فصل
وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فهذا أول من عرف أنه قسمه هذه القسمة أبو عيسي الترمذي، ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله، وقد بين أبو عيسي مراده بذلك، فذكر أن الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيهم متهم بالكذب، ولم يكن شاذا، وهو دون الصحيح الذي عرفت عدالة ناقليه وضبطهم. وقال: الضعيف الذي عرف أن ناقله متهم بالكذب رديء الحفظ؛ فإنه إذا رواه المجهول خِيفَ أن يكون كاذبا أو سيئ الحفظ. فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه، واتفاق الاثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعًا، وقد يكون بعيدًا، ولما كان تجويز اتفاقهما في ذلك ممكنًا نزل عن درجة الصحيح.
وقد أنكر بعض الناس على الترمذي هذه القسمة وقالوا: إنه يقول: حسن غريب. والغريب الذي انفرد به الواحد، والحديث قد
ج/ 18 ص -24- يكون صحيحًا غريبًا كحديث "إنما الأعمال بالنيات" وحديث "نهي عن بيع الولاء وهبته" وحديث "دخل مكة وعلى رأسه المغفر" فإن هذه صحيحة متلقاة بالقبول، والأول: لا يعرف ثابتًا عن غير عمر، والثاني: لا يعرف عن غير ابنه عبد اللّه، والثالث: لا يعرف إلا من حديث الزهري عن أنس، ولكن هؤلاء - الذين طعنوا على الترمذي- لم يفهموا مراده في كثير مما قاله؛ فإن أهل الحديث قد يقولون: هذا الحديث غريب، أي: من هذا الوجه، وقد يصرحون بذلك فيقولون: غريب من هذا الوجه، فيكون الحديث عندهم صحيحًا معروفًا من طريق واحد، فإذا روي من طريق آخر كان غريبًا من ذلك الوجه، وإن كان المتن صحيحًا معروفًا، فالترمذي إذا قال: حسن غريب، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق؛ ولكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن.
وبعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه، فقد يضعف حديثًا ويصححه البخاري؛ كحديث ابن مسعود لما قال له النبي ﷺ: "ابغني أحجارًا أسْتَنْفِضُ بهن" قال: فأتيته بحجرين ورَوْثَة، قال: فأخذ الحجرين وترك الرَّوْثة وقال: "إنها رجس" فإن هذا قد اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف
ج/ 18 ص -25- علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه، وأما البخاري فصححه من طريق أخري؛ لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن سعيد بن المسيب، وتارة عن أبي سلمة، وتارة يجمعهما، فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا يظن بعض الناس أن ذلك غلط، وكلاهما صحيح. وهذا باب يطول وصفه.
وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي، لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف، والضعيف عندهم نوعان:
ضعيف ضعفا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي.
وضعيف ضعفًا يوجب تركه، وهو الواهي، وهذا بمنزلة مرض المريض، قد يكون قاطعًا بصاحبه فيجعل التبرع من الثلث، وقد لا يكون قاطعًا بصاحبه، وهذا موجود في كلام الإمام أحمد وغيره؛ ولهذا يقولون: هذا فيه لين، فيه ضعف، وهذا عندهم موجود في الحديث.
ج/ 18 ص -26- ومن العلماء المحدثين أهل الإتقان مثل: شعبة ومالك والثوري ويحيي بن سعيد القَطَّان وعبد الرحمن بن مهدي، هم في غاية الإتقان والحفظ، بخلاف من هو دون هؤلاء، وقد يكون الرجل عندهم ضعيفًا لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه إذًا الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به؛ فإن تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضًا، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجارًا فساقًا، فكيف إذا كانوا علماء عدولا ولكن كثر في حديثهم الغلط؟!
ومثل هذا عبد اللّه بن لَهِيعَة، فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضيًا بمصر، كثير الحديث، لكن احترقت كتبه، فصار يحدث من حفظه، فوقع في حديثه غلط كثير، مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به، مثل: ابن لَهِيعة.
وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب، فمنهم من لا يروي عن هذا شيئًا، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره، لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب، لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به والاعتضاد.
ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب، ويقول: إنه
ج/ 18 ص -27- يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهي عن الأخذ عنه، ويذكر أنه يعرف، ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرًا بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه بقرائن لا يمكن ضبطها. وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق، أو تقترن به القرائن تدل على أنه كذب.