناء الآكل بقليله، وقد يكون لاشتغال نفسه بفرح، أو غضب، أو حزن، ونحو ذلك.
كذلك العلم الحاصل عقيب الخبر، تارة يكون لكثرة المخبرين، وإذا كثروا فقد يفيد خبرهم العلم، وإن كانوا كفارًا. وتارة يكون لدينهم وضبطهم. فرب رجلين أو ثلاثة يحصل من العلم بخبرهم ما لا يحصل بعشرة وعشرين، لا يوثق بدينهم وضبطهم، وتارة قد يحصل العلم بكون كل من المخبرين أخبر بمثل ما أخبر به الآخر، مع العلم بأنهما لم يتواطآ، وأنه يمتنع في العادة الاتفاق في مثل ذلك، مثل من يروي حديثًا طويلًا فيه فصول ويرويه آخر لم يلقه. وتارة يحصل العلم بالخبر لمن عنده الفطنة والذكاء والعلم بأحوال المخبرين وبما أخبروا به
ج/ 18 ص -51- ما ليس لمن له مثل ذلك. وتارة يحصل العلم بالخبر؛ لكونه روي بحضرة جماعة كثيرة شاركوا المخبر في العلم، ولم يكذبه أحد منهم؛ فإن الجماعة الكثيرة قد يمتنع تواطؤهم على الكتمان، كما يمتنع تواطؤهم على الكذب.
وإذا عرف أن العلم بأخبار المخبرين له أسباب غير مجرد العدد علم أن من قيد العلم بعدد معين، وسوي بين جميع الأخبار في ذلك فقد غلط غلطًا عظيمًا؛ ولهذا كان التواتر ينقسم إلى: عام،وخاص، فأهل العلم بالحديث والفقه قد تواتر عندهم من السنة ما لم يتواتر عند العامة؛ كسجود السهو، ووجوب الشفعة، وحمل العاقلة العقل، ورجم الزاني المحصن، وأحاديث الرؤية وعذاب القبر، والحوض والشفاعة، وأمثال ذلك.
وإذا كان الخبر قد تواتر عند قوم دون قوم، وقد يحصل العلم بصدقه لقوم دون قوم، فمن حصل له العلم به وجب عليه التصديق به والعمل بمقتضاه، كما يجب ذلك في نظائره، ومن لم يحصل له العلم بذلك فعليه أن يسلم ذلك لأهل الإجماع، الذين أجمعوا على صحته، كما على الناس أن يسلموا الأحكام المجمع عليها إلى من أجمع عليها من أهل العلم؛ فإن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وإنما يكون إجماعها بأن يسلم غير العالم للعالم؛ إذ غير العالم لا يكون له قول، وإنما القول للعالم، فكما أن من لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقوله فمن لا يعرف طرق العلم بصحة الحديث لا يعتد بقوله، بل على كل من ليس بعالم أن يتبع إجماع أهل العلم.