أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

تفسير سورة الإخلاص

    ج/ 17 ص -5-"التفسير"
    شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده‏.‏
    سُورَة الإخْلاص
    سئل شَيْخ الإسْلام رَحمهُ الله تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه عما ورد في سورة‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ أنها تعدل ثلث القرآن، وكذلك ورد في سورة‏:‏ ‏[‏الزلزلة‏]‏ و‏"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏"‏ و‏[‏الفاتحة‏]‏، هل ما ورد في هذه المعادلة ثابت في المجموع أم في البعض‏؟‏ ومن روي ذلك‏؟‏ وما ثبت من ذلك‏؟‏ وما معنى هذه المعادلة وكلام الله واحد بالنسبة إليه عز وجل ‏؟‏ وهل هذه المفاضلة بتقدير

    ج/ 17 ص -6- ثبوتها متعدية إلى الأسماء والصفات أم لا‏؟‏ والصفات القديمة والأسماء القديمة هل يجوز المفاضلة بينها مع أنها قديمة‏؟‏ ومن القائل بذلك‏؟‏ وفي أي كتبه قال ذلك‏؟‏ ووجه الترجيح في ذلك بما يمكن من دليل عقلي ونقلي‏؟‏
    فأجاب رضي الله عنه‏:‏
    الحمد لله، أما الذي أخرجه أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم فأخرجوا فضل ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏، وروي عن الدارقطني أنه قال‏:‏ لم يصح في فضل سورة أكثر مما صح في فضلها‏.‏ وكذلك أخرجوا فضل ‏[‏فاتحة الكتاب‏]‏ قال ﷺ فيها‏:‏ ‏"‏إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها‏"‏، لم يذكر فيها أنها تعدل جزءًا من القرآن كما قال في ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏‏:‏ ‏"‏إنها تعدل ثلث القرآن‏"‏، ففي صحيح البخاري عن الضحاك المشْرِقي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ لأصحابه‏:‏ ‏"‏أيعجز أَحَدُكُمْ أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة‏؟‏‏"‏، فشق ذلك عليهم وقالوا‏:‏ أينا يطيق ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الله الواحد الصمد ثلث القرآن‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن مَعْدَان بن أبي طَلْحَةَ عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن‏؟‏‏"‏

    ج/ 17 ص -7- قالوا‏:‏ وكيف يقرأ ثلث القرآن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ تعدل ثلث القرآن‏"‏‏.‏
    وروي مسلم أيضًا عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إن الله جَزَّأ القرآنَ ثلاثةَ أجزاءٍ‏.‏ فجعل ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"جزءًا من أجزاء القرآن‏"‏‏.‏ وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صَعْصَعَة، عن أبي سعيد؛ أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي ﷺ فذكر ذلك له، وكان الرجل يَتَقَالُّهَا، فقال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن‏"‏‏.‏ وأخرج عن أبي سعيد قال‏:‏ أخبرني أخي قتادة بن النعمان أن رجلاً قام في زمن رسول الله ﷺ يقرأ من السحر ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ لا يزيد عليها‏.‏ ‏.‏ الحديث، بنحوه‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن‏"‏ قال‏:‏ فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله ﷺ فقرأ‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ ثم دخل، فقال بعضنا لبعض‏:‏ إني أري هذا خبرًا جاءه من السماء، فذاك الذي أدخله‏.‏ ثم خرج نبي الله ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏إني قلت لكم‏:‏ سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن‏"‏‏.‏ وفي لفظ له قال‏:‏ خرج علينا رسول الله

    ج/ 17 ص -8- ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏أقرأ عليكم ثلث القرآن‏"‏ فقرأ‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏"‏ حتى ختمها‏.‏
    وأما حديث ‏[‏الزلزلة‏]‏ و ‏
    "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏"‏[‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏، فروي الترمذي عن أنس ابن مالك قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏من قرأ‏:‏ ‏"إِذَا زُلْزِلَتِ‏"عدلت له نصف القرآن، ومن قرأ"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏" عدلت له ربع القرآن‏"‏‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏‏"إِذَا زُلْزِلَتِ‏"تعدل نصف القرآن، و‏"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏" تعدل ربع القرآن‏"‏ رواهما الترمذي وقال عن كل منهما‏:‏ غريب‏.‏
    وأما حديث ‏[‏الفاتحة‏]‏، فروي البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى قال‏:‏ كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله ﷺ فلم أجبه، فقلت‏:‏ يا رسول الله، إني كنت أصلي‏.‏
    قال‏:‏ ‏"‏ألم يقل الله‏:‏ ‏
    "اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم‏"‏‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏‏"الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏، هي السبع المثاني والقرآن العظيم‏"‏‏.‏ وفي السنن والمسانيد من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال لأبي بن كعب‏:‏ ‏"‏ألا أعلمك سورة ما أُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏فإني أرجو

    ج/ 17 ص -9- ألا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها‏"‏، وقال فيه‏:‏ ‏"‏كيف تقرأ في الصلاة‏؟‏‏"‏ فقرأت عليه أم القرآن، فقال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، ما أُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أُعطيته‏"‏‏.‏ ورواه مالك في الموطأ عن العلاء ابن عبد الرحمن عن أبي سعيد مولى عامر بن كُريز مرسلاً‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عُقبة بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط‏:‏"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ‏"‏، و ‏"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ‏"‏"‏، وفي لفظ‏:‏ قال لي رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏أُنزل علي آياتٌ لم ير مثلهن قط، المعوذتان‏"‏، فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم ير مثل المعوذتين، كما أخبر أنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثل الفاتحة، وهذا مما يبين فضل بعض القرآن على بعض‏.‏
    فصل
    وأما السؤال عن معنى هذه المعادلة مع الاشتراك في كون الجميع كلام الله، فهذا السؤال يتضمن شيئن‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن كلام الله هل بعضه أفضل من بعض أم لا‏؟‏
    والثاني‏:‏ ما معنى كون
    ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ تعدل ثلث القرآن‏؟‏ وما سبب ذلك‏؟‏

    ج/ 17 ص -10-فنقول‏:‏
    أما الأول، فهو مسألة كبيرة، والناس متنازعون فيها نزاعا منتشرًا، فطوائف يقولون‏:‏ بعض كلام الله أفضل من بعض، كما نطقت به النصوص النبوية، حيث أخبر عن ‏[‏الفاتحة‏]‏ أنه لم ينزل في الكتب الثلاثة مثلها‏.‏ وأخبر عن سورة ‏[‏الإخلاص‏]‏ أنها تعدل ثلث القرآن وعدلها لثلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف‏.‏ وجعل ‏[‏آية الكرسي‏]‏ أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال لأبي ابن كعب‏:‏ ‏"‏يا أبا المنذر، أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏
    ‏"‏يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله أعظم‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ ‏"اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏"‏ قال‏:‏ فضرب في صدري وقال‏:‏ ‏"‏لِيَهْنِك العلمُ أبا المنذر‏"‏‏.‏ ورواه ابن أبي شيبة في مسنده بإسناد مسلم، وزاد فيه‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، إن لهذه الآية لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش‏"‏‏.‏ وروي أنها سيدة آي القرآن‏.‏ وقال في المعوذتين‏:‏ ‏"‏لم ير مثلهن قط‏"‏‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، فأخبر أنه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيانٌ من الله لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارة أو خير منها أخري، فدل ذلك على أن

    ج/ 17 ص -11-الآيات تتماثل تارة وتتفاضل أخرى‏.‏ وأيضًا فالتوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام الله مع علم المسلمين بأن القرآن أفضل الكتب الثلاثة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"وَأَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه‏"‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏"‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، فأخبر أنه أحسن الحديث، فدل على أنه أحسن من سائر الأحاديث المنزلة من عند الله وغير المنزلة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وسواء كان المراد بذلك الفاتحة أو القرآن كله، فإنه يدل على أن القرآن العظيم له اختصاص بهذا الوصف على ما ليس كذلك‏.‏
    وقد سمى الله القرآن كله مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدي الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشر سور منه، أو بمثل سورة منه فقال‏:‏ ‏
    "فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ‏"‏ ‏[‏الطور‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ‏"‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏‏.‏
    وخصه بأنه لا يقرأ في الصلاة إلا هو، فليس لأحد أن يقرأ غيره مع قراءته ولا بدون قراءته، ولا يصلي بلا قرآن، فلا يقوم غيره

    ج/ 17 ص -12-مقامه مع القدرة عليه، وكذلك لا يقوم غير الفاتحة مقامها من كل وجه باتفاق المسلمين، سواء قيل بأنها فرض تعاد الصلاة بتركها، أو قيل بأنها واجبة يأثم تاركها ولا إعادة عليه، أو قيل‏:‏ إنها سنة، فلم يقل أحد‏:‏ إن قراءة غيرها مساوٍ لقراءتها من كل وجه‏.‏
    وخص القرآن بأنه لا يمس مصحفه إلا طاهر، كما ثبت ذلك عن الصحابة مثل سعد وسلمان وابن عمر وجماهير السلف والخلف الفقهاء الأربعة وغيرهم‏.‏ ومضت به سنة رسول الله ﷺ في كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم الذي لا ريب في أنه كتبه له، ودل على ذلك كتاب الله‏.‏ وكذلك لا يقرأ الجنب القرآن عند جماهير العلماء الفقهاء الأربعة وغيرهم كما دلت على ذلك السنة‏.‏
    وتفضيل أحد الكلامين بأحكام توجب تشريفه يدل على أنه أفضل في نفسه، وإن كان ذلك ترجيحًا لأحد المتماثلين بلا مرجح، وهذا خلاف ما علم من سنة الرب تعالى في شرعه بل وفي خلقه، وخلاف ما تدل عليه الدلائل العقلية مع الشرعية‏.‏ وأيضًا، فقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إليكُم مِّن رَّبِّكُم‏"‏[‏الزمر‏:‏ 55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏"‏ ‏[‏الزمر 17، 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏‏.‏ فدل على

    ج/ 17 ص -13-أن فيما أنزل حسن وأحسن، سواء كان الأحسن هو الناسخ الذي يجب الأخذ به دون المنسوخ؛ إذ كان لا ينسخ آية إلا يأتي بخير منها أو مثلها، أو كان غير ذلك‏.‏
    والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة، مثل ما سيأتي ذكره عن أبي العباس بن سُرَيْج في تفسيره لهذا الحديث بأن الله أنزل القرآن على ثلاثة أقسام‏:‏ ثلث منه أحكام، وثلث منه وعد ووعيد، وثلث منه الأسماء والصفات‏.‏ وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات‏.‏
    ومثل ما ذكره أصحاب الشافعي وأحمد في مسألة تعيين الفاتحة في الصلاة‏.‏ قال أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي في كتاب ‏[‏الاصطلام‏]‏ ‏:‏ وأما قولهم‏:‏ إن سائر الأحكام المتعلقة بالقرآن لا تختص بالفاتحة‏.‏ قلت‏:‏ سائر الأحكام قد تعلقت بالقرآن على العموم، وهذا على الخصوص؛ بدليل أن عندنا قراءة الفاتحة على التعيين مشروعة على الوجوب وعندكم على السنة‏.‏ قال‏:‏ وقد قال أصحابنا‏:‏ إن قراءة الفاتحة لما وجبت في الصلاة وجب أن تتعين الفاتحة؛ لأن القرآن امتاز عن غيره بالإعجاز، وأقل ما يحصل به الإعجاز سورة، وهذه السورة أشرف السور؛ لأنها السبع المثاني، ولأنها تصلح عوضا عن جميع السور ولا

    ج/ 17 ص -14-تصلح جميع السور عوضاً عنها؛ ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل سورة ما على قدرها من الآيات، وذلك من الثناء والتحميد للرب والاستعانة والاستعاذة والدعاء من العبد، فإذا صارت هذه السورة أشرف السور، وكانت الصلاة أشرف الحالات، فتعينت أشرف السور في أشرف الحالات‏.‏ هذا لفظه، فقد نقل عن أصحاب الشافعي أن هذه السورة أشرف السور، كما أن الصلاة أشرف الحالات، وبينوا من شرفها على غيرها ما ذكروه‏.‏
    وكذلك ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أحمد، كالقاضي أبي يعلى ابن القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى ابن الفراء، قال في تعليقه ومن خطه نقلت قال في مسألة كون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة‏:‏ أما الطريق المعتمد في المسألة فهو أنا نقول‏:‏ الصلاة أشرف العبادات وجبت فيها القراءة، فوجب أن يتعين لها أشرف السور، والفاتحة أشرف السور، فوجب أن تتعين‏.‏ قال‏:‏ واعلم أنا نحتاج في تمهيد هذه الطريقة إلى شيئن‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الصلاة أشرف العبادات، والثاني‏:‏ أن الحمد أشرف السور‏.‏ واستدل على ذلك بما ذكره قال‏:‏ وأما الدليل على أن فاتحة الكتاب أشرف، فالنص، والمعنى، والحكم‏.‏
    أما النص، فما تقدم من أنها عوض من غيرها‏.‏ وعن أبي سعيد

    ج/ 17 ص -15-الخدري عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏فاتحة الكتاب شفاء من السم‏"‏‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب من السماء، أودع علومها أربعة منها‏:‏ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها، فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن‏.‏ وأما المعنى، فهو أن الله قابلها بجميع القرآن فقال‏:‏ ‏"وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏"‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏وهذه حقيقة لا يدانيها غيرها فيها‏.‏ قلت‏:‏ هذا على قول من جعلها هي السبع المثاني وجعل القرآن العظيم جميع القرآن‏.‏ قال‏:‏ ولأنها تسمى ‏[‏أم القرآن‏]‏ وأم الشيء أصله ومادته ولهذا سمى الله مكة‏:‏ أم القري؛ لشرفها عليهن ولأنها السبع المثاني؛ ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل عليه سورة من الثناء والتحميد للرب تعالى، والاستعانة به والاستعاذة والدعاء من العبد على ما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي‏"‏ الحديث المشهور‏.‏ قال‏:‏ ولأنه لم ينزل مثلها في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في شيء من الكتب، يدل عليه أنها تيسر قراءتها على كل أحد ما لا يتيسر غيرها من القرآن‏.‏

    ج/ 17 ص -16-وتضرب بها الأمثال؛ ولهذا يقال‏:‏ فلان يحفظ الشيء مثل الفاتحة‏.‏ وإذا كانت بهذه المثابة، فغيرها لا يساويها في هذا، فاختصت بالشرف، ولأنها السبع المثاني‏.‏ قال أهل التفسير‏:‏ معنى ذلك أنها تثني قراءتها في كل ركعة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ثني نزولها على النبي ﷺ‏.‏ قلت‏:‏ وفيه أقوال أخر‏.‏
    قال‏:‏ وأما الحكم؛ فلأنه تستحب قراءتها في كل ركعة، ويكره الإخلال بها، ولولا أنها أشرف، لما اختصت بهذا المعنى، يدل عليه أن عند المنازعين يعني أصحاب أبي حنيفة أن من أخل بقراءتها، وجب عليه سجود السهو‏.‏ فنقول‏:‏ لا يخلو إما أن تكون ركنًا أو ليست بركن، فإن كانت ركنًا، وجب ألا تجبر بالسجود، وإن لم تكن ركنًا، وجب ألا يجب عليه سجود‏.‏ قلت‏:‏ يعني بذلك أن السجود لا يجب إلا بترك واجب في حال العمد، فإذا سها عنه، وجب له السجود، وما كان واجبًا، فإذا تعمد تركه، وجب أن تبطل صلاته، لأنه لم يفعل ما أمر به، بخلاف من سها عن بعض الواجبات، فإن هذا يمكن أن يجبر ما تركه بسجود السهو‏.‏ ومذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة أن سجود السهو واجب؛ لأن من الواجبات عندهم ما إذا تركه سهوًا لم تبطل الصلاة، كما لا تبطل بالزيادة سهوًا باتفاق العلماء، ولو زاد عمدًا لبطلت الصلاة‏.‏ لكن مالكًا وأحمد في المشهور عنهما يقولان‏:‏

    ج/ 17 ص -17-ماكان واجبًا إذا تركه عمدًا، بطلت صلاته، وإذا تركه سهوًا؛ فمنه ما يبطل الصلاة، ومنه ما ينجبر بسجود السهو، فترك الركوع والسجود والقراءة يبطل الصلاة مطلقًا، وترك التشهد الأول عندهما يبطل الصلاة عمده، ويجب السجود لسهوه‏.‏ وأما أبو حنيفة فيقول‏:‏ الواجب الذي ليس بفرض كالفاتحة إذا تركه كان مسيئًا ولا يبطل الصلاة‏.‏ والشافعي لا يفرق في الصلاة بين الركن والواجب، ولكن فرق بينهما في الحج هو وسائر الأئمة‏.‏ والمقصود هنا ذكر بعض من قال‏:‏ إن الفاتحة أشرف من غيرها‏.‏ وقال أبو عمر ابن عبد البر‏:‏ وأما قول النبي ﷺ لأُبَي‏:‏ ‏"‏هل تعلم سورة ما أنزل الله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها‏؟‏‏"‏ فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير؛ لأن فيها الثناء على الله عز وجل بما هو أهله، وما يستحقه من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره؛ لأن كل نعمة وخير منه لا من سواه، فهو الخالق الرازق لا مانع لما أعطي ولا معطي لما منع، وهو محمود على ذلك، وإن حَمِد غيره فإليه يعود الحمد‏.‏ وفيها التعظيم له وأنه الرب للعالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة، وهو المعبود والمستعان‏.‏ وفيها تعليم الدعاء والهدي، ومجانبة طريق من ضل وغوي‏.‏ والدعاء لباب العبادة‏.‏ فهي أجمع سورة للخير، ليس في الكتب مثلها على هذه

    ج/ 17 ص -18-الوجوه‏.‏ قال‏:‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى ذلك أنها تجزئ الصلاة بها دون غيرها ولا يجزئ غيرها عنها‏.‏ وليس هذا بتأويل مجتمع عليه‏.‏ قلت‏:‏ يعني بذلك أن في هذا نزاعًا بين العلماء، وهو كون الصلاة لا تجزئ إلا بها، وهذا يدل على أن الوصف الأول متفق عليه بين العلماء وهو أنها أفضل السور‏.‏
    ومن هذا الباب ما في الكتاب والسنة من تفضيل القرآن على غيره من كلام الله‏:‏ التوراة والإنجيل وسائر الكتب، وأن السلف كلهم كانوا مقرين بذلك ليس فيهم من يقول‏:‏ الجميع كلام الله، فلا يفضل القرآن على غيره‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، فأخبر أنه أحسن الحديث‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏‏.‏ و‏"أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ قيل‏:‏ إنه مصدر، وقيل‏:‏ إنه مفعول به‏.‏ قيل المعنى‏:‏ نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص، كما يقال‏:‏ نكلمك أحسن التكليم ونبين لك أحسن البيان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ نحن نبين لك أحسن البيان‏.‏ والقَاصُّ‏:‏ الذي يأتي بالقصة على حقيقتها‏.‏ قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏"بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ‏"‏ أي‏:‏ بوحينا إليك هذا القرآن، ومن قال هذا قال‏:‏ ‏"بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ‏"‏، وعلى هذا القول فهو كقوله‏:‏ نقرأ

    ج/ 17 ص -19-عليك أحسن القراءة، ونتلو عليك أحسن التلاوة‏.‏ والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ نقص عليك أحسن ما يقص، أي‏:‏ أحسن الأخبار المقصوصات، كما قال في السورة الأخري‏:‏ ‏"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً‏"‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏، ويدل على ذلك قوله في قصة موسى‏:‏ ‏"فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عليه الْقَصَصَ‏"‏[‏القصص‏:‏ 25‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأولى الأَلْباب‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏، المراد‏:‏ خبرهم ونبأهم وحديثهم، ليس المراد مجرد المصدر‏.‏ والقولان متلازمان في المعنى كما سنبينه ولهذا يجوز أن يكون هذا المنصوب قد جمع معنى المصدر ومعنى المفعول به؛ لأن فيه كلا المعنيين، بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به، فإنه إذا انتصب بهذا المعنى، امتنع المعنى الآخر‏.‏
    ومن رجح الأول من النحاة كالزجاج وغيره قالوا‏:‏ القصص مصدر، يقال‏:‏ قص أثره يقصه قَصَصًا، ومنه قوله تعالى‏:‏
    ‏"فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وكذلك اقتص أثره وتقصص، وقد اقتصصت الحديث‏:‏ رويته على وجهه، وقد اقتص عليه الخبر قصصًا‏.‏ وليس القَصَصُ بالفتح جمع قصة كما يظنه بعض العامة، فإن ذلك يقال في قِصَصٍ بالكسر واحده قصة، والقصة‏:‏ هي الأمر والحديث الذي يقص، فعلة بمعنى مفعول، وجمعه قِصَصٍ بالكسر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏ بالفتح لم يقل‏:‏ أحسن القِصَصُ بالكسر، ولكن

    ج/ 17 ص -20-بعض الناس ظنوا أن المراد‏:‏ أحسن القِصَص بالكسر، وأن تلك القصة قصة يوسف، وذكر هذا طائفة من المفسرين‏.‏
    ثم ذكروا‏:‏ لم سميت أحسن القصص‏؟‏ فقيل‏:‏ لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة‏.‏ وقيل‏:‏ لامتداد الأوقات بين مبتداها ومنتهاها‏.‏ وقيل‏:‏ لحسن محاورة يوسف وإخوته، وصبره على أذاهم، وإِغْضَائِهِ عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء، وكرمه في العفو‏.‏ وقيل‏:‏ لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والإنس والجن، والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار، والعلماء والجهال، والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن، وفيها أيضًا ذكر التوحيد والفقه والسير، وتعبير الرؤيا والسياسة، والمعاشرة وتدبير المعاش، فصارت أحسن القصص؛ لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا‏.‏ وقيل فيها‏:‏ ذكر الحبيب والمحبوب‏.‏ وقيل‏:‏ ‏[‏أحسن‏]‏ بمعنى‏:‏ أعجب‏.‏
    والذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص منهم من يعلم أن ‏[‏القَصَصَ‏]‏ بالفتح هو النبأ والخبر، ويقولون‏:‏ هي أحسن الأخبار والأنباء، وكثير منهم يظن أن المراد‏:‏ أحسن القِصَص بالكسر وهؤلاء جهال بالعربية، وكلا القولين خطأ، وليس المراد بقوله‏:‏ ‏
    "أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏، قصة يوسف وحدها، بل هي مما قصه الله، ومما يدخل في أحسن القصص؛

    ج/ 17 ص -21-ولهذا قال تعالى في آخر السورة ‏"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إليهم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأولى الأَلْباب مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 109 ‏:‏111‏]‏ فبين أن العبرة في قصص المرسلين، وأمر بالنظر في عاقبة من كذبهم، وعاقبتهم بالنصر‏.‏
    ومن المعلوم أن قصة موسى وما جري له مع فرعون وغيره، أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير؛ ولهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن، ثناها الله أكثر من غيرها، وبسطها وطولها أكثر من غيرها، بل قصص سائر الأنبياء كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين أعظم من قصة يوسف؛ ولهذا ثني الله تلك القصص في القرآن ولم يثن قصة يوسف؛ وذلك لأن الذين عادوا يوسف لما يعادوه على الدين، بل عادوه عداوة دنيوية، وحسدوه على محبة أبيه له وظلموه، فصبر واتقي الله، وابتلي صلوات الله عليه بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة، فصبر واتقي الله في هذا وفي هذا، وابتلي أيضًا بالملك، فابتلي بالسراء والضراء فصبر واتقي الله في هذا وهذا، فكانت قصته من أحسن القصص، وهي

    ج/ 17 ص -22-أحسن من القصص التي لم تقص في القرآن، فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك، لكن ليس من لم يذكر في القرآن ممن اتقي الله وصبر مثل يوسف، ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف‏.‏
    وهذا كما أن قصة أهل الكهف وقصة ذي القرنين كل منهما هي في جنسها أحسن من غيرها‏.‏ فقصة ذي القرنين أحسن قصص الملوك، وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الْفِتْرَةِ‏.‏
    فقوله تعالى‏:‏
    ‏"نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ [‏يوسف‏:‏ 3‏]‏ يتناول كل ما قصه في كتابه، فهو أحسن مما لم يقصه، ليس المراد أن قصة يوسف أحسن ما قص في القرآن‏.‏ وأين ما جري ليوسف مما جري لموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الرسل‏؟‏ ‏!‏ وأين ما عودي أولئك مما عودي فيه يوسف‏؟‏ ‏!‏ وأين فضل أولئك عند الله وعلو درجتهم من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين ‏؟‏ وأين نصر أولئك من نصر يوسف‏؟‏ فإن يوسف كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 56‏]‏، وأذل الله الذين ظلموه ثم تابوا، فكان فيها من العبرة أن المظلوم المحسود إذا صبر واتقي الله، كانت له العاقبة، وأن الظالم الحاسد قد

    ج/ 17 ص -23-يتوب الله عليه ويعفو عنه، وأن المظلوم ينبغي له العفو عن ظالمه إذا قدر عليه‏.‏
    وبهذا اعتبر النبي ﷺ يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء فقال‏:‏ ‏"‏ماذا أنتم قائلون‏؟‏‏"‏ فقالوا‏:‏ نقول‏:‏ أخ كريم، وابن عم كريم‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني قائل لكم كما قال يوسف لإخوته‏:‏ ‏
    "لاَ تَثْرَيبَ عليكُمُ اليوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏‏"‏‏.‏ وكذلك عائشة لما ظُلِمَتْ وافْتُري عليها وقيل لها‏:‏ إن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت في كلامها‏:‏ أقول كما قال أبو يوسف‏:‏ ‏"فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ففي قصة يوسف أنواع من العبرة للمظلوم والمحسود والمبتلي بدواعي الفواحش والذنوب وغير ذلك‏.‏
    لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به‏؟‏ ‏!‏ فإن هؤلاء أوذوا اختيارًا منهم لعبادة الله فعودوا، وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم، فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا، وهذا بخلاف من أوذي بغير اختياره، كما أُخِذ يوسف من أبيه بغير اختياره؛ ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز، واختياره السجن على معصية الله،

    ج/ 17 ص -24-أعظم من إيمانه، ودرجته عند الله وأجره من صبره على ظلم إخوته له؛ ولهذا يعظم يوسف بهذا أعظم مما يعظم بذلك؛ ولهذا قال تعالى فيه‏:‏ ‏"كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏‏.‏
    وهذا كالصبر عن المعاصي مع الصبر على المصائب، فالأول أعظم وهو صبر المتقين أولياء الله‏.‏ قال سهل بن عبد الله التُّسْتَري‏:‏ أفعال البر يفعلها البر والفاجر، ولن يصبر عن المعاصي إلا صِدِّيق، ويوسف صلوات الله عليه كان صديقًا نبيًا‏.‏ وأما من يظلم بغير اختياره ويصبر فهذا كثير، ومن لم يصبر صَبْر الكرام سَلا سَلْوَ البهائم، وكذلك إذا مكن المظلوم وقهر ظالمه فتاب الظالم وخضع له، فعفوه عنه من المحاسن والفضائل، لكن هذا يفعله خلق كثير من أهل الدين وعقلاء الدنيا، فإن حلم الملوك والولاة أجمع لأمرهم وطاعة الناس لهم وتاليفهم لقلوب الناس، وكان معاوية من أحلم الناس، وكان المأمون حليمًا حتى كان يقول‏:‏ لو علم الناس محبتي في العفو تقربوا إلى بالذنوب؛ ولهذا لما قدر على من نازعه في الملك وهو عمه إبراهيم بن المهدي عفا عنه‏.‏
    وأما الصبر عن الشهوات والهوى الغالب لله، لا رجاء لمخلوق ولا خوفًا منه، مع كثرة الدواعي إلى فعل الفاحشة‏.‏ واختياره الحبس الطويل على ذلك كما قال يوسف‏:‏ ‏
    "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلى مِمَّا يَدْعُونَنِي إليه‏"‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏، فهذا لا يوجد نظيره إلا في خيار عباد الله الصالحين، وأوليائه

    ج/ 17 ص -25-المتقين، كما قال تعالى‏:‏ ‏"كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، فهذا من عباد الله المخلصين الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏"إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عليهمْ سُلْطَانٌ‏"‏ [‏الحجر‏:‏ 42‏]‏؛ ولهذا لم يصدر من يوسف الصديق ذنب أصلاً، بل الهم الذي هَمَّ به لما تركه لله كتب له به حسنة؛ ولهذا لم يذكر عنه سبحانه توبة واستغفارًا، كما ذكر توبة الأنبياء كآدم وداود ونوح وغيرهم، وإن لم يذكر عن أولئك الأنبياء فاحشة ولله الحمد، وإنما كانت توباتهم من أمور أخر هي حسنات بالنسبة إلى غيرهم؛ ولهذا لا يعرف ليوسف نظير فيما ابتلي به من دواعي الفاحشة وتقواه وصبره في ذلك، وإنما يعرف لغيره ما هو دون ذلك، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل مُعَلَّق قلبه بالمسجد إذا خرج حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال‏:‏ إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه‏"‏‏.‏
    وإذا كان الصبر على الأذي لئلا يفعل الفاحشة أعظم من صبره على ظلم إخوته، فكيف بصبر الرسل على أذي المكذبين لئلا يتركوا ما أمروا به من دعوتهم إلى عبادة الله وحده، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن

    ج/ 17 ص -26-المنكر‏؟‏ ‏!‏ فهذا الصبر هو من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ كان الجهاد مقصودًا به‏:‏ أن تكون كلمة الله هي العليا وأن الدين كله لله، فالجهاد والصبر فيه أفضل الأعمال، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله‏"‏ وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، وهو من حديث معاذ بن جبل الطويل، وهو أحب الأعمال إلى الله‏.‏ فالصبر على تلك المعصية صبر المهاجر الذي هجر ما نهي عنه، وصبر المجاهد الذي جاهد نفسه في الله وجاهد عدو الله الظاهر والباطن، والمهاجر الصابر على ترك الذنب إنما جاهد نفسه وشيطانه، ثم يجاهد عدو الله الظاهر؛ لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، صبر المظلوم وصبر المصاب‏.‏
    لكن المصاب بمصيبة سماوية تصبر نفسه ما لا تصبر نفس من ظلمه الناس، فإن ذاك يستشعر أن الله هو الذي فعل به هذا، فتيأس نفسه من الدفع والمعاقبة وأخذ الثأر، بخلاف المظلوم الذي ظلمه الناس، فإن نفسه تستشعر أن ظالمه يمكن دفعه وعقوبته وأخذ ثأره منه، فالصبر على هذه المصيبة أفضل وأعظم كصبر يوسف صلوات الله عليه وسلامه وهذا يكون لأن صاحبه يعلم أن الله قدر ذلك فيصبر على ذلك كالمصائب السماوية، ويكون أيضًا لينال ثواب الكاظمين الغيظ والعافين عن

    ج/ 17 ص -27-الناس والله يحب المحسنين، وليسلم قلبه من الغل للناس، وكلا النوعين يشترك في أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه، وهو مما يكفر الله به سيئاته ويستغفر ويتوب، وأيضًا فيري أن ذلك الصبر واجب عليه، وأن الجزع مما يعاقب عليه، وإن ارتقي إلى الرضا، رأي أن الرضا جنة الدنيا، ومستراح العابدين، وباب الله الأعظم، وإن رأي ذلك نعمة لما فيه من صلاح قلبه ودينه وقربه إلى الله، وتكفير سيئاته وصونه عن ذنوب تدعوه إليها شياطين الإنس والجن شكر الله على هذه النعم‏.‏
    فالمصائب السماوية والآدمية تشترك في هذه الأمور، ومعرفة الناس بهذه الأمور وعلمهم بها، هو من فضل الله يمن به على من يشاء من عباده؛ ولهذا كانت أحوال الناس في المصائب وغيرها متباينة تباينًا عظيمًا، ثم إذا شهد العبد القدر وأن هذا أمرًا قدره الله وقضاه وهو الخالق له، فهو مع الصبر يسلم للرب القادر المالك الذي يفعل ما يشاء وهذا حال الصابر، وقد يسلم تسليمه للرب المحسن المدبر له بحسن اختياره الذي‏:‏ ‏"‏لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له‏:‏ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له‏"‏ كما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي ﷺ‏.‏ وهذا تسليم راض لعلمه بحسن اختيار الله له، وهذا يورث الشكر‏.‏ وقد يسلم تسليمه للرب المحسن إليه المتفضل عليه بنعم عظيمة، وإن لم

    ج/ 17 ص -28-ير هذا نعمة، فيكون تسليمه تسليم راض غير شاكر، وقد يسلم تسليمه لله الذي لا إله إلا هو المستحق لأن يعبد لذاته، وهو محمود على كل ما يفعله، فإنه عليم حكيم رحيم، لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، وهو مستحق لمحبته وعبادته وحمده على كل ما خلقه، فهذا تسليمُ عبدٍ عابدٍ حامدٍ، وهذا من الحمادين الذين هم أول من يُدْعَى إلى الجنة، ومن بينهم صاحب لواء الحمد، وآدم فمن دونه تحت لوائه، وهذا يكون القضاء خيرًا له ونعمة من الله عليه‏.‏
    لكن يكون حمده لله ورضاه بقضائه من حيث عرف الله وأحبه وعبده، لاستحقاقه الألوهية وحده لا شريك له، فيكون صبره ورضاه وحمده من عبادته الصادرة عن هذه المعرفة والشهادة، وهذا يشهد بقلبه أنه لا إله إلا الله، والإله عنده هو المستحق للعبادة، بخلاف من لم يشهد إلا مجرد ربوبيته ومشيئته وقدرته، أو مجرد إحسانه ونعمته، فإنهما مشهدان ناقصان قاصران، وإنما يقتصر عليهما من نقص علمه بالله وبدينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه؛ كأهل البدع من الجهمية والقدرية الجبرية والقدرية المعتزلة، فإن الأول مشهد أولئك، والثاني مشهد هؤلاء، وشهود ربوبيته وقدرته ومشيئته مع شهود رحمته وإحسانه وفضله مع شهود إلهيته ومحبته ورضاه وحمده والثناء عليه ومجده، هو مشهد أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة التابعين بإحسان

    ج/ 17 ص -29-للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار‏.‏ وهذه الأمور لبسطها موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن هذا يكون للمؤمن في عموم المصائب، وما يكون بأفعال المؤمنين فله فيه كظم الغيظ والعفو عن الناس‏.‏ ويوسف الصديق صلوات الله عليه كان له هذا، وأعلى من ذلك الصبر عن الفاحشة مع قوة الداعي إليها، فهذا الصبر أعظم من ذلك الصبر، بل وأعظم من الصبر على الطاعة؛ ولهذا قال سبحانه في وصف المتقين الذين أعد لهم الجنة‏:‏
    "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران 133 ‏:‏136‏]‏‏.‏
    فوصفهم بالكرم والحلم وبالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس، ثم لما جاءت الشهوات المحرمات وصفهم بالتوبة منها فقال‏:‏
    ‏"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏،

    ج/ 17 ص -30-فوصفهم بالتوبة منها وترك الإصرار عليها لا بترك ذلك بالكلية، فإن النبي ﷺ قال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واللسان يزني وزناه المنطق، واليد تزني وزناها البطش، والرِّجْلُ تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه‏"‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون‏"‏‏.‏ فلابد للإنسان من مقدمات الكبيرة، وكثير منهم يقع في الكبيرة فيؤمر بالتوبة، ويؤمرون ألا يصروا على صغيرة، فإنه ‏[‏لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار‏]‏ ‏.‏
    ويوسف ﷺ صبر على الذنب مطلقًا، ولم يوجد منه إلا هَمٌّ تركه لله كتب له به حسنة‏.‏ وقد ذكر طائفة من المفسرين أنه وجد منه بعض المقدمات، مثل حل السراويل والجلوس مجلس الخاتن ونحو ذلك، لكن ليس هذا منقولاً نقلاً يصدق به، فإن هذا لم ينقل عن النبي ﷺ‏.‏ ومثل هذه الإسرائيليات إذا لم تنقل عن النبي ﷺ لم يعرف صدقها؛ ولهذا لا يجوز تصديقها ولا تكذيبها إلا بدليل، والله تعالى يقول في القرآن‏:‏
    ‏"كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء‏"‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، فدل القرآن على أنه صرف عنه السوء

    ج/ 17 ص -31-والفحشاء مطلقًا، ولو كان قد فعل صغيرة لتاب منها‏.‏ والقرآن ليس فيه ذكر توبته‏.‏ ومن وقع منه بعض أنواع السوء والفحشاء لم يكن ذلك قد صرف عنه، بل يكون قد وقع وتاب الله عليه منه، والقرآن يدل على خلاف هذا‏.‏ وقد شهدت النسوة له أنهن ما علمن عليه من سوء، ولو كان قد بدت منه هذه المقدمات، لكانت المرأة قد رأت ذلك، وهي من النسوة اللاتي شهدن وقلن‏:‏ ‏"مَا عَلِمْنَا عليه مِن سُوءٍ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏، وقالت مع ذلك‏:‏ ‏"وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 32‏]‏، وقالت ‏"أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 51‏]‏، وقوله‏:‏ ‏[‏سوء‏]‏ نكرة في سياق النفي، فدل ذلك على أن المرأة لم تر منه سوءًا، فإن الهم في القلب لم تطلع عليه، ولو اطلعت عليه، فإنه إذا تركه لله كان حسنة، ولو تركه مطلقًا لم يكن حسنة ولا سيئة، فإنه لا إثم فيه إلا مع القول أو العمل‏.‏
    وأما قصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلوات الله عليهم فتلك أعظم، والواقع فيها من الجانبين، فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه وإظهار آياته وأمره ونهيه ووعده ووعيده ومجاهدة المكذبين لهم والصبر على أذاهم هو أعظم عند الله؛ ولهذا كانوا أفضل من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين وما صبروا عليه وعنه أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه، وعبادتهم لله

    ج/ 17 ص -32-وطاعتهم وتقواهم وصبرهم بما فعلوه، أعظم من طاعة يوسف وعبادته وتقواه، أولئك أولو العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله‏:‏ ‏"وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏"‏[‏الشورى:‏ 13‏]‏، وهم يوم القيامة الذين تطلب منهم الأمم الشفاعة، وبهم أمر خاتم الرسل أن يقتدي في الصبر، فقيل له‏:‏ ‏"فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ‏"‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏، فقصصهم أحسن من قصة يوسف؛ ولهذا ثناها الله في القرآن، لا سيما قصة موسى‏.‏ قال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ أحسن أحاديث الأنبياء حديث تكليم الله لموسى‏.‏
    والمقصود هنا أن قوله‏:‏ ‏
    "أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏، قد قيل‏:‏ إنه مصدر‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مفعول به، والقولان متلازمان، لكن الصحيح أن القصص مفعول به وإن كان أصله مصدرًا، فقد غلب استعماله في المقصوص كما في لفظ الخبر والنبأ، والاستعمال يدل على ذلك كما تقدم ذكره، وقد اعترف بذلك أهل اللغة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وقد قص عليه الخبر قصصًا، والاسم أيضًا‏:‏ القَصَصُ بالفتح وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه‏.‏ فقوله‏:‏ ‏"أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ كقوله‏:‏ نخبرك أحسن الخبر، وننبئك أحسن النبأ،

    ج/ 17 ص -33-ونحدثك أحسن الحديث‏.‏ ولفظ ‏[‏الكلام‏]‏ يراد به مصدر كَلَّمَهُ تَكْليما، ويراد به نفس القول، فإن القول فيه فعل من القائل هو مسمى المصدر، والقول ينشأ عن ذلك الفعل؛ ولهذا تارة يجعل القول نوعا من العمل لأنه حاصل بعمل، وتارة يجعل قسيما له يقال‏:‏ القول والعمل وكذلك قد يقال في لفظ ‏[‏القصص‏]‏، و‏[‏البيان‏]‏، و‏[‏الحديث‏]‏ و‏[‏الخبر‏]‏ ونحو ذلك‏.‏
    فإذا أريد بالقصص ونحوه المصدر الذي مسماه الفعل؛ فهو مستلزم للقول والقول تابع، وإذا أريد به نفس الكلام والقول، فهو مستلزم للفعل تابع للفعل، فالمصادر الجارية على سَنَنِ الأفعال يراد بها الفعل، كقولك‏:‏ كلمته تكليما وأخبرته إخباراً، وأما ما لم يجر على سَنَنِ الفعل مثل الكلام والخبر ونحو ذلك فإن هذا إذا أطلق أريد به القول، وكذلك قد يقال في لفظ القصص، فإن مصدره القياسي قصًا مثل عده عدًا، ومده مدًا، وكذلك قصه قصاً، وأما قَصَصَ، فليس هو قياس مصدر المضعف ولم يذكروا على كونه مصدرًا إلا قوله‏:‏ ‏
    "فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 64‏]‏، وهذا لا يدل على أنه مصدر، بل قد يكون اسم مصدر أقيم مقامه كقوله‏:‏ ‏"وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا‏"‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏، وإن جعل مصدر قص الأثر، لم يلزم أن يكون مصدر قص الحديث؛ لأن الحديث خبر ونبأ، فكان لفظ قصص كلفظ خبر ونبأ وكلام‏.

    ج/ 17 ص -34-وأسماء المصادر في باب الكلام تتضمن القول نفسه وتدل على فعل القائل بطريق التضمن واللزوم، فإنك إذا قلت‏:‏ الكلام والخبر والحديث والنبأ والقصص، لم يكن مثل قولك‏:‏ التكليم والإنباء والإخبار والتحديث؛ ولهذا يقال‏:‏ إنه منصوب على المفعول به، واسم المصدر ينتصب على المصدر كما في قوله‏:‏ ‏"وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا‏"‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏، فإذا قال‏:‏ كلمته كلامًا حسنًا، وحدثته حديثًا طيبا، وأخبرته أخبارًا سارة، وقصصت عليه قصصًا صادقة ونحو ذلك، كان هذا منصوبًا على المفعول به لم يكن هذا‏.‏
    كقولك‏:‏ كلمته تكليمًا، وأنبأته أنباء‏.‏ فتبين أن قوله‏:‏
    ‏"أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏، منصوب على المفعول، وكل ما قصه اللّه فهو أحسن القصص، ولكن هذا إذا كان يتضمن معنى المصدر ومعنى المفعول به، جاز أن ينتصب على المعنيين جميعًا، فإنهما متلازمان، تقول‏:‏ قلت قولا حسنا وقد أسمعته قولا، ولم يسمع الفعل الذي هو مسمى المصدر، وإنما سمع الصوت، وتقول‏:‏ قال يقول قولا فتجعله مصدرًا، والصوت نفسه ليس هو مسمى المصدر، إنما مسمى المصدر الفعل المستلزم للصوت ولكن هما متلازمان‏.‏
    ولهذا تنازع أهل السنة والحديث في التلاوة والقرآن هل هي القرآن المتلو أم لا‏؟‏ وقد تفطن ابن قتيبة وغيره لما يناسب هذا المعنى وتكلم عليه، وسبب الاشتباه‏:‏ أن المتلو هو القرآن نفسه الذي هو الكلام، والتلاوة قد يراد بها هذا، وقد يراد بها نفس حركة التالي

    ج/ 17 ص -35-وفعله، وقد يراد بها الأمران جميعًا، فمن قال‏:‏ التلاوة هي المتلو، أراد بالتلاوة‏:‏ نفس القرآن المسموع وذلك هو المتلو، ومن قال غيره أراد بالتلاوة‏:‏ حركة العبد وفعله وتلك ليست هي القرآن، ومن نهي عن أن يقال‏:‏ التلاوة هي المتلو أو غير المتلو؛ فلأن لفظ التلاوة يجمع الأمرين، كما نهى الإمام أحمد وغيره عن أن يقال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق؛ لأن اللفظ يراد به الملفوظ نفسه الذي هو كلام اللّه، ويراد به مصدر لَفَظَ يَلِفظُ لَفْظًا وهو فعل العبد، وأطلق قوم من أهل الحديث‏:‏ أن لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأطلق ناس آخرون‏:‏ أن لفظي به مخلوق‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ لم يتنازع أهل الحديث في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ، وهذا كان تنازع أهل الحديث والسنة الذين كانوا في زمن أحمد بن حنبل، وأصحابه الذين أدركوه‏.‏
    ثم جاء بعد هؤلاء طائفة قالوا‏:‏ التلاوة غير المتلو، وأرادوا بالتلاوة‏:‏ نفس كلام اللّه العربي الذي هو القرآن، وأرادوا بالمتلو معنى واحدًا قائما بذات اللّه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ التلاوة هي المتلو، وأرادوا بالتلاوة‏:‏ نفس الأصوات المسموعة من القراء، جعلوا ما سمع من الأصوات هو نفس الكلام الذي ليس بمخلوق، ولم يميزوا بين سماع الكلام من المتكلم وبين سماعه من المبلغ له عنه، فزاد كل من هؤلاء وهؤلاء من البدع ما لم يكن يقوله أحد من أهل السنة والعلم، فلم يكن من أهل

    ج/ 17 ص -36-السنة من يقول‏:‏ إن القرآن العربي ليس هو كلام اللّه، ولا يجعل المتلو مجرد معنى، ولا كان فيهم من يقول‏:‏ إن أصوات العباد وغيرها من خصائصهم غير مخلوق، بل هم كلهم متفقون على أن القرآن المتلو هو القرآن العربي الذي نزله روح القدس من اللّه بالحق، وهو كلام اللّه الذي تكلم به، ولكن تنازعوا في تلاوة العباد له‏:‏ هل هي القرآن نفسه‏؟‏ أم هي الفعل الذي يقرأ به القرآن‏؟‏
    والتحقيق أن لفظ ‏[‏التلاوة‏]‏ يراد به هذا وهذا، ولفظ ‏[‏القرآن‏]‏ يراد به المصدر ويراد به الكلام، قال اللّه تعالى‏:‏
    ‏"إِنَّ علينا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ علينا بَيَانَهُ‏"‏ [‏القيامة17‏:‏ 19‏]‏، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ إن علينا أن نجمعه في قلبك، وتقرأه بلسانك‏.‏ وقال أهل العربية‏:‏ يقال‏:‏ قرأت الكتاب قراءة وقرآنا، ومنه قول حسان‏:‏
    ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
    وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏"‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏، وهم إنما يستمعون الكلام نفسه ولا يستمعون

    ج/ 17 ص -37-مسمى المصدر الذي هو الفعل، فإن ذلك لا يسمع، فقوله‏:‏ ‏"نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏، من هذا الباب، من باب نقرأ عليك أحسن القصص، ونتلو عليك أحسن القصص، كما قال تعالى‏:‏"نَتْلُوا عليك مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ‏"‏[‏القصص‏:‏ 3‏]‏، وقال‏:‏"فَإِذَا قَرَأْنَاهُ‏"[‏القيامة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي قراءة جبريل‏.‏ ‏"فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏"‏‏:‏ فاستمع له حتى يقضي قراءته‏.‏
    والمشهور في قوله‏:‏
    ‏"وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 45‏]‏ أنه منصوب على المفعول به، فكذلك ‏"أّحسن القصص‏"‏، لكن في كليهما معنى المصدر أيضًا كما تقدم، ففيه معنى المفعول به ومعنى المصدر جميعا، وقد يغلب هذا كما في قوله‏:‏ ‏"إِنَّ علينا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏"‏[‏القيامة‏:‏ 17‏]‏، فالمراد هنا نفس مسمى المصدر، وقد يغلب هذا تارة كما في قوله‏:‏ ‏"فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 402‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏، وغالب ما يذكر لفظ ‏[‏القرآن‏]‏ إنما يراد به نفس الكلام، لا يراد به التكلم بالكلام الذي هو مسمى المصدر‏.‏
    ومثل هذا كثير في اللغة يكون أمران متلازمان‏:‏ إما دائمًا، وإما غالبا، فيطلق الاسم عليهما، ويغلب هذا تارة وهذا تارة، وقد يقع على أحدهما مفردًا كلفظ ‏[‏النهر‏]‏ و‏[‏القرية‏]‏ و‏[‏الميزاب‏]‏ ونحو ذلك مما فيه حال ومحل، فالاسم يتناول مجري الماء والماء الجاري، وكذلك لفظ

    ج/ 17 ص -38-القرية يتناول المساكن والسكان، ثم تقول‏:‏ حفر النهر، فالمراد به المجري، وتقول‏:‏ جري النهر، فالمراد به الماء، وتقول‏:‏ جري الميزاب تعني الماء‏.‏ وَنُصِّبَ الميزابُ تعني الخشب‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ‏"‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏، والمراد السكان في المكان، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ‏"‏ [‏هود‏:‏ 102‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى ‏"فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 45‏]‏، والخاوي على عروشه‏:‏ المكان لا السكان، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَوْ كَالَّذِي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏، لما كان المقصود بالقرية هم السكان كان إرادتهم أكثر في كتاب اللّه، وكذلك لفظ النهر لما كان المقصود هو الماء كان إرادته أكثر كقوله‏:‏ ‏"وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 33‏]‏، فهذا كثير‏.‏ أكثر من قولهم‏:‏ حفرنا النهر‏.‏
    وكذلك إطلاق لفظ القرآن على نفس الكلام أكثر من إطلاقه على نفس التكلم، وكذلك لفظ الكلام والقول والقصص وسائر أنواع

    ج/ 17 ص -39-الكلام يراد بها نفس الكلام أكثر مما يراد بها فعل المتكلم، وهذه الأمور لبسطها موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن قوله تعالى‏:‏ ‏
    "نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏، المراد‏:‏ الكلام الذي هو أحسن القصص، وهو عام في كل ما قصه اللّه، لم يخص به سورة يوسف؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏، ولم يقل‏:‏ بما أوحينا إليك هذه السورة، والآثار المأثورة في ذلك عن السلف تدل كلها على ذلك، وعلى أنهم كانوا يعتقدون أن القرآن أفضل من سائر الكتب، وهو المراد‏.‏ والمراد من هذا حاصل على كل تقدير، فسواء كان أحسن القصص مصدرًا أو مفعولاً أو جامعًا للأمرين، فهو يدل على أن القرآن وما في القرآن من القصص أحسن من غيره، فإنا قد ذكرنا أنهما متلازمان، فأيهما كان أحسن، كان الآخر أحسن‏.‏ فتبين أن قوله تعالى‏:‏ ‏"أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ كقوله‏:‏ ‏"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، والآثار السلفية تدل على ذلك‏.‏
    والسلف كانوا مقرين بأن القرآن أحسن الحديث، وأحسن القصص، كما أنه المهيمن على ما بين يديه من كتب السماء، فكيف يقال‏:‏ إن كلام اللّه كله لا فضل لبعضه على بعض‏؟‏ ‏!‏ روي ابن أبي حاتم، عن المسعودي، عن القاسم أن أصحاب رسول اللّه ﷺ ملوا ملة فقالوا‏:‏ حدثنا يارسول اللّه، فأنزل اللّه‏:‏ ‏
    "نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏،

    ج/ 17 ص -40-ثم ملوا ملة فقالوا‏:‏ حدثنا يارسول اللّه، فنزلت‏:‏ ‏"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، ثم ملوا ملة فقالوا‏:‏ حدثنا يارسول اللّه، فأنزل اللّه‏:‏ ‏"أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ‏"‏[‏الحديد‏:‏ 16‏]‏‏.‏
    وقد روى أبو عبيد في ‏[‏فضائل القرآن‏]‏ عن بعض التابعين فقال‏:‏ حدثنا حجاج، عن المسعودي، عن عون بن عبد اللّه بن عتبة قال‏:‏ مل أصحاب رسول اللّه ﷺ ملة فقالوا‏:‏ يارسول اللّه، حدثنا، فأنزل اللّه تعالى‏:‏
    ‏"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏"‏ قال‏:‏ ثم نعته فقال‏:‏ ‏"كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ‏"‏ إلى آخر الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، قال‏:‏ ثم ملوا ملة أخرى فقالوا‏:‏ يارسول اللّه، حدثنا شيئا فوق الحديث ودون القرآن - يعنون القصج/ 17 ص - فأنزل اللّه‏:‏ ‏"الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ‏"‏ إلى قوله ‏"نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ‏"‏ [‏يوسف‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏، قال‏:‏ فإن أرادوا الحديث دلهم على أحسن الحديث، وإن أرادوا القصص دلهم على أحسن القصص‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن مرفوعا عن مصعب بن سعد، عن سعد قال‏:‏ نزل على رسول اللّه ﷺ القرآن فتلاه عليهم زمانًا، فقالوا‏:‏ يارسول اللّه، لو قصصت علينا‏.‏ فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏"الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏،

    ج/ 17 ص -41-فتلاه عليهم زمانًا‏.‏
    ولما كان القرآن أحسن الكلام، نهوا عن اتباع ما سواه‏.‏ قال تعالى‏:‏
    ‏"أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عليك الْكِتَابَ يُتْلَي عليهمْ‏"‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وروى النسائي وغيره عن النبي ﷺ أنه رأي بيد عمر بن الخطاب شيئا من التوراة فقال‏:‏ ‏"‏لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏ما وسعه إلا اتباعي‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ فتغير وجه النبي ﷺ لما عرض عليه عمر ذلك، فقال له بعض الأنصار‏:‏ يا ابن الخطاب، ألا تري إلى وجه رسول اللّه ﷺ‏؟‏ فقال عمر‏:‏ رضينا باللّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيًا‏.‏ ولهذا كان الصحابة ينهون عن اتباع كتب غير القرآن‏.‏
    وعمر انتفع بهذا حتى إنه لما فتحت الإسكندرية وُجِدَ فيها كتبٌ كثيرة من كتب الروم، فكتبوا فيها إلى عمر، فأمر بها أن تحرق وقال‏:‏ حسبنا كتاب اللّه‏.‏ وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن خليل، حدثنا علي بن مسهر، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، عن خالد بن عُرْفُطَةَ، قال‏:‏ كنت عند عمر بن الخطاب، إذ أُتِي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس‏.‏ فقال له عمر‏:‏ أنت فلان ابن فلان العبدي‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وأنت النازل بالسوس‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فضربه بقناة معه، فقال له‏:‏ ما ذنبي‏؟‏ قال‏:‏

    ج/ 17 ص -42-فقرأ عليه‏:‏ ‏"الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏، فقرأها عليه ثلاث مرات وضربه ثلاث ضربات، ثم قال له عمر‏:‏ أنت الذي انتسخت كتاب دانيال‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ اذهب فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ولا تقرأه ولا تقرئه أحدًا من الناس‏.‏ فقرأ عليه عمر هذه الآية، ليبين له أن القرآن أحسن القصص فلا يحتاج معه إلى غيره‏.‏ وهذا يدل على أن القصص عام لا يختص بسورة يوسف، ويدل على أنهم كانوا يعلمون أن القرآن أفضل من كتاب دانيال ونحوه من كتب الأنبياء‏.‏ وكذلك مثل هذه القصة مأثورة عن ابن مسعود لما أُتِي بما كتب من الكتب محاه وذكر فضيلة القرآن كما فعل عمر رضي اللّه عنهما‏.‏
    وروى ابن أبي حاتم عن قتادة‏:‏
    ‏"نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏"‏ قال‏:‏ من الكتب الماضية وأمور اللّه السالفة في الأمم‏:‏ ‏"بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهذا يدل على أن أحسن القصص يعم هذا كله، بل لفظ ‏[‏القصص‏]‏ يتناول ما قصه الأنبياء من آيات اللّه غير أخبار الأمم، كقوله تعالى‏:‏ ‏"أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عليكمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنفُسِنَا‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ ‏"يَتْلُونَ عليكمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏

    ج/ 17 ص -43-"وَأَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه‏"‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وروى ابن أبي حاتم بالإسناد المعروف، عن ابن عباس قال‏:‏ مؤتمنًا عليه‏.‏ قال‏:‏ وروي عن عكرمة والحسن وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني أنه الأمين‏.‏ وروي من تفسير الوالبي، عن ابن عباس قال‏:‏ المهيمن‏:‏ الأمين‏.‏ قال‏:‏ على كل كتاب قبله‏.‏ وكذلك عن الحسن قال‏:‏ مصدقا بهذه الكتب وأمينًا عليها‏.‏ ومن تفسير الوالبي أيضًا عن ابن عباس ‏"وَمُهَيْمِنًا عليه‏"‏ قال‏:‏ شهيدًا، وكذلك قال السدي عن ابن عباس‏.‏ وقال في قوله‏:‏ ‏"وَمُهَيْمِنًا عليه‏"‏‏:‏ على كل كتاب قبله‏.‏ قال‏:‏ وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطية وعطاء الخراساني ومحمد بن كعب وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك، وابن أبي حاتم قد ذكر في أول كتابه في التفسير‏:‏ أنه طلب منه إخراج تفسير القرآن مختصرًا بأصح الأسانيد، وأنه تحري إخراجه بأصح الأخبار إسنادًا وأشبعها متنًا‏.‏ وذكر إسناده عن كل من نقل عنه شيئًا‏.‏
    فالسلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب، ومعلوم أن المهيمن على الشيء أعلى منه مرتبة‏.‏ ومن أسماء اللّه ‏[‏المهيمن‏]‏، ويسمى الحاكم على الناس القائم بأمورهم ‏[‏المهيمن‏]‏‏.‏ قال المبرد والجوهري وغيرهما‏:‏ المهيمن في اللغة‏:‏ المؤتمن‏.‏ وقال الخليل‏:‏ الرقيب الحافظ‏.‏ وقال الخطابي المهيمن‏:‏

    ج/ 17 ص -44-الشهيد‏.‏ قال‏:‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ الهيمنة‏:‏ القيام على الشيء والرعاية له، وأنشد‏:‏

    ألا إن خير الناس بعد نبيهم مهيمنه التإليه في العرف والنكر

    يريد القائم على الناس بالرعاية لهم‏.‏ وفي مهيمن قولان‏:‏ قيل‏:‏ أصله مؤيمن والهاء مبدلة من الهمزة، وقيل‏:‏ بل الهاء أصلية‏.‏
    وهكذا القرآن، فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن اللّه وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلًا، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات اللّه لهم ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضًا ما كتموه مما أمر اللّه ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة، فهو شاهد بصدقها وشاهد بكذب ما حُرِّفَ منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره اللّه، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات حاكم في الأمريات‏.‏

    ج/ 17 ص -45-وكذلك معنى ‏[‏الشهادة‏]‏ و ‏[‏الحكم‏]‏ يتضمن إثبات ما أثبته اللّه من صدق ومحكم، وإبطال ما أبطله من كذب ومنسوخ، وليس الإنجيل مع التوراة ولا الزبور بهذه المثابة، بل هي متبعة لشريعة التوراة إلا يسيرًا نسخه اللّه بالإنجيل، بخلاف القرآن‏.‏ ثم إنه معجز في نفسه لا يقدر الخلائق أن يأتوا بمثله، ففيه دعوة الرسول، وهو آية الرسول، وبرهانه على صدقه ونبوته، وفيه ما جاء به الرسول، وهو نفسه برهان على ما جاء به‏.‏
    وفيه أيضًا من ضرب الأمثال وبيان الآيات على تفضيل ما جاء به الرسول ما لو جمع إليه علوم جميع العلماء؛ لم يكن ما عندهم إلا بعض ما في القرآن‏.‏ ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية، وأمور المعاد والنبوات، والأخلاق والسياسات والعبادات، وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها، لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن‏.‏
    ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر؛ فضلًا عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه غيره، سواء كان من علم المحدثين والملهمين، أو من علم أرباب النظر والقياس الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتاب منزل من السماء؛ ولهذا قال النبي

    ج/ 17 ص -46-لى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إنه كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏"‏‏.‏ فعلق ذلك تعليقًا في أمته مع جزمه به فيمن تقدم؛ لأن الأمم قبلنا كانوا محتاجين إلى المحدثين كما كانوا محتاجين إلى نبي بعد نبي‏.‏ وأما أمة محمد ﷺ، فأغناهم الله برسولهم وكتابهم عن كل ما سواه، حتى إن المحدث منهم كعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إنما يؤخذ منه ما وافق الكتاب والسنة، وإذا حدث شيئا في قلبه، لم يكن له أن يقبله حتى يعرضه على الكتاب والسنة، وكذلك لا يقبله إلا إن وافق الكتاب والسنة‏.‏ وهذا باب واسع في فضائل القرآن على ما سواه‏.‏
    والمقصود أن نبين أن مثل هذا هو من العلم المستقر في نفوس الأمة السابقين والتابعين، ولم يعرف قط أحد من السلف رد مثل هذا، ولا قال‏:‏ لا يكون كلام اللّه بعضه أشرف من بعض، فإنه كله من صفات اللّه ونحو ذلك، إنما حدث هذا الإنكار لما ظهرت بدع الجهمية الذين اختلفوا في الكتاب وجعلوه عِضِين‏.‏
    وممن ذكر تفضيل بعض القرآن على بعض في نفسه، أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كالشيخ أبي حامد الاسفرائيني، والقاضي أبي الطيب، وأبي إسحاق الشيرازي وغيرهم، ومثل القاضي أبي يعلى، والحلواني الكبير وابنه عبد الرحمن، وابن عقيل‏.‏ قال أبو الوفاء ابن عقيل في

    ج/ 17 ص -47-كتاب ‏[‏الواضح في أصول الفقه‏]‏ في احتجاجه على أن القرآن لا ينسخ بالسنة قال‏:‏ فمن ذلك قوله‏:‏ ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، وليست السنة مثل القرآن ولا خيرًا منه، فبطل النسخ بها؛ لأنه يؤدي إلى المحال، وهو كون خبره بخلاف مخبره، وذلك محال على اللّه، فما أدى إليه فهو محال‏.‏
    قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ أصل استدلالكم مبني على أن المراد بالخير الفضل وليس المراد به ذلك، وإنما المراد‏:‏ نأت بخير منها لكم، وذلك يرجع إلى أحد أمرين في حقنا‏:‏ إما سهولة في التكليف، فهو خير عاجل، أو أكثر ثوابًا؛ لكونه أثقل وأشق، ويكون نفعًا في الآجل والعاقبة، وكلاهما قد يتحقق بطريق السنة‏.‏ ويحتمل
    ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏"‏ لا ناسخًا لها، بل يكون تكليفا مبتدأ هو خير لكم، وإن لم يكن طريقه القرآن الناسخ ولا السنة الناسخة‏.‏ قالوا‏:‏ يوضح هذه التأويلات، أن القرآن نفسه ليس بعضه خيرًا من بعض، فلابد أن يصرفوا اللفظ عن ظاهره من خير يعود إلى التكليف لا إلى الطريق‏.‏
    وقال في الجواب‏:‏ قولهم‏:‏ الخير يرجع إلى ما يخصنا من سهولة أو ثواب لا يصح؛ لأنه لو أراد ذلك لقال‏:‏ لكم، فلما حذف ذلك، دل على ما يقتضيه الإطلاق وهو كون الناسخ خيرًا من جهة نفسه وذاته، ومن جهة الانتفاع به في العاجل والآجل على أن ظاهره يقتضي

    ج/ 17 ص -48-بآيات خير منها، فإن ذلك يعود إلى الجنس كما إذا قال القائل‏:‏ ما آخذ منك دينارًا إلا أعطيك خيرًا منه، لا يعقل بالإطلاق إلا دينارًا خيرًا منه، فيتخير من الجنس أولًا ثم النفع، فأما أن يرجع ذلك إلى ثوب أو عرض غير الدينار فلا، وفي آخر الآية ما يشهد بأنه أراد به القرآن؛ لأنه قال‏:‏ ‏"أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، ووصفه لنفسه بالقدرة يدل على أن الذي يأتي به هو أمر يرجع إليه دون غيره، وكذلك قوله‏:‏ ‏"أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ يشهد لما ذكرناه؛ لأن المماثلة يقتضي إطلاقها من كل وجه، لا سيما وقد أنثها تأنيث الآية، فكأنه قال‏:‏ نأت بآية خير منها أو بآية مثلها‏.‏
    قلت‏:‏ وأيضًا فلا يجوز أن يراد بالخير من جهة كونه أخف عملًا أو أشق وأكثر ثوابًا؛ لأن هذين الوصفين ثابتان لكل ما أمر اللّه به مبتدأ وناسخا، فإنه إما أن يكون أيسر من غيره في الدنيا، وإما أن يكون أشق فيكون ثوابه أكثر، فإذا كانت هذه الصفة لازمة لجميع الأحكام، لم يحسن أن يقال‏:‏ ما ننسخ من حكم نأت بخير منه أو مثله، فإن المنسوخ أيضًا يكون خيرًا ومثلا بهذا الاعتبار، فإنهم إن فسروا الخير بكونه أسهل، فقد يكون المنسوخ أسهل، فيكون خيرًا، وإن فسروه بكونه أعظم أجرًا لمشقته؛ فقد يكون المنسوخ كذلك، واللّه قد أخبر أنه لابد أن يأتي بخير مما ينسخه أو مثله، فلا يأتي بما هو دونه‏.‏

    ج/ 17 ص -49-وأيضًا، فعلى ما قالوه لا يكون شيء خيرًا من شيء، بل إن كان خيرًا من جهة السهولة، فذلك خير من جهة كثرة الأجر‏.‏ قال ابن عقيل‏:‏ وأما قولهم‏:‏ إن القرآن في نفسه لا يتخاير ولا يتفاضل، فعلم أنه لم يرد به الخير الذي هو الأفضلية، فليس كذلك، فإن توحيد اللّه الذي في ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏، وما ضمنها من نفي التجزي والانقسام، أفضل من ‏[‏تبت‏]‏ المتضمنة ذم أبي لهب وذم زوجته، إن شئت في كون المدح أفضل من القدح، وإن شئت في الإعجاز، فإن تلاوة غيرها من الآيات التي تظهر منها الفصاحة والبيان أفضل، وليس من حيث كان المتكلم واحدًا لا يكون التفاضل لمعنى يعود إلى الكلام ثانيًا، كما أن المرسل واحد لذي النون وإبراهيم، وإبراهيم أفضل من ذي النون‏.‏ قال‏:‏ وأما قولهم‏:‏ ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ لا يكون ناسخا بل مبتدأ، فلا يصح؛ لأنه خرج مخرج الجزاء مجزوما، وهذا يعطي البدلية والمقابلة، مثل قولهم‏:‏ إن تكرمني أكرمك، وإن أطعتني أطعتك، يقتضي أن يكون الجزاء مقابلة وبدلًا، لا فعلا مبتدأ‏.‏
    قلت‏:‏ المقصود هنا ذكر ما نصره من كون القرآن في نفسه بعضه خيرًا من بعض ليس المقصود الكلام في مسألة النسخ، وكذلك غير هؤلاء صرحوا بأن بعض القرآن قد يكون خيرًا من بعض، وممن ذكر ذلك أبو حامد الغزإلى في كتابه ‏[‏جواهر القرآن‏]‏ قال‏:‏

    ج/ 17 ص -50-لعلك تقول‏:‏ قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض، والكل كلام اللّه، فكيف يفارق بعضها بعضًا‏؟‏ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض‏؟‏ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وتَرْتَاعُ من اعتقاد الْفَرْقِ نَفْسُكُ الخَوَّارَةُ المسْتَغْرِقَةُ في التقليد، فقلد صاحب الشرع صلوات اللّه عليه وسلامه فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقال‏:‏ ‏"‏قلب القرآن يس‏"‏‏.‏ وقد دلت الأخبار على شرف بعضه على بعض فقال‏:‏ ‏"‏فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏آية الكرسي سيدة آي القرآن‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏قل هو اللّه أحد تعدل ثلث القرآن‏"‏‏.‏ والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن، وتخصص بعض السور والآيات بالفضل، وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى، فاطلبه من كتب الحديث إن أردت‏.‏ وننبهك الآن على معنى هذه الأخبار الأربعة في تفضيل هذه السور‏.‏
    قلت‏:‏ وسنذكر إن شاء اللّه ما ذكره في تفضيل ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ وممن ذكر كلام الناس في ذلك وحكي هذا القول عمن حكاه من السلف القاضي عياض في ‏[‏شرح مسلم‏]‏، قال في قول النبي ﷺ لأُبي‏:‏ ‏"‏أتدري أي آية من كتاب اللّه أعظم‏؟‏‏"‏وذكر آية الكرسي‏.‏ فيه حجة لتفضيل بعض القرآن على بعض،

    ج/ 17 ص -51-وتفضيل القرآن على سائر كتب اللّه عند من اختاره، منهم إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين‏.‏ قال‏:‏ وذلك راجع إلى عظم أجر قارئي ذلك وجزيل ثوابه على بعضه أكثر من سائره‏.‏ قال‏:‏ وهذا مما اختلف أهل العلم فيه، فأبي ذلك الأشعري وابن البَاقِلاني وجماعة من الفقهاء وأهل العلم؛ لأن مقتضي الأفضل نقص المفضول عنه، وكلام اللّه لا يتبعض‏.‏ قالوا‏:‏ وما ورد من ذلك بقوله‏:‏ ‏[‏أفضل‏]‏ و‏[‏أعظم‏]‏ لبعض الآي والسور، فمعناه‏:‏ عظيم وفاضل‏.‏ قال‏:‏ وقيل‏:‏ كانت آية الكرسي أعظم؛ لأنها جمعت أصول الأسماء والصفات من الإلهية والحياة والوحدانية والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه السبعة قالوا‏:‏ هي أصول الأسماء والصفات‏.‏
    قلت‏:‏ المقصود ما ذكره من كلام العلماء، وأما قول القائل‏:‏ إن هذه السبعة هي أصول الأسماء، فهذه السبعة عند كثير من المتكلمين هي المعروفة بالعقل، وما سواها قالوا‏:‏ إنما يعلم بالسمع‏.‏ وهذا أمر يرجع إلى طريق علمنا لا إلى أمر حقيقي ثابت لها في نفس الأمر، فكيف والجمهور على أن ما سواها قد يعلم بالعقل أيضًا كالمحبة والرضا والأمر والنهي؛ ومذهب ابن كُلاَّب وأكثر قدماء الصفاتية أن العلو من الصفات العقلية، وهو مذهب أبي العباس القَلانِسي والحارث المحاسبي ومذهب طوائف من أهل الكلام والحديث والفقه، وهو آخر قولي القاضي أبي

    ج/ 17 ص -52-يعلى وأبي الحسن بن الزَّاغُوني وغيره، ومذهب ابن كرام وأصحابه، وهو قول عامة أئمة الحديث والفقه والتصوف‏.‏
    وكذلك ما فسره القاضي عياض من قول المفضلين‏:‏ إن المراد كثرة الثواب، فهذا لا ينازع فيه الأشعري وابن الباقلاني؛ فإن الثواب مخلوق من مخلوقات اللّه تعالى فلا ينازع أحد في أن بعضه أفضل من بعض، وإنما النزاع في نفس كلام اللّه الذي هو كلامه، فحكايته النزاع يناقض ما فسر به قول المثبتة‏.‏ وقد بين مأخذ الممتنعين عن التفضيل، منهم من نفي التفاضل في الصفات مطلقًا بناء على أن القديم لا يتفاضل، والقرآن من الصفات ومنهم من خص القرآن بأنه واحد على أصله، فلا يعقل فيه معنيان، فضلا أن يعقل فيه فاضل ومفضول، وهذا أصل أبي الحسن ومن وافقه كما سنبينه إن شاء اللّه تعالى‏.‏
    وهؤلاء الذين ذكرنا أقوالهم في أن كلام اللّه يكون بعضه أفضل من بعض ليس فيهم أحد من القائلين بأن كلام اللّه مخلوق - كما يقول ذلك من يقوله من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة بل كل هؤلاء يقولون‏:‏ إن كلام اللّه غير مخلوق، ولو تتبع ذكر من قال ذلك لكثروا؛ فإن هذا قول جماهير المسلمين من السلف والخلف أهل السنة وأهل البدعة‏.‏ أما السلف كالصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يُعْرَفْ لهم في هذا الأصل تَنَازعٌ، بل الآثار متواترة عنهم به‏.‏

    ج/ 17 ص -53-واشتهر القول بإنكار تفاضله بعد المائتين لما أظهرت الجهمية القول بأن القرآن مخلوق‏.‏ واتفق أئمة السنة وجماهير الأمة على إنكار ذلك ورده عليهم‏.‏ وظنت طائفة كثيرة مثل أبي محمد بن كلاب ومن وافقه أن هذا القول لا يمكن رده إلا إذا قيل‏:‏ إن اللّه لم يتكلم بمشيء ته وقدرته، ولا كلم موسى حين أتاه، ولا قال للملائكة‏:‏ اسجدوا لآدم بعد أن خلقه، ولا يغضب على أحد بعد أن يكفر به، ولا يرضي عنه بعد أن يطيعه، ولا يحبه بعد أن يتقرب إليه بالنوافل، ولا يتكلم بكلام بعد كلام، فتكون كلماته لا نهاية لها، إلى غير ذلك مما ظنوا انتفاءه عن اللّه‏.‏ وقالوا‏:‏ إنما يمكن مخالفة هؤلاء إذا قيل بأن القرآن وغيره من الكلام لازم لذات اللّه تعالى لم يزل ولا يزال يتكلم بكل كلام له كقوله‏:‏ ‏"يا آدم‏"‏، ‏"يا نوح‏"‏، وصاروا طائفتين‏:‏ طائفة تقول‏:‏ إنه معنى واحد قائم بذاته، وطائفة تقول‏:‏ إنه حروف أو حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلًا وأبدًا، وإن كانت مترتبة في ذاتها ترتبًا ذاتيا لا ترتبا وجوديا، كما قد بين مقالات الناس في كلام اللّه في غير هذا الموضع‏.‏ والأولون عندهم‏:‏ كلام اللّه شيء واحد لا بعض له، فضلًا عن أن يقال‏:‏ بعضه أفضل من بعض‏.‏ والآخرون يقولون‏:‏ هو قديم لازم لذاته، والقديم لا يتفاضل‏.‏
    وربما نقل عن بعض السلف في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ أنه قال‏:‏

    ج/ 17 ص -54-خير لكم منها، أو أنفع لكم، فيظن الظان أن ذلك القائل موافق لهؤلاء وليس كذلك بل مقصوده بيان وجه كونه خيرًا وهو أن يكون أنفع للعباد، فإن ما كان أكثر من الكلام نفعا للعباد، كان في نفسه أفضل، كما بين في موضعه‏.‏ وصار من سلك مسلك الكلابية من متأخرى أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم يظنون أن القول بتفاضل كلام اللّه بعضه على بعض إنما يمكن على قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون‏:‏ إنه مخلوق، فإن القائلين بأنه مخلوق، يرون فضل بعضه على بعض فضل مخلوق على مخلوق، وتفضيل بعض المخلوقات على بعض لا ينكره أحد، فإذا ظن أولئك أن القول بتفضيل بعض كلام اللّه على بعض مستلزم لكون القرآن مخلوقا؛ فروا من ذلك وأنكروا القول به، لأجل ما ظنوه من التلازم، وليس الأمر كما ظنوه، بل سلف الأمة وجمهورها يقولون‏:‏ إن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، وكذلك سائر كلام اللّه غير مخلوق‏.‏ ويقولون مع ذلك‏:‏ إن كلام الله بعضه أفضل من بعض كما نطق بذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين من غير خلاف يعرف في ذلك عنهم‏.‏
    وحدثنا أبي، عن جدنا أبي البركات وصاحبه أبي عبد اللّه بن عبد الوهاب أنهما نظرًا فيما ذكره بعض المفسرين من الأقوال في قوله‏:‏ ‏
    "نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ وأظنه كان نظرهم في تفسير أبي عبد

    ج/ 17 ص -55-اللّه محمد بن تيمية فلما رأيا تلك الأقوال قالا‏:‏ هذا إنما يجيء على قول المعتزلة‏.‏ وزار مرة أبو عبد اللّه بن عبد الوهاب هذا لشيخنا أبي زكريا بن الصَّيْرَفي وكان مريضًا، فدعا أبو زكريا بدعاء مأثور عن الإمام أحمد يقول فيه‏:‏ أسألك بقدرتك التي قدرت بها أن تقول للسموات والأرض‏:‏ ‏"اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ أن تفعل بنا كذا وكذا‏.‏ فلما خرج الناس من عنده قال له‏:‏ ما هذا الدعاء الذي دعوت به‏؟‏ هذا إنما يجيء على قول المعتزلة الذين يقولون‏:‏ القرآن مخلوق، فأما أهل السنة فلا يقال عندهم قدر أن يتكلم، أو يقول، فإن كلامه قديم لازم لذاته لا يتعلق بمشيء ته وقدرته‏.‏
    وكان أبو عبد اللّه بن عبد الوهاب رحمه اللّه قد تلقى هذا عن البحوث التي يذكرها أبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله، وقبله أبو الوفاء ابن عقيل وأمثاله، وقبلهما القاضي أبو يعلى ونحوه، فإن هؤلاء وأمثالهم من أصحاب مالك والشافعي كأبي الوليد الباجي وأبي المعالي الجُوَيْني وطائفة من أصحاب أبي حنيفة يوافقون ابن كلاب على قوله‏:‏ إن اللّه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وعلى قوله‏:‏ إن القرآن لازم لذات اللّه، بل يظنون أن هذا قول السلف قول أحمد بن حنبل ومالك والشافعي وسائر السلف الذين يقولون‏:‏ القرآن غير مخلوق، حتى إن من سلك مسلك السالمية من هؤلاء كالقاضي وابن عقيل وابن

    ج/ 17 ص -56-الزاغوني يصرحون بأن مذهب أحمد أن القرآن قديم، وأنه حروف وأصوات‏.‏ وأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة الأربعة لم يقولوا هذا قط ولا ناظروا عليه، ولكنهم وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة لم يعرفوا أقوالهم في بعض المسائل‏.‏
    ولكن الذين ظنوا أن قول ابن كُلاَّب وأتباعه هو مذهب السلف ومن أن القرآن غير مخلوق هم الذين صاروا يقولون‏:‏ إن كلام اللّه بعضه أفضل، إنما يجيء على قول أهل البدع الجهمية والمعتزلة، كما صار يقول ذلك طوائف من أتباع الأئمة كما سنذكره من أقوال بعض أصحاب مالك والشافعي ولم يعلموا أن السلف لم يقل أحد منهم بهذا، بل أنكروا على ابن كلاب هذا الأصل، وأمر أحمد بن حنبل وغيره بهجر الكلابية على هذا الأصل، حتى هجر الحارث المحاسبي؛ لأنه كان صاحب ابن كلاب وكان قد وافقه على هذا الأصل، ثم روي عنه أن رجع عن ذلك، وكان أحمد يحذر عن الكلابية‏.‏ وكان قد وقع بين أبي بكر بن خُزَيمة الملقب بإمام الأئمة وبين بعض أصحابه مشاجرة على هذا الأصل؛ لأنهم كانوا يقولون بقول ابن كلاب‏.‏ وقد ذكر قصتهم الحاكم أبو عبد اللّه النيسابوري في ‏[‏تاريخ نيسابور‏]‏، وبسط الكلام على هذا الأصل له موضع آخر، وإنما نبهنا على المآخذ التي تعرف بها حقائق الأقوال‏.

    ج/ 17 ص -57-فصل
    وفي الجملة، فدلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقلية على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة‏.‏
    وأيضًا، فإن القرآن، وإن كان كله كلام الله، وكذلك التوراة والإنجيل والأحاديث الإلهية التي يحكيها الرسول عن الله تبارك وتعالى كقوله‏:‏
    ‏"‏يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا‏"‏ الحديث، وكقوله‏:‏ ‏"‏من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‏"‏، وأمثال ذلك، هي وإن اشتركت في كونها كلام الله، فمعلوم أن الكلام له نسبتان‏:‏ نسبة إلى المتكلم به، ونسبة إلى المتكلم فيه‏.‏ فهو يتفاضل باعتبار النسبتين، وباعتبار نفسه أيضًا، مثل الكلام الخبري له نسبتان‏:‏ نسبة إلى المتكلم المخبر، ونسبة إلى المخبر عنه المتكلَّم فيه‏.‏ ف ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ و‏"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏"‏ ‏[‏سورة المسد‏]‏، كلاهما كلام الله، وهما مشتركان من هذه الجهة، لكنهما متفاضلان من جهة المتكلم فيه المخبر عنه‏.‏ فهذه كلام الله وخبره الذي يخبر به عن نفسه، وصفته التي يصف بها نفسه،

    ج/ 17 ص -58-وكلامه الذي يتكلم به عن نفسه، وهذه كلام الله الذي يتكلم به عن بعض خلقه، ويخبر به عنه، ويصف به حاله، وهما في هذه الجهة متفاضلان بحسب تفاضل المعنى المقصود بالكلامين‏.‏
    ألا ترى أن المخلوق يتكلم بكلام هو كله كلامه، لكن كلامه الذي يذكر به ربه أعظم من كلامه الذي يذكر به بعض المخلوقات، والجميع كلامه‏؟‏ ‏!‏ فاشتراك الكلامين بالنسبة إلى المتكلم لا يمنع تفاضلهما بالنسبة إلى المتكلم فيه، سواء كانت النسبتان أو إحداهما توجب التفضيل أو لا توجبه‏.‏ فكلام الأنبياء ثم العلماء والخطباء والشعراء بعضه أفضل من بعض وإن كان المتكلم واحدًا، وكذلك كلام الملائكة والجن، وسواء أريد بالكلام المعاني فقط أو الألفاظ فقط أو كلاهما أو كل منهما، فلا ريب في تفاضل الألفاظ والمعاني من المتكلم الواحد، فدل ذلك على أن مجرد اتفاق الكلامين في أن المتكلم بهما واحد لا يوجب تماثلهما من سائر الجهات‏.‏
    فتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه سواء كان خبرًا أو إنشاء أمر معلوم بالفطرة والشرعة، فليس الخبر المتضمن للحمد لله والثناء عليه بأسمائه الحسنى كالخبر المتضمن لذكر أبي لهب وفرعون وإبليس، وإن كان هذا كلامًا عظيمًا معظما تكلم الله به، وكذلك ليس الأمر بالتوحيد والإيمان بالله ورسوله، وغير ذلك من أصول الدين الذي أمرت

    ج/ 17 ص -59-به الشرائع كلها، وغير ذلك مما يتضمن الأمر بالمأمورات العظيمة، والنهي عن الشرك، وقتل النفس، والزنا ونحو ذلك مما حرمته الشرائع كلها، وما يحصل معه فساد عظيم كالأمر بلعق الأصابع، وإماطة الأذى عن اللقمة الساقطة، والنهي عن القران في التمر، ولو كان الأمران واجبين، فليس الأمر بالإيمان بالله ورسوله كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، والأمر بالإنفاق على الحامل وإيتائها أجرها إذا أرضعت‏.‏
    ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى تفاضل أنواع الإيجاب والتحريم وقالوا‏:‏ إن إيجاب أحد الفعلين قد يكون أبلغ من إيجاب الآخر، وتحريمه أشد من تحريم الآخر، فهذا أعظم إيجابًا، وهذا أعظم تحريمًا‏.‏ ولكن طائفة من أهل الكلام نازعوا في ذلك كابن عقيل وغيره فقالوا‏:‏ التفاضل ليس في نفس الإيجاب والتحريم، لكن في متعلق ذلك وهو كثرة الثواب والعقاب‏.‏ والجمهور يقولون‏:‏ بل التفاضل في الأمرين والتفاضل في المسببات دليل على التفاضل في الأسباب‏.‏ وكون أحد الفعلين ثوابه أعظم وعقابه أعظم دليل على أن الأمر به والنهي عنه أوكد، وكون أحد الأمرين والنهيين مخصوصًا بالتوكيد دون الثاني مما لا يستريب فيه عاقل، ولو تساويا من كل وجه لامتنع الاختصاص بتوكيد أو غيره من أسباب الترجيح، فإن التسوية والتفضيل متضادان‏.‏
    وجمهور أئمة الفقهاء على التفاضل في الإيجاب والتحريم، وإطلاق

    ج/ 17 ص -60-ذلك هو قول جماهير المتأخرين من أصحاب الأئمة الأربعة، وهو قول القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب والقاضي يعقوب البرزبيني وعبد الرحمن الحلواني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم‏.‏ لكن من هؤلاء من يفسر التفاضل بتفاضل الثواب والعقاب ونحو ذلك مما لا ينازع فيه النفاة‏.‏ والتحقيق‏:‏ أن نفس المحبة والرضا والبغض والإرادة والكرامة والطلب والاقتضاء ونحو ذلك من المعاني تتفاضل، وتتفاضل الألفاظ الدالة عليها‏.‏ ونفس حب العباد لربهم يتفاضل، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، ونفس حب الله لهم يتفاضل أيضا، فإن الخليلين إبراهيم ومحمدًا أحب إليه ممن سواهما‏.‏ وبعض الأعمال أحب إلى الله من بعض، والقول بأن هذا الفعل أحب إلى من هذا مشهور ومستفيض في الآثار النبوية وكلام خير البرية، كقول بعض الصحابة‏:‏ لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لفعلناه، فأنزل الله سورة الصف، وهو مشهور ثابت رواه الترمذي وغيره‏.‏
    وكون هذا أحب إلى الله من هذا هو داخل في تفضيل بعض الأعمال وبعض الأشخاص على بعض، وبعض الأمكنة والأزمنة على بعض، وقد قال النبي ﷺ لمكة‏:‏ ‏
    "‏والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن ‏[‏غريب‏]‏ صحيح، رواه من

    ج/ 17 ص -61-حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء‏.‏ وكذلك تفضيل حبه وبغضه على حب غيره وبغضه، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏لا أحد أغير من الله‏"‏ وهذا في الصحيحين‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏، ومن المعلوم بالاضطرار تفاضل المأمورات، فبعضها أفضل من بعض، وبعض المنهيات شر من بعض، وحينئذ فطلب الأفضل يكون في نفسه أكمل من طلب المفضول، والطالب إذا كان حكيما يكون طلبه لهذا أوكد‏.‏
    ففي الجملة، من المستقر في فطر العقلاء أن كلا من الخبر والأمر يلحقهما التفاضل من جهة المخبر عنه والمأمور به، فإذا كان المخبر به أكمل وأفضل كان الخبر به أفضل، وإذا كان المأمور به أفضل؛ كان الأمر به أفضل ولهذا كان الخبر بما فيه نجاة النفوس من العذاب، وحصول السعادة الأبدية أفضل من الخبر بما فيه نيل منزلة أو حصول دراهم، والرؤيا التي تتضمن أفضل الخبرين أعظم من الرؤيا التي تتضمن أدناهما، وهذا أمر مستقر في فطر العقلاء قاطبة‏.‏ وإذا قدر أميران أمر أحدهما بعدل عام عَمَّر به البلاد ودفع به الفساد، كان هذا الأمر أعظم من أمر أمير

    ج/ 17 ص -62-يعدل بين خصمين في ميراث بعض الأموات‏.‏
    وأيضًا، فالخبر يتضمن العلم بالمخبر به، والأمر يتضمن طلبًا وإرادة للمأمور به وإن لم يكن ذلك إرادة فعل الأمر، والله تعالى أمر العباد بما أمرهم به، ولكن أعان أهل الطاعة، فصار مريدًا لأن يخلق أفعالهم، ولم يُعِنْ أهل المعصية، فلم يرد أن يخلق أفعالهم‏.‏ فهذه الإرادة الخلقية القدرية لا تستلزم الأمر، وأما الإرادة بمعنى أنه يحب فعل ما أمر به ويرضاه إذا فعل، ويريد من المأمور أن يفعله من حيث هو مأمور- فهذه لابد منها في الأمر؛ ولهذا أثبت الله هذه الإرادة في الأمر دون الأولى، ولكن في الناس من غلط فنفي الإرادة مطلقًا، وكلا الفريقين لم يميز بين الإرادة الخلقية والإرادة الأمرية‏.‏ والقرآن فَرَّق بين الإرادتين، فقال في الأولى‏:‏
    ‏"فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وقال نوح‏:‏ ‏"وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏"‏[‏هود‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 39‏]‏؛ ولهذا قال المسلمون‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقال في الثانية‏:‏ ‏"يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏، وقال‏:‏ ‏"مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عليكم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكمْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏،

    ج/ 17 ص -63-وقال‏:‏ ‏"يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عليكمْ وَاللّهُ عليمٌ حَكِيمٌ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عليكمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 26‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وهذا مبسوط في موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أنه لابد في الأمر من طلب واستدعاء واقتضاء، سواء قيل‏:‏ إن هناك إرادة شرعية، وأنه لا إرادة للرب متعلقة بأفعال العباد سواها كما تقوله المعتزلة ونحوهم من القدرية، أو قيل‏:‏ لا إرادة للرب إلا الإرادة الخلقية القدرية التي يقال فيها‏:‏ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن إرادته عين نفس محبته ورضاه، وأن إرادته ومحبته ورضاه متعلقة بكل ما يوجد من إيمان وكفر، ولا تتعلق بما لا يوجد سواء كان إيمانًا أو كفرًا، وأنه ليس للعبد قدرة لها أثر في وجود مقدوره، وليس في المخلوقات قوي وأسباب يخلق بها، ولا لله حكمة يخلق ويأمر لأجلها، كما يقول هذا وما يشبهه جهم بن صفوان رأس الجبرية هو ومن وافقه على ذلك، أو بعضه من طوائف أهل الكلام وبعض متأخرى الفقهاء وغيرهم المثبتين للقدر على هذه الطريقة لا على طريقة السلف والأئمة كأبي الحسن وغيره، فإن هؤلاء ناقضوا القدرية المعتزلة مناقضة ألجأتهم إلى إنكار حقيقة الأمر والنهي والوعد والوعيد، وإن كان من يقول ببعض ذلك يتناقض، وقد يثبت أحدهم من ذلك ما لا حقيقة له في المعنى‏.‏

    ج/ 17 ص -64-وأما السلف وأئمة الفقهاء وجمهور المسلمين، فيثبتون الخلق والأمر والإرادة الخلقية القدرية الشاملة لكل حادث، والإرادة الأمرية الشرعية المتناولة لكل ما يحبه الله ويرضاه لعباده، وهو ما أمرت به الرسل، وهو ما ينفع العباد ويصلحهم ويكون له العاقبة الحميدة النافعة في المعاد الدافعة للفساد‏.‏ فهذه الإرادة الأمرية الشرعية متعلقة بإلهيته المتضمنة لربوبيته، كما أن تلك الإرادة الخلقية القدرية متعلقة بربوبيته؛ ولهذا كان من نظر إلى هذه فقط وراعي هذه الخلقية الكونية القدرية دون تلك يكون له بداية بلا نهاية، فيكون من الأخسرين أعمالا، يحصل لهم بعض مطالبهم في الدنيا لاستعانتهم بالله إذ شهدوا ربوبيته، ولا خلاق لهم في الآخرة إذ لم يعبدوا الله مخلصين له الدين‏.‏ وقد وقع في هذا طوائف من أهل التصوف والكلام‏.‏
    ومن نظر إلى الحقيقة الشرعية الأمرية دون تلك، فإنه قد يكون له عاقبة حميدة، وقد يراعي الأمر، لكنه يكون عاجزًا مخذولًا حيث لم يشهد ربوبية الله وفقره إليه، ليكون متوكلًا عليه بريًا من الحول والقوة إلا به، فهذا قد يقصد أن يعبده ولا يقصد حقيقة الاستعانة به، وهي حال القدرية من المعتزلة ونحوهم الذين يقرون أن الله ليس خالقًا أفعال العباد ولا مريدًا للكائنات؛ ولهذا قال أبو سليمان الداراني‏:‏ إنما يعجب بفعله القدري؛ لأنه لا يري أنه هو الخالق لفعله‏.‏ فأما أهل السنة الذين

    ج/ 17 ص -65-يقرون أن الله خالق أفعالهم، وأن لله المنة عليهم في ذلك، فكيف يعجبون بها‏؟‏ ‏!‏ أو كما قال‏.‏
    والأول قد يقصد أن يستعينه ويسأله ويتوكل عليه ويبرأ من الحول والقوة إلا به، ولكن لا يقصد أن يعبده بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه على ألسن رسله، ولا يشهد أن الله يحب أن يعبد ويطاع، وأنه يفرح بتوبة التائبين ويحب المتقين ويغضب على الكفار والمنافقين، بل ينسلخ من الدين أو بعضه، لا سيما في نهاية أمره‏.‏ وهذه الحال إن طردها صاحبها كان شرًا من حال المعتزلة القدرية، بل إن طردها طردًا حقيقيًا أخرجته من الدين خروج الشعرة من العجين، وهي حال المشركين‏.‏ وأما من هداه الله، فإنه يحقق قوله‏:‏ ‏
    "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، ويعلم أن كل عمل لا يراد به وجه الله ولا يوافق أمره، فهو مردود على صاحبه، وكل قاصد لم يعنه الله، فهو مصدود من مآربه، فإنه يشهد أن لا إله إلا الله، فيعبد الله مخلصًا له الدين، مستعينًا بالله على ذلك مؤمنًا، بخلقه وأمره، بقدره وشرعه، فيستعين الله على طاعته، ويشكره عليها، ويعلم أنها منة من الله عليه، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويعلم أن ما أصابه من سيئة فمن نفسه، مع علمه بأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن لله الحجة البالغة على خلقه، وأن له في خلقه وأمره حكمة بالغة ورحمة سابغة‏.‏ وهذه الأمور أصول عظيمة لبسطها موضع آخر‏.‏

    ج/ 17 ص -66-والمقصود هنا أن الخبر الصادق يتضمن جنس العلم والاعتقاد، والأمر يتضمن جنس الطلب باتفاق العقلاء، ثم هل مدلول الخبر جنس من المعاني غير جنس العلم، ومدلول الأمر جنس من المعاني غير جنس الإرادة، كما يقول ذلك طائفة من النظار مثل ابن كلاب، ومن وافقه‏؟‏ أو المدلول من جنس العلم والإرادة، كما يقوله جمهور نظار أهل السنة الذين يثبتون الصفات والقدر‏؟‏ فيقولون‏:‏ إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويقولون‏:‏ إن الله خالق أفعال العباد‏.‏ والمعتزلة وغيرهم ممن يخالف أهل السنة في هذين الأصلين، فإن هؤلاء يخالفون ابن كلاب ومن وافقه في ذينك الأصلين؛ ولهذا يقال‏:‏ إنه لم يوافقه أحد من الطوائف على ما أحدثه من القول في الكلام والصفات، وإن كان قوله خيرًا من قول المعتزلة والجهمية المحضة‏.‏ وأما جمهور المسلمين من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف النظار، فلا يقولون بقول المعتزلة ولا الكلابية، كما ذكر ذلك فقهاء الطوائف من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم في أصول الفقه، فضلاً عن غيرها من الكتب‏.‏
    والمقصود هنا أن الناس متفقون على أن كلا من أنواع الخبر والأمر لها معان، سواء سمى طلبًا أو إرادة أو علمًا أو حكمًا أو كلاما نفسانيًا‏.‏ وهذه المعاني تتفاضل في نفسها، فليس علمنا بالله وأسمائه

    ج/ 17 ص -67-كعلمنا بحال أبي لهب، وليس الطلب القائم بنا إذا أمرنا بالإيمان بالله ورسوله، كالطلب القائم بنا إذا أمرنا برفع اليدين في الصلاة، والأكل باليمين، وإخراج الدرهم من الزكاة‏.‏
    فعلم بذلك أن معاني الكلام قد تتفاضل في نفسها كما قد تتماثل، وتبين بذلك أن ما تضمنه الأمر والنهي من المعاني التي تدل عليها صيغة الأمر سواء سميت طلبًا أو اقتضاء أو استدعاء أو إرادة أو محبة أو رضا أو غير ذلك فإنها متفاضلة بحسب تفاضل المأمور به، وما تضمنه الخبر من أنواع العلوم والاعتقادات والأحكام النفسانية، فهي متفاضلة في نفسها بحسب تفاضل المخبر عنه‏.‏ فهذا نوع من تفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه، وإن كان المتكلم به واحدًا، وهو أيضًا متفاضل من جهة المتكلم به، وإن كان المتكلم فيه واحدًا كما قال تعالى‏:‏
    ‏"وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء‏"‏ [‏الشورى‏:‏ 51‏]‏، ومعلوم أن تكليمه من وراء حجاب أفضل من تكليمه بالإيحاء وبإرسال رسول؛ ولهذا كان من فضائل موسى، عليه السلام، أن الله كلمه تكليما، وقال‏:‏ ‏"إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ على النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏، وقال‏:‏ ‏"تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏
    والذي يجد الناس من أنفسهم‏:‏ أن الشخص الواحد تتفاضل أحواله

    ج/ 17 ص -68-في أنواع الكلام، بل وفي الكلام الواحد يتفاضل ما يقوم بقلبه من المعاني وما يقوم بلسانه من الألفاظ، بحيث قد يكون إذا كان طالبًا هو أشد رغبة ومحبة وطلبا لأحد الأمرين منه للآخر، ويكون صوته به أقوى ولفظه به أفصح، وحاله في الطلب أقوى وأشد تأثيرًا؛ ولهذا يكون للكلمة الواحدة من الموعظة، بل للآية الواحدة إذا سمعت من اثنين من ظهور التفاضل ما لا يخفي على عاقل، والأمر في ذلك أظهر وأشهر من أن يحتاج إلى تمثيل، وكذلك في الخبر قد يقوم بقلبه من المعرفة والعلم وتصور المعلوم وشهود القلب إياه باللسان من حسن التعبير عنه لفظًا وصوتًا، ما لا يقاربه ما يقوم بالقلب واللسان إذا أخبر عن غيره‏.‏
    فهذا نوع إشارة إلى قول من يقول بتفضيل بعض كلام الله على بعض، موافقًا لما دل عليه الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة‏.‏
    والطائفة الثانية تقول‏:‏ إن كلام الله لا يفضل بعضه على بعض، ثم لهؤلاء في تأويل النصوص الواردة في التفضيل قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه إنما يقع التفاضل في متعلقه، مثل كون بعضه أنفع للناس من بعض، لكون الثواب عليه أكثر، أو العمل به أخف مع التماثل في الأجر، وتأولوا قوله‏:‏
    ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ أي‏:‏ نأت بخير منها لكم، لا أنها في نفسها خير من تلك‏.‏ وهذا قول طائفة من المفسرين كمحمد بن جرير الطبري قال‏:‏ نأت بحكم خير لكم من حكم الآية المنسوخة، إما في العاجل لخفته

    ج/ 17 ص -69-عليكم، وإما في الآخرة لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله‏.‏ قال‏:‏ والمراد ما ننسخ من حكم آية كقوله‏:‏ ‏"وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏ أي‏:‏ حبه‏.‏ قال‏:‏ ودل على أن ذلك كذلك قوله‏:‏ ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خيرًا من شيء؛ لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى أن يقال‏:‏ بعضها أفضل من بعض، أو بعضها خير من بعض، وطرد ذلك في أسماء الله، فمنع أن يكون بعض أسمائه أعظم أو أفضل أو أكبر من بعض‏.‏ وقال‏:‏ معنى الاسم الأعظم‏:‏ العظيم، وكلها سواء في العظمة، وإنما يتفاضل حال الناس حين الدعاء، فيكون الأعظم بحسب حال الدعاء؛ لا أنه في نفسه أعظم‏.‏
    وهذا القول الذي قاله في أسماء الله نظير القول الثاني في تفضيل بعض كلام الله على بعض، فإن القول الثاني لمن منع تفضيله أن المراد يكون هذا أفضل أو خيرًا كونه فاضلًا في نفسه؛ لا أنه أفضل من غيره‏.‏ وهذا القول يحكي عن أبي الحسن الأشعري ومن وافقه، قالوا‏:‏ إن معنى ذلك أنه عظيم فاضل، وقالوا‏:‏ مقتضي الأفضل تقصير المفضول عنه وكلام الله لا يتبعض، وهذا يقولونه في الكلام؛ لأنه واحد بالعين عندهم يمتنع فيه تماثل أو تفاضل، وأما في الصفات بعضها على بعض فلامتناع التغاير، ولا يقولون هذا في القرآن العربي، فإن القرآن العربي عندهم مخلوق، وليس هو كلام الله على قول الجمهور منهم‏:‏ قالوا‏:‏ لأن الكلام

    ج/ 17 ص -70-يمتنع قيامه بغير المتكلم كسائر الصفات، والقرآن العربي يمتنع عندهم قيامه بذات الله تعالى، ولو جوزوا أن يكون كلام الله قائمًا بغيره، لبطل أصلهم الذي اتفقوا عليه هم وسائر أهل السنة وردوا به على المعتزلة في قولهم‏:‏ إن القرآن مخلوق، وهؤلاء يسلمون أن القرآن العربي بعضه أفضل من بعض؛ لأنه مخلوق عندهم، ولكن ليس هو كلام الله عند جماهيرهم‏.‏
    وبعض متأخرىهم يقول‏:‏ إن لفظ ‏[‏كلام الله‏]‏ يقع بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس، وعلى الكلام العربي المخلوق الدال عليه، وأما كلام الله الذي ليس بمخلوق عندهم، فهو ذلك المعنى، وهو الذي يمتنع تفاضله عندهم‏.‏ وأصل هؤلاء‏:‏ أن كلام الله هو المعاني، بل هو المعنى الواحد فقط، وأن معاني كتاب الله هي شيء واحد لا يتعدد ولا يتبعض، فمعنى آية الكرسي، وآية الدين، والفاتحة، وقل هو الله أحد، وتبت، ومعنى التوراة والإنجيل، وكل حديث إلهي، وكل ما يكلم به الرب عباده يوم القيامة، وكل ما يكلم به الملائكة والأنبياء، إنما هي معنى واحد بالعين لا بالنوع، ولا يتعدد ولا يتبعض، وأن القرآن العربي ليس هو كلام الله، بل كلام غيره‏:‏ جبريل أو محمد، أو مخلوق من مخلوقاته عبر به عن ذلك الواحد، وذلك الواحد هو الأمر بكل ما أمر به، والنهي عن كل ما نهي عنه، والإخبار بكل ما أخبر به، وأن الأمر والنهي والخبر ليست أنواعا للكلام وأقسامًا له، فإن الواحد بالعين لا يقبل

    ج/ 17 ص -71-التنويع والتقسيم، بخلاف الواحد بالنوع فإنه يقبل التنويع والتقسيم، وإنما هي صفات لذلك الواحد بالعين، وهي صفات إضافية له، فإذا تعلق بما يطلب من أفعال العباد؛ كان أمرًا، وإذا تعلق بما ينهي عنه كان نهيًا، وإذا تعلق بما يخبر عنه كان خبرًا‏.‏
    وجمهور العقلاء يقولون‏:‏ فساد هذا معلوم بالاضطرار، فإنا نعلم أن معاني‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، ليست هي معاني‏:‏ ‏"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏"‏، ولا معاني آية الدَّين معاني آية الكرسي، ولا معاني الخبر عن صفات الله هي معاني الخبر عن مخلوقات الله، وأن تعلق ذلك المعنى بالحقائق المخبر عنها، والأفعال التي تعلق بها الأمر والنهي إن كان أمرًا وجوديًا، فلابد له من محل، فإن قام بذات الله، فقد تعددت معاني الكلام القائمة بذاته، وإن قام بذات غيره، كان صفة لذلك الغير لا لله، وإن قام لا بمحل كان ممتنعًا؛ فإن المعاني لا تقوم بأنفسها، وإن كان تعلق ذلك المعنى بالحقائق أمرًا عدميا؛ لم يكن هناك ما يميز بين الخبر والأمر والنهي، بل لا يميز بين خبر الله عن نفسه وعن قوم نوح وعاد؛ إذ كان المعنى الواحد لا تعدد فيه فضلا عن أن يمتاز بعضه عن بعض‏.‏
    والحقائق المخبر عنها والمأمور بها والمنهي عنها لا تكون بأنفسها مخبرًا بها ومأمورًا بها ومنهيًا عنها، بل الخبر عنها والأمر بها والنهي عنها هو غير ذواتها، فإذا لم يكن هنا أمر موجود غير ذلك المعنى الذي لا امتىاز فيه ولا تعدد، وغير المخلوقات التي لا تميز بين الأمر والنهي والخبر، لم

    ج/ 17 ص -72-يكن هنا ما يميز بين النهي والخبر، ولا ما يجعل معاني آية الوضوء غير معاني آية الدين، فإن الحروف المخلوقة الدالة على ذلك المعنى إن لم تدل إلا عليه، فلا تعدد فيه ولا تنويع، وإن دلت على التعلقات التي هي عدمية، فالعدم ليس بشيء حتى يكون أمرًا ونهيًا وخبرًا، وليس عند هؤلاء إلا ذلك المعنى وتعلقه بالحقائق المخبر عنها والمأمور بها، ونفس القرآن العربي المخلوق عندهم هو الدال على ذلك المعنى، فالمدلول إن كان هو ذلك المعنى، فلا يتميز فيه أمر عن خبر، ولا أمر بصلاة عن أمر بزكاة، ولا نهي عن الكفر عن إخبار بتوحيد‏.‏ وإن كانت التعلقات عدمية، فالمعدوم ليس بشيء، ولا يكون العدم أمرًا ونهيًا وخبرًا، ولا يكون مدلول التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كتب الله أمورًا عدمية لا وجود لها، ولا تكون الأمور العدمية هي التي بها وجبت الصلاة وحرم الظلم، ولا يكون المعنى الواحد بتلك الأمور العدمية إلا صفات إضافية، وهي من معنى السلبية، فإنها إن لم تكن سلب أمر موجود، فهي تعلق ليس بموجود‏.‏ فحقيقة الأمر على قول هؤلاء أنه ليس لله كلام لا معان ولا حروف إلا بمعنى واحد لا حقيقة له موجودة ولا معلومة‏.‏
    ومن حجة هؤلاء‏:‏ أنه إذا قيل‏:‏ بعضه أفضل من بعض؛ كان المفضول ناقصًا عن الفاضل، وصفات الله كاملة لا نقص فيها، والقرآن

    ج/ 17 ص -73-من صفاته‏.‏ قال هؤلاء‏:‏ صفات الله كلها متوافرة في الكمال، متناهية إلى غاية التمام، لا يلحق شيئا منها نقص بحال، ثم لما اعتقد هؤلاء أن التفاضل في صفات الله ممتنع، ظنوا أن القول بتفضيل بعض كلامه على بعض لا يمكن إلا على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأنه مخلوق، فإنه إذا قيل‏:‏ إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض‏.‏ قالوا‏:‏ وأما على قول أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته‏.‏
    ولأجل هذا الاعتقاد؛ صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السنة على امتناع التفضيل في القرآن كما قال أبو عبد الله بن الدراج في مصنف صنفه في هذه المسألة، قال‏:‏ ‏[‏أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مما ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض؛ إذ هو كله كلام الله وصفة من صفاته، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال‏]‏‏.‏ وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازمًا لأهل السنة، فلما علم أنهم يقولون‏:‏ القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وظن هو أن المفاضلة إنما تقع في المخلوقات لا في الصفات، قال ما قال‏.‏ وإلا فلا ينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على

    ج/ 17 ص -74-بعض، لا في نفسه، ولا في لوازمه ومتعلقاته؛ فضلا عن أن يكون هذا إجماعًا‏.‏
    وليس هو لازما لابن كلاب ومن وافقه -كالأشعري وأتباعه- فإن هؤلاء يجوّزون وقوع المفاضلة في القرآن العربي، وهو مخلوق عندهم‏.‏ وهذا المخلوق يسمى ‏[‏كتاب الله‏]‏، والمعنى القديم يسمى ‏[‏كلام الله‏]‏، ولفظ ‏[‏القرآن‏]‏ يراد به عندهم ذلك المعنى القديم، والقرآن العربي المخلوق‏.‏ وحينئذ فهم يتأولون ما ورد من تفضيل بعض القرآن على بعض على القرآن المخلوق عندهم‏.‏
    وإنما القول المتواتر عن أئمة السلف أنهم قالوا‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا مقالة الجهمية الذين جعلوا القرآن مخلوقًا منفصلًا عن الله، بل كَفَّروا من قال ذلك‏.‏ والكتب الموجودة فيها ألفاظهم بأسانيدها وغير أسانيدها كثيرة، مثل كتاب ‏[‏الرد على الجهمية‏]‏ للإمام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، و ‏[‏الرد على الجهمية‏]‏ لعبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري و‏[‏الرد على الجهمية‏]‏ للحكم بن معبد الخزاعي، و‏[‏كتاب السنة‏]‏ لعبد الله بن أحمد بن حنبل، و‏[‏السنة‏]‏ لحنبل ابن عم الإمام أحمد، و‏[‏السنة‏]‏ لأبي داود السجستاني، و ‏[‏السنة‏]‏ للأثرم، و‏[‏السنة‏]‏ لأبي بكر الخلال، و‏[‏السنة والرد على أهل الأهواء‏]‏ لخشيش بن أصرم،

    ج/ 17 ص -75-و‏[‏الرد على الجهمية‏]‏ لعثمان بن سعيد الدارمي، و‏[‏نقض عثمان بن سعيد علي الجهمي الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد‏]‏، و‏[‏كتاب التوحيد‏]‏ لابن خزيمة، و ‏[‏السنة‏]‏ للطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني، و‏[‏شرح أصول السنة‏]‏ لأبي القاسم اللالكائي، و‏[‏الإبانة‏]‏ لأبي عبد الله بن بطة، وكتب أبي عبد الله بن مُنده، و‏[‏السنة‏]‏ لأبي ذر الهروي، و‏[‏الأسماء والصفات‏]‏ للبيهقي، و‏[‏الأصول‏]‏ لأبي عمر الطلمنكي، و‏[‏الفاروق‏]‏ لأبي إسماعيل الأنصاري، و‏[‏الحجة‏]‏ لأبي القاسم التيمي، إلى غير ذلك من المصنفات التي يطول تعدادها، التي يذكر مصنفوها العلماء الثقات مذاهب السلف بالأسانيد الثابتة عنهم بألفاظهم الكثيرة المتواترة التي تعرف منها أقوالهم، مع أنه من حين محنة الجهمية لأهل السنة -التي جرت في زمن أحمد بن حنبل لما صبر فيها الإمام أحمد، وقام بإظهار السنة والصبر على محنة الجهمية حتى نصر الله الإسلام والسنة وأطفأ نار تلك الفتنة ظهر في ديار الإسلام وانتشر بين الخاص والعام أن مذهب أهل السنة والحديث المتبعين للسلف من الصحابة والتابعين‏:‏ أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الذين أحدثوا في الإسلام القول بأن القرآن مخلوق، هم الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ومن اتبعه من المعتزلة وغيرهم من أصناف الجهمية، لم يقل هذا القول أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، فهذا القول هو القول المعروف عن أهل السنة والجماعة، وهو القول بأن القرآن

    ج/ 17 ص -76-كلام الله وهو غير مخلوق‏.‏
    أما كونه لا يفضل بعضه على بعض، فهذا القول لم ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمة السنة الذين كانوا أئمة المحنة كأحمد بن حنبل وأمثاله ولا عن أحد قبلهم، ولو قدر أنه نقل عن عدد من أئمة السنة؛ لم يجز أن يجعل ذلك إجماعًا منهم، فكيف إذا لم ينقل عن أحد منهم‏؟‏ ‏!‏ وإنما هذا نقل لما يظنه الناقل لازما لمذهبهم‏.‏ فلما كان مذهب أهل السنة‏:‏ أن القرآن من صفات الله لا من مخلوقات الله، وظن هذا الناقل أن التفاضل يمتنع في صفات الخالق، نقل امتناع التفاضل عنهم بناء على هذا التلازم‏.‏
    ولكن يقال له‏:‏ أما المقدمة الأولى فمنقولة عنهم بلا ريب، وأما المقدمة الثانية وهي أن صفات الرب لا تتفاضل فهل يمكنك أن تنقل عن أحد من السلف قولًا بذلك، فضلًا عن أن تنقل إجماعهم على ذلك‏؟‏ ‏!‏ ما علمت أحدًَا يمكنه أن يثبت عن أحد من السلف أنه قال ما يدل على هذا المعنى، لا بهذا اللفظ ولا بغيره، فضلًا عن أن يكون هذا إجماعًا، ولكن إن كان قال قائل ذلك ولم يبلغنا قوله، فالله أعلم‏.‏ لكن الذي أقطع به -ويقطع به كل من له خبرة بكلام السلف أن القول بهذا لم يكن مشهورًا بين السلف، ولا قاله واحد واشتهر قوله عند الباقين فسكتوا عنه، ولا هو معروف في الكتب التي نقل

    ج/ 17 ص -77-فيها ألفاظهم بأعيانها، بل المنقول الثابت عنهم أو عن كثير منهم يدل على أنهم كانوا يرون تفاضل صفات الله تعالى، وهكذا من قال من أصحاب مالك أو الشافعي أو أحمد عن أهل السنة‏:‏ إن القرآن لا يفضل بعضه على بعض، فإنما مستندهم‏:‏ أن أهل السنة متفقون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن كلامه من صفاته القائمة بنفسه ليس من مخلوقاته وهذا أيضًا صحيح عن أهل السنة‏.‏
    ثم ظنوا أن التفاضل إنما يقع في المخلوق لا في الصفات، وهذا الظن لم ينقلوه عن أحد من أئمة الإسلام كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي ولا من قبل هؤلاء؛ ولهذا شنع هؤلاء على من ظن فضل بعضه على بعض، كما دلت عليه النصوص والآثار، لظنهم أن ذلك مستلزم لخلاف مذهب أهل السنة، كما قال أبو عبد الله بن المرابط في الكلام على حديث البخاري في رده لتأويل من تأول هذا الحديث على أن هذه الصورة إذا عدلت بثلث القرآن أنها تفضل الربع منه وخمسه، وما دون الثلث فهو التفاضل في كتاب الله تعالى وهو صفة من صفات الله جل جلاله، وقال‏:‏ فهذا لولا عذر الجهالة لحكم على قائله بالكفر؛ إذ لا يصح التفاضل إلا في المخلوقات؛ إذ صفاته كلها فاضلة في غاية الفضيلة ونهاية العلو والكرامة، فمن تنقص شيئا منها عن سائرها فقد ألحد فيها، ألا تسمعه منع ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏
    "الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 91‏]‏‏.‏

    ج/ 17 ص -78-قال‏:‏ وقد أجمع أهل السنة على أن القرآن صفة من صفات الله لا من صفة خلقه‏.‏ قال‏:‏ وإنما أوقعهم في تأويل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، ولا يخلو معنى ذلك من أحد وجهين‏:‏ إما أن تكون الناسخة خيرًا من المنسوخة في ذاتها، وإما أن تكون خيرًا منها لمن تعبد بها؛ إذ محال أن يتفاضل القرآن في ذاته على ما ذهب إليه أهل السنة والاستقامة، إذ كل من عند الله؛ لأن القرآن العزيز صفة الله، وأسماء الله وصفاته كلها متوافرة في الكمال، متناهية إلى غاية التمام، لا يلحق شيئا منها نقص بحال‏.‏ فلما استحال أن تكون آية خيرًا من آية في ذاتها، علمنا أن المراد ‏"بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏"‏ إنما هو للمتعبدين بها، لم ينقل عباده من تخفيف إلى تثقيل، ولكنه نقلهم بالنسخ من تحريم إلى تحليل، ومن إيجاب إلى تخيير، ومن تطهير إلى تطهير، والشاهد لنا قوله‏:‏ ‏"يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏‏.‏
    فيقال‏:‏ أما قول القائل‏:‏ لولا عذر الجهالة لحكم على مثبت المفاضلة بالكفر فهم يقابلونه بمثل ذلك، وحجتهم أقوى؛ وذلك لأن الكفر حكم شرعي، وإنما يثبت بالأدلة الشرعية، ومن أنكر شيئا لم يدل عليه الشرع بل علم بمجرد العقل، لم يكن كافرًا، وإنما الكافر من أنكر ما جاء به الرسول، ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض، بل ولا يمنع تفاضل صفاته

    ج/ 17 ص -79-تعالى، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة، بحيث جعلوا أعلامًا للسنة وأئمة للأمة‏.‏
    وأما تفضيل بعض كلام الله على بعض، بل تفضيل بعض صفاته على بعض، فدلالة الكتاب والسنة والأحكام الشرعية والآثار السلفية كثيرة على ذلك، فلو قدر أن الحق في نفس الأمر أنها لا تتفاضل، لم يكن نفي تفاضلها معلوما إلا بالعقل لا بدليل شرعي، وإذا قدر أنها تتفاضل، فالدال على ذلك هو الأدلة الشرعية مع العقلية، فإذا قدر أن الحق في نفس الأمر هو التفضيل، لكان كفر جاحد ذلك أولى من كفر من يثبت التفضيل إذا لم يكن حقًا في نفس الأمر؛ لأن ذلك جحد موجب الأدلة الشرعية بغير دليل شرعي، بل لما رآه بعقله وأخطأ فيه، إذ نحن نتكلم في هذا التقدير‏.‏ ومعلوم أن من خالف ما جاءت به الرسل عن الله بمجرد عقله، فهو أولى بالكفر ممن لم يخالف ما جاءت به الرسل عن الله، وإنما خالف ما علم بالعقل إن كان ذلك حقًا‏.‏
    ونظير هذا قول بعض نفاة الصفات لما تأمل حال أصحابه وحال مثبتيها قال‏:‏ لا ريب أن حال هؤلاء عند الله خير من حالنا، فإن هؤلاء إن كانوا مصيبين، فقد نالوا الدرجات العلى والرضوان الأكبر، وإن كانوا مخطئين، فإنهم يقولون‏:‏ نحن يا رب صدقنا ما دل عليه كتابك

    ج/ 17 ص -80-وسنة رسولك، إذ لم تبين لنا بالكتاب والسنة نفي الصفات، كما دل كلامك على إثباتها، فنحن أثبتنا ما دل عليه كلامك وكلام رسولك، فإن كان الحق في خلاف ذلك فلم يبين الرسول ما يخالف ذلك، ولم يكن خلاف ذلك مما يعلم ببداهة العقول، بل إن قُدر أنه حق، فلا يعلمه إلا الأفراد، فكيف وعامة المنتهين في خلاف ذلك إلى الغاية يقرون بالحيرة والارتياب‏؟‏ ‏!‏ قال النافي‏:‏ وإن كنا نحن مصيبين، فإنه يقال لنا‏:‏ أنتم قلتم شيئا لم آمركم بقوله، وطلبتم علما لم آمركم بطلبه، فالثواب إنما يكون لأهل الطاعة، وأنتم لم تمتثلوا أمري‏.‏ قال‏:‏ وإن كنا مخطئين، فقد خسرنا خسرانًا مبينًا‏.‏
    وهذا حال من أثبت المفاضلة في كلام الله وصفاته ومن نفاها، فإن المثبت معتصم بالكتاب والسنة والآثار، ومعه من المعقولات الصريحة التي تبين صحة قوله وفساد قول منازعه ما لا يتوجه إليها طعن صحيح‏.‏ وأما النافي، فليس معه آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله ﷺ ولا قول أحد من سلف الأمة، وإنما معه مجرد رأي يزعم أن عقله دل عليه، ومنازعه يبين أن العقل إنما دل على نقيضه، وأن خطأه معلوم بصريح المعقول، كما هو معلوم بصحيح المنقول‏.‏ واحتجاج المحتج على نفي التفاضل بقوله‏:‏
    ‏"جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ‏"‏[‏الحجر‏:‏ 91‏]‏ في غاية الفساد، فإن الآية لا تدل على هذا بوجه من الوجوه، سواء

    ج/ 17 ص -81-أريد بها من آمن ببعضه وكفر ببعضه، أو أريد بها من عضهه فقال‏:‏ هو سحر وشعر ونحو ذلك، بل من نفي فضل ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ على ‏"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏"‏ فهو أولى بأن يكون ممن جعله عضين؛ إن دلت الآية على هذه المسألة‏.‏
    وذلك أن من آمن بما وصف الله به كلامه فأقر بأنه جميعه كلام الله، وأقر به كله، فلم يكفر بحرف منه، وعلم أن كلام الله أفضل من كل كلام، وأن خير الكلام كلام الله، وأنه لا أحسن من الله حديثا ولا أصدق منه قيلا، وأقر بما أخبر الله به ورسوله من فضل بعض كلامه، كفضل ‏[‏فاتحة الكتاب‏]‏، و ‏[‏آية الكرسي‏]‏، و
    ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، ونحو ذلك، بل وتفضيل ‏[‏يس‏]‏، و ‏[‏تبارك‏]‏، والآيتين من آخر سورة البقرة، بل وتفضيل ‏[‏البقرة‏]‏، و‏[‏آل عمران‏]‏ وغير ذلك من السور والآيات التي نطقت النصوص بفضلها، وأقر بأنه كلام الله ليس منه شيء كلامًا لغيره لا معانيه ولا حروفه، فهو أبعد عن جعله عضين ممن لم يؤمن بما فضل الله به بعضه على بعض، بل آمن بفضله من جهة المتكلم، ولم يؤمن بفضله من جهة المتكلم فيه؛ فإن هذا في الحقيقة آمن به من وجه دون وجه‏.‏
    وكذلك من قال‏:‏ إنه معنى واحد، وأن القرآن العربي لم يتكلم الله به، بل هو مخلوق خلقه الله في الهواء أو أحدثه جبريل أو محمد، فهذا

    ج/ 17 ص -82-أولى بأن يكون داخلًا فيمن عضه القرآن، ورماه بالإفك، وجعل القرآن العربي كلام مخلوق إما بشر وإما ملك وإما غيرهما فمن جعل القرآن كله كلام الله ليس بمخلوق ولا هو من إحداث مخلوق لا جبريل ولا محمد ولا شيء منه، بل جبريل رسول ملك، ومحمد رسول بشر، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فاصطفى لكلامه الرسول الملكي، فنزل به على الرسول البشري الذي اصطفاه، وقد أضافه إلى كل من الرسولين؛ لأنه بلغه وأداه، لا لأنه أنشأه وابتداه، قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏"‏ ‏[‏التكوير‏:‏19‏:21‏]‏، فهذا نعت جبريل الذي قال فيه‏:‏ ‏"مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 97‏]‏، وقال‏:‏ ‏"نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ‏"‏[‏الشعراء 193‏:‏ 195‏]‏، وقال‏:‏"وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏"‏ ‏[‏النحل 101‏:‏ 102‏]‏، وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏"إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ علينَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ‏"‏[‏الحاقة 40‏:‏ 47‏]‏، فهذه صفة محمد ﷺ‏.‏
    وأضاف القول إلى كل منهما باسم الرسول فقال‏:‏ ‏
    "لَقَوْلُ رَسُولٍ‏"‏؛

    ج/ 17 ص -83-لأن الرسول يدل على المرسل، فدل على أنه قول رسول بلغه عن مرسل‏.‏ لم يقل‏:‏ إنه لقول ملك ولا بشر، بل كفر من جعله قول بشر بقوله‏:‏ ‏"ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏"‏[‏المدثر‏:‏ 11‏:‏ 25‏]‏، فمن قال‏:‏ إنه قول بشر أو قول مخلوق غير البشر فقد كفر، ومن جعله قول رسول من البشر فقد صدق؛ لأن الرسول ليس له فيه إلا التبليغ والأداء كما قال تعالى‏:‏"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إليك مِن رَّبِّكَ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، وفي سنن أبي داود عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي ﷺ كان يعرض نفسه على الناس في الموسم ويقول‏:‏ ‏"‏ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي‏؟‏ ‏!‏ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي‏"‏‏.‏
    والذي اتفق عليه السلف‏:‏ أن القرآن كلام الله غير مخلوق‏.‏ وقال غير واحد منهم‏:‏ منه بدأ وإليه يعود‏.‏ قال أحمد بن حنبل وغيره‏:‏ منه بدأ، أي‏:‏ هو المتكلم به، لم يبتد من غيره كما قالت الجهمية القائلون بأن القرآن مخلوق‏.‏ قالوا‏:‏ خلقه في غيره، فهو مبتدأ من ذلك المحل المخلوق، ويلزمهم أن يكون كلاما لذلك المحل المخلوق لا لله

    ج/ 17 ص -84-تعالى، لا سيما والجهمية كلهم يقولون بأن الله خالق أفعال العباد وهم غلاة في الجبر ولكن المعتزلة توافقهم على نفي الصفات والقول بخلق القرآن، وتخالفهم في القدر والأسماء والأحكام، فإذا كان الله خالق كل ما سواه لزمهم أن يكون كل كلام كلامه، لأنه هو الذي خلقه؛ ولذلك قال ابن عربي الطائي وكان من غلاة هؤلاء الجهمية يقول بوحدة الوجود، قال‏:‏

    وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

    ولهذا قال سليمان بن داود الهاشمي نظير أحمد بن حنبل الذي قال الشافعي‏:‏ ما رأيت أعقل من رجلين‏:‏ أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي قال‏:‏ من قال‏:‏ "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا‏"[‏طه‏:‏ 14‏]‏ مخلوق فهو كافر‏.‏ وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال‏:‏ ‏"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعلى‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، وزعموا أن هذا مخلوق‏؟‏ ‏!‏ ومعنى ذلك كون قول فرعون‏:‏ ‏"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعلى‏"‏ كلاما قائمًا بذات فرعون، فإن كان قوله‏:‏ ‏"إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا‏"‏ كلاما خلقه في الشجرة كانت الشجرة هي القائلة لذلك كما كان فرعون هو القائل لذلك وحينئذ فيكون جعل الشجرة إلها أعظم كفرًا من جعل فرعون إلها‏.‏

    ج/ 17 ص -85-والجهمية والمعتزلة لم يقم عندهم بذات الله لا طلب ولا إرادة ولا محبة ولا رضا ولا غضب، ولا غير ذلك، مما يجعل مدلول الأصوات المخلوقة، ولا قام بذاته عندهم إيجاب وإلزام ولا تحريم وحظر، فلم يكن للكلام المخلوق في غيره معنى قائم بذاته يدل عليه ذلك المخلوق حتى يفرق بين ما خلقه في الجماد وما خلقه في الحيوان‏.‏ وكان مقصود السلف رضوان الله عليهم أن الله هو المتكلم بالقرآن وسائر كلامه، وأنه منه نزل لم ينزل من غيره كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏، لم يقل أحد من السلف‏:‏ إن القرآن قديم، وإنما قالوا‏:‏ هو كلام الله غير مخلوق، وقالوا‏:‏ لم يزل الله متكلمًا إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وكما شاء، ولا قال أحد منهم‏:‏ إن الله في الأزل نادى موسى، ولا قال‏:‏ إن الله لم يزل ولا يزال يقول‏:‏ ‏"يا آدم‏"‏، ‏"يانوح‏"‏، ‏"يا موسى‏"‏، ‏"يا إبليس‏"‏ ونحو ذلك مما أخبر أنه قال‏.‏
    ولكن طائفة ممن اتبع السلف اعتقدوا أنه إذا كان غير مخلوق، فلابد أن يكون قديمًا؛ إذ ليس عندهم إلا هذا وهذا، وهؤلاء ينكرون أن يكون الله يتكلم بمشيئته وقدرته، أو يغضب على الكفار إذا عصوه، أو يرضى عن المؤمنين إذا أطاعوه، أو يفرح بتوبة التائبين إذا تابوا، أو يكون نادي موسى حين أتي الشجرة، ونحو ذلك مما دل عليه

    ج/ 17 ص -86-الكتاب والسنة كقوله‏:‏ "ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏"[‏محمد‏:‏ 28‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا موسى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ مَثَلَ عِيسَي عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏، وقد أخبر أن كلماته لا نفاد لها بقوله‏:‏ ‏"لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏"‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏
    وأتباع السلف يقولون‏:‏ إن كلام الله قديم، أي‏:‏ لم يزل متكلما إذا شاء، لا يقولون‏:‏ إن نفس الكلمة المعينة قديمة كندائه لموسى ونحو ذلك‏.‏ لكن هؤلاء اعتقدوا أن القرآن وسائر كلام الله قديم العين، وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم اختلفوا، فمنهم من قال‏:‏ القديم هو معنى واحد، هو جميع معاني التوراة والإنجيل والقرآن، وإن التوراة إذا عبر عنها بالعربية، صارت قرآنا، والقرآن إذا عبر عنه بالعبرية، صار توراة‏.‏ قالوا‏:‏ والقرآن العربي لم يتكلم الله به، بل إما أن يكون خلقه في بعض الأجسام، وإما أن يكون أحدثه جبريل أو محمد، فيكون كلاما لذلك الرسول ترجم به عن المعنى الواحد القائم بذات الرب الذي هو

    ج/ 17 ص -87-جميع معاني الكلام‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل القرآن القديم هو حروف أو حروف وأصوات، وهي قديمة أزلية قائمة بذات الرب أزلا وأبدًا، وهي متعاقبة في ذاتها وماهيتها لا في وجودها، فإن القديم لا يكون بعضه متقدمًا على بعض، ففرقوا بين ذات الكلام وبين وجوده، وجعلوا التعاقب في ذاته لا في وجوده كما يفرق بين وجود الأشياء بأعيانها وماهياتها من يقول بذلك من المعتزلة والمتفلسفة وكلا الطائفتين تقول‏:‏ إنه إذا كلم موسى أو الملائكة أو العباد يوم القيامة، فإنه لا يكلمه بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته حين يكلمه، ولكن يخلق له إدراكًا يدرك ذلك الكلام القديم اللازم لذات الله أزلا وأبدًا، وعندهم لم يزل ولا يزال يقول‏:‏ ‏"يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 35‏]‏، و ‏"يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عليكَ‏"‏ [‏هود‏:‏ 48‏]‏، و ‏"يَا إِبلىسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏، ونحو ذلك، وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في مواضع‏.‏
    والمقصود أن هذين القولين لا يقدر أحد أن ينقل واحدًا منهما عن أحد من السلف أعني الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين، الذين لهم في الأمة لسان صدق في زمن أحمد بن حنبل، ولا زمن الشافعي، ولا زمن أبي حنيفة ولا قبلهم وأول من أحدث هذا الأصل هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعرف أن الحروف متعاقبة فيمتنع أن تكون قديمة الأعيان، فإن المتأخر

    ج/ 17 ص -88-قد سبقه غيره والقديم لا يسبقه غيره، والصوت المعين لا يبقي زمانين، فكيف يكون قديمًا‏؟‏ ‏!‏ فقال بأن القديم هو المعنى، ثم جعل المعنى واحدا لا يتعدد ولا يتبعض؛ لامتناع اختصاصه بعدد معين، وامتناع معان لا نهاية لها في آن واحد، وجعل القرآن العربي ليس هو كلام الله‏.‏
    فلما شاع قوله، وعرف جمهور المسلمين فساده شرعا وعقلا، قالت طائفة أخرى ممن وافقته على مذهب السلف‏:‏ إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى الأصل الذي أحدثه من القول بقدم القرآن‏:‏ إن القرآن قديم، وهو مع ذلك الحروف المتعاقبة والأصوات المؤلفة‏.‏ فصار قول هؤلاء مركبا من قول المعتزلة وقول الكلابية، فإذا ناظروا المعتزلة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ناظروهم بطريقة ابن كلاب، وإذا ناظرهم الكلابية على أن القرآن العربي كلام الله وأن القرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله؛ ناظروهم بحجج المعتزلة، وليس شيء من هذه الأقوال قول أحد من السلف كما بسط في غير هذا الموضع، ولا قال شيئا من هذه الأقوال لا الأئمة الأربعة ولا أصحابهم الذين أدركوهم، وإنما قاله -ممن ينتسب إليهم- بعض المتأخرين الذين تلقوها عمن قالها من أهل الكلام، ولم يكن لهم خبرة لا بأقوال السلف التي دل عليها الكتاب والسنة والعقل الصريح،

    ج/ 17 ص -89-ولا بحقائق أقوال أهل الكلام الذي ذمه السلف، ولم قالوا هذا‏؟‏ ‏!‏ وما الذي ألجأهم إلى هذا‏؟‏ ‏!‏ وقد شاع عند العامة والخاصة أن القرآن ليس بمخلوق‏.‏ والقول بأنه مخلوق قول مبتدع مذموم عند السلف والأئمة، فصار من يطالع كتب الكلام التي لا يجد فيها إلا قول المعتزلة وقول من رد عليهم وانتسب إلى السنة، يظن أنه ليس في المسألة إلا هذا القول، وهذا وذاك قد عرف أنه قول مذموم عند السلف، فيظن القول الآخر قول السلف، كما يقع مثل ذلك في كثير من المسائل في غير هذه، لا يعرف الرجل في المسألة إلا قولين أو ثلاثة، فيظن الصواب واحدا منها، ويكون فيها قول لم يبلغه وهو الصواب دون تلك‏.‏ وهذا باب واسع في كثير من المسائل، والله يهدينا وسائر إخواننا المسلمين إلى ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه، بل يثيبه الله على ما فعله من طاعته، ويغفر ما أخطأ فيه، فعجز عن معرفته‏.
    فصل
    والنصوص والآثار في تفضيل كلام الله بل وتفضيل بعض صفاته على بعض متعددة‏.‏ وقول القائل‏:‏ صفات الله كلها فاضلة

    ج/ 17 ص -90-في غاية التمام والكمال ليس فيها نقص كلام صحيح، لكن توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض؛ كان المفضول معيبًا منقوصًا خطأ منه، فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض؛ ولهذا يقال‏:‏ دعا الله باسمه الأعظم، وتدل على أن بعض صفاته أفضل من بعض وبعض أفعاله أفضل من بعض، ففي الآثار ذكر اسمه العظيم واسمه الأعظم، واسمه الكبير والأكبر، كما في السنن ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه، عن ابن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ دخلت مع رسول الله ﷺ المسجد، فإذا رجل يصلي يدعو‏:‏ اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد‏.‏ فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطي، وإذا دُعي به أجاب‏"‏‏.‏
    وعن أنس قال‏:‏ كنت جالسًا مع رسول الله ﷺ في الحلقة، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد، تشهد ودعا، فقال في دعائه‏:‏ اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم‏.‏ فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، لقد دعا باسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطي‏"‏‏.‏
    وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله كتب

    ج/ 17 ص -91-في كتاب، فهو موضوع عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتى تغلب غضبي‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏سبقت رحمتي غضبي‏"‏، فوصف رحمته بأنها تغلب وتسبق غضبه، وهذا يدل على فضل رحمته على غضبه من جهة سبقها وغلبتها‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم، عن عائشة، عن النبي ﷺ؛ أنه كان يقول في سجوده‏:‏ ‏"‏اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك‏"‏‏.‏ وروى الترمذي أنه كان يقول ذلك في وتره، لكن هذا فيه نظر‏.‏
    وقد ثبت في الصحيح والسنن والمساند من غير وجه الاستعاذة بكلماته التامات، كقوله‏:‏ ‏"‏أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن خولة أنه قال ﷺ‏:‏
    ‏"‏من نزل منزلا فقال‏:‏ أعوذ بكلمات الله التامة لم يضره شيء حتى يرتحل منه‏"‏‏.‏ وفي الصحيح أنه قال لعثمان بن أبي العاص‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر‏"‏‏.‏ ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه، فقد استعاذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته‏.‏
    وأما استعاذته به منه، فلابد أن يكون باعتبار جهتين‏:‏ يستعيذ به باعتبار تلك الجهة، ومنه باعتبار تلك الجهة ليتغاير المستعاذ به والمستعاذ

    ج/ 17 ص -92-منه؛ إذ أن المستعاذ منه مخوف مرهوب منه، والمستعاذ به مدعو مستجار به ملتجأ إليه، والجهة الواحدة لا تكون مطلوبة مهروبًا منها، لكن باعتبار جهتين تصح، كما في الحديث الذي في الصحيحين عن البراء بن عازب؛ أن النبي ﷺ عَلَّم رجلًا أن يقول عند النوم‏:‏ ‏"‏اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت‏"‏، فبين أنه لا ينجي منه إلا هو، ولا يلتجأ منه إلا إليه‏.‏ وأعمل الفعل الثاني، لما تنازع الفعلان في العمل‏.‏ ومعلوم أن جهة كونه منجيًا غير جهة كونه منجيًا منه، وكذلك جهة كونه ملتجأ إليه غير كونه ملتجأ منه، سواء قيل‏:‏ إن ذلك يتعلق بمفعولاته أو أفعاله القائمة به أو صفاته أو بذاته باعتبارين‏.‏
    وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمر، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم، وأهلهم، وما ولوا‏"‏‏.‏ وقد جاء ذكر اليدين في عدة أحاديث، ويذكر فيها أن كلتاهما يمين مع تفضيل اليمين‏.‏ قال غير واحد من العلماء‏:‏ لما كانت صفات المخلوقين متضمنة للنقص، فكانت يسار أحدهم ناقصة في القوة ناقصة في الفعل،

    ج/ 17 ص -93-بحيث تفعل بمياسرها كل ما يذم كما يباشر بيده اليسرى النجاسات والأقذار بين النبي ﷺ أن كلتا يمين الرب مباركة ليس فيها نقص ولا عيب بوجه من الوجوه كما في صفات المخلوقين، مع أن اليمين أفضلهما كما في حديث آدم قال‏:‏ ‏"‏اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة‏"‏‏.‏ فإنه لا نقص في صفاته ولا ذم في أفعاله، بل أفعاله كلها إما فضل وإما عدل‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏يمين الله ملأي لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض‏"‏‏.‏
    فبين ﷺ أن الفضل بيده اليمنى والعدل بيده الأخرى، ومعلوم أنه مع أن كلتا يديه يمين فالفضل أعلى من العدل، وهو سبحانه كل رحمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، ورحمته أفضل من نقمته؛ ولهذا كان المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، ولم يكونوا عن يده الأخرى، وجعلهم عن يمين الرحمن تفضيل لهم، كما فضل في القرآن أهل اليمين وأهل الميمنة على أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة وإن كانوا إنما عذبهم بعدله، وكذلك الأحاديث والآثار جاءت بأن أهل قبضة اليمين هم أهل السعادة، وأهل القبضة الأخرى هم أهل الشقاوة‏.‏

    ج/ 17 ص -94-ومما يبين هذا‏:‏ أن الشر لم يرد في أسمائه، وإنما ورد في مفعولاته ولم يضف إليه إلا على سبيل العموم، وأضافه إلى السبب المخلوق أو بحذف فاعله، وذلك كقوله تعالى‏:‏ "اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏"‏ ‏[‏الرعد‏:‏16‏]‏، و ‏"مِن شَرِّ مَا خَلَقَ‏"‏[‏الفلق‏:‏ 2‏]‏، وكأسمائه المقترنة مثل، المعطي المانع، الضار النافع، المعز المذل، الخافض الرافع، وكقوله‏:‏ ‏"وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏"‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏"صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏، وكقول الجن‏:‏ ‏"وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏"‏ ‏[‏الجن‏:‏ 10‏]‏‏.‏
    وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ؛ أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح‏:‏
    ‏"‏والخير بيديك والشر ليس إليك‏"‏‏.‏ وسواء أريد به‏:‏ أنه لا يضاف إليك ولا يتقرب به إليك، أو قيل‏:‏ إن الشر إما عدم وإما من لوازم العدم، وكلاهما ليس إلى الله، فهذا يبين أنه سبحانه إنما يضاف إليه الخير، وأسماؤه تدل على صفاته، وذلك كله خير حسن جميل ليس فيه شر، وإنما وقع الشر في المخلوقات، قال تعالى‏:‏ ‏"نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الاليمَ‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49، 50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 98‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 165‏]‏، فجعل المغفرة والرحمة من معاني أسمائه الحسنى التي يسمى بها نفسه، فتكون المغفرة

    ج/ 17 ص -95-والرحمة من صفاته، وأما العقاب الذي يتصل بالعباد فهو مخلوق له، وذلك هو الأليم، فلم يقل‏:‏ وإني أنا المعذب، ولا في أسمائه الثابتة عن النبي ﷺ اسم المنتقم، وإنما جاء المنتقم في القرآن مقيدًا كقوله‏:‏ ‏"إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 22‏]‏، وجاء معناه مضافا إلى الله في قوله‏:‏ ‏"إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 47‏]‏، وهذه نكرة في سياق الإثبات، والنكرة في سياق الإثبات مطلقة ليس فيها عموم على سبيل الجمع‏.‏
    وذلك أن الله سبحانه حكيم رحيم، وقد أخبر أنه لم يخلق المخلوقات إلا بحكمته، كما قال في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأولى الألْباب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا‏"‏ ‏[‏آل عمران 190 ‏:‏191‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعلينَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء 16‏:‏ 17‏]‏، وقال في السورة الأخرى‏:‏ ‏"مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وهذا يبين أن معنى قوله في سائر الآيات‏:‏ ‏"بالحق‏"‏ هو لهذا المعنى الذي يتضمن حكمته كما قال‏:‏ ‏"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏، وقوله‏:‏

    ج/ 17 ص -96-"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعليمُ‏"‏ ‏[‏الحجر 85 ‏:‏86‏]‏‏.‏
    وبعض الناس يظن أن قوله‏:‏ ‏
    "هُوَ الْخَلاَّقُ‏"‏ إشارة إلى أنه خالق أفعال العباد، فلا ينبغي التشديد في الإنكار عليهم، بل يصفح عنهم الصفح الجميل لأجل القدر‏!‏ وهذا من أعظم الجهل، فإنه سبحانه قد عاقب المخالفين له ولرسله، وغضب عليهم، وأمر بمعاقبتهم، وأعد لهم من العذاب ما ينافي قول هؤلاء المعطلين لأمره ونهيه ووعده ووعيده‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ‏"‏ تعلق بما قبله وهو قوله‏:‏ ‏"وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ‏"‏، فإن لهم موعدًا يجزون فيه، كما قال تعالى في نظائر ذلك‏:‏ ‏"فَإِنَّمَا عليكَ الْبَلاَغُ وَعلينَا الْحِسَابُ‏"‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 40‏]‏، ‏"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عليهم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّي وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إلينَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ علينَا حِسَابَهُمْ‏"‏ ‏[‏الغاشية 21‏:‏ 26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ‏"‏[‏الصافات‏:‏ 174‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 89‏]‏‏.‏
    ولم يعذر الله أحدًا قط بالقدر، ولو عذر به، لكان أنبياؤه وأولياؤه أحق بذلك، وآدم إنما حج موسى؛ لأنه لامه على المصيبة التي أصابت الذرية فقال له‏:‏ لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ وما أصاب العبد من المصائب فعليه أن يسلم فيها لله، ويعلم أنها مقدرة عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏"‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]

    ج/ 17 ص -97-قال علقمة وقد روي عن ابن مسعود‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏ فالعبد مأمور بالتقوي والصبر، فالتقوى‏:‏ فعل ما أمر به‏.‏ ومن الصبر، الصبر على ما أصابه، وهذا هو صاحب العاقبة المحمودة، كما قال يوسف عليه السلام‏:‏ ‏"إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئًا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏، وقال‏:‏ ‏"بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏‏.‏
    ولابد لكل عبد من أن يقع منه ما يحتاج معه إلى التوبة والاستغفار، ويبتلي بما يحتاج معه إلى الصبر، فلهذا يؤمر بالصبر والاستغفار كما قيل لأفضل الخلق‏:‏ ‏
    "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏"‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وقد بسط الكلام في غير هذا الموضع على مناظرة آدم وموسى، فإن كثيرًا من الناس حملوها على محامل مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومنهم من كذب بالحديث لعدم فهمه له، والحديث حق يوجب أن الإنسان إذا جرت عليه مصيبة بفعل غيره مثل أبيه أو غير أبيه، لا سيما إذا كان أبوه قد تاب منها فلم يبق عليه من جهة الله تبعة، كما جري لآدم صلوات الله عليه قال تعالى‏:‏ ‏"وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عليه وَهَدَى‏"‏ [‏طه 121 ‏:‏122‏]‏،

    ج/ 17 ص -98-وقال‏:‏ ‏"فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عليه‏"‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏، وكان آدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما لذنبه بالقدر ويوافقه الآخر، ولو كان كذلك، لم يحتج آدم إلى توبة، ولا أهبط من الجنة، وموسى هو القائل‏:‏ ‏"رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي‏"‏ [‏القصص‏:‏ 16‏]‏، وهو القائل‏:‏ ‏"رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 151‏]‏، وهو القائل‏:‏ ‏"أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏، وهو القائل لقومه‏:‏ ‏"فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏، فلو كان المذنب يعذر بالقدر، لم يحتج إلى هذا، بل كان الاحتجاج بالقدر لما حصل من موسى ملام على ما قدر عليه من المصيبة التي كتبها الله وقدرها‏.‏
    ومن الإيمان بالقدر‏:‏ أن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالمؤمن يصبر على المصائب، ويستغفر من الذنوب والمعائب، والجاهل الظالم يحتج بالقدر على ذنوبه وسيئاته، ولا يعذر بالقدر من أساء إليه، ولا يذكر القدر عند ما ييسره الله له من الخير، فعكس القضية، بل كان الواجب عليه إذا عمل حسنة أن يعلم أنها نعمة من الله هو يسرها وتفضل بها، فلا يعجب بها ولا يضيفها إلى نفسه كأنه الخالق لها، وإذا عمل سيئة استغفر وتاب منها، وإذا أصابته مصيبة سماوية أو بفعل العباد يعلم أنها كانت مقدرة مقضية عليه،

    ج/ 17 ص -99-وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
    والمراد هنا‏:‏ أنه سبحانه بين أنه إنما خلق المخلوقات لحكمته، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏"بالحق‏"‏، وقد ذم من ظن أنه خلق ذلك باطلًا وعبثًا، فقال‏:‏
    "فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ‏"[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏، وقال‏:‏ "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى‏"‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأولى الألْباب الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190 ‏:‏191‏]‏، فلابد من جزاء العباد على أعمالهم؛ فلهذا قيل‏:‏ ‏"فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ‏"‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏‏.‏ ولله سبحانه في كل ما يخلقه حكمة يحبها ويرضاها، وهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل ما صنع، فما وقع من الشر الموجود في المخلوقات، فقد وجد لأجل تلك الحكمة المطلوبة المحبوبة المرضية، فهو من الله حسن جميل، وهو -سبحانه- محمود عليه، وله الحمد على كل حال، وإن كان شرًا بالنسبة إلى بعض الأشخاص‏.‏
    وهذا موضوع عظيم قد بسط في غير هذا الموضع، فإن الناس - في باب خلق الرب وأمره ولم فعل ذلك‏؟‏ - على طرفين ووسط‏:‏ فالقدرية من المعتزلة وغيرهم قصدوا تعظيم الرب وتنزيهه عما ظنوه قبيحًا من الأفعال وظلما؛ فأنكروا عموم قدرته ومشيئته، ولم يجعلوه خالقًا

    ج/ 17 ص -100-لكل شيء، ولا أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، بل قالوا‏:‏ يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء‏!‏ ثم إنهم وضعوا لربهم شريعة فيما يجب عليه ويحرم بالقياس على أنفسهم وتكلموا في التعديل والتجويز بهذا القياس الفاسد الذي شبهوا فيه الخالق بالمخلوق، فضلوا وأضلوا‏.‏ وقابلهم الجهمية الغلاة في الجبر، فأنكروا حكمة الله ورحمته وقالوا‏:‏ لم يخلق لحكمة، ولم يأمر بحكمة، وليس في القرآن ‏[‏لام كي‏]‏ لا في خلقه ولا في أمره‏.‏
    وزعموا أن قوله‏:‏
    ‏"وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا‏"‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏، و‏"خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحسنى‏"[‏النجم‏:‏ 31‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ على مَا هَدَاكُمْ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، ‏.‏ وأمثال ذلك إنما اللام فيه لام العاقبة كقوله‏:‏ ‏"فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا‏"‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏، وقول القائل‏:‏ لدوا للموت وابنوا للخراب‏.‏ ولم يعلموا أن لام العاقبة إنما تصح ممن يكون جاهلا بعاقبة فعله، كفرعون الذي لم يكن يدري ما ينتهي إليه أمر موسى، أو ممن يكون عاجزًا عن رد عاقبة فعله، كعجز بني آدم عن دفع الموت عن أنفسهم والخراب عن ديارهم، فأما من هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو مريد لكل

    ج/ 17 ص -101-ما خلق؛ فيمتنع في حقه لام العاقبة التي تتضمن نفي العلم أو نفي القدرة‏.‏
    وأنكر هؤلاء محبة الله ورضاه لبعض الموجودات دون بعض‏.‏ وقالوا‏:‏ المحبة والرضا هو من معنى الإرادة، والله مريد لكل ما خلقه، فهو راض بذلك محب له‏.‏ وزعموا أن ما في القرآن من نفي حبه ورضاه بالكفر والمعاصي كقوله‏:‏
    ‏"وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، ‏"وَلَا يَرْضَي لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏ محمول على عباده الذين لم يقع ذلك منهم، أو أنه لم يرده دينًا يثيبهم عليه‏.‏ وزعموا أن الله لا يحب ولا يرضى ما أمر به من العبادات إلا إذا وقع، فيريده كما يريد حينئذ ما وقع من الكفر والمعاصي، إلى غير ذلك من أقوالهم المبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏ وكثير من المتأخرين يظن أن هذا قول أهل السنة، وهذا مما لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل جميع مثبتة القدر المتقدمين كانوا يفرقون بين المحبة والرضا وبين الإرادة، ولكن أبو الحسن الأشعري اتبع جهمًا في ذلك‏.‏
    قال أبو المعإلى الجويني‏:‏ ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه وعدم إطلاقه المحبة والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه سبحانه لا يحب الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل معصية‏.‏ وقال شيخنا أبو الحسن‏:‏ المحبة هي الإرادة نفسها، وكذلك الرضا والاصطفاء، وهو سبحانه يريد الكفر

    ج/ 17 ص -102-ويرضاه كفرًا قبيحًا معاقبًا عليه‏.‏ وهو كما قال أبو المعالي، فإن المتقدمين من جميع أهل السنة على ما دل عليه الكتاب والسنة من أنه سبحانه لا يرضى ما نهى عنه ولا يحبه، وعلى ذلك قدماء أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كأبي بكر عبد العزيز وغيره من قدمائهم ولكن من المتأخرين من سوى بين الجميع كما قاله أبو الحسن، وهو في الأصل قول لجهم، فهو الذي قال في القدر بالجبر، وبما يخالف أهل السنة، وأنكر رحمه الله تعالى وكان يخرج إلى الجُذمي فيقول‏:‏ أرحم الراحمين يفعل هذا‏؟‏ ‏!‏ فنفي أن يكون الله أرحم الراحمين‏!‏ وقد قال الصادق المصدوق‏:‏ ‏"‏لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها‏"‏‏.‏ وهذه مسائل عظيمة ليس هذا موضع بسطها‏.‏
    وإنما المقصود هنا التنبيه على الجمل، فإن كثيرًا من الناس يقرأ كتبًا مصنفة في أصول الدين وأصول الفقه، بل في تفسير القرآن والحديث، ولا يجد فيها القول الموافق للكتاب والسنة الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، بل يجد أقوالا كل منها فيه نوع من الفساد والتناقض، فيحار‏:‏ ما الذي يؤمن به في هذا الباب‏؟‏ وما الذي جاء به الرسول‏؟‏ وما هو الحق والصدق‏؟‏ إذ لم يجد في تلك الأقوال ما يحصل به ذلك‏.‏ وإنما الهدي فيما جاء به الرسول الذي قال الله فيه ‏
    "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏"‏ ‏[‏الشورى 52 ‏:‏53‏]‏‏.

    ج/ 17 ص -103-فصل
    وإذا علم ما دل عليه الشرع مع العقل واتفاق السلف من أن بعض القرآن أفضل من بعض، وكذلك بعض صفاته أفضل من بعض بقي الكلام في كون ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ تعدل ثلث القرآن، ما وجه ذلك‏؟‏ وهل ثوابها بقدر ثواب ثلث القرآن‏؟‏ وإذا قدر أن الأمر كذلك فما وجه قراءة سائر القرآن‏؟‏ فيقال‏:‏ أما الأول فقد قيل فيه وجوه أحسنها والله أعلم‏:‏ الجواب المنقول عن الإمام أبي العباس بن سريج، فعن أبي الوليد القرشي؛ أنه سأل العباس بن سريج عن معنى قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن‏"‏، فقال‏:‏ معناه أنزل القرآن على ثلاثة أقسام‏:‏ ثلث منها الأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات‏.‏
    وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في هذا الحديث ثلاثة أوجه‏:‏ بدأ بهذا الوجه، فروي قول ابن سريج هذا بإسناده عن زاهد، عن الصابوني والبيهقي، عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ قال‏:‏ سمعت أبا الوليد

    ج/ 17 ص -104-حسان بن محمد الفقيه يقول‏:‏ سألت أبا العباس ابن سريج قلت‏:‏ ما معنى قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن‏"‏، قال‏:‏ إن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام‏:‏ فثلث أحكام، وثلث وعد ووعيد، وثلث أسماء وصفات‏.‏ وقد جمع في ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ أحد الأثلاث وهو الصفات، فقيل‏:‏ إنها تعدل ثلث القرآن‏.‏
    الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي ذكرها أبو الفرج ابن الجوزي‏:‏ أن معرفة الله هي معرفة ذاته، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة أفعاله، فهذه السورة تشتمل على معرفة ذاته؛ إذ لايوجد شيء إلا وجد من شيء ما خلا الله، فإنه ليس له كفء ولا له مثل‏.‏ قال أبو الفرج‏:‏ ذكره بعض فقهاء السلف‏.‏
    قال‏:‏ والوجه الثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ من عمل ما تضمنته من الإقرار بالتوحيد والإذعان للخالق، كان كمن قرأ ثلث القرآن ولميعمل بما تضمنته، ذكره ابن عقيل‏.‏ قال ابن عقيل‏:‏ ولايجوز أن يكون المعنى‏:‏ من قرأها فله أجر ثلث القرآن؛ لقول رسول الله ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات‏"‏‏.‏
    قلت‏:‏ كلا الوجهين ضعيف‏.‏
    أما الأول؛ فيدل على ضعفه وجوه‏:‏ الأول‏:‏ أن نقول‏:‏ القرآن ليس

    ج/ 17 ص -105-كله هو المعرفة المذكورة، بل فيه أمر بالأعمال الواجبة ونهي عن المحرمات، والمطلوب من العباد المعرفة الواجبة والعمل الواجب، والأمة كلها متفقة على وجوب الأعمال التي فرضها الله، لميقل أحد بأنها ليست من الواجبات، وإن كان طائفة من الناس نازعوا في كون الأعمال من الإيمان، فلمينازعوا في أن الله فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرم الفواحش ‏"مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏"‏ [‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، وإذا كان كذلك، وقدر أن سورة من السور تضمنت ثلث المعرفة، لم يكن هذا ثلث القرآن‏.‏
    الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ قول القائل‏:‏ معرفة ذاته ومعرفة أسمائه وصفاته ومعرفة أفعاله إن أراد بذلك أن ذاته تعرف بدون معرفة شيء من أسمائه وصفاته الثبوتية والسلبية، فهذا ممتنع، ولو قدر إمكان ذلك أو فرض العبد في نفسه ذاتًا مجردة عن جميع القيود السلبية والثبوتية، فليس ذاك معرفته بالله البتة، ولا هو رب العالمين ذات مجردة عن كل أمر سلبي أو ثبوتي؛ ولهذا لميقل أحد من العقلاء هذا إلا القرامطة الباطنية، يقولون‏:‏ يسلب عنه كل أمر ثبوتي وعدمي، فلايقال‏:‏ موجود ولا معدوم، ولا عالم ولا ليس بعالم، ولا قادر ولا ليس بقادر، ولا نحو ذلك‏.‏ وهؤلاء مع أن قولهم معلوم الفساد بضرورة العقل، فإنهم

    ج/ 17 ص -106-متناقضون، أما الأول؛ فلأن سلب النقيضين ممتنع كما أن جمعهما ممتنع، فيمتنع أن يكون شيء من الأشياء لا موجودًا ولا معدومًا، وأما تناقضهم لابد أن يذكروا ما ذكروا أنه يسلب عنه النقيضان ببعض الأمور التي يتميز بها ليخبر عنه بهذا السلب، وأي شيء قالوه، فلابد أن يتضمن نفيا أو إثباتًا، بل لابد أنيتضمن إثباتًا، وقد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع‏.‏
    ولهذا كان كثير من الملاحدة لايصلون إلى هذا الحد، بل يقولون كما قال أبو يعقوب السجستاني وغيره من الملاحدة‏:‏ نحن لا ننفي النقيضين، بل نسكت عن إضافة واحد منهما إليه، فلا نقول‏:‏ هو موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل‏.‏ فيقال لهم‏:‏ إعراض قلوبكم عن العلم به، وكف ألسنتكم عن ذكره لايوجب أن يكون هو في نفسه مجردًا عن النقيضين، بليفيد هذا كفركم بالله وكراهتكم لمعرفته وذكره وعبادته، وهذا حقيقة مذهبكم‏.‏
    ومن قال من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق كابن سبعين والصدر القُونَوي وغيرهما‏:‏ إنه وجود مطلق بشرط الإطلاق عن كل وصف ثبوتي وسلبي فهو من جنس هؤلاء، لكن هؤلاءيقولون‏:‏ هو وجود مطلق، فيخصونه بالوجود دون العدم‏.‏ ثميقولون‏:‏ هو مطلق، والمطلق بشرط الإطلاق عن كل قيد سلبي وثبوتي إنمايكون في

    ج/ 17 ص -107-الأذهان لا في الأعيان‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ الوجود الكلي المقسوم إلى واجب وممكن الذي يجعله الفلاسفة موضوع العلم الإلهي ويسمونه ‏[‏الحكمة العليا‏]‏ و‏[‏الفلسفة الأولى‏]‏ إنمايكون كليا في الأذهان لا في الأعيان، فليس في الخارج قط وجود هو بعينه واجب وهو بعينه ممكن، ولا وجود هو نفسه يتصف به الواجب وهو نفسهيتصف به الممكن، بل صفة الواجب تختص به، وصفة الممكن تختص به، ووجود الواجب يخصه لايشركه فيه غيره، ووجود الممكن يخصه لايشركه فيه غيره‏.‏
    ولهذا كان كل ما وصف به الرب نفسه من صفاته، فهي صفات مختصة به يمتنع أن يكون له فيها مشارك أو مماثل، فإن ذاته المقدسة لا تماثل شيئًا من الذوات، وصفاته مختصة به، فلا تماثل شيئًا من الصفات، بل هو سبحانه أحد صمد، لميلد ولميولد، ولميكن له كفوًا أحد، فاسمه ‏[‏الأحد‏]‏ دل على نفي المشاركة والمماثلة، واسمه ‏[‏الصمد‏]‏ دل على أنه مستحق لجميع صفات الكمال، كما بسط الكلام على ذلك في الشرح الكبير المصنف في تفسير هذه السورة‏.‏ وصفات التنزيه كلها بل وصفات الإثبات يجمعها هذان المعنيان‏.‏ وقد بسط الكلام في التوحيد وأنه نوعان‏:‏ علمي قولي، وعملي قصدي‏.‏ ف ‏
    "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏"‏ ‏[‏سورة الكافرون‏]‏ اشتملت على التوحيد العملي نصًا، وهي دالة على العلمي

    ج/ 17 ص -108-لزومًا، و ‏"‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، اشتملت على التوحيد العلمي القولي نصًا، وهي دالة على التوحيد العملي لزومًا؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقرأ بهما في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك، وقد ثبت أنه كان يقرأ أيضًا في ركعتي الفجر بآية الإيمان التي في البقرة‏:‏ ‏"‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏ في الركعة الأولى، وآية الإسلام التي في آل عمران‏:‏ ‏"‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شيئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏
    والمقصود هنا أن صفات التنزيه يجمعها هذان المعنيان المذكوران في هذه السورة‏:‏
    أحدهما‏:‏ نفي النقائص عنه، وذلك من لوازم إثبات صفات الكمال، فمن ثبت له الكمال التام انتفى النقصان المضاد له، والكمال من مدلول اسمه الصمد‏.‏
    والثاني‏:‏ أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة، وهذا من مدلول اسمه الأحد‏:‏ فهذان الاسمان العظيمان الأحد الصمد يتضمنان تنزيهه عن كل نقص وعيب، وتنزيهه في صفات الكمال ألا يكون له مماثل في شيء منها‏.‏ واسمه الصمد يتضمن إثبات جميع

    ج/ 17 ص -109-صفات الكمال، فتضمن ذلك إثبات جميع صفات الكمال ونفي جميع صفات النقص، فالسورة تضمنت كل ما يجب نفيه عن الله، وتضمنت أيضًا كل ما يجب إثباته من وجهين‏:‏ من اسمه الصمد، ومن جهة أن ما نفي عنه من الأصول والفروع والنظراء مستلزم ثبوت صفات الكمال أيضًا، فإن كل مايمدح به الرب من النفي؛ فلابد أن يتضمن ثبوتًا، بل وكذلك كل مايمدح به شيء من الموجودات من النفي فلابد أن يتضمن ثبوتًا، وإلا فالنفي المحض معناه عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون صفة كمال‏.‏
    وهذا كما يذكره سبحانه في آية الكرسي مثل قوله‏:‏ ‏
    "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فنفي أَخْذ السِّنَة والنوم له مستلزم لكمال حياته وقيوميته، فإن النوم ينافي القيومية، والنوم أخو الموت؛ ولهذا كان أهل الجنة لاينامون، ثم قال‏:‏ ‏"لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فَنَفْي الشفاعة بدون إذنه مستلزم لكمال ملكه؛ إذ كل من شفع إليه شافع بلا إذنه فقبل شفاعته، كان منفعلًا عن ذلك الشافع، فقد أثرت شفاعته فيه فصيرته فاعلًا بعد أن لميكن، وكان ذلك الشافع شريكًا للمشفوع إليه في ذلك الأمر المطلوب بالشفاعة، إذ كانت بدون إذنه، لا سيما والمخلوق إذا شفع إليه بغير إذنه فقبل الشفاعة؛ فإنما يقبلها لرغبة أو لرهبة، إما من

    ج/ 17 ص -110-الشافع أو من غيره، وإلا فلو كانت داعيته من تلقاء نفسه تامة مع القدرة، لميحتج إلى شفاعة، والله تعالى منزه عن ذلك كله، كما قال في الحديث الإلهي‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني‏"‏؛ ولهذا كان النبي ﷺيأمر أصحابه بالشفاعة إليه، فكان إذا أتاه طالب حاجة يقول‏:‏ ‏"‏اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء‏"‏ أخرجاه في الصحيحين، وكان مقصوده أنهم يؤجرون على الشفاعة، وهو إنما يفعل ما أمره الله به‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏ ‏
    "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏"‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ بين أنهم لايعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة‏:‏ ‏"لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏، فكان في هذا النفي إثبات أن عباده لايعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي علمهم، لا ينالون العلم إلا منه، فإنه‏"الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏"[‏العلق‏:‏ 1، 2‏]‏، و ‏"عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏"‏ ‏[‏العلق‏:‏ 4، 5‏]
    ثم قال‏:‏
    ‏"وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ أي‏:‏ لايكرثه ولايثقله‏.‏ وهذا النفي تضمن كمال قدرته، فإنه مع حفظه للسموات والأرض لايثقل ذلك عليه كمايثقل على من في قوته ضعف، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏"وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏، فنزه نفسه عن مس اللغوب‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏

    ج/ 17 ص -111-اللغوب‏:‏ الإعياء والتعب‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، الإدراك عند السلف والأكثرين هو‏:‏ الإحاطة‏.‏ وقال طائفة‏:‏ هو الرؤية، وهو ضعيف؛ لأن نفي الرؤية عنه لا مدح فيه، فإن العدم لا يرى، وكل وصفيشترك فيه الوجود والعدم لايستلزم أمرًا ثبوتيا، فلايكون فيه مدح؛ إذ هو عدم محض، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ لايحاط به، فإنهيدل على عظمة الرب جل جلاله، وإن العباد مع رؤيتهم له لايحيطون به رؤية، كما أنهم مع معرفته لايحيطون به علمًا، وكما أنهم مع مدحه والثناء عليه لايحيطون ثناء عليه، بل هو كما أثني على نفسه المقدسة؛ ولهذا قال أفضل الخلق وأعلمهم‏:‏ ‏"‏لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك‏"‏‏.‏ وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا الكلام على معنى كون‏:‏
    ‏"‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، تعدل ثلث القرآن، وبيان أن الصواب القول الأول‏.‏
    الوجه الثالث الذي يدل على فساد القول الثاني أن يقال‏:‏ قول القائل‏:‏ ‏[‏معرفة أفعاله‏]‏، إن أراد بذلك معرفة آياته الدالة عليه، فهذه من تمام معرفته، ويبقي معرفة وعده ووعيده، وقصص الأمم المؤمنة والكافرة لميذكره، وهو القسم الثاني من أقسام معاني القرآن، كما لميذكر أمره ونهيه‏.‏ وإن جعل هذه من مفعولاته، فمعلوم أن معرفة الوعد والوعيد والقصص المطلوب فيها الإيمان باليوم الآخر وجزاء الأعمال،

    ج/ 17 ص -112-كما أن المطلوب بالأمر والنهي طاعته، فإنه لابد من الإيمان باللّه واليوم الآخر، ومن العمل الصالح لكل أمة كما قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏
    الوجه الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ ما ذكره من نفي المثل عنه ومن نفي الولادة مذكور في غير هذه السورة، فلم يختص بهذا المعنى‏.‏
    الوجه الخامس‏:‏ أن يقال‏:‏ هب أنها تضمنت التنزيه كما ذكره اللّه فمعرفة اللّه ليست بمعرفة صفات السلب، بل الأصل فيها صفات الإثبات، والسلب تابع ومقصوده تكميل الإثبات كما أشرنا إليه من أن كل تنزيه مدح به الرب ففيه إثبات؛ ولهذا كان قول‏:‏ ‏[‏سبحان اللّه‏]‏ متضمنا تنزيه الرب وتعظيمه، ففيها تنزيهه من العيوب والنقائص، وفيها تعظيمه سبحانه وتعالى كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع‏.‏
    وأما القول الثالث وهو المراد به أن من عمل بما تضمنته، كان كمن قرأ ثلث القرآن ولميعمل بما تضمنته، فهذا أيضًا ضعيف، وما نفاه من المعادلة فهو مبني على قول من اعتبر في مقدار الأجر كثرة الحروف وهو قول باطل كما قد بين في موضعه وذلك أن العمل بها إن أراد

    ج/ 17 ص -113-به العمل الواجب من التصديق بمضمونها وتوحيد اللّه، فهذا أجره أعظم من أجر من قرأ القرآن جملة ولميعمل بذلك، فإنه إن خلا عن الإيمان بمضمون القرآن، فهو منافق، وإن خلا عما يجب عليه من العمل، فهو فاسق‏.‏ ومعلوم أن هذا لو قرأ القرآن عشر مرات، لميكن أجره مثل أجر المؤمن المتقي‏.‏ وأيضًا، فإن هذا الأجر على الإيمان بمضمونها سواء قرأها أو لم يقرأها، والأجر المذكور في الحديث هو لمن قرأها، فلابد أن يكون قد قرأها مع الإيمان بما تضمنته‏.‏ وأيضًا، فالنبي ﷺ جعل قراءتها تعدل ثلث القرآن، وقرأها على أصحابه، وأخبرهم أنه قرأ عليهم ثلث القرآن، فكانت قراءته لها تعدل قراءته هو للثلث، وكذلك الرجل الذي جعل يرددها، وكذلك إخباره لهم بأنها تعدل ثلث القرآن، وإنمايراد به ثلثه إذا قرؤوه هم، لميرد به الثلث إذا قرأها منافق لايؤمن بمعنى ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏‏.‏ ثم إن كون المراد بذلك من قرأ الثلث بلا إيمان بها معنى ليس في اللفظ مايدل عليه، وإنما يدل اللفظ على نقيضه، وهذا التأويل وأمثاله هو من تحريف الكلم عن مواضعه الذي ذم اللّه عليه من فعل ذلك من أهل الكتاب، وهو نوع من الإلحاد في كلام اللّه ورسوله‏.‏
    وقد ذكر أبو حامد الغزالي وجها آخر غير هذه الثلاثة، فقال في كتابه ‏[‏جواهر القرآن ودرره‏]‏‏:‏ أما قوله‏:‏
    ‏"‏قل هو اللّه أحد

    ج/ 17 ص -114-تعدل ثلث القرآن‏"‏ ما أراك تفهم وجه ذلك، فتارة تقول‏:‏ ذكر هذا للترغيب في التلاوة وليس المعنى به التقدير وحاشا منصب النبوة عن ذلك وتارة تقول‏:‏ هذا بعيد عن الفهم والتأويل، فإن آيات القرآن تزيد على ستة آلاف آية، فهذا القدر كيف يكون ثلثها‏؟‏ وهذا لقلة معرفتك بحقائق القرآن ونظرك إلى ظاهر ألفاظه، فتظن أنها تعظم وتكثر بطول الألفاظ وتقصر بقصرها، وذلك كظن من يؤثر الدراهم الكثيرة على الجوهرة الواحدة؛ نظرًا إلى كثرتها‏.‏ فاعلم أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن قطعًا، وترجع إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرناها في مهمات القرآن، وهي‏:‏ معرفة اللّه، ومعرفة الآخرة، ومعرفة الصراط المستقيم‏.‏ فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة، والباقي توابع‏.‏ وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث، وهي‏:‏ معرفة اللّه، وتقديسه، وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع، وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفء، والوصف بالصمديشعر بأنه السيد الذي لايقصد في الوجود للحوائج سواه‏.‏ نعم ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم؛ فلذلك تعدل ثلث القرآن، أي‏:‏ ثلث الأصول من القرآن كما قال‏:‏ ‏"‏الحج عرفة‏"‏ أي‏:‏ هو الأصل والباقي تبع‏.‏
    قلت‏:‏ آيات القرآن نوعان‏:‏ علمية وعملية، وفي الآيات مايجمع الأمرين، وأبو حامد جمع العلميات المتعلقة بذات اللّه وصفاته وأفعاله دون مايتعلق

    ج/ 17 ص -115-باليوم الآخر والقصص، وسماها ‏[‏جواهر القرآن‏]‏ وجمع العمليات وسماها ‏[‏درر القرآن‏]‏‏.‏ وجعل الشطر الأول من ‏[‏الفاتحة‏]‏ من الجواهر، والثاني من الدرر، والآيات التي تجمع المعنيين يذكرها في أغلب النوعين عليها‏.‏ ومجموع ما ذكره من القسمين ربع آيات القرآن نحو ألف وخمسمائة آية، وجعل معاني القرآن ستة أصناف‏:‏ ثلاثة أصول، وثلاثة توابع‏.‏ فذكر أن القرآن هو البحر المحيط، ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين، وقال‏:‏ سر القرآن ولبابه الأصفي ومقصده الأقصى دعوة العباد إلى الجبار الأعلى رب الآخرة والأولى، وخالق السموات العلى والأرضين السفلى‏.‏ فالثلاثة المهمة‏:‏ تعريف المدعو إليه، وتعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إليه، وتعريف الحال عند الأصول إليه‏.‏ وأما الثلاثة المعنية‏:‏ فأحدها‏:‏ أحوال المجيبين للدعوة، ولطائف صنع اللّه فيهم، وسره ومقصوده التشويق والترغيب، وتعريف أحوال الناكبين والناكلين عن الإجابة، وكيفية قمع اللّه لهم وتنكيله بهم، وسره ومقصوده الاعتبار والترهيب‏.‏ وثانيها‏:‏ حكاية أقوال الجاحدين، وكشف فضائحهم وجهلهم بالمجادلة والمحاجة على الحق، ومقصوده وسره في جنبة الباطل الإفصاح والتحذير والتنفير، وفي جنبة الحق الإيضاح والتثبيت والتقرير‏.‏ وثالثها‏:‏ تعريف عمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الزاد والراحلة والأهبة للاستعداد‏.‏
    قلت‏:‏ ما ذكره من أن أصول الإيمان ثلاثة، فهو حق كما ذكره،

    ج/ 17 ص -116-ولابد من الثلاثة في كل ملة ودين، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏ ونحو ذلك في سورة المائدة‏.‏ فذكر هذه الأصول الثلاثة‏:‏ الإيمان باللّه، واليوم الآخر، والعمل الصالح‏.‏ وأما الثلاثة الأخر التابعة، فهي داخلة في هذه الثلاثة، فإن ما في القرآن من ذكر أحوال السعداء والأشقياء في الآخرة فهو من تفصيل الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من عمارة الطريق فهو من العمل الصالح، وما فيه من المجادلة والمحاجة فذاك من تمام الأخبار بالثلاثة، فإنه إذا أخبر بالثلاثة، ذكر الآيات والأدلة المثبتة لذلك، وذكر شبه الجاحدين وبين فسادها‏.‏ وقد ذكر أبو حامد ذلك فقال‏:‏ القسم الجائي لمحاجة الكفار ومجادلتهم وإيضاح مخازيهم بالبرهان الواضح وكشف أباطيلهم وتخاييلهم‏.‏ وأباطيلهم ثلاثة أنواع‏:‏ الأول‏:‏ ذكر اللّه بما لا يليق به من أن الملائكة بناته، وأن له ولدًا شريكًا، وأنه ثالث ثلاثة‏.‏ الثاني‏:‏ ذكر رسول اللّه ﷺ بأنه ساحر وكاهن وشاعر، وإنكار نبوته‏.‏ وثالثها‏:‏ إنكار اليوم الآخر، وجحد البعث والنشور والجنة والنار، وإنكار عاقبة الطاعة والمعصية‏.‏
    وأما ما فيه من الأخبار بأحوال المؤمنين والكفار في الدنيا وهو الذي أراده أبو حامد بذكر أحوال المستجيبين والناكبين فهذا من

    ج/ 17 ص -117-تمام الأدلة والآيات، فإن هذا أمر شوهد في الدنيا ورؤيت آثاره وتواترت أخباره، ليس هو مما بعد الموت الذي هو غيب عن العباد؛ ولهذا يذكر سبحانه هذا في معرض الاحتجاج والاستدلال، مع مافي ذلك من الموعظة، كقوله‏:‏ ‏"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأولى الأَلْباب‏"‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏، ‏"قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأولى الأَبْصَار‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أولي الْأَبْصَارِ‏"‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏"‏ ‏[‏الحج 45 ‏:‏46‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ‏"‏ الآيات ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏‏.‏

    ج/ 17 ص -118-وقوله تعالى لما ذكر قصة قوم لوط‏:‏ ‏"فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عليهمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسمينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ‏"‏[‏الحجر 74 ‏:‏76‏]‏، والمتوسم‏:‏ المستدل بالسمة والسيما، وهي العلامة، قال تعالى‏:‏ ‏"وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ‏"‏ ‏[‏محمد‏:‏30‏]‏‏.‏ فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مقسم عليها، لكن هذايكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فموقوف على مشيئة اللّه، فإن ذلك أخفي‏.‏ وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏اتقوا فرَاسة المؤمن، فإنهينظر بنور اللّه‏"‏ ثم قرأ قوله تعالى‏:‏"إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسمينَ‏"‏‏.‏ قال مجاهد وابن قتيبة‏:‏ للمتفرسين‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ توسمت في فلان الخير، أي‏:‏ تبينته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المتوسمون في اللغة‏:‏ النظار المثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء، يقال‏:‏ توسمت في فلان كذا، أي‏:‏ عرفت‏.‏ وقوله‏:‏ المثبتون في نظرهم، أي‏:‏ في نظر أعينهم حتى يعرفوا السيما، بخلاف الذين قيل فيهم‏:‏ ‏"وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عليها وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 105‏]‏‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الناظرون‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المنتقدون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المعتبرون‏.‏ وكل هذا صحيح؛ فإن المتوسمىجمع هذا كله‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏"وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 76‏]‏ ثم ذكر قصة أصحاب الأيكة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ‏"‏[‏الحجر‏:‏ 79‏]‏، أي‏:‏ بطريق متبين للناس واضح‏.‏

    ج/ 17 ص -119-وكذلك في موضع آخر لما قال‏:‏ ‏"فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏"‏[‏الذاريات 35‏:‏ 37‏]‏، وقال في سفينة نوح‏:‏ "وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏"‏[‏القمر‏:‏ 15‏]‏، فأخبر أنه أبقى آيات، وهي العلامات والدلالات، فدل ذلك على أن مايخصه من أخبار المؤمنين وحسن عاقبتهم في الدنيا، وأخبار الكفار وسوء عاقبتهم في الدنيا، هو من باب الآيات والدلالات التي يستدل بها ويعتبر بها علمًا ووعظًا، فيفيد معرفة صحة ما أخبرت به الرسل، ويفيد الترغيب والترهيب، ويدل ذلك على أن اللّه يرضي عن أهل طاعته ويكرمهم، ويغضب على أهل معصيته ويعاقبهم، كما يستدل بمخلوقاته العامة على قدرته، فإن الفعل يستلزم قدرة الفاعل، ويستدل بأحكام الأفعال على علمه؛ لأن الفعل المحكم يستلزم علم الفاعل، وبالتخصيص على مشيئته؛ لأن التخصيص مستلزم لإرادته، فكذلك يستدل بالتخصيص بما هو أحمد عاقبة على حكمته؛ لأن تخصيص الفعل بما هو محمود في العاقبة مستلزم للحكمة، ويستدل بتخصيص الأنبياء وأتباعهم بالنصر وحسن العاقبة وتخصيص مكذبيهم بالخزي وسوء العاقبة على أنه يأمر ويحب ويرضى ما جاءت به الأنبياء، ويكره ويسخط ما كان عليه مكذبوهم؛ لأن تخصيص أحد النوعين بالإكرام والنجاة والذكر الحسن والدعاء، وتخصيص الآخر بالعذاب والهلاك وقبح الذكر واللعنة، يستلزم محبة ما فعله الصنف الأول، وبغض ما فعله الصنف الثاني‏.‏

    ج/ 17 ص -120-وأما الإرادة التي يقال فيها‏:‏ إنها تخص أحد المثلين عن الآخر بلا سبب، فتلك هليوصف اللّه بها‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ فإن قيل‏:‏ إنه لايوصف بها فلا كلام، وإن قيل‏:‏ إنه يوصف بها، فمعلوم أن تخصيص الأنبياء عليهم السلام بهذا، وتخصيص أعدائهم بهذا لميصدر عن تخصيص بلا مخصص، بل يعلم أنه قصد تخصيص هؤلاء بالإكرام وهؤلاء بالعقاب، وإن إيمان هؤلاء سبب تخصيصهم بهذا، وكفر هؤلاء سبب تخصيصهم بهذا‏.‏ ولبسط هذه الأمور موضع آخر‏.‏
    لكن المقصود هنا أن هذه الثلاثة داخلة في الثلاثة الأول، ولكن أبو حامد يجعلُ الحِجَاجَ صنعة الكلام، ويجعل عمارة الطريق علم الفقه، ويجعل أخبار الأنبياء علم القصص‏.‏ ويقول‏:‏ إن الكلام والجدل ليس فيه بيان حق بدليل، بل إنما فيه دفع البدع ببيان تناقضها، ويجعل أهله من جنس خفراء الحجيج، ويجعل علم الفقه ليس غايته إلا مصلحة الدنيا، وهذا مما نازعه فيه أكثر الناس وتكلموا فيه بكلام ليس هذا موضعه، كما تكلموا على ما ذكره في هذا الكتاب ‏[‏جواهر القرآن‏]‏ وغيره من كتبه من معاني الفلسفة وجعل ذلك هو باطن القرآن، وكلام علماء المسلمين على رد هذا أكثر من كلامهم على رد ذلك؛ فإن هذا فيه ممايناقض مقصود الرسول أمور عظيمة، كما تكلموا على ما ذكره في النبوة بما يشبه كلام الفلاسفة فيها‏.‏

    ج/ 17 ص -121-والمقصود أن هذا الذي ذكره في ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ أحسن من قول كثير من الناس فيها، وهو أقرب إلى القول الذي ذكرناه عن ابن سُرَيج ونصرناه، لكن ذلك القول هو الصواب بلا ريب؛ فإن النبي ﷺ أخبر بأن اللّه جَزَّأ القرآن ثلاثة أجزاء‏.‏ فجعل ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ جزءًا من أجزاء القرآن، وهذا يقتضي أن مجموع القرآن ثلاثة أجزاء، ليس هو ستة‏:‏ ثلاثة أصول، وثلاثة فروع‏.‏ وكذلك أخبر أن ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ تعدل ثلث القرآن، لميقل‏:‏ ثلث المهم منه، ولا ثلث أكثره، ولا أصوله، فوجب أن يكون القرآن كله ثلاثة أصناف، وعلى ما ذكره أبو حامد هو ستة‏:‏ ثلاثة مهمة، وثلاثة توابع، والسورة أحد الثلاثة المهمة، وهذا خلاف الحديث‏.‏ وأيضًا، فإن تقسيم القرآن إلى ثلاثة أقسام تقسيم بالدليل؛ فإن القرآن كلام، والكلام إما إخبار وإما إنشاء، والإخبار إما عن الخالق وإما عن المخلوق، فهذا تقسيم بين‏.‏ وأما جعل علم الفقه خارجًا عن الصراط المستقيم والعمل الصالح، وجعل علم الأدلة والحجج خارجًا عن الإيمان والمعرفة باللّه واليوم الآخر، فهذا مردود عند جماهير السلف والخلف‏.‏
    وأبو حامد إنما ذكر هذا؛ لأنه يقول‏:‏ إنما يعرف معاني ذلك بطريق التصفية فقط، لا بطريق الخبر النبوي، ولا بطريق النظر الاستدلالي،

    ج/ 17 ص -122-فلا يعرف ذلك بالسمع ولا بالعقل‏.‏ وهذا مما أنكره عليه الناس وصنفوا كتبًا في رد ذلك كما فعل جماعات من العلماء ولكن عذر أبي حامد أنه لميجد فيما علمه من طريق الفلاسفة وأهل الكلام مايبين الحق في ذلك، ولم يعلم طرقًا عقلية غير ذلك، فنفي أن يعلم بطريق النظر فيه‏.‏ وأما الطرق الخبرية النبوية، فلميكن له خبرة بما صح من ألفاظ الرسول، وبطريق دلالة ألفاظه على مقاصده، وظن بما شارك به بعض أهل الكلام والفلسفة أن الرسول لميبين مراده بألفاظه، فتركب من هذا وهذا سد باب الطريق العقلي والسمعي، وظن أن المطلوب يحصل له بطريق التصفية والعمل، فسلك ذلك، فلم يحصل له المقصود أيضًا، فرجع في آخر عمره إلى قراءة البخاري ومسلم‏.‏
    وقد ذكر القاضي عياض أقوالاً في كون ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ تعدل ثلث القرآن، وكذلك المازري قبله‏.‏ قال‏:‏ قال الإمام يعني أبا عبد اللّه المازري قيل معنى ذلك‏:‏ أن القرآن على ثلاثة أنحاء‏:‏ قصص وأحكام، وأوصاف للّه جلت قدرته و‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ تشتمل على ذكر الصفات، فكانت ثلثًا من هذه الجهة، قال‏:‏ وربما أسعد هذا التأويل ظاهر الحديث الذي ذكر أن اللّه جَزَّأ القرآن‏.‏ قلت‏:‏ هذا هو قول ابن سُرَيج وهو الذي نصرناه ذكره المازري في كلام ابن بَطَّال كما سيأتي‏.‏ قال‏:‏ وقيل معنى ثلث القرآن‏:‏ لشخص

    ج/ 17 ص -123-بعينه قصده رسول اللّه ﷺ‏.‏ وذكره ابن بطال أيضًا، قال‏:‏ وقيل معناه‏:‏ أن اللّه يتفضل بتضعيف الثواب لقارئها ويكون منتهى التضعيف إلى مقدار ثلث مايستحق من الأجر على قراءة القرآن من دون تضعيف أجر‏.‏ قال‏:‏ وفي بعض روايات هذا الحديث أن رسول اللّه ﷺ حشد الناس، وقال‏:‏ ‏"‏سأقرأ عليكم ثلث القرآن‏"‏ فقرأ‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏‏.‏ قال المازري‏:‏ وهذه الرواية تقدح في تأويل من جعل ذلك لشخص بعينه‏.‏
    قال القاضي عياض‏:‏ قال بعضهم‏:‏ قال اللّه تعالى‏:‏
    ‏"الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏"‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏، ثم بين التفصيل فقال‏:‏ ‏"أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ‏"‏[‏هود‏:‏ 2‏]‏، فهذا فصل الألوهية، ثم قال‏:‏ ‏"أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ‏"‏[‏هود‏:‏ 2‏]‏، وهذا فصل النبوة، ثم قال‏:‏ ‏"وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏"‏[‏هود‏:‏ 3‏]‏، فهذا فصل التكليف، وما وراءه من الوعد والوعيد وعامة أجزاء القرآن مما فيه من القصص فمن فصل النبوة؛ لأنها من أدلتها وفهمها أيضًا، وهذا يدل على أن ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ جمعت الفصل الأول‏.‏
    قلت‏:‏ مضمون هذا القول، أن معاني القرآن ثلاثة أصناف‏:‏ الإلهيات، والنبوات، والشرائع‏.‏ وأن هذه السورة منها الإلهيات، وجعل صاحب هذا القول الوعد والوعيد والقصص من قسم

    ج/ 17 ص -124-النبوة؛ لأن ذلك مما أخبر به النبي ﷺ أو ممايدل على نبوته‏.‏ وهذا القول ضعيف أيضًا؛ فإنه يقال‏:‏ والأمر والنهي أيضًا مما جاء به النبي، كما جاء بالوعد والوعيد‏.‏
    ويقال أيضًا‏:‏ القصص تدل على الأمر والنهي كما تدل على النبوة، فإنها تدل على إكرامه لمن أطاعه وعقوبته لمن عصاه، وهذا تقرير للأمر والنهي كما تقدم‏.‏
    وأيضًا، فإن مقصود النبوة هو الإخبار بما أمر اللّه به وبما أخبر به، وما دل على إثبات النبوة من القصصيدل على إثبات ما جاء به النبي، وما دل على إثبات ما جاء به النبي يدل على الأمر والنهي الذي جاء به النبي، فهما متلازمان‏.‏
    ثم الإلهيات أيضًا هي مما جاء به النبي ﷺ، فبين الدلائل العقلية على ما يمكن أن يعرف بالعقل، وأخبر عن الغيب المطلق الذي تعجز العقول عن معرفته، فلا معنى لجعل القصص داخلة في النبوة دون الإلهيات، فإنه إن عني أن القصص تدل على نبوته، فهي تدل من جهة إخباره بها كإخباره بغيرها من الغيب، وفيما أخبر به من الإلهيات والأمور المستقبلات ما هو كالقصص في ذلك وأبلغ‏.‏ وإن عني أن تعذيب المكذبين يدل على النبوة، فهي تدل على جنس النبوة، وعلى

    ج/ 17 ص -125-نبوة من عذب قومه، لا تدل على نبوة المتأخر، إلا أن يكون ما أخبر به من جنس ما أخبر به الأول‏.‏ وهذه الأمور كلها موجودة في الإلهيات وزيادة، فإنه قد أخبر فيها بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله، قد ذكر اللّه ذلك في غير موضع كقوله‏:‏ ‏"وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏"‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏
    وقد أخبر اللّه عن الأنبياء الذين قص أخبارهم كنوح وهود وصالح وشعيب صلوات اللّه عليهم أجمعين أن كلا منهم يقول لقومه‏:‏ ‏
    "يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏، بل يفتتح دعوته بذلك، وذكر تعالى عن الأنبياء وأممهم من نوح إلى الحواريين أنهم كانوا مسلمين، كما قد بسط في غير موضع‏.‏
    وأيضًا، فالإلهيات التي تعلم منها قدرة الرب وإرادته وحكمته وأفعاله، منها يعلم النبي من المتنبئ، ومنهايعلم صدق النبي، فهي أدل على صدق النبي من مجرد القصص، وما في القصص من الدلالة على صدقه إنمايدل مع الإلهيات، وإلا فلو تجرد لميدل على شيء، فالنبوة مرتبطة بالإلهيات أعظم من ارتباطها بغيرها، والأنبياء إنما بعثوا بالدعوة إلى اللّه

    ج/ 17 ص -126-وحده، وقد يذكرون المعاد مجملًا ومفصلًا، والقصص قديذكر بعضهم بعضها مجملًا‏.‏ وأما الإلهيات فهي الأصل، ولابد من تفصيل الأمر بعبادة اللّه وحده دون ما سواه، فلابد لكل نبي من الأصول الثلاثة‏:‏ الإيمان باللّه، واليوم الآخر، والعمل الصالح‏.‏ والأصول الكلية التي يشترك فيها الأنبياء يذكرها اللّه في السور المكية مثل الأنعام والأعراف وذوات ‏[‏الر‏]‏ و ‏[‏طسم‏]‏ و ‏[‏حم‏]‏ وأكثر المفصل، ونحو ذلك‏.‏ والمدنيات تتضمن خطاب من آمن بجنس الرسل من أهل الكتاب من المؤمنين بالشرائع التي بعث بها خاتم الرسل‏.‏
    وأما قول من قال‏:‏ إن هذا في شخص بعينه، ففي غاية الفساد لفظًا ومعنى، ثم إن اللّه إنما يخص الشيء المعين بحكم يخصه لمعنى يختص به كما قال لأبي بُرْدَة بن نِيارٍ وكان قد ذبح في العيد قبل الصلاة قبل أن يشرع لهم النبي ﷺ أن الذبح يكون بعد الصلاة، فلما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نذبح، فمن ذبح قبل الصلاة فليعد، فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله‏"‏ ذكر له أبو بردة أنه ذبح قبل الصلاة، ولم يكن يعرف أن ذلك لايجوز، وذكر له أن عنده عناقًا خيرًا من جذعة فقال‏:‏ ‏"‏تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك‏"‏، فخصه بهذا الحكم؛ لأنه كان معذورًا في ذبحه قبل الصلاة، إذ فعل ذلك قبل شرع الحكم،

    ج/ 17 ص -127-فلم يكن ذلك الذبح منهيًا عنه بعد، مع أنه لميكن عنده إلا هذا السن‏.‏ وأما أمره لامرأة أبي حذيفة بن عتبة أن ترضع سالمًا مولاه خمس رضعات ليصير لها محرمًا، فهذا مما تنازع فيه السلف‏:‏ هل هو مختص، أو مشترك، وإذا قيل‏:‏ هذا لمن يحتاج إلى ذلك كما احتاجت هي إليه كان في ذلك جمع بين الأدلة‏.‏
    وبالجملة، فالشارع حكيم لا يفرق بين متماثلين إلا لاختصاص أحدهما بما يوجب الاختصاص، ولايسوي بين مختلفين غير متساويين، بل قد أنكر سبحانه على من نسبه إلى ذلك وقبح منيحكم بذلك، فقال تعالى‏:
    ‏ ‏"أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏"‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏امْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏"‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏"‏ ‏[‏القلم‏:‏ 35 ‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ‏"‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أولي الْأَبْصَارِ‏"‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏، وإنما يكون الاعتبار إذا سوى بين المتماثلين، وأما إذا قيل‏:‏ ليس الواقع كذلك، فلا اعتبار‏.‏
    وقد تنازع الناس في هذا الأصل، وهو أنه هل يخص بالأمر

    ج/ 17 ص -128-والنهي ما يخصه لا لسبب ولا لحكمة قط، بل مجرد تخصيص أحد المتماثلين على الآخر‏؟‏ فقال بذلك جهم بن صفوان ومن وافقه من الجبرية، ووافقهم كثير من المتكلمين المثبتين للقدر‏.‏ وأما السلف وأئمة الفقه والحديث والتصوف وأكثر طوائف الكلام المثبتين للقدر كالكرَّامية وغيرهم ونفاته كالمعتزلة وغيرهم فلا يقولون بهذا الأصل، بل يقولون‏:‏ هو سبحانه يخص مايخص من خلقه وأمره لأسباب ولحكمة له في التخصيص، كما بسط الكلام على هذا الأصل في مواضع‏.‏
    وكذلك قول من قال‏:‏ يضعف لقارئها مقدار ما يعطاه قارئ ثلث القرآن بلا تضعيف، قول لايدل عليه الحديث، ولا في العقل مايدل عليه، وليس فيه مناسبة ولا حكمة، فإن النص أخبر أن قراءتها تعدل ثلث القرآن، وأن من قرأها فكأنما قرأ ثلث القرآن، فإن كان في هذا تضعيف، ففي هذا تضعيف، وإن لميكن في هذا تضعيف لميكن في الآخر، فتخصيص أحدهما بالتضعيف تحكم‏.‏ ثم جعل التضعيف بقدر ثلث القرآن إنما هو لما اختصت به السورة من الفضل، وحينئذ ففضلها هو سبب هذا التقدير من غير حاجة إلى نقص ثواب سائر القرآن‏.‏ وأيضًا، فهذا تحكم محض لا دليل عليه ولا سبب يقتضيه ولا حكمة فيه‏.‏ والناس كثيرًا ما يغلطون من جهة نقص علمهم وإيمانهم بكلام اللّه ورسوله وقدر ذلك، وما اشتمل عليه

    ج/ 17 ص -129-ذلك من العلم الذي يفوق علم الأولين والآخرين‏.‏
    ومن علم أن الرسول أعلم الخلق بالحق وأفصح الخلق في البيان وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه كمال العلم بالحق وكمال القدرة على بيانه وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ مايكون، وأتم مايكون، وأعظم مايكون بيانًا لما بينه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك، فمن وقر هذا في قلبه، لميقدر على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرت وجد من أرادها بذلك القول من أبعد الناس عما يجب اتصاف الرسول به، وعلم أن من سلك هذا المسلك، فإنما هو لنقص ما أوتيه من العلم والإيمان، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ‏"‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فنسأل اللّه أنيجعلنا وإخواتنا ممن رفع درجاته من أهل العلم والإيمان‏.‏
    وإذ قد تبين ضعف هذه الأقوال غير القول الأول الذي نصرناه وهو قول ابن سُرَيج وغيره كالمهلب والأصيلي وغيرهما فنقول‏:‏ قد علم أن تفاضل القرآن وغيره من كلام اللّه ليس باعتبار نسبته إلى المتكلم؛ فإنه سبحانه واحد، ولكن باعتبار معانيه التي يتكلم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه‏.‏ والذي قد صح عن النبي ﷺ؛ أنه فَضَّل من السور سورة الفاتحة وقال‏:‏ ‏
    "‏إنه لم ينزل في

    ج/ 17 ص -130-التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها‏"‏‏.‏ والأحكام الشرعية تدل على ذلك، وقد بسط الكلام على معانيها في غير هذا الموضع‏.‏ وفَضَّل من الآيات آية الكرسي، وقال في الحديث الصحيح لأبي بن كعب‏:‏ ‏"‏أتدري أي آية في كتاب اللّه معك أعظم‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ ‏"اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فضرب بيده في صدره وقال ‏"‏ليهنك العلم أبا المنذر‏"‏، وليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي، وإنما ذكر اللّه في أول سورة الحديد وآخر سورة الحشر عدة آيات لا آية واحدة‏.‏
    وسنبين إن شاء اللّه أنه إذا كانت
    ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، تعدل ثلث القرآن لم يلزم من ذلك أنها أفضل من الفاتحة، ولا أنها يكتفي بتلاوتها ثلاث مرات عن تلاوة القرآن، بل قد كره السلف أن تقرأ إذا قرئ القرآن كله إلا مرة واحدة كما كتبت في المصحف، فإن القرآن يقرأ كما كتب في المصحف، لايزاد على ذلك ولاينقص منه، والتكبير المأثور عن ابن كثير ليس هو مسندًا عن النبي ﷺ، ولم يسنده أحد إلى النبي ﷺ إلا البَزِّي، وخالف بذلك سائر من نقله فإنهم إنما نقلوه اختيارًا ممن هو دون النبي ﷺ وانفرد هو برفعه، وضعفه نقلة أهل العلم بالحديث والرجال من علماء القراءة وعلماء الحديث، كما ذكر ذلك غير

    ج/ 17 ص -131-واحد من العلماء‏.‏ فالمقصود أن من السنة في القرآن أن يقرأ كما في المصاحف، ولكن إذا قرئت ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، مفردة تقرأ ثلاث مرات وأكثر من ذلك، ومن قرأها فله من الأجر مايعدل ثلث أجر القرآن، لكن عدل الشيء بالفتح يكون من غير جنسه كما سنذكره إن شاء اللّه‏.‏
    والثواب أجناس مختلفة، كما أن الأموال أجناس مختلفة من مطعوم ومشروب وملبوس ومسكون ونقد وغير ذلك‏.‏ وإذا ملك الرجل من أحد أجناس المال مايعدل ألف دينار مثلا لميلزم من ذلك أن يستغني عن سائر أجناس المال، بل إذا كان عنده مال وهو طعام، فهو محتاج إلى لباس ومسكن وغير ذلك‏.‏ وكذلك إن كان من جنس غير النقد، فهو محتاج إلى غيره، وإن لم يكن معه إلا النقد، فهو محتاج إلى جميع الأنواع التي يحتاج إلى أنواعها ومنافعها‏.‏ والفاتحة فيها من المنافع ثناء ودعاء ممايحتاج الناس إليه ما لا تقوم
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ مقامه في ذلك، وإن كان أجرها عظيمًا، فذلك الأجر العظيم إنماينتفع به صاحبه مع أجر فاتحة الكتاب؛ ولهذا لو صلى بها وحدها بدون الفاتحة، لم تصح صلاته، ولو قدر أنه قرأ القرآن كله إلا الفاتحة لم تصح صلاته؛ لأن معاني الفاتحة فيها الحوائج الأصلية التي لابد للعباد منها‏.‏ وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبين أن ما في الفاتحة من الثناء

    ج/ 17 ص -132-والدعاء وهو قول‏:‏ ‏"اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6 ‏:‏7‏]‏، هو أفضل دعاء دعا به العبد ربه، وهو أوجب دعاء دعا به العبد ربه، وأنفع دعاء دعا به العبد ربه، فإنه يجمع مصالح الدين والدنيا والآخرة، والعبد دائما محتاج إليه لايقوم غيره مقامه، فلو حصل له أجر تسعة أعشار القرآن دع ثلثه ولم يحصل له مقصود هذا الدعاء، لم يقم مقامه ولم يسد مسده‏.‏
    وهذا كما لو قدر أن الرجل تصدق بصدقات عظيمة، وجاهد جهادًا عظيمًا، يكون أفضل من قراءة القرآن مرات، وهو لم يصل ذلك اليوم الصلوات الخمس لم يقم ثواب هذه الأعمال مقام هذه، كما لو كان عند الرجل من الذهب والفضة والرقيق والحيوان والعقار أموال عظيمة، وليس عنده ما يتغدى به ويتعشى من الطعام، فإنه يكون جائعًا متألمًا فاسد الحال، ولايقوم مقام الطعام الذي يحتاج إليه تلك الأموال العظيمة؛ ولهذا قال الشيخ أبو مدين رحمه اللّه‏:‏ أشرف العلوم علم التوحيد، وأنفع العلم أحكام العبيد‏.‏ فليس الأفضل الأشرف هو الذي ينفع في وقت، بل الأنفع في كل وقت مايحتاج إليه العبد في ذلك الوقت، وهو فعل ما أمر اللّه به وترك ما نهي اللّه عنه؛ ولهذا يقال‏:‏ المفضول في مكانه وزمانه أفضل من الفاضل؛ إذ دل الشرع على أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من

    ج/ 17 ص -133-الدعاء، فهذا أمر مطلق‏.‏
    وقد تحرم الصلاة في أوقات، فتكون القراءة أفضل منها في ذلك الوقت‏.‏ والتسبيح في الركوع والسجود هو المأمور به، والقراءة منهي عنها، ونظائر هذا كثيرة‏.‏ فهكذا يعلم الأمر في فضل ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ وغيرها، فقراءة الفاتحة في أول الصلاة أفضل من قراءتها، بل هو الواجب، والاجتزاء بها وحدها لايمكن، بل تبطل معه الصلاة؛ ولهذا وجب التقرب بالفرائض، قبل النوافل، والتقرب بالنوافل إنما يكون تقربًا إذا فعلت الفرائض لا كما ظنه بعض الاتحادية كصاحب ‏[‏الفتوحات المكية‏]‏ ونحوه، من أن قرب الفرائض تكون بعد قرب النوافل‏!‏ والنوافل تجعل الحق غطاءه، وتلك تجعل الحق عينه، فهذا بناء على أصله الفاسد من الاتحاد، كما بين‏.‏
    وبين أن الحديث يناقض مذهبه من وجوه، كما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"
    ‏يقول اللّه‏:‏ من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه،

    ج/ 17 ص -134-وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏"‏‏.‏
    وقد بين في هذا الحديث أن المتقرب ليس هو المتقرَّب إليه، بل هو غيره، وأنه ما تقرب إليه عبده بمثل أداء المفروض، وأنه لايزال بعد ذلك يتقرب بالنوافل حتى يصير محبوبًا للّه، فيسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به، ثم قال‏:‏
    ‏"‏ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه‏"‏‏.‏ ففرق بين السائل والمسؤول، والمستعيذ والمستعاذ به، وجعل العبد سائلًا لربه مستعيذًا به‏.‏ وهذا حديث شريف جامع لمقاصد عظيمة ليس هذا موضعها، بل المقصود هنا الكلام على ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ وقد بينا أن أحسن الوجوه أن معاني القرآن ثلاثة أنواع‏:‏ توحيد، وقصص، وأحكام‏.‏ وهذه السورة صفة الرحمن فيها التوحيد وحده؛ وذلك لأن القرآن كلام اللّه‏.‏ والكلام نوعان‏:‏ إما إنشاء، وإما إخبار، والإخبار إما خبر عن الخالق، وإما خبر عن المخلوق‏.‏ فالإنشاء هو الأحكام كالأمر والنهي‏.‏ والخبر عن المخلوق هو القصص‏.‏ والخبر عن الخالق هو ذكر أسمائه وصفاته‏.‏ وليس في القرآن سورة هي وصف الرحمن محضًا إلا هذه السورة‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها‏:‏ أن رسول اللّه ﷺ بعث رجلًا على سرية،

    ج/ 17 ص -135-فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال‏:‏ ‏"‏سلوه‏:‏ لأي شيء يصنع ذلك‏"‏ فسألوه، فقال‏:‏ لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها‏.‏ فقال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏أخبروه أن الله يحبه‏"‏‏.‏
    وقال البخاري في باب ‏[‏الجمع بين السورتين في ركعة‏]‏‏:‏ وقال عبيد الله، عن ثابت، عن أنس‏:‏ كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم بها في الصلاة مما يقرأ به، افتتح ب ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، فكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه وقالوا‏:‏ إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزيك حتى تقرأ بأخرى‏.‏ فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال‏:‏ ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم ذلك تركتكم‏.‏ وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي ﷺ أخبروه الخبر، فقال‏:‏ ‏"‏يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك‏؟‏ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ إني أحبها‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏حبك إياها أدخلك الجنة‏"‏‏.‏ وقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إنها تعدل ثلث القرآن‏"‏ حق كما أخبر به، فإنه ﷺ الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، لم يخرج من بين شفتيه إلا حق‏.‏

    ج/ 17 ص -136-والذين أشكل عليهم هذا القول لهم مأخذان‏:‏
    أحدهما‏:‏ منع تفاضل كلام الله بعضه على بعض، وقد تبين ضعفه‏.‏
    الثاني‏:‏ اعتقادهم أن الأجر يتبع كثرة الحروف، فما كثرت حروفه من الكلام يكون أجره أعظم‏.‏ قالوا‏:‏ لأن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول‏:‏ الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ قالوا‏:‏ ومعلوم أن ثلث القرآن حروفه أكثر بكثير، فتكون حسناته أكثر‏.‏
    فيقال لهم‏:‏ هذا حق كما أخبر به النبي ﷺ، ولكن الحسنات فيها كبار وصغار، والنبي ﷺ مقصوده أن الله يعطي العبد بكل حسنة عشر أمثالها، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏، فإذا قرأ حرفًا، كان ذلك حسنة، فيعطيه بقدر تلك الحسنة عشر مرات، لكن لم يقل‏:‏ إن الحسنات في الحروف متماثلة‏.‏ كما أن من تصدق بدينار يعطي بتلك الحسنة عشر أمثالها‏.‏ والواحد من بعد السابقين الأولين لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي ﷺ، فهو إذا أنفق مدًا كان له بهذه الحسنة عشر أمثالها، ولكن

    ج/ 17 ص -137-لا تكون تلك الحسنة بقدر حسنة من أنفق مدًا من الصحابة السابقين‏.‏ ونظائر هذا كثيرة‏.‏ فكذلك حروف القرآن تتفاضل لتفاضل المعاني وغير ذلك‏.‏ فحروف الفاتحة له بكل حرف منها حسنة أعظم من حسنات حروف من ‏"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏"‏، وإذا كان الشيء يعدل غيره، فعدل الشيء بالفتح هو مساويه، وإن كان من غير جنسه، كما قال تعالى‏:‏ ‏"أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا‏"‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، والصيام ليس من جنس الطعام والجزاء ولكنه يعادله في القدر‏.‏ وكذلك قوله ﷺ‏:‏ ‏"‏لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا‏"‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 123‏]‏، أي‏:‏ فدية‏.‏ والفدية ما يعدل بالمفدي وإن كان من غير جنسه ‏"ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ أي‏:‏ يجعلون له عدلًا، أي‏:‏ ندًا في الإلهية، وإن كانوا يعلمون أنه ليس من جنس الرب سبحانه‏.‏
    ولو كان لرجل أموال من أصناف متنوعة، ولآخر ذهب بقدر ذلك، لكان مال هذا يعدل مال هذا وإن لم يكن من جنسه، ولهذا قد يكون عند الرجل من الذهب وغيره من الأموال ما يعدل شيئا عظيمًا، وإذا احتاج إلى دواء أو مركب أو مسكن أو نحو ذلك ولم يكن قادرًا على اشترائه، لم تنفعه تلك الأموال العظيمة‏.‏ فالقرآن يحتاج الناس إلى ما فيه من الأمر والنهي والقصص، وإن كان التوحيد أعظم من ذلك‏.‏ وإذا احتاج الإنسان إلى معرفة ما أمر به وما نهى عنه من الأفعال، أو

    ج/ 17 ص -138-احتاج إلى ما يؤمر به ويعتبر به من القصص والوعد والوعيد لم يسد غيره مسده، فلا يسد التوحيد مسد هذا، ولا تسد القصص مسد الأمر والنهي، ولا الأمر والنهي مسد القصص، بل كل ما أنزل الله ينتفع به الناس ويحتاجون إليه‏.‏
    فإذا قرأ الإنسان‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ حصل له ثواب بقدر ثواب ثلث القرآن، لكن لا يجب أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل ببقية القرآن، بل قد يحتاج إلى جنس الثواب الحاصل بالأمر والنهي والقصص، فلا تسد ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، مسد ذلك، ولا تقوم مقامه، فلهذا لو لم يقرأ‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، فإنه وإن حصل له أجر عظيم، لكن جنس الأجر الذي يحصل بقراءة غيرها لا يحصل له بقراءتها، بل يبقي فقيرًا محتاجًا إلى ما يتم به إيمانه من معرفة الأمر والنهي والوعد والوعيد ولو قام بالواجب عليه‏.‏ فالمعارف التي تحصل بقراءة سائر القرآن لا تحصل بمجرد قراءة هذه السورة، فيكون من قرأ القرآن كله أفضل ممن قرأها ثلاث مرات من هذه الجهة لتنوع الثواب، وإن كان قارئ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، ثلاثًا يحصل له ثواب بقدر ذلك الثواب، لكنه جنس واحد ليس فيه الأنواع التي يحتاج إليها العبد، كمن معه ثلاثة آلاف دينار وآخر معه طعام ولباس ومساكن ونقد يعدل ثلاثة آلاف دينار، فإن هذا معه ما ينتفع به في جميع أموره، وذاك محتاج إلى ما مع هذا، وإن كان ما معه يعدل ما مع هذا، وكذلك لو كان معه

    ج/ 17 ص -139-طعام من أشرف الطعام يساوي ثلاثة آلاف دينار، فإنه محتاج إلى لباس ومساكن، وما يدفع به الضرر من السلاح والأدوية وغير ذلك مما لا يحصل بمجرد الطعام‏.‏
    ومما ينبغي أن يعلم‏:‏ أن فضل القراءة والذكر والدعاء والصلاة وغير ذلك قد يختلف باختلاف حال الرجل، فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور قلب أفضل من الصلاة بدون ذلك‏.‏ وفي الأثر‏:‏ ‏"‏إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض‏"‏‏.‏ وكان بعض الشيوخ يرقي ب ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، وكان لها بركة عظيمة، فيرقي بها غيره فلا يحصل ذلك فيقول‏:‏ ليس ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ من كل أحد تنفع كل أحد‏.‏
    وإذا عرف ذلك، فقد يكون تسبيح بعض الناس أفضل من قراءة غيره، ويكون قراءة بعض السور من بعض الناس أفضل من قراءة غيره ل ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ وغيرها‏.‏ والإنسان الواحد يختلف أيضًا حاله، فقد يفعل العمل المفضول على وجه كامل، فيكون به أفضل من سائر أعماله الفاضلة‏.‏ وقد غفر الله لبغي لسَقْيها الكلب، كما ثبت ذلك في الصحيحين، وهذا لِمَا حصل لها في ذلك العمل من الأعمال القلبية وغيرها‏.‏ وقد ينفق الرجل أضعاف ذلك فلا يغفر له؛ لعدم الأسباب المزكية للعمل، فإن الله إنما يتقبل من المتقين‏.‏ وقد قال النبي ﷺ

    ج/ 17 ص -140-في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه‏"‏ يقوله عن أصحابه السابقين الأولين رضي الله عنهم‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ إن
    ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، يعدل ثوابها ثواب ثلث القرآن، فلابد من اعتبار التماثل في سائر الصفات، وإلا فإذا اعتبر قراءة غيرها مع التدبر والخشوع بقراءتها مع الغفلة والجهل، لم يكن الأمر كذلك، بل قد يكون قول العبد‏:‏ ‏"‏سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏"‏ مع حضور القلب واتصافه بمعانيها أفضل من قراءة هذه السورة مع الجهل والغفلة، والناس متفاضلون في فهم هذه السورة، وما اشتملت عليه، كما أنهم متفاضلون في فهم سائر القرآن‏.‏
    فصل
    وأصل هذه المسألة أن يعلم أن التفاضل والتماثل إنما يقع بين شيئين فصاعدًا، إذ الواحد من كل وجه لا يعقل فيه شيء أفضل من شيء، فالتفاضل في صفاته تعالى إنما يعقل إذا أثبت له صفات متعددة‏:‏ كالعلم، والقدرة، والإرادة، والمحبة، والبغض، والرضا، والغضب‏.‏ وكإثبات أسماء له متعددة تدل على معان متعددة، وأثبت له كلمات متعددة

    ج/ 17 ص -141-تقوم بذاته حتى يقال‏:‏ هل بعضها أفضل من بعض أم لا‏؟‏ وكل قول سوى قول السلف والأئمة في هذا الباب فهو خطأ متناقض، وأي شيء قاله في جواب هذه المسألة كان خطأ لا يمكنه أن يجيب فيه بجواب صحيح‏.‏ فمن قال‏:‏ إنه ليس له صفة ثبوتية، بل ليس له صفة إلا سلبية أو إضافية كما يقول ذلك الجهمية المحضة من المتفلسفة والمتكلمة أتباع جهم بن صفوان فهذا إذا قيل له‏:‏ أيهما أفضل‏:‏ نسبته التي هي الخلق إلى السموات والأرض أم إلى بعوضة، أم أيما أفضل‏:‏ نفي الجهل بكل شيء عنه والعجز عن كل شيء، أم نفي الجهل بالكليات‏؟‏ لم يمكنه أن يجيب بجواب صحيح على أصله الفاسد‏.‏
    فإنه إن قال‏:‏ خلق السموات مماثل خلق البعوضة؛ كان هذا مكابرة للعقل والشرع، قال تعالى‏:‏
    "لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ‏"‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏، وإن قال‏:‏ بل ذلك أعظم وأكبر كما في القرآن، قيل له‏:‏ ليس عندك أمران وجوديان يفضل أحدهما الآخر، إذ الخلق على قولك لا يزيد على المخلوق فلم يبق إلا العدم المحض، فكيف يعقل في المعدومين من كل وجه أن يكون أحدهما أفضل من صاحبه إذا لم يكن هناك وجود يحصل فيه التفاضل‏؟‏ ‏!‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ نفي الجهل والعجز عن بعض الأشياء مثل نفي ذلك عن بعض الأشياء كان هذا مكابرة، وإن قال‏:‏ بل نفي الجهل العام أكمل من نفي الجهل الخاص، قيل له‏:‏ إذا

    ج/ 17 ص -142-لم يلزم من نفي الجهل ثبوت علم بشيء من الأشياء، بل كان النفيان عدمين محضين فكيف يعقل التفاضل في الشيء الواحد من كل وجه‏؟‏ فإنه لا يعقل في العدم المحض والنفي الصرف، فإن ذلك ليس بشيء أصلًا، ولا حقيقة له في الوجود ولا فيه كمال ولا مدح، وإنما يكون التفاضل بصفات الكمال، والكمال لابد أن يكون وجودًا قائمًا بنفسه أو صفة موجودة قائمة بغيرها، فأما العدم المحض فلا كمال فيه أصلًا‏.‏
    ولهذا إنما يصف الله نفسه بصفات التنزيه، لا السلبية العدمية؛ لتضمنها أمورًا وجودية تكون كمالًا يتمدح سبحانه بها، كما قد بسط في غير هذا الموضع، كقوله تعالى‏:‏ ‏
    "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فنفي ذلك يتضمن كمال الحياة والقيومية، وكذلك قوله‏:‏ ‏"مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، يتضمن كمال الملك والربوبية وانفراده بذلك، ونفس انفراده بالملك والهداية والتعليم وسائر صفات الكمال هو من صفات الكمال؛ ولهذا كانت السورة فيها الاسمان الأحد الصمد، وكل منهما يدل على الكمال‏.‏ فقوله‏:‏ ‏"أَحَدٌ‏"‏ يدل على نفي النظير، وقوله‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏ بالتعريف يدل على اختصاصه بالصمدية‏.‏
    ولهذا جاء التعريف في اسمه الصمد دون الأحد؛ لأن أحدًا لا يوصف به في الإثبات غيره، بخلاف الصمد، فإن العرب تسمى السيد صمدًا‏.‏ قال يحيي بن أبي كثير‏:‏ الملائكة تسمى صمدًا والآدمي أجوف، فقوله‏:‏

    ج/ 17 ص -143-"الصَّمَدُ‏"‏ بيان لاختصاصه بكمال الصمدية‏.‏ وقد ذكرنا تفسير ‏"الصَّمَدُ‏"‏ واشتماله على جميع صفات الكمال، كما رواه العلماء من تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد ذكره ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم في قوله‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏ يقول‏:‏ السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفؤ وليس كمثله شيء سبحانه الواحد القهار‏.‏
    وكذلك قد ثبت من حديث الأعمش عن أبي وائل، وقد ذكره البخاري في صحيحه، ورواه كثير من أهل العلم في كتبهم قال‏:‏ الصمد‏:‏ السيد الذي انتهي سؤدده‏.‏ وقد قال غير واحد من السلف كابن مسعود وابن عباس وغيرهما‏:‏ الصمد‏:‏ الذي لا جوف له‏.‏ وكلا القولين حق موافق للغة، كما قد بسط في موضعه‏.‏ أما كون الصمد هو السيد، فهذا مشهور، وأما الآخر فهو أيضًا معروف في اللغة‏.‏ وقد ذكر الجوهري وغيره أن الصمد لغة في الصمت‏.‏ وليس هذا من إبدال الدال بالتاء كما ظنه بعضهم، بل لفظ صمد يصمد صمدًا يدل على ذلك‏.‏
    والمقصود هنا أن صفات الكمال إنما هي في الأمور الموجودة،

    ج/ 17 ص -144-والصفات السلبية إنما تكون كمالًا إذا تضمنت أمورًا وجودية؛ ولهذا كان تسبيح الرب يتضمن تنزيهه وتعظيمه جميعًا، فقول العبد‏:‏ ‏[‏سبحان الله‏]‏ يتضمن تنزيه الله وبراءته من السوء‏.‏ وهذا المعنى يتضمن عظمته في نفسه، ليس هو عدمًا محضًا لا يتضمن وجودًا، فإن هذا لا مدح فيه ولا تعظيم‏.‏ وكذلك سائر ما تنزه الرب عنه من الشركاء والأولاد وغير ذلك، كقوله تعالى‏:‏ ‏"أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 40‏:‏ 44‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ‏"‏ ‏[‏الصافات180، 181‏]‏، وغير ذلك‏.‏
    فنفي العيوب والنقائص يستلزم ثبوت الكمال، ونفي الشركاء يقتضي الوحدانية، وهو من تمام الكمال، فإن ما له نظير قد انقسمت صفات الكمال وأفعال الكمال فيه وفي نظيره، فحصل له بعض صفات الكمال لا كلها‏.‏ فالمنفرد بجميع صفات الكمال أكمل ممن له شريك يقاسمه إياها؛ ولهذا كان أهل التوحيد والإخلاص أكمل حبًا لله من المشركين الذين يحبون غيره، الذين اتخذوا من دونه أندادًا يحبونهم كحبه‏.‏ قال

    ج/ 17 ص -145-تعالى‏:‏ ‏"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، قد بين فيه أن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى‏.‏
    وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ قلت يارسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تجعل لله نِدّا وهو خلقك‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏
    ‏"‏أن تقتل ولدك خشية أن يطْعَم معك‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تزاني بحليلة جارك‏"‏‏.‏ وأنزل الله تعالى تصديق ذلك‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ‏"‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏، فمن جعل لله ندًا يحبه كحب الله، فهو ممن دعا مع الله إلهًا آخر، وهذا من الشرك الأكبر‏.‏
    والمقصود هنا أن الشيء إذا انقسم ووقعت فيه الشركة نقص ما يحصل لكل واحد، فإذا كان جميعه لواحد كان أكمل؛ فلهذا كان حب المؤمنين الموحدين المخلصين لله أكمل، وكذلك سائر ما نهوا عنه من كبائر الإثم والفواحش يوجب كمال الأمور الوجودية في عبادتهم وطاعتهم ومعرفتهم ومحبتهم، وذلك من زكاهم، كما أن الزرع كلما نقي عنه الدغَل كان أزكي له وأكمل لصفات الكمال الوجودية فيه‏.‏ قال تعالى‏:‏
    ‏"وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏"‏ ‏[‏فصلت6، 7‏]‏، وأصل الزكاة التوحيد

    ج/ 17 ص -146-والإخلاص، كما فسرها بذلك أكابر السلف‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ‏"‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏، وقال‏:‏ ‏"خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا‏"‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود هنا أن من نفي عن الله النقائص، كالموت والجهل والعجز والصمم والعمي والبكم، ولم يثبت له صفات وجودية، كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، بل زعم أن صفاته ليست إلا عدمية محضة، وأنه لا يوصف بأمر وجودي، فهذا لم يثبت له صفة كمال أصلًا، فضلًا عن أن يقال‏:‏ أي الصفتين أفضل‏؟‏ فإن التفضيل بين الشيئين فرع كون كل منهما له كمال ما، ثم ينظر أيهما أكمل، فأما إذا قدر أن كلًا منهما عدم محض، فلا كمال ولا فضيلة هناك أصلًا‏.‏
    وكذلك من أثبت له الأسماء دون الصفات فقال‏:‏ إنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير، عزيز، حكيم ولكن هذه الأسماء لا تتضمن اتصافه بحياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا سمع، ولا بصر، ولا عزة، ولا حكمة فإذا قيل له‏:‏ أي الاسمين أفضل‏؟‏ لم يجب بجواب صحيح، فإنه إن قال‏:‏ العليم أعظم من السميع؛ لعموم تعلقه مثلًا، أو قال‏:‏ العزيز أكمل من القدير؛ لأنه مستلزم للقدرة من غير عكس، قيل‏:‏ إذا لم يكن للأسماء عندك

    ج/ 17 ص -147-معان موجودة تقوم به، لم يكن هناك لا علم، ولا سمع، ولا بصر، ولا عزة، ولا قدرة، ليس إلا ذات مجردة عن صفات ومخلوقات، والذات المجردة ليس فيها ما يمكن أن يقع فيه تفاضل ولا تماثل، والمخلوقات لم يكن السؤال عن تفضيل بعضها على بعض، فإن ذلك مما يعلمه كل واحد ولا يشتبه على عاقل‏.‏
    وكذلك من جعل بعض صفاته بعضًا، أو جعل الصفة هي الموصوف، مثل من قال‏:‏ العلم هو القدرة، والعلم والقدرة هما العالم القادر، كما يقول ذلك من يقوله من جهمية الفلاسفة ونحوهم‏.‏
    أو قال‏:‏ كلامه كله هو معنى واحد قائم بذاته، هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبَر به، إن عُبِّرَ عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلًا، وإن معنى آية الكرسي وآية الدَّين واحد، وإن الأمر والنهي صفات نسبية للكلام ليست أنواعًا، بل ذات الكلام الذي هو أمر هو ذات الكلام الذي هو نهى، وإنما تنوعت الإضافة‏.‏ فهذا الكلام الذي تقوله الكُلاَّبية، وإن كان جمهور العقلاء يقولون‏:‏ إن مجرد تصوره كاف في العلم بفساده، فلا يمكن على هذا القول الجواب بتفضيل كلام الله بعضه على بعض، ولا مماثلة بعضه لبعض؛ لأن الكلام على قولهم شيء واحد بالعين لا

    ج/ 17 ص -148-يتعدد ولا يتبعض، فكيف يمكن أن يقال‏:‏ هل بعضه أفضل من بعض‏؟‏ أم بعضه مثل بعض ولا بعض له عندهم‏؟‏ وإن قالوا‏:‏ التماثل والتفاضل يقع في العبارة الدالة عليه، قيل‏:‏ تلك ليست كلامًا لله على أصله، ولا عند أئمتهم، بل هي مخلوق من مخلوقاته، والتفاضل في المخلوقات لا إشكال فيه‏.‏
    ومن قال من أتباعهم‏:‏ إنها تسمى كلام الله حقيقة، وإن اسم الكلام يقع عليها وعلى معنى ذلك المعنى القائم بالنفس بالاشتراك اللفظي، فإنه لم يعقل حقيقة قولهم، بل قوله هذا يفسد أصلهم؛ لأن أصل قولهم‏:‏ إن الكلام لا يقوم إلا بالمتكلم لا يقوم بغيره، إذ لو جاز قيام الكلام بغير المتكلم، لجاز أن يكون كلام الله مخلوقًا قائمًا بغيره مع كونه كلام الله‏.‏ وهذا أصل الجهمية المحضة والمعتزلة الذي خالفهم فيه الكلابية وسائر المثبتة‏.‏ وقالوا‏:‏ إن المتكلم لا يكون متكلمًا حتى يقوم به الكلام، وكذلك في سائر الصفات قالوا‏:‏ لا يكون العالم عالمًا حتى يقوم به العلم، ولا يكون المريد مريدًا حتى تقوم به الإرادة، فلو جوزوا أن يكون لله ما هو كلام له وهو مخلوق منفصل عنه، بطل هذا الأصل‏.‏
    وأصل النفاة المعطلة من الجهمية والمعتزلة‏:‏ أنهم يصفون الله بما لم يقم به، بل بما قام بغيره، أو بما لم يوجد، ويقولون‏:‏ هذه إضافات لا صفات، فيقولون‏:‏ هو رحيم ويرحم، والرحمة لا تقوم به بل هي

    ج/ 17 ص -149-مخلوقة، وهي نعمته‏.‏ ويقولون‏:‏ هو يرضي ويغضب، والرضا والغضب لا يقوم به، بل هو مخلوق وهو ثوابه وعقابه‏.‏ ويقولون‏:‏ هو متكلم ويتكلم، والكلام لا يقوم به، بل هو مخلوق قائم بغيره‏.‏ وقد يقولون‏:‏ هو مريد ويريد، ثم قد يقولون‏:‏ ليست الإرادة شيئًا موجودًا، وقد يقولون‏:‏ إنها هي المخلوقات والأمر المخلوق‏.‏ وقد يقولون‏:‏ أحدث إرادة لا في محل‏.‏
    وهذا الأصل الباطل الذي أصله نفاة الصفات الجهمية المحضة من المعتزلة وغيرهم هو الذي فارقهم به جميع المثبتة للصفات من السلف والأئمة وأهل الفقه والحديث والتصوف والتفسير وأصناف نظار المثبتة، كالكُلاَّبية ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم، وكالهشامية والكرامية وغيرهما من طوائف النظار المثبتة للصفات، وعلى هذا أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة وأئمة الفقهاء من أتباعهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم‏.‏
    فقول من قال‏:‏ إن الكلام يقع حقيقة على العبارة وهي مع ذلك مخلوقة، يناقض الأصل الفارق بين المثبتة والمعطلة، إلا أن يسمى متعلق الصفة باسم الصفة، كما يسمى المأمور به أمرًا، والمرحوم به رحمة، والمخلوق خلقًا، والقدر قدرة، والمعلوم علمًا، لكن يقال له‏:‏ هذا كله ليس هو الحقيقة عند الإطلاق‏.‏

    ج/ 17 ص -150-وأيضًا، فهذه الأمور أعيان قائمة بأنفسها، فإذا أضيفت إلى الله علم أنها إضافة ملك لا إضافة وصف، بخلاف العبارة، فإنها لا تقوم بنفسها كما لا يقوم المعنى بنفسه، وهذا هو الأصل الفارق بين إضافة الصفات وإضافة المخلوقات، فإن المعطلة النفاة من الصابئة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم من الجهمية ومن اتبعهم كابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما في بعض مصنفاتهما وإن كانا في موضع آخر يقولان بخلاف ذلك يقولون‏:‏ ليس في النصوص إلا إضافة هذه الأمور إلى الله، وهذه الأمور تسمى نصوص الإضافات لا نصوص الصفات‏.‏ ويقولون‏:‏ نصوص الإضافات وأحاديث الإضافات، لا آيات الصفات وأحاديث الصفات‏.‏ والإضافة تكون إضافة مخلوق، لاختصاصه ببعض الوجوه كإضافة البيت والناقة والروح في قوله‏:‏ ‏"وَطَهِّرْ بَيْتِيَ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"نَاقَةُ اللّهِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَأَرْسَلْنَا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سويا‏"‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏‏.‏
    وقالت الحلولية من النصارى، وغلاة الشيعة، والصوفية ومن اتبعهم ممن يقول بقدم الروح أرواح العباد وينتسب إلى أئمة المسلمين كالشافعي وأحمد وغيرهما مثل طائفة من أهل جِيلان وغيرهم بل إضافة الروح إلى الله كإضافة الكلام والقدرة، والكلام والقدرة صفاته فكذلك الروح‏.‏ وقالوا في قوله‏:‏ ‏
    "فَإِذَا سويتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي‏"‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏، دليل على أن روح العبد صفة لله قديمة‏.‏ وقالت النصارى‏:‏

    ج/ 17 ص -151-عيسي كلمة الله، وكلام الله غير مخلوق، فعيسي غير مخلوق‏.‏ وقالت الصابئة والجهمية‏:‏ عيسي كلمة الله وهو مخلوق، والقرآن كلام الله فهو أيضًا مخلوق‏.‏
    وهذه المواضع اشتبهت على كثير من الناس، وقد تكلم فيها الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وتكلموا في إضافة الكلام والروح ومناظرة الجهمية والنصارى‏.‏ وقد سئلت عن ذلك من جهة الحلولية تارة ومن جهة المعطلة تارة‏.‏ والسائلون تارة من أهل القبلة وتارة من غير أهلها‏.‏ وقد بسط جواب ذلك في غير موضع‏.‏ لكن المقصود هنا أن الفارق بين المضافين‏:‏ أن المضاف إن كان شيئًا قائمًا بنفسه أو حالًا في ذلك القائم بنفسه، فهذا لا يكون صفة لله؛ لأن الصفة قائمة بالموصوف‏.‏ فالأعيان التي خلقها الله قائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها تمتنع أن تكون صفات الله، فإضافتها إليه تتضمن كونها مخلوقة مملوكة، لكن أضيفت لنوع من الاختصاص المقتضي للإضافة لا لكونها صفة‏.‏ والروح الذي هو جبريل من هذا الباب، كما أن الكعبة والناقة من هذا الباب، ومال الله من هذا الباب، وروح بني آدم من هذا، وذلك كقوله‏:‏ ‏
    "فَأَرْسَلْنَا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سويا‏"[‏مريم‏:‏ 17‏]‏، ‏"فَإِذَا سويتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏، ‏"وَطَهِّرْ بَيْتِيَ‏"‏[‏الحج‏:‏ 26‏]‏، ‏"نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏"‏[‏الشمس‏:‏ 13‏]‏، ‏"مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏"‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏‏.‏

    ج/ 17 ص -152-وأما إن كان المضاف إليه لا يقوم بنفسه، بل لا يكون إلا صفة كالعلم والقدرة والكلام والرضا والغضب، فهذا لا يكون إلا إضافة صفة إليه، فتكون قائمة به سبحانه فإذا قيل‏:‏ ‏"‏أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك‏"‏، فعلمه صفة قائمة به، وقدرته صفة قائمة به‏.‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ ‏"‏أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك‏"‏، فرضاه وسخطه قائم به، وكذلك عفوه وعقوبته‏.‏
    وأما أثر ذلك وهو ما يحصل للعبد من النعمة واندفاع النقمة، فذاك مخلوق منفصل عنه ليس صفة له، وقد يسمى هذا باسم ذاك كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏يقول الله للجنة‏:‏ أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي‏"‏‏.‏ فالرحمة هنا عين قائمة بنفسها لا يمكن أن تكون صفة لغيرها، فهذا هو الفارق بين ما يضاف إضافة وصف وإضافة ملك‏.‏ وإذا قيل‏:‏ المسيح كلمة الله، فمعناه‏:‏ أنه مخلوق بالكلمة؛ إذ المسيح نفسه ليس كلامًا‏.‏ وهذا بخلاف القرآن فإنه نفسه كلام، والكلام لا يقوم بنفسه إلا بالمتكلم، فإضافته إلى المتكلم إضافة صفة إلى موصوفها وإن كان يتكلم بقدرته ومشيئته، وإن سمى فعلًا بهذا الاعتبار، فهو صفة باعتبار قيامه بالمتكلم‏.‏
    وإذا كان كذلك، فمن قال‏:‏ إن الكلام معنى واحد قائم بذات المتكلم، لم يمكنه أن يجيب عن هذه المسألة بجواب صحيح، فإذا قيل

    ج/ 17 ص -153-له‏:‏ كلام الله هل بعضه أفضل من بعض‏؟‏ امتنع الجواب على أصله بنعم أو لا؛ لامتناع تبعضه عنده، ولكون العبارة ليست كلامًا لله، لكن إذا أريد بالكلام العبارة، أو قيل له‏:‏ هل بعض القرآن أفضل من بعض وأريد بالقرآن‏:‏ الكلام العربي الذي نزل به جبريل فهو عنده مخلوق لم يتكلم الله به، بل هو عنده إنشاء جبريل أو غيره، أو قيل‏:‏ هل بعض كتب الله أفضل من بعض وكتاب الله عنده هو القرآن العربي المخلوق عنده فهذا السؤال يتوجه على قوله في الظاهر، وأما في نفس الأمر فكلاهما ممتنع على قوله؛ لأن العبارة تدل على المعاني، فإن المعاني القائمة في النفس تدل عليها العبارات، وقد علم أن العبارات تدل على معان متنوعة، وعلى أصله ليس المعنى إلا واحدًا، فيمتنع بالضرورة العقلية أن يكون القرآن العربي كله والتوراة والإنجيل وسائر ما يضاف إلى الله من العبارات، إنما يدل على معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، وحينئذ فتبعض العبارات الدالة على المعاني بدون تبعض تلك المعاني ممتنع‏.‏
    ولهذا قيل لهم‏:‏ موسي عليه السلام لما سمع كلام الله أَسَمِعَهُ كله، أم سمع بعضه‏؟‏ إن قلتم‏:‏ كله، فقد علم كل ما أخبر الله به وما أمر به‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن الخضر قال له‏:‏ ‏"
    ‏ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏"‏‏.‏ وقد

    ج/ 17 ص -154-قال تعالى‏:‏ ‏"قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏‏.‏ وإن قلتم‏:‏ سمع بعضه فقد تبعض، وعندكم لا يتبعض‏.‏ وأيضًا، فقد فرق الله بين تكليمه لموسي عليه الصلاة والسلام وبين إيحائه إلى غيره من النبيين، وفرق بين الإيحاء وبين التكليم من وراء حجاب، فلو كان المعنى واحدًا، لكان الجميع إيحاء ولم يكن هناك تكليم يتميز على ذلك‏.‏ ولا يمتنع أن يكون الرب تعالى مناديا لأحد؛ إذ المعنى القائم بالنفس لا يكون نداء، وقد أخبر الله تعالى بندائه في القرآن في عدة مواضع‏.‏
    وعلى هذا، فمن قال من هؤلاء‏:‏ إن كلام الله لا يفضل بعضه بعضًا، فحقيقة قوله أن هذه المسألة ممتنعة، فليس هناك أمران حتى يقال‏:‏ إن أحدهما يكون مثل الآخر أو أفضل منه، والتماثل والتفاضل إنما يعقل بين اثنين فصاعدًا، وهكذا عند هؤلاء في إرادته وعلمه وسمعه وبصره، فكل من جعل الصفة واحدة بالعين، امتنع على قوله أن يقال‏:‏ هل بعضها أفضل من بعض أم لا؛ إذ لا بعض لها عنده‏.‏ وكذلك من وافق هؤلاء على وحدة هذه الصفات بالعين وقال‏:‏ إن كلام الله حروف قديمة الأعيان، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان، سواء قال مع ذلك‏:‏ إنها أعيان الأصوات المسموعة من القراء، أو قال‏:‏ إنها بعض الأصوات المسموعة من القراء، وإن كان فساد ذلك معلومًا بالاضطرار،

    ج/ 17 ص -155-وقال‏:‏ إن هذه الأصوات غير تلك‏.‏
    فمن قال بأن الكلام حروف أو حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلًا وأبدًا وهي مع ذلك شيء واحد فقوله معلوم الفساد عند جمهور العقلاء‏.‏ كما أن من جعلها قولًا واحدًا، فقوله معلوم الفساد عند جمهور العقلاء على كل تقدير، فيمتنع مع القول بوحدة شيء أن يقال‏:‏ هل بعضه أفضل من بعض أم لا‏؟‏ وأما من أثبت ما يتعدد من المعاني والحروف أو أحدهما، فهذا يعقل على قوله‏:‏ السؤال عن التماثل والتفاضل‏.‏ ثم حينئذ يقع السؤال‏:‏ هل يتفاضل كلام الله وصفاته وأسماؤه، أم لا يقع التفاضل إلا في المخلوق‏؟‏
    وعلى هذا، فما ذكره ابن بطال في شرح البخاري لَمَّا تكلم على هذا الحديث حيث قال‏:‏ قال الملهب وحكاه عن الأصيلي‏:‏ ومذهب الأشعري وأبي بكر بن الطيب وابن أبي زيد والداودي وأبي الحسن القابسي وجماعة علماء السنة‏:‏ إن القرآن لا يفضل بعضه بعضًا؛ إذ كله كلام الله تعالى وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا في المخلوقات، هو نقل لأقوال هؤلاء بحسب ما ظنه لازمًا لهم حيث اعتقد أن التفاضل لا يكون إلا في المخلوق، والقرآن عند هؤلاء ليس بمخلوق‏.‏ لكن قدمنا أن السلف الذين قالوا‏:‏ إنه غير مخلوق لم ينقل عن أحد منهم أنه قال‏:‏ ليس بعضه أفضل من بعض، بل المنقول عنهم

    ج/ 17 ص -156-خلاف ذلك‏.‏ وأما نقل هذا القول عن الأشعري وموافقيه فغلط عليهم، إذ كلام الله عندهم ليس له كل ولا بعض، ولا يجوز أن يقال‏:‏ هل يفضل بعضه بعضًا أو لا يفضل، فامتناع التفاضل فيه عنده كامتناع التماثل، ولا يجوز أن يقال‏:‏ إنه متماثل ولا متفاضل؛ إذ ذلك لا يكون إلا بين شيئين‏.‏
    ولكن هذا السؤال يتصور عنده في الصفات المتعددة كالعلم والقدوة، فيقال‏:‏ أيها أفضل‏؟‏ فإن كان قال‏:‏ إن صفات الرب لا تتفاضل؛ لأن مقتضي الأفضل نقص المفضول عنه، فإنما يستقيم هذا الجواب في هذه الصفات المتعددة لا في نفس الكلام، مع أن هذا النقل عن الأشعري في نفي تفاضل الصفات غير محرر، فإن الأشعري لم يقل‏:‏ إن الصفات لا تتفاضل، بل هذا خطأ عليه، ولكن هو يقول‏:‏ إن الكلام لا يدخله التفاضل كما لا يدخله التماثل؛ لأنه واحد عنده، لا لما ذكر‏.‏ وأما الصفات المتعددة؛ فإنه قد صرح بأنها ليست متماثلة، ومذهبه أن الذات ليست مثل الصفات، ولا كل صفة مثل الأخرى، فهو لا يثبت تماثل المعاني القديمة عنده فكيف يقال على أصله ما يوجب تماثلها، وإذا امتنع من إطلاق التفاضل، فهو كامتناعه من إطلاق لفظ التماثل، وكامتناعه من إطلاق لفظ التغاير‏؟‏ ‏!‏وفي الجملة، فمن نقل عنه أنه نفي التفاضل وأثبت التماثل، فقد أخطأ،

    ج/ 17 ص -157-لكن قد لا يطلق لفظ التفاضل كما لا يطلق لفظ التماثل، لا لأن الصفات متماثلة عنده، بل هو ينفي التماثل لعدم التعدد، ولعدم إطلاق التغاير، كما يقال‏:‏ هل يقال‏:‏ الصفات مختلفة أم لا‏؟‏ وهل هي متغايرة أم لا‏؟‏ وهل يقال في كل صفة‏:‏ إنها الذات أو غيرها، أو لا يجمع بين نفيهما، وإنما يفرد كل نفي منهما، أو لا يطلق شيء من ذلك‏؟‏ فهذه الأمور لا اختصاص لها بهذه المسألة مسألة التفضيل‏.‏
    ولا ريب أن التماثل أو التفاضل لا يعقل إلا مع التعدد، وتعدد أسماء الله وصفاته وكلماته هو القول الذي عليه جمهور المسلمين، وهو الذي كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو الموافق لفطرة الله التي فطر عليها عباده؛ فلهذا كان الناس يتخاطبون بموجب الفطرة والشرعة، وإن كانت لبعضهم أقوال أخر تنافي الفطرة والشرعة، وتستلزم بطلان ما يقوله بمقتضي الفطرة والشرعة، فإن القرآن والسنة قد دلا على تعدد كلمات الله في غير موضع، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ‏"‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏
    وقد ذكرنا في غير هذا الموضع قول السلف، وأنهم كانوا يثبتون لله كلمات لا نهاية لها، وبينا النزاع في تعدد العلوم والإرادات، وأن

    ج/ 17 ص -158-كثيرًا من أهل الكلام يقول ما عليه جمهور الناس من تعدد ذلك‏.‏ وأن الذين قالوا‏:‏ يريد جميع المرادات بإرادة واحدة إنما أخذوه عن ابن كُلاب، وجمهور العقلاء قالوا‏:‏ هذا معلوم الفساد بالضرورة، حتى إن من فضلاء النظار من ينكر أن يذهب إلى هذا عاقل من الناس؛ لأنه رآه ظاهر الفساد في العقل، ولم يعلم أنه قاله طائفة من النظار‏.‏
    وكذلك من جعل نفس إرادته هي رحمته وهي غضبه يكون قوله ﷺ‏:‏
    ‏"‏أعوذ برضاك من سخطك‏"‏ معناه يكون مستعيذًا عنده بنفس الإرادة من نفس الإرادة، وهذا ممتنع، فإنه ليس عنده للإرادة صفة ثبوتية يستعاذ بها من أحد الوجهين باعتبار ذلك الوجه منها باعتبار الوجه الآخر، بل الإرادة عنده لها مجرد تعلق بالمخلوقات والتعلق أمر عدمي‏.‏ وهذا بخلاف الاستعاذة به منه؛ لأن له سبحانه صفات متنوعة فيستعاذ به باعتبار، ومنه باعتبار‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه ذات لا صفة لها، أو موجود مطلق لا يتصف بصفة ثبوتية، فهذا يمتنع تحققه في الخارج، وإنما يمكن تقدير هذا في الذهن كما تقدر الممتنعات، فضلًا عن أن يكون ربًا خالقًا للمخلوقات، كما قد بسط في موضعه‏.‏
    وهؤلاء ألجأهم إلى هذه الأمور مضايقات الجهمية والمعتزلة لهم في مسائل الصفات، فإنهم صاروا يقولون لهم‏:‏ كلام الله هو الله أو غير الله‏؟‏ إن قلتم‏:‏ هو غيره‏.‏ فما كان غير الله فهو مخلوق، وإن قلتم‏:‏ هو

    ج/ 17 ص -159-هو، فهو مكابرة‏.‏ وهذا أول ما احتجوا به على الإمام أحمد في المحنة، فإن المعتصم لما قال لهم‏:‏ ناظروه، قال له عبد الرحمن بن إسحاق‏:‏ يا أبا عبد الله، ما تقول في القرآن أو قال‏:‏ في كلام الله يعني أهو الله أو غيره‏؟‏ فقال له أحمد‏:‏ ما تقول في علم الله أهو الله أو غيره‏؟‏ فعارضه أحمد بالعلم، فسكت عبد الرحمن‏.‏ وهذا من حسن معرفة أبي عبد الله بالمناظرة رحمه الله فإن المبتدع الذي بني مذهبه على أصل فاسد متى ذكرت له الحق الذي عندك ابتداء، أخذ يعارضك فيه؛ لما قام في نفسه من الشبهة، فينبغي إذا كان المناظر مدعيًا أن الحق معه أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فاعطه إياه، وإلا فما دام معتقدًا نقيض الحق لم يدخل الحق إلى قلبه، كاللوح الذي كتب فيه كلام باطل امحه أولا، ثم اكتب فيه الحق، وهؤلاء كان قصدهم الاحتجاج لبدعتهم، فذكر لهم الإمام أحمد رحمه الله من المعارضة والنقض ما يبطلها‏.‏
    وقد تكلم الإمام أحمد في رده على الجهمية في جواب هذا، وبين أن لفظ ‏[‏الغير‏]‏ لم ينطق به الشرع لا نفيًا ولا إثباتًا، وحينئذ فلا يلزم أن يكون داخلًا لفظ ‏[‏الغير‏]‏ في كلام الشارع ولا غير داخل، فلا يقوم دليل شرعي على أنه مخلوق‏.‏ وأيضًا، فهو لفظ مجمل يراد بالغير‏:‏ ما هو منفصل عن الشيء، ويراد بالغير‏:‏ ما ليس هو الشيء؛

    ج/ 17 ص -160-فلهذا لا يطلق القول بأن كلام الله وعلم الله ونحو ذلك هو هو؛لأن هذا باطل‏.‏ ولا يطلق أنه غيره، لئلا يفهم أنه بائن عنه منفصل عنه‏.‏ وهذا الذي ذكره الإمام أحمد عليه الحذاق من أئمة السنة، فهؤلاء لا يطلقون أنه هو، ولا يطلقون أنه غيره، ولا يقولون ليس هو هو ولا غيره، فإن هذا أيضا إثبات قسم ثالث وهو خطأ، ففرق بين ترك إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقًا وإثبات معنى ثالث خارج عن مسمى اللفظين‏.‏
    فجاء بعد هؤلاء أبو الحسن وكان أحذق ممن بعده فقال‏:‏ تنفي مفردًا لا مجموعًا‏.‏ فنقول‏:‏ مفردًا‏:‏ ليست الصفة هي الموصوف، ونقول‏:‏ مفردًا‏:‏ ليست غيره، ولا يجمع بينهما فيقال‏:‏ لا هي هو ولا هي غيره؛ لأن الجمع بين النفي فيه من الإيهام ما ليس في التفريق‏.‏ وجاء بعده أقوام فقالوا‏:‏ بل ننفي مجموعا‏.‏ فنقول‏:‏ لا هي هو ولا هي غيره‏.‏ ثم كثير من هؤلاء إذا بحثوا يقولون هذا المعنى، أما أن يكون غيره فيتناقضون‏.‏
    وسبب ذلك‏:‏ أن لفظ ‏[‏الغير‏]‏ مجمل، يراد بالغير‏:‏ المباين المنفصل، ويراد بالغير‏:‏ ما ليس هو عين الشيء‏.‏ وقد يعبر عن الأول بأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما وعدمه، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود، ويعبر عن الثاني بأنه ما جاز العلم بأحدهما مع عدم

    ج/ 17 ص -161-العلم بالآخر‏.‏ وبين هذا وهذا فرق ظاهر؛ فصفات الرب اللازمة له لا تفارقه البتة، فلا تكون غيرًا بالمعنى الأول، ويجوز أن تعلم بعض الصفات دون بعض، وتعلم الذات دون الصفة، فتكون غيرًا باعتبار الثاني؛ ولهذا أطلق كثير من مثبتة الصفات عليها أغيارًا للذات‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ نقول‏:‏ إنها غير الذات، ولا نقول‏:‏ إنها غير الله؛ فإن لفظ الذات لا يتضمن الصفات بخلاف اسم الله فإنه يتناول الصفات؛ ولهذا كان الصواب على قول أهل السنة ألا يقال في الصفات‏:‏ إنها زائدة على مسمى اسم الله، بل من قال ذلك، فقد غلط عليهم‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ هل هي زائدة على الذات أم لا‏؟‏ كان الجواب‏:‏ أن الذات الموجودة في نفس الأمر مستلزمة للصفات، فلا يمكن وجود الذات مجردة عن الصفات، بل ولا يوجد شيء من الذوات مجردًا عن جميع الصفات، بل لفظ ‏[‏الذات‏]‏ تأنيث ‏[‏ذو‏]‏ ولفظ ‏[‏ذو‏]‏ مستلزم للإضافة‏.‏ وهذا اللفظ مولد، وأصله أن يقال‏:‏ ذات علم، ذات قدرة، ذات سمع، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ‏"‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏، ويقال‏:‏ فلانة ذات مال، ذات جمال‏.‏ ثم لما علموا أن نفس الرب ذات علم وقدرة وسمع وبصر ردًا على من نفي صفاتها عرَّفوا لفظ الذات، وصار التعريف يقوم مقام الإضافة، فحيث قيل لفظ الذات فهو ذات كذا، فالذات لا تكون إلا ذات علم وقدرة

    ج/ 17 ص -162-ونحو ذلك من الصفات لفظًا ومعنى‏.‏ وإنما يريد محققو أهل السنة بقولهم‏:‏ ‏[‏الصفات زائدة على الذات‏]‏ أنها زائدة على ما أثبته نفاة الصفات من الذات، فإنهم أثبتوا ذاتًا مجردة لا صفات لها، فأثبت أهل السنة الصفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر، لا زيادة على نفس الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات لا يمكن أن تفارقها، فلا توجد الصفات بدون الذات ولا الذات بدون الصفات‏.‏ وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود أن الأشعري وغيره من الصفاتية الذين سلكوا مسلك ابن كُلاب إذا قال أحدهم في الصفات‏:‏ إنها متماثلة، فإن هذا لا يقوله عاقل؛ إذ المثلان ما سد أحدهما مسد الآخر وقام مقامه، والعلم ليس مثلا للقدرة، ولا القدرة مثلا للإرادة، وأما الكلام فإنه عنده شيء واحد، والواحد يمتنع فيه تفاضل أو تماثل‏.‏
    وفي الجملة، فالذين يمنعون أن يكون كلام الله بعضه أفضل من بعض، لهم مأخذان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن صفات الرب لا يكون بعضها أفضل من بعض، وقد يعبرون عن ذلك بأن القديم لا يتفاضل‏.‏

    ج/ 17 ص -163-والثاني‏:‏ أنه واحد، والواحد لا يتصور فيه تفاضل ولا تماثل‏.‏ وهذا على قول من يقول‏:‏ إنه واحد بالعين، وهؤلاء الذين يقولون‏:‏ إنه واحد بالعين منهم من يجعله مع ذلك حروفًا أو حروفا وأصواتًا قديمة الأعيان، ويقول‏:‏ هو مع ذلك شيء واحد، كما يوجد في كلام طائفة من المتأخرين الذين أخذوا عن الكلابية أنه ليس له إلا إرادة واحدة وعلم واحد وقدرة واحدة وكلام واحد وأن القرآن قديم‏.‏ وأخذوا عن المعتزلة وغيرهم أنه مجرد الحروف والأصوات‏.‏ والتزموا أن الحروف والأصوات قديمة الأعيان، مع أنها مترتبة في نفسها ترتبًا ذاتيًا في الوجود، أزلية لم يزل بعضها مقارنًا لبعض، وفرقوا بين ذات الشيء وبين وجوده في الخارج موافقة لمن يقول ذلك من المعتزلة وكثير من القائلين بقدمه، وأنه حروف وأصوات، لا يقولون‏:‏ إنه شيء واحد، بل يجعلونه متعددًا مع قدم القرآن، وقدم أعيان الحروف والأصوات‏.‏
    والقول الآخر لمن يقول‏:‏ إنه واحد بالعين‏:‏ أن القديم هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، كما قد بين حقيقة قولهم‏.‏ وهذا هو القول المنسوب إلى ابن كُلاَّب والأشعري‏.‏ وهذا القول أول من عرف أنه قاله في الإسلام ابن كلاب، لم يسبقه إليه أحد من الصحابة ولا التابعين ولا غيرهم من أئمة المسلمين، مع كثرة ما تكلم الصحابة والتابعون في كلام الله تعالى ومع أنه من أعظم وأهم أمور الدين الذي تتوفر

    ج/ 17 ص -164-الهمم على معرفته وذكره، ومع تواتر نص الكتاب والسنة وآثار الصحابة على خلاف هذا القول‏.‏ وكل من هذه الأقوال مما يدل الكتاب والسنة وآثار السلف على خلافه‏.‏ وكل منها مما اتفق جمهور العقلاء الذين يتصورونه على أن فساده معلوم بضرورة العقل، ويجوز اتفاق طائفة من العقلاء على قول يعلم فساده بضرورة العقل إذا كان عن تواطؤ، كما يجوز اتفاقهم على الكذب تواطؤًا، وأما بدون ذلك، فلا يجوز‏.‏
    فالمذهب الذي تقلده بعض الناس عن بعض كقول النصارى والرافضة والجهمية والدهرية ونحو ذلك يجوز أن يكون فيه ما يعلم فساده بضرورة العقل، وإن كان طائفة من العقلاء قالوه على هذا الوجه، فأما أن يقولوه من غير تواطؤ، فهذا لا يقع، وأكثر المتقلدين للأقوال الفاسدة لا يتصورونها تصورًا تامًا حتى يكون تصورها التام موجبًا للعلم بفسادها‏.‏ ثم إذا اشتهر القول عند طائفة لم يعلموا غيره عن أهل السنة، ظنوا أنه قول أهل السنة‏.‏
    ولما كان المشهور عند المسلمين أن أهل السنة لا يقولون‏:‏ القرآن مخلوق، صار كل من رأي طائفة تنكر قول من يقول‏:‏ القرآن مخلوق يظن أن كل ما قالته في هذا الباب هو قول السلف وأئمة السنة والذين قالوا‏:‏ إن القرآن غير مخلوق بل قائم بذات الله، ووافقوا

    ج/ 17 ص -165-السلف والأئمة في هذا لما ظهرت محنة الجهمية وثبت فيها الإمام أحمد الذي أيد الله به السنة ونصر السنة صار شعار أهل السنة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرَى في الآخرة، فكل من أنكر ذلك، فهو من أهل البدعة في اللسان العام فكثر حينئذ من يوافق أهل السنة والحديث على ذلك، وإن كان لا يعرف حقيقة قولهم، بل معه أصول من أصول أهل البدع الجهمية يريد أن يجمع بينها وبين قول أهل السنة، كما يريد المتفلسف أن يجمع بين أقوال المتفلسفة المخالفين للرسل وبين ما جاءت به الرسل‏.‏
    فلهذا صار المنتسبون إلى السنة الذين يقولون‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق لهم أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ قول من يقول‏:‏ إنه قديم العين، وإن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بكلام بعد كلام‏.‏ ثم هؤلاء على قولين‏:‏ منهم من يقول‏:‏ ذلك القديم هو معنى واحد لازم لذات الله أبدًا، أو خمسة معان‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بل هو حروف وأصوات قديمة الأعيان لازمة لذات الله أبدًا‏.‏
    الثالث‏:‏ قول من يقول‏:‏ بل الرب في أزله لم يكن الكلام ممكنًا له، كما لم يكن الفعل ممكنًا له عندهم؛ لأن وجود الكلام والفعل لا يكون إلا بمشيئته واختياره، ووجود ما يكون بالمشيئة والاختيار محال عندهم دوامه‏.‏ ثم المشهور عن هؤلاء قول من يقول‏:‏

    ج/ 17 ص -166-تكلم فيما لا يزال بحروف وأصوات تقوم بذاته، كما يقوله طوائف متعددة منهم الكَرَّامية‏.‏ وبعض الناس يذكر ما يقتضي أن الكلام الذي قام به شيئا بعد شيء إنما هو علوم وإرادات، وأبو عبد الله الرازي يميل إلى هذا في بعض كتبه‏.‏
    والخامس‏:‏ قول من يقول‏:‏ لم يزل متكلمًا كيف شاء‏.‏ وهذا هو المعروف عن السلف وأئمة السنة مثل عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وسائر أهل الحديث والسنة‏.‏
    ثم هؤلاء منهم من يقول‏:‏ لم يزل متكلمًا لا يسكت، بل لا يزال متكلمًا بمشيئته وقدرته‏.‏ وهذا هو الذي جعله ابن حامد المشهور من مذهب أحمد وأصحابه، مع أنه حكي أنه لا يختلف قول أحمد أنه لم يزل متكلما كيف شاء وكما شاء‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء‏.‏ وهذا القول حكاه أبو بكر عبد العزيز عن طائفة من أصحاب أحمد، وكذلك خرجه ابن حامد قولًا في المذهب، مع ذكره أنه لم يختلف مذهبه في أنه لم يزل متكلمًا كيف شاء وكما شاء، وأنه لا يجوز أن يكون لم يزل ساكتًا ثم صار متكلمًا كما يقوله الكَرَّامية وهذه الأقوال وتوابعها مبسوطة في موضع آخر‏.
    والمقصود هنا أن الذين قالوا‏:‏ كلام الله غير مخلوق، تنازعوا

    ج/ 17 ص -167-بعد ذلك على هذه الأقوال، مع أن أكثر الذين قالوا بعض هذه الأقوال لا يعلمون ما قال غيرهم، بل غاية ما عند أئمتهم المصنفين في هذا الباب معرفة قولين أو ثلاثة أو أربعة من هذه الأقوال كقول المعتزلة والكُلاَّبية والسالمية والكرامية ولا يعرفون أن في الإسلام من قال سوى ذلك، ويصنف أحدهم كتابًا كبيرًا في ‏[‏مقالات الإسلاميين‏]‏ وفي ‏[‏الملل والنحل‏]‏، ويذكر عامة الأقوال المبتدعة في هذا الباب، والقول المأثور عن السلف والأئمة لا يعرفه ولا ينقله، مع أن الكتاب والسنة مع المعقول الصريح لا يدل إلا عليه، وكل ما سواه أقوال متناقضة كما بسط في موضعه‏.‏
    والقصد هنا أن من كان عنده أن قول المعتزلة مثلًا، أو قول المعتزلة والكرامية، أو قول هؤلاء وقول الكلابية، أو قول هؤلاء وقول السالمية، هو باطل من أقوال أهل البدع، لم يبق عنده قول أهل السنة إلا القول الآخر الذي هو أيضًا من الأقوال المبتدعة المخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول، فيفرع على ذلك القول ما يضيفه إلى السنة، ثم إذا تدبر نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف، وجدها تخالف ذلك القول أصلًا وفرعًا، كما وقع لمن أنكر فضل ‏[‏فاتحة الكتاب‏]‏ و ‏[‏آية الكرسي‏]‏ و‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ على غيرها من القرآن، فإن عمدتهم ما قدمته من الأصل الفاسد‏.‏ أما كون الكلام واحدًا، فلا يتصور فيه

    ج/ 17 ص -168-تفاضل ولا تماثل ولا تعدد‏.‏ وأما كون صفات الرب لا تتفاضل وربما قالوا‏:‏ القديم لا يتفاضل، وهو من جنس قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم‏:‏ القديم لا يتعدد، فهذا لفظ مجمل، فإن القديم إذا أريد به رب العالمين، فرب العالمين إله واحد لا شريك له، وإذا أريد به صفاته، فمن قال‏:‏ إن صفات الرب لا تتعدد، فهو يقول‏:‏ العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، والسمع والبصر هو العلم‏.‏ وقد يقول بعضهم أيضا‏:‏ العلم هو الكلام‏.‏ ويقول آخرون‏:‏ العلم والقدرة هو الإرادة، ثم قد يقولون‏:‏ إن الصفة هي الموصوف، فالعلم هو العالم، والقدرة هي القادر‏.‏ وهذه الأقوال صرح بها نفاة الصفات من الفلاسفة والجهمية ونحوهم كما حكيت ألفاظهم في غير هذا الموضع‏.‏ ومعلوم أن في هذه الأقوال من مخالفة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بل مخالفة المعلوم بالاضطرار للعقلاء‏.‏ والمعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ودين الرسل ما يبين أنها في غاية الفساد شرعًا وعقلًا‏.‏
    ثم إن هؤلاء تأولوا نصوص الكتاب والسنة بتأويلات باطلة، منهم من قال‏:‏ المراد بكونه أعظم وأفضل وخيرًا كونه عظيما في نفسه، وامتنع هؤلاء من إجراء التفضيل عليه‏.‏ وحكي هذا عن الأشعري وابن الباقلاني وجماعة غيرهما‏.‏ ومعلوم أن من تدبر ألفاظ الكتاب والسنة، تبين له أنها لا تحتمل هذا المعنى، بل هو من نوع القرمطة، فإن الله

    ج/ 17 ص -169-تعالى يقول‏:‏ ‏"نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، وقال النبي ﷺ لأُبي‏:‏ ‏"‏أتدري أي آية معك في كتاب الله أعظم‏؟‏‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها‏"‏، إلى غير ذلك مما تقدم ذكره‏.‏
    ومنهم من قال‏:‏ بل المراد بقوله‏:‏
    ‏"بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، أي‏:‏ خير منها لكم، أي‏:‏ أكثر ثوابًا أو أقل تعبًا، وقال‏:‏ ما دل على أن بعضه أفضل من بعض، فليس هو تفضيلًا لنفس الكلام، بل لمتعلقه‏.‏ وهو أن تلاوة هذا والعمل به يحصل به من الأجر أكثر مما يحصل بالآخر‏.‏ فيقال لهؤلاء‏:‏ ما ذكرتموه حجة عليكم، مع ما فيه من مخالفة النص‏.‏ وذلك أن كون الثواب على أحد القولين أو الفعلين أكثر منه على الثاني، إنما كان لأنه في نفسه أفضل؛ ولهذا إنما تنطق النصوص بفضل القول والعمل في نفسه، كما قد سئل النبي ﷺ غير مرة‏:‏ أي العمل أفضل‏؟‏ فيجيب بتفضيل عمل على عمل، وذلك مستلزم لرجحان ثوابه‏.‏ وأما رجحان الثواب مع تماثل العملين، فهذا مخالف للشرع والعقل‏.‏
    وكذلك الكلام، ففي صحيح مسلم، عن سمرة، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏"‏،

    ج/ 17 ص -170-فأخبر أنها أفضل الكلام بعد القرآن مع كونها من القرآن، ففضل نفس هذه الأقوال بعد القرآن على سواها‏.‏ وكذلك في صحيح مسلم أنه سئل‏:‏ أي الكلام أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ما اصطفى الله لملائكته‏:‏ سبحان الله وبحمده‏"‏‏.‏ وفي الموطأ وغيره عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏"‏، فأخبر أن هذا الكلام أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏أفضل الذكر‏:‏ لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء‏:‏ الحمد لله‏"‏، وقد رواه ابن أبي الدنيا‏.‏ وفي الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏"‏الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله‏"‏‏.‏ ومثل هذا كثير في النصوص يفضل العمل على العمل، والقول على القول، ويعلم من ذلك فضل ثواب أحدهما على الآخر‏.‏
    أما تفضيل الثواب بدون تفضيل نفس القول والعمل، فلم يرد به نقل ولا يقتضيه عقل، فإنه إذا كان القولان متماثلين من كل وجه، أو العملان متماثلين من كل وجه، كان جعل ثواب أحدهما أعظم من ثواب الآخر ترجيحًا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح‏.‏ وهذا أصل قول القدرية والجهمية الذين يقولون‏:‏ إن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، وظنوا أنهم بهذا الأصل ينصرون الإسلام، فلا للإسلام

    ج/ 17 ص -171-نصروا، ولا لعدوه كسروا، بل تسلط عليهم سلف الأمة وأئمتها بالتبديع والتضليل والتكفير والتجهيل، وتسلط عليهم خصومهم الدهرية وغيرهم بإلزامهم مخالفة المعقول، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزيادة في مخالفة المشروع والمعقول كما جرى للملحدين مع المبتدعين‏.‏
    وأيضًا، فقول القائل‏:‏ إنه ليس بعض ذلك خيرًا من بعض بل بعضه أكثر ثوابًا، رد لخبر الله الصريح، فإن الله يقول‏:‏
    ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، فكيف يقال‏:‏ ليس بعضه خيرًا من بعض‏؟‏ وإذا كان الجميع متماثلًا في نفسه، امتنع أن يكون فيه شيء خيرًا من شيء‏.‏ وكون معنى الخير أكثر ثوابا مع كونه متماثلا في نفسه، أمر لا يدل عليه اللفظ حقيقة ولا مجازًا، فلا يجوز حمله عليه، فإنه لا يعرف قط أن يقال‏:‏ هذا خير من هذا وأفضل من هذا مع تساوي الذاتين بصفاتهما من كل وجه، بل لابد مع إطلاق هذه العبارة من التفاضل ولو ببعض الصفات، فأما إذا قدر أن مختارًا جعل لأحدهما مع التماثل ما ليس للآخر مع استوائهما بصفاتهما من كل وجه، فهذا لا يعقل وجوده، ولو عقل لم يقل‏:‏ إن هذا خير من هذا أو أفضل لأمر لا يتصف به أحدهما البتة‏.‏
    وأيضا، ففي الحديث الصحيح أنه قال في الفاتحة‏:‏ ‏
    "‏لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها‏"‏، فقد صرح الرسول

    ج/ 17 ص -172-بأن الله لم ينزل لها مثلًا، فمن قال‏:‏ إن كل ما نزل من كلام الله فهو مثل لها من كل وجه، فقد ناقض الرسول في خبره‏.‏
    وأيضا، فقد تقدم قوله‏:‏
    ‏"أَحْسَنَ الْحَدِيثِ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، ومع تماثل كل حديث لله، فليس القرآن أحسن من التوراة والإنجيل‏.‏ وكذلك تقدم ما خص الله به القرآن من الأحكام‏.‏
    فإن قيل‏:‏ نحن نسلم لكم أن الله خص بعض كلامه من الثواب والأحكام بما لا يشركه فيه غيره، لكن هذا عندنا بمحض مشيئته، لا لاختصاص ذلك الكلام بوصف امتاز به عن الآخر، قيل‏:‏ أولًا‏:‏ هذا مخالف لصريح نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مع مخالفته الصريح المعقول، ثم هذا مبني على أصل الجهمية والقدرية، وهو أن القادر المختار يرجح أحد يتكلم ولا أن يفعل، ثم صار الكلام والفعل ممكنًا من المتماثلين على الآخر بلا مرجح‏.‏ وهؤلاء لما جوزوا هذا قالوا‏:‏ إن الرب لم يزل معطلًا، وما كان يمكن في الأزل أن غير حدوث شيء، اقتضى انتقالهما من الامتناع إلى الإمكان، وقالوا‏:‏ إن القادر المرجح يرجح بلا مرجح‏.‏
    ثم قالت الجهمية‏:‏ والعبد ليس بقادر في الحقيقة، فلا يرجح شيئا، بل الله هو الفاعل لفعله، وفعله هو نفس فعل الرب‏.‏ وقالت

    ج/ 17 ص -173-القدرية‏:‏ العبد قادر تام القدرة يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا سبب حادث، ولا حاجة إلى أن يحدث اللّه ما به يختص به فعل أحدهما، بل هو مع أن نسبته إلى الضدين‏:‏ الإيمان والكفر سواء يرجح أحدهما بلا مرجح لا من اللّه ولا من العبد، ولا يفتقر إلى إعانة اللّه ولا إلى أن يجعله شائيًا، ولا يجعله يقيم الصلاة، ولا يجعله مسلمًا‏.‏ ومعلوم بالعقول خلاف هذا، واللّه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لكن المدح في هذا الكلام معناه أنه مطلق المشيء ة لا معوق له إذا أراد شيئًا، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏لا يقولن أحدكم‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مُكْرِه له‏"‏‏.‏ فبين ﷺ أنه لا يفعل إلا بمشيئته، ليس له مكره حتى يقال له‏:‏ افعل إن شئت، ولا يفعل إن لم يشأ‏.‏
    فهو سبحانه إذا أراد شيئًا؛ كان قادرًا عليه لا يمنعه منه مانع‏.‏ لا يعني بذلك أنه يفعل لمجرد مشيء ة ليس معها حكمة، بل يفعل عندهم ما وجود فعله وعدمه بالنسبة إليه سواء من كل وجه، فإن هذا ليس بمدح، بل المعقول من هذا أنه صفة ذم، فمن فعل لمجرد إرادته الفعل من غير حكمة لفعله ولا تضمن غاية مجردة كان ألا يفعل خيرًا له‏.‏ وقد ذم اللّه سبحانه في كتابه من نسبه إلى هذا فقال تعالى‏:‏

    ج/ 17 ص -174-‏"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ‏"‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏"‏ [‏المؤمنون‏:‏ 115، 116‏]‏، قال المفسرون‏:‏ العبث‏:‏ أن يعمل عملًا لا لحكمة، وهو جنس من اللعب‏.‏ وقال‏:‏ ‏"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 16، ، 17‏]‏، وقال‏:‏ ‏"أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى‏"‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏‏.‏ قال المفسرون وأهل اللغة‏:‏ السدي‏:‏ المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى، كالذي يترك الإبل سدى مهملة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 73‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ‏"‏
    ‏[‏الحجر 85،86‏]‏‏.‏
    وقد بين سبحانه الفرق بين ما أمر به وما نهى عنه، وبين من يحمده ويكرمه من أوليائه، ومن يذمه ويعاقبه من أعدائه، وأنهم مختلفون لا يجوز التسوية بينهما، وجعل خلاف ذلك من المنكر الذي لا مساغ له، فقال تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ‏"‏ ‏[‏الحجر:‏ 85 ،86]‏، وقال‏:‏ ‏"أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏،

    ج/ 17 ص -175-وقال تعالى‏:‏ ‏"ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏"‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏، فبين أن هذا الحكم سيئ في نفسه ليس الحكم به مساويًا للحكم بالتفاضل‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏"‏
    [‏الجاثية‏:‏ 22‏]‏، فأخبر أنه خلق الخلق ليجزي كل نفس بما كسبت، وأنه لا يظلم أحدًا فينقص من حسناته شيئا، بل كما قال‏:‏
    ‏"وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏
    وقد نزه نفسه في غير موضع من القرآن أن يظلم أحدًا من خلقه، فلا يؤتيه أجره أو يحمل عليه ذنب غيره، فقال تعالى‏:‏
    ‏"وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏"‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ‏"‏[‏ق‏:‏ 28، ، 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏"‏ ‏[‏هود 100،101‏]‏، وفي الحديث الصحيح الإلهي‏:‏ ‏"‏ياعبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا‏"‏‏.‏ وما تزعمه القدرية من أن تفضيل بعض عباده على بعض بفضله وإحسانه من باب الظلم جهل منهم، وكذلك جزاؤهم بأعمالهم التي جري

    ج/ 17 ص -176-بها القدر ليس بظلم، فإن الواحد من الناس إذا عاقبه غيره بسيئاته وانتصف للمظلوم من الظالم، لم يكن ذلك ظلمًا منه باتفاق العقلاء، بل ذلك أمر محمود منه، ولا يقول أحد‏:‏ إن الظالم معذور لأجل القدر‏.‏ فرب العالمين إذا أنصف بعض عباده من بعض وأخذ للمظلومين حقهم من الظالمين، كيف يكون ذلك ظلمًا منه لأجل القدر‏؟‏ ‏!‏ وكذلك الواحد من العباد إذا وضع كل شيء موضعه، فجعل الطيب مع الطيب في المكان المناسب له، وجعل الخبيث مع الخبيث في المكان المناسب له، كان ذلك عدلا منه وحكمة، فرب العالمين إذا وضع كل شيء موضعه ولم يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ولم يجعل المتقين كالفجار، ولا المسلمين كالمجرمين، والجنة طيبة لا يصلح أن يدخلها إلا طيب؛ ولهذا لا يدخلها أحد إلا بعد القصاص الذي ينظفهم من الخبث، كما ثبت في الصحيح، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن المؤمنين إذا عبروا الجسر - وهو الصراط المنصوب على متن جهنم فإنهم يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، فإذا هذبوا ونقوا؛ أذن لهم في دخول الجنة‏"‏، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود هنا أن ما يقوله القدرية من الظلم والعدل الذي يقيسون به الرب على عباده من بدعهم التي ضلوا بها وخالفوا بها الكتاب والسنة

    ج/ 17 ص -177-وإجماع سلف الأمة وكذلك من قابلهم فنفي حكمة الرب الثابتة في خلقه وأمره وما كتبه على نفسه من الرحمة، وما حرمه على نفسه من الظلم، وما جعله للمخلوقات والمشروعات من الأسباب التي شهد بها النص مع العقل والحس، واتفق عليها سلف الأمة وأئمة الدين، كقوله تعالى‏:‏ ‏"وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 164‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، ونحو ذلك، فإن هذه الأقاويل أصلها مأخوذ من الجهم بن صفوان إمام غلاة المجبرة وكان ينكر رحمة الرب، ويخرج إلى الجذمي فيقول‏:‏ أرحم الراحمين يفعل مثل هذا‏؟‏ ‏!‏ يريد بذلك أنه ما ثم إلا إرادة رجح بها أحد المتماثلين بلا مرجح، لا لحكمة ولا رحمة‏.‏
    ولهذا كان الذين وافقوه على قوله من المنتسبين إلى مذهب أهل السنة والجماعة يتناقضون؛ لأنهم إذا خاضوا في الشرع احتاجوا أن يسلكوا مسالك أئمة الدين في إثبات محاسن الشريعة وما فيها من الأمر بمصالح العباد، وما ينفعهم من النهي عن مفاسدهم وما يضرهم، وأن الرسول الذي بعث بها بعث رحمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، وقد وصفه اللّه - تعالى بقوله‏:‏ ‏"وَرَحْمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏،

    ج/ 17 ص -178-فأخبر أنه يأمر بما هو معروف وينهى عما هو منكر، ويحل ما هو طيب ويحرم ما هو خبيث‏.‏
    ولو كان المعروف لا معنى له إلا المأمور به، والمنكر لا معنى له إلا ما حرم، لكان هذا كقول القائل‏:‏ يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم، ويحل لهم ما أحل لهم ويحرم عليهم ما حرم عليهم‏.‏ وهذا كلام لا فائدة فيه، فضلًا عن أن يكون فيه تفضيل له على غيره‏.‏ ومعلوم أن كل من أمر بأمر يوصف بذلك، وكل نبي بعث فهذه حاله‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏، فَعُلِم أن الطيب وصف للعين، وأن اللّه قد يحرمها مع ذلك عقوبة للعباد، كما قال تعالى لما ذكر ما حرمه على بني إسرائيل‏:‏ ‏"ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ فلو كان معنى الطيب هو ما أحل، كان الكلام لا فائدة فيه، فعلم أن الطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان‏.‏
    وليس المراد به مجرد التِذَاذ الأكل، فإن الإنسان قد يلتذ بما يضره من السموم وما يحميه الطبيب منه، ولا المراد به التِذَاذ طائفة من الأمم كالعرب، ولا كون العرب تعودته، فإن مجرد كون أمة من الأمم تعودت أكله وطاب لها، أو كرهته لكونه ليس في بلادها لا

    ج/ 17 ص -179-يوجب أن يحرم اللّه على جميع المؤمنين ما لم تعتده طباع هؤلاء، ولا أن يحل لجميع المؤمنين ما تعودوه‏.‏ كيف وقد كانت العرب قد اعتادت أكل الدم والميتة وغير ذلك وقد حرمه اللّه تعالى‏؟‏ ‏!‏ وقد قيل لبعض العرب‏:‏ ما تأكلون‏؟‏ قال‏:‏ ما دب ودرج، إلا أم حبين‏.‏ فقال‏:‏ ليهن أم حبين العافية‏.‏ ونفس قريش كانوا يأكلون خبائث حرمها اللّه، وكانوا يُعَافُون مطاعم لم يحرمها اللّه‏.‏ وفي الصحيحين، عن النبي ﷺ أنه قدم له لحم ضَبٍّ فرفع يده ولم يأكل، فقيل‏:‏ أحرام هو يارسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه‏"‏‏.‏ فعلم أن كراهة قريش وغيرها لطعام من الأطعمة لا يكون موجبًا لتحريمه على المؤمنين من سائر العرب والعجم‏.‏
    وأيضًا، فإن النبي ﷺ وأصحابه لم يحرم أحد منهم ما كرهته العرب، ولم يبح كل ما أكلته العرب، وقوله تعالى‏:‏
    ‏"وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏، إخبار عنه أنه سيفعل ذلك، فأحل النبي ﷺ الطيبات وحرم الخبائث مثل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فإنها عادية باغية، فإذا أكلها الناس والغاذي شبيه بالمغتذي صار في أخلاقهم شوب من أخلاق هذه البهائم وهو البغي والعدوان، كما حرم الدم المسفوح؛ لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، وزيادته توجب طغيان هذه القوى وهو

    ج/ 17 ص -180-مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏"‏‏.‏ ولهذا كان شهر رمضان إذا دخل صفدت الشياطين؛ لأن الصوم جنة‏.‏
    فالطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة للعقول والأخلاق، كما أن الخمر أم الخبائث؛ لأنها تفسد العقول والأخلاق، فأباح اللّه للمتقين الطيبات التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها، وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم في المقصود الذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلها بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر اللّه به واستحق العقوبة‏.‏ ومن حرمها كالرهبان فقد تعدى حدود اللّه فاستحق العقوبة، قال تعالى‏:‏ ‏
    "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏، وفي الحديث الصحيح، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إن اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها‏"‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر‏"‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ‏"‏[‏التكاثر‏:‏ 8‏]‏ أي‏:‏ عن شكره، فإنه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه وعما حرمه عليه‏:‏ هل فرط بترك مأمور أو فعل محظور، كما قال تعالى‏:‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏"‏ [‏المائدة‏:‏ 87‏]‏،

    ج/ 17 ص -181-فنهاهم عن تحريم الطيبات‏.‏ كما كان طائفة من الصحابة قد عزموا على الترهب، فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏ وفي الصحيحين أن رجالًا من الصحابة قال أحدهم‏:‏ أما أنا فأصوم لا أفطر‏.‏ وقال آخر‏:‏ أما أنا فأقوم لا أنام‏.‏ وقال آخر‏:‏ أما أنا فلا أقرب النساء‏.‏ وقال آخر‏:‏ أما أنا فلا آكل اللحم‏.‏ فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا‏.‏ ‏.‏ لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني‏"‏‏.‏ ولبسط هذه الأمور موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن اللّه بين في كتابه وعلى لسان رسوله حكمته في خلقه وأمره كقوله‏:‏
    ‏"وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلًا‏"‏ [‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏، فعلل التحريم بأنها فاحشة بدون النهي، وأن ذلك علة للنهي عنها، وقوله‏:‏ ‏"وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، فذكر براءته من هذا على وجه المدح له بذلك وتنزيهه عن ذلك، فدل على أن من الأمور ما لا يجوز أن يضاف إلى اللّه الأمر به، ليست الأشياء كلها مستوية في أنفسها ولا عنده، وأنه لا يخصص المأمور على المحظور لمجرد التحكم، بل يخصص المأمور بالأمر والمحظور بالحظر لما اقتضته حكمته‏.‏

    ج/ 17 ص -182-وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف مع كثرة البحث عنه، وكثرة ما رأيته من ذلك هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته من هذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر اللّه بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة، أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل اللّه ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة، ونحو ذلك مما يقولونه، كقولهم‏:‏ إن كلام اللّه كله متماثل، وإن كان الأجر في بعضه أعظم، فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك، بل يصرحون بالحكم والأسباب، وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به، وما في المنهي عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه، ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض، ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك، ولا استشكل ذلك، ولا تأوله على مفهومه، مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه، وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ‏.‏ والصواب هو القول الآخر، وما وجدتهم في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، وقول النبي ﷺ لأُبي‏:‏ ‏"‏أي آية في كتاب اللّه أعظم‏؟‏‏"‏، وقوله في الفاتحة‏:‏ ‏"‏لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها‏"‏،

    ج/ 17 ص -183-ونحو ذلك إلا مقرين لذلك قائلين بموجبه‏.‏
    والنبي ﷺ سأل أبيًا‏:‏ ‏"‏أي آية في كتاب اللّه أعظم‏؟‏‏"‏ فأجابه أبي بأنها آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال‏:‏ ‏
    "‏ليَهَنك العلم أبا المنذر‏"‏‏.‏ ولم يستشكل أُبي ولا غيره السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض، بل شهد النبي ﷺ بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض وعرف أفضل الآيات، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏‏.‏
    وما رأيتهم تنازعوا في تفسير ‏
    "بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏"‏، فإن هذه الآية فيها قراءتان مشهورتان‏:‏ قراءة الأكثرين‏:‏ ‏"أَوْ نُنسِهَا‏"‏ من أنساه ينسيه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏[‏أو ننسأها‏]‏ بالهمز من نسأه ينسأه‏.‏ فالأول من النسيان، والثاني من نسأ إذا أخر‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ نَسَأْتُةُ نَسأ‏:‏ إذا أَخَّرْتُهُ‏.‏ وكذلك أنسأته، يقال‏:‏ نسأته البيع وأنسأته‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ أنسأ اللّه في أجله ونسأ في أجله بمعنى‏.‏ ومن هذه المادة بيع النسيئة‏.‏ ومن كلام العرب‏:‏ من أراد النَّسَاء ولا نَسَاء، فليبكر الغداء، وليخفف الرداء، وليقلل من غشيان النِّساء‏.‏
    فأما القراءة الأولى فمعناها ظاهر عند أكثر المفسرين، قالوا‏:‏ المراد به ما أنساه اللّه من القرآن كما جاءت الآثار بذلك، فإن ما يرفع

    ج/ 17 ص -184-من القرآن إما أن يكون رفعًا شرعيًا بإزالته من القلوب وهو الإنساء، فأخبر تعالى أن ما ينسخه أو ينسيه، فإنه يأتي بخير منه أو مثله، بين ذلك فضله ورحمته لعباده المؤمنين، فإنه قال قبل ذلك‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 104، 105‏]‏، فنهاهم عن التشبه بأهل الكتاب في سوء أدبهم على الرسول وعلى ما جاء به، وأخبر أنهم لحسدهم ما يودون أن اللّه ينزل عليه شيئا من الكتاب والحكمة، ثم أخبر بنعمته على المؤمنين، فإنه قد كان بعض القرآن ينسخ وبعضه ينسى كما جاءت الآثار بذلك وما أنساه سبحانه هو مما نسخ حكمه وتلاوته، بخلاف المنسوخ الذي يتلى وقد نسخ ما نسخ من حكمه أو نسخ تلاوته ولم ينس، وفي النسخ والإنساء نقص ما أنزله على عباده‏.‏
    فبين سبحانه أنه لا نقص في ذلك، بل كل ما نسخ أو ينسى فإن اللّه يأتي بخير منه أو مثله، فلا يزال المؤمنون في نعمة من اللّه لا تنقص بل تزيد، فإنه إذا أتي بخير منها زادت النعمة، وإن أتي بمثلها، كانت النعمة باقية، وقال تعالى‏:‏ ‏
    "أَوْ نُنسِهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، فأضاف الإنساء إليه، فإن هذا الإنساء ليس مذمومًا، بخلاف نسيان ما يجب حفظه، فإنه مذموم

    ج/ 17 ص -185-فإن هذا إنساء لما رفعه اللّه، وأما نسيان ما أمر بحفظه فمذموم، قال تعالى‏:‏ ‏"قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏"‏ [‏طه‏:‏ 162‏]‏، وهذا النسيان وإن كان متضمنًا لترك العمل بها مع حفظها فإذا نسيت الآيات بالكلية حتى لا يعرف ما فيها، كان ذلك أبلغ في ترك العمل بها فكان هذا مذموما‏.‏ قال النبي ﷺ في الحديث الذي في السنن‏:‏ ‏"‏من قرأ القرآن ثم نسيه، لقي اللّه وهو أجذم‏"‏، ولهذا كره النبي ﷺ أن يضيف الإنسان النسيان إلى نفسه، فقال في الحديث المتفق عليه‏:‏ ‏"‏بئس ما لأحدهم أن يقول‏:‏ نسيت آية كيت وكيت، بل هو أنسي‏.‏ استذكروا القرآن فلهو أشد تفلتًا من صدور الرجال من النعم من عقلها‏"‏‏.‏
    ثم منهم من جعل
    ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ هو ما ترك تلاوته ورسمه ونسخ حكمه، وما أنسي هو ما رفع فلا يتلي‏.‏ ومنهم من أدخل في الأول ما نسخت تلاوته وإن كان محفوظًا‏.‏ فالأول قول مجاهد وأصحاب عبد اللّه بن مسعود، وروى الناس بالأسانيد الثابتة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد قوله‏:‏ ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ‏"‏ قال‏:‏ نثبت خطها ونبدل حكمها، قال‏:‏ وهو قول عبد اللّه بن مسعود ‏"أَوْ نُنسِهَا‏"‏ أي‏:‏ نمحوها فإن ما نسي لم يترك‏.‏ وروى ابن أبي حاتم بإسناده، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ كان مما ينزل على النبي ﷺ الوحي بالليل

    ج/ 17 ص -186-وينساه بالنهار، فأنزل اللّه‏:‏ ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وكذلك روي عن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن كعب وقتادة وعكرمة‏.‏ وكان سعد بن أبي وقاص يقرأها ‏[‏أَوْ نُنسِهَا‏]‏ بالخطاب، أي‏:‏ تنسها أنت يامحمد، وتلا قوله‏:‏ ‏"سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 24‏]
    وقد جاءت الآثار بأن أحدهم كان يحفظ قرآنًا ثم ينساه، ويذكرون ذلك للنبي ﷺ فيقول‏:‏ ‏[‏إنه رفع‏]‏، مثل ما صح من حديث الزهري، حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلًا كان معه سورة فقام يقرأها من الليل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول اللّه ﷺ، فقال بعضهم‏:‏ ذهبت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها‏.‏ وقال الآخر‏:‏ ما جئت إلا لذلك‏.‏ وقال الآخر‏:‏ ما جئت إلا لذلك، وقال الآخر‏:‏ وأنا يا رسول اللّه‏.‏ فقال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏
    "‏إنها نسخت البارحة‏"‏‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏[‏أو ننسأها‏]‏ النسأ بمعنى التأخير، وفيه قولان للسلف‏:‏ القول الأول يروى عن طائفة، قال السدي‏:‏ ‏[‏ما ننسخ من آية‏]‏ قال‏:‏ نسخها‏:‏ قبضها ‏[‏أو ننسأها‏]‏ فنتركها لا ننسخها ‏[‏نأت بخير‏]‏ من

    ج/ 17 ص -187-الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه‏.‏ وكذلك في تفسير الوالبي عن ابن عباس‏:‏ ‏[‏ما ننسخ من آية أو ننسأها‏]‏ يقول‏:‏ ما نبدل من آية أو نتركها فلا نرفعها من عندكم ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، روي ذلك عن الربيع بن أنس‏.‏ ومن الناس من فسر بهذا المعنى القراءة الأولى فقالوا‏:‏ معنى ننسها‏:‏ نتركها عندكم، فإن النسيان هو الترك‏.‏ وقال الأزهري ننسها‏:‏ نأمر بتركها‏.‏ يقال‏:‏ أنسيت الشيء، وأنشد‏:‏

    إني علي عقبة أقضيها لست بناسيها ولا منسيها

    أي‏:‏ ولا آمر بتركها‏.‏
    والقول الثالث‏:‏ نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها‏.‏
    والصواب القول الأوسط، روى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس قال‏:‏ خطبنا عمر رضي اللّه عنه فقال‏:‏ يقول اللّه‏:‏ ‏[‏ما ننسخ من آية أو ننسأها‏]‏، أي‏:‏ نؤخرها‏.‏ وبإسناده المعروف عن أبي العالية ‏
    "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ‏"‏ فلا يعمل بها ‏[‏أو ننسأها‏]‏، أي‏:‏ نرجئها عندنا، وفي لفظ عن أبي العالية‏:‏ نؤخرها عندنا‏.‏ وعن عطاء‏:‏ نؤخرها‏.‏ وقد ذكر قول ثالث عن السلف وهو قول رابع أن المعنى‏:‏ ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ‏"‏ وهو ما أنزلناه إليكم ولا نرفعه ‏[‏أو ننسأها‏]‏، أي‏:‏ نؤخر تنزيله فلا ننزله‏.‏ ونقل هذا بعضهم عن سعيد بن المسيب وعطاء‏.‏ أما

    ج/ 17 ص -188-‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ‏"‏ فهو ما قد نزل في القرآن، جعلاه من النسخة ‏[‏أو ننسأها‏]‏، أي‏:‏ نؤخرها فلا يكون، وهو ما لم ينزل‏.‏
    وهذا فيه نظر؛ فإن ابن أبي حاتم روى بالإسناد الثابت عن عطاء
    ‏"مّا نّنًسّخً مٌنً آيّةُ‏"‏‏:‏ أما ما نسخ فهو ما ترك من القرآن ‏[‏بالكاف‏]‏ وكأنه تَصَحَّف على من ظنه نزل من النزول، فإن لفظ ترك فيه إبهام‏.‏ ولذلك قال ابن أبي حاتم‏:‏ يعني ترك لم ينزل على محمد، وليس مراد عطاء هذا، وإنما مراده أنه ترك مكتوبًا متلوًا ونسخ حكمه كما تقدم عن غيره، وما أنسأه هو ما أخره لم ينزله‏:‏ وسعيد وعطاء من أعلم التابعين لا يخفى عليهما هذا‏.‏ وقد قرأ ابن عامر‏:‏ ‏[‏ما ننسخ من آية‏]‏ وزعم أبو حاتم أنه غلط، وليس كما قال، بل فسرها بعضهم بهذا المعنى فقال‏:‏ ما ننسخ‏:‏ نجعلكم تنسخونها كما يقال‏:‏ أكتبته هذا‏.‏ وقيل‏:‏ أنسخ جعله منسوخًا، كما يقال‏:‏ قبره إذا أراد دفنه، وأقبره، أي‏:‏ جعل له قبرًا‏.‏ وطرده‏:‏ إذا نفاه، وأطرده‏:‏ إذا جعله طريدًا‏.‏ وهذا أشبه بقراءة الجمهور‏.‏
    والصواب‏:‏ قول من فسر ‏[‏أو ننسأها‏]‏، أي‏:‏ نؤخرها عندنا فلا ننزلها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن ما ننسخه من الآيات التي أنزلناها‏.‏ أو نؤخر نزوله من الآيات التي لم ننزلها بعد
    ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏، فكما أنه يعوضهم من المرفوع يعوضهم من المنتظر الذي لم ينزله بعد إلى أن ينزله،

    ج/ 17 ص -189-فإن الحكمة اقتضت تأخير نزوله فيعوضهم بمثله أو خير منه في ذلك الوقت إلى أن يجيء وقت نزوله فينزله أيضًا مع ما تقدم ويكون ما عوضه مثله أو خيرًا منه قبل نزوله‏.‏ وأما ما أنزله إليهم ولم ينسخه، فهذا لا يحتاج إلى بدل، ولو كان كل ما لم ينسخه اللّه يأت بخير منه أو مثله، لزم إنزال مالا نهاية له‏.‏
    وكذلك إن قدر أن المراد يؤخر نسخه إلى وقت ثم ينسخه، فإنه ما دام عندهم لم يحتج إلى بدل يكون مثله أو خيرًا منه، وإنما البدل لما ليس عندهم مما أنسوه أو أخر نزوله فلم ينزله بعد؛ ولهذا لم يجعل البدل لكل ما لم ينزله، بل لما نسأه فأخر نزوله؛ إذ لو كان كل ما لم ينزل يكون له بدل، لزم إنزال ما لا نهاية له، بل ما كان يعلم أنه سينزله وقد أخر نزوله يكونون فاقديه إلى حين ينزل، كما يفقدون ما نزل ثم نسخ، فيجعل سبحانه لهذا بدلًا ولهذا بدلًا‏.‏ وأما ما أنزله وأقره عندهم وأخر نسخه إلى وقت، فهذا لا يحتاج إلى بدل، فإنه نفسه باق، ولو كان هذا مرادًا؛ لكان كل قرآن قد نسخه يجب أن ينزل قبل نسخه ما هو مثله أو خير منه، ثم إذا نسخه يأتي بخير منه أو مثله، فيكون لكل منسوخ بدلان‏:‏ بدل قبل نسخه، وبدل بعد نسخه‏.‏ والبدل الذي قبل نسخه لا ابتداء لنزوله، فيجب أن ينزل من أول الأمر، فيلزم نزول ذلك كله في أول الوحي، وهذا باطل قطعًا‏.‏

    ج/ 17 ص -190-فإن قيل‏:‏ فهذا يلزم فيما أخره فلم ينزله، فإن له بدلًا ولا وقت لنزول ذلك البدل، قيل‏:‏ ما أخر نزوله وهو يريد إنزاله معلوم، والبدل الذي هو مثله أو خير منه يؤتى به في كل وقت، فإن القرآن ما زال ينزل، وقد تضمن هذا أن كل ما أخر نزوله فلابد أن ينزل قبله ما هو مثله أو خير منه، وهذا هو الواقع، فإن الذي تقدم من القرآن نزوله لم ينسخ كثير منه خير مما تأخر نزوله، كالآيات المكية، فإن فيها من بيان التوحيد والنبوة والمعاد وأصول الشرائع ما هو أفضل من تفاصيل الشرائع، كمسائل الربا، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك‏.‏ فهذا الذي أخره اللّه مثل آية الربا فإنها من أواخر ما نزل من القرآن، وقد روي أنها آخر ما نزل، وكذلك آية الدَّينِ والعِدَّةِ والحيض ونحو ذلك، قد أنزل اللّه قبله ما هو خير منه من الآيات التي فيها من الشرائع ما هو أهم من هذا، وفيها من الأصول ما هو أهم من هذا‏.‏
    ولهذا كانت سورة الأنعام أفضل من غيرها، وكذلك سورة يس ونحوها من السور التي فيها أصول الدين التي اتفق عليها الرسل كلهم - صلوات اللّه عليهم - ولهذا كانت
    ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ مع قلة حروفها تعدل ثلث القرآن؛ لأن فيها التوحيد، فعلم أن آيات التوحيد أفضل من غيرها، وفاتحة الكتاب نزلت بمكة بلا ريب، كما دل عليه قوله

    ج/ 17 ص -191-تعالى‏:‏ ‏"وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏"‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته‏"‏، وسورة الحجر مكية بلا ريب، وفيها كلام مشركي مكة وحاله معهم، فدل ذلك على أن ما كان اللّه ينسأه فيؤخر نزوله من القرآن، كان ينزل قبله ما هو أفضل منه، و‏"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏"‏
    مكية بلا ريب، وهو قول الجمهور‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها مدنية، وهو غلط ظاهر‏.‏
    وكذلك قول من قال‏:‏ الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلط بلا ريب‏.‏ ولو لم تكن معنا أدلة صحيحة تدلنا على ذلك لكان من قال‏:‏ إنها مكية معه زيادة علم‏.‏ وسورة ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏
    ، أكثرهم على أنها مكية‏.‏ وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة، ولا منافاة، فإن اللّه أنزلها بمكة أولًا، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخري‏.‏ وهذا مما ذكره طائفة من العلماء وقالوا‏:‏ إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك‏.‏
    فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقًا‏.‏ والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها، نزل جبريل فقرأها عليه ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك‏.‏

    ج/ 17 ص -192-والواحد منا قد يسأل عن مسألة فيذكر له الآية أو الحديث، ليبين له دلالة النص على تلك المسألة وهو حافظ لذلك، لكن يتلى عليه ذلك النص ليتبين وجه دلالته على المطلوب‏.‏
    فقد تبين أن البدل لما أخر نزوله بخلاف ما كان عندهم لم ينسخ، فإن هذا لا بدل له، ولو قدر أنه سينسخ فإنه ما دام محكما، لم يكن بدله خيرًا منه‏.‏ وكذلك البدل عن المنسوخ يكون خيرًا منه‏.‏ وأكثر السلف أطلقوا لفظ ‏
    "بِخَيْرٍ مِّنْهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ كما في القرآن، ولم يستشكل ذلك أحد منهم‏.‏ وفي تفسير الوالبي‏:‏ خير لكم في المنفعة وأرفق بكم‏.‏ وعن قتادة‏:‏ ‏"نأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهى‏.‏ وهذان لم يستشكلا كونها خيرًا من الأولى، بل بينا وجه الفضيلة، كما تقدم من أن الكلام الأمري يتفاضل بحسب المطلوب، فإذا كان المطلوب أنفع للمأمور، كان طلبه أفضل، كما أن رحمة اللّه التي سبقت غضبه هي أفضل من غضبه‏.‏ فما قالاه تقرير للخيرية لا نفي لها‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فآية الكرسي قد ثبت أنها أعظم آية في كتاب اللّه، وإنما نزلت في سورة البقرة وهي مدنية بالاتفاق فقد أخر نزولها ولم ينزل قبلها ما هو خير منها ولا مثلها‏؟‏ قيل‏:‏ عن هذا أجوبة‏:‏

    ج/ 17 ص -193-أحدها‏:‏ أن اللّه قال‏:‏ ‏"نأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، ولم يقل‏:‏ بآية خير منها، بل يأتي بقرآن خير منها أو مثلها‏.‏ وآية الكرسي وإن كانت أفضل الآيات فقد يكون مجموع آيات أفضل منها‏.‏ والبقرة وإن كانت مدنية بالاتفاق، وقد قيل‏:‏ إنها أول ما نزل بالمدينة، فلا ريب أن هذا في بعض ما نزل، وإلا فتحريم الربا إنما نزل متأخرًا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏ من آخر ما نزل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق العلماء، وقد كانت سورة الحشر قبل ذلك، فإنها نزلت في بني النضير باتفاق الناس، وقصة بني النضير كانت متقدمة على الحديبية، بل على الخندق باتفاق الناس، وإنما تأخر عن الخندق أمر بني قريظة، فهم الذين حاصرهم النبي ﷺ عقب الخندق، وأما بنو النضير، فكان أجلاهم قبل ذلك باتفاق العلماء‏.‏ وكذلك سورة الحديد مدنية عند الجمهور، وقد قيل‏:‏ إنها مكية وهو ضعيف؛ لأن فيها ذكر المنافقين وذكر أهل الكتاب، وهذا إنما نزل بالمدينة، لكن يمكن أنها نزلت قبل كثير من البقرة‏.‏
    ففي الجملة، نزول أول الحديد وآخر الحشر قبل آية الكرسي ممكن، والأنعام ويس وغيرها نزل قبل آية الكرسي بالاتفاق‏.‏
    الجواب الثاني‏:‏ أنه تعالى إنما وعد أنه إذا نسخ آية أو نسأها، أتي

    ج/ 17 ص -194-بخير منها أو مثلها لما أنزل هذه الآية قوله‏:‏ ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، فإن هذه الآية جملة شرطية تضمنت وعده أنه لابد أن يأتي بذلك وهو الصادق الميعاد، فما نسخه بعد هذه الآية، أو أنسأ نزوله مما يريد إنزاله، يأت بخير منه أو مثله‏.‏ وأما ما نسخه قبل هذه أو أنسأه، فلم يكن قد وعد حينئذ أنه يأتي بخير منه أو مثله‏.‏ وبهذا أيضًا يندفع الجواب عن الفاتحة، فإنه لا ريب أنه تأخر نزولها عن سورة ‏"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏"‏[‏سورة العلق‏]‏ وهي أفضل منها‏.‏ فعلم أنه قد يتأخر إنزال الفاضل، وأنه ليس كل ما تأخر نزوله نزل قبله مثله أو خير منه‏.‏ لكن إذا كان الموعود به بعد الوعد، لم يرد هذا السؤال‏.‏
    يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏
    "مَا نَنسَخْ‏"‏، فإن هذا الفعل المضارع المجزوم إنما يتناول المستقبل، وجوازم الفعل ‏[‏إنْ‏]‏ وأخواتها ونواصبه تخلصه للاستقبال‏.‏
    وقد يجاب بجواب ثالث‏:‏ وهو أن يقال‏:‏ ما نزل في وقته كان خيرًا لهم وإن كان غيره خيرًا لهم في وقت آخر، وحينئذ فيكون فضل بعضه على بعض على وجهين‏:‏ لازم كفضل آية الكرسي وفاتحة الكتاب و‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏‏.‏
    وفضل عارض بحيث تكون هذه أفضل في وقت وهذه أفضل في وقت آخر، كما قد يقال في آية التخيير للمقيم بين الصوم والفطر مع الفدية ومع آية إيجاب الصوم عزما، وهذا كما أن

    ج/ 17 ص -195-الأفعال المأمور بها كل منها في وقته أفضل، فالصلاة إلى القدس قبل النسخ كانت أفضل، وبعد النسخ الصلاة إلى الكعبة أفضل‏.‏
    وعلى ما ذكر فيتوجه الاحتجاج بهذه الآية على أنه لا ينسخ القرآن إلا قرآن كما هو مذهب الشافعي، وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد، بل هي المنصوصة عنه صريحًا ألا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، وعليها عامة أصحابه؛ وذلك لأن اللّه قد وعد أنه لابد للمنسوخ من بدل مماثل أو خير، ووعد بأن ما أنساه المؤمنين فهو كذلك، وأن ما أخره فلم يأت وقت نزوله فهو كذلك، وهذا كله يدل على أنه لا يزال عند المؤمن القرآن الذي رفع، أو آخر مثله، أو خير منه، ولو نسخ بالسنة، فإن لم يأت قرآن مثله أو خير منه، فهو خلاف ما وعد اللّه‏.‏ وإن قيل‏:‏ بل يأتي بعد نسخه بالسنة كان بين نسخه وبين الإتيان بالبدل مدة خالية عن ذلك وهو خلاف مقصود الآية، فإن مقصودها أنه لابد من المرفوع أو مثله أو خير منه‏.‏
    وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏
    "نَأْتِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ لم يرد به بعد مدة، فإن الذي نسأه وهو يريد إنزاله قد علم أنه ينزله بعد مدة، فلما أخبر أن ما أخره يأتي بمثله أو خير منه قبل نزوله، علم أنه لا يؤخر الأمر بلا بدل، فلو جاز أن يبقى مدة بلا بدل، لكان ما لم ينزل أحق بألا يكون له بدل من المنسوخ، فلما كان ذاك قد حصل له بدل قبل وقت نزوله لتكميل الأنعام، فلأن يكون البدل لما نسخ من

    ج/ 17 ص -196-حين نسخ بَعْدُ أولى وأحرى؛ ولأنه قد علم أن القرآن نزل شيئا بعد شيء، فلو كان ما ينزله بدلًا عن المنسوخ يؤخره لم يعرف أنه بدل، ولم يتميز البدل من غيره، ولم يكن لقوله‏:‏ ‏"نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏ فائدة إلا كالفائدة المعلومة لو لم ينسخ شيء‏.‏
    غاية ما يقال‏:‏ إنه لو لم ينسخ شيء، لجاز ألا ينزل بعد ذلك شيء، وإذا نسخ شيء، فلابد من بدله ولو بعد حين‏.‏ وهذا مما يعتقدونه، فإنهم قد اعتادوا نزول القرآن عند الحوادث والمسائل والحاجة، فما كانوا يظنونه إذا نسخت آية ألا ينزل بعدها شيء، فإنها لو لم تنسخ، لم يظنوا ذلك، فكيف يظنون إذا نسخت‏؟‏ ‏!‏ الثاني‏:‏ أنه إذا كان قد ضمن لهم الإتيان بالبدل عن المنسوخ، علم أن مقصوده أنه لا ينقصهم شيء مما أنزله، بل لابد من مثل المرفوع أو خير منه، ولو بقوا مدة بلا بدل لنقصوا‏.‏
    وأيضًا، فإن هذا وعد معلق بشرط، والوعد المعلق بشرط يلزم عقبه، فإنه من جنس المعاوضة وذلك مما يلزم فيه أداء العوض على الفور إذا قبض المعوض، كما إذا قال‏:‏ ما ألقيت من متاعك في البحر فعلى بدله، وليس هذا وعدًا مطلقًا كقوله‏:‏
    "لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ‏"‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏؛ ولهذا يفرق بين قوله‏:‏ واللّه لأعطينك مائة، وبين قوله‏:‏ واللّه لا آخذ منك شيئا إلا أعطيتك بدله، فإن هذا واجب على الفور‏.‏

    ج/ 17 ص -197-ومما يدل على المسألة أن الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن، لا يذكرون نسخه بلا قرآن بل بسنة، وهذه كتب الناسخ والمنسوخ المأخوذة عنهم إنما تتضمن هذا‏.‏ وكذلك قول على رضي الله عنه للقاص‏:‏ هل تعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن‏؟‏ فلو كان ناسخ القرآن غير القرآن، لوجب أن يذكر ذلك أيضًا‏.‏
    وأيضًا الذين جوزوا نسخ القرآن بلا قرآن من أهل الكلام والرأي، إنما عمدتهم أنه ليس في العقل ما يحيل ذلك، وعدم المانع الذي يعلم بالعقل لا يقتضي الجواز الشرعي، فإن الشرع قد يعلم بخبره ما لا علم للعقل به، وقد يعلم من حكمة الشارع التي علمت بالشرع ما لا يعلم بمجرد العقل؛ ولهذا كان الذين جوزوا ذلك عقلًا مختلفين في وقوعه شرعًا، وإذا كان كذلك، فهذا الخبر الذي في الآية دليل على امتناعها شرعًا‏.‏
    وأيضًا، فإن الناسخ مهيمن على المنسوخ، قاض عليه، مقدم عليه، فينبغي أن يكون مثله أو خيرًا منه كما أخبر بذلك القرآن؛ ولهذا لما كان القرآن مهيمنًا على ما بين يديه من الكتاب بتصديق ما فيه من حق، وإقرار ما أقره، ونسخ ما نسخه، كان أفضل منه، فلو كانت السنة ناسخة للكتاب، لزم أن تكون مثله أو أفضل منه‏.‏

    ج/ 17 ص -198-وأيضًا، فلا يعرف في شيء من آيات القرآن أنه نسخه إلا قرآن، والوصية للوالدين والأقربين منسوخة بآية المواريث، كما اتفق على ذلك السلف، قال تعالي‏:‏ ‏"تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏"‏[‏النساء‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ والفرائض المقدرة من حدوده؛ ولهذا ذكر ذلك عقب ذكر الفرائض، فمن أعطي صاحب الفرائض أكثر من فرضه، فقد تعدى حدود الله، بأن نقص هذا حقه، وزاد هذا على حقه، فدل القرآن على تحريم ذلك وهو الناسخ‏.
    فصل
    والناس في هذا المقام وهو مقام حكمة الأمر والنهي على ثلاثة أصناف‏:‏ فالمعتزلة القدرية يقولون‏:‏ إن ما أمر به ونهي عنه كان حسنًا وقبيحًا قبل الأمر والنهي، والأمر والنهي كاشف عن صفته التي كان عليها لا يكسبه حسنًا ولاقبحًا، ولا يجوز عندهم أن يأمر وينهى لحكمة تنشأ من الأمر نفسه؛ ولهذا أنكروا جواز النسخ قبل التمكن من فعل العبادة، كما في قصة الذبيح، ونسخ الخمسين صلاة التي أمر بها ليلة المعراج إلى خمس، ووافقهم على منع النسخ قبل وقت العبادة

    ج/ 17 ص -199-طائفة من أهل السنة المثبتين للقدر؛ لظنهم أنه لابد من حكمة تكون في المأمور به والمنهي عنه، فلا يجوز أن ينهى عن نفس ما أمر به، وهذا قياس من يقول‏:‏ إن النسخ تخصيص في الأزمان، فإن التخصيص لا يكون برفع جميع مدلول اللفظ، لكنهم تناقضوا‏.‏
    والجهمية الجبرية يقولون‏:‏ ليس للأمر حكمة تنشأ، لا من نفس الأمر، ولا من نفس المأمور به، ولا يخلق الله شيئا لحكمة، ولكن نفس المشيئة أوجبت وقوع ما وقع وتخصيص أحد المتماثلين بلا مخصص، وليست الحسنات سببًا للثواب ولا السيئات سببًا للعقاب، ولا لواحد منهما صفة صار بها حسنة وسيئة، بل لا معني للحسنة إلا مجرد تعلق الأمر بها، ولا معني للسيئة إلا مجرد تعلق النهي بها، فيجوز أن يأمر بكل أمر حتى الكفر والفسوق والعصيان، ويجوز أن ينهى عن كل أمر حتى عن التوحيد والصدق والعدل، وهو لو فعل لكان كما لو أمر بالتوحيد والصدق والعدل، ونهي عن الشرك والكذب والظلم‏.‏ هكذا يقول بعضهم، وبعضهم يقول‏:‏ يجوز الأمر بكل ما لا ينافي معرفة الأمر، بخلاف ما ينافي معرفته، وليس في الوجود عندهم سبب، ولكن إذا اقترن أحد الشيء ين بالآخر خلقًا أو شرعًا، صار علامة عليه، فالأعمال مجرد علامات محضة لا أسباب مقتضية‏.‏
    وقالوا‏:‏ أمر من لم يؤمن بالإيمان معناه‏:‏ إني أريد أن أعذبكم،

    ج/ 17 ص -200-وعدم إيمانكم علامة على العذاب، وكذلك أمره بالإيمان من علم أنه يؤمن معناه‏:‏ إني أريد أن أثيبك، والإيمان علامة‏.‏ وهؤلاء منهم من ينفي القياس في الشرع والتعليل للأحكام، ومن أثبت القياس منهم، لم يجعل العلل إلا مجرد علامات، ثم إنه مع هذا قد علم أن الحكم في الأصل ثابت بالنص والإجماع، وذلك دليل عليه، فأي حاجة إلى العلة‏؟‏ وكيف يتصور أن تكون العلة علامة على الحكم في الأصل، وإنما تطلب علته بعد أن يعلم ثبوت الحكم، وحينئذ فلا فائدة في العلامة‏.‏ وأما الفرع فلا يكون علة له حتى يكون علة للأصل، وهؤلاء منهم من ينكر العلل المناسبة ويقول‏:‏ المناسبة ليست طريقًا لمعرفة العلل وهم أكثر أصحاب هذا القول‏.‏ ومن قال بالمناسبة من متأخرىهم يقول‏:‏ إنه قد اعتبر في الشرع اعتبار المناسب، فيستدل بمجرد الاقتران، لا لأن الشارع حكم بما حكم به لتحصيل المصلحة المطلوبة بالحكم، ولا لدفع مفسدة أصلًا، فإن عندهم أنه ليس في خلقه ولا أمره لام كي‏.‏ فجهم - رأس الجبرية- وأتباعه في طرف، والقدرية في الطرف الآخر‏.‏
    وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة الإسلام كالفقهاء المشهورين وغيرهم ومن سلك سبيلهم من أهل الفقه والحديث والمتكلمين في أصول الدين وأصول الفقه فيقرون بالقدر، ويقرون بالشرع، ويقرون بالحكمة لله في خلقه وأمره، لكن قد يعرف أحدهم الحكمة وقد لا يعرفها،

    ج/ 17 ص -201-ويقرون بما جعله من الأسباب، وما في خلقه وأمره من المصالح التي جعلها رحمة بعباده، مع أنه خالق كل شيء وربه ومليكه أفعال العباد، وغير أفعال العباد وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏ وأن كل ما وقع من خلقه وأمره فعدل وحكمة، سواء عرف العبد وجه ذلك أو لم يعرفه‏.‏
    والحكمة الناشئة من الأمر ثلاثة أنواع‏:‏
    أحدها‏:‏ أن تكون في نفس الفعل وإن لم يؤمر به كما في الصدق والعدل ونحوهما من المصالح الحاصلة لمن فعل ذلك وإن لم يؤمر به، والله يأمر بالصلاح وينهى عن الفساد‏.‏
    والنوع الثاني‏:‏ أن ما أمر به ونهي عنه صار متصفًا بحسن اكتسبه من الأمر، وقبح اكتسبه من النهي، كالخمر التي كانت لم تحرم ثم حرمت فصارت خبيثة، والصلاة إلى الصخرة التي كانت حسنة فلما نهي عنها، صارت قبيحة‏.‏ فإن ما أمر به يحبه ويرضاه، وما نهي عنه يبغضه ويسخطه‏.‏ وهو إذا أحب عبدًا ووالاه؛ أعطاه من الصفات الحسنة ما يمتاز بها على من أبغضه وعاداه‏.‏ وكذلك المكان والزمان الذي يحبه ويعظمه كالكعبة وشهر رمضان يخصه بصفات يميزه بها على ما سواه، بحيث يحصل في ذلك الزمان والمكان من رحمته

    ج/ 17 ص -202-وإحسانه ونعمته ما لا يحصل في غيره‏.‏
    فإن قيل‏:‏ الخمر قبل التحريم وبعده سواء، فتخصيصها بالخبث بعد التحريم ترجيح بلا مرجح‏.‏
    قيل‏:‏ ليس كذلك، بل إنما حرمها في الوقت الذي كانت الحكمة تقتضي تحريمها، وليس معني كون الشيء حسنًا وسيئًا مثل كونه أسود وأبيض، بل هو من جنس كونه نافعًا وضارًا، وملائمًا ومنافرًا، وصديقًا وعدوًا، ونحو هذا من الصفات القائمة بالموصوف التي تتغير بتغير الأحوال، فقد يكون الشيء نافعًا في وقت، ضارًا في وقت، والشيء الضار قد يترك تحريمه إذا كانت مفسدة التحريم أرجح، كما لو حرمت الخمر في أول الإسلام، فإن النفوس كانت قد اعتادتها عادة شديدة، ولم يكن حصل عندهم من قوة الإيمان ما يقبلون ذلك التحريم، ولا كان إيمانهم ودينهم تامًا حتى لم يبق فيه نقص إلا ما يحصل بشرب الخمر من صدها عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلهذا وقع التدريج في تحريمها، فأنزل الله أولًا فيها‏:‏
    ‏"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ ثم أنزل فيها لما شربها طائفة وَصَلُّوا فغلط الإمام في القراءة ‏:‏ آية النهي عن الصلاة سكارى، ثم أنزل الله آية التحريم‏.‏

    ج/ 17 ص -203-والنوع الثالث‏:‏ أن تكون الحكمة ناشئة من نفس الأمر، وليس في الفعل البتة مصلحة، لكن المقصود ابتلاء العبد هل يطيع أو يعصي‏؟‏ فإذا اعتقد الوجوب وعزم على الفعل، حصل المقصود بالأمر فينسخ حينئذ‏.‏ كما جرى للخليل في قصة الذبح، فإنه لم يكن الذبح مصلحة، ولا كان هو مطلوب الرب في نفس الأمر، بل كان مراد الرب ابتلاء إبراهيم ليقدم طاعة ربه ومحبته على محبة الولد، ولا يبقي في قلبه التفات إلى غير الله، فإنه كان يحب الولد محبة شديدة، وكان قد سأل الله أن يهبه إياه وهو خليل الله فأراد تعالى تكميل خلته لله بألا يبقي في قلبه ما يزاحم به محبة ربه ‏"فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103‏:‏ 106‏]‏ ومثل هذا الحديث الذي في صحيح البخاري، حديث أبرص وأقرع وأعمي، كان المقصود ابتلاءهم لا نفس الفعل‏.‏ وهذا الوجه والذي قبله مما خفي على المعتزلة، فلم يعرفوا وجه الحكمة الناشئة من الأمر، ولا من المأمور لتعلق الأمر به، بل لم يعرفوا إلا الأول‏.‏ والذين أنكروا الحكمة عندهم الجميع سواء، لا يعتبرون حكمة، ولا تخصيص فعل بأمر، ولا غير ذلك، كما قد عرف من أصلهم‏.‏
    ثم إن كثيرًا من هؤلاء وهؤلاء يتكلمون في تفسير القرآن والحديث والفقه، فيبنون على تلك الأصول التي لهم ولا يعرف حقائق أقوالهم إلا

    ج/ 17 ص -204-من عرف مأخذهم‏.‏ فقول القائل‏:‏ إن "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏" وفاتحة الكتاب قد تكون كل واحدة منهما في نفسها مماثلة لسائر السور، وآية الكرسي مماثلة لسائر الآيات، وإنما خصت بكثرة ثواب قارئها، أو لم تتعين الفاتحة في الصلاة ونحو ذلك إلا لمحض المشيء ة من غير أن يكون فيها صفة تقتضي التخصيص، هو مبني على أصول جهم في الخلق والأمر، وإن كان وافقه عليه أبو الحسن وغيره‏.‏ وكتب السنة المعروفة التي فيها آثار السلف يذكر فيها هذا وهذا، ويجعل هذا القول قول الجبرية المتبعين لجهم في أقوال القدرية الجبرية المبتدعة، والسلف كانوا ينكرون قول الجبرية الجهمية كما ينكرون قول المعتزلة القدرية، وهذا معروف عن سفيان الثوري والأوزاعي والزبيدي وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم، وقد ذكر ذلك غير واحد من أتباع الأئمة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وسائر أهل السنة في كتبهم، كما قد بسط في مواضعه، وذكرت أقوال السلف والأئمة في ذلك‏.‏
    وإنما نبهنا هنا على الأصل؛ لأن كثيرًا من الناس لا يعرف ذلك، ولا يظن قول أهل السنة في القدر إلا القول الذي هو عند أهل السنة قول جهم وأتباعه المجبرة أو ما يشبه ذلك‏.‏ كما أن منهم من يظن أن قول أهل السنة في مسائل الأسماء والأحكام والموعد والوعيد هو أيضًا القول المعروف عند أهل السنة بقول جهم‏.‏ وهذا يعرفه من يعرف

    ج/ 17 ص -205-أقوال الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام المشهورين في هذه الأصول‏.‏ وذلك موجود في الكتب المصنفة التي فيها أقوال جمهور الأئمة التي يذكر فيها أقوالهم في الفقه كثيرًا، والعلماء الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة على مذهب السلف في ذلك، وكثير من الكتب المصنفة التي يذكر فيها أقوال السلف على وجه الاتباع من تصنيف أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم يذكرون ذلك فيها‏.‏
    وينبغي للعاقل أن يعرف أن مثل هذه المسائل العظيمة التي هي من أعظم مسائل الدين لم يكن السلف جاهلين بها ولا معرضين عنها، بل من لم يعرف ما قالوه فهو الجاهل بالحق فيها، وبأقوال السلف، وبما دل عليه الكتاب والسنة‏.‏ والصواب في جميع مسائل النزاع ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وقولهم هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والعقل الصريح‏.‏ وقد بسط هذا في مواضع كثيرة‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏

    ج/ 17 ص -206-سئل شيخ الإسلام ومفتي الأنام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رضي الله عنه عن فتيا صورتها‏:‏
    ما تقول السادة العلماء في تفسير قول النبي ﷺ في سورة الإخلاص‏:‏ ‏
    "‏إنها تعدل ثلث القرآن‏"‏ فكيف ذلك مع قلة حروفها، وكثرة حروف القرآن‏؟‏ بينوا لنا ذلك بيانًا مبسوطًا شافيًا، وأفتونا مأجورين إن شاء الله تعالى‏.‏ فأجاب رضي الله عنه بما صورته‏:‏
    الحمد لله، الأحاديث المأثورة عن النبي ﷺ في فضل ‏
    "قٍلً هٍوّ بلَّهٍ أّحّدِ‏"‏ وأنها تعدل ثلث القرآن من أصح الأحاديث وأشهرها، حتى قال طائفة من الحفاظ كالدارقطني‏:‏ لم يصح عن النبي ﷺ في فضل سورة من القرآن أكثر مما صح عنه في فضل ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، وجاءت الأحاديث بالألفاظ كقوله‏:‏ ‏"‏قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏من قرأ قل هو الله أحد

    ج/ 17 ص -207-مرة، فكأنما قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين، فكأنما قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثًا، فكأنما قرأ القرآن كله‏"‏، وقوله للناس‏:‏ ‏"‏احتشدوا حتى أقرأ عليكم ثلث القرآن‏"‏، فحشدوا حتى قرأ عليهم‏:‏ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده، إنها تعدل ثلث القرآن‏"‏‏.‏
    وأما توجيه ذلك، فقد قالت طائفة من أهل العلم‏:‏ إن القرآن باعتبار معانيه ثلاثة أثلاث‏:‏ ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي‏.‏ و‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ هي صفة الرحمن ونسبه، وهي متضمنة ثلث القرآن؛ وذلك لأن القرآن كلام الله تعالى والكلام إما إنشاء وإما إخبار؛ فالإنشاء هو الأمر والنهي، وما يتبع ذلك كالإباحة ونحوها وهو الأحكام‏.‏ والإخبار، إما إخبار عن الخالق، وإما إخبار عن المخلوق‏.‏ فالإخبار عن الخالق هو التوحيد، وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته، والإخبار عن المخلوق هو القصص، وهو الخبر عما كان وعما يكون، ويدخل فيه الخبر عن الأنبياء وأممهم، ومن كذبهم، والإخبار عن الجنة والنار، والثواب والعقاب‏.‏ قالوا‏:‏ فبهذا الاعتبار تكون ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ تعدل ثلث القرآن، لما فيها من التوحيد الذي هو ثلث معاني القرآن‏.‏
    بقي أن يقال‏:‏ فإذا كانت تعدل ثلث القرآن مع قلة حروفها، كان

    ج/ 17 ص -208-للرجل أن يكتفي بها عن سائر القرآن‏.‏
    فيقال في جواب ذلك‏:‏ إن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إنها تعدل ثلث القرآن‏"‏، وعدل الشيء بالفتح يقال على ما ليس من جنسه، كما قال تعالي‏:‏ ‏"أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا‏"‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فجعل الصيام عدل كفارة، وهما جنسان‏.‏ ولا ريب أن الثواب أنواع مختلفة في الجنة، فإن كل ما ينتفع به العبد ويلتذ به من مأكول ومشروب ومنكوح ومشموم هو من الثواب، وأعلاه النظر إلى وجه الله تعالى وإذا كانت أحوال الدنيا لاختلاف منافعها يحتاج إليها كلها، وإن كان بعضها يعدل ما هو أكبر منه في الصورة، كما أن ألف دينار تعدل من الفضة والطعام والثياب وغير ذلك ما هو أكبر منها، ثم من ملك الذهب فقد ملك ما يعدل مقدار ألف دينار من ذلك، وإن كان لا يستغني بذلك عن سائر أنواع المال التي ينتفع بها؛ لأن المساواة وقعت في القدر لا في النوع والصفة، فكذلك ثواب‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ وإن كان يعدل ثواب ثلث القرآن في القدر، فلا يجب أن يكون مثله في النوع والصفة، وأما سائر القرآن ففيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد ما يحتاج إليه العباد؛ فلهذا كان الناس محتاجين لسائر القرآن، ومنتفعين به منفعة لا تغني عنها هذه السورة، وإن كانت تعدل ثلث القرآن‏.‏
    فهذه المسألة مبنية على أصل، وهو أن القرآن هل يتفاضل في

    ج/ 17 ص -209-نفسه، فيكون بعضه أفضل من بعض‏؟‏ وهذا فيه للمتأخرىن قولان مشهوران‏:‏ منهم من قال‏:‏ لا يتفاضل في نفسه؛ لأنه كله كلام الله، وكلام الله صفة له قالوا‏:‏ وصفة الله لا تتفاضل، لا سيما مع القول بأنه قديم، فإن القديم لا يتفاضل، كذلك قال هؤلاء في قوله تعالي‏:‏ ‏"مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 106‏]‏، قالوا‏:‏ فخير إنما يعود إلى غير الآية، مثل نفع العباد وثوابهم‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ أن بعض القرآن أفضل من بعض، وهذا قول الأكثرين من الخلف والسلف، فإن النبي ﷺ قال في الحديث الصحيح في الفاتحة‏:‏ ‏
    "‏إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن مثلها‏"‏، فنفي أن يكون لها مثل، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إنه متماثل‏؟‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب‏:‏ ‏"‏يا أبا المنذر، أتدري أي آية في كتاب الله أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فضرب بيده في صدره وقال له‏:‏ ‏"‏لِيَهَنك العلم أبا المنذر‏"‏، فقد بين أن هذه الآية أعظم آية في القرآن، وهذا بين أن بعض الآيات أعظم من بعض‏.‏
    وأيضًا، فإن القرآن كلام الله والكلام يشرف بالمتكلم به، سواء كان خبرًا أو أمرًا، فالخبر يشرف بشرف المخبر وبشرف المخبر عنه، والأمر يشرف بشرف الآمر، وبشرف المأمور به، فالقرآن وإن كان

    ج/ 17 ص -210-كله مشتركًا، فإن الله تكلم به، لكن منه ما أخبر الله به عن نفسه، ومنه ما أخبر به عن خلقه، ومنه ما أمرهم به‏.‏ فمنه ما أمرهم فيه بالإيمان، ونهاهم فيه عن الشرك، ومنه ما أمرهم به بكتابة الدين، ونهاهم فيه عن الربا‏.‏
    ومعلوم أن ما أخبر به عن نفسه ك
    ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ أعظم مما أخبر به عن خلقه ك‏"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ‏"‏ وما أمر فيه بالإيمان، وما نهي فيه عن الشرك أعظم مما أمر فيه بكتابة الدين ونهي فيه عن الربا؛ ولهذا كان كلام العبد مشتركًا بالنسبة إلى العبد، وهو كلام لمتكلم واحد، ثم إنه يتفاضل بحسب المتكلم فيه‏.‏ فكلام العبد الذي يذكر به ربه ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر أفضل من كلامه الذي يذكر فيه خلقه، ويأمر فيه بمباح أو محظور‏.‏ وإنما غلط من قال بالأول؛ لأنه نظر إلى إحدى جهتي الكلام، وهي جهة المتكلم به، وأعرض عن الجهة الأخرى، وهي جهة المتكلم فيه، وكلاهما للكلام به تعلق يحصل به التفاضل والتماثل‏.‏
    قالوا‏:‏ ومن أعاد التفاضل إلى مجرد كثرة الثواب أو قلته من غير أن يكون الكلام في نفسه أفضل، كان بمنزلة من جعل عملين متساويين وثواب أحدهما أضعاف ثواب الآخر، مع أن العملين في أنفسهما لم يختص أحدهما بمزية، بل كدرهم ودرهم تصدق بهما رجل واحد في وقت واحد

    ج/ 17 ص -211-ومكان واحد على اثنين متساويين في الاستحقاق ونيته بهما واحدة، ولم يتميز أحدهما على الآخر بفضيلة، فكيف يكون ثواب أحدهما أضعاف ثواب الآخر‏؟‏ ‏!‏ بل تفاضل الثواب والعقاب دليل على تفاضل الأعمال في الخير والشر‏.‏ وهذا الكلام متصل بالكلام في اشتمال الأعمال على صفات بها كانت صالحة حسنة، وبها كانت فاسدة قبيحة‏.‏ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
    وقول من قال‏:‏ صفات الله لا تتفاضل ونحو ذلك، قول لا دليل عليه، بل هو مورد النزاع، ومن الذي جعل صفته التي هي الرحمة لا تفضل على صفته التي هي الغضب، وقد ثبت عن النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏إن الله كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتي تغلب غضبي‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏تسبق غضبي‏"‏‏.‏ وصفة الموصوف من العلم والإرادة والقدرة والكلام والرضا والغضب، وغير ذلك من الصفات تتفاضل من وجهين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن بعض الصفات أفضل من بعض، وأَدْخََلَ في كمال الموصوف بها، فإنا نعلم أن اتصاف العبد بالعلم والقدرة والرحمة، أفضل من اتصافه بضد ذلك، لكن الله تعالى لا يوصف بضد ذلك، ولا يوصف إلا بصفات الكمال، وله الأسماء الحسني يُدْعَي بها، فلا يدعي إلا بأسمائه الحسني وأسماؤه متضمنة لصفاته وبعض أسمائه أفضل من بعض،

    ج/ 17 ص -212-وأدخل في كمال الموصوف بها؛ ولهذا في الدعاء المأثور‏:‏ ‏"‏أسألك باسمك العظيم الأعظم، الكبير الأكبر‏"‏، و‏"‏لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سئل به أعطى‏"‏، وأمثال ذلك‏.‏ فتفاضل الأسماء والصفات من الأمور البينات‏.‏
    والثاني‏:‏ أن الصفة الواحدة قد تتفاضل، فالأمر بمأمور يكون أَكْمَل من الأمر بمأمور آخر، والرضا عن النبيين أعظم من الرضا عمن دونهم، والرحمة لهم أكمل من الرحمة لغيرهم، وتكليم الله لبعض عباده، أكمل من تكليمه لبعض، وكذلك سائر هذا الباب‏.‏ وكما أن أسماءه وصفاته متنوعة، فهي أيضًا متفاضلة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع مع العقل، وإنما شبهة من منع تفاضلها من جنس شبهة من منع تعددها، وذلك يرجع إلى نفي الصفات، كما يقوله الجهمية لما ادعوه من التركيب، وقد بينا فساد هذا مبسوطًا في موضعه‏.‏

    ج/ 17 ص -213-وسئل عمن يقرأ القرآن، هل يقرأ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ مرة أو ثلاثًا‏؟‏ وما السنة في ذلك‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    إذا قرأ القرآن كله ينبغي أن يقرأها كما في المصحف مرة واحدة، هكذا قال العلماء؛ لئلا يزاد على ما في المصحف‏.‏ وأما إذا قرأها وحدها، أو مع بعض القرآن، فإنه إذا قرأها ثلاث مرات، عدلت القرآن‏.‏ والله أعلم‏.‏

    ج/ 17 ص -214-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وسلم تسليمًا‏.‏
    فصل
    في تفسير‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏‏.‏
    والاسم ‏[‏الصَّمَدُ‏]‏ فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة -وليست كذلك- بل كلها صواب، والمشهور منها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الصمد هو الذي لا جوف له‏.‏
    والثاني‏:‏ أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج‏.‏ والأول هو قول

    ج/ 17 ص -215-أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة‏.‏ والثاني قول طائفة من السلف والخلف، وجمهور اللغويين، والآثار المنقولة عن السلف بأسانيدها في كتب التفسير المسندة، وفي كتب السنة وغير ذلك، وقد كتبنا من الآثار في ذلك شيئا كثيرًا بإسناده فيما تقدم‏.‏
    وتفسير ‏[‏الصَّمَدُ‏]‏ بأنه الذي لا جوف له، معروف عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا، وعن ابن عباس، والحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وقتادة‏.‏ وبمعني ذلك قال سعيد بن المسيب قال‏:‏ هو الذي لا حشو له‏.‏ وكذلك قال ابن مسعود‏:‏ هو الذي ليست له أحشاء‏.‏ وكذلك قال الشعبي‏:‏ هو الذي لا يأكل ولا يشرب‏.‏ وعن محمد بن كعب القرظي، وعكرمة‏:‏ هو الذي لا يخرج منه شيء‏.‏ وعن ميسرة قال‏:‏ هو المصمت‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ كأن الدال في هذا التفسير مبدلة من تاء، والصمت من هذا‏.‏
    قلت‏:‏ لا إبدال في هذا، ولكن هذا من جهة الاشتقاق الأكبر، وسنبين إن شاء الله وجه القول من جهة الاشتقاق واللغة‏.‏
    وفي الحديث المأثور في سبب نزول هذه الآية الذي رواه الإمام أحمد في المسند وغيره من حديث أبي سعد الصغاني، حدثنا أبو جعفر الرازي،

    ج/ 17 ص -216-عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب، أن المشركين قالوا لرسول الله ﷺ‏:‏ انسب لنا ربك، فأنزل الله‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏"‏ إلى آخر السورة‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏الصمد الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله لا يموت ولا يورث‏"‏‏.‏
    وأما تفسيره بأنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، فهو أيضًا مروي عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا، فهو من تفسير الوالبي عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ الصمد‏:‏ السيد الذي كمل في سؤدده‏.‏ وهذا مشهور عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال‏:‏ هو السيد الذي انتهى سؤدده‏.‏ وعن أبي إسحاق الكوفي عن عكرمة‏:‏ الصمد‏:‏ الذي ليس فوقه أحد‏.‏ ويروى هذا عن علي، وعن كعب الأحبار‏:‏ الذي لا يكافئه من خلقه أحد‏.‏ وعن السدي أيضًا ‏:‏ هو المقصود إليه في الرغائب، والمستغاث به عند المصائب‏.‏ وعن أبي هريرة رضي الله عنه ‏:‏ هو المستغني عن كل أحد، المحتاج إليه كل أحد‏.‏ وعن سعيد بن جبير أيضًا ‏:‏ الكامل في جميع صفاته وأفعاله‏.‏ وعن الربيع‏:‏ الذي لا تعتريه الآفات‏.‏ وعن مقاتل بن حيان‏:‏ الذي لا عيب فيه‏.‏ وعن ابن كَيْسان‏:‏ هو الذي لا يوصف بصفته أحد‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد‏:‏ السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم‏.‏

    ج/ 17 ص -217-وقال الزجاج‏:‏ هو الذي ينتهي إليه السؤدد، فقد صمد له كل شيء، أي‏:‏ قصد قصده، وقد أنشدوا في هذا بيتين مشهورين‏.‏
    أحدهما‏:‏

    ألا بَكَّرَ الناعي بخيري بني أَسَدْ بعمرو بن مسعود وبالسيد الصَّمَدْ

    وقال الآخر‏:‏

    علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيفُ فأنت السيدُ الصمدُ

    وقال بعض أهل اللغة‏:‏ الصَّمَدُ‏:‏ هو السيد المقصود في الحوائج، تقول العرب‏:‏ صمدت فلانًا أَصْمِدُه بكسر الميم وأَصْمُدُهُ بضم الميم صَمْدًا بسكون الميم إذا قصدته، والمصمود صمد كالقبض بمعني المقبوض، والنقض بمعني المنقوض‏.‏ ويقال‏:‏ بيت مصمود ومصمد، إذا قصده الناس في حوائجهم‏.‏ قال طرفة‏:‏

    وإن يلتق الحي الجميع تلاقني إلى ذروة البيت الرفيع المصمد

    وقال الجوهري‏:‏ صمده يصمده صمدًا‏:‏ إذا قَصَدَهُ‏.‏ والصمد بالتحريك ‏:‏ السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج، ويقال‏:‏ بيت مُصمَّد بالتشديد أي‏:‏ مقصود‏.‏

    ج/ 17 ص -218-وقال الخطابي‏:‏ أصح الوجوه أنه السيد الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائج؛ لأن الاشتقاق يشهد له، فإن أصل الصمد‏:‏ القصد‏.‏ يقال‏:‏ أَصْمُدُ صَمْدَ فلان، أي‏:‏ أقصد قَصْدَهُ، فالصمد‏:‏ السيد الذي يصمد إليه في الأمور، ويقصد في الحوائج‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الصمد‏:‏ الباقي بعد خلقه‏.‏ وقال مجاهد، ومعمر‏:‏ هو الدائم‏.‏ وقد جعل الخطابي وأبو الفرج ابن الجوزي الأقوال فيه أربعة، هذين، واللذين تقدما‏.‏ وسنبين إن شاء الله أن بقاءه ودوامه من تمام الصمدية‏.‏ وعن مرة الهمداني‏:‏ هو الذي لا يبلي ولا يفني‏.‏ وعنه أيضًا قال‏:‏ هو الذي يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه‏.‏
    وقال ابن عطاء‏:‏ هو المتعالى عن الكون والفساد‏.‏ وعنه أيضًا قال‏:‏ الصمد الذي لم يتبين عليه أثر فيما أظهر يريد قوله‏:‏
    ‏"وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ هو الأزلي بلا ابتداء‏.‏ وقال محمد بن على الحكيم الترمذي ‏:‏ هو الأول بلا عدد، والباقي بلا أمد، والقائم بلا عمد‏.‏ وقال أيضًا ‏:‏ الصمد الذي لا تدركه الأبصار، ولا تحويه الأفكار، ولا تبلغه الأقطار، وكل شيء عنده بمقدار‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي جل عن شبه المصورين‏.‏ وقيل‏:‏ هو بمعني نفي التجزي والتأليف عن ذاته‏.‏ وهذا قول كثير من أهل الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي أيست العقول من الاطلاع على كيفيته‏.‏ وكذلك قيل‏:‏ هو الذي لا تدرك حقيقة نعوته

    ج/ 17 ص -219-وصفاته، فلا يتسع له اللسان، ولا يشير إليه البنان‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي لم يعط خلقه من معرفته إلا الاسم والصفة‏.‏ وعن الجنيد قال‏:‏ الذي لم يجعل لأعدائه سبيلًا إلى معرفته‏.‏
    ونحن نذكر ما حضرنا من ألفاظ السلف بأسانيدها، فروى ابن أبي حاتم في تفسيره قال‏:‏ ثنا أبي، ثنا محمد بن موسي بن نفيع الجرشي، ثنا عبد الله بن عيسي يعني أبا خلف الخزاز ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله‏:‏
    ‏"الصَّمَدُ‏"‏ قال‏:‏ الصمد الذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء‏.‏
    حدثنا أبو زُرْعَة، ثنا محمد بن ثعلبة بن سواء السَّدُوسي، ثنا محمد بن سواء، ثنا سعيد ابن أبي عَرُوَبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال‏:‏ الصمد‏:‏ الذي يصمد العباد إليه في حوائجهم‏.‏ ‏.‏ حدثنا أبي، ثنا عبد الرحمن بن الضحاك، ثنا سويد بن عبد العزيز، ثنا سفيان ابن حسين، عن الحسن قال‏:‏ الصمد‏:‏ الحي القيوم الذي لا زوال له‏.‏ حدثنا أبي، ثنا نصر ابن علي، ثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال‏:‏ الصمد‏:‏ الباقي بعد خلقه، وهو قول قتادة‏.‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، ثنا ابن نُمَيْر، عن الأعمش، عن شَقِيق في قوله‏:‏ ‏
    "الصَّمَدُ‏"‏ قال‏:‏ السيد الذي قد انتهى سؤدده‏.‏

    ج/ 17 ص -220-حدثنا أبي، ثنا أبو صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏ قال‏:‏ السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، هو الله سبحانه وتعالى هذه صفته لا تنبغي لأحد إلا له، ليس له كفؤ، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار‏.‏
    حدثنا كثير بن شهاب المدْحجي القزويني، ثنا محمد بن سعيد بن سابق، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏
    "الصَّمَدُ‏"‏ قال‏:‏ الذي لم يلد ولم يولد‏.‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رَجَاء، عن عِكْرِمَة في قوله‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏ قال‏:‏ الذي لم يخرج منه شيء‏.‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو أحمد، ثنا مَنْدَل بن علي، عن أبي روق عطية بن الحارث عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي ليس له أحشاء‏.‏ وروي عن سعيد بن المسيب مثله‏.‏
    حدثنا أبي، ثنا محمد بن عمر بن عبد الله الرومي، ثنا عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش عن صالح بن حيان، عن عبد الله بن بُرَيْدَة عن أبيه قال‏:‏ لا أعلمه إلا قد رفعه قال‏:‏ ‏
    "الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا جوف

    ج/ 17 ص -221-له‏.‏ وروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايات، والحسن وعكرمة وعطية وسعيد بن جُبَيْر ومجاهد في إحدى الروايات والضحاك مثل ذلك‏.‏ حدثنا أبي، ثنا قَبِيصة، ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال‏:‏ الصمد‏:‏ المصمت الذي لا جوف له‏.‏
    حدثنا أبو عبد الله الطهراني، ثنا حفص بن عمر العَدَني، ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله‏:‏
    ‏"الصَّمَدُ‏"‏ قال‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا يُطْعَم‏.‏ حدثنا أبي، ثنا على بن هاشم بن مرزوق، ثنا هُشَيْم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه قال‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب‏.‏ حدثنا أبي وأبو زُرْعَة قالا‏:‏ ثنا أحمد بن مَنِيع، ثنا محمد بن ميسر يعني أبا سعد الصغاني ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب في قوله‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏ قال‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يلد إلا يموت، وليس شيء يموت إلا يورث، وإن الله لا يموت، ولا يورث، ‏"وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ قال‏:‏ لم يكن له شبه ولا عدل، وليس كمثله شيء‏.‏
    حدثنا على بن الحسين، ثنا محمود بن خِدَاش، ثنا أبو سعد الصغاني، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب‏:‏ أن المشركين قالوا‏:‏ انسب لنا ربك، فأنزل الله

    ج/ 17 ص -222-هذه السورة‏.‏ حدثنا أبو زُرْعَة، ثنا العباس بن الوليد، ثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد عن قتادة ‏"وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏ قال‏:‏ إن الله لا يكافئه من خلقه أحد‏.‏ حدثنا على بن الحسين، ثنا أبو عبد الله الجرشي، ثنا أبو خلف عبد الله بن عيسي ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ إن اليهود جاءت إلى النبي ﷺ منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وجُدِّي بن أخطب، فقالوا‏:‏ يا محمد، صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ‏"‏ فيخرج منه الولد"وَلَمْ يُولَدْ‏" فيخرج منه شيء‏.‏
    وقال ابن جرير الطبري في تفسيره‏:‏ حدثنا أحمد بن منيع المروزي، ومحمود بن خداش الطالقاني، فذكر مثل إسناد ابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب سؤال المشركين للنبي ﷺ‏:‏ انسب لنا ربك، فأنزل الله‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏‏.‏ حدثنا ابن حميد، ثنا يحيي بن واضح، ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة؛ أن المشركين قالوا لرسول الله ﷺ أخبرنا عن صفة ربك ما هو‏؟‏ ومن أي شيء هو‏؟‏ فأنزل الله هذه السورة‏.‏ ورواه أيضًا عن أبي العالية، وعن جابر بن عبد الله، حدثنا شريح، ثنا إسماعيل بن مجاهد، عن الشعبي، عن جابر، فذكره قال‏:‏ وقيل‏:‏ هو من سؤال اليهود‏.‏
    حدثنا ابن حميد، ثنا سلمة، ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن سعيد

    ج/ 17 ص -223-قال‏:‏ أتي رهط من اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا‏:‏ يا محمد، هذا الله خلق الخلق فمن خلقه‏؟‏ فغضب النبي ﷺ حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبًا لربه، فجاءه جبريل فسكنه، وقال‏:‏ اخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه قال‏:‏ يقول الله‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ إلى آخرها فلما تلاها عليهم النبي ﷺ قالوا له‏:‏ صف لنا ربك كيف خَلْقه‏؟‏ كيف عَضده‏؟‏ كيف ساعده‏؟‏ وكيف ذراعه‏؟‏ فغضب النبي ﷺ أشد من غضبه الأول، وساورهم، فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته الأولى، وأتاه بجواب ما سألوه فأنزل الله‏:‏ ‏"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏
    وروي الحكم بن مَعْبَد في كتاب ‏[‏الرد على الجهمية‏]‏ قال‏:‏ ثنا عبد الله بن محمد بن النعمان، ثنا سلمة بن شبيب، ثنا يحيي بن عبد الله، ثنا ضرار، عن أبان، عن أنس قال‏:‏ أتت يهود خيبر إلى النبي ﷺ فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم، خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك‏؟‏ قال‏:‏ فلم يجبهم النبي ﷺ، فأتاه جبريل فقال‏:‏ يا محمد‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏، ليس له عروق شُعِّب إليها، ‏"الصَّمَدُ‏"‏ ليس بأجوف ولا يأكل

    ج/ 17 ص -224-ولا يشرب، ‏"لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏" ليس له ولد ولا والد ينسب إليه، ‏"وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏ ليس شيء من خلقه يعدل مكانه، يمسك السموات والأرض أن تزولا‏.‏ الحديث‏.‏
    وقال ابن جرير‏:‏ ثنا عبد الرحمن بن الأسود، ثنا محمد بن ربيعة، عن سلمة بن سابور، عن عطية، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏
    "الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي ليس بأجوف‏.‏ حدثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ المصمت الذي لا جوف له‏.‏ حدثنا أبو كُرَيْب، ثنا وَكيع، عن سفيان، عن منصور مثله سواء‏.‏
    حدثنا الحارث، ثنا الحسن، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد مثله‏.‏ حدثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا الربيع بن مسلم، عن الحسن، قال‏:‏ ‏
    "الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا جوف له، وبهذا الإسناد عن إبراهيم بن ميسرة قال‏:‏ أرسلني مجاهد إلى سعيد بن جبير أسأله عن"الصَّمَدُ‏"‏ فقال‏:‏ الذي لا جوف له‏.‏ حدثنا ابن بشار، ثنا يحيي، ثنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال‏:‏‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا يَطْعَمُ الطعام‏.‏ ورواه يعقوب، عن هُشَيْم، عن إسماعيل عنه قال‏:‏ لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب‏.‏
    حدثنا ابن بشار وزيد بن أخزم قالا‏:‏ ثنا ابن داود، عن المستقيم بن عبد الملك، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏
    ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا حشو

    ج/ 17 ص -225-له‏.‏ حدثنا الحسين، ثنا أبو معاذ، ثنا عبيد قال‏:‏ سمعت الضحاك يقول‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا جوف له‏.‏ وروي عن ابن بريدة فيه حديثًا مرفوعًا لكنه ضعيف قال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ هو الذي لا يخرج منه شيء‏.‏ حدثنا يعقوب بن أبي عُلَيَّة، عن أبي رجاء، سمعت عكرمة قال في قوله‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ لم يخرج منه شيء، لم يلد، ولم يولد‏.‏ حدثنا ابن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي رجاء محمد بن يوسف عن عكرمة قال‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا يخرج منه شيء‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ لم يلد ولم يولد، وذكر حديث أبي بن كعب الذي رواه ابن أبي حاتم، والذي فيه‏:‏ إنه سبحانه لا يموت ولا يورث‏.‏ قال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ هو السيد الذي انتهى في سؤدده‏.‏ قال‏:‏ وثنا أبو السائب، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شَقِيق قال‏:‏
    ‏"بصَّمّدٍ‏"‏‏:‏ هو السيد الذي انتهى في سؤدده‏.‏ حدثنا أبو كُرَيب وابن بشار وابن عبد الأعلى قالوا‏:‏ ثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي وائل قال‏:‏ ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ السيد الذي انتهى في سؤدده‏.‏ حدثنا ابن حميد، ثنا مِهْرَان، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل مثله‏.‏ حدثنا أبو صالح، ثنا معاوية عن علي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ "الصَّمَدُ‏"‏ قال‏:‏ السيد الذي قد كمل في سؤدده، وذكر مثل الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم، كما تقدم‏.‏

    ج/ 17 ص -226-قلت‏:‏ الاشتقاق يشهد للقولين جميعًا قول من قال‏:‏ إن ‏"الصَّمَدُ‏"‏‏:‏ الذي لا جوف له، وقول من قال‏:‏ إنه السيد‏.‏ وهو على الأول أدل؛ فإن الأول أصل للثاني، ولفظ ‏"الصَّمَدُ‏"‏ يقال على ما لا جوف له في اللغة‏.‏ قال يحيي بن أبي كثير‏:‏ الملائكة صمد والآدميون جوف‏.‏ وفي حديث آدم أن إبليس قال عنه‏:‏ إنه أجوف ليس بصمد‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ المصمد لغة في المصمت، وهو الذي لا جوف له‏.‏ قال‏:‏ والصماد‏:‏ عفاص القارورة‏.‏ وقال الصَّمْدُ‏:‏ المكان المرتفع الغليظ‏.‏ قال أبو النجم‏:‏
    يغادر الصمد كظهر الأجزل وأصل هذه المادة‏:‏ الجمع والقوة، ومنه يقال‏:‏ يصمد المال، أي يجمعه، وكذلك ‏[‏السيد‏]‏ أصله سيود، اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت‏.‏ كما قيل‏:‏ ميت وأصله ميوت‏.‏ والمادة في السواد والسؤدد تدل على الجمع، واللون الأسود هو الجامع للبصر‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏
    ‏"وَسَيِّدًا وَحَصُورًا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏، قال أكثر السلف‏:‏"وَسَيِّدًا‏"‏‏:‏ حليمًا‏.‏ وكذلك يروي عن الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، وأبي الشعثاء، والربيع بن أنس، ومقاتل‏.‏ وقال أبو روق عن الضحاك‏:‏ إنه الحسن الخلق‏.‏ وروي سالم عن سعيد بن جبير أنه التقي، ولا يسود الرجل الناس حتى يكون في نفسه مجتمع الخلق ثابتًا‏.‏

    ج/ 17 ص -227-وقال عبد الله بن عمر‏:‏ ما رأيت بعد رسول الله ﷺ أسود من معاوية، فقيل له‏:‏ ولا أبو بكر، ولا عمر، قال‏:‏ كان أبو بكر وعمر خيرًا منه، وما رأيت بعد رسول الله ﷺ أسود من معاوية‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ يعني به الحليم، أو قال‏:‏ الكريم؛ ولهذا قيل‏:‏

    إذا شئت يومًا أن تسود قبيلة فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم

    ولهذا فسر طائفة من السلف السيد بأنه سيد قومه في الدين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو الشريف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الذي يفوق قومه في الخير‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ السيد هنا الرئيس، والإمام في الخير‏.‏ وعن ابن عباس ومجاهد‏:‏ هو الكريم على ربه‏.‏ وعن سعيد بن المسيب‏:‏ هو الفقيه العالم‏.‏ وقد تقدم أنهم يقولون لعفاص القارورة‏:‏ صماد‏.‏ قال الجوهري‏:‏ العِفَاصُ‏:‏ جلدٌَ يلْبَسهُ رأسُ القارورة، وأما الذي يدخل في فمه فهو الصمام وقد عفصت القارورة، شددت عليها العفاص‏.‏
    قلت‏:‏ وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ في اللقطة‏:‏ ‏"‏ثم اعرف عفاصها ووكاءها‏"‏‏.‏ والمراد بالعفاص‏:‏ ما يكون فيه الدراهم كالخرقة التي تربط فيها الدراهم، والوكاء‏:‏ مثل الخيط الذي يربط به، وهذا من جنس عفاص القارورة‏.‏ ولفظ العفص والسد والصمد

    ج/ 17 ص -228-والجمع والسؤدد معانيها متشابهة، فيها الجمع والقوة‏:‏ ويقال‏:‏ طعام عفص وفيه عفوصة، أي‏:‏ تقبض، ومنه العفص الذي يتخذ منه الحبر‏.‏
    وقد قال الجوهري‏:‏ هو مولد ليس من كلام أهل البادية‏.‏ وهذا لا يضر؛ لأنه لم يكن عندهم عفص يسمونه بهذا الاسم، لكن التسمية به جارية على أصول كلام العرب، وكذلك تسميتهم لما يدخل في فمها صمام، فإن هذه المادة فيها معني الجمع والسد‏.‏
    قال الجوهري‏:‏ صمام القارورة سدادها، والحجر الأصم‏:‏ الصلب المصمت، والرجل الأصم‏:‏ هو الذي لا يسمع؛ لانسداد سمعه، والرجل الصمة‏:‏ الشجاع، والصمة‏:‏ الذكر من الحيات، وصميم الشيء‏:‏ خالصة، حيث لم يدخل إليه ما يفرقه ويضعفه، يقال‏:‏ صميم الحر، وصميم البرد، وفلان من صميم قومه، والصمصام‏:‏ الصارم القاطع الذي لا ينثني، وصمم في السير وغيره، أي‏:‏ مضي، ورجل صم، أي‏:‏ غليظ‏.‏
    ومنه في الاشتقاق الأكبر الصوم، فإن الصوم هو الإمساك‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم؛ لأن الإمساك فيه اجتماع، والصائم لا يدخل جوفه شيء، ويقال‏:‏ صام الفرس، إذا قام في غير اعتلاف‏.‏ قال النابغة‏:‏

    خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

    ج/ 17 ص -229-وكذلك السد والسداد والسؤدد والسواد، وكذلك لفظ الصمد فيه الجمع، والجمع فيه القوة، فإن الشيء كلما اجتمع بعضه إلى بعض، ولم يكن فيه خلل كان أقوي مما إذا كان فيه خلو؛ ولهذا يقال للمكان الغليظ المرتفع‏:‏ صمد؛ لقوته وتماسكه، واجتماع أجزائه، والرجل الصمد‏:‏ هو السيد المصمود، أي‏:‏ المقصود، يقال‏:‏ قصدته وقصدت له، وقصدت إليه، وكذلك هو مصمود، ومصمود له وإليه‏.‏ والناس إنما يقصدون في حوائجهم من يقوم بها، وإنما يقوم بها من يكون في نفسه مجتمعًا قويًا ثابتًا، وهو السيد الكريم، بخلاف من يكون هلوعًا جزوعًا يتفرق ويقلق ويتمزق من كثرة حوائجهم وثقلها، فإن هذا ليس بسيد صمد يصمدون إليه في حوائجهم‏.‏
    فهم إنما سموا السيد من الناس صمدًا؛ لما فيه من المعنى الذي لأجله يقصده الناس في حوائجهم، فليس معني السيد في لغتهم معني إضافي فقط كلفظ القرب والبعد بل هو معني قائم بالسيد؛ لأجله يقصده الناس‏.‏ والسيد من السؤدد والسواد‏.‏ وهذا من جنس السداد في الاشتقاق الأكبر، فإن العرب تعاقب بين حرف العلة والحرف المضاعف، كما يقولون‏:‏ تقضي البازي، وتقضض‏.‏ والساد‏:‏ هو الذي يسد غيره، فلا يبقي فيه خلو، ومنه سداد القارورة، وسداد الثغر بالكسر فيهما، وهو ما يسد ذلك، ومنه السَّداد بالفتح وهو الصواب، ومنه القول السديد‏.‏ قال

    ج/ 17 ص -230-الله تعالى‏:‏ ‏"اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 70‏]‏، قالوا‏:‏ قصدا حقًا، وعن ابن عباس‏:‏ صوابًا‏.‏ وعن قتادة ومقاتل‏:‏ عدلا‏.‏ وعن السدي‏:‏ مستقيمًا‏.‏ وكل هذه الأقوال صحيح، فإن القول السديد هو المطابق الموافق، فإن كان خبرًا، كان صدقًا مطابقًا لمخبره، لا يزيد ولا ينقص، وإن كان أمرًا، كان أمرًا بالعدل الذي لا يزيد ولا ينقص؛ ولهذا يفسرون السداد بالقصد، والقصد بالعدل‏.‏
    قال الجوهري‏:‏ التسديد‏:‏ التوفيق للسداد وهو الصواب والقصد في القول والعمل‏.‏ ورجل مسدد إذا كان يعمل بالسداد والقصد‏.‏ والمسدد‏:‏ المقوم، وسدد رمحه‏.‏ وأمر سديد وأسد، أي‏:‏ قاصد‏.‏ وقد استد الشيء، استقام‏.‏ قال الشاعر‏:‏

    أعلمه الرماية كل يوم فلما استد ساعده رماني

    وقال الأَصْمَعِي‏:‏ اشتد بالشين المعجمة ليس بشيء، وتعبيرهم عن السد بالقصد يدلك على أن لفظ القصد فيه معني الجمع والقوة‏.‏ والقصد‏:‏ العدل كما أنه السداد والصواب، وهو المطابق الموافق الذي لا يزيد ولا ينقص، وهذا هو الجامع المطابق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ‏"[‏النحل‏:‏ 9‏]‏ أي‏:‏ السبيل القصد، وهو السبيل العدل؛ أي‏:‏ إليه تنتهي السبيل العادلة، كما قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏"‏[‏الليل‏:‏ 12‏]‏‏.‏ أي‏:‏ الهدي إلينا‏.‏

    ج/ 17 ص -231-هذا أصح الأقوال في الآيتين، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"قَالَ هَذَا صِرَاطٌ على مُسْتَقِيمٌ‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 41‏]‏‏.‏
    ومنه الاشتقاق الأوسط‏:‏ الصدق، فإن حروفه حروف القصد، فمنه الصدق في الحديث لمطابقته مخبره، كما قيل في السداد‏.‏ والصَّدق بالفتح الصلب من الرماح‏.‏ ويقال‏:‏ المستوي، فهو معتدل صلب ليس فيه خلل ولا عوج‏.‏ والصندوق واحد الصناديق، فإنه يجمع ما يوضع فيه‏.‏
    ومما ينبغي أن يعرف في باب الاشتقاق أنه إذا قيل‏:‏ هذا مشتق من هذا، فله معنيان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن بين القولين تناسبا في اللفظ والمعني، سواء كان أهل اللغة تكلموا بهذا بعد هذا أو بهذا بعد هذا، وعلى هذا فكل من القولين مشتق من الآخر، فإن المقصود أنه مناسب له لفظًا ومعني، كما يقال‏:‏ هذا الماء من هذا الماء، وهذا الكلام من هذا الكلام، وعلى هذا فإذا قيل‏:‏ إن الفعل مشتق من المصدر، أو المصدر مشتق من الفعل، كان كلا القولين صحيحًا، وهذا هو الاشتقاق الذي يقوم عليه دليل التصريف‏.‏
    وأما المعنى الثاني في الاشتقاق‏:‏ وهو أن يكون أحدهما أصلًا للآخر،

    ج/ 17 ص -232-فهذا إذا عني به أن أحدهما تكلم به قبل الآخر لم يقم على هذا دليل في أكثر المواضع، وإن عني به أن أحدهما متقدم على الآخر في العقل لكون هذا مفردًا وهذا مركبًا، فالفعل مشتق من المصدر، والاشتقاق الأصغر اتفاق القولين في الحروف وترتيبها، والأوسط اتفاقهما في الحروف لا في الترتيب، والأكبر اتفاقهما في أعيان بعض الحروف وفي الجنس لا في الباقي، كاتفاقهما في كونهما من حروف الحلق، إذا قيل‏:‏ حزر وعزر وأزر، فإن الجميع فيه معني القوة والشدة، وقد اشتركت مع الراء والزاي والحاء، في أن الثلاثة حروف حلقية، وعلى هذا فإذا قيل‏:‏ الصمد بمعني المصمت، وأنه مشتق منه بهذا الاعتبار، فهو صحيح؛ فإن الدال أخت التاء، فإن الصمت السكوت، وهو إمساك وإطباق للفم عن الكلام‏.‏
    قال أبو عبيد‏:‏ المصمت‏:‏ الذي لا جوف له، وقد أصمته أنا، وباب مصمت‏:‏ قد أبهم إغلاقه، والمصمت من الخيل‏:‏ البهيم، أي‏:‏ لا يخالط لونه لون آخر‏.‏ ومنه قول ابن عباس‏:‏ إنما حرم من الحرير المصمت‏.‏ فالمصمد والمصمت متفقان في الاشتقاق الأكبر، وليست الدال منقلبة عن التاء، بل الدال أقوي، والمصمد أكمل في معناه من المصمت، وكلما قوي الحرف كان معناه أقوي، فإن لغة العرب في غاية الإحكام والتناسب؛ ولهذا كان الصمت‏:‏ إمساك عن الكلام مع

    ج/ 17 ص -233-إمكانه، والإنسان أجوف يخرج الكلام من فيه لكنه قد يصمت، بخلاف الصمد، فإنه إنما استعمل فيما لا تفرق فيه، كالصمد والسيد والصمد من الأرض وصماد القارورة، ونحو ذلك، فليس في هذه الألفاظ المتناسبة أكمل من ألفاظ الصمد، فإن فيه الصاد والميم والدال، وكل من هذه الحروف الثلاثة لها مزية على ما يناسبها من الحروف، والمعاني المدلول عليها بمثل هذه الحروف أكمل‏.‏
    ومما يناسب هذه المعاني معني ‏[‏الصبر‏]‏، فإن الصبر فيه جمع وإمساك؛ ولهذا قيل‏:‏ الصبر‏:‏ حبس النفس عن الجزع‏.‏ يقال‏:‏ صبر وصبرته أنا‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏
    ‏"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ‏"‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏، وكذلك معني السيد الصمد خلاف معني الجزوع المنوع‏.‏ ومنه الصبرة من الطعام، فإنها مجتمعة مكومة‏.‏ والصِّبَارَةُ‏:‏ الحجارة‏.‏ وصبر الشيء‏:‏ غلظه، وضده الجزع، وفيه معني التقطع والتفرق‏.‏ يقال‏:‏ جَزَعَ له جَزْعَةً من المال، أي‏:‏ قطع له قطعة، والجُزيْعَةُ‏:‏ القطعة من الغنم، واجْتَزَعْتُ من الشجر عودًا، أي‏:‏ اقتطعته واكتسرته، وجَزَعْتُ الوادي‏:‏ إذا قَطَعْتُهُ عرضًا، والجِزْع‏:‏ منعطف الوادي، ومنه الجَزْعُ‏:‏ وهو الخرز اليماني الذي فيه بياض وسواد، وكذلك جزع البُسْرَ تجزيعًا‏:‏ إذا أرطب نصفه أو ثلثاه، وهو خلاف قولهم‏:‏ مصمت للون الواحد لما في ذلك من الاجتماع، وفي هذا من التفرق‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏"‏[‏المعارج‏:‏ 19‏:‏ 21‏]‏،

    ج/ 17 ص -234-قال الجوهري‏:‏ الهَلَعُ‏:‏ أفحش الجزع‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو في اللغة‏:‏ أشد الحرص وأسوأ الجزع‏.‏ ومنه قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع‏"‏‏.‏ وناقة هلوع‏:‏ إذا كانت سريعة السير خفيفة، وذئب هُلَعٌ بُلَعٌ، والهلْعُ من الحرص، والبلع من الابتلاع؛ ولهذا كان كلام السلف في تفسيره يتضمن هذه المعاني‏.‏ فروي عن ابن عباس قال‏:‏ هو الذي إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ هو الحريص على ما لا يحل له‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ شحيحًا‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ ضجورًا‏.‏ وعن جعفر‏:‏ حريصًا‏.‏ وعن الحسن والضحاك‏:‏ بخيلًا‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ شرهًا‏.‏ وعن الضحاك أيضًا‏:‏ الهلوع‏:‏ الذي لا يشبع‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ ضيق القلب‏.‏ وعن عطاء‏:‏ عجولًا، وهذه المعاني كلها تنافي الثبات والقوة والاجتماع، والإمساك والصبر، وقد قال تعالى‏:‏‏"لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 110‏]‏، وهذا وإن كان قد قيل‏:‏ إن المراد به أنها تنصدع فيموتون، فإنه كما قيل في مثل ذلك‏:‏ قد انصدع قلبه، وقد تفرق قلبي، وقد تشتت قلبي‏.‏ وقد تقسم قلبي، ومنه يقال للخوف‏:‏ قد فرق قلبه، ويقال‏:‏ بإزاء ذلك هو ثابت القلب مجتمع القلب، مجموع القلب‏.‏

    ج/ 17 ص -235-فصل
    قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏"‏، فأدخل اللام في الصمد، ولم يدخلها في أحد؛ لأنه ليس في الموجودات ما يسمي أحدًا في الإثبات مفردًا غير مضاف إلا الله تعالى بخلاف النفي وما في معناه، كالشرط والاستفهام، فإنه يقال‏:‏ هل عندك أحد‏؟‏ وإن جاءني أحد من جهتك أكرمته، وإنما استعمل في العدد المطلق، يقال‏:‏ أحد، اثنان‏.‏ ويقال‏:‏ أحد عشر‏.‏ وفي أول الأيام يقال‏:‏ يوم الأحد، فإن فيه على أصح القولين ابتدأ الله خلق السموات والأرض وما بينهما‏.‏ كما دل عليه القرآن والأحاديث الصحيحة، فإن القرآن أخبر في غير موضع‏:‏ أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام‏.‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح المتفق على صحته‏:‏ أن آخر المخلوقات كان آدم، خلق يوم الجمعة‏.‏ وإذا كان آخر الخلق كان يوم الجمعة دل على أن أوله كان يوم الأحد؛ لأنها ستة‏.‏
    وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله‏:‏ ‏"‏خلق الله التربة يوم السبت‏"‏ فهو حديث معلول، قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره،

    ج/ 17 ص -236-قال البخاري‏:‏ الصحيح أنه موقوف على كعب، وقد ذكر تعليله البيهقي أيضًا وبينوا أنه غلط ليس مما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ، وهو مما أنكر الحذاق على مسلم إخراجه إياه، كما أنكروا عليه إخراج أشياء يسيرة‏.‏ وقد بسط هذا في مواضع أخر، وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في قوله تعالى‏:‏ ‏"خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏، قال ابن عباس‏:‏ خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين، وبه قال عبد الله بن سلام والضحاك ومجاهد وابن جريج والسدي والأكثرون‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في يوم الثلاثاء والأربعاء‏.‏
    قال‏:‏ وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة‏:‏ ‏"‏خلق الله التربة يوم السبت‏"‏ قال‏:‏ وهذا الحديث مخالف لما تقدم، وهو أصح، فصحح هذا لظنه صحة الحديث، إذ رواه مسلم، ولكن هذا له نظائر روي مسلم أحاديث قد عرف أنها غلط، مثل قول أبي سفيان لما أسلم‏:‏ أريد أن أزوجك أم حبيبة، ولا خلاف بين الناس أنه تزوجها قبل إسلام أبي سفيان، ولكن هذا قليل جدًا‏.‏ ومثل ما روي في بعض طرق حديث صلاة الكسوف أنه صلاها بثلاث ركوعات وأربع، والصواب أنه لم يصلها إلا مرة واحد بركوعين؛ ولهذا لم يخرج البخاري إلا هذا، وكذلك الشافعي، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وغيرهما، والبخاري سلم من مثل هذا؛ فإنه إذا وقع في بعض

    ج/ 17 ص -237-الروايات غلط ذكر الروايات المحفوظة التي تبين غلط الغالط، فإنه كان أعرف بالحديث وعلله، وأفقه في معانيه من مسلم ونحوه‏.‏ وذكر ابن الجوزي في موضع آخر أن هذا قول ابن إسحاق قال‏:‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ وهذا إجماع أهل العلم‏.‏
    وذكر قولًا ثالثًا في ابتداء الخلق‏:‏ أنه يوم الإثنين، وقاله ابن إسحاق، وهذا تناقض‏.‏ وذكر أن هذا قول أهل الإنجيل، والابتداء بيوم الأحد قول أهل التوراة‏.‏ وهذا النقل غلط على أهل الإنجيل، كما غلط من جعل الأول إجماع أهل العلم من المسلمين‏.‏ وكأن هؤلاء ظنوا أن كل أمة تجعل اجتماعها في اليوم السابع من الأيام السبعة التي خلق الله فيها العالم، وهذا غلط؛ فإن المسلمين إنما اجتماعهم في آخر يوم خلق الله فيه العالم، وهو يوم الجمعة، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة‏.‏
    والمقصود هنا أن لفظ الأحد لم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده، وإنما يستعمل في غير الله في النفي، قال أهل اللغة يقول‏:‏ لا أحد في الدار، ولا تقل فيها أحد؛ ولهذا لم يجئ في القرآن إلا في غير الموجب، كقوله تعالى‏:‏
    ‏"فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏"‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 47‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏"لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏، وقوله‏:‏

    ج/ 17 ص -238-"وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏، وفي الإضافة كقوله‏:‏ ‏"فَابْعَثُوا أَحَدَكُم‏"‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏، ‏"جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 32‏]‏‏.‏
    وأما اسم ‏
    "الصَّمَدُ‏"‏، فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين كما تقدم‏.‏ فلم يقل‏:‏ الله صمد، بل قال‏:‏ ‏"اللَّهُ الصَّمَدُ‏"‏ فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال، والمخلوق وإن كان صمدًا من بعض الوجوه، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه؛ فإنه يقبل التفرق والتجزئة، وهو- أيضًا - محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوي الله محتاج إليه من كل وجه، فليس لأحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ، ويتفرق، ويتقسم، وينفصل بعضه من بعض، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه، فهو أحد لا يمثاله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه، كما قال في آخر السورة‏:‏ ‏"وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏، استعملها هنا في النفي، أي‏:‏ ليس شيء من الأشياء كفوا له في شيء من الأشياء؛ لأنه أحد‏.‏
    وقال رجل للنبي ﷺ‏:‏ أنت سيدنا فقال‏:‏ ‏[‏السيد

    ج/ 17 ص -239-الله‏]‏ ودل قوله‏:‏ ‏[‏الأحد، الصمد‏]‏ على أنه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد؛ فإن الصمد‏:‏ هو الذي لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء، فلا يأكل ولا يشرب سبحانه وتعالى كما قال‏:‏ ‏"قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ‏"‏ [‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏، وفي قراءة الأعمش وغيره‏:‏ ‏[‏ولا يَطْعَمْ‏]‏ بالفتح‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمتينُ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏:‏ 58‏]‏، ومن مخلوقاته الملائكة، وهم صمد لا يأكلون ولا يشربون، فالخالق لهم جل جلاله أحق بكل غني وكمال جعله لبعض مخلوقاته؛ فلهذا فسر بعض السلف الصمد‏:‏ بأنه الذي لا يأكل ولا يشرب، والصمد‏:‏ المصمد الذي لا جوف له، فلا يخرج منه عين من الأعيان، فلا يلد‏.‏
    ولذلك قال من قال من السلف‏:‏ هو الذي لا يخرج منه شيء، ليس مرادهم أنه لا يتكلم، وإن كان يقال في الكلام‏:‏ إنه خرج منه، كما قال في الحديث‏:‏ ‏"‏ما تقرب العباد إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه‏"‏ يعني‏:‏ القرآن، وقال أبو بكر الصديق لما سمع قرآن مسيلمة‏:‏ إن هذا لم يخرج من إلٍّ‏.‏ فخروج الكلام من المتكلم هو بمعني أنه يتكلم به فيسمع منه، ويبلغ إلى غيره ليس بمخلوق في غيره، كما يقول الجهمية‏:‏ ليس بمعني أن شيئا من الأشياء القائمة به يفارقه، وينتقل عنه إلى غيره،

    ج/ 17 ص -240-فإن هذا ممتنع في صفات المخلوقين، أن تفارق الصفة محلها، وتنتقل إلى غير محلها، فكيف بصفات الخالق جل جلاله‏.‏ وقد قال تعالى في كلام المخلوقين‏:‏ ‏"كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏، وتلك الكلمة هي قائمة بالمتكلم، وسمعت منه ليس خروجها من فيه، أن ما قام بذاته من الكلام فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، فخروج كل شيء بحسبه، ومن شأن العلم والكلام إذا استفيد من العالم والمتكلم ألا ينقص من محله؛ ولهذا شبه بالنور الذي يقتبس منه كل أحد الضوء، وهو باق على حاله لم ينقص، فقول من قال من السلف‏:‏ الصمد‏:‏ هو الذي لم يخرج منه شيء، كلام صحيح، بمعني أنه لا يفارقه شيء منه‏.‏
    ولهذا امتنع عليه أن يلد وأن يولد؛ وذلك أن الولادة والتولد وكل ما يكون من هذه الألفاظ لا يكون إلا من أصلين، وما كان من المتولد عينًا قائمة بنفسها، فلابد لها من مادة تخرج منها، وما كان عرضًا قائمًا بغيره، فلابد له من محل يقوم به‏.‏
    فالأول‏:‏ نفاه بقوله‏:‏ ‏
    "أحد‏"‏، فإن الأحد‏:‏ هو الذي لا كفؤ له ولا نظير، فيمتنع أن تكون له صاحبة، والتولد إنما يكون بين شيء ين، قال تعالى‏:‏ ‏"أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏، فنفي سبحانه الولد بامتناع لازمه عليه، فإن انتفاء اللازم يدل

    ج/ 17 ص -241-على انتفاء الملزوم، وبأنه خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، ليس فيه شيء مولود له‏.‏
    والثاني‏:‏ نفاه بكونه سبحانه الصمد، وهذا المتولد من أصلين يكون بجزئين ينفصلان من الأصلين، كتولد الحيوان من أبيه وأمه بالمنى الذي ينفصل من أبيه وأمه، فهذا التولد يفتقر إلى أصل آخر، وإلى أن يخرج منهما شيء، وكل ذلك ممتنع في حق الله تعالى فإنه أحد، فليس له كفؤ يكون صاحبة ونظيرًا، وهو صمد لا يخرج منه شيء، فكل واحد من كونه أحدًا، ومن كونه صمدًا يمنع أن يكون والدًا، ويمنع أن يكون مولودًا بطريق الأولى والأحرى‏.‏
    وكما أن التوالد في الحيوان لا يكون إلا من أصلين سواء كان الأصلان من جنس الولد، وهو الحيوان المتوالد، أو من غير جنسه، وهو المتولد فكذلك في غير الحيوان كالنار المتولدة من الزندين، سواء كانا خشبتين، أو كانا حجرًا وحديدًا، أو غير ذلك، قال الله تعالى‏:‏
    ‏"فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا‏"‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ‏"‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 71‏:‏ 73‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏:‏ 80‏]‏،

    ج/ 17 ص -242-قال غير واحد من المفسرين‏:‏ هما شجرتان يقال لأحدهما‏:‏ المرخ، والأخرى‏:‏ العفار‏.‏ فمن أراد منهما النار؛ قطع منهما غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثي فتخرج منهما النار بإذن الله تعالي‏.‏ وتقول العرب‏:‏ في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ في كل شجرة نار إلا العناب، ‏"فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏، فذلك زنادهم‏.‏
    وقد قال أهل اللغة الجوهري وغيره‏:‏ الزند‏:‏ العود الذي يقدح به النار، وهو الأعلي‏.‏ والزندة السفلي فيها ثقب، وهي الأنثي، فإذا اجتمعا قيل‏:‏ زندان‏.‏
    وقال أهل الخبرة بهذا‏:‏ إنهم يسحقون الثقب الذي في الأنثى بالأعلى كما يفعل ذكر الحيوان في أنثاه، فبذلك السحق والحك يخرج منهما أجزاء ناعمة تنقدح منها النار، فتتولد النار من مادة الذكر والأنثي كما يتولد الولد من مادة الرجل والمرأة، وسحق الأنثي بالذكر وقدحها به يقتضي حرارة كل منهما، ويتحلل من كل منهما مادة تنقدح منها النار، كما أن إيلاج ذكر الحيوان في أنثاه بقدح وحك فرجها بفرجه، فتقوي حرارة كل منهما، ويتحلل من كل منهما مادة تمتزج بالأخرى، ويتولد منهما الولد، ويقال‏:‏ علقت النار في المحل الذي يقدح عليه، الذي هو

    ج/ 17 ص -243-كالرحم للولد، وهو الحِرَاق والصُّوفان، ونحو ذلك مما يكون أسرع قبولًا للنار من غيره، كما علقت المرأة من الرجل، وقد لا تعلق النار كما قد لا تعلق المرأة، وقد لا تنقدح نار كما لا ينزل مني، والنار ليست من جنس الزنادين، بل تولد النار منهما كتولد حيوان من الماء والطين، فإن الحيوان نوعان‏:‏ مُتَوَالَد كالإنسان وبهيمة الأنعام، وغير ذلك مما يخلق من أبوين‏.‏ ومُتَوَلِّد كالذي يتولد من الفاكهة والخل، وكالقمل الذي يتولد من وسخ جلد الإنسان، وكالفأر والبراغيث، وغير ذلك مما يخلق من الماء والتراب‏.‏
    وقد تنازع الناس فيما يخلقه الله من الحيوان والنبات والمعدن والمطر والنار التي توري بالزناد وغير ذلك‏:‏ هل تحدث أعيان هذه الأجسام فيقلب هذا الجنس إلى جنس آخر، كما يقلب المنى علقة ثم مضغة، أو لا تحدث إلا أعراض، وأما الأعيان التي هي الجواهر، فهي باقية بغير صفاتها بما يحدثه فيها من الأكوان الأربعة‏:‏ الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون‏؟‏ على قولين‏:‏
    فالقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل التجزي كما يقوله كثير من أهل الكلام، وإما من جواهر لا نهاية لها كما يحكى عن النظّام‏.‏

    ج/ 17 ص -244-فالقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر يقولون‏:‏ إن الله لا يحدث شيئا قائمًا بنفسه، وإنما يحدث الأعراض التي هي الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون، وغير ذلك من الأعراض‏.‏ ثم من قال منهم بأن الجواهر محدثة قال‏:‏ إن الله أحدثها ابتداء، ثم جميع ما يحدثه إنما هو إحداث أعراض فيها لا يحدث الله بعد ذلك جواهر، وهذا قول أكثر المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم، ومن أكابر هؤلاء من يظن أن هذا مذهب المسلمين، ويذكر إجماع المسلمين عليه، وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة، ولا جمهور الأمة؛ بل جمهور الأمة حتى من طوائف أهل الكلام ينكرون الجوهر الفرد، وتركب الأجسام من الجواهر، وابن كُلاَّب إمام أتباعه هو ممن ينكر الجوهر الفرد، وقد ذكر ذلك أبو بكر ابن فورك في مصنفه الذي صنفه في مقالات ابن كُلاَّب، وما بينه وبين الأشعري من الخلاف، وهكذا نفي الجوهر الفرد قول الهشامية والضرارية، وكثير من الكرامية والنجارية أيضًا‏.‏
    وهؤلاء القائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، المشهور عنهم بأن الجواهر متماثلة؛ بل ويقولون أو أكثرهم‏:‏ إن الأجسام متماثلة؛ لأنها مركبة من الجواهر المتماثلة وإنما اختلفت باختلاف الأعراض، وتلك صفات عارضة لها ليست لازمة، فلا تنفي التماثل، فإن حد المثلين أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه‏.‏ ما يمتنع عليه وهم يقولون‏:‏ إن الجواهر متماثلة، فيجوز

    ج/ 17 ص -245-على كل واحد ما جاز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه‏.‏
    وكذلك الأجسام المؤلفة من الجواهر؛ ولهذا إذا أثبتوا حكمًا لجسم قالوا‏:‏ هذا ثابت لجميع الأجسام، بناء على التماثل، وأكثر العقلاء ينكرون هذا، وحذاقهم قد أبطلوا الحجج التي احتجوا بها على التماثل، كما ذكر ذلك الرازي والآمدي وغيرهما‏.‏ وقد بسط الكلام على هذا في مواضع‏.‏ والأشعري في كتاب ‏[‏الإبانة‏]‏ جعل القول بتماثل الأجسام من أقوال المعتزلة التي أنكرها‏.‏
    وهؤلاء يقولون‏:‏ إن الله يخص أحد الجسمين المتماثلين بأعراض دون الآخر بمجرد المشيء ة، على أصل الجهمية، أو لمعني آخر كما تقوله القدرية‏.‏ ويقولون‏:‏ يمتنع انقلاب الأجناس، فلا ينقلب الجسم عرضًا، ولا جنس من الأعراض إلى جنس آخر، فلو قالوا‏:‏ إن الأجسام مخلوقة، وإن المخلوق ينقلب من جنس إلى جنس آخر، لزم انقلاب الأجناس‏.‏ فهؤلاء يقولون‏:‏ إن التولد الحاصل في الرحم، والثمر الحاصل في الشجر، والنار الحاصلة من الزناد هي جواهر كانت في المادة التي خلق ذلك منها، وهي باقية، لكن غيرت صفتها بالاجتماع والافتراق والحركة والسكون‏.‏

    ج/ 17 ص -246-ولهذا لما ذكر أبو عبد الله الرازي أدلة ‏[‏إثبات الصانع‏]‏ ذكر أربعة طرق‏:‏ إمكان الذوات وحدوثها، وإمكان الصفات وحدوثها، والطرق الثلاثة الأول ضعيفة، بل باطلة؛ فإن الذوات التي ادعوا حدوثها أو إمكانها أو إمكان صفاتها ذكروها بألفاظ مجملة لا يتميز فيها الخالق عن المخلوق، ولم يقيموا على ما ادعوه دليلًا صحيحًا‏.‏
    وأما الطريق الرابع وهو الحدوث لما يعلم حدوثه فهو طريق صحيح، وهو طريق القرآن، لكن قصروا فيه غاية التقصير؛ فإنهم على أصلهم لم يشهدوا حدوث شيء من الذوات، بل حدوث الصفات، وطريقة القرآن تبين أن كل ما سوى الله مخلوق، وأنه آية لله، وقد بسط الكلام على ما في القرآن من البراهين والآيات التي لم يصل إليها هؤلاء المتكلمة والمتفلسفة، وإن كل ما عندهم من حق فهو جزء مما دل عليه القرآن في غير موضع‏.‏
    والمقصود هنا أن هؤلاء لما كان هذا أصلهم في ابتداء الخلق - وهو القول بإثبات الجوهر الفرد كان أصلهم في المعاد مبنيًا عليه فصاروا على قولين‏:‏
    منهم من يقول‏:‏ تعدم الجواهر ثم تعاد‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ تتفرق الأجزاء ثم تجتمع، فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك

    ج/ 17 ص -247-الحيوان أكله إنسان آخر، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا لم تعد من هذا‏.‏ وأورد عليهم أن الإنسان يتحلل دائمًا فما الذي يعاد أهو الذي كان وقت الموت‏؟‏ فإن قيل بذلك، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض‏.‏ فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، ليس فيه شيء باق، فسار ما ذكروه في المعاد مما قوي شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان، وأوجب أن صار طائفة من النظار إلى أن الله يخلق بدنًا آخر تعود الروح إليه‏.‏
    والمقصود تنعيم الروح وتعذيبها سواء كان هذا في البدن أو في غيره، وهذا أيضًا مخالف للنصوص الصريحة بإعادة هذا البدن‏.‏ وهذا المذكور في كتب الرازي، فليس في كتبه وكتب أمثاله في مسائل أصول الدين الكبار القول الصحيح الذي يوافق المنقول والمعقول، الذي بعث الله به الرسول، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها، بل يذكر بحوث المتفلسفة الملاحدة، وبحوث المتكلمين المبتدعة الذين بنوا على أصول الجهمية والقدرية في مسائل الخلق، والبعث والمبدأ، والمعاد، وكلا الطريقين فاسد؛ إذ بنوه على مقدمات فاسدة، والقول الذي عليه

    ج/ 17 ص -248-السلف وجمهور العقلاء من أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، إنما يذكره عن الفلاسفة والأطباء‏.‏ وهذا القول وهو القول في خلق الله للأجسام التي يشاهد حدوثها أنه يقلبها ويحيلها من جسم إلى جسم هو الذي عليه السلف والفقهاء قاطبة والجمهور‏.‏
    ولهذا يقول الفقهاء في النجاسة‏:‏ هل تطهر بالاستحالة أم لا‏؟‏ كما تستحيل العذرة رمادًا، والخنزير وغيره ملحًا، ونحو ذلك، والمنى الذي في الرحم يقلبه الله علقة ثم مضغة، وكذلك الثمر يخلق بقلب المادة التي يخرجها من الشجرة من الرطوبة مع الهواء والماء الذي نزل عليها، وغير ذلك من المواد التي يقلبها ثمرة بمشيئته وقدرته، وكذلك الحبة يفلقها وتنقلب المواد التي يخلقها منها سنبلة وشجرة وغير ذلك، وهكذا خلقه لما يخلقه سبحانه وتعالى كما خلق آدم من الطين، فقلب حقيقة الطين، فجعلها عظمًا ولحمًا وغير ذلك من أجزاء البدن، وكذلك المضغة يقلبها عظامًا، وغير عظام‏.‏ قال الله تعالى‏:‏
    ‏"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏:‏ 16‏]‏‏.‏
    وكذلك النار يخلقها بقلب بعض أجزاء الزناد نارًا، كما قال تعالى‏:‏

    ج/ 17 ص -249-‏"الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 80‏]‏‏.‏ فنفس تلك الأجزاء التي خرجت من الشجر الأخضر جعلها الله نارًا من غير أن يكون كان في الشجر الأخضر نار أصلًا، كما لم يكن في الشجرة ثمرة أصلًا، ولا كان في بطن المرأة جنين أصلًا؛ بل خلق هذا الموجود من مادة غيره بقلبه تلك المادة إلى هذا، وبما ضمه إلى هذا من مواد أخر، وكذلك الإعادة يعيده بعد أن يبلي كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏كل ابن آدم يبلى إلا عَجْبَ الذَّنَبِ‏.‏ منه خلق ابن آدم، ومنه يركب‏"‏‏.‏
    وهو إذا أعاد الإنسان في النشأة الثانية لم تكن تلك النشأة مماثلة لهذه، فإن هذه كائنة فاسدة، وتلك كائنة لا فاسدة، بل باقية دائمة، وليس لأهل الجنة فضلات فاسدة تخرج منهم، كما ثبت في الصحيح، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يتمخطون وإنما هو رشح كرشح المسك‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين، عن النبي ﷺ؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏يحشر الناس حُفاةً عُراةً غُرْلًا‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏"كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏ فهم يعودون غلفًا لا مختونين‏.‏
    وقال الحسن البصري ومجاهد‏:‏ كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بدأهم من

    ج/ 17 ص -250-التراب، وإلى التراب يعودون، كما قال تعالى‏:‏ ‏"مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏"‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏‏.‏
    وهو قد شبه سبحانه إعادة الناس في النشأة الأخرى بإحياء الأرض بعد موتها في غير موضع كقوله‏:‏
    ‏"وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 7‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"ييَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيئا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5، 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ‏"‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

    ج/ 17 ص -251-وهو سبحانه مع إخباره أنه يعيد الخلق، وأنه يحيي العظام وهي رميم، وأنه يخرج الناس من الأرض تارة أخرى، هو يخبر أن المعاد هو المبدأ، كقوله تعالى‏:‏ ‏"وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ‏"‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، ويخبر أن الثاني مثل الأول، كقوله تعالى‏:‏ ‏"وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لاَّ رَيْبَ فِيهِ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 98‏:‏ 99‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏:‏ 52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أو ليسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏"‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏، وقال‏:‏ ‏"أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ‏"‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 58‏:‏ 62‏]‏‏.‏
    والمراد بقدرته على خلق مثلهم هو قدرته على إعادتهم، كما أخبر

    ج/ 17 ص -252-بذلك في قوله‏:‏ ‏"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏"‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏، فإن القوم ما كانوا ينازعون في أن الله يخلق في هذه الدار ناسًا أمثالهم، فإن هذا هو الواقع المشاهد يخلق قرنًا بعد قرن، يخلق الولد من الوالدين، وهذه هي النشأة الأولى، وقد علموها، وبها احتج عليهم على قدرته على النشأة الآخرة، كما قال‏:‏ ‏"وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُون‏"‏[‏الواقعة‏:‏ 62‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 78، 79‏]‏، وقال‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ‏"‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏
    ولهذا قال‏:‏
    ‏"عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ‏"‏‏.‏ قال الحسن بن الفضل البجلي‏:‏ الذي عندي في هذه الآية‏:‏ ‏"وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى‏"‏ أي‏:‏ أخلقكم للبعث بعد الموت من حيث لا تعلمون، كيف شئت، وذلك أنكم علمتم النشأة الأولى، كيف كانت في بطون الأمهات، وليست الأخرى كذلك‏.‏ ومعلوم أن النشأة الأولى كان الإنسان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة مخلقة، ثم ينفخ فيه الروح، وتلك النطفة من منى الرجل والمرأة، وهو يغذيه بدم الطمث الذي يربي الله به الجنين في ظلمات ثلاث‏:‏ ظلمة المشيمة، وظلمة

    ج/ 17 ص -253-الرحم، وظلمة البطن‏.‏ والنشأة الثانية لا يكونون في بطن امرأة، ولا يغذون بدم، ولا يكون أحدهم نطفة رجل وامرأة، ثم يصير علقة بل ينشؤون نشأة أخرى، وتكون المادة من التراب، كما قال‏:‏ ‏"مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى‏"‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا‏"‏[‏نوح‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏إن الأرض تمطر مطرًا كمنى الرجال ينبتون في القبور كما ينبت النبات‏"‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏"كَذَلِكَ الْخُرُوجُ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 11‏]‏، ‏"كَذَلِكَ النُّشُورُ‏"‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏، ‏"كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏‏.‏
    فعلم أن النشأتين نوعان تحت جنس، يتفقان ويتماثلان ويتشابهان من وجه، ويفترقان ويتنوعان من وجه آخر؛ ولهذا جعل المعاد هو المبدأ، وجعل مثله أيضًا فباعتبار اتفاق المبدأ والمعاد فهو هو، وباعتبار ما بين النشأتين من الفرق فهو مثله، وهكذا كل ما أعيد‏.‏ فلفظ الإعادة يقتضي المبدأ والمعاد، سواء في ذلك إعادة الأجسام والأعراض كإعادة الصلاة وغيرها، فإن النبي ﷺ مر برجل يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة‏.‏ ويقال للرجل‏:‏ أعد كلامك، وفلان قد أعاد كلام فلان بعينه، ويعيد الدرس‏.‏ فالكلام هو الكلام وإن كان صوت الثاني غير صوت الأول وحركته، ولا

    ج/ 17 ص -254-يطلق القول عليه أنه مثله، بل قد قال تعالى‏:‏ ‏"كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏، وكان رسول الله ﷺ إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا‏.‏
    وإن كان يسمي مثلًا مقيدًا حتى يقال لمن حكي كلام غيره‏:‏ هكذا قال فلان، أي‏:‏ مثل هذا قال، ويقال‏:‏ فعل هذا عودًا على بدء، إذا فعله مرة ثانية بعد أولى‏.‏ ومنه البئر البدي، والبئر العادي، فالبدي التي ابتدئت، والعادي التي أعيدت، وليست بنسبة إلى عاد، كما قيل‏.‏ ويقال‏:‏ استعدته الشيء فأعاده، إذا سألته أن يفعله مرة ثانية، ومنه سميت العادة‏.‏ يقال‏:‏ عاده واعتاده وتعوده، أي‏:‏ صار عادة له‏.‏ وعَوَّدَ كلبه الصيد فتعوده، وهو من المعاوَدَة، والمعاودة‏:‏ الرجوع إلى الأمر الأول‏.‏ ويقال‏:‏ الشجاع معاود؛ لأنه لا يمل المراس‏.‏ وعاودته الحمي وعاوده بالمسألة، أي‏:‏ سأله مرة بعد مرة‏.‏ وتعاود القوم في الحرب وغيرها، إذا عاد كل فريق إلى صاحبه، والعُوَادُ بالضم ‏:‏ ما أعيد من الطعام بعد ما أكل منه مرة أخرى، وعَوادِ بمعني عُدْ مثل نِزَالِ بمعني انْزِل‏.‏
    ففي جميع هذه المواضع يستعمل لفظ الإعادة باعتبار الحقيقة، فإن الحقيقة الموجودة في المرة الثانية هي الأولى، وإن تعدد الشخص؛ ولهذا يقال‏:‏ هو مثله، ويقال‏:‏ هذا هو هذا‏.‏ وكلاهما صحيح‏.‏ وأعني بالحقيقة‏:‏ الأمر الذي يختص بذلك الشخص، ليس المراد القدر المشترك بين

    ج/ 17 ص -255-الفاعلين، فإن من فعل مثل فعل غيره لا يقال‏:‏ أعاده، وإنما يقال‏:‏ حاكاه وشابهه، بخلاف ما إذا أعاد فعلًا ثانيًا مثل ما فعل أولًا، فإنه يقال‏:‏ أعاد فعله‏.‏ وكذلك يقال لمن أعاد كلام غيره‏:‏ قد أعاده‏.‏ ولا يقال لمن أنشأ مثله‏:‏ قد أعاده‏.‏ ويقال‏:‏ قرئ على هذا، وأعاد على هذا، وهذا يقرأ، أي‏:‏ يدرس، وهذا يعيد‏.‏ ولو كان كلامًا آخر مما يماثله، لم يقل فيه‏:‏ يعيد‏.‏ وكذلك من كسر خاتمًا أو غيره من المصوغ يقال‏:‏ أَعِدْهُ كما كان‏.‏ ويقال لمن هدم دارًا‏:‏ أَعِدْهَا كما كانت، بخلاف من أنشأ أخرى مثلها، فإن هذا لا يسمي معيدًا‏.‏ والمعاد يقال فيه‏:‏ هذا هو الأول بعينه، ويقال‏:‏ هذا مثل الأول من كل وجه، ونحو ذلك من العبارات الدالة على أنه هو هو من وجه، وهو مثله من وجه‏.‏
    وبهذا تزول الشبهات الواردة على هذا الموضع، كقول من قال‏:‏ الإعادة لا تكون إلا مع إعادة ذلك الزمان، ونحو ذلك مما يمنع إعادته في صريح العقل، وإنما يعاد بالإتيان بمثله، وإن قال بعض المتكلمين‏:‏ إنه لا مغايرة أصلًا بوجه من الوجوه‏.‏
    والإعادة التي أخبر الله بها هي الإعادة المعقولة في هذا الخطاب، وهي الإعادة التي فهمها المشركون والمسلمون عن رسول الله ﷺ، وهي التي يدل عليها لفظ الإعادة، والمعاد هو الأول بعينه وإن كان بين لوازم الإعادة، ولوازم البدأة فرق، فذلك الفرق لا يمنع

    ج/ 17 ص -256-أن يكون قد أعيد الأول ليس الجسد الثاني مباينًا للأول من كل وجه كما زعم بعضهم ولا أن النشأة الثانية كالأولى من كل وجه كما ظن بعضهم وكما أنه سبحانه خلق الإنسان، ولم يكن شيئا، كذلك يعيده بعد أن لم يكن شيئا‏.‏ وعلى هذا فالإنسان الذي صار ترابًا ونبت من ذلك التراب نبات آخر أكله إنسان آخر، وهلم جرا‏.‏ والإنسان الذي أكله إنسان أو حيوان، وأكل ذلك الحيوان إنسانًا آخر، ففي هذا كله قد عدم هذا الإنسان وهذا الإنسان، وصار كل منهما ترابًا، كما كان قبل أن يخلق، ثم يعاد هذا ويعاد هذا من التراب، وإنما يبقي عَجْبُ الذَّنَبِ، منه خلق، ومنه يركب‏.‏
    وأما سائره فعدم، فيعاد من المادة التي استحال إليها، فإذا استحال في القبر الواحد ألف ميت، وصاروا كلهم ترابًا؛ فإنهم يعادون ويقومون من ذلك القبر، وينشئهم الله تعالى بعد أن كانوا عدمًا محضًا، كما أنشأهم أولًا بعد أن كانوا عدمًا محضًا، وإذا صار ألف إنسان ترابًا في قبر، أنشأ هؤلاء من ذلك القبر من غير أن يحتاج أن يخلقهم كما خلقهم في النشأة الأولى التي خلقهم منها من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، وجعل نشأتهم بما يستحيل إلى أبدانهم من الطعام والشراب، كما يستحيل إلى بدن أحدهم ما يأكله من نبات وحيوان‏.‏ وكذلك لو أكل إنسانًا، أو أكل حيوانًا قد أكل إنسانًا، فالنشأة

    ج/ 17 ص -257-الثانية لا يخلقهم فيها بمثل هذه الاستحالة، بل يعيد الأجساد من غير أن ينقلهم من نطقة إلى علقة إلى مضغة، ومن غير أن يغذوها بدم الطمث ومن غير أن يغذوها بلبن الأم وبسائر ما يأكله من الطعام والشراب، فمن ظن أن الإعادة تحتاج إلى إعادة الأغذية التي استحالت إلى أبدانهم فقد غلط‏.‏
    وحينئذ، فإذا أكل إنسان إنسانًا، فإنما صار غذاء له كسائر الأغذية وهو لا يحتاج إلى إعادة الأغذية، ومعلوم أن الغذاء ينزل إلى المعدة طعامًا وشرابًا، ثم يصير كلوسًا كالثردة ثم كيموسًا كالحريرة، ثم ينطبخ دمًا فيقسمه الله تعالى في البدن كله، ويأخذ كل جزء من البدن نصيبه، فيستحيل الدم إلى شبيه ذلك الجزء العظم عظمًا، واللحم لحمًا، والعرق عرقًا، وهذا في الرزق كاستحالتهم في مبدأ الخلق نطفة، ثم علقة، ثم مضغة‏.‏ وكما أنه سبحانه لا يحتاج في الإعادة إلى أن يحيل أحدهم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، فكذلك أغذيتهم لا يحتاج أن يجعلها خبزًا وفاكهة ولحمًا، ثم يجعلها كلوسًا وكيموسًا، ثم دمًا، ثم عظمًا ولحمًا وعروقًا، بل يعيد هذا البدن على صفة أخرى، لنشأة ثانية ليست مثل هذه النشأة، كما قال‏:
    ‏ ‏"وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 61‏]‏، ولا يحتاج مع ذلك إلى شيء من هذه الاستحالات التي كانت في النشأة الأولى‏.‏

    ج/ 17 ص -258-وبهذا يظهر الجواب عن قوله‏:‏ البدن دائمًا في التحلل، فإن تحلل البدن ليس بأعجب من انقلاب النطفة علقة، والعلقة مضغة، وحقيقة كل منهما خلاف حقيقة الأخرى‏.‏
    وأما البدن المتحلل، فالأجزاء الثانية تشابه الأولى وتماثلها، وإذا كان في الإعادة لا يحتاج إلى انقلابه من حقيقة إلى حقيقة فكيف بانقلابه بسبب التحلل‏؟‏ ‏!‏ ومعلوم أن من رأى شخصًا وهو شاب، ثم رآه وهو شيخ، علم أن هذا هو ذاك مع هذه الاستحالة، وكذلك سائر الحيوان والنبات، كمن غاب عن شجرة مدة، ثم جاء فوجدها، علم أن هذه هي الأولى مع أن التحلل والاستحالة ثابت في سائر الحيوان والنبات، كما هو في بدن الإنسان، ولا يحتاج عاقل في اعتقاده أن هذه الشجرة هي الأولى، وأن هذه الفرس هي التي كانت عنده من سنين، ولا أن هذا الإنسان هو الذي رآه من عشرين سنة إلى أن يقدر بقاء أجزاء أصلية لم تتحلل، ولا يخطر هذا ببال أحد‏.‏ ولا يقتصر العقلاء في قولهم هذا‏:‏ هو ذاك على تلك الأجزاء التي لا تعرف ولا تتميز عن غيرها، بل إنما يشيرون إلى جملة الشجرة والفرس والإنسان، مع أنه قد يكون كان صغيرًا فكبر‏.‏ ولا يقال‏:‏ إنما كان هو ذاك باعتبار أن النفس الناطقة واحدة كما زعمه من ادعي أن البدن الثاني ليس هو ذاك الأول ولكن المقصود جزاء النفس بنعيم أو عذاب،

    ج/ 17 ص -259-ففي أي بدن كانت حصل المقصود، فإن هذا أيضًا باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، مخالف للمعقول من الإعادة‏.‏
    فإنا قد ذكرنا أن العقلاء كلهم يقولون‏:‏ هذا الفرس هو ذاك، وهذه الشجرة هي تلك التي كانت من سنين، مع علم العقلاء أن النبات ليس له نفس ناطقة تفارقه وتقوم بذاتها‏.‏وكذلك يقولون مثل هذا في الحيوان، وفي الإنسان، مع أنه لم يخطر بقلوبهم أن المشار إليه بهذا وذاك نفس مفارقة، بل قد لا يخطر هذا بقلوبهم، فدل على أن العقلاء كانوا يعلمون أن هذا البدن هو ذاك، مع وجود الاستحالة، وعلم بذلك أن ما ذكر من الاستحالة لا ينافي أن يكون البدن الذي يعاد في النشأة الثانية هو هذا البدن؛ ولهذا يشهد البدن المعاد بما عمل في الدنيا، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"الْيَوْمَ نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 20، 21‏]‏‏.‏
    ومعلوم أن الإنسان لو قال قولا، أو فعل فعلًا، أو رأي غيره يفعل، أو سمعه يقول، ثم بعد ثلاثين سنة شهد على نفسه بما قال أو فعل، وهو الإقرار الذي يؤاخذ بموجبه، أو شهد على غيره بما قبضه

    ج/ 17 ص -260-من الأموال، وأقر به من الحقوق لكانت الشهادة على عين ذلك المشهود عليه مقبولة، مع استحالة بدنه في هذه المدة الطويلة، ولا يقول عاقل من العقلاء‏:‏ إن هذه الشهادة على مثله أو على غيره‏.‏ولو قدر أن المعين حيوان أو نبات، وشهد أن هذا الحيوان قبضه هذا من هذا، وأن هذا الشجر سلمه هذا إلى هذا، كان كلامًا معقولًا مع الاستحالة‏.‏وإذا كانت الاستحالة غير مؤثرة، فقول القائل‏:‏ يعيده على صفة ما كان وقت موته أو سمنه أو هزاله أو غير ذلك جهل منه؛ فإن صفة تلك النشأة الثانية ليست مماثلة لصفة هذه النشأة، حتى يقال‏:‏ إن الصفات هي المغيرة؛ إذ ليس هناك استحالة، ولا استفراغ، ولا امتلاء، ولا سمن، ولا هزال، ولا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة أبيهم آدم، طول أحدهم ستون ذراعًا، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما‏.‏ وروي أن عرضه سبعة أذرع‏.‏ وهم لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون، ولا يتمخطون‏.‏
    وليست تلك النشأة من أخلاط متضادة حتى يستلزم مفارقة بعضها بعضًا، كما في هذه النشأة، ولا طعامهم مستحيلًا، ولا شرابهم مستحيلًا من التراب والماء والهواء، كما هي أطعماتهم في هذه النشأة؛ ولهذا أبقى اللّه طعام الذي مر على قرية وشرابه مائة عام لم يتغير، ودلنا سبحانه بهذا على قدرته، فإذا كان في دار الكون والفساد يبقي الطعام الذي

    ج/ 17 ص -261-هو رطب وعنب أو نحو ذلك، والشراب الذي هو ماء أو ما فيه ماء مائة عام لم يتغير، فقدرته سبحانه وتعالى على أن يجعل الطعام والشراب في النشأة الأخرى لا يتغير بطريق الأولى والأحرى، وهذه الأمور لبسطها موضع آخر‏.
    فصل
    والمقصود هنا أن التولد لابد له من أصلين، وإن ظن ظَانٌّ أن نفس الهواء الذي بين الزنادين يستحيل نارًا بسخونته من غير مادة تخرج منهما تنقلب نارًا فقد غلط؛ وذلك لأنه لا تخرج نار إن لم يخرج منهما مادة بالحك، ولا تخرج النار بمجرد الحك‏.‏
    وأيضًا، فإنهم يقدحون على شيء أسفل من الزنادين كالصُّوفَان والحِراق فتنزل النار عليه، وإنما ينزل الثقيل، فلولا أن هناك جزءًا ثقيلًا من الزناد الحديد والحَجَرِ لما نزلت النار، ولو كان الهواء وحده انقلب نارًا لم ينزل؛ لأن الهواء طبعه الصعود لا الهبوط، لكن بعد أن تنقلب المادة الخارجة نارًا قد ينقلب الهواء القريب منها نارا، إما دُخَانًا وإما لهيبًا‏.‏

    ج/ 17 ص -262-والمقصود أن المتولدات خلقت من أصلين، كما خلق آدم من التراب والماء، وإلا فالتراب المحض الذي لم يختلط به ماء لا يخلق منه شيء، لا حيوان ولا نبات، والنبات جميعه إنما يتولد من أصلين أيضًا والمسيح خلق من مريم ونفخة جبريل، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا‏"‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 21‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏:‏ 19‏]‏‏.‏
    وقد ذكر المفسرون أن جبريل نفخ في جيب درعها‏.‏والجَيْبُ‏:‏ هو الطوق الذي في العنق، ليس هو ما يسميه بعض العامة‏:‏ جيبًا، وهو ما يكون في مقدم الثوب لوضع الدراهم ونحوها‏.‏وموسى لما أمره اللّه أن يدخل يده في جيبه، هو ذلك الجيب المعروف في اللغة‏.‏وذكر أبو الفرج وغيره قولين‏:‏ هل كانت النفخة في جيب الدرع أو في الفرج‏؟‏ فإن من قال بالأول قال‏:‏ في فرج درعها، وإن من قال‏:‏ هو مخرج الولد قال‏:‏ الهاء كناية عن غير مذكور؛ لأنه إنما نفخ في درعها، لا في فرجها، وهذا ليس بشيء، بل هو عدول عن صريح القرآن‏.‏وهذا النقل إن كان ثابتًا لم يناقض القرآن، وإن لم يكن ثابتا لم يلتفت إليه؛ فإن من نقل أن جبريل نفخ في جيب الدرع، فمراده أنه ﷺ

    ج/ 17 ص -263-لم يكشف بدنها، وكذلك جبريل كان إذا أتي النبي ﷺ وعائشة متجردة لم ينظر إليها متجردة، فنفخ في جيب الدرع فوصلت النفخة إلى فرجها‏.‏
    والمقصود إنما هو النفخ في الفرج، كما أخبر اللّه به في آيتين، وإلا فالنفخ في الثوب فقط من غير وصول النفخ إلى الفرج مخالف للقرآن، مع أنه لا تأثير له في حصول الولد، ولم يقل ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا نقله أحد عن عالم معروف من السلف‏.‏
    والمقصود هنا أن المسيح خلق من أصلين‏:‏ من نفخ جبريل، ومن أمه مريم، وهذا النفخ ليس هو النفخ الذي يكون بعد مضي أربعة أشهر والجنين مضغة؛ فإن ذلك نفخ في بدن قد خلق، وجبريل حين نفخ لم يكن المسيح خلق بعد، ولا كانت مريم حملت، وإنما حملت به بعد النفخ بدليل قوله‏:‏
    ‏"قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏، ‏"فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏ 22‏]‏‏.‏فلما نفخ فيها جبريل حملت به؛ ولهذا قيل في المسيح‏:‏ ‏"وَرُوحٌ مِّنْهُ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، باعتبار هذا النفخ‏.‏وقد بين اللّه سبحانه أن الرسول الذي هو روحه، وهو جبريل، هو الروح الذي خاطبها، وقال‏:‏ ‏"إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا‏"‏، فقوله ‏"فَنَفَخْنَا فِيهَا‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏ أو‏:‏ ‏"فِيهِ مِن رُّوحِنَا‏"‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏، أي‏:‏ من هذا الروح الذي هو جبريل، وعيسى روح من هذا الروح، فهو روح من اللّه بهذا

    ج/ 17 ص -264-الاعتبار، ومن لابتداء الغاية‏.‏
    والمقصود هنا أنه قد يكون الشيء من أصلين بانقلاب المادة التي بينهما إذا التقيا؛ كان بينهما مادة فتنقلب؛ وذلك لقوة حك أحدهما بالآخر فلابد من نقص أجزائها، وهذا مثل تولد النار بين الزنادين إذا قدح الحجر بالحديد، أو الشجر بالشجر، كالمرخ والعفار، فإنه بقوة الحركة الحاصلة من قدح أحدهما بالآخر يستحيل بعض أجزائهما، ويسخن الهواء الذي بينهما فيصير نارًا، والزندان كلما قدح أحدهما بالآخر نقصت أجزاؤهما بقوة الحك، فهذه النار استحالت عن الهواء وتلك الأجزاء بسبب قدح أحد الزندين بالآخر‏.‏
    وكذلك النور الذي يحصل بسبب انعكاس الشعاع على ما يقابل المضيء، كالشمس والنار، فإن لفظ النور والضوء يقال تارة على الجسم القائم بنفسه، كالنار التي في رأس المصباح، وهذه لا تحصل إلا بمادة تنقلب نارًا كالحطب والدُّهْنِ، ويستحيل الهواء أيضًا نارًا، ولا ينقلب الهواء أيضًا نارًا إلا بنقص المادة التي اشتعلت، أو نقص الزندين‏.‏وتارة يراد بلفظ النور والضوء والشعاع‏:‏ الشعاع الذي يكون على الأرض والحيطان من الشمس، أو من النار، فهذا عرض ليس بجسم قائم بنفسه، لابد له من محل يقوم به يكون قابلًا له، فلابد في الشعاع من جسم مضيء، ولابد من شيء يقابله حتى ينعكس عليه الشعاع‏.‏

    ج/ 17 ص -265-وكذلك النار الحاصلة في ذبالة المصباح إذا وضعت في النار، أو وضع فيها حطب؛ فإن النار تحيل أولًا المادة التي هي الدُّهْن أو الحطب، فيسخن الهواء المحيط بها فينقلب نارًا، وإنما ينقلب بعد نقص المادة‏.‏وكذلك الريح التي تحرك النار مثل ما تهب الريح فتشتعل النار في الحطب‏.‏ومثل ما ينفخ في الكِير وغيره تبقي الريح المنفوخة تضرم النار؛ لما في محل النار كالخشب والفحم من الاستعداد لانقلابه نارًا، وما في حركة الريح القوية من تحريك النار إلى المحل القابل له، وقد ينقلب أيضًا الهواء القريب من النار، فإن اللهب هو الهواء انقلب نارًا، مثل مافي ذبالة المصباح؛ ولهذا إذا طفئت صار دُخَانًا، وهو هواء مختلط بنار كالبخار، وهو هواء مختلط بماء، والغبار هواء مختلط بتراب‏.‏
    وقد يسمى البخار دُخَانًا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏
    "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏قال المفسرون‏:‏ بخار الماء، كما جاءت الآثار‏:‏ ‏"‏إن الله خلق السموات من بخار الماء‏"‏ وهو الدخان، فإن الدخان‏:‏ الهواء المختلط بشيء حار، ثم قد لا يكون فيه ماء، وهو الدخان الصِّرْف‏.‏ وقد يكون فيه ماء، فهو دخان، وهو بخار كبخار القدر‏.‏وقد يسمي الدخان بخارًا، فيقال لمن استجمر بالطيب‏:‏ تبخر، وإن كان لا رطوبة هنا، بل دخان الطيب سمي بخارًا‏.‏قال الجوهري‏:‏ بخار الماء‏:‏ ما يرتفع منه كالدخان، والبَخُور بالفتح ‏:‏ ما يتبخر به؛ لكن إنما يصير الهواء نارًا

    ج/ 17 ص -266-بعد أن تذهب المادة التي انقلبت نارًا، كالحطب والدهن، فلم تتولد النار إلا من مادة، كما لم يتولد الحيوان إلا من مادة‏.‏
    فصل
    والمقصود أن كل ما يستعمل فيه لفظ التولد من الأعيان القائمة، فلابد أن يكون من أصلين، ومن انفصال جزء من الأصل‏.‏ وإذا قيل في الشِّبَع والرِّي‏:‏ إنه متولد، أو في زهوق الروح ونحو ذلك من الأعراض ‏:‏ إنه متولد، فلابد في جميع ما يستعمل فيه هذا اللفظ من أصلين، لكن العَرَضَ يحتاج إلى محل، لا يحتاج إلى مادة تنقلب عَرَضًا، بخلاف الأجسام، فإنها إنما تخلق من مواد تنقلب أجسامًا، كما تنقلب إلى نوع آخر، كانقلاب المني علقة، ثم مضغة، وغير ذلك من خلق الحيوان والنبات‏.‏
    وأما ما كان من أصل واحد، كخلق حواء من الضلع القُصَيري لآدم، وهو وإن كان مخلوقًا من مادة أخذت من آدم فلا يسمى هذا تولدًا؛ ولهذا لا يقال‏:‏ إن آدم وَلَدَ حواء، ولا يقال‏:‏ إنه أبو حواء، بل خلق الله حواء من آدم، كما خلق آدم من الطين‏.‏

    ج/ 17 ص -267-وأما المسيح، فيقال‏:‏ إنه ولدته مريم، ويقال‏:‏ المسيح ابن مريم، فكان المسيح جزءًا من مريم، وخلق بعد نفخ الروح في فرج مريم، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ‏"‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏، وفي الأخرى‏:‏ ‏"فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏‏.‏
    وأما حواء، فخلقها الله من مادة أخذت من آدم، كما خلق آدم من المادة الأرضية، وهي الماء والتراب والريح الذي أيبسته حتى صار صلصالًا، فلهذا لا يقال‏:‏ إن آدم وَلَدَ حواء، ولا آدم وَلَدَهُ الترابُ، ويقال في المسيح‏:‏ ولدته مريم، فإنه كان من أصلين‏:‏ من مريم ومن النفخ الذي نفخ فيها جبريل‏.‏قال الله تعالى‏:‏
    ‏"فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ على هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏:‏ 22‏]‏، إلى آخر القصة، فهي إنما حملت به بعد النفخ، لم تحمل به مدة بلا نفخ، ثم نفخت فيه روح الحياة كسائر الآدميين، ففرق بين النفخ للحمل، وبين النفخ لروح الحياة‏.‏

    ج/ 17 ص -268-فتبين أن ما يقال‏:‏ إنه متولد من غيره من الأعيان القائمة بنفسها، فلا يكون إلا من مادة تخرج من ذلك الوالد، ولا يكون إلا من أصلين، والرب تعالى صمد، فيمتنع أن يخرج منه شيء، وهو سبحانه لم يكن له صاحبة، فيمتنع أن يكون له ولد‏.‏
    وأما ما يستعمل من تولد الأعراض، كما يقال‏:‏ تولد الشعاع، وتولد العلم عن الفكر، وتولد الشبع عن الأكل، وتولدت الحرارة عن الحركة، ونحو ذلك فهذا ليس من تولد الأعيان، مع أن هذا لابد له من محل، ولابد له من أصلين؛ ولهذا كان قول النصارى‏:‏ إن المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك مستلزمًا لأن يقولوا‏:‏ إن مريم صاحبة الله، فيجعلون له زوجة وصاحبة، كما جعلوا له ولدًا، وبأي معنى فسروا كونه ابنه، فإنه يفسر الزوجة بذلك المعنى، والأدلة الموجبة تنزيهه عن الصاحبة، توجب تنزيهه عن الولد، فإذا كانوا يصفونه بما هو أبعد عن اتصافه به؛ كان اتصافه بما هو أقل بعدًا لازمًا لهم، وقد بسط هذا في الرد على النصارى‏.‏
    فصل
    وهذا مما يبين أن ما نزه الله نفسه ونفاه عنه بقوله‏:‏
    ‏"لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏"‏ وبقوله‏:‏ "أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 151، 152‏]‏،

    ج/ 17 ص -269-وقوله‏:‏ ‏"وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 100، 101‏]‏، يعم جميع الأنواع التي تذكر في هذا الباب عن بعض الأمم، كما أن ما نفاه من اتخاذ الولد يعم أيضًا جميع أنواع الاتخاذات الاصطفائية، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَقَالَتِ اليهود وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏قال السدي‏:‏ قالوا‏:‏ إن الله أوحي إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد، فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي مناد‏:‏ أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 111‏]‏، وقال‏:‏ ‏"تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 1، 2‏]

    ج/ 17 ص -270-وقال‏:‏ ‏"وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ‏"‏[‏النحل‏:‏ 51‏:‏ 57‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 39‏:‏ 42‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 149‏:‏ 163‏]‏، وقال‏:‏ ‏"أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏"

    ج/ 17 ص -271-إلى قوله‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى‏"[‏النجم‏:‏ 19‏:‏ 27‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 15‏]‏‏.‏
    قال بعض المفسرين‏:‏
    ‏"جُزْءًا‏"‏ أي‏:‏ نصيبًا وبعضًا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ جعلوا لله نصيبًا من الولد‏.‏ وعن قتادة ومقاتل‏:‏ عدلا‏.‏ وكلا القولين صحيح؛ فإنهم يجعلون له ولدًا، والولد يشبه أباه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 17‏]‏ أي‏:‏ البنات، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏"وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى‏"‏[‏النحل‏:‏ 58‏]‏، فقد جعلوها للرحمن مثلًا، وجعلوا له من عباده جزءًا، فإن الولد جزء من الوالد كما تقدم قال ﷺ‏:‏ ‏"‏إنما فاطمة بضعة مني‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏‏.‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في الزنادقة قالوا‏:‏ إن الله وإبليس شريكان، فالله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب‏.‏
    وأما قوله‏:‏
    ‏"وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا‏"‏ [‏الصافات‏:‏ 158‏]‏، فقيل‏:‏ قولهم‏:‏ الملائكة بنات الله، وسمي الملائكة جنًا؛ لاجتنانهم عن الأبصار، وهو قول مجاهد وقتادة‏.‏وقيل‏:‏ قالوا لحي من الملائكة يقال لهم‏:‏ الجن،

    ج/ 17 ص -272-ومنهم إبليس وهم بنات الله‏.‏وقال الكلبي قالوا لعنهم الله‏:‏ بل تزوج من الجن فخرج بينهما الملائكة‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏، قال بعض المفسرين كالثعلبي ‏:‏ وهم كفار العرب قالوا‏:‏ الملائكة والأصنام بنات الله‏.‏واليهود قالوا‏:‏ عزير ابن الله‏.‏والنصارى قالوا‏:‏ المسيح ابن الله‏.‏
    فصل
    وأما الذين كانوا يقولون من العرب‏:‏ إن الملائكة بنات الله، وما نقل عنهم من أنه صاهر الجن، فولدت له الملائكة فقد نفاه الله عنه بامتناع الصاحبة، وبامتناع أن يكون منه جزء فإنه صمد، وقوله‏:‏ ‏
    "وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏‏.‏ وهذا كما تقدم من أن الولادة لا تكون إلا من أصلين سواء في ذلك تولد الأعيان التي تسمي الجواهر، وتولد الأعراض والصفات، بل ولا يكون تولد الأعيان إلا بانفصال جزء من الوالد‏.‏فإذا امتنع أن يكون له صاحبة امتنع أن يكون له ولد، وقد علموا كلهم ألا صاحبة له لا من الملائكة ولا من الجن ولا من الإنس، فلم يقل أحد منهم‏:‏ إن له صاحبة؛ فلهذا احتج بذلك عليهم‏.‏وما حكي عن بعض كفار العرب‏:‏ أنه صاهر الجن، فهذا فيه نظر، وذلك إن

    ج/ 17 ص -273-كان قد قيل، فهو مما يعلم انتفاؤه من وجوه كثيرة، وكذلك ما قالته النصارى‏:‏ من أن المسيح ابن الله، وما قاله طائفة من اليهود‏:‏ إن العزير ابن الله، فإنه قد نفاه سبحانه بهذا وبهذا‏.‏
    فإن قيل‏:‏ أما عوام النصارى، فلا تنضبط أقوالهم، وأما الموجود في كلام علمائهم وكتبهم، فإنهم يقولون‏:‏ إن أقنوم الكلمة، ويسمونها الابن تَدَرَّع المسيح، أي‏:‏ اتخذه درعًا، كما يتدرع الإنسان قميصه، فاللاهوت تدرع الناسوت‏.‏ويقولون‏:‏ باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد‏.‏قيل قصدهم‏:‏ إن الرب موجود حي عليم، فالموجود هو الأب، والعلم هو الابن، والحياة هو روح القدس‏.‏هذا قول كثير منهم‏.‏ومنهم من يقول‏:‏ بل موجود عالم قادر‏.‏ويقول‏:‏ العلم هو الكلمة، وهو المتدرع‏.‏والقدرة‏:‏ هي روح القدس، فهم مشتركون في أن المتدرع هو أقنوم الكلمة وهي الابن‏.‏
    ثم اختلفوا في التدرع واختلفوا‏:‏ هل هما جوهر أو جوهران‏؟‏ وهل لهما مشيء ة أو مشيء تان‏؟‏ ولهم في الحلول والاتحاد كلام مضطرب ليس هذا موضع بسطه، فإن مقالة النصارى فيها من الاختلاف بينهم ما يتعذر ضبطه، فإن قولهم ليس مأخوذًا عن كتاب منزل، ولا نبي مرسل، ولا هو موافق لعقول العقلاء، فقالت اليعقوبية‏:‏ صار جوهرًا واحدًا، وطبيعة واحدة، وأقنومًا واحدًا، كالماء في اللبن‏.‏وقالت

    ج/ 17 ص -274-النسطورية‏:‏ بل هما جوهران وطبيعتان ومشيء تان؛ لكن حل اللاهوت في الناسوت حلول الماء في الظرف‏.‏وقالت الملكِيةُ‏:‏ بل هما جوهر واحد، له مشيء تان وطبيعتان، أو فعلان، كالنار في الحديد‏.‏
    وقد ذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى‏:‏
    ‏"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏"[‏المائدة‏:‏ 72‏]‏، هم اليعقوبية، وفي قوله‏:‏ ‏"وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏، هم الملكية، وقوله‏:‏ ‏"لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏، هم النسطورية وليس بشيء، بل الفِرَق الثلاث تقول المقالات التي حكاها الله عز وجل عن النصارى، فكلهم يقولون‏:‏ إنه الله، ويقولون‏:‏ إنه ابن الله، وكذلك في أمانتهم التي هم متفقون عليها، يقولون‏:‏ إله حق من إله حق، وأما قوله‏:‏ ‏"ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏"‏، فإنه قال تعالى‏:‏ ‏"وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏‏.‏
    قال أبو الفرج ابن الجوزي في قوله‏:‏
    ‏"لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏"‏، قال المفسرون‏:‏ معنى الآية‏:‏ أن النصارى قالوا بأن الإلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم، كل واحد منهم إله‏.‏وذكر عن الزجاج‏:‏ الغلو‏:‏ مجاوزة القدر في الظلم، وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم‏:‏ هو الله، وقول بعضهم‏:‏ هو ابن الله، وقول بعضهم‏:‏ هو ثالث

    ج/ 17 ص -275-ثلاثة، فعلماء النصارى الذين فسروا قولهم‏:‏ هو ابن الله بما ذكروه من أن الكلمة هي الابن، والفرق الثلاث متفقة على ذلك، وفساد قولهم معلوم بصريح العقل من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه ليس في شيء من كلام الأنبياء تسمية صفة الله ابنا لا كلامه ولا غيره فتسميتهم صفة الله ابنا تحريف لكلام الأنبياء عن مواضعه، وما نقلوه عن المسيح من قوله‏:‏ عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، لم يُرَد بالابن‏:‏ صفة الله التي هي كلمته، ولا بروح القدس‏:‏ حياته، فإنه لا يوجد في كلام الأنبياء إرادة هذا المعنى، كما قد بسط هذا في الرد على النصارى‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن هذه الكلمة التي هي الابن أهي صفة الله قائمة به‏؟‏ أم هي جوهر قائم بنفسه‏؟‏ فإن كانت صفته؛ بطل مذهبهم من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الصفة لا تكون إلهًا يخلق ويرزق ويحيي ويميت، والمسيح عندهم إله يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، فإذا كان الذي تدرعه ليس بإله؛ فهو أولى ألا يكون إلهًا‏.‏
    الثاني‏:‏ أن الصفة لا تقوم بغير الموصوف فلا تفارقه، وإن قالوا‏:‏ نزل عليه كلام الله أو قالوا‏:‏ إنه الكلمة أو غير ذلك، فهذا قدر مشترك بينه وبين سائر الأنبياء‏.‏

    ج/ 17 ص -276-الثالث‏:‏ أن الصفة لا تتحد، وتتدرع شيئًا إلا مع الموصوف، فيكون الأب نفسه هو المسيح، والنصارى متفقون على أنه ليس هو الأب، فإن قولهم متناقض ينقض بعضه بعضًا، يجعلونه إلها يخلق ويرزق، ولا يجعلونه الأب الذي هو الإله، ويقولون‏:‏ إله واحد، وقد شبهه بعض متكلميهم كيحيي بن عدي بالرجل الموصوف بأنه طبيب وحاسب وكاتب، وله بكل صفة حكم، فيقال‏:‏ هذا حق، لكن قولهم ليس نظير هذا، فإذا قلتم‏:‏ إن الرب موجود حي عالم، وله بكل صفة حكم، فمعلوم أن المتحد إن كان هو الذات المتصفة، فالصفات كلها تابعة لها، فإنه إذا تدرع زيد الطبيب الحاسب الكاتب درعًا كانت الصفات كلها قائمة به، وإن كان المتدرع صفة دون صفة عاد المحذور، وإن قالوا‏:‏ المتدرع الذات بصفة دون صفة، لزم افتراق الصفتين، وهذا ممتنع؛ فإن الصفات القائمة بموصوف واحد وهي لازمة له لا تفترق، وصفات المخلوقين قد يمكن عدم بعضها مع بقاء الباقي، بخلاف صفات الرب تبارك وتعالى‏.‏
    الرابع‏:‏ أن المسيح نفسه ليس هو كلمات الله، ولا شيئًا من صفاته، بل هو مخلوق بكلمة الله، وسمي كلمة؛ لأنه خلق بكن من غير الحَبَلِ المعتاد، كما قال تعالى‏:‏
    "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏

    ج/ 17 ص -277-"ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 34، 35‏]‏، ولو قدر أنه نفسه كلام الله، كالتوراة والإنجيل وسائر كلام الله، لم يكن كلام الله، ولا شيء من صفاته خالقًا ولا ربًا ولا إلها‏.‏فالنصارى إذا قالوا‏:‏ إن المسيح هو الخالق، كانوا ضالين من جهة جعل الصفة خالقة، ومن جهة جعله هو نفس الصفة، وإنما هو مخلوق بالكلمة، ثم قولهم بالتثليث وإن الصفات ثلاث باطل، وقولهم أيضًا بالحلول والاتحاد باطل، فقولهم يظهر بطلانه من هذه الوجوه وغيرها‏.‏
    فلو قالوا‏:‏ إن الرب له صفات قائمة به، ولم يذكروا اتحادًا ولا حلولًا، كان هذا قول جماهير المسلمين المثبتين للصفات، وإن قالوا‏:‏ إن الصفات أعيان قائمة بنفسها، فهذا مكابرة، فهم يجمعون بين المتناقضين‏.‏
    وأيضًا، فجعلهم عدد الصفات ثلاثة باطل؛ فإن صفات الرب أكثر من ذلك، فهو سبحانه موجود حي عليم قدير‏.‏والأقانيم عندهم التي جعلوها الصفات ليست إلا ثلاثة؛ ولهذا تارة يفسرونها بالوجود والحياة والعلم، وتارة يفسرونها بالوجود والقدرة والعلم، واضطرابهم كثير، فإن قولهم في نفسه باطل، ولا يضبطه عقل عاقل؛ ولهذا يقال‏:‏ لو اجتمع عشرة من النصارى، لافترقوا على أحد عشر قولا‏.‏

    ج/ 17 ص -278-وأيضًا، فكلمات الله كثيرة لا نهاية لها، كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏، وهذا قول جماهير الناس من المسلمين وغير المسلمين، وهذا مذهب سلف الأمة الذين يقولون‏:‏ لم يزل سبحانه متكلمًا بمشيء ته‏.‏وقول من قال‏:‏ إنه لم يزل قادرًا على الكلام لكن تكلم بمشيء ته، كلامًا قائمًا بذاته حادثا، وقول من قال‏:‏ كلامه مخلوق في غيره‏.‏
    وأما من قال‏:‏ كلامه شيء واحد قديم العين، فهؤلاء منهم من يقول‏:‏ إنه أمور لا نهاية لها مع ذلك‏.‏ومنهم من يقول‏:‏ بل هو معنى واحد، ولكن العبارات عنه متعددة‏.‏وهؤلاء يمتنع عندهم أن يكون ذلك المعنى قائمًا بغير الله، وإنما يقوم بغيره عندهم العبارات المخلوقة، ويمتنع أن يكون المسيح شيئًا من تلك العبارات، فإذا امتنع أن يكون المسيح غير كلام الله على قول هؤلاء فعلى قول الجمهور أشد امتناعًا؛ لأن كلمات الله كثيرة، والمسيح ليس هو جميعها، بل ولا مخلوقًا بجميعها، إنما خُلِقَ بكلمة منها، وليس هو عين تلك الكلمة؛ فإن الكلمة صفة من الصفات، والمسيح عين قائم بنفسه‏.‏
    ثم يقال لهم‏:‏ تسميتكم العلم والكلمة ولدًا وابنًا تسمية باطلة باتفاق العلماء والعقلاء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء‏.‏قالوا‏:‏ لأن الذات

    ج/ 17 ص -279-

    يتولد عنها العلم والكلام كما يتولد ذلك عن نفس الرجل العالم منها، فيتولد من ذاته العلم والحكمة والكلام؛ فلهذا سميت الكلمة ابنا، قيل‏:‏ هذا باطل من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن صفاتنا حادثة تحدث بسبب تعلمنا ونظرنا وفكرنا واستدلالنا، وأما كلمة الرب وعلمه، فهو قديم لازم لذاته، فيمتنع أن يوصف بالتولد، إلا أن يدعي المدعي أن كل صفة لازمة لموصوفها متولدة عنه، وهي ابن له، ومعلوم أن هذا من أبطل الأمور في العقول واللغات؛ فإن حياة الإنسان ونطقه وغير ذلك من صفاته اللازمة له لا يقال‏:‏ إنها متولدة عنه، وإنها ابن له‏.‏وأيضًا فيلزم أن تكون حياة الرب أيضًا ابنه ومتولدة، وكذلك قدرته؛ وإلا فما الفرق بين تولد العلم وتولد الحياة والقدرة وغير ذلك من الصفات‏؟‏ ‏!‏
    وثانيها‏:‏ أن هذا إن كان من باب تولد الجواهر والأعيان القائمة بنفسها؛ فلابد له من أصلين، ولابد أن يخرج من الأصل جزء‏.‏وأما علمنا وقولنا، فليس عينًا قائمًا بنفسه، وإن كان صفة قائمة بموصوف، وعرضًا قائمًا في محل كعلمنا وكلامنا، فذاك أيضًا لا يتولد إلا عن أصلين، ولابد له من محل يتولد فيه‏.‏والواحد منا لا يحدث له العلم والكلام إلا بمقدمات تتقدم على ذلك، وتكون أصولًا للفروع، ويحصل العلم والكلام في محل لم يكن حاصلًا فيه قبل ذلك‏.

    ج/ 17 ص -280-فإن قلتم‏:‏ إن علم الرب كذلك، لزم أن يصير عالمًا بالأشياء بعد أن لم يكن عالمًا بها، وأن تصير ذاته متكلمة بعد أن لم يكن متكلمًا‏.‏ وهذا مع أنه كفر عند جماهير الأمم من المسلمين والنصارى وغيرهم فهو باطل في صريح العقل؛ فإن الذات التي لا تكون عالمة يمتنع أن تجعل نفسها عالمة بلا أحد يعلمها، والله تعالى يمتنع عليه أن يكون متعلمًا من خلقه، وكذلك الذات التي تكون عاجزة عن الكلام، يمتنع أن تصير قادرة عليه بلا أحد يجعلها قادرة، والواحد منها لا يولد جميع علومه، بل ثَمَّ علوم خلقت فيه لا يستطيع دفعها، فإذا نظر فيها حصلت له علوم أخرى، فلا يقول أحد من بني آدم‏:‏ إن الإنسان يولد علومه كلها، ولا يقول أحد‏:‏ إنه يجعل نفسه متكلمة بعد أن لم تكن متكلمة، بل الذي يقدره على النطق هو الذي أنطق كل شيء‏.‏
    فإن قالوا‏:‏ إن الرب يولد بعض علمه، وبعض كلامه دون بعض، بطل تسمية العلم الذي هو الكلمة مطلقًا الابن وصار لفظ الابن إنما يسمي به بعض علمه، أو بعض كلامه، وهم يدَّعُونَ أن المسيح هو الكلمة، وهو أقنوم العلم مطلقًا، وذلك ليس متولدًا عنه كله، ولا يسمي كله ابنا باتفاق العقلاء‏.‏
    وثالثها‏:‏ أن يقال‏:‏ تسمية علم العالم وكلامه ولدًا له لا يعرف في شيء من اللغات المشهورة، وهو باطل بالعقل؛ فإن علمه وكلامه كقدرته وعلمه، فإن

    ج/ 17 ص -281-جاز هذا، جاز تسمية صفات الإنسان كلها الحادثة متولدات عنه له، وتسميتها أبناءه‏.‏ومن قال من أهل الكلام القدرية‏:‏ إن العلم الحاصل بالنظر متولد عنه، فهو كقوله‏:‏ إن الشِّبَع والرِّي متولد عن الأكل والشرب، لا يقول‏:‏ إن العلم ابنه وولده، كما لا يقول‏:‏ إن الشبع والري ابنه ولا ولده؛ لأن هذا من باب تولد الأعراض والمعاني القائمة بالإنسان، وتلك لا يقال‏:‏ إنها أولاده وأبناؤه‏.‏ومن استعار فقال‏:‏ بنيات فكره، فهو كما يقال‏:‏ بنيات الطريق‏.‏ ويقال‏:‏ ابن السبيل‏.‏ ويقال لطير الماء‏:‏ ابن ماء‏.‏وهذه تسمية مقيدة، قد عرف أنها ليس المراد بها ما هو المعقول من الأب والابن والوالد والولد‏.‏وأيضًا، فكلام الأنبياء ليس في شيء منه تسمية شيء من صفات الله ابنًا، فمن حمل شيئًا من كلام الأنبياء على ذلك فقد كذب عليهم، وهذا مما يقِر به علماء النصارى وما وجد عندهم من لفظ الإبن في حق المسيح وإسرائيل وغيرهما، فهو اسم للمخلوق لا لشيء من صفات الخالق، والمراد به أنه مكرم معظم‏.‏
    ورابعها‏:‏ أن يقال‏:‏ فإذا قدر أن الأمر كذلك، فالذي حصل للمسيح إن كان هو ما علمه الله إياه من علمه وكلامه، فهذا موجود لسائر النبيين، فلا معنى لتخصيصه بكونه ابن الله، وإن كان هو أن العلم والكلام إله اتحد به فيكون العلم والكلام جوهرًا قائمًا بنفسه، فإن كان هو الأب فيكون المسيح هو الأب، وإن كان العلم والكلام جوهرًا آخر، فيكون إلهان قائمان

    ج/ 17 ص -282-بأنفسهما، فتبين فساد ما قالوه بكل وجه‏.‏
    وخامسها‏:‏ أن يقال‏:‏ من المعلوم عند الخاصة والعامة أن المعنى الذي خص به المسيح إنما هو أن خُلِقَ من غير أب، فلما لم يكن له أب من البشر، جعل النصارى الرب أباه، وبهذا ناظر نصاري نجران النبي ﷺ وقالوا‏:‏ إن لم يكن هو ابن الله، فقل لنا من أبوه‏؟‏ فعلم أن النصارى إنما ادعوا فيه البنوة الحقيقية، وأن ما ذكر من كلام علمائهم هو تأويل منهم للمذهب؛ ليزيلوا به الشناعة التي لا يبلغها عاقل، وإلا فليس في جعله ابن الله وجه يختص به معقول، فعلم أن النصارى جعلوه ابن الله، وأن الله أحْبَلَ مريم، والله هو أبوه، وذلك لا يكون إلا بإنزال جزء منه فيها، وهو سبحانه الصمد، ويلزمهم أن تكون مريم صاحبة وزوجة له؛ ولهذا يتألهونها كما أخبر الله عنهم‏.‏وأي معنى ذكروه في بنوة عيسى غير هذا لم يكن فيه فرق بين عيسى وبين غيره، ولا صار فيه معنى البنوة، بل قالوا كما قال بعض مشركي العرب ‏:‏ إنه صاهر الجن فولدت له الملائكة‏.‏وإذا قالوا‏:‏ اتخذه ابنًا على سبيل الاصطفاء، فهذا هو المعنى الفعلي، وسيأتي إن شاء الله تعالى إبطاله‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَرُوحٌ مِّنْهُ‏"‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، ليس فيه أن بعض الله صار في عيسي، بل من لابتداء الغاية، كما قال‏:‏ ‏"وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏"[‏الجاثية‏:‏ 13‏]‏،

    ج/ 17 ص -283-وقال‏:‏ ‏"وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏"‏[‏النحل‏:‏ 53‏]‏، وما أضيف إلى الله أو قيل هو منه فعلى وجهين‏:‏ إن كان عينًا قائمة بنفسها؛ فهو مملوك له، ومن لابتداء الغاية، كما قال تعالى‏:‏ ‏"فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏، وقال في المسيح‏:‏ ‏"وَرُوحٌ مِّنْهُ‏"‏‏.‏وما كان صفة لا يقوم بنفسه كالعلم والكلام فهو صفة له، كما يقال‏:‏ كلام الله، وعلم الله، وكما قال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏"‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏‏.‏
    وألفاظ المصادر يعبر بها عن المفعول، فيسمي المأمور به أمرًا، والمقدور قدرة، والمرحوم به رحمة، والمخلوق بالكلمة كلمة، فإذا قيل في المسيح‏:‏ إنه كلمة الله، فالمراد به أنه خُلِقَ بكلمة قوله‏:‏ ‏[‏كن‏]‏، ولم يخلق على الوجه المعتاد من البشر، وإلا فعيسى بشر قائم بنفسه ليس هو كلاما صفة للمتكلم يقوم به، وكذلك إذا قيل عن المخلوق‏:‏ إنه أمر الله، فالمراد أن الله كونه بأمره، كقوله‏:‏ ‏
    "أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏"‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 82‏]‏، فالرب تعالى أحد صمد، لا يجوز أن يتبعض ويتجزأ، فيصير، بعضه في غيره، سواء سمي ذلك روحًا أو غيره، فبطل ما يتوهمه النصارى من كونه ابنًا له، وتبين أنه عبد من عباد الله‏.‏
    وقد قيل‏:‏ منشأ ضلال القوم أنه كان في لغة من قبلنا يعبر عن

    ج/ 17 ص -284-الرب بالأب، وبالابن عن العبد المربي الذي يربه الله ويربيه، فقال المسيح‏:‏ عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، فأمرهم أن يؤمنوا بالله ويؤمنوا بعبده ورسوله المسيح، ويؤمنوا بروح القدس جبريل، فكانت هذه الأسماء لله، ولرسوله المَلَكي، ورسوله البشري، قال الله تعالى‏:‏ ‏"اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏"‏[‏الحج‏:‏ 75‏]‏‏.‏
    وقد أخبر تعالى في غير آية أنه أيد المسيح بروح القدس، وهو جبريل عند جمهور المفسرين، كقوله تعالى‏:‏
    ‏"وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏، فعند جمهور المفسرين أن روح القدس هو جبريل، بل هذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم، ودليل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 101، 102‏]‏‏.‏وروي الضحاك عن ابن عباس‏:‏ أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتي‏.‏وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ أنه الإنجيل‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏"أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏"‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏، وقال تعالى‏:‏

    ج/ 17 ص -285-"يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏"‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏ فما ينزله الله في قلوب أنبيائه مما تحيا به قلوبهم من الإيمان الخالص يسميه روحًا، وهو ما يؤيد الله به المؤمنين من عباده فكيف بالمرسلين منهم‏؟‏ ‏!‏ والمسيح عليه السلام من أولى العزم، فهو أحق بهذا من جمهور الرسل والأنبياء، وقال تعالى‏:‏ ‏"تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏وقد ذكر الزجاج في تأييده بروح القدس ثلاثة أوجه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه أيده به لإظهار أمره ودينه‏.‏
    الثاني‏:‏ لدفع بني إسرائيل عنه إذ أرادوا قتله‏.‏
    الثالث‏:‏ أنه أيده به في جميع أحواله‏.‏
    ومما يبين ذلك أن لفظ الابن في لغتهم ليس مختصًا بالمسيح، بل عندهم أن الله تعالى قال في التوراة لإسرائيل‏:‏ أنت ابني بكري، والمسيح كان يقول‏:‏ أبي وأبوكم فيجعله أبا للجميع، ويسمي غيره ابنًا له، فعلم أنه لا اختصاص للمسيح بذلك، ولكن النصارى يقولون‏:‏ هو ابنه بالطبع، وغيره ابنه بالوضع، فيفرقون فرقًا لا دليل عليه، ثم قولهم‏:‏ هو ابنه بالطبع يلزم عليه من المحالات عقلًا وسمعًا ما يبين بطلانه‏.‏

    ج/ 17 ص -286-فصل
    وأما ما يقوله الفلاسفة القائلون بأن العالم قديم صدر عن علة موجبة بذاته، وأنه صدر عنه عقل، ثم عقل، ثم عقل، إلى تمام عشرة عقول، وتسعة أنفس وقد يجعلون العقل بمنزلة الذكر، والنفس بمنزلة الأنثي فهؤلاء قولهم أفسد من قول مشركي العرب وأهل الكتاب عقلًا وشرعًا، ودلالة القرآن على فساده أبلغ، وذلك من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن هؤلاء يقولون بقدم الأفلاك، وقدم هذه الروحانيات التي يثبتونها، ويسمونها المجردات والمفارقات، والجواهر العقلية، وأن ذلك لم يزل قديمًا أزليا، وما كان قديمًا أزليا، امتنع أن يكون مفعولًا بوجه من الوجوه، ولا يكون مفعولًا إلا ما كان حادثًا، وهذه قضية بديهية عند جماهير العقلاء، وعليها الأولون والآخرون من الفلاسفة، وسائر الأمم؛ ولهذا كان جماهير الأمم يقولون‏:‏ كل ممكن أن يوجد، وألا يوجد فلا يكون إلا حادثًا، وإنما ادعي وجود ممكن قديم معلول طائفة من المتأخرىن كابن سينا ومن وافقه زعموا أن الفلك

    ج/ 17 ص -287-قديم معلول لعلة قديمة‏.‏وأما الفلاسفة القدماء فمن كان منهم يقول بحدوث الفلك وهم جمهورهم، ومن كان قبل أرسطو فهؤلاء موافقون لأهل الملل، ومن قال بقدم الفلك كأرسطو وشيعته فإنما يثبتون له علة غائية يتشبه الفلك بها، لا يثبتون له علة فاعلة، وما يثبتونه من العقول والنفوس فهو من جنس الفلك‏.‏كل ذلك قديم واجب بنفسه، وإن كان له علة غائية‏.‏وهؤلاء أكفر من هؤلاء المتأخرىن، لكن الغرض أن يعرفوا أن قول هؤلاء ليس قول أولئك‏.‏
    الثاني‏:‏ أن هؤلاء يقولون‏:‏ إن الرب واحد، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد، ويعنون بكونه واحدًا أنه ليس له صفة ثبوتية أصلًا، ولا يعقل فيه معان متعددة؛ لأن ذلك عندهم تركيب؛ ولهذا يقولون‏:‏ لا يكون فاعلًا وقابلًا؛ لأن جهة الفعل غير جهة القبول، وذلك يستلزم تعدد الصفة المستلزم للتركيب، ومع هذا يقولون‏:‏ إنه عَاقِلٌ ومعقُولٌ وعقلٌ، وعَاشِقٌ ومَعشُوقٌ وعِشقٌ، ولذيذٌ ومُلتذٌ ولذَّةٌ، إلى غير ذلك من المعاني المتعددة‏.‏ويقولون‏:‏ إن كل واحدة من هذه الصفات هي الصفة الأخرى، والصفة هي الموصوف، والعلم هو القدرة، وهو الإرادة والعلم هو العالم وهو القادر‏.‏
    ومن المتأخرىن منهم من قال‏:‏ العلم هو المعلوم، فإذا تصور العاقل أقوالهم حق التصور، تبين له أن هذا الواحد الذي أثبتوه لا يتصور

    ج/ 17 ص -288-وجوده إلا في الأذهان لا في الأعيان، وقد بسط الكلام عليه، وبين فساد ما يقولونه في التوحيد والصفات، وبين فساد شبه التركيب من وجوه كثيرة في مواضع غير هذه‏.‏وإذا كان كذلك، فالأصل الذي بنوا عليه قولهم‏:‏ ‏"‏إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد‏"‏ أصل فاسد‏.‏
    الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ قولهم بصدور الأشياء مع ما فيها من الكثرة والحدوث عن واحد، بسيط في غاية الفساد‏.‏
    الرابع‏:‏ أنه لا يعلم في العالم واحد بسيط صدر عنه شيء لا واحد ولا اثنان، فهذه الدعوى الكلية لا يعلم ثبوتها في شيء أصلًا‏.‏
    الخامس‏:‏ أنهم يقولون‏:‏ صدر عنه واحد، وعن ذلك الواحد عقل ونفس وفلك، فيقال‏:‏ إن كان الصادر عنه واحدًا من كل وجه، فلا يصدر عن هذا الواحد إلا واحد أيضًا فيلزم أن يكون كل ما في العالم إنما هو واحد عن واحد وهو مكابرة، وإن كان في الصادر الأول كثرة ما بوجه من الوجوه؛ فقد صدر عن الأول ما فيه كثرة ليس واحدًا من كل وجه، فقد صدر عن الواحد ما ليس بواحد‏.‏
    ولهذا اضطرب متأخروهم، فأبو البركات صاحب ‏[‏المعتبر‏]‏ أبطل هذا القول ورده غاية الرد، وابن رشد الحفيد زعم أن الفلك بما فيه صادر عن الأول‏.‏والطوسي وزير الملاحدة يقرب من هذا، فجعل الأول

    ج/ 17 ص -289-شرطًا في الثاني، والثاني شرطا في الثالث، وهم مشتركون في الضلال وهو إثبات جواهر قائمة بنفسها أزلية مع الرب لم تزل ولا تزال معه، لم تكن مسبوقة بعدم، وجعل الفلك أيضًا أزليا، وهذا وحده فيه من مخالفة صريح المعقول والكفر بما جاءت به الرسل ما فيه كفاية، فكيف إذا ضم إليه غير ذلك من أقاويلهم المخالفة للعقل والنقل‏؟‏ ‏!‏
    الوجه السادس‏:‏ أن الصوادر المعلومة في العالم إنما تصدر عن اثنين، وأما واحد وحده فلا يصدر عنه شيء، كما تقدم التنبيه عليه في المتولدات من الأعيان والأعراض‏.‏وكل ما يذكرونه من صدور الحرارة عن الحار، والبرودة عن البارد، والشعاع عن الشمس، وغير ذلك، فإنما هو صدور أعراض، ومع هذا فلابد لها من أصلين‏.‏وأما صدور الأعيان عن غيرها، فهذا لا يعلم إلا بالولادة المعروفة‏.‏ وتلك لا تكون إلا بانفصال جزء من الأصل، وهذا الصدور والتولد والمعلولية التي يدعونها في العقول والنفوس والأفلاك يقولون‏:‏ إنها جواهر قائمة بأنفسها صدرت عن جوهر واحد بسيط، فهذا من أبطل قول قيل في الصدور والتولد؛ لأن فيه صدور جواهر عن جوهر واحد، وهذا لا يعقل، وفيه صدوره عنه من غير جزء منفصل من الأصل، وهذا لا يعقل، وهم غاية ما عندهم أن يشبهوا هذا بحدوث بعض الأعراض كالشعاع عن الشمس، وحركة الخاتم عن حركة اليد، وهذا تمثيل

    ج/ 17 ص -290-باطل؛ لأن تلك ليست علة فاعلة، وإنما هي شرط فقط، والصادر هناك لم يكن عن أصل واحد، بل عن أصلين، والصادر عرض لا جوهر قائم بنفسه‏.‏
    فتبين أن ما ذكره هؤلاء من التولد العقلي الذي يدعونه من أبعد الأمور عن التولد والصدور، وهو أبعد من قول النصارى ومشركي العرب، وهم جعلوا مفعولاته بمنزلة صفة أزلية لازمة لذاته‏.‏وقد ذكرنا أن هذا مما يمتنع أن يقال فيه‏:‏ إنه متولد عنه، وحينئذ فهم في دعواهم إلهية العقول والنفوس والكواكب أكفر من هؤلاء وهؤلاء، ومن جعل من المنتسبين إلى الملل منهم هؤلاء هم الملكية، فقوله في جعل الملائكة متولدين عن الله، شر من قول العرب وعوام النصارى، فإن أولئك أثبتوا ولادة حسية، وكونه صمدًا يبطلها؛ لكن ما أثبتوه معقول، وهؤلاء ادعوا تولدًا عقليا باطلاً من كل وجه أبطل مما ادعته النصارى من تولد الكلمة عن الذات، فكان نفي ما ادعوه أولى من نفي ما ادعاه أولئك؛ لأن المحال الذي يعلم امتناعه في الخارج لا يمكن تصوره موجودًا في الخارج، فإنه يمتنع وجوده في الخارج، بل هو يفرض في الذهن وجوده في الخارج، وذلك إنما يمكن إذا كان له نظير من بعض الوجوه فيقدر له في الوجود الخارجي ما يشبهه، كما إذا قدر مع الله إلهًا آخر، وقدر أن له ولدًا، فإنه يشبه من له ولد من العباد، ومن له شريك من

    ج/ 17 ص -291-العباد، ثم يبين امتناع ذلك عليه، فكلما كان المحال أبعد عن مشابهة الموجود كان أعظم استحالة‏.‏
    والولادة التي ادعتها النصارى، ثم هؤلاء الفلاسفة، أبعد عن مشابهة الولادة المعلومة من الولادة التي ادعاها بعض مشركي العرب وعوام النصارى واليهود، فكانت هذه الولادة العقلية أشد استحالة من تلك الولادة الحسية؛ إذ الولادة الحسية تعقل في الأعيان القائمة بنفسها، وأما الولادة العقلية فلا تعقل في الأعيان أصلًا‏.‏وأيضًا، فأولئك أثبتوا ولادة من أصلين، وهذا هو الولادة المعقولة، وهؤلاء أثبتوا ولادة من أصل واحد، وأولئك أثبتوا ولادة بانفصال جزء، وهذا معقول‏.‏وهؤلاء أثبتوا ولادة بدون ذلك، وهو لا يعقل، وأولئك أثبتوا ولادة قاسوها على ولادة الأعيان للأعيان، وهؤلاء أثبتوا ولادة قاسوها على تولد الأعراض عن الأعيان، فعلم أن قول أولئك أقرب إلى المعقول وهو باطل كما بين اللّه فساده وأنكره‏.‏ فقول هؤلاء أولى بالبطلان، وهذا كما أن اللّه إذا كفر من أثبت مخلوقا يتخذ شفيعا معبودًا من دون اللّه، فمن أثبت قديمًا دون اللّه يعبد، ويتخذ شفيعا كان أولى بالكفر، ومن أنكر المعاد مع قوله بحدوث هذا العالم فقد كفره اللّه، فمن أنكره مع قوله بقدم العالم فهو أعظم كفرًا عند اللّه تعالى‏.‏
    وهذا كما أن النبي ﷺ لما نهى أمته عن مشابهة

    ج/ 17 ص -292-فارس المجوس والروم النصارى، فنهيه عن مشابهة الروم اليونان المشركين والهند المشركين أعظم وأعظم‏.‏وإذا كان ما دخل في بعض المسلمين من مشابهة اليهود والنصارى وفارس والروم مذموما عند اللّه ورسوله، فما دخل من مشابهة اليونان والهند والترك المشركين وغيرهم من الأمم الذين هم أبعد عن الإسلام من أهل الكتاب ومن فارس والروم أولى أن يكون مذمومًا عند اللّه تعالى وأن يكون ذمه أعظم من ذاك‏.‏
    فهؤلاء الأمم الذين هم أبعد عن الإسلام الذين ابتلي بهم أواخر المسلمين شر من الأمم الذين ابتلي بهم أوائل المسلمين؛ وذلك لأن الإسلام كان أهله أكمل وأعظم علما ودينا، فإذا ابتلي بمن هو أرجح من هؤلاء غلبهم المسلمون لفضل علمهم ودينهم، وأما هؤلاء المتأخرون فالمسلمون وإن كانوا أنقص من سلفهم، فإنه يظهر رجحانهم على هؤلاء لعظم بعدهم عن الإسلام، ولكن لما كثرت البدع من متأخرى المسلمين، استطال عليهم من استطال من هؤلاء، ولَبَّسُوا عليهم دينهم، وصارت شُبَه الفلاسفة أعظم عند هؤلاء من غيرهم، كما صار قتال الترك الكفار أعظم من قتال من كان قبلهم عند أهل الزمان؛ لأنهم إنما ابتلوا بسيوف هؤلاء، وألسنة هؤلاء، وكان فيهم من نقص الإيمان ما أورث ضعفًا في العلم والجهاد، وكما كان كثير من العرب في زمن النبي ﷺ، فهذا هذا‏.‏

    ج/ 17 ص -293-ومما يبين هذا أن مشركي العرب واليهود والنصارى يقولون‏:‏ إن اللّه خلق السموات والأرض بمشيئته وقدرته، بل يقولون‏:‏ إنه خلق ذلك في ستة أيام، وهؤلاء المتفلسفة عندهم لم يحدثها بعد أن لم تكن، فضلًا عن أن يكون ذلك في ستة أيام، ثم يلبسون على المسلمين فيقولون‏:‏ العالم محدث، يعنون بحدوثه أنه معلول علة قديمة، فهو بمنزلة قولهم‏:‏ متولد عن اللّه تعالى لكن هو أمر لا حقيقة له ولا يعقل‏.‏
    وأيضًا، فمشركو العرب وأهل الكتاب يقرون بالملائكة وإن كان كثير منهم يجعلون الملائكة والشياطين نوعًا واحدًا، فمن خرج منهم عن طاعة اللّه أسقطه وصار شيطانًا، وينكرون أن يكون إبليس كان أبا الجن، وأن يكون الجن ينكحون ويولدون ويأكلون ويشربون، فهؤلاء النصارى الذين ينكرون هذا مع كفرهم هم خير من هؤلاء المتفلسفة، فإن هؤلاء لا حقيقة للملائكة عندهم إلا ما يثبتونه من العقول والنفوس، أو من أعراض تقوم بالأجسام كالقوى الصالحة، وكذلك الجن جمهور أولئك يثبتونها، فإن العرب كانت تثبت الجن، وكذلك أكثر أهل الكتاب، وهؤلاء لا يثبتونها، ويجعلون الشياطين القوى الفاسدة‏.‏ وأيضًا، فمشركو العرب مع أهل الكتاب يدعون اللّه، ويقولون‏:‏ إنه يسمع دعاءهم ويجيبهم‏.‏
    وهؤلاء عندهم لا يعلم شيئًا من جزئيات العالم، ولا يسمع دعاء أحد

    ج/ 17 ص -294-ولا يجيب أحدًا، ولا يحدث في العالم شيئًا ولا سبب للحدوث عندهم إلا حركات الفلك، والدعاء عندهم يؤثر؛ لأنه تصرف النفس الناطقة في هيولى العالم‏.‏وقد ثبت في الصحيح من حديث أبى هريرة رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏يقول اللّه عز وجل‏:‏ شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله‏:‏ إنى اتخذت ولدًا وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لى كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله‏:‏ لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علىَّ من إعادته‏"‏‏.‏
    وهذا وإن كان متناولاً قطعًا لكفار العرب الذين قالوا هذا وهذا، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا‏"‏ إلى قوله‏:‏ "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شيئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ‏"‏[‏مريم‏:‏ 88‏:‏ 90‏]‏، فذكر اللّه هذا وهذا، فتناول النصوص لهؤلاء بطريق الأولى، فإن هؤلاء ينكرون الإعادة والابتداء أيضًا فلا يقولون‏:‏ إن اللّه ابتدأ خلق السموات والأرض، ولا كان للبشر ابتداء أولهم آدم، وأما شتمهم إياه بقولهم‏:‏ اتخذ ولدًا، فهؤلاء عندهم الفلك كله لازم له معلول له، أعظم من لزوم الولد والده، والوالد له اختيار وقدرة في حدوث الولد منه، وهؤلاء عندهم ليس للّه مشيء ة وقدرة في لزوم الفلك له، بل ولا يمكنه أن يدفع لزومه عنه، فالتولد الذي يثبتونه أبلغ من التولد الموجود في الخلق، ولا يقولون‏:‏ إنه اتخذ ولدا بقدرته، فإنه لا يقدر

    ج/ 17 ص -295-عندهم على تغيير شيء من العالم، بل ذلك لازم له لزوما، حقيقته أنه لم يفعل شيئًا؛ بل ولا هو موجود، وإن سموه علة ومعلولا، فعند التحقيق لا يرجعون إلى شيء محصل، فإن في قولهم من التناقض والفساد أعظم مما في قول النصارى‏.‏
    وقد ذكر طائفة من أهل الكلام أن قولهم بالعلة والمعلول من جنس قول غيرهم بالوالد والولد، وأرادوا بذلك أن يجعلوهم من جنسهم في الذم، وهذا تقصير عظيم، بل أولئك خير من هؤلاء، وهؤلاء إذا حققت ما يقوله من هو أقربهم إلى الإسلام كابن رشد الحفيد وجدت غايته أن يكون الرب شرطًا في وجود العالم لا فاعلًا له، وكذلك من سلك مسلكهم من المدعين للتحقيق من ملاحدة الصوفية كابن عربي وابن سبعين حقيقة قولهم‏:‏ أن هذا العالم موجود واجب أزلى، ليس له صانع غير نفسه، وهم يقولون‏:‏ الوجود واحد، وحقيقة قولهم‏:‏ أنه ليس في الوجود خالق خلق موجودًا آخر، وكلامهم في المعاد والنبوات والتوحيد شر من كلام اليهود والنصارى وعباد الأصنام، فإن هؤلاء يجوزون عبادة كل صنم في العالم، لا يخصون بعض الأصنام بالعبادة‏.

    ج/ 17 ص -296-فصل
    وقد احتج ب ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏ من أهل الكلام المحدث من يقول‏:‏ الرب تعالى جسم كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم، ومحمد بن كرام، وغيرهما، ومن ينفي ذلك ويقول‏:‏ ليس بجسم ممن وافق جهم بن صفوان، وأبا الهذيل العلاف، ونحوهما، فأولئك قالوا‏:‏ هو صمد والصمد لا جوف له، وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة، فإنها لا جوف لها، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة، وكما قيل‏:‏ إن الملائكة صمد؛ ولهذا قيل‏:‏ إنه لا يخرج منه شيء، ولا يدخل فيه شيء، ولا يأكل ولا يشرب، ونحو ذلك، ونفي هذا لا يعقل إلا عمن هو جسم، وقالوا‏:‏ أصل ‏[‏الصمد‏]‏‏:‏ الاجتماع، ومنه تصميد المال، وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع، وأما النفاة فقالوا‏:‏ ‏[‏الصمد‏]‏ الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام‏.‏
    وقالوا أيضًا ‏[‏الأحد‏]‏‏:‏ الذي لا يقبل التجزي والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزى والانقسام‏.‏وقالوا‏:‏

    ج/ 17 ص -297-إذا قلتم‏:‏ هو جسم كان مركبًا مؤلفًا من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وما كان مركبًا مؤلفًا من غيره كان مفتقرًا إليه، وهو سبحانه صمد، والصمد الغني عما سواه، فالمركب لا يكون صمدًا‏.‏
    فيقال‏:‏ أما القول بأنه سبحانه مركب مؤلف من أجزاء، وأنه يقبل التجزي والانقسام والانفصال، فهذا باطل شرعًا وعقلًا؛ فإن هذا ينافي كونه صمدًا كما تقدم وسواء أريد بذلك أنه كانت الأجزاء متفرقة، ثم اجتمعت، أو قيل‏:‏ إنها لم تزل مجتمعة لكن يمكن انفصال بعضها عن بعض، كما في بدن الإنسان وغيره من الأجسام، فإن الإنسان وإن كان لم يزل مجتمع الأعضاء، لكن يمكن أن يفرق بين بعضه من بعض، واللّه - سبحانه - منزه عن ذلك؛ ولهذا قدمنا أن كمال الصمدية له، فإن هذا إنما يجوز على ما يجوز أن يفنى بعضه أو يعدم، وما قبل العدم والفناء لم يكن واجب الوجود بذاته، ولا قديمًا أزليًا؛ فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه، وكذلك صفاته التي لم يزل موصوفًا بها وهي من لوازم ذاته، فيمتنع أن يعدم اللازم إلا مع عدم الملزوم‏.‏
    ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ ‏[‏الصمد‏]‏‏:‏ هو الدائم، وهو الباقى بعد فناء خلقه، فإن هذا من لوازم الصمدية، إذ لو قبل العدم، لم تكن صمديته لازمة له، بل جاز عدم صمديته فلا يبقى صمدًا، ولا

    ج/ 17 ص -298-تنتفي عنه الصمدية إلا بجواز العدم عليه، وذلك محال، فلا يكون مستوجبًا للصمدية، إلا إذا كانت لازمة له، وذلك ينافي عدمه، وهو مستوجب للصمدية، لم يصر صمدًا بعد أن لم يكن - تعالى وتقدس- فإن ذلك يقتضي أنه كان متفرقا فجمع، وأنه مفعول محدث مصنوع، وهذه صفة مخلوقاته‏.‏وأما الخالق القديم الذي يمتنع عليه أن يكون معدومًا أو مفعولًا أو محتاجًا إلى غيره بوجه من الوجوه، فلا يجوز عليه شيء من ذلك، فعلم أنه لم يزل صمدًا، ولا يزال صمدًا، فلا يجوز أن يقال‏:‏ كان متفرقا فاجتمع، ولا أنه يجوز أن يتفرق، بل ولا أن يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء‏.‏
    وهذا مما هو متفق عليه بين طوائف المسلمين سنيهم وبدعيهم وإن كان أحد من الجهال أو من لا يعرف قد يقول خلاف ذلك، فمثل هؤلاء لا تنضبط خيالاتهم الفاسدة، كما أنه ليس في طوائف المسلمين من يقول‏:‏ إنه مولود ووالد، وإن كان هذا قد قاله بعض الكفار، وقد قال المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام من التولد والتعليل ما هو شر من قول أولئك‏.‏وأما إثبات الصفات له، وأنه يُرَى في الآخرة، وأنه يتكلم بالقرآن وغيره، وكلامه غير مخلوق، فهذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين وأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف‏.‏والخلاف في ذلك مشهور مع الجهمية والمعتزلة،

    ج/ 17 ص -299-وكثير من الفلاسفة والباطنية‏.‏
    وهؤلاء يقولون‏:‏ إن إثبات الصفات يوجب أن يكون جسمًا وليس بجسم‏.‏فلا تثبت له الصفات‏.‏قالوا‏:‏ لأن المعقول من الصفات أعراض قائمة بجسم، لا تعقل صفته إلا كذلك‏.‏قالوا‏:‏ والرؤية لا تعقل إلا مع المعاينة، فالمعاينة لا تكون إلا إذا كان المرئي بجهة، ولا يكون بجهة إلا ما كان جسمًا‏.‏ قالوا‏:‏ ولأنه لو قام به كلام أو غيره للزم أن يكون جسمًا، فلا يكون الكلام المضاف إليه إلا مخلوقًا منفصلًا عنه‏.‏
    وهذه المعاني مما ناظروا بها الإمام أحمد في المحنة، وكان ممن احتج على أن القرآن مخلوق بنفي التجسيم أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث تلميذ حسين النجار وهو من أكابر المتكلمين، فإن ابن أبي دؤاد كان قد جمع للإمام أحمد من أمكنه من متكلمى البصرة وبغداد وغيرهم ممن يقول‏:‏ إن القرآن مخلوق، وهذا القول لم يكن مختصًا بالمعتزلة كما يظنه بعض الناس، فإن كثيرًا من أولئك المتكلمين أو أكثرهم لم يكونوا معتزلة، وبشر المْرِيسي لم يكن من المعتزلة، بل فيهم نجارية، ومنهم برغوث، وفيهم ضرارية، وحفص الفرد الذي ناظر الشافعي كان من الضرارية أتباع ضرار بن عمرو، وفيهم مرجئة، ومنهم بشر المريسي، ومنهم جهمية محضة، ومنهم معتزلة، وابن أبي

    ج/ 17 ص -300-دُؤَاد لم يكن معتزليًا، بل كان جهميا ينفي الصفات، والمعتزلة تنفي الصفات، فنفاة الصفات الجهمية أعم من المعتزلة، فلما احتج عليه برغوث بأنه لو كان يتكلم ويقوم به الكلام لكان جسما، وهذا منفي عنه، وأحمد وأمثاله من السلف كانوا يعلمون أن هذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون كلفظ الجسم وغيره ينفيها قوم ليتوصلوا بنفيها إلى نفي ما أثبته اللّه تعالى ورسوله، ويثبتها قوم ليتوصلوا بإثباتها إلى إثبات مانفاه اللّه ورسوله‏.‏
    فالأولى‏:‏ طريقة الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون الجسم حتى يتوهم المسلمون أن قصدهم التنزيه، ومقصودهم بذلك أن اللّه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن ولا غيره، بل خلق كلامًا في غيره، وأنه ليس له علم يقوم به، ولا قدرة ولا حياة، ولا غير ذلك من الصفات‏.‏ قال الإمام أحمد في خطبته في الرد على الجهمية والزنادقة‏:‏
    الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اللّه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة،

    ج/ 17 ص -301-فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجتمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه، وفي اللّه، وفي كتاب اللّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ باللّه من فتن المضلين‏.‏
    والثانية‏:‏ طريقة هشام وأتباعه، يحكى عنهم أنهم أثبتوا ما قد نزه اللّه نفسه عنه من اتصافه بالنقائص، ومماثلته للمخلوقات، فأجابهم الإمام أحمد بطريقة الأنبياء وأتباعهم وهو الاعتصام بحبل اللّه الذي قال اللّه فيه‏:‏
    ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102، 103‏]‏‏.‏وقال‏:‏ ‏"كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1‏:‏ 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏"‏[‏طه‏:‏ 123‏:‏ 126‏]‏،

    ج/ 17 ص -302-وقال تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأولى الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ٌيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ‏"‏[‏الحجرات‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 60‏:‏ 65‏]

    ج/ 17 ص -303-وقوله تعالى‏:‏ ‏"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏"‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏:‏ 32‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏
    فهذه النصوص وغيرها تبين أن اللّه أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان الحق من الباطل، وبيان ما اختلف فيه الناس، وأن الواجب على الناس اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، ورد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة، وأن من لم يتبع ذلك كان منافقًا، وأن من اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذلك حشر أعمى ضالًا شقيًا معذبًا، وأن الذين فرقوا دينهم قد برئ اللّه ورسوله منهم‏.‏
    فاتبع الإمام أحمد طريقة سلفه من أئمة السنة والجماعة المعتصمين

    ج/ 17 ص -304-بالكتاب والسنة، المتبعين ما أنزل اللّه إليهم من ربهم، وذلك أن ننظر فما وجدنا الرب قد أثبته لنفسه في كتابه أثبتناه، وما وجدناه قد نفاه عن نفسه نفيناه، وكل لفظ وجد في الكتاب والسنة بالإثبات أثبت ذلك اللفظ، وكل لفظ وجد منفيًا نفي ذلك اللفظ، وأما الألفاظ التي لا توجد في الكتاب والسنة، بل ولا في كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين لا إثباتها ولا نفيها‏.‏
    وقد تنازع فيها الناس، فهذه الألفاظ لا تثبت ولا تنفي إلا بعد الاستفسار عن معانيها، فإن وجدت معانيها مما أثبته الرب لنفسه أثبتت، وإن وجدت مما نفاه الرب عن نفسه نفيت، وإن وجدنا اللفظ أثبت به حق وباطل، أو نفي به حق وباطل، أو كان مجملًا يراد به حق وباطل، وصاحبه أراد به بعضها، لكنه عند الإطلاق يوهم الناس أو يفهمهم ما أراد وغير ما أراد فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ الجوهر والجسم والتحيز والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل في هذا المعنى، فقل من تكلم بها نفيًا أو إثباتًا إلا وأدخل فيها باطلًا، وإن أراد بها حقًا‏.‏
    والسلف والأئمة كرهوا هذا الكلام المحدث؛ لاشتماله على باطل وكذب، وقولُ عَلَى اللّه بلا علم‏.‏وكذلك ذكر أحمد في رده على الجهمية أنهم يفترون على اللّه فيما ينفونه عنه، ويقولون عليه بغير علم، وكل

    ج/ 17 ص -305-ذلك مما حَرَّمَهُ اللّه ورسوله، ولم يكره السلف هذه لمجرد كونها اصطلاحية، ولا كرهوا الاستدلال بدليل صحيح جاء به الرسول، بل كرهوا الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة، ولا يخالف الكتاب والسنة إلا ما هو باطل، لا يصح بعقل ولا سمع‏.‏
    ولهذا لما سئل أبو العباس ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين وقال‏:‏ وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث اللّه النبي ﷺ بإنكار ذلك، ولم يرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين؛ فإنهما لم يكونا قد أحدثا في زمنه، وإنما أراد إنكار ما يعني بهما من المعاني الباطلة، فإن أول من أحدثهما الجهمية والمعتزلة، وقصدهم بذلك إنكار صفات اللّه تعالى أو أن يرى، أو أن يكون له كلام يتصف به، وأنكرت الجهمية أسماءه أيضًا‏.‏
    وأول من عرف عنه إنكار ذلك الجعْدُ بن درهم، فضحى به خالد بن عبد اللّه القَسْرى بواسط‏.‏ وقال‏:‏ يا أيها الناس ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى اللّه عما يقول الجعد علوًا كبيرًا‏.‏ ثم نزل فذبحه‏.‏
    وكلام السلف والأئمة في ذم هذا الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

    ج/ 17 ص -306-والمقصود هنا أن أئمة السنة كأحمد بن حنبل وغيره كانوا إذا ذكرت لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ الجسم والجوهر والحيز ونحوها، لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي‏.‏ وأهل البدع بالعكس ابتدعوا ألفاظًا ومعاني، إما في النفي، وإما في الإثبات، وجعلوها هي الأصل المعقول المحكم، الذي يجب اعتقاده، والبناء عليه، ثم نظروا في الكتاب والسنة، فما أمكنهم أن يتأولوه على قولهم تأولوه، وإلا قالوا‏:‏ هذا من الألفاظ المتشابهة المشكلة التي لا ندري ما أريد بها، فجعلوا بدعهم أصلًا محكمًا، وما جاء به الرسول فرعًا له ومشكلًا، إذا لم يوافقه‏.‏وهذا أصل الجهمية والقدرية وأمثالهم، وأصل الملاحدة من الفلاسفة الباطنية، جميع كتبهم توجد على هذا الطريق، ومعرفة الفرق بين هذا وهذا من أعظم ما يعلم به الفرق بين الصراط المستقيم الذي بعث اللّه به رسوله، وبين السبل المخالفة له، وكذلك الحكم في المسائل العلمية الفقهية، ومسائل أعمال القلوب وحقائقها وغير ذلك‏.‏كل هذه الأمور قد دخل فيها ألفاظ ومعان محدثة، وألفاظ ومعان مشتركة‏.‏
    فالواجب أن يجعل ما أنزله اللّه من الكتاب والحكمة أصلًا في جميع هذه الأمور، ثم يرد ما تكلم فيه الناس إلى ذلك، ويبين مافي الألفاظ المجملة من المعاني الموافقة للكتاب والسنة فتقبل، وما فيها من المعاني

    ج/ 17 ص -307-المخالفة للكتاب والسنة فترد‏.‏
    ولهذا كل طائفة أنكر عليها ما ابتدعت احتجت بما ابتدعته الأخرى، كما يوجد في ألفاظ أهل الرأي والكلام والتصوف، وإنما يجوز أن يقال في بعض الآيات‏:‏ إنه مشكل ومتشابه إذا ظن أنه يخالف غيره من الآيات المحكمة البينة، فإذا جاءت نصوص بينة محكمة بأمر، وجاء نص آخر يظن أن ظاهره يخالف ذلك يقال في هذا‏:‏ إنه يرد المتشابه إلى المحكم، أما إذا نطق الكتاب أو السنة بمعنى واحد لم يجز أن يجعل ما يضاد ذلك المعنى هو الأصل، ويجعل ما في القرآن والسنة مشكلًا متشابهًا، فلا يقبل ما دل عليه‏.‏
    نعم قد يشكل على كثير من الناس نصوص لا يفهمونها، فتكون مشكلة بالنسبة إليهم لعجز فهمهم عن معانيها، ولا يجوز أن يكون في القرآن ما يخالف صريح العقل والحس إلا وفي القرآن بيان معناه، فإن القرآن جعله اللّه شفاءً لما في الصدور، وبيانًا للناس، فلا يجوز أن يكون بخلاف ذلك؛ لكن قد تخفي آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول ﷺ‏.‏إما ألا يعرفوا اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفوا معناه، فحينئذ يصيرون في جاهلية بسبب عدم نور النبوة، ومن ههنا يقع الشرك، وتفريق الدين شيعًا، كالفتن التي تحدث السيف، فالفتن القولية والعملية

    ج/ 17 ص -308-هي من الجاهلية بسبب خفاء نور النبوة عنهم، كما قال مالك بن أنس‏:‏ إذا قَلَّ العِلْمُ ظهر الجفَاَءُ، وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء‏.‏
    ولهذا شبهت الفتن بقطع الليل المظلم؛ ولهذا قال أحمد في خطبته‏:‏ الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم‏.‏فالهدى الحاصل لأهل الأرض إنما هو من نور النبوة كما قال تعالى ‏
    "فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى‏"‏[‏طه‏:‏ 123‏]‏، فأهل الهدى والفلاح هم المتبعون للأنبياء وهم المسلمون المؤمنون في كل زمان ومكان‏.‏وأهل العذاب والضلال هم المكذبون للأنبياء، يبقى أهل الجاهلية الذين لم يصل إليهم ما جاءت به الأنبياء‏.‏
    فهؤلاء في ضلال وجهل وشرك وشر، لكن اللّه يقول‏:‏ ‏"
    وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏"رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ‏"‏ ‏[‏القصص‏:‏ 59‏]‏، فهؤلاء لا يهلكهم اللّه ويعذبهم حتى يرسل إليهم رسولًا‏.‏ وقد رويت آثار متعددة في أن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا، فإنه يُبْعَثُ إليه رَسَولٌ يوم القيامة في عَرَصَات القيامة‏.‏

    ج/ 17 ص -309-وقد زعم بعضهم أن هذا يخالف دين المسلمين؛ فإن الآخرة لا تكليف فيها، وليس كما قال، إنما ينقطع التكليف إذا دخلوا دار الجزاء الجنة أو النار وإلا فهم في قبورهم ممتحنون ومفتونون، يقال لأحدهم‏:‏ من ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏ وكذلك في عرصات القيامة يقال‏:‏ ليتبع كل قوم ماكانوا يعبدون، فيتبع من كان يعبد الشمسَ الشمسَ، ومن كان يعبد القمرَ القمرَ، ومن كان يعبد الطواغيتَ الطواغيتَ، وتبقي هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم اللّه في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة، ويقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ نعوذ باللّه منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا‏.‏وفي رواية‏:‏ فيسألهم ويثبتهم، وذلك امتحان لهم، هل يتبعون غير الرب الذي عرفوا أنه اللّه الذي تجلى لهم أول مرة‏؟‏ فيثبتهم اللّه تعالى عند هذه المحنة، كما يثبتهم في فتنة القبر، فإذا لم يتبعوه لكونه أتى في غير الصورة التي يعرفون، أتاهم حينئذ في الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق، فإذا رأوه خروا له سجدًا، إلا من كان منافقًا، فإنه يريد السجود فلا يستطيعه، يبقى ظهره مثل الطبق‏.‏وهذا المعنى مستفيض عن النبي ﷺ في عدة أحاديث ثابتة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وقد أخرجاهما في الصحيحين، ومن حديث جابر‏.‏وقد رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وأبي موسى، وهو معروف من رواية أحمد وغيره، فدل

    ج/ 17 ص -310-ذلك على أن المحنة إنما تنقطع إذا دخلوا دار الجزاء، وأما قبل دار الجزاء امتحان وابتلاء‏.‏
    فإذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشر بينهم، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني الثالثة، سألته ألا يهلك أمتى بسنة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها‏"‏‏.‏ والبأس مشتق من البؤس، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ‏"‏ قال ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏‏.‏‏"أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏أعوذ بوجهك‏"‏‏.‏‏"أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏هاتان أهون‏"‏، فدل على أنه لابد أن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول في هذه الحال، وهم فيها في جاهلية‏.‏
    ولهذا قال الزهري‏:‏ وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللّه ﷺ متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج

    ج/ 17 ص -311-أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية‏.‏ وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي اللّه عنها أنها كانت تقول‏:‏ ترك الناس العمل بهذه الآية تعني قوله تعالى ‏:‏ ‏"وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا‏"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر اللّه تعالى فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية‏.‏
    وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى اللّه والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم اللّه أقر بعضهم بعضًا، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضًا، ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله‏.‏وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم، يظلمون الأمة ويعتدون عليهم، إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين، وكذلك سائر أهل الأهواء، فإنهم يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها، كما تفعل الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء؛ ابتدعوا بدعة وكفروا من خالفهم فيها،

    ج/ 17 ص -312-واستحلوا منع حقه وعقوبته‏.‏
    فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث اللّه به الرسول ﷺ، إما عادلون، وإما ظالمون‏.‏ فالعادل فيهم الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم الذي يعتدى على غيره، وهؤلاء ظالمون مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏"‏ ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضًا، كالمقلدين لأئمة الفقه الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم اللّه ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نوابًا عن الرسول، وقالوا‏:‏ هذه غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعى أن قول متبوعه هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور‏.‏
    وكان الذين امتحنوا أحمد وغيره من هؤلاء الجاهلين، فابتدعوا كلامًا متشابهًا نفوا به الحق، فأجابهم أحمد لما ناظروه في المحنة، وذكروا الجسم ونحو ذلك، وأجابهم بإني أقول كما قال اللّه تعالى‏:‏
    ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ"‏، وأما لفظ الجسم فلفظ مبتدع محدث، ليس على أحد أن يتكلم به ألبتة، والمعنى الذي يراد به مجمل، ولم تبينوا مرادكم حتى نوافقكم على المعنى الصحيح، فقال‏:‏ ما أدرى ما تقولون‏؟‏

    ج/ 17 ص -313-لكن أقول‏:‏ ‏"اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏‏.‏ يقول‏:‏ ما أدري ما تعنون بلفظ الجسم، فأنا لا أوافقكم على إثبات لفظ ونفيه، إذ لم يرد الكتاب والسنة بإثباته ولا نفيه، إن لم نَدْرِ معناه الذي عناه المتكلم، فإن عني في النفي والإثبات ما يوافق الكتاب والسنة وافقناه، وإن عني ما يخالف الكتاب والسنة في النفي والإثبات لم نوافقه‏.‏
    ولفظ ‏[‏الجسم‏]‏ و‏[‏الجوهر‏]‏ ونحوهما لم يأت في كتاب اللّه ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين التكلم بها في حق اللّه تعالى لا بنفي ولا إثبات؛ ولهذا قال أحمد في رسالته إلى المتوكل‏:‏ لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب اللّه، أو في حديث عن رسول ﷺ، أو عن الصحابة أو التابعين لهم بإحسان، وأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود‏.‏
    وذكر أيضًا فيما حكاه عن الجهمية أنهم يقولون‏:‏ ليس فيه كذا ولا كذا ولا كذا، وهو كما قال، فإن لفظ الجسم له في اللغة التي نزل بها القرآن معنى، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏"‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏،

    ج/ 17 ص -314-وقال تعالى‏:‏ ‏"وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 247‏]‏‏.‏قال ابن عباس‏:‏ كان طالوت أعلم بنى إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه، والبسطة‏:‏ السعة‏.‏قال ابن قتيبة‏:‏ هو من قولك‏:‏ بسطت الشيء، إذا كان مجموعا ففتحته ووسعته‏.‏قال بعضهم‏:‏ والمراد بتعظيم الجسم‏:‏ فضل القوة؛ إذ العادة أن من كان أعظم جسمًا كان أكثر قوة، فهذا لفظ الجسم في لغة العرب التي نزل بها القرآن‏.‏ قال الجوهري‏:‏ قال أبو زيد الأنصاري الجسم‏:‏ الجسد، وكذلك الجسمان والجثمان‏.‏وقال الأصمعي‏:‏ الجسم، والجسد، والجثمان الشخص‏.‏ وقال جماعة‏:‏ جسم الإنسان يقال له‏:‏ الجثمان، وقد جسم الشيء، أي‏:‏ عظم، فهو جسيم وجسام، والجِسَامُ بالكسر جمع جسيم‏.‏قال أبو عبيدة‏:‏ تجسمت فلانا من بين القوم، أي‏:‏ اخترته، كأنك قصدت جسمه‏.‏كما تقول‏:‏ تأتيته، أي‏:‏ قصدت أتيه وشخصه، وأنشد أبو عبيدة‏:‏
    تَجَسَّمْتُهُ من بينهن بمرهف
    وتَجَسَّمْتُ الأرضَ‏:‏ إذا أخذت نحوها تُريدُها، وتَجَسَّمَ من الجسم‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ تَجَسَّمْتُ الأمر، أي‏:‏ ركبت أجسمه وجسيمه، أي معظمه، قال‏:‏ وكذلك تَجَسَّمْتُ الرَّمْلَ والجَبَلَ، أي‏:‏ ركبت أعظمه، والأجْسَمُ‏:‏ الأضخم‏.‏ قال عامر بن الطفيل‏:‏

    ج/ 17 ص -315- لقد علم الحىُّ من عامرٍ بأن لنا الذِّرْوَةَ الأجْسَما

    فهذا الجسم في لغة العرب، وعلى هذا فلا يقال للهواء‏:‏ جسم، ولا للنَّفَسِ الخارج من الإنسان‏:‏ جسم، ولا لروحه المنفوخة فيه‏:‏ جسم‏.‏ ومعلوم أن اللّه سبحانه لا يماثل شيئًا من ذلك، لا بدن الإنسان ولا غيره، فلا يوصف اللّه تعالى بشيء من خصائص المخلوقين، ولا يطلق عليه من الأسماء ما يختص بصفات المخلوقين، فلا يجوز أن يقال‏:‏ هو جسم، ولا جسد‏.‏
    وأما أهل الكلام، فالجسم عندهم أعم من هذا، وهم مختلفون في معناه اختلافا كثيرًا عقليًا، واختلافًا لفظيًا اصطلاحيًا‏.‏فهم يقولون‏:‏ كل ما يشار إليه إشارة حسية فهو جسم، ثم اختلفوا بعد هذا، فقال كثير منهم‏:‏ كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر الفردة، ثم منهم من قال‏:‏ الجسم أقل ما يكون جوهرًا، بشرط أن ينضم إلى غيره‏.‏ وقيل‏:‏ بل الجوهران، والجواهر فصاعدًا‏.‏ وقيل‏:‏ بل أربعة فصاعدًا‏.‏وقيل‏:‏ بل ستة‏.‏وقيل‏:‏ بل ثمانية‏.‏ وقيل‏:‏ بل ستة عشر‏.‏وقيل‏:‏ بل اثنان وثلاثون، وهذا قول من يقول‏:‏ إن الأجسام كلها مركبة من الجواهر التي لا تنقسم‏.‏
    وقال آخرون من أهل الفلسفة‏:‏ كل الأجسام مركبة من الهيولى

    ج/ 17 ص -316-والصورة، لا من الجواهر الفردة‏.‏
    وقال كثير من أهل الكلام وغير أهل الكلام‏:‏ ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا، ولا من هذا ولا من هذا، وهذا قول الهشامية والكُلابية والضرارية وغيرهم من الطوائف الكبار، لا يقولون بالجوهر الفرد ولا بالمادة والصورة، وآخرون يدعون إجماع المسلمين على إثبات الجوهر الفرد، كما قال أبو المعالى وغيره‏:‏ اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادًا، ومع هذا، فقد شك هو فيه، وكذلك شك فيه أبو الحسين البصري‏.‏ وأبو عبد اللّه الرازي‏.‏
    ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا أحد من أئمة العلم المشهورين بين المسلمين، وأول من قال ذلك في الإسلام طائفة من الجهمية والمعتزلة، وهذا من الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، ولكن حاكى هذا الإجماع لما لم يعرف أصول الدين إلا ما في كتب الكلام، ولم يجد إلا من يقول بذلك، اعتقد هذا إجماع المسلمين، والقول بالجوهر الفرد باطل، والقول بالهيولى والصورة باطل، وقد بسط الكلام على هذه المقالات في مواضع أخر‏.‏

    ج/ 17 ص -317-وقال آخرون‏:‏ الجسم هو القائم بنفسه، وكل قائم بنفسه جسم، وكل جسم فهو قائم بنفسه، وهو مشار إليه، واختلفوا في الأجسام‏:‏ هل هي متماثلة أم لا‏؟‏ على قولين مشهورين‏.‏
    وإذا عرف ذلك، فمن قال‏:‏ إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات، فقد علم بالشرع والعقل أن اللّه ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت للّه مثلًا في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال‏:‏ إنه جسم بهذا المعنى، فهو مبطل، ومن قال‏:‏ إنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة، ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام، ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عرج بالرسول ﷺ إليه، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا قوله باطل‏.‏ وكذلك كل من نفي ما أثبته اللّه ورسوله، وقال‏:‏ إن هذا تجسيم فنفيه باطل، وتسمية ذلك تجسيمًا تلبيس منه، فإنه إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسمًا، فقد أبطل، وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسمًا مركبًا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة، أو أن هذا يقتضي أن يكون جسمًا، والأجسام متماثلة، قيل له‏:‏ أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة، وفي أنها مركبة، فلا يقولون‏:‏ إن الهواء مثل الماء

    ج/ 17 ص -318-ولا أبدان الحيوان مثل الحديد والجبال، فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون مماثلًا لخلقه، إذا أثبتوا له ما أثبت له الكتاب والسنة‏؟‏ ‏!‏ واللّه تعالى قد نفي المماثلات في بعض المخلوقات، وكلاهما جسم كقوله‏:‏ ‏"وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ‏"‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏، مع أن كلاهما بشر، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ إذا كان لرب السموات علم وقدرة أنه يكون مماثلًا لخلقه‏؟‏ ‏!‏ والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله‏.‏
    ونكتة الأمر‏:‏ أن الجسم في اعتقاد هذا النافي يستلزم مماثلة سائر الأجسام، ويستلزم أن يكون مركبًا من الجواهر الفردة، أو من المادة والصورة، وأكثر العقلاء يخالفونه في هذا التلازم، وهذا التلازم منتف باتفاق الفريقين، وهو المطلوب‏.‏
    فإذا اتفقوا على انتفاء النقص المنفي عن اللّه شرعًا وعقلًا؛ بقي بحثهم في الجسم الاصطلاحى‏:‏ هل هو مستلزم لهذا المحذور‏؟‏ وهو بحث عقلى، كبحث الناس في الأعراض‏:‏ هل تبقي أو لا تبقي‏؟‏ وهذا البحث العقلى لم يرتبط به دين المسلمين، بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق اللّه تعالى لا نفيًا ولا إثباتًا، فليس لأحد أن يبتدع اسمًا مجملًا يحتمل معاني مختلفة، لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين، ولو كان قد نطق باللغة العربية، فكيف إذا

    ج/ 17 ص -319-أحدث للفظ معنى آخر‏؟‏ ‏!‏
    والمعنى الذي يقصده إذا كان حقًا عبر عنه بالعبارة التي لا لبس فيها، فإذا كان معتقده أن الأجسام متماثلة، وأن اللّه ليس كمثله شيء، وهو سبحانه لا سمى له، ولا كُفْو له، ولا ند له، فهذه عبارات القرآن تؤدى هذا المعنى بلا تلبيس ولا نزاع، وإن كان معتقده أن الأجسام غير متماثلة، وأن كل ما يرى وتقوم به الصفات فهو جسم، فإن عليه أن يثبت ما أثبته اللّه ورسوله من علمه وقدرته وسائر صفاته، كقوله‏:‏ ‏
    "وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمتينُ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏، وقوله عليه السلام في حديث الاستخارة‏:‏ ‏"‏اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك‏"‏‏.‏ وقوله في الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق‏"‏‏.‏ ويقول كما قال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"‏إنكم ترون ربكم يوم القيامة عيانًا كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته‏"‏ فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئيُّ كالمرئيِّ‏.‏
    فهذه عبارات الكتاب والسنة عن هذا المعنى الصحيح بلا تلبيس ولا نزاع بين أهل السنة المتبعين للكتاب والسنة وأقوال الصحابة ثم بعد هذا من كان قد تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله، فلازم الحق حق، لكن ذلك المعنى لابد أن يدل

    ج/ 17 ص -320-الشرع عليه فيبينه بالألفاظ الشرعية، وإن قُدِّرَ أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده، وحينئذ فليس لأحد أن يدعو الناس إليه، وإن قدر أنه في نفسه حق‏.
    ومسألة تماثل الأجسام وتركيبها من الجواهر الفردة، قد اضطرب فيها جماهير أهل الكلام، وكثير منهم يقول بهذا تارة وبهذا تارة؛ وأكثر ذلك لأجل الألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة، وقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع‏.‏
    لكن المقصود هنا أنه لو قُدِّرَ أن الإنسان تبين له أن الأجسام ليست متماثلة، ولا مركبة لا من هذا ولا من هذا، لم يكن له أن يبتدع في دين الإسلام قوله‏:‏ إن اللّه جسم ويناظر على المعنى الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة، بل يكفيه إثبات ذلك المعنى بالعبارات الشرعية‏.‏ ولو قدر أنه تبين له أن الأجسام متماثلة، وأن الجسم مركب، لم يكن له أن يبتدع النفي بهذا الاسم، ويناظر على معناه الذي اعتقده بعقله، بل ذلك المعنى المعلوم بالشرع والعقل يمكن إظهاره بعبارة لا إجمال فيها ولا تلبيس‏.‏والذين يقولون‏:‏ إن الجسم مركب من الجواهر، يدعى كثير منهم أنه كذلك في لغة العرب؛ لأن العرب يقولون‏:‏ هذا أجسم من هذا يريدون به أنه أكثر أجزاء منه ويقولون‏:‏ هذا جسيم، أى‏:‏ كثير الأجزاء‏.‏

    ج/ 17 ص -321-قال‏:‏ والتفضيل بصيغة أفعل، إنما يكون لما يدل عليه الاسم، فإذا قيل‏:‏ هذا أعلم وأحلم، كان ذلك دالًا على الفضيلة فيما دل عليه لفظ العلم والحلم، فلما قالوا‏:‏ أجسم لما كان أكثر أجزاءً دل على أن لفظ الجسم عندهم المراد به المركب، فمن قال‏:‏ جسم وليس بمركب، فقد خرج عن لغة العرب‏.‏
    قالوا‏:‏ وهذه تخليطة في اللفظ، وإن كنا لا نكفره، إذا لم يثبت خصائص الجسم من التركيب والتأليف، وقد نازعهم بعضهم في قولهم‏:‏ هذا أجسم من هذا، وقالوا‏:‏ ليس هذا اللفظ من لغة العرب، كما يحكى عن أبي زيد، فيقال له‏:‏ لا ريب أن العرب تقول‏:‏ هذا جسيم، أي‏:‏ عظيم الجثة، وهذا أجسم من هذا، أي‏:‏ أعظم جثة، لكن كون العرب تعتقد أن ذلك لكثرة الأجزاء التي هي الجواهر الفردة، إنما يكون إذا كان أهل اللغة قاطبة يعتقدون أن الجسم مركب من الجواهر الفردة، والجوهر الفرد هو شيء قد بلغ من الصغر والحقارة إلى أنه لا يتميز يمينه من يساره‏.‏ ومعلوم أن أكثر العقلاء من بني آدم لا يتصور الجوهر الفرد، والذين يتصورونه أكثرهم لا يثبتونه، والذين أثبتوه إنما يثبتونه بطرق خفية طويلة بعيدة، فيمتنع أن يكون اللفظ الشائع في اللغة التي ينطق بها خواصها وعوامها أرادوا به هذا‏.‏
    وقد علم بالاضطرار أن أحدًا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم

    ج/ 17 ص -322-ينطق بإثبات الجوهر الفرد، ولا بما يدل على ثبوته عنده، بل ولا العرب قبلهم، ولا سائر الأمم الباقين على الفطرة، ولا أتباع الرسل، فكيف يدعى عليهم أنهم لم يقولوا‏:‏ لفظ جسم إلا لما كان مركبًا مؤلفًا‏؟‏ ‏!‏ ولو قلت لمن شئت من العرب‏:‏ الشمس والقمر والسماء مركب عندك من أجزاء صغار كل منها لا يقبل التجزيء، أو الجبال أو الهواء أو الحيوان أو النبات لم يتصور هذا المعنى إلا بعد كلفة، ثم إذا تصوره قد يكذبه بفطرته، ويقول‏:‏ كيف يمكن أن يكون شيء لا يتميز منه جانب عن جانب‏؟‏ ‏!‏ وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد، فالفقهاء قاطبة تنكره، وكذلك أهل الحديث والتصوف‏.‏
    ولهذا كان الفقهاء متفقين على استحالة بعض الأجسام إلى بعض، كاستحالة العَذِرَةِ رمادًا، والخنزير ملحًا، ثم تكلموا في هذه الاستحالة هل تطهر أم لا تطهر‏؟‏ والقائلون بالجوهر الفرد لا تستحيل الذوات عندهم، بل تلك الجواهر التي كانت في الأول هي بعينها في الثاني، وإنما اختلف التركيب؛ ولهذا يتكلم بلفظ التركيب في الماء ونحوه من الفقهاء المتأخرين من كان قد أخذ هذا التركيب عن المتكلمين، ويقول‏:‏ إن الماء يفارق غيره في التركيب فقط‏.‏وكذلك القائلون بالجوهر الفرد عندهم‏:‏ إنا لم نشاهد قط إحداث الله تعالى لشيء من الجواهر والأعيان القائمة بنفسها، وإن جميع ما يخلقه من الحيوان والنبات والمعدن والثمار والمطر

    ج/ 17 ص -323-والسحاب وغير ذلك إنما هو جمع الجواهر وتفريقها، وتغيير صفاتها من حال إلى حال، لا أنه يبدع شيئًا من الجواهر والأجسام القائمة بأنفسها، وهذا القول أكثر العقلاء ينكره، ويقول‏:‏ هو مخالف للحس والعقل والشرع، فضلًا عن أن يكون الجسم في لغة العرب مستلزمًا لهذا المعنى‏.‏
    ثم الجسم قد يراد به الغلظ نفسه، وهو عرض قائم بغيره، وقد يراد به الشيء الغليظ، وهو القائم بنفسه‏.‏فنقول‏:‏ هذا الثوب له جسم، أى‏:‏ غلظ، وقوله‏:
    ‏ ‏"وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 247‏]‏ قد يحتج به على هذا، فإنه قرن الجسم بالعلم الذي هو مصدر‏.‏فنقول‏:‏ المعنى‏:‏ ‏"وَزَادَهُ بَسْطَةً‏"‏ في قدره، فجعل قدر بدنه أكبر من بدن غيره، فيكون الجسم هو القدر نفسه لا نفس المقدر‏.‏
    وكذلك قوله تعالى‏:‏
    ‏"تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ‏"‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ صورهم القائمة بأبدانهم، كما تقول‏:‏ أعجبني حسنه وجماله ولونه وبهاؤه، فقد يراد صفة الأبدان، وقد يراد نفس الأبدان، وهم إذا قالوا‏:‏ هذا أجسم من هذا، أرادوا أنه أغلظ وأعظم منه، أما كونهم يريدون بذلك أن ذلك العظم والغلظ كان لزيادة الأجزاء، فهذا مما يعلم قطعًا أنه لم يخطر ببال أهل اللغة، إلا من أخذ ذلك عمن اعتقده من أهل الكلام المحدث الذي أحدث في الإسلام بعد انقراض عصر الصحابة، وأكثر التابعين، فإن هذا لم

    ج/ 17 ص -324-يعرف في الإسلام من تكلم به أو بمعناه إلا في أواخر الدولة الأموية، لما ظهر جهم بن صفوان، والجعد بن درهم، ثم ظهر في المعتزلة‏.‏
    فقد تبين أن من قال‏:‏ الجسم هو المؤلف المركب، واعتقد أن الأجسام مركبة من الجواهر الفردة، فقد ادعى معنى عقليًا ينازعه فيه أكثر العقلاء من بني آدم، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه وافقه عليه، وأنه جعل لفظ الجسم في اصطلاحه يدل على معنى لا يدل عليه اللفظ في اللغة، فقد غَيَّرَ معنى اللفظ في اللغة، وادعى معنى عقليًا فيه نزاع طويل، وليس معه من الشرع ما يوافق ما ادعاه من معنى اللفظ، ولا ما ادعاه من المعنى العقلي، فاللغة لا تدل على ما قال، والشرع لا يدل على ما قال، والعقل لم يدل على مسميات الألفاظ، وإنما يدل على المعنى المجرد، وذلك فيه نزاع طويل، ونحن نعلم بالاضطرار أن ذلك المعنى الذي وجب نفيه عن الله لا يحتاج نفيه إلى ما أحدثه هذا من دلالة اللفظ، ولا ما اداعاه من المعنى العقلي، بل الذين جعلوا هذا عمدتهم في تنزيه الرب على نفي مسمى الجسم، لا يمكنهم أن ينزهوه عن شيء من النقائص ألبتة، فإنهم إذا قالوا‏:‏ هذا من صفات الأجسام، فكل ما أثبتوه هو أيضًا من صفات الأجسام، مثل كونه حيًا عليمًا قديرًا، بل كونه موجودًا قائمًا بنفسه، فإنهم لا يعرفون هذا في الشاهد

    ج/ 17 ص -325-إلا جسمًا، فإذا قال المُنَازِعُ‏:‏ أنا أقول فيما نفيتموه نظير قولكم فيما أثبتموه، انقطعوا‏.‏
    ثم هؤلاء لهم في استحقاق الرب لصفات الكمال عندهم، هل علم بالإجماع فقط، أو علم بالعقل أيضًا‏؟‏ فيه قولان‏.‏ فمن قال‏:‏ إن ذلك لم يعلم بالعقل كأبي المعالي والرازي وغيرهما لم يبق معهم دليل عقلى ينزهون به الرب عن كثير من النقائص، هذا إذا لم ينف إلا ما يجب نفيه عن الله، مثل نفيه للنقائص، فإنه يجب تنزيه الرب عنها، وينفي عنه مماثلة المخلوقات، فإنه كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب يجب تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له، وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله، و‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏، دلت على النوعين‏.‏ فقوله‏:‏ ‏"أَحَدٌ‏"‏، مع قوله‏:‏ ‏"وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏ ينفي المماثلة والمشاركة، وقوله‏: ‏"الصَّمَدُ‏"‏، يتضمن جميع صفات الكمال، فالنقائص جنسها منفي عن الله تعالى وكل ما اختص به المخلوق، فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها، بخلاف ما يوصف به الرب، ويوصف العبد بما يليق به، مثل العلم والقدرة والرحمة، ونحو ذلك، فإن هذه ليست نقائص، بل ما ثبت لله من هذه المعاني، فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات، فضلا عن أن يماثله فيه، بل ما خلقه الله في

    ج/ 17 ص -326-الجنة من المآكل والمشارب والملابس، لا يماثل ما خلقه في الدنيا وإن اتفقا في الاسم، وكلاهما مخلوق‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما ‏:‏ ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، فقد أخبر الله أن في الجنة لبنًا وخمرًا وعسلًا وماءً وحريرًا وذهبًا وفضةً، وتلك الحقائق ليست مثل هذه، وكلاهما مخلوق‏.‏فالخالق - تعالى - أبعد عن مماثلة المخلوقات من المخلوق إلى المخلوق‏.‏
    وقد سمى الله نفسه عليمًا، حليمًا، رؤوفًا، رحيمًا، سميعًا، بصيرًا، عزيزًا، ملكًا، جبارًا، متكبرًا، مؤمنًا، عظيمًا، كريمًا، غنيًا، شكورًا، كبيرًا، حفيظًا، شهيدًا، حقًا، وكيلًا، وليًا، وسمى أيضًا بعض مخلوقاته بهذه الأسماء، فسمى الإنسان سميعًا بصيرًا، وسمى نبيه رؤوفًا رحيمًا، وسمى بعض عباده ملكًا، وبعضهم شكورًا، وبعضهم عظيمًا، وبعضهم حليمًا وعليمًا، وسائر ما ذكر من الأسماء مع العلم بأنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلًا للخالق جل جلاله في شيء من الأشياء‏.‏
    وكذلك النزاع في لفظ التحيز والجهة ونحو ذلك، فمن الناس من يقول‏:‏ هو متحيز، وهو في جهة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ ليس بمتحيز، وليس في جهة‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ هو في جهة وليس بمتحيز، ولفظ المتحيز يتناول الجسم، والجوهر الفرد، ولفظ الجوهر قد يراد به

    ج/ 17 ص -327-المتحيز، وقد يراد به الجوهر الفرد، ومن الفلاسفة من يَدَّعى إثبات جواهر قائمة بأنفسها غير متحيزة‏.‏ ومتأخرو أهل الكلام كالشهرستانى والرازي والآمدى ونحوهم يقولون‏:‏ ليس في العقل ما يحيل ذلك؛ ولهذا كان من سلك سبيل هؤلاء وهو إنما يثبت حدوث العالم بحدوث الأجسام يقول بتقدير وجود جواهر عقلية، فليس في هذا الدليل ما يدل على حدوثها؛ ولهذا صار طائفة ممن خلط الكلام بالفلسفة إلى قِدَمِ الجواهر العقلية، وحدوث الأجسام، وأن السبب الموجب لحدوثها هو حدوث تصور من تصورات النفس، وبعض أعيان المصنفين كان يقول بهذا‏.‏
    وكذلك الأرموى صاحب ‏[‏اللباب‏]‏ الذي أجاب عن شبهة الفلاسفة على دوام الفاعلية المتضمنة‏:‏ أنه لابد للحدوث من سبب، فأجاب بالجواب الباهر الذي أخذه من كلام الرازي في ‏[‏المطالب العالية‏]‏ فإنه أجاب به، وهو في ‏[‏المطالب العالية‏]‏ يخلط كلام الفلاسفة بكلام المتكلمين، وهو في مسألة الحدوث والقدم حائر، وهذا الجواب من أفسد الأجوبة‏.‏
    فإنه يقال‏:‏ ما الموجب لحدوث تلك التصورات دائمًا‏؟‏ ثم إن النفس عندهم لابد أن تكون متصلة بالجسم، فيمتنع وجود نفس بدون جسم‏.‏

    ج/ 17 ص -328-وأيضًا، فالذي علم بالاضطرار من دين الرسل‏:‏ أن كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن‏.‏
    وأيضًا، فما تثبته الفلاسفة من الجواهر العقلية إنما يوجد في الذهن لا في الخارج، وأما أكثر المتكلمين فقالوا‏:‏ انتفاء هذه معلوم بضرورة العقل‏.‏وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن ما تدعى الفلاسفة إثباته من الجواهر العقلية التي هي العقل والنفس والمادة والصورة فلا حقيقة لها في الخارج، وإنما هي أمور معقولة في الذهن يجردها العقل من الأمور المعينة كما يجرد العقل الكليات المشتركة بين الأصناف، كالحيوانية الكلية، والإنسانية الكلية، والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان‏.‏
    ومن هؤلاء من يظن أنها تكون في الخارج كليات، وأن في الخارج ماهيات كلية مقارنة للأعيان غير الموجودات المعينة، وكذلك منهم من يثبت كليات مجردة عن الأعيان يسمونها‏:‏ ‏[‏المثل الأفلاطونية‏]‏، ومنهم من يثبت دهرًا مجردًا عن المتحرك والحركة، ويثبت خلاءًا مجردًا ليس هو متحيزًا ولا قائمًا بمتحيز، ويثبت هيولى مجردة عن جميع الصور، والهيولى في لغتهم بمعنى المحل‏.‏ يقال‏:‏ الفضة هيولى الخاتم، والدرهم والخشب هيولى الكرسي، أى‏:‏ هذا المحل الذي تصنع فيه هذه الصورة، وهذه الصورة الصناعية عرض من الأعراض، وَيَدَّعُونَ أن للجسم هيولي محل

    ج/ 17 ص -329-الصورة الجسمية غير نفس الجسم القائم بنفسه، وهذا غلط؛ وإنما هذا يقدر في النفس كما يقدر امتداد مجرد عن كل ممتد، وعدد مجرد عن كل معدود، ومقدار مجرد عن كل مقدر، وهذه كلها أمور مقدرة في الأذهان، لا وجود لها في الأعيان‏.‏وقد اعترف بذلك من عادته نصر الفلاسفة من أهل النظر‏.‏كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع‏.‏
    فالجواهر العقلية التي يثبتها هؤلاء الفلاسفة يعلم بصريح العقل بعد التصور التام انتفاؤها في الخارج، وأما الملائكة الذين أخبر الله عنهم، فهذه لا يعرفها هؤلاء الفلاسفة أتباع أرسطو، ولا يذكرونها بنفي ولا إثبات، كما لا يعرفون النبوات، ولا يتكلمون عليها بنفي ولا إثبات، إنما تكلم في ذلك متأخروهم كابن سينا وأمثاله الذين أرادوا أن يجمعوا بين النبوات وبين الفلسفة؛ فلبسوا ودلسوا‏.‏
    وكذلك ‏[‏العلة الأولى‏]‏ التي يثبتونها لهذا العالم إنما أثبتوا علة غائىة يتحرك الفلك للتشبه بها، وتحريكها للفلك من جنس تحريك الإمام المقتدى به للمؤتم المقتدى، إذا كان يحب أن يتشبه بإمامه ويقتدى بإمامه، ولفظ ‏[‏الإله‏]‏ في لغتهم يراد به المتبوع الإمام الذي يتشبه به، فالفلك عندهم يتحرك للتشبه بالإله؛ ولهذا جعلوا ‏[‏الفلسفة العليا‏]‏ و‏[‏الحكمة الأولى‏]‏ إنما هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، وكلام أرسطو في علم ما بعد الطبيعة في ‏[‏مقالة اللام‏]‏ التي هي منتهي فلسفته

    ج/ 17 ص -330-وفي غيرها كله يدور على هذا، وتارة يشبه تحريكه للفلك بتحريك المعشوق للعاشق، لكن التحريك هنا قد يكون لمحبة العاشق ذات المعشوق، أو لغرض يناله منه، وحركة الفلك عندهم ليست كذلك، بل يتحرك ليتشبه بالعلة الأولى، فهو يحبها، أي‏:‏ يحب التشبه بها، لا يحب أن يعبدها، ولا يحب شيئًا يحصل منها، ويشبه ذلك أرسطو بحركة النواميس لأتباعها، أي‏:‏ أتباع الناموس قائمون بما في الناموس، ويقتدون به، والناموس عندهم‏:‏ هي السياسة الكلية للمدائن التي وضعها لهم ذوو الرأي والعقل، لمصلحة دنياهم؛ لئلا يتظالموا ولا تفسد دنياهم‏.‏
    ومن عرف النبوات منهم يظن أن شرائع الأنبياء من جنس نواميسهم، وأن المقصود بها مصلحة الدنيا بوضع قانون عدلي؛ ولهذا أوجب ابن سينا وأمثاله النبوة، وجعلوا النبوة لابد منها لأجل وضع هذا الناموس، ولما كانت الحكمة العملية عندهم هي الخلقية، والمنزلية، والمدنية، جعلوا ما جاءت به الرسل من العبادات والشرائع والأحكام هي من جنس الحكمة الخلقية، والمنزلية، والمدنية فإن القوم لا يعرفون الله، بل هم أبعد عن معرفته من كفار اليهود والنصارى بكثير‏.‏وأرسطو المعلم الأول من أجهل الناس برب العالمين إلى الغاية، لكن لهم معرفة جيدة بالأمور الطبيعية، وهذا بحر علمهم، وله تفرغوا،

    ج/ 17 ص -331-وفيه ضيعوا زمانهم، وأما معرفة الله تعالى فحظهم منها مبخوس جدًا، وأما ملائكته وأنبياؤه وكتبه ورسله والمعاد، فلا يعرفون ذلك البتة، ولم يتكلموا فيه لا بنفي ولا إثبات، وإنما تكلم في ذلك متأخروهم الداخلون في الملل‏.‏
    وأما قدماء اليونان، فكانوا مشركين من أعظم الناس شركًا وَسِحْرًا، يعبدون الكواكب والأصنام؛ ولهذا عظمت عناياتهم بعلم الهيئة والكواكب لأجل عبادتها، وكانوا يبنون لها الهياكل، وكان آخر ملوكهم بطليموس صاحب ‏[‏المجسطي‏]‏ ولما دخلت الروم في النصرانية، فجاء دين المسيح صلوات الله عليه وسلامه أبطل ما كانوا عليه من الشرك‏.‏
    ولهذا بَدَّل من بَدَّلَ دين المسيح، فوضع دينًا مركبًا من دين الموحدين ودين المشركين، فإن أولئك كانوا يعبدون الشمس والقمر والكواكب، ويصلون لها ويسجدون، فجاء قسطنطين ملك النصارى ومن اتبعه فابتدعوا الصلاة إلى المشرق، وجعلوا السجود إلى الشمس بدلًا عن السجود لها، وكان أولئك يعبدون الأصنام المجسدة التي لها ظل، فجاءت النصارى وصورت تماثيل القداديس في الكنائس، وجعلوا الصور المرقومة في الحيطان والسقوف بدل الصور المجسدة القائمة بأنفسها التي لها ظل‏.‏

    ج/ 17 ص -332-وأرسطو كان وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني نسبة إلى مقدونية وهي جزيرة هؤلاء الفلاسفة اليونانيين، الذين يسمون المشائين، وهي اليوم خراب أو غمرها الماء وهو الذي يؤرخ له النصارى واليهود التاريخ الرومى، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة‏.‏فيظن من يعظم هؤلاء الفلاسفة أنه كان وزير لذى القرنين المذكور في القرآن، ليعظم بذلك قدره، وهذا جهل؛ فإن ذا القرنين كان قبل هذا بمدة طويلة جدًا، وذو القرنين بني سد يأجوج ومأجوج، وهذا المقدونى ذهب إلى بلاد فارس، ولم يصل إلى بلاد الصين؛ فضلا عن السد‏.‏
    والملائكة التي أخبر الله ورسوله بها لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ليسوا عشرة ولا تسعة، وهم عباد الله أحياء، ناطقون، ينزلون إلى الأرض، ويصعدون إلى السماء، ولا يفعلون إلا بإذن ربهم، كما أخبر الله عنهم بقوله‏:‏
    ‏"وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏، وأمثال هذه النصوص‏.‏
    وهؤلاء يدعون أن العقول قديمة أزلية، وأن العقل الفعال هو

    ج/ 17 ص -333-رب كل ما تحت هذا الفلك، والعقل الأول هو رب السموات والأرض وما بينهما، والملاحدة الذين دخلوا معهم من أتباع بني عبيد كأصحاب رسائل إخوان الصفا وغيرهم وكملاحدة المتصوفة، مثل ابن عربى، وابن سبعين، وغيرهما يحتجون لمثل ذلك بالحديث الموضوع‏:‏ ‏[‏أول ما خلق الله العقل‏]‏‏.‏ وفي كلام أبي حامد الغزالي في ‏[‏الكتب المضنون بها على غير أهلها‏]‏ وغير ذلك من معانى هؤلاء قطعة كبيرة، ويعبر عن مذاهبهم بلفظ الملك والملكوت والجبروت، ومراده بذلك الجسم والنفس والعقل، فيأخذ هؤلاء العبارات الإسلامية، ويودعونها معانى هؤلاء، وتلك العبارات مقبولة عند المسلمين، فإذا سمعوها قبلوها، ثم إذا عرفوا المعاني التي قصدها هؤلاء ضل بها من لم يعرف حقيقة دين الإسلام، وأن هذه معانى هؤلاء الملاحدة ليست هي المعاني التي عناها محمد رسول الله ﷺ وإخوانه المرسلون مثل موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏
    ولهذا ضل كثير من المتأخرين بسبب هذا الالتباس، وعدم المعرفة بحقيقة ما جاء به الرسول، وما يقوله هؤلاء حتى يضل بهم خلق من أهل العلم والعبادة والتصوف، ومن ليس له غرض في مخالفة محمد ﷺ، بل يحب اتباعه مطلقًا، ولو عرف أن هذا مخالف لما جاء به لم يقبله، لكن لعدم كمال علمه بمعانى ما أخبر

    ج/ 17 ص -334-به الرسول ومقاصد هؤلاء، يقبل هذا؛ لا سيما إذا كان المتكلم به ممن له نصيب وافر في العلم والكلام والتصوف والزهد والفقه والعبادة‏.‏
    ورأى الطالب أن هذا مرتبته فوق مرتبة الفقهاء الذين إنما يعرفون الشرع الظاهر، وفوق مرتبة المحدث الذي غايته أن ينقل ألفاظا لا يعلم معانيها، وكذلك المقرى والمفسر، ورأى من يعظمه من أهل الكلام، إما موافق لهم وإما خائف منهم، ورأى بحوث المتكلمين معهم في مواضع كثيرة لم يأتوا بتحقيق يبين فساد قولهم، بل تارة يوافقونهم على أصول لهم تكون فاسدة، وتارة يخالفونهم في أمر قالته الفلاسفة ويكون حقًا، مثل من يرى كثيرًا من المتكلمين يخالفهم في أمور طبيعية ورياضية ظانًا أنه ينصر الشرع، ويكون الشرع موافقًا لما اعلم بالعقل، مثل استدارة الأفلاك، فإنه لم يُعْلَمْ بين السلف خِلاَفٌ في أنها مستديرة والآثار بذلك معروفة، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك‏.‏ وكذلك استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، هو مما اتفق عليه الفقهاء، كما قال هؤلاء، إلى أمور أخر‏.‏
    لَكِنْ كثيرٌ من المتكلمين أو أكثرهم لا خبرة لهم بما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ بل ينصر مقالات يظنها دين المسلمين، بل إجماع المسلمين، ولا يكون قد قالها أحد من

    ج/ 17 ص -335-السلف، بل الثابت عن السلف مخالف لها، فلما وقع بين المتكلمين تقصير وجهل كثير بحقائق العلوم الشرعية، وهم في العقليات تارة يوافقون الفلاسفة على باطلهم، وتارة يخالفونهم في حقهم؛ صارت المناظرات بينهم دولًا‏.‏ وإن كان المتكلمون أصح مطلقًا في العقليات الإلهية والكلية، كما أنهم أقرب إلى الشرعيات من الفلاسفة؛ فإن الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية كلام قاصر جدًا، وفيه تخليط كثير، وإنما يتكلمون جيدًا في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها، فكلامهم فيها في الغالب جيد‏.‏
    وأما الغيب الذي تخبر به الأنبياء، والكليات العقلية التي تعم الموجودات كلها، وتقسيم الموجودات كلها قسمة صحيحة فلا يعرفونها البتة؛ فإن هذا لا يكون إلا ممن أحاط بأنواع الموجودات، وهم لا يعرفون إلا الحسيات وبعض لوازمها، وهذا معرفة بقليل من الموجودات جدًا؛ فإن ما لا يشهده الآدميون من الموجودات أعظم قدرًا وصفةً مما يَشْهَدُونَهُ بكثير‏.‏
    ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا أخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وهم يظنون ألا موجود إلا ما علموه هم والفلاسفة يصيرون حائرين متأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه، وإن كان هذا لا دليل عليه، وليس لهم بهذا

    ج/ 17 ص -336-النفي علم؛ فإن عدم العلم ليس علمًا بالعدم، لكن نفيهم هذا كنفي الطبيب للجن؛ لأنه ليس في صناعة الطب ما يدل على ثبوت الجن، وإلا فليس في علم الطب ما ينفي وجود الجن، وهكذا تجد من عرف نوعًا من العلم وامتاز به على العامة الذين لا يعرفونه، فيبقى بجهله نافيًا لما لم يعلمه، وبنو آدم ضلالهم فيما جحدوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به، قال تعالى‏:‏ ‏"بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 39‏]‏؛ وهذا لأن الغالب على الآدميين صحة الحس والعقل، فإذا أثبتوا شيئًا وصدقوا به كان حقًا‏.‏
    ولهذا كان التواتر مقبولًا من جميع أجناس بني آدم؛ لأنهم يخبرون عما شاهدوه وسمعوه، وهذا أمر لا يشترك الخلق العظيم في الغلط فيه، ولا في تعمد الكذب فيه، فإذا علم أنهم لم يتواطؤوا عليه، ولم يأخذه بعضهم عن بعض، كما تؤخذ المذاهب والآراء التي يتلقاها المتأخر عن المتقدم، وقد علم أن هذا مما لا يغلط فيه عادة علم قطعا صدقهم، فإن المخبر إما أن يتعمد الكذب وإما أن يغلط، وكلاهما مأمون في المتواترات، بخلاف ما نفوه وكذبوا به، فإن غالبهم أو كثيرًا منهم ينفون ما لا يعلمون، ويكذبون بما لم يحيطوا بعلمه‏.‏
    فصار هؤلاء الذين ظنوا الموجودات ما عرفه هؤلاء المتفلسفة، إذا سمعوا ما أخبرت به الأنبياء من العرش والكرسي وقالوا‏:‏ العرش هو

    ج/ 17 ص -337-الفلك التاسع، والكرسي هو الثامن، وقد تكلمنا على ذلك في ‏[‏مسألة الإحاطة‏]‏ وبينا جهل من قال هذا عقلًا، وشرعًا، وإذا سمعهم يذكرون الملائكة ظن أنهم العقول والنفوس التي يثبتها المتفلسفة، والقوى التي في الأجسام، وكذلك الجن والشياطين يظن أنها أعراض قائمة بالنفوس، حيث كان هذا مبلغه من العلم، وكذلك يظن ما ذكره ابن سينا وأمثاله من أن الغرائب في هذا العالم سببها قوة فلكية، أو طبيعية أو نفسانية، ويجعل معجزات الأنبياء من باب القوى النفسانية، وهي من جنس السحر، لكن الساحر قصده الشر، والنبي قصده الخير، وهذا كله من الجهل بالأمور الكلية المحيطة بالموجودات وأنواعها، ومن الجهل بما جاء به الرسول، فلا يعرفون من العلوم الكلية ولا العلوم الإلهية إلا ما يعرفه الفلاسفة المتقدمون، وزيادات تلقوها عن بعض أهل الكلام، أو عن أهل الملة‏.‏
    فلهذا صار كلام المتأخرين كابن سينا وأمثاله في الإلهيات والكليات أجود من كلام سلفه؛ ولهذا قربت فلسفة اليونان إلى أهل الإلحاد المبتدعة من أهل الملل، لما فيها من شوب الملة؛ ولهذا دخل فيها بنو عبيد الملاحدة، فأخذوا عن هؤلاء الفلاسفة الصابئة المشركين العقل والنفس، وعن المجوس النور والظلمة، وسموه‏:‏ هم السابق والتالي، وكذلك الملاحدة المنتسبون إلى التصوف والتأله كابن سبعين وأمثاله سلكوا

    ج/ 17 ص -338-مسلكًا جمعوا فيه بزعمهم بين الشرع والفلسفة، وهم ملاحدة ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، وقد بسط الكلام على هؤلاء وهؤلاء في غير هذا الموضع‏.‏
    وإنما ذُكِروا هنا؛ لأن أهل الكلام المحدث صاروا لعدم علمهم بما علمه السلف وأئمة السنة من الكتاب والسنة وآثار الصحابة، ولما وقعوا فيه من الكلاميات الباطلة يُدْخِلُ بسببهم هؤلاء الفلاسفة في الإسلام أمورًا باطلة، ويحصل بهم من الضلال والغي ما لا يتسع هذا الموضع لذكره‏.‏
    ولما أحدثت الجهمية محنتهم، ودعوا الناس إليها، وضرب أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين، كان مبدأ حدوث القرامطة الملاحدة الباطنية من ذلك الزمان، فصارت البدع باب الإلحاد، كما أن المعاصي بريد الكفر، ولبسط هذا موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا الكلام على لفظ التحيز والجهة، وهؤلاء المتكلمون المتفلسفة صار بينهم نزاع في الملائكة‏:‏ هل هي متحيزة أم لا‏؟‏ فمن مال إلى الفلسفة ورأى أن الملائكة هي العقول والنفوس التي يثبتها الفلاسفة، وأن تلك ليست متحيزة، قال‏:‏ إن الملائكة ليست متحيزة، لا سيما وطائفة من الفلاسفة لم تجعل عددها عشرة عقول وتسعة نفوس كما

    ج/ 17 ص -339-هو المشهور عن المشائين بل قال‏:‏ لا دليل على نفي الزيادة، ورأى النبوات قد أخبرت بكثرة الملائكة، فأراد أن يثبت كثرتهم بطريقة فلسفية، كما فعل ذلك أبو البركات صاحب ‏[‏المعتبر‏]‏ والرازي في ‏[‏المطالب العالية‏]‏ وغيرهما‏.‏
    وأما المتكلمون، فإنهم يقولون‏:‏ إن كل ممكن أو كل محدث، أو كل مخلوق، فهو إما متحيز، وإما قائم بمتحيز، وكثير منهم يقول‏:‏ كل موجود إما متحيز، وإما قائم بمتحيز، ويقولون‏:‏ لا يعقل موجود إلا كذلك، كما قاله طوائف من أهل الكلام والنظر، ثم المتفلسفة كابن سينا وأتباعه، والشهرستانى والرازي وغيرهم لما أرادوا إثبات موجود ليس كذلك، كان أكبر عمدتهم إثبات الكليات كالإنسانية المشتركة، والحيوانية المشتركة، وإذا كانت هذه لا تكون كليات إلا في الذهن، فلم ينازعهم الناس في ذلك، وإنما نازعوهم في إثبات موجود خارج الذهن قائم بنفسه، لا يمكن الإحساس به بحال، بل لا يكون معقولًا‏.‏
    وقالوا لهم‏:‏ المعقول ما كان في العقل، وأما ما كان موجودًا قائمًا بنفسه، فلابد أن يمكن الإحساس به، وإن لم نحس نحن به في الدنيا، كما لا نحس بالجن والملائكة وغير ذلك؛ فلابد أن يحس به غيرنا كالملائكة والجن، وأن يحس به بعد الموت، أو في الدار الآخرة، أو

    ج/ 17 ص -340-يحس به بعض الناس دون بعض في الدنيا، كالأنبياء الذين رأوا الملائكة وسمعوا كلامهم‏.‏
    وهذه الطريقة وهو أن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته هي التي سلكها أئمة النظار كابن كُلاَّب وغيره وسلكها ابن الزاغوني وغيره‏.‏ وأما من قال‏:‏ إن كل موجود يجوز رؤيته أو يجوز أن يحس بسائر الحواس الخمس كما يقوله الأشعري وموافقوه كالقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي وغيرهما فهذه الطريقة مردودة عند جماهير العقلاء، بل يقولون‏:‏ فسادها معلوم بالضرورة بعد التصور التام، كما بسط في موضعه‏.‏
    وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت على قول الجمهور الذين يقولون‏:‏ هي عين قائمة بنفسها، ليست عَرَضًا من أعراض البدن كالحياة وغيرها ولا جزءًا من أجزاء البدن كالهواء الخارج منه فإن كثيرًا من المتكلمين زعموا أنها عرض قائم بالبدن، أو جزء من أجزاء البدن، لكن هذا مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والخلف، ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم، ومخالف للأدلة العقلية‏.‏
    وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام‏.‏قال القاضي أبو بكر‏:‏ أكثر المتكلمين على أن الروح عرض من الأعراض،

    ج/ 17 ص -341-وبهذا نقول إذا لم ىَعْنِ بالروح النفس، فإنه قال‏:‏ الروح الكائن في الجسد ضربان‏:‏
    أحدهما‏:‏ الحياة القائمة به، والآخر‏:‏ النفس، والنفس ريح ينبث به، والمراد بالنفس‏:‏ ما يخرج بنفس التنفس من أجزاء الهواء المتحلل من المسام، وهذا قول الإسفرائيني وغيره‏.‏ وقال ابن فَوْرَك‏:‏ هو ما يجري في تجاويف الأعضاء، وأبو المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال‏:‏ إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة، أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها، فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة‏.‏
    ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة‏:‏ أن الروح عين قائمة بنفسها، تفارق البدن، وتنعم وتعذب، ليست هي البدن، ولا جزءًا من أجزائه، كالنفس المذكور‏.‏ولما كان الإمام أحمد ممن نص على ذلك كما نص عليه غيره من الأئمة لم يختلف أصحابه في ذلك؛ لكن طائفة منهم كالقاضي أبي يعلى زعموا أنها جسم، وأنها الهواء المتردد في مخاريق البدن؛ موافقة لأحد المعنيين اللذين ذكرهما ابن الباقلاني‏.‏ وهذه الأقوال لما كانت من أضعف الأقوال؛ تسلط بها عليهم خلق كثير‏.‏

    ج/ 17 ص -342-والمقصود هنا أن الذين قالوا‏:‏ إنها عين قائمة بنفسها غير البدن وأجزائه وأعراضه تنازعوا‏:‏ هل هي جسم متحيز‏؟‏ على قولين، كتنازعهم في الملائكة‏.‏
    فالمتكلمون منهم يقولون‏:‏ جسم، والمتفلسفة يقولون‏:‏ جوهر عقلي ليس بجسم، وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن ما تسميه المتفلسفة جواهر عقلية، لا توجد إلا في الذهن، وأصل تسميتهم المجردات والمفارقات هو مأخوذ من نفس الإنسان، فإنها لما كانت تفارق بدنه بالموت، وتتجرد عنه سموها مفارقة مجردة، ثم أثبتوا ما أثبتوه من العقول والنفوس وسموها مفارقات ومجردات بناء على ذلك وهم يريدون بالمفارق للمادة ما لا يكون جسمًا ولا قائمًا بجسم، لكن النفس متعلقة بالجسم تعلق التدبير والعقل، ولا تعلق له بالأجسام أصلا، ولا ريب أن جماهير العقلاء على إثبات الفرق بين البدن والروح التي تفارق، والجمهور يسمون ذلك روحًا، وهذا جسمًا، لكن لفظ الجسم في اللغة ليس هو الجسم في اصطلاح المتكلمين، بل الجسم هو الجسد كما تقدم، وهو الجسم الغليظ أو غلظه، والروح ليست مثل البدن في الغلظ والكثافة؛ ولذلك لا تسمى جسمًا، فمن جعل الملائكة والأرواح ونحو ذلك ليست أجسامًا بالمعنى اللغوي فقد أصاب في ذلك، ورب العالمين أولى ألا يكون جسمًا، فإنه من المشهور في اللغة الفرق بين الأرواح والأجسام‏.‏

    ج/ 17 ص -343-وأما أهل الاصطلاح من المتكلمين والمتفلسفة، فيجعلون مسمى الجسم أعم من ذلك، وهو ما أمكنت الإشارة الحسية إليه، وما قيل‏:‏ إنه هنا وهناك، وما قبل الأبعاد الثلاثة، ونحو ذلك‏.‏
    وكذلك المتحيز في اصطلاح هؤلاء هو الجسم، ويدخل فيه الجوهر الفرد عند من أثبته، وقد تقدم معنى الجسم في اللغة، وأما المتحيز فقد قال تعالى‏:
    ‏ ‏"وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 16‏]‏‏.‏
    وقال الجوهري‏:‏ الحَوْزُ الجمع، وكل من ضم إلى نفسه شيئًا فقد حَازَهُ حَوْزًا، وحِيَازَةً، واحْتَازَهُ أيضًا، والحَوْزُ والحيْزُ‏:‏ السوقُ اللينُ، وقد حاز الإبل يحوزها ويحيزها، وحَوَزَ الإبل‏:‏ ساقها إلى الماء‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ إذا كانت الإبل بعيدة المرعى عن الماء فأول ليلة توجهها إلى الماء ليلة الحوز، وتحوَّزَت الحية وتحيَّزَت‏:‏ تلوت‏.‏ يقال‏:‏ مالك تتحوز تحوز الحية، وتتحيز تحيز الحية‏.‏قال سيبويه‏:‏ هو تَفَعُّل من حزت الشيء، قال القطامي‏:‏

    تَحِيزُ مني خشية أن أضيفها كما انحازت الأفعى مخافة ضارب

    يقول‏:‏ تتنحي عني هذه العجوز وتتأخر خشية أن أنزل عليها ضيفًا‏.‏

    ج/ 17 ص -344-والحيز‏:‏ ما انضم إلى الدار من مرافقها، وكل ناحية حيز، وأصله من الواو، والحيِّزُ تخفيف الحيز، مثل هين وهين، ولين ولين، والجمع أحياز، والحوْزَةُ‏:‏ الناحية، وانحاز عنه‏:‏ انعدل، وانحاز القوم‏:‏ تركوا مركزهم إلى آخر، يقال للأولياء‏:‏ انحازوا عن العدو، وحاصوا، والأعداء انهزموا وولوا مدبرين، وتحاوز الفريقان في الحرب، انحاز كل فريق عن الآخر‏.‏
    فهذا المذكور عن أهل اللغة في هذا اللفظ ومادته يقتضي أن التحيز والانحياز والتحوز ونحو ذلك يتضمن عدولًا من محل إلى محل، وهذا أخص من كونه يحوزه أمر موجود، فهم يراعون في معنى الحوز ذهابه من جهة إلى جهة؛ ولهذا يقولون‏:‏ حزت المال، وحزت الإبل، وذلك يتضمن نقله من جهة إلى جهة، فالشيء المستقر في موضعه كالجبل والشمس والقمر لا يسمونه متحيزًا، وأعم من هذا أن يراد بالمتحيز ما يحيط به حيز موجود، فيسمى كل ما أحاط به غيره أنه متحيز، وعلى هذا فما بين السماء والأرض متحيز؛ بل ما في العالم متحيز إلا سطح العالم الذي لا يحيط به شيء، فإن ذلك ليس بمتحيز، وكذلك العالم جملة ليس بمتحيز بهذا الاعتبار، فإنه ليس في عالم آخر أحاط به‏.‏ والمتكلمون يريدون بالمتحيز ما هو أعم من هذا، والحيز عندهم أهم من المكان، فالعالم كله في حيز، وليس هو في مكان،

    ج/ 17 ص -345-والمتحيز عندهم لا يعتبر فيه أنه يحوزه غيره، ولا يكون له حيز وجودي، بل كلما أُشير إليه وامتاز منه شيء عن شيء فهو متحيز عندهم‏.‏
    ثم هم مختلفون بعد هذا في المتحيز‏:‏ هل هو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة‏؟‏ أو هو غير مركب لا من هذا ولا من هذا‏؟‏ كما تقدم نزاعهم في الجسم، فالجسم عندهم متحيز، ولا يخرج عنه شيء إلا الجوهر الفرد عند من أثبته، وهؤلاء يعتقد كثير منهم أو أكثرهم أن كل متحيز فهو مركب، أى‏:‏ يقبل الانقسام إلى جزء لا يتجرأ، بل يظن بعضهم أن هذا إجماع المسلمين، وأكثرهم يقولون‏:‏ المتحيزات متماثلة في الحد والحقيقة‏.‏ ومن كان معنى المتحيز عنده هذا، فعليه أن ينزه الله - تعالى - أن يكون متحيزًا بهذا الاعتبار، وإذا قال‏:‏ الملائكة متحيزون بهذا الاعتبار، أو الروح متحيزة بهذا الاعتبار نازعه في ذلك جمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم، بل لا يعرف أحد من سلف الأمة وأئمتها يقول‏:‏ إن الملائكة متحيزة بهذا الاعتبار، ولا قالوا لفظًا يدل على هذا المعنى، وكذلك روح بني آدم التي تفارقه بالموت لم يقل أحد من السلف‏:‏ إنها متحيزة بهذا الاعتبار، ولا قال فيها لفظًا يدل على هذا المعنى، فإذا كان إثبات هذا التحيز للملائكة والروح بدعة في الشرع وباطلًا في العقل، فلأن يكون ذلك بدعة وباطلًا في رب

    ج/ 17 ص -346-العالمين بطريق الأولى والأحرى‏.‏
    ومن هنا يتبين أن عامة ما يقوله المتفلسفة وهؤلاء المتكلمة في نفوس بني آدم وفي الملائكة باطل، فكيف بما يقولونه في رب العالمين‏؟‏ ‏!‏ ولهذا توجد الكتب المصنفة التي يذكر فيها مقالات هؤلاء وهؤلاء في هذه المسائل الكبار في رب العالمين، وفي ملائكته، وفي أرواح بني آدم، وفي المعاد، وفي النبوات ليس فيها قول يطابق العقل والشرع، ولا يعرفون ما قاله السلف والأئمة في هذا الباب، ولا ما دل عليه الكتاب والسنة‏.‏
    فلهذا يغلب على فضلائهم الحيرة، فإنهم إذا أنهوا النظر لم يصلوا إلى علم؛ لأن ما نظروا فيه من كلام الطائفتين مشتمل على باطل من الجانبين؛ ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في آخر عمره‏:‏ لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا، ولا تروى غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات‏:‏ ‏
    "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏"‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، ‏"الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، واقرأ في النفي‏:‏ ‏"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏"وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏"‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي‏.‏
    وأما من اعتقد أن المتحيز هو ما باين غيره فانحاز عنه، وليس

    ج/ 17 ص -347-من شرطه أن يكون مركبًا من الأجزاء المنفردة، ولا أنه يقبل التفريق والتقسيم، فإذا قال‏:‏ إن الرب متحيز بهذا المعنى، أي‏:‏ أنه بائن عن مخلوقاته فقد أراد معنى صحيحًا، لكن إطلاق هذه العبارة بدعة، وفيها تلبيس، فإن هذا الذي أراده ليس معنى المتحيز في اللغة، وهو اصطلاح له ولطائفته، وفي المعنى المصطلح نزاع بين العقلاء، فصار يحتمل معنى فاسدًا يجب تنزيه الرب عنه، وليس للإنسان أن يطلق لفظًا يدل عند غيره على معنى فاسد، ويفهم ذلك الغير ذلك المعنى الفاسد من غير بيان مراده؛ بل هؤلاء المتكلمون الذين أرادوا بالمتحيز ما كان مؤلفًا من أجزاء لا تقبل القسمة، وهو ما كان قابلًا للقسمة إذا قالوا‏:‏ إن كل ممكن أو كل محدث أو كل مخلوق، فهو إما متحيز، وإما قائم بمتحيز، كان جماهير العقلاء يخالفونهم في هذا التقسيم، ولم يكن أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ولا سائر أئمة المسلمين موافقًا لهم على هذا التقسيم، فكيف إذا قال من قال منهم‏:‏ كل موجود فهو إما متحيز، وإما قائم بمتحيز، وأراد بالمتحيز ما أراده هؤلاء‏؟‏ ‏!‏ فإن قوله حينئذ يكون أبعد عن الشرع والعقل من قول أولئك؛ ولهذا طالبهم متأخروهم بالدليل على هذا الحصر، وليس خطأ هؤلاء من جهة ما أثبته المتفلسفة من الجواهر العقلية، فإن تلك قد علم بطلانها بصريح العقل أيضًا‏.‏

    ج/ 17 ص -348-وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا
    ومسكون، ولا صعود ولا نزول، وليست داخل العالم ولا خارجه، هو أيضًا كلام أبطل من كلام أولئك المتكلمين عند جماهير العقلاء، ولا سيما من يقول منهم كابن سينا وأمثاله ‏:‏ إنها لا تعرف شيئًا من الأمور الجزئية، وإنما تعرف الأمور الكلية؛ فإن هذا مكابرة ظاهرة، فإنها تعرف بدنها، وتعرف كل ما تراه بالبدن وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده، وتأمر به وتحبه وتكرهه، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها، فكيف يقال‏:‏ إنها لا تعرف الأمور المعينة، وإنما تعرف أمورًا كلية‏؟‏‏!‏
    وكذلك قولهم‏:‏ إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف، كتدبير الملك لمملكته من أفسد الكلام، فإن الملك يدبر أمر مملكته فيأمر وينهي، ولكن لا يصرفهم هو بمشيء ته وقدرته إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم، والملك لا يلتذ بلذة أحدهم، ولا يتألم بتألمه، وليس كذلك الروح والبدن، بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به، ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلًا لدخول شيء من الأجسام المشهودة، فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية، فإن هذه إنما تلاقى السطح الداخل من الأوعية، لا بطونها ولا ظهورها، وإنما يلاقي

    ج/ 17 ص -349-الأوعية منها أطرافها دون أوساطها، وليس كذلك الروح والبدن، بل الروح متعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره، وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل، فإن ذلك له مجار معروفة، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته ولا جريانها في البدن كجريان الدم، فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض‏.‏
    ففي الجملة، كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقًا بالآخر؛ بخلاف الروح والبدن، لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه، وتخرج منه وقت الموت، وتسل منه شيئًا فشيئًا فتخرج من البدن شيئًا فشيئًا لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبرها، والناس لما لم يشهدوا لها نظيرًا عسر عليهم التعبير عن حقيقتها، وهذا تنبيه لهم على أن رب العالمين لم يعرفوا حقيقته، ولا تصوروا كيفيته سبحانه وتعالى وأن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جل جلاله فإن الروح التي هي بعض عبيده توصف بأنها تعرج إذا نام الإنسان، وتسجد تحت العرش، وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلية‏.‏ والإنسان في نومه يحس بتصرفات روحه تصرفات تؤثر في بدنه، فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات، فإنها إذا صعدت إلى مكان فارقت الأول بالكلية، وحركتها

    ج/ 17 ص -350-إلى العلو حركة انتقال من مكان إلى مكان، وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك‏.‏
    فالرب سبحانه إذا وصفه رَسُولُهُ ﷺ بأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وأنه يدنو عشية عرفة إلى الحجاج، وأنه كلم موسى في الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأنه استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض‏:‏ ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا‏:‏ أتينا طائعين لم يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفعال من جنس ما نشاهده من نزول هذه الأعيان المشهودة حتى يقال‏:‏ ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر، فإن نزول الروح وصعودها لا يستلزم ذلك فكيف برب العالمين‏؟‏ ‏!‏ وكذلك الملائكة لهم صعود ونزول من هذا الجنس‏.‏
    فلا يجوز نفي ما أثبته الله ورسوله من الأسماء والصفات، ولا يجوز تمثيل ذلك بصفات المخلوقات، لاسيما ما لا نشاهده من المخلوقات، فإن ما ثبت لما لا نشاهده من المخلوقات من الأسماء والصفات ليس مماثلًا لما نشاهده منها، فكيف برب العالمين الذي هو أبعد عن مماثلة كل مخلوق من مماثلة مخلوق لمخلوق‏؟‏ ‏!‏ وكل مخلوق فهو أشبه بالمخلوق الذي لا يماثله من الخالق بالمخلوق، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏

    ج/ 17 ص -351-وهذا الذي نبهنا عليه مما يظهر به أن ما يذكره صاحب ‏[‏المحصل‏]‏ وأمثاله من تقسيم الموجودات على رأى المتفلسفة والمتكلمة كله تقسيم غير حاصر، وكل من الفريقين مقصر عن سلفه‏.‏أما المتكلمون فلم يسلكوا من التقسيم المسلك الذي دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وكذلك هؤلاء المتفلسفة أتباع أرسطو لم يسلكوا مسلك الفلاسفة الأساطين المتقدمين، فإن أولئك كانوا يقولون بحدوث هذا العالم، وكانوا يقولون‏:‏ إن فوق هذا العالم عالمًا آخر يصفونه ببعض ما وصف النبي ﷺ به الجنة، وكانوا يثبتون معاد الأبدان، كما يوجد هذا في كلام سقراط وتاليس وغيرهما من أساطين الفلاسفة، وقد ذكروا أن أول من قال منهم بقدم العالم أرسطو‏.
    فصل
    وهذه الألفاظ المحدثة المجملة النافية مثل لفظ ‏[‏المركب‏]‏ و ‏[‏المؤلف‏]‏ و ‏[‏المنقسم‏]‏ ونحو ذلك، قد صار كل من أراد نفي شيء مما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات عبر بها عن مقصوده، فيتوهم من لا يعرف مراده أن المراد تنزيه الرب الذي ورد به القرآن، وهو إثبات أحديته وصمديته، ويكون قد أدخل في تلك الألفاظ ما رآه هو منفيا

    ج/ 17 ص -352-وعبر عنه بتلك العبارة وضعًا له واصطلاحا اصطلح عليه هو ومن وافقه على ذلك المذهب، وليس ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن، ولا من لغة أحد من الأمم، ثم يجعل ذلك المعنى هو مسمى الأحد والصمد والواحد ونحو ذلك من الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة ويجعل ما نفاه من المعاني التي أثبتها الله ورسوله من تمام التوحيد‏.‏
    واسم ‏[‏التوحيد‏]‏ اسم معظم جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، فإذا جعل تلك المعانى التي نفاها من التوحد، ظن من لم يعرف مخالفة مراده لمراد الرسول ﷺ أنه يقول بالتوحيد الذي جاءت به الرسل، ويسمى طائفته الموحدين، كما يفعل ذلك الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على نفي شيء من الصفات، ويسمون ذلك توحيدًا، وطائفتهم الموحدين، ويسمون علمهم علم التوحيد، كما تسمى المعتزلة ومن وافقهم نفي القدر عدلاً، ويسمون أنفسهم العدلية، وأهل العدل‏.‏ ومثل هذه البدع كثير جدًا يعبر بألفاظ الكتاب والسنة عن معان مخالفة لما أراده الله ورسوله بتلك الألفاظ، ولا يكون أصحاب تلك الأقوال تلقوها ابتداء عن الله عز وجل ورسوله ﷺ، بل عن شبه حصلت لهم، وأئمة لهم، وجعلوا التعبير عنها بألفاظ الكتاب والسنة حجة لهم، وعمدة لهم؛ ليظهر بذلك أنهم متابعون للرسول ﷺ لا مخالفون له، وكثير منهم لا يعرفون أن

    ج/ 17 ص -353-ما ذكروه مخالف للرسول ﷺ؛ بل يظن أن هذا المعنى الذي أراده هو المعنى الذي أراده الرسول ﷺ وأصحابه؛ فلهذا يحتاج المسلمون إلى شيئين‏:‏
    أحدهما‏:‏ معرفة ما أراد الله ورسوله ﷺ بألفاظ الكتاب والسنة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي بها نزل، وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين في معانى تلك الألفاظ، فإن الرسول لما خاطبهم بالكتاب والسنة عَرَّفهم ما أراد بتلك الألفاظ‏.‏وكانت معرفة الصحابة لمعانى القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بَلَّغوا تلك المعانى إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه‏.‏فإن المعانى العامة التي يحتاج إليها عموم المسلمين، مثل معنى التوحيد، ومعنى الواحد، والأحد، والإيمان، والإسلام ونحو ذلك كان جميع الصحابة يعرفون ما أحب الله ورسوله ﷺ من معرفته ولا يحفظ القرآن كله إلا القليل منهم، وإن كان كل شيء من القرآن يحفظه منهم أهل التواتر، والقرآن مملوء من ذكر وصف الله بأنه أحد، وواحد، ومن ذكر أن إلهكم واحد، ومن ذكر أنه لا إله إلا الله، ونحو ذلك‏.‏
    فلابد أن يكون الصحابة يعرفون ذلك، فإن معرفته أصل الدين وهو أول ما دعا الرسول ﷺ إليه الخلق، وهو أول

    ج/ 17 ص -354-ما يقاتلهم عليه، وهو أول ما أمر رسله أن يأمروا الناس به، وقد تواتر عنه أنه أول ما دعا الخلق إلى أن يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله، ولما أمر بالجهاد بعد الهجرة قال‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله‏"‏‏.‏وفي الصحيحين‏:‏ أنه لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له‏:‏ ‏"‏إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأعلمهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك؛ فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب‏"‏‏.‏
    فقال لمعاذ‏:‏ ليكن أول ما تدعوهم إليه التوحيد، ومع هذا كانوا من أهل الكتاب، كانوا يهودًا، فإن اليهود كانوا كثيرين بأرض اليمن، وهذا الذي أمر به معاذا موافق لقوله تعالى‏:‏ ‏
    "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏"فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏، وهذا مطابق لقوله تعالى‏:‏ ‏"وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏"‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين عنه ﷺ

    ج/ 17 ص -355-أنه قال‏:‏ ‏"‏الإيمان بضعٌ وستون، أو بضع وسبعون شعبة‏:‏ أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان‏"‏‏.‏
    فالمقصود أن معرفة ما جاء به الرسول وما أراده بألفاظ القرآن والحديث هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة، ثم معرفة ما قال الناس في هذا الباب لينظر المعانى الموافقة للرسول والمعانى المخالفة لها‏.‏
    والألفاظ نوعان‏:‏ نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله، فيعرف معنى الأول، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني، ويرد إلى الأول‏.‏هذا طريق أهل الهدى والسنة، وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس، يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعًا لهم، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم، ويقولون‏:‏ نحن نفسر القرآن بالعقل واللغة يعنون أنهم يعتقدون معنى بعقلهم ورأيهم ثم يتأولون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه، ولهذا قال الإمام أحمد‏:‏ أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس‏.‏وقال‏:‏ يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين‏:‏ المجمل والقياس‏.‏وهذه الطريق يشترك فيها جميع أهل البدع الكبار والصغار،

    ج/ 17 ص -356-فهي طريق الجهمية والمعتزلة ومن دخل في التأويل من الفلاسفة والباطنية الملاحدة‏.‏
    وأما حذاق الفلاسفة فيقولون‏:‏ إن المراد بخطاب الرسول ﷺ إنما هو أن يخيل إلى الجمهور ما ينتفعون به في مصالح دنياهم، وإن لم يكن ذلك مطابقا للحق قالوا‏:‏ وليس مقصود الرسول ﷺ بيان الحق وتعريفه، بل مقصوده أن يخيل إليهم ما يعتقدونه‏.‏ويجعلون خاصة النبوة قوة التخييل، فهم يقولون‏:‏ إن الرسول ﷺ لم يبين، ولم يفهم، بل ولم يقصد ذلك‏.‏ وهم متنازعون‏:‏ هل كان يعلم الأمور على ما هي عليه‏؟‏ على قولين‏:‏
    منهم من قال‏:‏ كان يعلمها، لكن ما كان يمكنه بيانها، وهؤلاء قد يجعلون الرسول أفضل من الفيلسوف‏.‏ومنهم من يقول‏:‏ بل ما كان يعرفها، أو ما كان حاذقًا في معرفتها، وإنما كان يعرف الأمور العملية‏.‏ وهؤلاء يجعلون الفيلسوف أكمل من النبي ﷺ؛ لأن الأمور العملية أكمل من العلمية، فهؤلاء يجعلون خبر الله وخبر الرسول ﷺ إنما فيه التخييل، وأولئك يقولون‏:‏ لم يقصد به التخييل، ولكن قصد معنى يعرف بالتأويل، وكثير من أهل الكلام الجهمية يوافق أولئك على أنه ما كان يمكنه أن يبوح بالحق في باب التوحيد، فخاطب الجمهور بما يخيل لهم، كما يقولون‏:‏ إنه لو قال‏:‏

    ج/ 17 ص -357-إن ربكم ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، ولا هو فوق العالم، ولا كذا ولا كذا لنفرت قلوبهم عنه، وقالوا‏:‏ هذا لا يعرف‏.‏قالوا‏:‏ فخاطبهم بالتجسيم، حتى يثبت لهم رباً يعبدونه، وإن كان يعرف أن التجسيم باطل‏.‏وهذا يقوله طوائف من أعيان الفقهاء المتأخرين المشهورين الذين ظنوا أن مذهب النفاة هو الصحيح، واحتاجوا أن يعتذروا عما جاء به الرسول ﷺ من الإثبات، كما يوجد في كلام غير واحد‏.‏
    وتارة يقولون‏:‏ إنما عدل الرسول ﷺ عن بيان الحق؛ ليجتهدوا في معرفة الحق من غير تعريفه، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه، فتعظم أجورهم على ذلك، وهو اجتهادهم في عقلياتهم وتأويلاتهم، ولا يقولون‏:‏ إنه قصد به إفهام العامة الباطل، كما يقول أولئك المتفلسفة‏.‏وهذا قول أكثر المتكلمين النفاة من الجهمية والمعتزلة، ومن سلك مسلكهم حتى ابن عقيل وأمثاله، وأبو حامد، وابن رشد الحفيد وأمثالهما يوجد في كلامهم المعنى الأول‏.‏وأبو حامد إنما ذم التأويل في آخر عمره، وصنف ‏[‏إلجام العوام عن علم الكلام‏]‏ محافظة على هذا الأصل؛ لأنه رأي مصلحة الجمهور لا تقوم إلا بابقاء الظواهر على ما هي عليه، وإن كان هو يرى ما ذكره في كتبه ‏[‏المضنون بها‏]‏ أن النفي هو الثابت في نفس الأمر‏.‏

    ج/ 17 ص -358-فلم يجعلوا مقصوده بالخطاب البيان والهدى، كما وصف الله به كتابه ونبيه حيث قال‏:‏ ‏"هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏"هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 138‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏"‏[‏النور‏:‏ 54‏]‏ وقال‏:‏ ‏"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏"‏[‏إبراهيم‏:‏ 1‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، وقال‏:‏ ‏"قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏"مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏
    وثَمَّ طائفة ثالثة كثرت في المتأخرين المنتسبين إلى السنة يقولون‏:‏ ما يتضمن أن الرسول ﷺ لم يكن يعرف معاني ما أنزل عليه من القرآن كآيات الصفات؛ بل لازم قولهم أيضًا أنه كان يتكلم بأحاديث الصفات، ولا يعرف معانيها‏.‏
    وهؤلاء مساكين لما رأوا المشهور عن جمهور السلف من الصحابة

    ج/ 17 ص -359-والتابعين لهم بإحسان أن الوقف التام عند قوله‏:‏ ‏"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ وافقوا السلف، وأحسنوا في هذه الموافقة؛ لكن ظنوا أن المراد بالتأويل هو معنى اللفظ وتفسيره، أو هو التأويل الاصطلاحي الذي يجري في كلام كثير من متأخري أهل الفقه والأصول، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، فهم قد سمعوا كلام هؤلاء وهؤلاء، فصار لفظ التأويل عندهم هذا معناه‏.‏
    ولما سمعوا قول الله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏"‏ ظنوا أن لفظ التأويل في القرآن معناه هو معنى لفظ التأويل في كلام هؤلاء، فلزم من ذلك أنه لا يعلم أحد معنى هذه النصوص إلا الله، لا جبريل ولا محمد ولا غيرهما، بل كل من الرسولين على قولهم يتلو أشرف ما في القرآن من الإخبار عن الله بأسمائه وصفاته، وهو لا يعرف معنى ذلك أصلاً، ثم كثير منهم يذمون ويبطلون تأويلات أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهما، وهذا جيد، لكن قد يقولون‏:‏ تجرى على ظواهرها، وما يعلم تأويلها إلا الله، فإن عنوا بظواهرها ما يظهر منها من المعانى، كان هذا مناقضًا لقولهم‏:‏ إن لها تأويلاً يخالف ظاهرها لا يعلمه إلا الله، وإن عنوا بظواهرها مجرد الألفاظ، كان معنى كلامهم أنه يتكلم بهذه الألفاظ، ولها باطن يخالف ما ظهر منها، وهو التأويل، وذلك لا يعلمه إلا الله‏.‏
    وفيهم من يريد بإجرائها على ظواهرها هذا المعنى، وفيهم من يريد

    ج/ 17 ص -360-الأول، وعامتهم يريدون بالتأويل المعنى الثالث، وقد يريدون به الثاني، فإنه أحيانًا قد يفسر النص بما يوافق ظاهره، وتبين من هذا أنه ليس من التأويل الثالث، فيأبون ذلك ويكرهون تدبر النصوص والنظر في معانيها أعني النصوص التي يقولون‏:‏ إنه لم يعلم تأويلها إلا الله‏.‏
    ثم هم في هذه النصوص بحسب عقائدهم، فإن كانوا من القدرية قالوا‏:‏ النصوص المثبتة لكون العبد فاعلاً محكمة، والنصوص المثبتة لكون الله تعالى خالق أفعال العباد أو مريدًا لكل ما وقع نصوص متشابهة لا يعلم تأويلها إلا الله، إذا كانوا ممن لا يتأولها، فإن عامة الطوائف منهم من يتأول ما يخالف قوله، ومنهم من لا يتأوله‏.‏وإن كانوا من الصفاتية المثبتين للصفات التي زعموا أنهم يعلمونها بالعقل دون الصفات الخبرية مثل كثير من متأخرى الكُلابية، كأبي المعالي في آخر عمره، وابن عقيل في كثير من كلامه قالوا عن النصوص المتضمنة للصفات التي لا تعلم عندهم بالعقل‏:‏ هذه نصوص متشابهة لا يعلم تأويلها إلا الله، وكثير منهم يكون له قولان وحالان، تارة يتأول ويوجب التأويل أو يجوزه، وتارة يحرمه، كما يوجد لأبي المعالي ولابن عقيل ولأمثالهما من اختلاف الأقوال‏.‏
    ومن أثبت العلو بالعقل، وجعله من الصفات العقلية كأبي محمد بن كُلاب، وأبي الحسن بن الزاغوني، ومن وافقه، وكالقاضي أبي

    ج/ 17 ص -361-يعلى في آخر قوليه، وأبي محمد أثبتوا العلو، وجعلوا الاستواء من الصفات الخبرية التي يقولون‏:‏ لا يعلم معناها إلا الله‏.‏وإن كانوا ممن يرى أن الفوقية والعلو أيضًا من الصفات الخبرية، كقول القاضي أبي بكر، وأكثر الأشعرية، وقول القاضي أبي يعلى في أول قوليه، وابن عقيل في كثير من كلامه، وأبي بكر البيهقي، وأبي المعالي وغيرهم ومن سلك مسلك أولئك‏.‏ وهذه الأمور مبسوطة في موضعها‏.‏
    والمقصود هنا أن كل طائفة تعتقد من الآراء ما يناقض ما دل عليه القرآن، يجعلون تلك النصوص من المتشابه، ثم إن كانوا ممن يرى الوقف عند قوله‏:‏
    ‏"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، قالوا‏:‏ لا يعلم معناها إلا الله، فيلزم ألا يكون محمد وجبريل ولا أحد علم معاني تلك الآيات والأخبار، وإن رأوا أن الوقف على قوله‏:‏ ‏"وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، جعلوا الراسخين يعلمون ما يسمونه هم تأويلاً‏.‏ويقولون‏:‏ إن الرسول ﷺ إنما لم يبين الحق بخطابه ليجتهد الناس في معرفة الحق من غير جهته بعقولهم وأذهانهم، ويجتهدون في تخريج ألفاظه على اللغات العربية، فيجتهدون في معرفة غرائب اللغات التي يتمكنون بها من التأويل‏.‏وهذا إن قالوا‏:‏ إنه قصد بالقرآن والحديث معنى حقًا في نفس الأمر، وإن قالوا بقول الفلاسفة والباطنية الذين لا يرون التأويل، قالوا‏:‏ لم يقصد بهذه الألفاظ إلا ما يفهمه العامة

    ج/ 17 ص -362-والجمهور، وهو باطل في نفس الأمر، لكن أراد أن يخيل لهم ما ينتفعون به، ولم يمكنه أن يعرفهم الحق، فإنهم كانوا ينفرون عنه ولا يقبلونه، وأما من قال من الباطنية الملاحدة وفلاسفتهم بالتأويل، فإنه يتأول كل شيء مما أخبرت به الرسل من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ثم يؤولون العبارات كما هو معروف من تأويلات القرامطة الباطنية‏.‏
    وأبو حامد في ‏[‏الإحياء‏]‏ ذكر قول هؤلاء المتأولين من الفلاسفة وقال‏:‏ إنهم أسرفوا في التأويل، وأسرفت الحنابلة في الجمود، وذكر عن أحمد بن حنبل كلامًا لم يقله أحمد، فإنه لم يكن يعرف ما قاله أحمد، ولا ما قاله غيره من السلف في هذا الباب، ولا ما جاء به القرآن والحديث، وقد سمع مضافًا إلى الحنابلة ما يقوله طائفة منهم، ومن غيرهم من المالكية والشافعية، وغيرهم في الحرف والصوت‏.‏وبعض الصفات مثل قولهم‏:‏ إن الأصوات المسموعة من القراء قديمة أزلية، وإن الحروف المتعاقبة قديمة الأعيان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ويخلو منه العرش، حتى يبقى بعض المخلوقات فوقه، وبعضها تحته إلى غير ذلك من المنكرات فإنه ما من طائفة إلا وفي بعضهم من يقول أقوالاً ظاهرها الفساد، وهي التي يحفظها من ينفر عنهم، ويشنع بها عليهم، وإن كان أكثرهم ينكرها ويدفعها كما في هذه المسائل المنكرة التي يقولها بعض أصحاب أحمد ومالك والشافعي فإن جماهير هذه الطوائف

    ج/ 17 ص -363-ينكرها، وأحمد وجمهور أصحابه منكرون لها‏.‏
    وكلامهم في إنكارها وردها كثير جدًا، لكن يوجد في أهل الحديث مطلقًا من الحنبلية وغيرهم من الغلط في الإثبات أكثر مما يوجد في أهل الكلام، ويوجد في أهل الكلام من الغلط في النفي أكثر مما يوجد في أهل الحديث؛ لأن الحديث إنما جاء بإثبات الصفات ليس فيه شيء من النفي الذي انفرد به أهل الكلام، والكلام المأخوذ عن الجهمية والمعتزلة مبنى على النفي المناقض لصرائح القرآن والحديث، بل والعقل الصريح أيضًا لكنهم يَدَّعون أن العقل دل على النفي، وقد ناقضهم طوائف من أهل الكلام، وزادوا في الإثبات كالهشامية والكرامية وغيرهم لكن النفي في جنس الكلام المبتدع الذي ذمه السلف أكثر‏.‏
    والمنتسبون إلى السنة من الحنابلة وغيرهم الذين جعلوا لفظ التأويل يعم القسمين يتمسكون بما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه مثل قول أحمد في رواية حنبل ولا كيف ولا معنى، ظنوا أن مراده أنا لا نعرف معناها‏.‏وكلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع، وقد بين أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية ونحوهم الذين يتأولون القرآن على غير تأويله، وصنف كتابه في ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية‏]‏ فيما أنكرته من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، فأنكر عليهم تأويل القرآن

    ج/ 17 ص -364-على غير مراد الله ورسوله، وهم إذا تأولوه يقولون‏:‏ معنى هذه الآية كذا، والمكيفون يثبتون كيفية، يقولون‏:‏ إنهم علموا كيفية ما أخبر به من صفات الرب، فنفي أحمد قول هؤلاء، وقول هؤلاء قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية وقول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون‏:‏ معناه كذا وكذا‏.‏
    وقد كتبت كلام أحمد بألفاظه -كما ذكره الخَلاَّلُ في كتاب ‏[‏السنة‏]‏ وكما ذكره من نقل كلام أحمد بإسناده في الكتب المصنفة في ذلك -في غير هذا الموضع، وبين أن لفظ التأويل في الآية إنما أريد به التأويل في لغة القرآن، كقوله تعالى‏:‏
    ‏"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏‏.‏
    وعن ابن عباس في قوله‏:‏
    ‏"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ‏"‏‏:‏ تصديق ما وعد في القرآن‏.‏ وعن قتادة "تَأْوِيلَهُ‏"‏‏:‏ ثوابه‏.‏وعن مجاهد‏:‏ جزاءه‏.‏وعن السدى‏:‏ عاقبته‏.‏وعن ابن زيد‏:‏ حقيقته‏.‏قال بعضهم‏:‏ ‏"تَأْوِيلَهُ‏"‏‏:‏ ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود النار‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏
    "بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 39‏]‏،

    ج/ 17 ص -365-قال بعضهم‏:‏ تصديق ما وعدوا به من الوعيد، والتأويل‏:‏ ما يؤول إليه الأمر‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ يعني عاقبة ما وعد الله في القرآن أنه كائن من الوعيد، والتأويل ما يؤول إليه الأمر‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ تفسيره، وليس بشيء‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لم يكن معهم علم تأويله‏.‏ وقال يوسف الصديق عليه السلام‏:‏ ‏"يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ‏"‏ [‏يوسف‏:‏ 100‏]‏، فجعل نفس سجود أبويه له تأويل رؤياه‏.‏
    وقال قبل هذا‏:
    ‏ ‏"لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا‏"‏[‏يوسف‏:‏ 37‏]‏ أي‏:‏ قبل أن يأتيكما التأويل‏.‏والمعنى‏:‏ لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام لما قال أحدهما‏:‏ ‏"إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا‏"‏[‏يوسف‏:‏ 36‏]‏، ‏"إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ‏"‏ في اليقظة ‏"قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا‏"‏ الطعام، هذا قول أكثر المفسرين، وهو الصواب‏.‏ وقال بعضهم ‏"لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ‏"‏‏:‏ تطعمانه وتأكلانه، ‏"إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ‏"‏‏:‏ بتفسيره وألوانه، أي طعام أكلتم‏؟‏ وكم أكلتم‏؟‏ ومتى أكلتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا فعل العرافين والكهنة، فقال‏:‏ ما أنا بكاهن، وإنما ذلك العلم مما يعلمني ربي‏.‏ وهذا القول ليس بشيء، فإنه قال‏:‏ ‏"إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ‏"‏ وقد قال أحدهما‏:‏ ‏"إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ‏"‏ فطلبا منه تأويل ما رأياه، وأخبرهما بتأويل ذاك، ولم يكن تأويل الطعام في

    ج/ 17 ص -366-اليقظة، ولا في القرآن أنه أخبرهما بما يرزقانه في اليقظة، فكيف يقول قولا عاما‏:‏ ‏"لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ‏"وهذا الإخبار العام لا يقدر عليه إلا الله، والأنبياء يخبرون ببعض ذلك، لا يخبرون بكل هذا‏.‏
    وأيضًا، فصفة الطعام وقدره ليس تأويلاً له‏.‏
    وأيضًا، فالله إنما أخبر أنه علمه تأويل الرؤيا، قال يعقوب عليه السلام‏:‏
    ‏"وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 6‏]‏، وقال يوسف عليه السلام‏:‏ ‏"رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، وقال‏:‏ ‏"هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏، ولما رأي الملك الرؤيا قال له الذي ادكر بعد أمة‏:‏ ‏"أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏، والملك قال‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 43، 44‏]‏، فهذا لفظ التأويل في مواضع متعددة كلها بمعنى واحد‏.‏
    وقال تعالى‏:‏ ‏
    "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏، قال مجاهد وقتادة‏:‏ جزاءًا وثوابا‏.‏وقال السدى وابن زيد وابن قتيبة والزجاج‏:‏ عاقبةً‏.‏وعن ابن زيد أيضًا ‏:‏ تصديقًا، كقوله‏:‏ ‏"هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ‏"‏وكل هذه الأقوال صحيحة، والمعنى واحد، وهذا تفسير

    ج/ 17 ص -367-السلف أجمعين، ومنه قوله‏:‏ ‏"سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 78‏]‏، فلما ذكر له ما ذكر قال‏:‏ ‏"ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏، وهذا تأويل فعله ليس هو تأويل قوله، والمراد به عاقبة هذه الأفعال بما يؤول إليه ما فعلته من مصلحة أهل السفينة، ومصلحة أبوي الغلام، ومصلحة أهل الجدار‏.‏
    وأما قول بعضهم‏:‏ ردكم إلى الله والرسول أحسن من تأويلكم، فهذا قد ذكره الزجاج عن بعضهم، وهذا من جنس ما ذكر في تلك الآية في لفظ التأويل، وهو تفسير له بالاصطلاح الحادث، لا بلغة القرآن، فأما قدماء المفسرين فلفظ التأويل والتفسير عندهم سواء، كما يقول ابن جرير‏:‏ القول في تأويل هذه الآية، أي‏:‏ في تفسيرها‏.‏
    ولما كان هذا معنى التأويل عند مجاهد وهو إمام التفسير جعل الوقف على قوله‏:‏ ‏
    "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، فإن الراسخين في العلم يعلمون تفسيره، وهذا القول اختيار ابن قتيبة وغيره من أهل السنة‏.‏وكان ابن قتيبة يميل إلى مذهب أحمد وإسحاق‏.‏وقد بسط الكلام على ذلك في كتابه في ‏[‏المشكل‏]‏ وغيره‏.‏
    وأما متأخرو المفسرين -كالثعلبي- فيفرقون بين التفسير والتأويل‏.‏قال‏:‏ فمعنى التفسير‏:‏ هو التنوير، وكشف المغلق من المراد بلفظه‏.‏

    ج/ 17 ص -368-والتأويل‏:‏ صرف الآية إلى معنى تحتمله يوافق ما قبلها وما بعدها، وتكلم في الفرق بينهما بكلام ليس هذا موضعه، إلا أن التأويل الذي ذكره هو المعنى الثالث المتأخر، وأبو الفرج ابن الجوزي يقول‏:‏ اختلف العلماء‏:‏ هل التفسير والتأويل بمعنى واحد أم يختلفان‏؟‏ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى، وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين‏.‏
    وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما، فقالوا‏:‏ التفسير‏:‏ إخراج الشيء عن مقام الخفاء إلى مقام التجلي‏.‏ والتأويل‏:‏ نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو مأخوذ من قولك‏:‏ آل الشيء إلى كذا، أي‏:‏ صار إليه، فهؤلاء لا يذكرون للتأويل إلا المعنى الأول والثاني، وأما التأويل في لغة القرآن فلا يذكرونه، وقد عرف أن التأويل في القرآن‏:‏ هو الموجود الذي يؤول إليه الكلام، وإن كان ذلك موافقًا للمعنى الذي يظهر من اللفظ، بل لا يعرف في القرآن لفظ التأويل مخالفًا لما يدل عليه اللفظ، خلاف اصطلاح المتأخرين‏.‏
    والكلام نوعان‏:‏ إنشاء، وإخبار‏.‏
    فالإنشاء‏:‏ الأمر والنهي والإباحة وتأويل الأمر، والنهي‏:‏ نفس فعل المأمور، ونفس ترك المحظور، كما في الصحيح عن عائشة -رضى الله عنها- أنها قالت‏:‏ كان رسول الله ﷺ يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏
    "‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك،

    ج/ 17 ص -369-اللهم اغفر لى‏"‏ يتأول القرآن‏.‏ فكان هذا الكلام تأويل قوله‏:‏ ‏"فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ‏"‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏قال ابن عيينة‏:‏ السنة‏:‏ تأويل الأمر والنهي‏.‏ وقال أبو عبيد لما ذكر اختلاف الفقهاء وأهل اللغة في نهي النبي ﷺ عن اشتمال الصماء قال‏:‏ والفقهاء أعلم بالتأويل‏.‏ يقول‏:‏ هم أعلم بتأويل ما أمر الله به، وما نهي عنه فيعرفون أعيان الأفعال الموجودة التي أمر بها، وأعيان الأفعال المحظورة التي نهي عنها‏.‏
    وتفسير كلامه ليس هو نفس ما يوجد في الخارج؛ بل هو بيانه وشرحه وكشف معناه‏.‏فالتفسير من جنس الكلام يفسر الكلام بكلام يوضحه‏.‏ وأما التأويل فهو فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، ليس هو من جنس الكلام‏.‏
    والنوع الثاني‏:‏ الخبر، كإخبار الرب عن نفسه تعالى بأسمائه وصفاته، وإخباره عما ذكره لعباده من الوعد والوعيد، وهذا هو التأويل المذكور في قوله‏:‏
    لَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فصلنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 52، 53‏]‏، وهذا كقولهم‏:‏ ‏"يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏"‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏، ومثله قوله‏:‏ "انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ‏"[‏المرسلات‏:‏ 29‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ‏"‏ ‏[‏الملك‏:‏ 25‏:‏ 27‏]‏،

    ج/ 17 ص -370-ونظائره متعددة في القرآن، وكذلك قوله‏:‏ ‏"أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏"‏[‏يونس‏:‏ 38، 39‏]‏، فإن ما وُعِدُوا به في القرآن لما يأتهم بعد، وسوف يأتيهم‏.‏
    فالتفسير هو الإحاطة بعلمه، والتأويل هو نفس ما وُعِدُوا به إذا أتاهم، فهم كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله؛ وقد يحيط الناس بعلمه، ولما يأتهم تأويله؛ فالرسول ﷺ يحيط بعلم ما أنزل الله عليه، وإن كان تأويله لم يأت بعد، وفي الحديث عن النبي ﷺ لما نزل قوله‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 56‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد‏"‏، قال تعالى‏:‏ ‏"وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 66، 67‏]‏، قال بعضهم‏:‏ موضع قرار وحقيقة ومنتهي ينتهي إليه، فيبين حقه من باطله وصدقه من كذبه‏.‏
    وقال مقاتل‏:‏ لكل خبر يخبر به الله وقت ومكان يقع فيه، من غير خلف ولا تأخير‏.‏ وقال ابن السائب‏:‏ لكل قول وفعل حقيقة، ما كان منه في الدنيا فستعرفونه، وما كان منه في الآخرة فسوف

    ج/ 17 ص -371-يبدو لكم، وسوف تعلمون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لكل عمل جزاء، فمن عمل عملاً من الخير جوزى به في الجنة، ومن عمل عمل سوء جوزي به في النار، وسوف تعلمون‏.‏ومعنى قول الحسن‏:‏ أن الأعمال قد وقع عليها الوعد والوعيد، فالوعد والوعيد عليها هو النبأ الذي له المستقر، فبين المعنى، ولم يرد أن نفس الجزاء هو نفس النبأ‏.‏
    وعن السدي قال‏:‏ ‏
    "لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏ أي‏:‏ ميعاد وعدتكموه، فسيأتيكم حتى تعرفونه‏.‏وعن عطاء‏:‏ ‏"لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏"‏ تؤخر عقوبته ليعمل ذنبه، فإذا عمل ذنبه عاقبه، أي‏:‏ لا يعاقب بالوعيد، حتى يفعل الذنب الذي توعده عليه‏.‏ومنه قول كثير من السلف في آيات‏:‏ هذه ذهب تأويلها، وهذه لم يأت تأويلها، مثل ما روى أبو الأشهب، عن الحسن والربيع، عن أبي العالية؛ أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏، فقال ابن مسعود‏:‏ ليس هذا بزمانها، قولوها ما قبلت منكم، فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال‏:‏ إن القرآن نزل حيث نزل، فمنه أي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه أي وقع تأويلهن على عهد النبي ﷺ، ومنه أي وقع تأويلهن بعد النبي ﷺ بيسير، ومنه أي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه أي يقع تأويلهن في آخر الزمان، ومنه أي يقع تأويلهن يوم القيامة، ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت

    ج/ 17 ص -372-قلوبكم وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعًا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية‏.‏
    فابن مسعود رضي الله عنه قد ذكر في هذا الكلام تأويل الأمر، وتأويل الخبر، فهذه الآية‏:
    ‏ ‏"عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏"‏، من باب الأمر، وما ذكر من الحساب والقيامة من باب الخبر، وقد تبين أن تأويل الخبر‏.‏هو وجود المخبر به، وتأويل الأمر هو فعل المأمور به، فالآية التي مضى تأويلها قبل نزولها هي من باب الخبر، يقع الشيء فيذكره الله، كما ذكر ما ذكره من قول المشركين للرسول وتكذيبهم له، وهي وإن مضى تأويلها فهي عبرة ومعناها ثابت في نظيرها، ومن هذا قول ابن مسعود‏:‏ خمس قد مضين، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ‏"‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏‏.‏
    وإذا تبين ذلك، فالمتشابه من الأمر لابد من معرفة تأويله؛ لأنه لابد من فعل المأمور، وترك المحظور، وذلك لا يمكن إلا بعد العلم، لكن ليس في القرآن ما يقتضى أن في الأمر متشابهًا، فإن قوله‏:‏ ‏
    "وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، قد يراد به من الخبر، فالمتشابه من الخبر مثل ما أخبر به في الجنة من اللحم واللبن والعسل والماء والحرير والذهب، فإن بين هذا وبين

    ج/ 17 ص -373-ما في الدنيا تشابه في اللفظ والمعنى، ومع هذا فحقيقة ذلك مخالفة لحقيقة هذا، وتلك الحقيقة لا نعلمها نحن في الدنيا، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏"فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏"‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا حظر على قلب بشر‏"‏، فهذا الذي وعد الله به عباده المؤمنين لا تعلمه نفس هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وكذلك وقت الساعة لا يعلمه إلا الله، وأشراطها، وكذلك كيفيات ما يكون فيها من الحساب والصراط والميزان والحوض والثواب والعقاب لا يعلم كيفيته إلا الله، فإنه لم يخلق بعد حتى تعلمه الملائكة، ولا له نظير مطابق من كل وجه حتى يعلم به، فهو من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏
    وكذلك ما أخبر به الرب عن نفسه مثل استوائه على عرشه وسمعه وبصره وكلامه وغير ذلك، فإن كيفيات ذلك لا يعلمها إلا الله، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس‏.‏وسائر أهل العلم تلقوا هذا الكلام عنهما بالقبول لما قيل‏:‏ ‏
    "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏"‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، كيف استوى‏؟‏ فقال‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏هذا لفظ مالك‏.‏ فأخبر أن الاستواء معلوم وهذا تفسير اللفظ، وأخبر أن الكيف مجهول، وهذا هو الكيفية التي استأثر الله بعلمها‏.‏

    ج/ 17 ص -374-وكذلك سائر السلف كابن الماجشون، وأحمد بن حنبل، وغيرهما يبينون أن العباد لا يعلمون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه، فالكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله‏.‏وأما نفس المعنى الذي بينه الله فيعلمه الناس كُلٌّ على قدر فهمه‏.‏فإنهم يفهمون معنى السمع، ومعنى البصر، وأن مفهوم هذا ليس هو مفهوم هذا، ويعرفون الفرق بينهما، وبين العليم والقدير، وإن كانوا لا يعرفون كيفية سمعه وبصره، بل الروح التي فيهم يعرفونها من حيث الجملة، ولا يعرفون كيفيتها‏.‏كذلك يعلمون معنى الاستواء على العرش، وأنه يتضمن علو الرب على عرشه، وارتفاعه عليه كما فسره بذلك السلف قبلهم وهذا معنى معروف من اللفظ لا يحتمل في اللغة غيره، كما قد بسط في موضعه؛ ولهذ قال مالك‏:‏ الاستواء معلوم‏.‏
    ومن قال‏:‏ الاستواء له معان متعددة، فقد أجمل كلامه، فإنهم يقولون‏:‏ استوى فقط، ولا يصلونه بحرف، وهذا له معنى‏.‏ويقولون‏:‏ استوى على كذا وله معنى، واستوى إلى كذا وله معنى، واستوى مع كذا وله معنى، فتتنوع معانيه بحسب صلاته‏.‏ وأما استوى على كذا فليس في القرآن ولغة العرب المعروفة إلا بمعنى واحد‏.‏قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ‏"‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ‏"‏[‏هود‏:‏ 44‏]‏، وقال‏:‏‏"لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏، وقال‏:‏‏"فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 28‏]‏،

    ج/ 17 ص -375-وقد أتى النبي ﷺ بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الغرز قال‏:‏ ‏"‏بسم الله‏"‏، فلما استوى على ظهرها قال‏:‏ ‏"‏الحمد لله‏"‏‏.‏وقال ابن عمر‏:‏ أَهَلَّ رسول الله ﷺ بالحج لما استوى على بعيره‏.‏وهذا المعنى يتضمن شيئين‏:‏ علوه على ما استوى عليه، واعتداله أيضًا‏.‏فلا يسمون المائل على الشيء مستويًا عليه، ومنه حديث الخليل بن أحمد لما قال‏:‏ استووا‏.‏وقوله‏:‏

    ثم استوى بِشْرٌ على العراق من غير سيف ودم مهراق

    هو من هذا الباب؛ فإن المراد به بِشْرُ بن مروان، واستواؤه عليها، أي‏:‏ على كرسي ملكها، لم يرد بذلك مجرد الاستيلاء، بل استواء منه عليها؛ إذ لو كان كذلك لكان عبد الملك الذي هو الخليفة قد استوى أيضًا على العراق، وعلى سائر مملكة الإسلام، ولكان عمر بن الخطاب قد استوى على العراق وخراسان والشام ومصر، وسائر ما فتحه، ولكان رسول الله ﷺ قد استوى على اليمن وغيرها مما فتحه‏.‏ومعلوم أنه لم يوجد في كلامهم استعمال الاستواء في شيء من هذا، وإنما قيل فيمن استوى بنفسه على بلد فإنه مستو على سرير ملكه، كما يقال‏:‏ جلس فلان على السرير، وقعد على التخت، ومنه قوله‏:‏ ‏"وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ‏"‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏‏.‏

    ج/ 17 ص -376-وقول الزمخشري وغيره‏:‏ استوى على كذا بمعنى‏:‏ ملك، دعوى مجردة، فليس لها شاهد في كلام العرب، ولو قدر ذلك لكان هذا المعنى باطلاً في استواء الله على العرش؛ لأنه أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وقد أخبر أن العرش كان موجودًا قبل خلق السموات والأرض، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وحينئذ فهو من حين خلق العرش مالك له مستول عليه، فكيف يكون الاستواء عليه مؤخرًا عن خلق السموات والأرض‏؟‏ ‏!‏
    وأيضًا، فهو مالك لكل شيء مستول عليه، فلا يخص العرش بالاستواء وليس هذا كتخصيصه بالربوبية في قوله‏:‏
    ‏"رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 129‏]‏، فإنه قد يخص لعظمته، ولكن يجوز ذلك في سائر المخلوقات فيقال‏:‏ رب العرش، ورب كل شيء، وأما الاستواء فمختص بالعرش، فلا يقال‏:‏ استوى على العرش وعلى كل شيء، ولا استعمل ذلك أحد من المسلمين في كل شيء، ولا يوجد في كتاب ولا سنة، كما استعمل لفظ الربوبية في العرش خاصة، وفي كل شيء عامة، وكذلك لفظ الخلق ونحوه من الألفاظ التي تخص وتعم، كقوله تعالى‏:‏ ‏"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏"‏ [‏العلق‏:‏ 1، 2‏]‏، فالاستواء من الألفاظ المختصة بالعرش، لا تضاف إلى غيره، لا خصوصًا ولا عمومًا، وهذا مبسوط في موضع آخر‏.‏
    وإنما الغرض بيان صواب كلام السلف في قولهم‏:‏ الاستواء معلوم،

    ج/ 17 ص -377-بخلاف من جعل هذا اللفظ له بضعة عشر معنى، كما ذكر ذلك ابن عربي المعافري‏.‏
    يبين هذا‏:‏ أن سبب نزول هذه الآية كان قدوم نصارى نجران ومناظرتهم للنبى ﷺ في أمر المسيح، كما ذكر ذلك أهل التفسير، وأهل السيرة، وهو من المشهور، بل من المتواتر أن نصارى نجران قدموا على النبي ﷺ ودعاهم إلى المباهلة المذكورة في سورة آل عمران، فأقروا بالجزية ولم يباهلوه‏.‏ وصدر آل عمران نزل بسبب ما جرى؛ ولهذا عامتها في أمر المسيح، وذكروا أنهم احتجوا بما في القرآن من لفظ ‏[‏إنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ ونحو ذلك على أن الآلهة ثلاثة، فاتبعوا المتشابه وتركوا المحكم الذي في القرآن من أن الإله واحد ‏
    "ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، فإنهم قصدوا بذلك الفتنة، وهي فتنة القلوب بالكفر وابتغاء تأويل لفظ ‏[‏إنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ ‏[‏وما يعلم تأويل‏]‏ هذه الأسماء ‏[‏إلا الله‏]‏؛ لأن هذه الأسماء إنما تقال للواحد الذي له أعوان، إما أن يكونوا شركاء له، وإما أن يكونوا مماليك له‏.‏
    ولهذا صارت متشابهة، فإن الذي معه شركاء يقول‏:‏ فعلنا نحن كذا، وإنا نفعل نحن كذا، وهذا ممتنع في حق الله تعالى والذي له مماليك ومطيعون يطيعونه كالملك يقول‏:‏ فعلنا كذا، أي‏:‏ أنا

    ج/ 17 ص -378-فعلت بأهل ملكى وملكى، وكل ما سوى الله مخلوق له مملوك له، وهو سبحانه يدبر أمر العالم بنفسه، وملائكته التي هي رسله في خلقه وأمره، وهو سبحانه أحق من قال‏:‏ إنا ونحن بهذا الاعتبار، فإن ما سواه ليس له ملك تام، ولا أمر مطاع طاعة تامة، فهو المستحق أن يقول‏:‏ ‏[‏إنا‏]‏، و ‏[‏نحن‏]‏، والملوك لهم شبه بهذا، فصار فيه أيضًا من المتشابه معنى آخر، ولكن الذي ينسب لله من هذا الاختصاص لا يماثله فيه شيء، وتأويل ذلك معرفة ملائكته وصفاتهم وأقدارهم، وكيف يدبر بهم أمر السماء والأرض، وقد قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏، فهذا التأويل لهذا المتشابه لا يعلمه إلا هو، وإن علمنا تفسيره ومعناه، لكن لم نعلم تأويله الواقع في الخارج، بخلاف قوله‏:‏ ‏"اللّهُ الَّذِي خَلَقَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، فإنها آية محكمة ليس فيها تشابه، فإن هذا الاسم مختص بالله، ليس مثل ‏[‏إنا‏]‏ و ‏[‏نحن‏]‏ التي تقال لمن له شركاء، ولمن له أعوان يحتاج إليهم، والله تعالى منزه عن هذا وهذا، كما قال‏:‏ ‏"قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ‏"‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 111‏]‏، فالمعنى الذي يراد به هذا في حق المخلوقين لا يجوز أن يكون نظيره ثابتًا لله؛ فلهذا صار متشابهًا‏.‏

    ج/ 17 ص -379-وكذلك قوله‏:‏ ‏"ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، فإنه قد قال‏:‏‏"وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ‏"[‏هود‏:‏ 44‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ‏"‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏"لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏، فهذا الاستواء كله يتضمن حاجة المستوى إلى المستوى عليه، وأنه لو عدم من تحته لخر، والله تعالى غنى عن العرش، وعن كل شيء، بل هو سبحانه بقدرته يحمل العرش، وحملة العرش، وقد روى أنهم إنما أطاقوا حمل العرش لما أمرهم أن يقولوا‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
    فصار لفظ الاستواء متشابهًا يلزمه في حق المخلوقين معاني ينزه الله عنها، فنحن نعلم معناه، وأنه العلو والاعتدال، لكن لا نعلم الكيفية التي اختص بها الرب التي يكون بها مستويًا من غير افتقار منه إلى العرش، بل مع حاجة العرش، وكل شيء محتاج إليه من كل وجه، وأنا لم نعهد في الموجودات ما يستوى على غيره مع غناه عنه وحاجة ذلك المستوى علىه إلى المستوى، فصار متشابهًا من هذا الوجه، فإن بين اللفظين والمعنىين قدرًا
    مشتركًا، وبينهما قدرًا فارقاً هو مراد في كل منهما، ونحن لا نعرف الفارق الذي امتاز الرب به، فصرنا نعرفه من وجه، ونجهله من وجه، وذلك هو تأويله، والأول هو تفسيره‏.‏
    وكذلك ما أخبر الله به في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس، كاللبن والعسل والخمر والماء، فإنا لا نعرف لبنًا إلا مخلوقًا من ماشية

    ج/ 17 ص -380-يخرج من بين فَرْثٍ ودم، وإذا بقى أيامًا يتغير طعمه، ولا نعرف عسلاً إلا من نحل تصنعه في بيوت الشمع المسدسة، فليس هو عسلاً مصفي، ولا نعرف حريرًا إلا من دود القز، وهو يبلى، وقد علمنا أن ما وعد الله به عباده ليس مماثلاً لهذه، لا في المادة، ولا في الصورة والحقيقة، بل له حقيقة تخالف حقيقة هذه، وذلك هو من التأويل الذي لا نعلمه نحن‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء‏.‏
    لكن يقال‏:‏ فالملائكة قد تعلم هذا، فيقال‏:‏ هي لا تعلم ما لم يخلق بعد ولا تعلم كل ما في الجنة‏.‏ وأيضًا، فمن النعم ما لا تعرفه الملائكة، والتأويل يتناول هذا كله‏.‏ وإذا قدرنا أنها تعرف ما لا نعرفه، فذاك لا يكون من المتشابه عندها، ويكون من المتشابه عندنا؛ فإن المتشابه قد يراد به ما هو صفة لازمة للآية، وقد يراد به ما هو من الأمور النسبية، فقد يكون متشابهًا عند هذا ما لا يكون متشابهًا عند هذا‏.
    وكلام الإمام أحمد وغيره من السلف يحتمل أن يراد به هذا، فإن أحمد ذكر في رده على الجهمية‏:‏ أنها احتجت بثلاث آيات من المتشابه‏:‏ قوله تعالى‏:‏
    ‏"وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، وقد فسر أحمد قوله‏:‏

    ج/ 17 ص -381-‏"وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ‏"‏‏.‏ فإذا كانت هذه الآيات مما علمنا معناها لم تكن متشابهة عندنا، وهي متشابهة عند من احتج بها، وكان عليه أن يردها هو إلى ما يعرفه من المحكم، وكذلك قال أحمد في ترجمة كتابه الذي صنفه في الحبس، وهو ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية‏]‏ فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله، ثم فسر أحمد تلك الآيات آية آية، فبين أنها ليست متشابهة عنده بل قد عُرِفَ معناها‏.‏ وعلى هذا فالراسخون في العلم يعلمون تأويل هذا المتشابه، الذي هو تفسيره، وأما التأويل الذي هو الحقيقة الموجودة في الخارج فتلك لا يعلمها إلا الله، ولكن قد يقال‏:‏ هذا المتشابه الإضافي ليس هو المتشابه المذكور في القرآن، فإن ذلك قد أخبر الله أنه لا يعلم تأويله إلا الله، وإنما هذا كما يشكل على كثير من الناس آيات لا يفهمون معناها، وغيرهم من الناس يعرف معناها وعلى هذا فقد يجاب بجوابين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يكون في الآية قراءتان‏:‏ قراءة من يقف على قوله‏:‏ ‏[‏إلا الله‏]‏، وقراءة من يقف عند قوله‏:‏
    ‏"وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ‏"‏، وكلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى‏:‏ المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية‏:‏ المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله، ومثل هذا يقع في القرآن كقوله‏:‏

    ج/ 17 ص -382-"وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 46‏]‏، و‏"لِتَزُولَ‏"‏ فيه قراءتان مشهورتان بالنفي والإثبات، وكل قراءة لها معنى صحيح‏.‏
    وكذلك القراءة المشهورة‏:‏
    ‏"وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏، وقرأ طائفة من السلف‏:‏ ‏[‏لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة‏]‏ وكلا القراءتين حق، فإن الذي يتعدى حدود الله هو الظالم وتارك الإنكار عليه قد يجعل غير ظالم لكونه لم يشاركه، وقد يجعل ظالمًا باعتبار ما ترك من الإنكار الواجب، وعلى هذا قوله‏:‏ ‏"فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏، فأنجى الله الناهين‏.‏ وأما أولئك الكارهون للذنب الذين قالوا‏:‏ ‏"لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 164‏]‏، فالأكثرون على أنهم نجوا؛ لأنهم كانوا كارهين، فأنكروا بحسب قدرتهم‏.‏
    وأما من ترك الإنكار مطلقًا فهو ظالم يعذب، كما قال النبي ﷺ‏
    :‏ ‏"‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه‏"‏‏.‏ وهذا الحديث موافق للآية‏.‏
    والمقصود هنا أنه يصح النفي والإثبات باعتبارين، كما أن قوله‏:‏ ‏
    "لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏"‏ أي‏:‏ لا تختص بالمعتدين، بل يتناول من رأي المنكر فلم يغيره، ومن قرأ‏:‏ ‏[‏لتصيبن الذين ظلموا منكم

    ج/ 17 ص -383-خاصة‏]‏ أدخل في ذلك من ترك الإنكار مع قدرته عليه، وقد يراد بذلك أنهم يعذبون في الدنيا، ويبعثون على نياتهم، كالجيش الذين يغزون البيت فيخسف بهم كلهم، ويحشر المكره على نيته‏.‏
    والجواب الثاني‏:‏ القطع بأن المتشابه المذكور في القرآن هو تشابهها في نفسها اللازم لها، وذاك الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وأما الإضافي الموجود في كلام من أراد به التشابه الإضافي، فمرادهم أنهم تكلموا فيما اشتبه معناه وأشكل معناه على بعض الناس، وأن الجهمية استدلوا بما اشتبه عليهم وأشكل، وإن لم يكن هو من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وكثيرًا ما يشتبه على الرجل ما لا يشتبه على غيره‏.‏
    ويحتمل كلام الإمام أحمد أنه لم يرد إلا المتشابه في نفسه، الذي يلزمه التشابه، لم يرد بشيء منه التشابه الإضافي، وقال‏:‏ تأولته على غير تأويله، أي‏:‏ غير تأويله الذي هو تأويله في نفس الأمر، وإن كان ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله، وأهل العلم يعلمون أن المراد به ذلك التأويل، فلا يبقى مشكلًا عندهم محتملًا لغيره؛ ولهذا كان المتشابه في الخبريات إما عن الله، وإما عن الآخرة، وتأويل هذا كله لا يعلمه إلا الله، بل المحكم من القرآن قد يقال‏:‏ له تأويل كما للمتشابه تأويل، كما قال‏:‏ ‏
    "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏، ومع هذا فذلك التأويل لا يعلم وقته وكيفيته إلا الله‏.‏ وقد يقال‏:‏ بل التأويل للمتشابه؛ لأنه في الوعد

    ج/ 17 ص -384-والوعيد، وكله متشابه‏.‏ وأيضًا، فلا يلزم في كل آية ظنها بعض الناس متشابهًا أن تكون من المتشابه‏.‏
    فقول أحمد‏:‏ احتجوا بثلاث آيات من المتشابه، وقوله‏:‏ ما شكت فيه من متشابه القرآن، قد يقال‏:‏ إن هؤلاء أو أن أحمد جعل بعض ذلك من المتشابه وليس منه، فإن قول الله تعالى‏:‏
    ‏"مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، لم يرد به هنا الإحكام العام والتشابه العام الذي يشترك فيه جميع آيات القرآن، وهو المذكور في قوله‏:‏ ‏"كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلتْ‏"‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، فوصفه هنا كله بأنه متشابه، أي‏:‏ متفق غير مختلف، يصدق بعضه بعضًا، وهو عكس المتضاد المختلف المذكور في قوله‏:‏ ‏"وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏"‏ [‏النساء‏:‏ 82‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 8، 9‏]‏، فإن هذا التشابه يعم القرآن، كما أن إحكام آياته تعمه كله، وهنا قد قال‏:‏ ‏"مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏"‏، فجعل بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا، فصار التشابه له معنيان، وله معنى ثالث وهو الإضافي‏.‏ يقال‏:‏ قد اشتبه علينا هذا، كقول بنى إسرائيل‏:‏ ‏"إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 70‏]‏، وإن كان في نفسه متميزًا منفصلًا بعضه عن بعض‏.‏ وهذا من باب اشتباه الحق

    ج/ 17 ص -385-بالباطل، كقوله ﷺ في الحديث‏:‏ ‏"‏الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس‏"‏، فدل ذلك على أن من الناس من يعرفها، فليست مشتبهة على جميع الناس، بل على بعضهم، بخلاف ما لا يعلم تأويله إلا الله، فإن الناس كلهم مشتركون في عدم العلم بتأويله، ومن هذا ما يروي عن المسيح عليه السلام أنه قال‏:‏ الأمور ثلاثة‏:‏ أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه‏.‏
    فهذا المشتبه على بعض الناس يمكن الآخرين أن يعرفوا الحق فيه ويبينوا الفرق بين المشتبهين، وهذا هو الذي أراده من جعل الراسخين يعلمون التأويل، فإنه جعل المشتبهات في القرآن من هذا الباب الذي يشتبه على بعض الناس دون بعض، ويكون بينهما من الفروق المانعة للتشابه ما يعرفه بعض الناس‏.‏ وهذا المعنى صحيح في نفسه لا ينكر‏.‏ ولا ريب أن الراسخين في العلم يعلمون ما اشتبه على غيرهم‏.‏ وقد يكون هذا قراءة في الآية كما تقدم، من أنه يكون فيها قراءتان؛ لكن لفظ التأويل على هذا يراد به التفسير‏.‏ ووجه ذلك أنهم يعلمون تأويله من حيث الجملة، كما يعلمون تأويل المحكم، فيعرفون الحساب والميزان والصراط والثواب والعقاب، وغير ذلك مما أخبر الله به ورسوله معرفة مجملة، فيكونون عالمين بالتأويل، وهو ما يقع في الخارج على هذا

    ج/ 17 ص -386-الوجه، ولا يعلمونه مفصلًا، إذ هم لا يعرفون كيفيته وحقيقته، إذ ذلك ليس مثل الذي علموه في الدنيا وشاهدوه، وعلى هذا يصح أن يقال‏:‏ علموا تأويله، وهو معرفة تفسيره، ويصح أن يقال‏:‏ لم يعلموا تأويله، وكلا القراءتين حق‏.‏
    وعلى قراءة النفي هل يقال أيضًا ‏:‏ إن المحكم له تأويل لا يعلمون تفصيله‏؟‏ فإن قوله‏:‏ وما يعلم تأويل ما تشابه منه إلا الله لا يدل على أن غيره يعلم تأويل المحكم، بل قد يقال‏:‏ إن من المحكم أيضًا ما لا يعلم تأويله إلا الله، وإنما خص المتشابه بالذكر؛ لأن أولئك طلبوا علم تأويله، أو يقال‏:‏ بل المحكم يعلمون تأويله لكن لا يعلمون وقت تأويله ومكانه وصفته‏.‏
    وقد قال كثير من السلف‏:‏ إن المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يؤمن به، ولا يعمل به، كما يجىء في كثير من الآثار، ونعمل بمحكمه، ونؤمن بمتشابهه، وكما جاء عن ابن مسعود وغيره في قوله تعالى‏:‏
    ‏"الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 121‏]‏، قال‏:‏ يحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه‏.‏ وكلام السلف في ذلك يدل على أن التشابه أمر إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على هذا، فعلى كل أحد أن يعمل بما استبان له، وَيَكِلُ ما اشتبه عليه إلى الله، كقول أبي بن كعب رضي الله عنه في الحديث الذي رواه

    ج/ 17 ص -387-الثورى عن مغيرة وليس بشيء عن أبي العالية، قال‏:‏ قيل لأبي بن كعب‏:‏ أوصنى، فقال‏:‏ اتخذ كتاب الله إمامًا، ارض به قاضيًا، وحاكمًا، هو الذي استخلف فيكم رسوله شفيع مطاع، وشاهد لا يتهم، فيه خبر ما قبلكم، وخبر ما بينكم، وذكر ما قبلكم، وذكر ما فيكم‏.‏ وقال سفيان، عن رجل سماه، عن ابن أبزى، عن أبي قال‏:‏ فما استبان لك فاعمل به، وما شبه عليك فآمن به، وكِلْهُ إلى عالمه‏.‏
    فمنهم من قال‏:‏ المتشابه هو المنسوخ، ومنهم من جعله الخبريات مطلقًا، فعن قتادة والربيع والضحاك والسدى‏:‏ المحكم‏:‏ الناسخ الذي يعمل به، والمتشابه‏:‏ المنسوخ يؤمن به ولا يعمل به‏.‏ وكذلك في تفسير العوفي عن ابن عباس‏.‏ وأما تفسير الوالبى عن ابن عباس فقال‏:‏ محكمات‏:‏ القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به، ويعمل به‏.‏ والمتشابهات‏:‏ منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به‏.‏
    أما القول الأول، فهو والله أعلم مأخوذ من قوله‏:‏ ‏
    "فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ فقابل بين المنسوخ وبين المحكم، وهو سبحانه إنما أراد نسخ ما ألقاه الشيطان، لم يرد نسخ ما أنزله، لكن هم جعلوا جنس المنسوخ متشابهًا؛ لأنه يشبه غيره في التلاوة والنظم،

    ج/ 17 ص -388-وأنه كلام الله وقرآن ومعجز وغير ذلك من المعانى، مع أن معناه قد نسخ‏.‏
    ومن جعل المتشابه كل ما لا يعمل به من المنسوخ، والأقسام، والأمثال؛ فلأن ذلك متشابه، ولم يؤمر الناس بتفصيله، بل يكفيهم الإيمان المجمل به، بخلاف المعمول به فإنه لابد فيه من العلم المفصل‏.‏ وهذا بيان لما يلزم كل الأمة، فإنهم يلزمهم معرفة ما يعمل به تفصيلًا ليعملوا به، وما أخبروا به فليس عليهم معرفته، بل عليهم الإيمان به، وإن كان العلم به حسنًا أو فرضًا على الكفاية فليس فرضًا على الأعيان، بخلاف ما يعمل به، ففرض على كل إنسان معرفة ما يلزمه من العمل مفصلًا، وليس عليه معرفة العلميات مفصلًا‏.‏
    وقد روي عن مجاهد وعكرمة‏:‏ المحكم‏:‏ ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه يصدق بعضه بعضًا‏.‏ فعلى هذا القول يكون المتشابه هو المذكور في قوله‏:‏ ‏
    "كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، والحلال مخالف للحرام، وهذا على قول مجاهد‏:‏ إن العلماء يعلمون تأويله، لكن تفسير المتشابه بهذا مع أن كل القرآن متشابه، وهنا خص البعض به فيستدل به على ضعف هذا القول‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏
    ‏"فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، لو أريد بالمتشابه

    ج/ 17 ص -389-تصديق بعضه بعضًا، لكان اتباع ذلك غير محذور، وليس في كونه يصدق بعضه بعضًا ما يمنع ابتغاء تأويله، وقد يحتج لهذا القول بقوله‏:‏ ‏"مُتَشَابِهَاتٌ‏"‏ فجعلها أنفسها متشابهات، وهذا يقتضي أن بعضها يشبه بعضًا ليست مشابهة لغيرها‏.‏
    ويجاب عن هذا بأن اللفظ إذا ذكر في موضعين بمعنيين صار من المتشابه، كقوله‏:‏ ‏[‏إنا‏]‏ و‏[‏نحن‏]‏ المذكور في سبب نزول الآية‏.‏ وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر ابن الزبير لما ذكر قصة أهل نجران ونزول الآية قال‏:‏ المحكم‏:‏ ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه‏:‏ ما احتمل في التأويل أوجهًا‏.‏ ومعنى هذا‏:‏ أن ذلك اللفظ المحكم لا يكون تأويله في الخارج إلا شيئا واحدًا، وأما المتشابه فيكون له تأويلات متعددة، لكن لم يرد الله إلا واحدًا منها، وسياق الآية يدل على المراد‏.‏ وحينئذ، فالراسخون في العلم يعلمون المراد من هذا، كما يعلمون المراد من المحكم؛ لكن نفس التأويل الذي هو الحقيقة ووقت الحوادث ونحو ذلك لا يعلمونه لا من هذا ولا من هذا‏.‏
    وقد قيل‏:‏ إن نصارى نجران احتجوا بقوله‏:‏
    "بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ‏"[‏آل عمران‏:‏ 39‏]‏، ‏"وَرُوحٌ مِّنْهُ‏"‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، ولفظ‏:‏ كلمة الله، يراد به الكلام، ويراد به المخلوق بالكلام، ‏"وَرُوحٌ مِّنْهُ‏"‏ يراد به ابتداء الغاية، ويراد به التبعيض‏.‏ فعلى هذا إذا قيل‏:‏ تأويله لا يعلمه إلا الله، المراد به الحقيقة، أي‏:‏ لا يعلمون كيف خلق

    ج/ 17 ص -390-عيسى بالكلمة، ولا كيف أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرًا سويًا، ونفخ فيها من روحه‏.‏ وفي صحيح البخارى، عن عائشة، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم‏"‏‏.‏
    والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلامًا لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول ﷺ وجميع الأمة لا يعلمون معناه، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين‏.‏ وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان‏:‏ يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر‏.‏ وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن وبين أن يقال‏:‏ الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيرًا من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به، وليس معناه قاطع على أن الراسخين في العلم لا يعلمون تفسير المتشابه، فإن السلف قد قال كثير منهم‏:‏ إنهم يعلمون تأويله، منهم مجاهد مع جلالة قدره والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ونقلوا ذلك عن ابن عباس، وأنه قال‏:‏ أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله‏.‏

    ج/ 17 ص -391-وقول أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويله، وقوله عن الجهمية‏:‏ إنها تأولت ثلاث آيات من المتشابه، ثم تكلم على معناها، دليل على أن المتشابه عنده تعرف العلماء معناه، وأن المذموم تأويله على غير تأويله، فأما تفسيره المطابق لمعناه، فهذا محمود ليس بمذموم، وهذا يقتضي أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل الصحيح للمتشابه عنده، وهو التفسير في لغة السلف؛ ولهذا لم يقل أحمد ولا غيره من السلف‏:‏ إن في القرآن آيات لا يعرف الرسول ولا غيره معناها، بل يتلون لفظًا لا يعرفون معناه‏.‏ وهذا القول اختيار كثير من أهل السنة، منهم ابن قتيبة، وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما‏.‏
    وابن قتيبة هو من المنتسبين إلى أحمد وإسحاق والمنتصرين لمذاهب السنة المشهورة، وله في ذلك مصنفات متعددة‏.‏ قال فيه صاحب كتاب ‏[‏التحديث بمناقب أهل الحديث‏]‏ وهو أحد أعلام الأئمة والعلماء والفضلاء، أجودهم تصنيفًا، وأحسنهم ترصيفًا، له زهاء ثلاثمائة مصنف، وكان يميل إلى مذهب أحمد، وإسحاق، وكان معاصرًا لإبراهيم الحربي، ومحمد بن نصر المروزي، وكان أهل المغرب يعظمونه، ويقولون‏:‏ من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة، ويقولون‏:‏ كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه فلا خير فيه‏.‏ قلت‏:‏

    ج/ 17 ص -392-ويقال‏:‏ هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة‏.‏
    وقد نقل عن ابن عباس أيضًا القول الآخر، ونقل ذلك عن غيره من الصحابة، وطائفة من التابعين، ولم يذكر هؤلاء على قولهم نصًا عن رسول الله ﷺ، فصارت مسألة نزاع، فترد إلى الله وإلى الرسول، وأولئك احتجوا بأنه قرن ابتغاء الفتنة بابتغاء تأويله، وبأن النبي ﷺ ذم مبتغى المتشابه، وقال‏:‏
    ‏"‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم‏"‏، ولهذا ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغ بن عسل لما سأله عن المتشابه، ولأنه قال‏:‏ ‏"وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، ولو كانت الواو واو عطف مفرد على مفرد لا واو الاستئناف التي تعطف جملة على جملة، لقال‏:‏ ويقولون‏.‏
    فأجاب الآخرون عن هذا بأن الله قال‏:‏ ‏
    "لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا‏"‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ‏"‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ‏"‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏، قالوا‏:‏ فهذا عطف مفرد على مفرد، والفعل حال من المعطوف فقط، وهو نظير قوله‏:‏

    ج/ 17 ص -393-"وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا‏"‏، قالوا‏:‏ ولأنه لو كان المراد مجرد الوصف بالإيمان لم يخص الراسخين، بل قال‏:‏ والمؤمنون يقولون‏:‏ آمنا به، فإن كل مؤمن يجب عليه أن يؤمن به، فلما خص الراسخين في العلم بالذكر علم أنهم امتازوا بعلم تأويله، فعلموه لأنهم عالمون، وآمنوا به لأنهم يؤمنون، وكان إيمانهم به مع العلم أكمل في الوصف، وقد قال عقيب ذلك‏:‏ ‏"وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْباب‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، وهذا يدل على أن هنا تذكرًا يختص به أولو الألباب، فإن كان ما ثم إلا الإيمان بألفاظ فلا يذكر لما يدلهم على ما أريد بالمتشابه‏.‏
    ونظير هذا قوله في الآية الأخرى‏:‏
    ‏"لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏"‏[‏النساء‏:‏ 162‏]‏، فلما وصفهم بالرسوخ في العلم، وأنهم يؤمنون، قرن بهم المؤمنين، فلو أريد هنا مجرد الإيمان لقال‏:‏ والراسخون في العلم والمؤمنون يقولون‏:‏ آمنا به، كما قال في تلك الآية لما كان مراده مجرد الإخبار بالإيمان جمع بين الطائفتين‏.‏
    قالوا‏:‏ وأما الذم فإنما وقع على من يتبع المتشابه لابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن فلا يطلبون إلا المتشابه لإفساد القلوب، وهي فتنتها به، ويطلبون تأويله وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء، بل هذا

    ج/ 17 ص -394-لأجل الفتنة، وكذلك صبيغ بن عسل ضربه عمر؛ لأن قصده بالسؤال عن المتشابه كان لابتغاء الفتنة، وهذا كمن يورد أسئلة وإشكالات على كلام الغير، ويقول‏:‏ ماذا أريد بكذا‏؟‏ وغرضه التشكيك والطعن فيه، ليس غرضه معرفة الحق، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي ﷺ بقوله‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه‏"‏؛ ولهذا ‏"يَتَّبِعُونَ‏"‏ أي‏:‏ يطلبون المتشابه ويقصدونه دون المحكم، مثل المتبع للشيء الذي يتحراه ويقصده‏.‏ وهذا فعل من قصده الفتنة، وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه ويزيل ما عرض له من الشبه وهو عالم بالمحكم متبع له، مؤمن بالمتشابه، لا يقصد فتنة فهذا لم يذمه الله‏.‏ وهكذا كان الصحابة يقولون رضي الله عنهم ‏:‏ مثل الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وقد ذكره الطلمنكي‏:‏ حدثنا يزيد بن عبد ربه، ثنا بقية، ثنا عتبة بن أبي حكيم، ثنى عمارة بن راشد الكناني، عن زياد، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ يقرأ القرآن رجلان‏:‏ فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس، يلتمس أن يجد فيه أمرًا يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى‏.‏ ورجل يقرؤه ليس فيه هوى ولا نية يفليه فلي الرأس فما تبين له منه عمل به، وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن فيه فقهًا ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة، فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه، أو يفهمه إياها من قبل نفسه‏.‏ قال

    ج/ 17 ص -395-بقية‏:‏ أشهدني ابن عيينة حديث عتبة هذا‏.‏
    فهذا معاذ يذم من اتبع المتشابه لقصد الفتنة، وأما من قصده الفقه فقد أخبر أن الله لابد أن يفقهه بفهمه المتشابه فقهًا ما فقهه قوم قط‏:‏ قالوا‏:‏ والدليل على ذلك أن الصحابة كانوا إذا عرض لأحدهم شبهة في آية أو حديث سأل عن ذلك، كما سأله عمر فقال‏:‏ ألم تكن تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به‏؟‏ وسأله أيضًا عمر‏:‏ ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا‏؟‏ ولما نزل قوله‏:‏
    "وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏، شق عليهم وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه حتى بين لهم، ولما نزل قوله‏:‏ ‏"وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏، شق عليهم حتى بين لهم الحكمة في ذلك، ولما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من نوقش الحساب عذب‏"‏ قالت عائشة‏:‏ ألم يقل الله‏:‏ ‏"فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا‏"‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 8‏]‏ قال‏:‏ ‏"‏إنما ذلك العرض‏"‏‏.‏
    قالوا‏:‏ والدليل على ما قلناه إجماع السلف، فإنهم فسروا جميع القرآن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها، وتلقوا ذلك عن النبي ﷺ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى

    ج/ 17 ص -396-يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن، إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه، لا لأن أحدًا من الناس لا يعلمه، لكن لأنه هو لم يعلمه‏.‏
    وأيضًا، فإن الله قد أمر بتدبر القرآن مطلقًا ولم يستثن منه شيئا لا يتدبر، ولا قال‏:‏ لا تدبروا المتشابه، والتدبر بدون الفهم ممتنع، ولو كان من القرآن ما لا يتدبر لم يعرف، فإن الله لم يميز المتشابه بحد ظاهر حتى يجتنب تدبره‏.‏
    وهذا أيضًا مما يحتجون به، ويقولون‏:‏ المتشابه‏:‏ أمر نسبي إضافي، فقد يشتبه على هذا ما لا يشتبه على غيره، قالوا‏:‏ ولأن الله أخبر أن القرآن بيان وهدى وشفاء ونور، ولم يستثن منه شيئا عن هذا الوصف، وهذا ممتنع بدون فهم المعنى، قالوا‏:‏ ولأن من العظيم أن يقال‏:‏ إن الله أنزل على نبيه كلامًا لم يكن يفهم معناه، لا هو ولا جبريل، بل وعلى قول هؤلاء كان النبي ﷺ يحدث بأحاديث الصفات والقدر والمعاد، ونحو ذلك مما هو نظير متشابه القرآن عندهم، ولم يكن يعرف معنى ما يقوله، وهذا لا يظن بأقل الناس‏.‏

    ج/ 17 ص -397-وأيضًا، فالكلام إنما المقصود به الإفهام، فإذا لم يقصد به ذلك، كان عبثًا وباطلًا، والله تعالى قد نزه نفسه عن فعل الباطل والعبث، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم‏؟‏ ‏!‏ وهذا من أقوى حجج الملحدين‏.‏
    وأيضًا، فما في القرآن آية إلا وقد تكلم الصحابة والتابعون لهم بإحسان في معناها، وبينوا ذلك‏.‏ وإذا قيل‏:‏ فقد يختلفون في بعض ذلك، قيل‏:‏ كما قد يختلفون في آيات الأمر والنهي، وآيات الأمر والنهي مما اتفق المسلمون على أن الراسخين في العلم يعلمون معناها‏.‏ وهذا أيضًا مما يدل على أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير المتشابه، فإن المتشابه قد يكون في آيات الأمر والنهي، كما يكون في آيات الخبر، وتلك مما اتفق العلماء على معرفة الراسخين لمعناها، فكذلك الأخرى، فإنه على قول النفاة لم يعلم معنى المتشابه إلا الله، لا ملك ولا رسول ولا عالم، وهذا خلاف إجماع المسلمين في متشابه الأمر والنهي‏.‏
    وأيضًا، فلفظ التأويل يكون للمحكم، كما يكون للمتشابه، كما دل القرآن والسنة وأقوال الصحابة على ذلك، وهم يعلمون معنى المحكم فكذلك معنى المتشابه‏.‏ وأي فضيلة في المتشابه حتى ينفرد الله بعلم معناه والمحكم أفضل منه وقد بين معناه لعباده، فأي فضيلة في المتشابه حتى يستأثر الله بعلم معناه، وما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة لم ينزل به

    ج/ 17 ص -398-خطابًا، ولم يذكر في القرآن آية تدل على وقت الساعة‏!‏ ونحن نعلم أن الله استأثر بأشياء لم يطلع عباده عليها، وإنما النزاع في كلام أنزله، وأخبر أنه هدى وبيان وشفاء، وأمر بتدبره، ثم يقال‏:‏ إن منه ما لا يعرف معناه إلا الله، ولم يبين الله ولا رسوله ذلك القدر الذي لا يعرف أحد معناه؛ ولهذا صار كل من أعرض عن آيات لا يؤمن بمعناها يجعلها من المتشابه بمجرد دعواه، ثم سبب نزول الآية قصة أهل نجران، وقد احتجوا بقوله‏:‏ ‏[‏إنَّا‏]‏ ‏[‏نَحْنُ‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏"بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏، ‏"وَرُوحٌ مِّنْهُ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏، وهذا قد اتفق المسلمون على معرفة معناه، فكيف يقال‏:‏ إن المتشابه لا يعرف معناه لا الملائكة ولا الأنبياء، ولا أحد من السلف، وهو من كلام الله الذي أنزله إلينا، وأمرنا أن نتدبره ونعقله، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء ونور، وليس المراد من الكلام إلا معانيه، ولولا المعنى لم يجز التكلم بلفظ لا معنى له‏.‏
    وقد قال الحسن‏:‏ ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت، وماذا عنى بها‏.‏
    ومن قال‏:‏ إن سبب نزول الآية سؤال اليهود عن حروف المعجم في
    ‏"الم‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1‏]‏، بحساب الجمل، فهذا نقل باطل‏.‏
    أما أولًا‏:‏ فلأنه من رواية الكلبي‏.‏

    ج/ 17 ص -399-وأما ثانيًا‏:‏ فهذا قد قيل‏:‏ إنهم قالوه في أول مَقدم النبي ﷺ إلى المدينة، وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخرًا لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فرض الحج، وإنما فرض سنة تسع أو عشر، لم يفرض في أول الهجرة باتفاق المسلمين‏.‏
    وأما ثالثًا‏:‏ فلأن حروف المعجم ودلالة الحرف على بقاء هذه الأمة، ليس هو من تأويل القرآن الذي استأثر الله بعلمه، بل إما أن يقال‏:‏ إنه ليس مما أراده الله بكلامه، فلا يقال‏:‏ إنه انفرد بعلمه، بل دعوى دلالة الحروف على ذلك باطل، وإما أن يقال‏:‏ بل يدل عليه، فقد علم بعض الناس ما يدل عليه، وحينئذ فقد علم الناس ذلك، أما دعوى دلالة القرآن على ذلك، وأن أحدًا لا يعلمه فهذا هو الباطل‏.‏
    وأيضًا، فإذا كانت الأمور العلمية التي أخبر الله بها في القرآن لا يعرفها الرسول، كان هذا من أعظم قدح الملاحدة فيه، وكان حجة لما يقولونه من أنه كان لا يعرف الأمور العلمية، أو أنه كان يعرفها ولم يبينها، بل هذا القول يقتضي أنه لم يكن يعلمها، فإن ما لا يعلمه إلا الله لا يعلمه النبي ولا غيره‏.‏
    وبالجملة، فالدلائل الكثيرة توجب القطع ببطلان قول من يقول‏:‏ إن في القرآن آيات لا يعلم معناها الرسول ولا غيره‏.‏

    ج/ 17 ص -400-نعم قد يكون في القرآن آيات لا يعلم معناها كثير من العلماء، فضلًا عن غيرهم، وليس ذلك في آية معينة، بل قد يشكل على هذا ما يعرفه هذا، وذلك تارة يكون لغرابة اللفظ، وتارة لاشتباه المعنى بغيره، وتارة لشبهة في نفس الإنسان تمنعه من معرفة الحق، وتارة لعدم التدبر التام، وتارة لغير ذلك من الأسباب، فيجب القطع بأن قوله‏:‏ ‏"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، أن الصواب قول من يجعله معطوفًا، ويجعل الواو لعطف مفرد على مفرد، أو يكون كلا القولين حقًا، وهي قراءتان، والتأويل المنفي غير التأويل المثبت، وإن كان الصواب هو قول من يجعلها واو استئناف، فيكون التأويل المنفي علمه عن غير الله هو الكيفيات التي لا يعلمها غيره، وهذا فيه نظر، وابن عباس جاء عنه أنه قال‏:‏ أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله، وجاء عنه‏:‏ أن الراسخين لا يعلمون تأويله‏.‏
    وجاء عنه أنه قال‏:‏ التفسير على أربعة أوجه‏:‏ تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب‏.‏ وهذا القول يجمع القولين، ويبين أن العلماء يعلمون من تفسيره ما لا يعلمه غيرهم، وأن فيه ما لا يعلمه إلا الله، فأما من جعل الصواب قول من جعل الوقف عند قوله‏:‏ ‏[‏إلا الله‏]‏ وجعل التأويل بمعنى التفسير، فهذا خطأ قطعًا‏.‏

    ج/ 17 ص -401-وأما التأويل بالمعنى الثالث، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فهذا الاصطلاح لم يكن بَعْدُ عُرِفَ في عهد الصحابة، بل ولا التابعين، بل ولا الأئمة الأربعة، ولا كان التكلم بهذا الاصطلاح معروفًا في القرون الثلاثة، بل ولا علمت أحدًا منهم خص لفظ التأويل بهذا، ولكن لما صار تخصيص لفظ التأويل بهذا شائعًا في عرف كثير من المتأخرين، فظنوا أن التأويل في الآية هذا معناه، صاروا يعتقدون أن لمتشابه القرآن معانٍ تخالف ما يفهم منه، وفرقوا دينهم بعد ذلك، وصاروا شيعًا، والمتشابه المذكور الذي كان سبب نزول الآية لا يدل ظاهره على معنى فاسد، وإنما الخطأ في فهم السامع‏.‏ نعم قد يقال‏:‏ إن مجرد هذا الخطاب لا يبين كمال المطلوب، ولكن فرق بين عدم دلالته على المطلوب، وبين دلالته على نقيض المطلوب‏.‏ فهذا الثاني هو المنفي، بل وليس في القرآن ما يدل على الباطل البتة، كما قد بسط في موضعه‏.‏
    وَلَكِنْ كثيرٌ من الناس يزعم أن لظاهر الآية معنى، إما معنى يعتقده، وإما معنى باطلًا فيحتاج إلى تأويله، ويكون ما قاله باطلًا لا تدل الآية على معتقده، ولا على المعنى الباطل‏.‏ وهذا كثير جدًا‏.‏ وهؤلاء هم الذين يجعلون القرآن كثيرًا ما يحتاج إلى التأويل المحدث، وهو صرف اللفظ عن مدلوله إلى خلاف مدلوله‏.‏

    ج/ 17 ص -402-ومما يحتج به من قال‏:‏ الراسخون في العلم يعلمون التأويل، ما ثبت في صحيح البخاري وغيره، عن ابن عباس؛ أن النبي ﷺ دعا له وقال‏:‏ ‏"‏اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل‏"‏، فقد دعا له بعلم التأويل مطلقًا، وابن عباس فسر القرآن كله‏.‏ قال مجاهد‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية وأسأله عنها، وكان يقول‏:‏ أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله‏.‏
    وأيضًا، فالنقول متواترة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تكلم في جميع معاني القرآن من الأمر والخبر، فله من الكلام في الأسماء والصفات والوعد والوعيد والقصص، ومن الكلام في الأمر والنهي والأحكام ما يبين أنه كان يتكلم في جميع معاني القرآن‏.‏
    وأيضًا، قد قال ابن مسعود‏:‏ ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم في ماذا أنزلت‏.‏
    وأيضًا، فإنهم متفقون على أن آيات الأحكام يعلم تأويلها، وهي نحو خمسمائة آية، وسائر القرآن خبر عن الله وأسمائه وصفاته، أو عن اليوم الآخر والجنة والنار، أو عن القصص، وعاقبة أهل الإيمان، وعاقبة أهل الكفر، فإن كان هذا هو المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله،

    ج/ 17 ص -403-فجمهور القرآن لا يعرف أحد معناه، لا الرسول ولا أحد من الأمة، ومعلوم أن هذا مكابرة ظاهرة‏.‏
    وأيضًا، فمعلوم أن العلم بتأويل الرؤيا أصعب من العلم بتأويل الكلام الذي يخبر به؛ فإن دلالة الرؤيا على تأويلها دلالة خفية غامضة لا يهتدي لها جمهور الناس، بخلاف دلالة لفظ الكلام على معناه، فإذا كان الله قد عَلَّم عباده تأويل الأحاديث التي يَرَوْنها في المنام، فلأن يعلمهم تأويل الكلام العربى المبين الذي ينزله على أنبيائه بطريق الأولى والأحرى، قال يعقوب ليوسف‏:‏ ‏
    "وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 6‏]‏، وقال يوسف‏:‏ ‏"رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، وقال‏:‏ ‏"لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37‏]‏‏.‏
    وأيضًا، فقد ذم الله الكفار بقوله‏:‏
    ‏"أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏"‏[‏يونس‏:‏ 38، 39‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏"‏[‏النمل‏:‏ 83، 84‏]‏، وهذا ذم لمن كذب بما لم يحط بعلمه‏.‏

    ج/ 17 ص -404-فما قاله الناس من الأقوال المختلفة في تفسير القرآن وتأويله ليس لأحد أن يصدق بقول دون قول بلا علم، ولا يكذب بشيء منها، إلا أن يحيط بعلمه‏.‏ وهذا لا يمكن إلا إذا عرف الحق الذي أريد بالآية، فيعلم أن ما سواه باطل، فيكذب بالباطل الذي أحاط بعلمه، وأما إذا لم يعرف معناها، ولم يحط بشيء منها علمًا، فلا يجوز له التكذيب بشيء منها، مع أن الأقوال المتناقضة بعضها باطل قطعًا، ويكون حينئذ المكذب بالقرآن كالمكذب بالأقوال المتناقضة، والمكذب بالحق كالمكذب بالباطل، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم‏.‏
    وأيضًا، فإنه إن بنى على ما يعتقده من أنه لا يعلم معانى الآيات الخبرية إلا الله، لزمه أن يكذب كل من احتج بآية من القرآن خبرية على شيء من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن تكلم في تفسير ذلك‏.‏ وكذلك يلزم مثل ذلك في أحاديث الرسول ﷺ‏.‏ وإن قال‏:‏ المتشابه هو بعض الخبريات، لزمه أن يبين فصلًا يتبين به ما يجوز أن يعلم معناه من آيات القرآن، وما لا يجوز أن يعلم معناه، بحيث لا يجوز أن يعلم معناه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا أحد من الصحابة، ولا غيرهم‏.‏ ومعلوم أنه لا يمكن أحدًا ذكر حد فاصل بين ما يجوز أن يعلم معناه بعض الناس، وبين ما لا يجوز أن يعلم معناه أحد، ولو ذكر ما ذكر انتقض عليه، فعلم أن المتشابه ليس هو

    ج/ 17 ص -405-الذي لا يمكن أحدًا معرفة معناه، وهذا دليل مستقل في المسألة‏.‏
    وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏
    "لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 39‏]‏، ‏"أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏ 84‏]‏، ذم لهم على عدم الإحاطة مع التكذيب، ولو كان الناس كلهم مشتركين في عدم الإحاطة بعلم المتشابه، لم يكن في ذمهم بهذا الوصف فائدة، ولكان الذم على مجرد التكذيب، فإن هذا بمنزلة أن يقال‏:‏ أكذبتم بما لم تحيطوا به علمًا ولا يحيط به علمًا إلا الله‏؟‏ ومن كذب بما لا يعلمه إلا الله؛ كان أقرب إلى العذر من أن يكذب بما يعلمه الناس، فلو لم يحط بها علمًا الراسخون؛ كان ترك هذا الوصف أقوى في ذمهم من ذكره‏.‏
    ويتبين هذا بوجه آخر هو دليل في المسألة، وهو أن الله ذم الزائغين بالجهل وسوء القصد، فإنهم يقصدون المتشابه يبتغون تأويله، ولا يعلم تأويله إلا الراسخون في العلم، وليسوا منهم، وهم يقصدون الفتنة لا يقصدون العلم والحق، وهذا كقوله تعالى‏:‏
    ‏"وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏"‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏، فإن المعنى بقوله‏:‏ ‏"لَّأسْمَعَهُمْ‏"‏ فهم القرآن؛ يقول‏:‏ لو علم الله فيهم حسن قصد وقبولًا للحق لأفهمهم القرآن، لكن لو أفهمهم لتولوا عن الإيمان وقبول الحق لسوء قصدهم، فهم جاهلون ظالمون، كذلك الذين في قلوبهم زيغ هم

    ج/ 17 ص -406-مذمومون بسوء القصد، مع طلب علم ما ليسوا من أهله، وليس إذا عيب هؤلاء على العلم ومنعوه يعاب من حسن قصده وجعله الله من الراسخين في العلم‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فأكثر السلف على أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل، وكذلك أكثر أهل اللغة يروى هذا عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعُرْوَة، وقتادة، وعمر ابن عبد العزيز، والفراء، وأبي عبيد، وثعلب، وابن الأنباري‏.‏ قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله‏:‏ إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم‏.‏ وفي قراءة أبي وابن عباس‏:‏ ويقول الراسخون في العلم، قال‏:‏ وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها، كقوله تعالى‏:‏
    ‏"قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏، فأنزل المحكم ليؤمن به المؤمن فيسعد، ويكفر به الكافر فيشقى‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والذي روى القول الآخر عن مجاهد هو ابن أبي نجيح، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد‏.‏
    فيقال‏:‏ قول القائل‏:‏ إن أكثر السلف على هذا قول بلا علم، فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه قال‏:‏ إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه‏.‏ وعن ابن أبي مليكة عن عائشة أنها قالت‏:‏ كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه وبمتشابهه ولا يعلمونه‏.‏ فقد روى

    ج/ 17 ص -407-البخاري عن ابن أبي مُلَىْكَة، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها الحديث المرفوع في هذا، وليس فيه هذه الزيادة، ولم يذكر أنه سمعها من القاسم، بل الثابت عن الصحابة أن المتشابه يعلمه الراسخون كما تقدم حديث معاذ بن جبل في ذلك، وكذلك نحوه عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وغيرهم، وما ذكر من قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب ليس لها إسناد يعرف حتى يحتج بها، والمعروف عن ابن مسعود أنه كان يقول‏:‏ ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم في ماذا أنزلت، وماذا عنى بها‏.‏ وقال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان ابن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل‏.‏ وهذا أمر مشهور رواه الناس عن عامة أهل الحديث والتفسير، وله إسناد معروف، بخلاف ما ذكر من قراءتهما‏.‏ وكذلك ابن عباس قد عرف عنه أنه كان يقول‏:‏ أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله‏.‏ وقد صح عن النبي ﷺ أنه دعا له بعلم تأويل الكتاب، فكيف لا يعلم التأويل مع أن قراءة عبد الله‏:‏ إن تأويله إلا عند الله لا تناقض هذا القول‏؟‏ فإن نفس التأويل لا يأتي به إلا الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏، وقال‏:‏ ‏"بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 39‏]‏‏.‏

    ج/ 17 ص -408-وقد اشتهر عن عامة السلف أن الوعد والوعيد من المتشابه، وتأويل ذلك هو مجيء الموعود به، وذلك عند الله لا يأتي به إلا هو، وليس في القرآن‏:‏ إن علم تأويله إلا عند الله، كما قال في الساعة‏:‏ ‏"يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 187، 188‏]‏، وكذلك لما قال فرعون لموسى‏:‏ ‏"فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 51، 52‏]‏‏.‏
    فلو كانت قراءة ابن مسعود تقتضى نفي العلم عن الراسخين لكانت‏:‏ إن علم تأويله إلا عند الله، لم يقرأ‏:‏ إن تأويله إلا عند الله، فإن هذا حق بلا نزاع‏.‏ وأما القراءة الأخرى المروية عن أبي وابن عباس، فقد نقل عن ابن عباس ما يناقضه، وأخص أصحابه بالتفسير مجاهد، وعلى تفسير مجاهد يعتمد أكثر الأئمة كالثوري والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري‏.‏ قال الثوري‏:‏ إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به‏.‏ والشافعي في كتبه أكثر الذي ينقله عن ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد‏.‏ وكذلك البخاري في صحيحه يعتمد على هذا

    ج/ 17 ص -409-التفسير‏.‏ وقول القائل‏:‏ لا تصح رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد جوابه‏:‏ أن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير، بل ليس بأيدى أهل التفسير كتاب في التفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد، إلا أن يكون نظيره في الصحة، ثم معه ما يصدقه، وهو قوله‏:‏ عرضت المصحف على ابن عباس أقفه عند كل آية وأسأله عنها‏.‏
    وأيضًا، فأبي بن كعب رضي الله عنه قد عرف عنه أنه كان يفسر ما تشابه من القرآن، كما فسر قوله‏:‏ ‏
    "فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا‏"‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏، وفسر قوله‏:‏ ‏"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏"‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏، وغير ذلك‏.‏ ونَقْلُ ذلك معروف عنه بالإسناد أثبت من نقل هذه القراءة التي لا يعرف لها إسناد‏.‏ وقد كان يسئل عن المتشابه من معنى القرآن فيجيب عنه كما سأله عمر، وسئل عن ليلة القدر‏.‏
    وأما قوله‏:‏ إن الله أنزل المجمل ليؤمن به المؤمن‏.‏ فيقال‏:‏ هذا حق، لكن هل في الكتاب والسنة أو قول أحد من السلف أن الأنبياء والملائكة والصحابة لا يفهمون ذلك الكلام المجمل‏؟‏ أم العلماء متفقون على أن المجمل في القرآن يفهم معناه ويعرف ما فيه من الإجمال، كما مثل به من وقت الساعة‏؟‏ فقد علم المسلمون كلهم معنى الكلام الذي أخبر الله به عن الساعة، وأنها آتية لا محالة، وأن الله انفرد بعلم وقتها، فلم يُطْلِع على ذلك أحدًا؛ ولهذا قال النبي ﷺ

    ج/ 17 ص -410-لما سأله السائل عن الساعة، وهو في الظاهر أعرابي لا يعرف قال له‏:‏ متى الساعة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ما المسؤول عنها بأعلم من السائل‏"‏ ولم يقل‏:‏ إن الكلام الذي نزل في ذكرها لا يفهمه أحد، بل هذا خلاف إجماع المسلمين، بل والعقلاء؛ فإن إخبار الله عن الساعة وأشراطها كلام بين واضح يفهم معناه، وكذلك قوله‏:‏ ‏"وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏، قد علم المراد بهذا الخطاب، وأن الله خلق قرونًا كثيرة لا يعلم عددهم إلا الله، كما قال‏:‏ ‏"وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏ فأي شيء في هذا مما يدل على أن ما أخبر الله به من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر لا يفهم معناه أحد لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا الصحابة ولا غيرهم‏؟‏‏!‏
    وأما ما ذكر عن عُرْوَة، فعروة قد عرف من طريقه أنه كان لا يفسر عامة أي القرآن إلا آيات قليلة رواها عن عائشة، ومعلوم أنه إذا لم يعرف عروة التفسير؛ لم يلزم أنه لا يعرفه غيره من الخلفاء الراشدين، وعلماء الصحابة، كابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وغيرهم‏.‏
    وأما اللغويون الذين يقولون‏:‏ إن الراسخين لا يعلمون معنى المتشابه فهم متناقضون في ذلك، فإن هؤلاء كلهم يتكلمون في تفسير كل شيء في القرآن، ويتوسعون في القول في ذلك، حتى ما منهم أحد إلا وقد قال في ذلك أقوالا لم يُسبق إليها، وهي خطأ‏.‏ وابن الأنبارى الذي

    ج/ 17 ص -411-بالغ في نصر ذلك القول هو من أكثر الناس كلامًا في معانى الآي المتشابهات، يذكر فيها من الأقوال ما لم ينقل عن أحد من السلف، ويحتج لما يقوله في القرآن بالشاذ من اللغة، وقصده بذلك الإنكار على ابن قتيبة، وليس هو أعلم بمعانى القرآن والحديث، وأتبع للسنة من ابن قتيبة، ولا أفقه في ذلك، وإن كان ابن الأنباري من أحفظ الناس للغة؛ لكن باب فقه النصوص غير باب حفظ ألفاظ اللغة‏.‏
    وقد نقم هو وغيره على ابن قتيبة كونه رد على أبي عبيد أشياء من تفسيره غريب الحديث، وابن قتيبة قد اعتذر عن ذلك، وسلك في ذلك مسلك أمثاله من أهل العلم، وهو وأمثاله يصيبون تارة، ويخطؤون أخرى، فإن كان المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فهم كلهم يجترئون على الله، يتكلمون في شيء لا سبيل إلى معرفته، وإن كان ما بينوه من معاني المتشابه قد أصابوا فيه ولو في كلمة واحدة ظهر خطؤهم في قولهم‏:‏ إن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، ولا يعلمه أحد من المخلوقين، فليختر من ينصر قولهم هذا أو هذا‏.‏
    ومعلوم أنهم أصابوا في شيء كثير مما يفسرون به المتشابه، وأخطؤوا في بعض ذلك، فيكون تفسيرهم هذه الآية مما أخطؤوا فيه العلم اليقيني، فإنهم أصابوا في كثير من تفسير المتشابه، وكذلك ما نقل عن قتادة من أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، فكتابه

    ج/ 17 ص -412-في التفسير من أشهر الكتب، ونقله ثابت عنه من رواية معمر عنه، ورواية سعيد بن أبي عَرُوَبة عنه؛ ولهذا كان المصنفون في التفسير عامتهم يذكرون قوله لصحة النقل عنه، ومع هذا يفسر القرآن كله محكمه ومتشابهه‏.‏
    والذي اقتضى شهرة القول عن أهل السنة بأن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، ظهور التأويلات الباطلة من أهل البدع كالجهمية والقدرية من المعتزلة وغيرهم، فصار أولئك يتكلمون في تأويل القرآن برأيهم الفاسد، وهذا أصل معروف لأهل البدع، أنهم يفسرون القرآن برأيهم العقلي، وتأويلهم اللغوي، فتفاسير المعتزلة مملوءة بتأويل النصوص المثبتة للصفات والقدر على غير ما أراده الله ورسوله، فإنكار السلف والأئمة هو لهذه التأويلات الفاسدة، كما قال الإمام أحمد فيما كتبه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، فهذا الذي أنكره السلف والأئمة من التأويل‏.‏
    فجاء بعدهم قوم انتسبوا إلى السنة بغير خبرة تامة بها، وبما يخالفها ظنوا أن المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فظنوا أن معنى التأويل هو معناه في اصطلاح المتأخرين وهو‏:‏ صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، فصاروا في موضع يقولون وينصرون أن المتشابه لا يعلم

    ج/ 17 ص -413-معناه إلا الله، ثم يتناقضون في ذلك من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنهم يقولون‏:‏ النصوص تجري على ظواهرها، ولا يزيدون على المعنى الظاهر منها؛ ولهذا يبطلون كل تأويل يخالف الظاهر، ويقرون المعنى الظاهر، ويقولون مع هذا‏:‏ إن له تأويلًا لا يعلمه إلا الله، والتأويل عندهم ما يناقض الظاهر، فكيف يكون له تأويل يخالف الظاهر، وقد قرر معناه الظاهر‏؟‏ ‏!‏ وهذا مما أنكره عليهم مناظروهم، حتى أنكر ذلك ابن عقيل على شيخه القاضي أبي يعلى‏.‏
    ومنها‏:‏ أنا وجدنا هؤلاء كلهم لا يحتج عليهم بنص يخالف قولهم، لا في مسألة أصلية، ولا فرعية، إلا تأولوا ذلك النص بتأويلات متكلفة مستخرجة من جنس تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات الجهمية والقدرية للنصوص التي تخالفهم، فأين هذا من قولهم‏:‏ لا يعلم معانى النصوص المتشابهة إلا الله تعالى‏؟‏ ‏!‏ واعتبر هذا بما تجده في كتبهم من مناظرتهم للمعتزلة في مسائل الصفات والقرآن والقدر، إذا احتجت المعتزلة على قولهم بالآيات التي تناقض قول هؤلاء، مثل أن يحتجوا بقوله‏:‏
    ‏"وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، ‏"وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، ‏"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، ‏"لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، ‏"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، ‏"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏، ونحو ذلك كيف تجدهم يتأولون هذه النصوص بتأويلات غالبها فاسد،

    ج/ 17 ص -414-وإن كان في بعضها حق‏؟‏ فإن كان ما تأولوه حقًا، دل على أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فظهر تناقضهم، وإن كان باطلًا فذلك أبعد لهم‏.‏
    وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارًا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة لما صنف كتابه في ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية‏]‏ فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، تكلم على معانى المتشابه الذي اتبعه الزائغون ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله آية آية، وبين معناها، وفسرها ليبين فساد تأويل الزائغين، واحتج على أن الله يرى، وأن القرآن غير مخلوق، وأن الله فوق العرش بالحجج العقلية والسمعية، ورد ما احتج به النفاة من الحجج العقلية والسمعية، وبين معانى الآيات التي سماها هو متشابهة، وفسرها آية آية‏.‏ وكذلك لما ناظروه واحتجوا عليه بالنصوص جعل يفسرها آية آية، وحديثًا حديثًا، ويبين فساد ما تأولها عليه الزائغون، ويبين هو معناها، ولم يقل أحمد‏:‏ إن هذه الآيات والأحاديث لا يفهم معناها إلا الله، ولا قال أحد له ذلك، بل الطوائف كلها مجتمعة على إمكان معرفة معناها، لكن يتنازعون في المراد كما يتنازعون في آيات الأمر والنهي، وكذلك كان أحمد يفسر المتشابه من الآيات والأحاديث التي يحتج بها الزائغون من الخوارج

    ج/ 17 ص -415-وغيرهم‏.‏ كقوله‏:‏ ‏"‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشرب وهو مؤمن‏"‏ وأمثال ذلك‏.‏
    ويبطل قول المرجئة والجهمية وقول الخوارج المعتزلة وكل هذه الطوائف تحتج بنصوص المتشابه على قولها، ولم يقل أحد لا من أهل السنة ولا من هؤلاء لما يستدل به هو، أو يستدل به على منازعه‏:‏ هذه آيات وأحاديث لا يعلم معناها أحد من البشر، فأمسكوا عن الاستدلال بها‏.‏ وكان الإمام أحمد ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسرون القرآن برأيهم وتأويلهم من غير استدلال بسنة رسول الله ﷺ وأقوال الصحابة والتابعين، والذين بلغهم الصحابة معانى القرآن، كما بلغوهم ألفاظه، ونقلوا هذا كما نقلوا هذا، لكن أهل البدع بتأولون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله، ويدعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون، وهم مبطلون في ذلك، لا سيما تأويلات القرامطة والباطنية الملاحدة، وكذلك أهل الكلام المحدث من الجهمية والقدرية وغيرهم ‏.‏
    ولكن هؤلاء يعترفون بأنهم لا يعلمون التأويل، وإنما غايتهم أن يقولوا‏:‏ ظاهر هذه الآية غير مراد، ولكن يحتمل أن يراد كذا، وأن يراد كذا، ولو تأولها الواحد منهم بتأيل معين، فهو لا يعلم أنه

    ج/ 17 ص -416-مراد الله ورسوله، بل يجوز أن يكون مراد الله ورسوله عندهم غير ذلك، كالتأويلات التي يذكرونها في نصوص الكتاب، كما يذكرونه في قوله‏:‏ ‏"وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏"‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ و‏"‏ينزل ربنا‏"‏، و‏"الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏"‏‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ ‏"وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، ‏"وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏"‏[‏الفتح‏:‏ 6‏]‏، ‏"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، وأمثال ذلك من النصوص، فإن غاية ما عندهم يحتمل أن يراد به كذا ويجوز كذا ونحو ذلك، وليس هذا علما بالتأويل، وكذلك كل من ذكر في نص أقوالا، واحتمالات، ولم يعرف المراد، فإنه لم يعرف تفسير ذلك وتأويله وإنما يعرف ذلك من عرف المراد ‏.
    ومن زعم من الملاحدة أن الأدلة السمعية لا تفيد العلم، فمضمون مدلولاته‏:‏ لا يعلم أحد تفسير المحكم، ولا تفسير المتشابه، ولا تأويل ذلك‏.‏ وهذا إقرار منه على نفسه بأنه ليس من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويل المتشابه، فضلاً عن تأويل المحكم، فإذا انضم إلى ذلك أن يكون كلامهم في العقلايات فيه من السفسطة والتلبيس ما لا يكون معه دليل على الحق، لم يكن عند هؤلاء لا معرفة بالسمعيات ولا بالعقليات‏.‏ وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم قالوا‏:‏ ‏
    "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏"‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏، ومدح الذين إذا ذكروا بآياته لم يخروا عليها صُمًا وعُميانًا، والذين يفقهون ويعقلون، وذم الذين

    ج/ 17 ص -417-لا يفقهون ولا يعقلون في غير موضع من كتابه‏.‏ وأهل البدع المخالفون للكتاب والسنة يدعون العلم والعرفان والتحقيق، وهم من أجهل الناس بالسمعيات العقليات، وهم يجعلون ألفاظا لهم مجملة متشابهة تتضمن حقًا وباطلاً، يجعلونها هي الأصول المحكمة، ويجعلون ما عارضها من نصوص الكتاب والسنة من المتشابه الذي لا يعلم معناه عندهم إلا الله، وما يتأولونه بالاحتمالات لا يفيد، فيجعلون البراهين شبهات، والشبهات براهين، كما قد بسط ذلك في موضع آخر ‏.‏
    وقد نقل القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد أنه قال‏:‏ المحكم‏:‏ ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه‏:‏ ما احتاج إلى بيان ‏.‏ وكذلك قال الإمام أحمد في رواية والشافعي قال‏:‏ المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل من التأويل وجوهًا‏.‏ وكذلك قال الإمام أحمد‏.‏ وكذلك قال ابن الأنباري‏:‏ المحكم‏:‏ ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه‏:‏ الذي تعتوره التأويلات، فيقال حينئذ‏:‏ فجميع الأمة سلفها وخلفها يتكلمون في معاني القرآن التي تحتمل التأويلات ‏.‏
    وهؤلاء الذين ينصرون أن الرسخين في العلم لا يعلمون معنى المتشابه هم من أكثر الناس كلاما فيه‏.‏

    ج/ 17 ص -418-والأئمة كالشافعي وأحمد ومن قبلهم كلهم يتكلمون فيما يحتمل معاني، ويرجحون بعضها على بعض بالأدلة في جميع مسائل العلم الأصولية والفروعية، لا يعرف عن عالم من علماء المسلمين أنه قال عن نص احتج به محتج في مسألة‏:‏ إن هذا لا يعرف أحد معناه فلا يحتج به، ولو قال أحد ذلك لقيل له مثل ذلك، وإذا ادعى في مسائل النزاع المشهورة بين الأئمة أن نصه محكم يعلم معناه، وأن النص الآخر متشابه لا يعلم أحد معناه قوبل بمثل هذه الدعوة‏.‏ وهذا بخلاف قولنا‏:‏ إن من النصوص ما معناه جلى واضح ظاهر لا يحتمل إلا وجها واحدا لا يقع فيه اشتباه، ومنها ما في خفاء واشتباه يعرف معناه الراسخون في العلم، فإن هذا تفسير صحيح‏.‏ وحينئذ فالخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه، فمن قال‏:‏ إنه يعرف معناه يبين حجته على ذلك‏.‏
    وأيضًا، فما ذكره السلف والخلف في المتشابه يدل على أنه كله يعرف معناه‏.‏
    فمن قال‏:‏ إن المتشابه هو المنسوخ، فمعنى المنسوخ معروف، وهذا القول مأثور عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم‏.‏ وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، هم الذين نقل عنهم أن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، معلوم قطعا باتفاق المسلمين أن الراسخين يعلمون معنى المنسوخ، وأنه منسوخ، فكان هذا النقل عنهم يناقض ذلك النقل، ويدل على أنه كذب إن كان هذا صدقا، وإلا تعارض النقلان

    ج/ 17 ص -419-عنهم‏.‏ والمنقول عنهم أن الراسخين يعلمون معنى المتشابه ‏.‏
    والقول الثاني‏:‏ مأثور عن جابر بن عبد الله أنه قال‏:‏ المحكم‏:‏ ما علم العلماء تأويله، والمتشابه‏:‏ ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة، ومعلوم أن وقت قيام الساعة مما اتفق المسلمون على أنه لا يعلمه إلا الله‏.‏ فإذا أريد بلفظ التأويل هذا كان المراد به لا يعلم وقت تأويله إلا الله، وهذا حق، ولا يدل ذلك على أنه لا يعرف معنى الخطاب بذلك، وكذلك إن أريد بالتأويل حقائق ما يوجد، وقيل‏:‏ لا يعلم كيفية ذلك إلا الله، فهذا قد قدمناه، وذكر أنه على قول هؤلاء من وقف عند قوله‏:‏
    ‏"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ هو الذي يجب أن يراد بالتأويل‏.‏ وأما أن يراد بالتأويل التفسير، ومعرفة المعنى ويوقف على قوله‏:‏ ‏"إِلاَّ اللّهُ‏"‏ فهذا خطأ قطعا مخالف للكتاب والسنة، وإجماع المسلمين ‏.‏
    ومن قال ذلك من المتأخرين، فإنه متناقض، يقول ذلك، ويقول ما يناقضه، وهذا القول يناقض الإيمان بالله ورسوله من وجوه كثيرة، ويوجب القدح في الرسالة، ولا ريب أن الذي قالوه لم يتدبروا لوازمه وحقيقته، بل أطلقوه وكان أكبر قصدهم دفع تأويلات أهل البدع للمتشابه، وهذا الذي قصدوه حق، وكل مسلم يوافقهم عليه؛ لكن لا ندفع باطلًا بباطل آخر، ولا نرد بدعة ببدعة، ولا يرد تفسير

    ج/ 17 ص -420-أهل الباطل للقرآن بأن يقال‏:‏ الرسول ﷺ والصحابة كانوا لا يعرفون تفسير ما تشابه من القرآن، ففي هذا من الطعن في الرسول وسلف الأمة ما قد يكون أعظم من خطأ طائفة في تفسير بعض الآيات، والعاقل لا يبنى قصرا ويهدم مصرًا ‏.‏
    والقول الثالث‏:‏ أن المتشابه‏:‏ الحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏ يروى هذا عن ابن عباس‏.‏ وعلى هذا القول فالحروف المقطعة ليست كلاما تاما من الجمل الإسمية والفعلية، وإنما هي أسماء موقوفة؛ ولهذا لم تعرب، فإن الإعراب إنما يكون بعد العقد والتركيب، وإنما نطق بها موقوفة، كما يقال‏:‏ أ ب ت ث؛ ولهذا تكتب بصورة الحرف، لا بصورة الاسم الذي ينطق به، فإنها في النطق أسماء؛ ولهذا لما سأل الخليل أصحابه عن النطق بالزاى من زيد، قالوا‏:‏ زا، قال‏:‏ نطقتم بالاسم، وإنما النطق بالحرف زه، فهي في اللفظ أسماء، وفي الخط حروف مقطعة، ‏"الم‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 1‏]‏ لا تكتب ألف لام ميم، كما يكتب قول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات، أما أنى لا أقول‏:‏ الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف‏"‏ ‏.
    والحرف في لغة الرسول ﷺ وأصحابه يتناول الذي يسميه النحاة اسمًا وفعلًا وحرفًا؛ ولهذا قال سيبوبه في تقسيم الكلام‏:‏

    ج/ 17 ص -421-اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، فإنه لما كان معروفًا من اللغة أن الاسم حرف‏.‏ والفعل حرف خص هذا القسم الثالث الذي يطلق النحاة عليه الحرف أنه جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، وهذه حروف المعاني التي يتألف منها الكلام ‏.‏
    وأما حروف الهجاء، فتلك إنما تكتب على صورة الحرف المجرد، وينطق بها غير معربة، ولا يقال فيها‏:‏ معرب ولا مبنى؛ لأن ذلك إنما يقال في المؤلف، فإذا كان على هذا القول كا ما سوى هذه محكم حصل المقصود، فإنه ليس المقصود إلا معرفة كلام الله، وكلام رسوله ﷺ ثم يقال‏:‏ هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس فإن كان معناها معروفا فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفًا وهي المتشابه ، كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب ‏.‏
    وأيضًا، فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏
    "مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العلماء، وإنما يعدها آيات الكوفيون‏.‏
    وسبب نزول هذه الآية الصحيح، يدل على أن غيرها أيضًا متشابه، ولكن هذا القول يوافق ما نقل عن اليهود من طلب علم المدد من حروف الهجاء‏.‏

    ج/ 17 ص -422-والرابع‏:‏ أن المتشابه ما اشتبهت معانيه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وهذا يوافق قول أكثر العلماء، وكلهم يتكلم في تفسير هذا المتشابه، ويبين معناه ‏.‏
    والخامس‏:‏ أن المتشابه ما تكررت ألفاظه، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال‏:‏ المحكم‏:‏ ما ذكر اللّه تعالى في كتابه من قصص الأنبياء ففصله وبينه، والمتشابه‏:‏ هو ما اختلفت ألفاظه في قصصهم عند التكرير كما قال في موضع من قصة نوح‏:‏
    ‏"احْمِلْ فِيهَا‏"‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ ‏"فَاسْلُكْ فِيهَا‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 27‏]‏، وقال‏:‏ في عصا موسى‏:‏ ‏"فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى‏"‏[‏طه‏:‏ 20‏]‏، وفي موضع آخر‏:‏ ‏"فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏"‏[‏الشعراء‏:‏ 32‏]‏، وصاحب هذا لقول جعل المتشابه اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى، كما يشتبه على حافظ القرآن هذا اللفظ بذك اللفظ، وقد صنف بعضهم في هذا المتشابه؛ لأن القصة الواحدة يتشابه معناها في الموضعين، فاشتبه على القارئ أحد اللفظين بالآخر، وهذا التشابه لا ينفي معرفة المعاني بلا ريب، ولا يقال في مثل هذا‏:‏ إن الراسخين يختصون بعلم تأويله، فهذا القول إن كان صحيحًا كان حجة لنا وإن كان ضعيفًا لم يضرنا‏.‏
    والسادس‏:‏ أنه ما احتاج إلى بيان كما نقل عن أحمد‏.‏
    والسابع‏:‏ أنه ما احتمل وجوها، كما نقل عن الشافعى، وأحمد‏.‏ وقد روي عن أبى الدرداء رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ إنك لا تفقه كل

    ج/ 17 ص -423-الفقه حتى ترى القرآن وجوها‏.‏ وقد صنف الناس كتب الوجوه والنظائر، فالنظائر‏:‏ اللفظ الذي اتفق معناه في الموضعين وأكثر‏.‏ والوجوه‏:‏ الذي اختلف معناه، كما يقال‏:‏ الأسماء المتواطئة والمشتركة، وإن كان بينهما فرق، ولبسطه موضع آخر
    وقد قيل‏:‏ هي نظائر في اللفظ ومعانيها مختلفة، فتكون كالمشتركة، وليس كذلك، بل الصواب أن المراد بالوجوه والنظائر هو الأول، وقد تكلم المسلمون سلفهم وخلفهم في معاني الوجوه، وفيما يحتاج إلى بيان وما يحتمل وجوهًا، فعلم يقينًا أن المسلمين متفقون على أن جميع القرآن مما يمكن العلماء معرفة معانيه وعلم أن من قال‏:‏ إن من القرآن ما لا يفهم أحد معناه، ولا يعرف معناه إلا اللّه، فإنه مخالف لإجماع الأمة مع مخالفته للكتاب والسنة ‏.‏
    والثامن‏:‏ أن المتشابه هو القصص والأمثال وهذا أيضًا يعرف معناه‏.‏
    والتاسع‏:‏ أنه ما يؤمن به ولا يعمل به، وهذ أيضًا مما يعرف معناه‏.‏
    والعاشر‏:‏ قول بعض المتأخرين‏:‏ إن المتشابه آيات الصفات، وأحاديث الصفات، وهذا أيضًا مما يعلم معناه، فإن أكثر آيات الصفات اتفق

    ج/ 17 ص -424-المسلمون على أنه يعرف معناها‏.‏ والبعض الذي تنازع الناس في معناه إنما ذم السلف منه تأويلات الجهمية، ونفوا علم الناس بكيفيته، كقول مالك‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏ وكذلك قال سائر أئمة السنة‏.‏ وحينئذ ففرق بين المعنى المعلوم، وبين الكيف المجهول، فإن سُمى الكيف تأويلا ساغ أن يقال‏:‏ هذا التأويل لا يعلمه إلا اللّه، كما قدمناه أولا ‏.‏
    وأما إذا جعل معرفة المعنى وتفسيره تأويلًا كما يجعل معرفة سائر آيات القرآن تأويلا، وقيل‏:‏ إن النبي ﷺ وجبريل والصحابة والتابعين ما كانوا يعرفون معنى قوله‏:‏ ‏
    "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ ولا يعرفون معنى قوله‏:‏ ‏"مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏"‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ ولا معنى قوله‏:‏ ‏"وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏"‏[‏الفتح‏:‏ 6‏]‏، بل هذا عندهم بمنزلة الكلام العجمى، الذي لا يفهمه العربى، وكذلك إذا قيل‏:‏ كان عندهم قوله تعالى‏:‏ ‏"وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 134‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ‏"‏ ‏[‏محمد‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 105‏]‏، وقوله‏:‏

    ج/ 17 ص -425-"إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏"‏‏[‏الزخرف‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا‏"‏[‏النمل‏:‏ 8‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏"‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شيئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏"‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، إلى أمثال هذه الآيات‏.‏
    فمن قال عن جبريل ومحمد صلوات اللّه وسلامه عليهما وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين والجماعة‏:‏ إنهم كانوا لا يعرفون شيئًا من معاني هذه الآيات، بل اتسأثر اللّه بعلم معناها، كما استأثر بعلم وقت الساعة، وإنما كانوا يقرؤون ألفاظًا لا يفهمون لها معنى، كما يقرأ الإنسان كلامًا لا يفهم منه شيئًا، فقد كذب على القوم، والنقول المتواترة عنهم تدل على نقيض هذا، وأنهم كانوا يفهمون هذا يفهمون غيره من القرآن، وإن كان كنه الرب عز وجل لا يحيط به العباد، ولا يحصون ثناءً عليه، فذاك لا يمنع أن يعلموا من أسمائه وصفاته ما علمهم سبحانه وتعالى كما أنهم إذا علموا أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، لم يعرفوا كيفية علمه وقدرته، وإذا عرفوا أنه أنه حق موجود لم يلزم أن يعرفوا كيفية ذاته ‏

    ج/ 17 ص -426-وهذا مما يستدل به على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإن الناس متفقون على أنهم يعرفون تأويل المحكم، ومعلوم أنهم لا يعرفون كيفية ما أخبر الله به عن نفسه في الآيات المحكمات، فدل ذلك على أن عدم العلم بالكيفية لا ينفي العلم بالتأويل الذي هو تفسير الكلام وبيان معناه، بل يعلمون تأويل المحكم المتشابه، ولا يعرفون كيفية الرب لا في هذا، ولا في هذا‏.‏
    فإن قيل‏:‏ هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير، وبين التأويل الذي في كتاب الله تعالى قيل‏:‏ لا يقدح في ذلك، فإن معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصور ذلك في القلب غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج المرادة بذلك الكلام، فإن الشيء له وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، فالكلام لفظ له معنى في القلب، ويكتب ذلك اللفظ بالخط، فإذا عرف الكلام وتصور معناه في القلب، وعبر عنه باللسان، فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج، وليس كل من عرف الأول، عرف عين الثاني ‏.‏
    مثال ذلك‏:‏ أن أهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة محمد ﷺ وخبره ونعته، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره، وتأويل ذلك هو نفس محمد المبعوث، فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك

    ج/ 17 ص -427-الكلام، وكذلك الإنسان قد يعرف الحج والمشاعر كالبيت والمسجد ومنى وعرفة ومزدلفة ويفهم معنى ذلك، ولا يعرف أعيان الأمكنة حتى يشاهدها، فيعرف أن الكعبة المشاهدة المذكورة في قوله‏:‏ ‏"وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، وكذلك أرض عرفات هي المذكورة في قوله‏:‏ ‏"فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏، وكذلك المشعر الحرام هي المزدلفة التي بين مأزمى عرفة، ووادى محسر، يعرف أنها المذكورة في قوله‏:‏"فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ‏"[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏
    وكذلك الرؤيا قد يراها الرجل، ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره، مثل أن يقول‏:‏ هذا يدل على أنه كان كذا، ويكون كذا وكذا، ثم إذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه؛ ولهذا قال يوسف الصديق‏:‏ ‏
    "هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ‏"‏‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏، وقال‏:‏ ‏"لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37‏]‏ فقد أنبأهما بالتأويل قبل أن يأتى التأويل، والأنباء ليس هو التأويل، فالنبي ﷺ عالم بالتأويل، وإن كان التأويل لم يقع بعد، وإن كان لا يعرف متى يقع فنحن نعلم ما ذكر الله في القرآن من الوعد والوعيد، وإن كنا لا نعرف متى يقع هذا التأويل المذكور في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏"‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏،

    ج/ 17 ص -428-فنحن نعلم مستقر نبأ اللّه، وهو الحقيقة التي أخبر اللّه بها، ولا نعلم متى يكون، وقد لا نعلم كيفيتها وقدرها، وسواء في هذا تأويل المحكم والمتشابه‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ‏"‏‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد‏"‏‏.‏ فقد عرف تأويلها، وهو وقوع الاختلاف والفتن، وإن لم يعرف متى يقع، وقد لا يعرف صفته ولا حقيقته، فإذا وقع عرف العارف أن هذا هو التأويل الذي دلت عليه الآية، وغيره قد لا يعرف ذلك أو ينساه بعد ما كان عرفه، فلا يعرف أن هذا تأويل القرآن، فإنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏"وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏"‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏، قال الزبير‏:‏ لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرنا من أهلها، وإذا نحن المعنيون بها‏:‏ ‏"وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً‏"‏ ‏.‏
    وأيضًا، فإن اللّّه قد ذم في كتابه من يسمع القرآن ولا يفقه معناه، وذم من لم يتدبره ومدح من يسمعه ويفقهه، فقال تعالى‏:‏ ‏
    "وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ‏"‏ الآية ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏، فأخبر أنهم كانوا يقولون لأهل العلم‏:‏ ماذا قال الرسول في هذا الوقت المتقدم، فدل على أن أهل العلم من الصحابة كانوا يعرفون من معاني كلام رسول اللّه ﷺ ما لا يعرفه غيرهم، وهؤلاء هم الراسخون في العلم

    ج/ 17 ص -429-الذين يعلمون معاني القرآن محكمه ومتشابهه، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏"وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ‏"‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏، فدل على أن العالمين يعقلونها، وإن كان غيرهم لا يعقلها‏.‏
    والأمثال‏:‏ هي المتشابه عند كثير من السلف، وهي إلى المتشابه أقرب من غيرها لما بين الممثِل والممثَّل به من التشابه، وعقل معناها هو معرفة تأويلها الذي يعرفه الراسخون في العلم دون غيرهم، ويشبه هذا قوله تعالى‏:‏
    ‏"وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏"‏[‏سبأ‏:‏ 6‏]‏، فلولا أنهم عرفوا معنى ما أنزل كيف عرفوا أنه حق أو باطل وهل يحكم على كلام لم يتصور معناه أنه حق أو باطل‏؟‏ ‏!‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏"‏[‏محمد‏:‏ 24‏]‏ وقال‏:‏ ‏"أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ‏"‏ [‏المؤمنون‏:‏ 68‏]‏، وقال‏:‏ تعالى‏:‏ ‏"فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 17، 18‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏"‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 73‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فصلتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏‏.‏

    ج/ 17 ص -430-وقال‏:‏ ‏"فصلتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرً‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏"‏[‏فصلت 3‏:‏ 5‏]‏ ‏.‏
    فإذا كان كثير من القرآن أو أكثره مما لا يفهم أحد معناه، لم يكن المتدبر المعقول إلا بعضه، وهذا خلاف ما دل عليه القرآن، لا سيما عامة ما كان المشركون ينكرونه كالآيات الخبرية، والإخبار عن اليوم الآخر أو الجنة والنار، وعن نفي الشركاء والأولاد عن اللّه، ونسميته بالرحمن، فكان عامة إنكارهم لما يخبرهم به من صفات اللّّه نفيا وإثباتا، وما يخبرهم به عن اليوم الآخر‏.‏ وقد ذم اللّه من لا يعقل ذلك ولا يفهمه ولا يتدبره‏.‏
    فعلم أن اللّه يأمر بعقل ذلك وتدبره، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42، 43‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا‏"‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا‏"‏ الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 45، 46‏]‏‏.‏
    وقد استدل بعضهم بأن اللّّه لم ينف عن غيره علم شيء إلا

    ج/ 17 ص -431-كان منفردًا به، كقوله‏:‏ ‏"قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏ 56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏"‏‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏
    فيقال‏:‏ ليس الأمر كذلك، بل هذا بحسب العلم المنفي، فإن كان مما استأثر اللّه به قيل فيه ذلك، وإن كان مما علمه بعض عباده ذكر ذلك، كقوله‏:‏
    ‏"وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏"‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"رَصَدًا‏"‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26، 27‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قُلْ كَفي بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏"[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"شَهِيدًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 166‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏، وقال للملائكة‏:‏ ‏"إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 03‏]‏، وقالت الملائكة‏:‏ ‏"لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏، وفي كثير من كلام الصحابة‏:‏ اللّّه ورسوله أعلم، وفي الحديث المشهور‏:‏ ‏"‏أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك‏"‏ ‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏ ‏"فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، وأول النزاع النزاعُ في معاني القرآن، فإن لم يكن الرسول عالمًا بمعانيه

    ج/ 17 ص -432-امتنع الرد إليه‏.‏ وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة الدين أن السنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه وتعبر عن مجمله، وأنها تفسر مجمل القرآن من الأمر والخبر، وقال تعالى‏:‏ ‏"كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏
    ومن أعظم الاختلاف الاختلاف في المسائل العلمية الخبرية المتعلقة بالإيمان بالله واليوم الآخر، فلابد أن يكون الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه من ذلك، ويمتنع أن يكون حاكما إن لم يكن معرفة معناه ممكنًا، وقد نصب الله عليه دليلًا، وإلا فالحاكم الذي يبين ما في نفسه لا يحكم بشيء، وكذلك إذا قيل‏:‏ هو الحاكم بالكتاب، فإن حكمه فصل يفصل به بين الحق والباطل، وهذا إنما يكون بالبيان، وقد قال تعالى في القرآن‏:‏ ‏
    "إِنَّهُ لَقَوْلٌ فصل‏"‏‏[‏الطارق‏:‏ 13‏]‏ أى‏:‏ فاصل يفصل بين الحق والباطل، فكيف يكون فصلاً إذا لم يكن إلى معرفة معناه سبيل‏؟‏
    وأيضًا، فإن اللّه قال‏:‏ ‏
    "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏، فذم هؤلاء الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، كما ذم الذين يحرفون معناه ويكذبون، فقال تعالى‏:‏ ‏"أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏"

    ج/ 17 ص -433-إلى قوله‏:‏ ‏"أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75، 76‏]‏، فهذا أحد الصنفين، ثم قال تعالى‏:‏ ‏"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏"‏، أي‏:‏ تلاوة ‏"وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏"‏، ثم ذم الذين يفترون كتبا يقولون‏:‏ هي من عند اللّه، وما هي من عند اللّّه، فقال‏:‏ ‏"فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ‏"‏إلى قوله‏:‏ ‏"يَكْسِبُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ ‏.‏
    وهذه الأصناف الثلاثة تستوعب أهل الضلال والبدع، فإن أهل البدع الذين ذمهم اللّّه ورسوله نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ عالم بالحق يتعمد خلافه‏.‏
    والثاني‏:‏ جاهل متبع لغيره‏.‏
    فالأولون‏:‏ يبتدعون ما يخالف كتاب اللّه، ويقولون‏:‏ هو من عند اللّّه، إما أحاديث مفتريات، وإما تفسير وتأويل للنصوص باطل، ويعضدون ذلك بما يدعونه من الرأي والعقل، وقصدهم بذلك الرياسة والمأكل، فهؤلاء يكتبون الكتاب بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلًا‏:‏ ‏
    "فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ‏"‏، من الباطل‏:‏ ‏"وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ‏"‏، من المال على ذلك، وهؤلاء إذا عورضوا بنصوص الكتب الإلهية، وقيل لهم‏:‏ هذه تخالفكم، حرفوا الكلم عن مواضعه بالتأويلات الفاسدة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏‏.‏

    ج/ 17 ص -434-وأما النوع الثاني‏:‏ الجهال، فهؤلاء الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإن هم إلا يظنون‏.‏ فعن ابن عباس وقتادة في قوله‏:‏ ‏"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ‏"‏، أي‏:‏ غير عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظا وقراءة بلا فهم، ولا يدرون ما فيه، وقوله‏:‏ ‏"إِلاَّ أَمَانِيَّ‏"‏، أي‏:‏ تلاوة فهم لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم، قاله الكسائى والزجاج‏.‏ وكذلك قال ابن السائب‏:‏ لا يحسنون قراءة الكتاب، ولا كتابته إلا أماني، إلا ما يحدثهم به علماؤهم‏.‏ وقال أبو روق وأبو عبيدة‏:‏ أي تلاوة وقراءة عن ظهر القلب، ولا يقرؤونها في الكتب، ففي هذا القول جعل الأماني التي هي التلاوة تلاوة الأميين أنفسهم، وفي ذلك جعله ما يسمعونه من تلاوة علمائهم، وكلا القولين حق والآية تعمهما، فإنه سبحانه وتعالى قال‏:‏ ‏"لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ‏"‏ لم يقل‏:‏ لا يقرؤون ولا يسمعون، ثم قال‏:‏ ‏"إِلاَّ أَمَانِيَّ‏"‏ وهذا استثناء منقطع ‏.‏ لكن يعلمون أماني إما بقراءتهم لها، وإنما بسماعهم قراءة غيرهم، وإن جعل الاستثناء متصلا كان التقدير لا يعلمون الكتاب إلا علم أماني، لا علم تلاوة فقط بلا فهم، والأماني جمع أمنية وهي التلاوة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏، قال الشاعر‏:‏

    ج/ 17 ص -435- تمنى كتاب اللّه أول ليلة وآخرها لا قى حمام المقادر

    والأميون نسبة إلى الأمة قال بعضهم‏:‏ إلى الأمة وما عليه العامة، فمعنى الأمى‏:‏ العامى الذي لا تمييز له، وقال الزجاج‏:‏ هو على خلق الأمة التي لم تتعلم فهو على جبلته، وقال غيره‏:‏ هو نسبة إلى الأمة، لأن الكتابة كانت في الرجال دون النساء؛ ولأنه على ما ولدته أمه‏.‏
    والصواب‏:‏ أنه نسبة إلى الأمة، كما يقال‏:‏ عامى نسبة إلى العامة التي لم تتميز عن العامة بما تمتاز به الخاصة، وكذلك هذا لم يتميز عن الأمة بما يمتاز به الخاصة من الكتابة والقراءة، ويقال‏:‏ الأمى لمن لا يقرأ ولا يكتب كتابًا، ثم يقال لمن ليس لهم كتاب منزل من اللّّه يقرؤونه وإن كان قد يكتب ويقرأ ما لم ينزل، وبهذا المعنى كان العرب كلهم أميين، فإنه لم يكن عندهم كتاب منزل من اللّه، قال اللّه تعالى‏:‏
    ‏"وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏ وقال‏:‏ ‏"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ‏"‏‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، وقد كان في العرب كثير ممن يكتب ويقرأ المكتوب، وكلهم أميون، فلما نزل القرآن عليهم لم يبقوا أميين باعتبار أنهم لا يقرؤون كتابًا من حفظهم، بل هم يقرؤون القرآن من حفظهم، وأناجيلهم في صدورهم، لكن بقوا أميين باعتبار أنهم لا يحتاجون إلى كتابة دينهم، بل قرآنهم محفوظ في قلوبهم، كما

    ج/ 17 ص -436-في الصحيح عن عياض بن حمار المجاشعى، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏خلقت عبادي يوم خلقتهم حنفاء وقال فيه إنى مبتليك ومبتل بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظانًا‏"‏‏.‏ فأمتنا ليست مثل أهل الكتاب الذين لا يحفظون كتبهم في قلوبهم، بل لو عدمت المصاحف كلها كان القرآن محفوظا في قلوب الأمة، وبهذا الاعتبار، فالمسلمون أمة أمية بعد نزول القرآن وحفظه، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا‏"‏‏.‏ فلم يقل‏:‏ إنا لا نقرأ كتابا، ولا نحفظ، بل قال‏:‏ نكتب ولا نحسب فديننا لا يحتاج أن يكتب ويحسب، كما عليه أهل الكتاب من أنهم يعلمون مواقيت صومهم وفطرهم بكتاب وحساب، ودينهم معلق بالكتب لو عدمت لم يعرفوا دينهم؛ ولهذا يوجد أكثر أهل السنة يحفظون القرآن والحديث أكثر من أهل البدع، وأهل البدع فيهم شبه بأهل الكتاب من بعض الوجوه ‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏
    "فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ هو أمي بهذا الاعتبار؛ لأنه لا يكتب ولا يقرأ ما في الكتب، لا باعتبار أنه لا يقرأ من حفظه، بل كان يحفظ القرآن أحسن حفظ، والأمي في اصطلاح الفقهاء خلاف القارئ، وليس هو خلاف الكاتب بالمعنى الأول، ويعنون به

    ج/ 17 ص -437-الغالب من لا يحسن الفاتحة، فقول تعالى‏:‏ ‏"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 78‏]‏، أي‏:‏ لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة لا يفهمون معناها‏.‏ وهذا يتناول من لا يحسن الكتابة ولا القراءة من قبل، وإنما يسمع أماني علما، كما قال ابن السائب ويتناول من يقرأه عن ظهر قلبه ولا يقرأه من الكتاب، كما قال أبو روق وأبو عبيدة ‏.‏
    وقد يقال‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏
    "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏"‏ أي الخط، أي‏:‏ لا يحسنون الخط، وإنما يحسنون التلاوة، ويتناول أيضًا من يحسن الخط والتلاوة، ولا يفهم ما يقرؤه ويكتبه كما قال ابن عباس وقتادة‏:‏ غير عارفين معاني الكتاب، يعلمونها حفظا وقراءة بلا فهم، ولا يدرون ما فيه، والكتاب هنا المراد به‏:‏ الكتاب المنزل، وهو التوراة؛ ليس المراد به الخط، فإنه قال‏:‏ ‏"َّوَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏، فهذا يدل على أنه نفي عنهم العلم بمعاني الكتاب، وإلا فكون الرجل لا يكتب بيده لا يستلزم أن يكون لا علم عنده، بل يظن ظنًا؛ بل كثير ممن يكتب بيده لا يفهم مايكتب، وكثير ممن لا يكتب يكون عالمًا بمعاني ما يكتبه غيره ‏.‏
    وأيضًا، فإن الله ذكر هذا في سياق الذم لهم، وليس في كون الرجل لا يخط ذم إذا قام بالواجب، وإنما الذم على كونه لا يعقل

    ج/ 17 ص -438-الكتاب الذي أنزل إليه، سواء كتبه وقرأه أولم يكتبه، ولم يقرأه، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏هذا أوان يرفع العلم‏"‏‏.‏ فقال له زياد بن لبيد‏:‏ كيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن فوالله لنقرأنَّه ولنقرِئنَّه نساءنا‏؟‏ فقال له‏:‏ ‏"‏إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغنى عنهم‏؟‏‏"‏ وهو حديث معروف، رواه الترمذي وغيره؛ ولأنه قال تعالى قبل هذا‏:‏ ‏"وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ فأولئك عقلوه ثم حرفوه، وهم مذمومون سواء كانوا يحفظونه بقلوبهم يكتبونه ويقرؤونه حفظا وكتابة، أو لم يكونوا كذلك، فكان من المناسب أن يذكر الذين لا يعقلونه وهم الذين لا يعلمونه إلا أماني، فإن القرآن أنزله الله كتابا متشابها مثاني، ويذكر فيه الأقسام والأمثال فيستوعب الأقسام، فيكون مثاني، ويذكر الأمثال فيكون متشابها‏.‏ وهؤلاء وإن كانوا يكتبون ويقرؤون فهم أميون من أهل الكتاب، كما نقول نحن لمن كان كذلك‏:‏ هو أمى، وساذج، وعامى، وإن كان يحفظ القرآن ويقرأ المكتوب إذا كان يعرف معناه ‏.‏
    وإذا كان اللّه قد ذم هؤلاء الذين لا يعرفون الكتاب إلا تلاوة دون فهم معانيه، كما ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون دل على أن كلا النوعين مذموم‏:‏ الجاهل الذي لا

    ج/ 17 ص -439-يفهم معاني النصوص، والكاذب الذي يحرف الكلم عن مواضعه‏.‏ وهذا حال أهل البدع، فإنهم أحد رجلين‏:‏
    إما رجل يحرف الكلم عن مواضعه، ويتكلم برأيه، ويؤوله بما يضيفه إلى اللّه فهؤلاء يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون‏:‏ هو من عند اللّه، ويجعلون تلك المقالات التي ابتدعوها هي مقالة الحق، وهي التي جاء بها الرسول، والتي كان عليها السلف، ونحو ذلك، ثم يحرفون النصوص التي تعارضها، فهؤلاء إذا تعمدوا ذلك، وعلموا أن الذي يفعلونه مخالف للرسول فهم من جنس هؤلاء اليهود وهذا يوجد في كثير من الملاحدة ويوجد في بعض الأشياء في غيرهم‏.‏ وأما الذين قصدهم اتباع الرسول باطنًا وظاهرا، وغلطوا فيما كتبوه، وتأولوه، فهؤلاء ليسوا من جنسهم، لكن قد وقع بسبب غلطهم ما هو من جنس ذلك الباطل، كما قيل‏:‏ إذا زل العالم زل بزلته عالم‏.‏ وهذا حال المتأولين من هذه الأمة‏.‏
    وإما رجل مقلد أمى لا يعرف من الكتاب إلا ما يسمعه منهم، أو ما يتلوه هو، ولا يعرف إلا أماني وقد ذمه اللّّه على ذلك، فعلم أن اللّه ذم الذين لا يعرفون معاني القرآن ولا يتدبرونه ولا يعقلونه، كما صرح القرآن بذمهم في غير موضع، فيمتنع مع هذا أن يقال‏:‏ إن أكثر القرآن أو كثيرًا منه لا يعلمه أحد من الخلق إلا أماني، لاجبريل ولا محمد ولا الصحابة ولا أحد من

    ج/ 17 ص -440-المسلمين، فإن هذا تشبيه لهم بهؤلاء فيما ذمهم اللّه به‏.‏
    فإن قيل‏:‏ أفلا يجب على كل مسلم معرفة معنى كل آية‏؟‏ قيل‏:‏ نعم، لكن معرفة معاني الجميع فرض على الكفاية، وعلى كل مسلم معرفة ما لا بد منه، وهؤلاء ذمهم اللّه؛ لأنهم لا يعلمون معاني الكتاب إلا تلاوة، وليس عندهم إلا الظن، وهذا يشبه قوله‏:‏
    ‏"وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏"‏[‏هود‏:‏ 110‏]‏‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فقد قال بعض المفسرين‏"إِلاَّ أَمَانِيَّ‏"‏‏:‏ إلا ما يقولونه بأفواههم كذبًا وباطلًا، وروى هذا عن بعض السلف واختاره الفراء ‏.‏ وقال‏:‏ الأماني‏:‏ الأكاذيب المفتعلة، قال بعض العرب لابن دأب وهو يحدث‏:‏ أهذا شيء رويته أم تمنيته، أي‏:‏ افتعلته‏؟‏ فأراد بالأماني الأشياء التي كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم ثم أضافوها إلى اللّه من تغيير صفة محمد ﷺ وقال بعضهم‏:‏ الأماني‏:‏ يتمنون على اللّه الباطل والكذب، كقولهم‏:‏ ‏
    "لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏"لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى‏"‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏"نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏، وهذا أيضًا يروي عن بعض السلف ‏.‏
    قيل‏:‏ كلا القولين ضعيف، والصواب الأول؛ لأنه سبحانه قال‏:‏

    ج/ 17 ص -441-‏"وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 78‏]‏، وهذا الاستثناء إما أن يكون متصلًا أو منقطعًا، فإن كان متصلا لم يجز استثناء الكذب ولا أماني القلب من الكتاب، وإن كان منقطعا فالاستثناء المنقطع إنما يكون فيما كان نظير المذكور وشبيها له من بعض الوجوه، فهو من جنسه الذي لم يذكر في اللفظ، ليس من جنس المذكور؛ ولهذا لا يصلح المنقطع حيث يصلح الاستثناء المفرغ، وذلك كقوله‏:‏ ‏"لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ‏"‏ثم قال‏:‏ ‏"إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى‏"‏‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ فهذا منقطع؛ لأنه يحسن أن يقال‏:‏ لا يذوقون إلا الموتة الأولى، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ‏"‏‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏، لأنه يحسن أن يقال‏:‏ لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا أن تكون تجارة، وقوله‏:‏ ‏"مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏"‏‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏يصلح أن يقال‏:‏ وما لهم إلا اتباع الظن، فهنا لما قال‏:‏ ‏"لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ‏"‏، يحسن أن يقال‏:‏ لا يعلمون إلا أماني، فإنهم يعلمونه تلاوة يقرؤونها ويسمعونها ولا يحسن أن يقال‏:‏ لا يعلمون إلا ما تتمناه قلوبهم، أو لا يعلمون إلا الكذب، فإنهم قد كانوا يعلمون ما هو صدق أيضًا فليس كل ما علموه من علمائهم كان كذبا، بخلاف الذي لا يعقل معنى الكتاب، فإنه لا يعلم إلا تلاوة‏.‏
    وأيضًا، فهذه الأماني الباطلة التي تمنوها بقلوبهم وقالوها بألسنتهم‏.‏

    ج/ 17 ص -442-كقوله تعالى‏:‏ ‏"تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ قد اشتركوا فيها كلهم فلا يخص بالذم الأميون منهم، وليس لكونهم أميين مدخل في الذم بهذه، ولا لنفي العلم بالكتاب مدخل في الذم بهذه، بل الذم بهذه مما يعلم أنها باطل أعظم من ذم من لا يعلم أنها باطل؛ ولهذا لما ذم الله بها عمم ولم يخص، فقال تعالى‏:‏ ‏"وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ ‏.‏
    وأيضًا، فإنه قال‏:‏ ‏
    "وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏"‏ فدل على أنه ذمهم على نفي العلم، وعلى أنه ليس معهم إلا الظن، وهذا حال الجاهل بمعاني الكتاب لا حال من يعلم أنه يكذب، فظهر أن هذا الصنف ليس هم الذين يقولون بأفواههم الكذب والباطل، ولو أريد ذلك لقيل‏:‏ لا يقولون إلا أماني، لم يقل‏:‏ لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل ذلك الصنف هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون‏:‏ هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه، ويكتبون الكتاب بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلا، فهم يحرفون معاني الكتاب، وهم يحرفون لفظه لمن لم يعرفه، ويكذبون في لفظهم وخطهم‏.‏
    وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لتتبعن سنن من كان قبلكم حذْو القذَّة بالقذة حتى لو دخلوا جحر

    ج/ 17 ص -443-ضب لدخلتموه‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فمن‏؟‏‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏لتأخذن أمتى مآخذ الأمم قبلها شبرًا بشبر وذراعا بذراع‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، فارس والروم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ومن الناس إلا أولئك‏"‏‏.‏
    فهذا دليل على أن ما ذم الله به أهل الكتاب في هذه الآية يكون في هذه الأمة من يشبههم فيه، وهذا حق قد شوهد، قال تعالى‏:‏ ‏"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏، فمن تدبر ما أخبر اللّه به ورسوله رأي أنه قد وقع من ذلك أمور كثيرة، بل أكثر الأمور، ودله ذلك على وقوع الباقي ‏.‏
    فصل
    فقد تبين أن الواجب‏:‏ طلب علم ما أنزل اللّه على رسوله ﷺ من الكتاب والحكمة، ومعرفة ما أراد بذلك كما كان على ذلك الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم، فكل ما يحتاج الناس إليه في دينهم، فقد بينه اللّه ورسوله بيانًا شافيا فكيف بأصول التوحيد والإيمان‏؟‏ ‏!‏ ثم إذا عرف ما بينه الرسول نظر في أقوال

    ج/ 17 ص -444-الناس، وما أرادوه بها، فعرضت على الكتاب والسنة‏.‏ والعقل الصريح دائما موافق للرسول ﷺ لا يخالفه قط، فإن الميزان مع الكتاب، واللّه أنزل الكتاب بالحق والميزان، لكن قد تقصر عقول الناس عن معرفة تفصيل ما جاء به، فيأتيهم الرسول بما عجزوا عن معرفته وحاروا فيه، لا بما يعلمون بعقولهم بطلانه، فالرسول صلوات اللّه وسلامه عليهم تخبر بمحارات العقول لا تخبر بمحالات العقول، فهذا سبيل الهدى والسنة والعلم، وأما سبيل الضلال والبدعة والجهل فعكس ذلك أن يبتدع بدعة برأي رجال وتأويلاتهم، ثم يجعل ما جاء به الرسول تبعًا لها، ويحرف ألفاظه، ويتأول على وفق ما أصلوه‏.‏
    وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر لا يعتمدون على ما جاء به الرسول، ولا يتلقون الهدى منه، ولكن ما وافقهم منه قبلوه، وجعلوه حجة لا عمدة، وما خالفهم تأولوه، كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه أو فوضوه، كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏.‏ وهؤلاء قد لا يعرفون ما جاء به الرسول، إما عجزًا وإما تفريطا، فإنه يحتاج إلى مقدمتين‏:‏ أن الرسول قال كذا، وأنه أراد به كذا‏.‏ أما الأولى‏:‏ فعامتهم لا يرتابون في أنه جاء بالقرآن وإن كان من غلاة أهل البدع من يرتاب في بعضه، لكن الأحاديث عامة أهل البدع جهال بها، وهم يظنون أن هذه رواها آحاد يجوزون عليهم الكذب والخطأ، ولا يعرفون من كثرة

    ج/ 17 ص -445-طرقها وصفات رجالها، والأسباب الموجبة للتصديق بها ما يعلمه أهل العلم بالحديث فإن هؤلاء يقطعون قطعًا يقينًا بعامة المتون الصحيحة التي في الصحيحين كما قد بسطناه في غير هذا الموضع ‏.‏
    وأما المقدمة المقدمة الثانية، فإنهم قد لا يعرفون معاني القرآن والحديث‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم، وقد بسطنا الكلام على فساد ذلك في غير هذا الموضع ‏.‏
    وكثير منهم إنما ينظر من تفسير القرآن والحديث فيما يقوله موافقوه على المذهب فيتأول تأويلاتهم، فالنصوص التي توافقهم يحتجون بها، والتي تخالفهم يتأولونها، وكثير منهم لم يكن عمدتهم في نفس الأمر اتباع نص أصلًا، وهذا في البدع الكبار مثل الرافضة والجهمية، فإن الذي وضع الرفض كان زنديقًا ابتدأ تعمد الكذب الصريح الذي يعلم أنه كذب، كالذين ذكرهم اللّه من اليهود الذين يفترون على اللّه الكذب وهم يعلمون، ثم جاء من بعدهم من ظن صدق ما افتراه أولئك، وهم في شك منه، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ‏"‏ [‏الشورى‏:‏ 14‏]‏ ‏.‏ وكذلك الجهمية ليس معهم على نفي الصفات وعلو الله على العرش ونحو ذلك نص أصلًا، لا آية ولا حديث، ولا أثر عن الصحابة،

    ج/ 17 ص -446-بل الذي ابتدأ ذلك لم يكن قصده اتباع الأنبياء، بل وضع ذلك كما وضعت عبادة الأوثان، وغير ذلك من أديان الكفار، مع علمهم بأن ذلك مخالف للرسل، كما ذكر عن مبدلة اليهود، ثم فشا ذلك فيمن لم يعرفوا أصل ذلك‏.‏
    وهذا بخلاف بدعة الخوارج، فإن أصلها ما فهموه من القرآن فغلطوا في فهمه، ومقصودهم اتباع القرآن باطنًا وظاهرًا، ليسوا زنادقة ‏.‏
    وكذلك القدرية أصل مقصودهم تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد الذي جاءت به الرسل، ويتبعون من القرآن ما دل على ذلك، فعمرو بن عبيد وأمثاله لم يكن أصل مقصودهم معاندة الرسول ﷺ كالذي ابتدع الرفض‏.‏
    وكذلك الإرجاء إنما أحدثه قوم قصدهم جعل أهل القبلة كلهم مؤمنين ليسوا كفارًا، قابلوا الخوارج والمعتزلة فصاروا في طرف آخر‏.‏
    وكذلك التشيع المتوسط الذي مضمونه تفضيل علىّ وتقديمه على غيره، ونحو ذلك لم يكن هذا من إحداث الزنادقة، بخلاف دعوى النص فيه والعصمة، فإن الذي ابتدع ذلك كان منافقا زنديقا؛

    ج/ 17 ص -447-ولهذا قال عبد اللّّه بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما‏:‏ أصول البدع أربعة‏:‏ الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة‏.‏ قالوا‏:‏ والجهمية ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة‏.‏ وكذلك ذكر أبو عبد الله ابن حامد عن أصحاب أحمد في ذلك قولين، هذا أحدهما، وهذا أرادوا به التجهم المحض الذي كان عليه جهم نفسه ومتبعوه عليه، وهو نفي الأسماء مع نفي الصفات، بحيث لا يسمي الله بشيء من أسمائه الحسني، ولا يسميه شيئًا ولا موجودًا ولا غير ذلك، وإنما نقل عنه أنه كان يسميه قادرًا لأن جميع الأسماء يسمي بها الخلق، فزعم أنه يلزم منها التشبيه، بخلاف القادر فإنه كان رأس الجبرية، وعنده ليس للعبد قدرة ولا فعل، ولا يسمى غير الله قادرًا؛ فلهذا نقل عنه أنه سمي الله قادرًا‏.‏
    وشر منه نفاة الأسماء والصفات، وهم الملاحدة من الفلاسفة والقرامطة؛ ولهذا كان هؤلاء عند الأئمة قاطبة ملاحدة منافقين، بل فيهم من الكفر الباطن ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى، وهؤلاء لا ريب أنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة، وإذا أظهروا الإسلام فغايتهم أن يكونوا منافقين، كالمنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ، وأولئك كانوا أقرب إلى الإسلام من هؤلاء، فإنهم كانوا يلتزمون بشرائع الإسلام الظاهرة، وهؤلاء قد

    ج/ 17 ص -448-يقولون برفعها، فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة، لكن قد يقال‏:‏ إن أولئك كانوا قد قامت عليهم الحجة بالرسالة أكثر من هؤلاء‏.‏
    وأما من يقول ببعض التجهم كالمعتزلة ونحوهم الذين يتدينون بدين الإسلام باطنًا وظاهرًا فهؤلاء من أمة محمد ﷺ بلا ريب‏.‏
    وكذلك من هو خير منهم كالكُلاَّبِية والكَرَّامِيَّة‏.‏
    وكذلك الشيعة المفضلين لعلي، ومن كان منهم يقول بالنص والعصمة مع اعتقاده نبوة محمد ﷺ باطنًا وظاهرًا، وظنه أن ما هو عليه هو دين الإسلام، فهؤلاء أهل ضلال وجهل ليسوا خارجين عن أمة محمد ﷺ، بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا‏.‏
    وعامة هؤلاء ممن يتبع ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، كما أن من المنافقين والكفار من يفعل ذلك؛ ولهذا قال طائفة من المفسرين كالربيع بن أنس‏:‏ هم النصارى، كنصاري نجران‏.‏ وقالت طائفة كالكلبي‏:‏ هم اليهود‏.‏ وقالت طائفة كابن جريج‏:‏ هم المنافقون‏.‏ وقالت طائفة كالحسن‏:‏ هم الخوارج‏.‏ وقالت طائفة كقتادة‏:‏ هم الخوارج والشيعة‏.‏ وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية‏:‏ ‏
    "فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏،

    ج/ 17 ص -449-يقول‏:‏ إن لم يكونوا الحرورية والسبائية فلا أدري من هم‏.‏ والسبائية نسبة إلى عبد الله بن سبأ رأس الرافضة‏.
    فصل
    المعنى الصحيح الذي هو نفي المثل والشريك والند قد دل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏
    "أَحَدٌ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏، وأمثال ذلك، فالمعاني الصحيحة ثابتة بالكتاب والسنة، والعقل يدل على ذلك‏.‏ وقول القائل‏:‏ الأحد أو الصمد أو غير ذلك هو الذي لا ينقسم ولا يتفرق، أو ليس بمركب ونحو ذلك‏.‏ هذه العبارات إذا عني بها أنه لا يقبل التفرق والانقسام فهذا حق، وأما إن عني به أنه لا يشار إليه بحال، أو من جنس ما يعنون بالجوهر الفرد أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء، فهذا عند أكثر العقلاء يمتنع وجوده، وإنما يقدر في الذهن تقديرًا، وقد علمنا أن العرب حيث أطلقت لفظ ‏[‏الواحد‏]‏ و‏[‏الأحد‏]‏ نفيًا وإثباتًا لم ترد هذا المعنى، فقوله تعالى‏:‏ ‏"وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏، لم يرد به هذا المعنى الذي فسروا به الواحد والأحد، وكذلك قوله‏:‏ ‏"وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏،

    ج/ 17 ص -450-وكذلك قوله‏:‏ ‏"وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏، فإن المعنى لم يكن له أحد من الآحاد كفوًا له، فإن كان الأحد عبارة عما لا يتميز منه شيء عن شيء، ولا يشار إلى شيء منه دون شيء، فليس في الموجودات ما هو أحد إلا ما يدعونه من الجوهر الفرد ومن رب العالمين، وحينئذ لا يكون قد نفي عن شيء من الموجودات أن يكون كفوًا للرب؛ لأنه لم يدخل في مسمي أحد‏.‏
    وقد بسطنا الكلام على هذا بسطًا كثيرًا في المباحث العقلية والسمعية التي يذكرها نفاة الصفات من الجهمية وأتباعهم في كتابنا المسمي ‏[‏بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية‏]‏‏.‏
    ولهذا لما احتجت الجهمية على السلف - كالإمام أحمد وغيره - على نفي الصفات باسم الواحد، قال أحمد‏:‏ قالوا‏:‏ لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا‏:‏ قد كان الله، ولا شيء، قلنا‏:‏ نحن نقول‏:‏ كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا‏:‏ إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا، وضربنا لهم في ذلك مثلًا فقلنا‏:‏ أخبرونا عن هذه النخلة، أليس لها جَذْعٌ وكِربٌ ولَيْفٌ وسَعَفٌ وخُوَصٌ وجُمَّارٌ واسمها شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها‏؟‏ فكذلك الله - وله المثل الأعلى - بجميع صفاته إله واحد، لا نقول‏:‏ إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول‏:‏ قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى

    ج/ 17 ص -451-خلق له علمًا، ولكن نقول‏:‏ لم يزل عالمًا قادرًا مالكًا، لا متى ولا كيف‏.‏ ومما يبين هذا أن سبب نزول هذه السورة الذي ذكره المفسرون يدل على ذلك فإنهم ذكروا أسبابا‏:‏
    أحدها‏:‏ ما تقدم عن أُبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله ﷺ‏:‏ انسب لنا ربك، فنزلت هذه السورة‏.‏
    والثاني‏:‏ أن عامر بن الطفيل قال للنبي ﷺ‏:‏ إلى ما تدعونا إليه يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إلى الله‏"‏ قال‏:‏ فصفه لي، أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد‏؟‏ فنزلت هذه السورة‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس من طريق أبي ظبيان، وأبي صالح عنه‏.‏
    والثالث‏:‏ أن بعض اليهود قال ذلك، قالوا‏:‏ من أي جنس هو‏.‏ وممن ورث الدنيا، ولمن يورثها‏؟‏ فنزلت هذه السورة، قاله قتادة والضحاك‏.‏ قال الضحاك وقتادة ومقاتل‏:‏ جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا‏:‏ يا محمد صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله أنزل نعته في التوراة، فأخبرنا به من أي شيء هو‏؟‏ ومن أي جنس هو‏:‏ أمن ذهب‏؟‏ أم من نحاس هو‏؟‏ أم من صفر‏؟‏ أم من حديد‏؟‏ أم من فضة‏؟‏ وهل يأكل ويشرب‏؟‏ وممن ورث الدنيا‏؟‏ ولمن يورثها‏؟‏ فأنزل الله هذه السورة‏.‏ وهي نسبة الله خاصة‏.‏

    ج/ 17 ص -452-والرابع‏:‏ ما روي عن الضحاك، عن ابن عباس، أن وفد نجران قدموا على النبي ﷺ بسبعة أساقفة من بني الحارث بن كعب، منهم السيد والعاقب، فقالوا للنبي ﷺ‏:‏ صف لنا ربك من أي شيء هو‏؟‏ قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن ربي ليس من شيء، وهو بائن من الأشياء‏"‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏‏.‏ فهؤلاء سألوا‏:‏ هل هو من جنس من أجناس المخلوقات‏؟‏ وهل هو من مادة‏؟‏ فبين الله تعالى أنه أحد، ليس من جنس شيء من المخلوقات، وأنه صمد ليس من مادة، بل هو صمد لم يلد ولم يولد، وإذا نفي عنه أن يكون مولودًا من مادة الوالد، فلأن ينفي عنه أن يكون من سائر المواد أولى وأحرى فإن المولود من نظير مادته أكمل من مادة ما خلق من مادة أخرى، كما خلق آدم من الطين، فالمادة التي خلق منها أولاده أفضل من المادة التي خلق منها هو؛ ولهذا كان خلقه أعجب‏.‏ فإذا نزه الرب عن المادة العليا فهو عن المادة السفلي أعظم تنزيهًا، وهذا كما أنه إذا كان منزهًا عن أن يكون أحد كفوًا له، فلأن يكون منزهًا عن أن يكون أحد أفضل منه أولى وأحرى‏.‏
    وهذا مما يبين أن هذه السورة اشتملت على جميع أنواع التنزيه والتحميد، على النفي والإثبات؛ ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن‏.‏ فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحدية تثبت الانفراد بذلك،

    ج/ 17 ص -453-وكذلك إذا نزه نفسه عن أن يلد فيخرج منه مادة الولد التي هي أشرف المواد، فلأن ينزه نفسه عن أن يخرج منه مادة غير الولد بطريق الأولى والأحرى، وإذا نزه نفسه عن أن يخرج منه مواد للمخلوقات فلأن ينزه عن أن يخرج منه فضلات لا تصلح أن تكون مادة بطريق الأولى والأحرى‏.‏ والإنسان يخرج منه مادة الولد، ويخرج منه مادة غير الولد، كما يخلق من عرقه ورطوبته القمل والدود وغير ذلك، ويخرج منه المخاط والبصاق وغير ذلك‏.‏ وقد نزه الله أهل الجنة عن أن يخرج منهم شيء من ذلك، وأخبر الرسول ﷺ أنهم لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يبصقون، ولا يتمخطون، وأنه يخرج منهم مثل رشح المسك، وأنهم يجامعون بذكر لا يخفي، وشهوة لا تنقطع، ولا مني، ولا منية، وإذا اشتهي أحدهم الولد كان حمله ووضعه في زمن يسير‏.‏
    فقد تضمن تنزيه نفسه عن أن يكون له ولد، وأن يخرج منه شيء من الأشياء، كما يخرج من غيره من المخلوقات، وهذا أيضًا من تمام معنى الصمد، كما سبق في تفسيره أنه الذي لا يخرج منه شيء، وكذلك تنزيه نفسه عن أن يولد فلا يكون من مثله تنزيه له أن يكون من سائر المواد بطريق الأولى والأحرى‏.‏
    وقد تقدم في حديث أبي بن كعب أنه ليس شيء يولد إلا سيموت،

    ج/ 17 ص -454-وليس شيء يموت إلا يورث، والله تعالى لا يموت ولا يورث‏.‏ وهذا رد لقول اليهود‏:‏ ممن ورث الدنيا، ولمن يورثها‏؟‏ وكذلك ما نقل من سؤال النصارى‏:‏ صف لنا ربك، من أي شيء هو‏؟‏ فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن ربي ليس من شيء، وهو بائن من الأشياء‏"‏، وكذلك سؤال المشركين واليهود‏:‏ أمن فضة هو‏؟‏ أم من ذهب هو‏؟‏ أم من حديد‏؟‏ ‏.‏ وذلك لأن هؤلاء عهدوا الآلهة التي يعبدونها من دون الله يكون لها مواد صارت منها؛ فعباد الأوثان تكون أصنامهم من ذهب وفضة وحديد وغير ذلك‏.‏
    وعباد البشر سواء كان البشر لم يأمروهم بعبادتهم، أو أمروهم بعبادتهم، كالذين يعبدون المسيح وعزيرًا، وكقوم فرعون الذين قال لهم‏:‏
    ‏"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعلى‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، و‏"مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي" القصص‏:‏ 38‏]‏، وقال لموسى‏:‏ ‏"لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏"‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏، وكالذي آتاه الله نصيبًا من الملك الذي حاج إبراهيم في ربه‏:‏ ‏"إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏، وكالدجال الذي يدعي الإلهية، وما من خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من فتنة الدجال، وكالذين قالوا‏:‏ ‏"لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏"‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏‏.‏
    وقد قال غير واحد من السلف‏:‏ إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا فيهم، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم بعد ذلك

    ج/ 17 ص -455-عبدوهم، وذلك أول ما عبدت الأصنام، وأن هذه الأصنام صارت إلى العرب‏.‏ وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال‏:‏ صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد‏:‏ أما وَدٌّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يغوثُ فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت‏.‏
    ونوح عليه السلام أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى التوحيد، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيح‏.‏ ومحمد ﷺ خاتم الرسل، وكلا المرسلين بعث إلى مشركين يعبدون هذه الأصنام التي صورت على صور الصالحين من البشر، والمقصود بعبادتها عبادة أولئك الصالحين‏.‏
    وكذلك المشركون من أهل الكتاب ومن مبتدعة هذه الأمة وضلالها هذا غاية شركهم، فإن النصارى يصورون في الكنائس صور من يعظمونه من الإنس غير عيسى وأمه، مثل مارجرجس وغيره من القداديس، ويعبدون تلك الصور، ويسألونها ويدعونها ويقربون

    ج/ 17 ص -456-لها القرابين، وينذرون لها النذور، ويقولون‏:‏ هذه تذكرنا بأولئك الصالحين، والشياطين تضلهم كما كانت تضل المشركين تارة بأن يتمثل الشيطان في صورة ذلك الشخص الذي يدعي ويعبد فيظن داعيه أنه قد أتي، أو يظن أن الله صور ملكًا على صورته، فإن النصراني مثلًا يدعو في الأَسْرِ وغيره مارجرجس أو غيره فيراه قد أتاه في الهواء، وكذلك آخر غيره، وقد سألوا بعض بطارقتهم عن هذا‏:‏ كيف يوجد في هذه الأماكن‏؟‏ فقال‏:‏ هذه ملائكة يخلقهم الله على صورته تغيث من يدعوه، وإنما تلك شياطين أضلت المشركين‏.‏
    وهكذا كثيرًا من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة، فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت، أو يستغيث به عند قبره ويسأله، وقد ينذر له نذرًا ونحو ذلك، ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلمه ببعض ما سأله عنه، ونحو ذلك، فيظنه الشيخ نفسه أتي إن كان حيًا، حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له‏.‏ هؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة يكون الشيخ نفسه لم يكن يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة سكت وأوهم أنه نفسه أتاهم وأغاثهم، وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال قال‏:‏ هذا مَلَكٌ صوره الله علي

    ج/ 17 ص -457-صورتي‏.‏ وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابًا، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيث بهم‏.‏
    ولهذا أعرف غير واحد من الشيوخ الأكابر الذين فيهم صدق وزهد وعبادة لما ظنوا هذا من كرامات الصالحين صار أحدهم يوصى مريديه يقول‏:‏ إذا كانت لأحدكم حاجة فليستغث بي، وليستنجدني وليستوصني، ويقول‏:‏ أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي، وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصورت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه أنا نفعل بعد موتك بأصحابك ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي في قلبه، فيأمر أصحابه بذلك‏.‏ وأعرف من هؤلاء من كان له شياطين تخدمه في حياته بأنواع الخدم مثل‏:‏ خطاب أصحابه المستغيثين به، وإعانتهم، وغير ذلك، فلما مات صاروا يأتون أحدهم في صورة الشيخ، ويشعرونه أنه لم يمت، ويرسلون إلى أصحابه رسائل بخطاب‏.‏ وقد كان يجتمع بي بعض أتباع هذا الشيخ، وكان فيه زهد وعبادة، وكان يحبني ويحب هذا الشيخ، ويظن أن هذا من الكرامات، وأن الشيخ لم يمت، وذكر لي الكلام الذي أرسله إليه بعد موته، فقرأه فإذا هو كلام الشياطين

    ج/ 17 ص -458-بعينه‏.‏ وقد ذكر لي غير واحد ممن أعرفهم أنهم استغاثوا بي فرأوني في الهواء وقد أتيتهم وخلصتهم من تلك الشدائد، مثل من أحاط به النصارى الأرمن ليأخذوه، وآخر قد أحاط به العدو ومعه كتب ملطفات من مناصحين لو اطلعوا على ما معه لقتلوه، ونحو ذلك، فذكرت لهم أني ما دريت بما جرى أصلا، وحلفت لهم على ذلك حتى لا يظنوا أني كتمت ذلك كما تكتم الكرامات، وأنا قد علمت أن الذي فعلوه ليس بمشروع، بل هو شرك وبدعة، ثم تبين لي فيما بعد، وبينت لهم أن هذه شياطين تتصور على صورة المستغاث به‏.‏
    وحكي لي غير واحد من أصحاب الشيوخ أنه جرى لمن استغاث بهم مثل ذلك، وحكي خلق كثير أنهم استغاثوا بأحياء وأموات فرأوا مثل ذلك‏.‏ واستفاض هذا حتى عرف أن هذا من الشياطين‏.‏ والشياطين تغوي الإنسان بحسب الإمكان، فإن كان ممن لا يعرف دين الإسلام أوقعته في الشرك الظاهر، والكفر المحض؛ فأمرته ألا يذكر الله، وأن يسجد للشيطان، ويذبح له، وأمرته أن يأكل الميتة والدم ويفعل الفواحش‏.‏ وهذا يجري كثيرًا في بلاد الكفر المحض وبلاد فيها كفر وإسلام ضعيف، ويجري في بعض مدائن الإسلام في المواضع التي يضعف إيمان أصحابها، حتى قد جرى ذلك في مصر والشام على أنواع يطول وصفها، وهو في أرض الشرق قبل ظهور

    ج/ 17 ص -459-الإسلام في التتار كثيرًا جدًا، وكلما ظهر فيهم الإسلام وعرفوا حقيقته قلت آثار الشياطين فيهم، وإن كان مسلمًا يختار الفواحش والظلم أعانته على الظلم والفواحش‏.‏ وهذا كثير جدًا أكثر من الذي قبله في البلاد التي في أهلها إسلام وجاهلية وبر وفجور، وإن كان الشيخ فيه إسلام وديانة ولكن عنده قلة معرفة بحقيقة ما بعث الله به رسوله ﷺ‏.‏ وقد عرف من حيث الجملة أن لأولياء الله كرامات، وهو لا يعرف كمال الولاية، وأنها الإيمان والتقوى واتباع الرسل باطنًا وظاهرًا، أو يعرف ذلك مجملًا ولا يعرف من حقائق الإيمان الباطن وشرائع الإسلام الظاهرة ما يفرق به بين الأحوال الرحمانية، وبين النفسانية والشيطانية، كما أن الرؤيا ثلاثة أقسام‏:‏ رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ورؤيا من الشيطان‏.‏
    فكذلك الأحوال، فإذا كان عنده قلة معرفة بحقيقة دين محمد ﷺ أمرته الشياطين بأمر لا ينكره، فتارة يحملون أحدهم في الهواء ويقفون به بعرفات ثم يعيدونه إلى بلده، وهو لابس ثيابه لم يحرم حين حاذى المواقيت، ولا كشف رأسه، ولا تجرد عما يتجرد عنه المحرم، ولا يدعونه بعد الوقوف يطوف طواف الإفاضة ويرمي الجمار ويكمل حجه، بل يظن أن مجرد الوقوف - كما فعل -

    ج/ 17 ص -460-عبادة، وهذا من قلة علمه بدين الإسلام، ولو علم دين الإسلام لعلم أن هذا الذي فعله ليس عبادة لله، وأنه من استحل هذا فهو مرتد يجب قتله‏.‏ بل اتفق المسلمون على أنه يجب الإحرام عند الميقات ولا يجوز للإنسان المحرم اللبس في الإحرام إلا من عذر، وأنه لا يكتفي بالوقوف، بل لابد من طواف الإفاضة باتفاق المسلمين، بل وعليه أن يفيض إلى المشعر الحرام، ويرمي جمرة العقبة، وهذا مما تُنُوزع فيه هل هو ركن، أو واجب يجبره دم‏؟‏ وعليه أيضًا رمي الجمار أيام مني باتفاق المسلمين، وقد تحمل أحدهم الجن فتزوره بيت المقدس وغيره، وتطير به في الهواء، وتمشي به في الماء، وقد تريه أنه قد ذهب به إلى مدينة الأولياء، وربما أرته أنه يأكل من ثمار الجنة، ويشرب من أنهارها‏.‏
    وهذا كله وأمثاله مما أعرفه قد وقع لمن أعرفه، لكن هذا باب طويل ليس هذا موضع بسطه‏.‏
    وإنما المقصود أن أصل الشرك في العالم كان من عبادة البشر الصالحين، وعبادة تماثيلهم، وهم المقصودون‏.‏ ومن الشرك ما كان أصله عبادة الكواكب‏:‏ إما الشمس وإما القمر وإما غيرهما، وصورت الأصنام طلاسم لتلك الكواكب‏.‏ وشرك قوم إبراهيم والله أعلم كان من هذا، أو كان بعضه من هذا‏.‏ ومن الشرك ما كان أصله عبادة الملائكة أو الجن، وضعت الأصنام لأجلهم، وإلا فنفس الأصنام

    ج/ 17 ص -461-الجمادية لم تعبد لذاتها، بل لأسباب اقتضت ذلك، وشرك العرب كان أعظمه الأول، وكان فيه من الجميع‏.‏
    فإن عَمْرو بن لُحَي هو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام وكان قد أتي الشام ورآهم بالبلقاء لهم أصنام يستجلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فصنع مثل ذلك في مكة لما كانت خزاعة ولاة البيت قبل قريش، وكان هو سيد خزاعة‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏رأيت عَمْرو بن لُحَي بن قَمَعَة بن خِنْدِفَ يجر قصْبَهُ في النار - أي أمعاءه وهو أول من غير دين إبراهيم، وسيب السوائب، وبحر البحيرة‏"‏‏.‏ وكذلك - والله أعلم شرك قوم نوح وإن كان مبدؤه من عبادة الصالحين، فالشيطان يجر الناس من هذا إلى غيره، لكن هذا أقرب إلى الناس؛ لأنهم يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك منه، فتارة يسألونه، وتارة يسألون الله به، وتارة يصلون ويدعون عند قبره ظانين أن الصلاة والدعاء عند قبره أفضل منه في المساجد والبيوت‏.‏
    ولما كان هذا مبدأ الشرك سد النبي ﷺ هذا الباب، كما سد باب الشرك بالكواكب‏.‏ ففي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس‏:‏
    ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏ وفي

    ج/ 17 ص -462-الصحيحين عنه أنه ﷺ ذكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال‏:‏ ‏"‏إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك هم شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏"‏ ‏.‏ وفي الصحيحين عنه أنه قال ﷺ في مرض موته‏:‏ ‏"‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا‏"‏ قالت عائشة‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وفي مسند أحمد وصحيح أبي حاتم عنه أنه قال ﷺ‏:‏ ‏"‏إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد‏"‏‏.‏ وفي سنن أبي داود وغيره عنه أنه قال ﷺ‏:‏ ‏"‏لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني‏"‏‏.‏
    وفي موطأ مالك عنه أنه قال ﷺ‏:‏
    ‏"‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏"‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال‏:‏ قال لي على بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ، أمرني ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سوىته، ولا تمثالًا إلا طمسته‏.‏ فأمره بمحو التمثالين‏:‏ الصورة الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا وبهذا‏.‏

    ج/ 17 ص -463-وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في سفر فرأى قومًا ينتابون مكانًا للصلاة فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا مكان صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال‏:‏ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فليصل، وإلا فليمض‏.‏ وبلغه أن قومًا يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي ﷺ أصحابه تحتها فأمر بقطعها‏.‏ وأرسل إليه أبو موسى يذكر له أنه ظهر بتستر قبر دانيال، وعنده مصحف فيه أخبار ما سيكون، قد ذكر فيه أخبار المسلمين، وأنهم إذا أجدبوا كشفوا عن القبر فمطروا، فأرسل إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا، ويدفنه بالليل في واحد منها لئلا يعرفه الناس؛ لئلا يفتنوا به‏.‏ فاتخاذ القبور مساجد مما حرمه الله ورسوله، وإن لم يبن عليها مسجدًا كان بناء المساجد عليها أعظم‏.‏
    كذلك قال العلماء‏:‏ يحرم بناء المساجد على القبور، ويجب هدم كل مسجد بني على قبر، وإن كان الميت قد قبر في مسجد وقد طال مكثه سوى القبر حتى لا تظهر صورته، فإن الشرك إنما يحصل إذا ظهرت صورته؛ ولهذا كان مسجد النبي ﷺ أولًا مقبرة للمشركين، وفيها نَخْلٌ وخِرَبٌ، فأمر بالقبور فنبشت، وبالنخل فقطع وبالخرب فسوىت، فخرج عن أن يكون مقبرة، فصار مسجدًا‏.‏

    ج/ 17 ص -464-ولما كان اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد عليها محرمًا، ولم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يكن يعرف قط مسجد على قبر، وكان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها، وهي مسدودة لا أحد يدخل إليها، ولا تشد الصحابة الرحال لا إليه ولا إلى غيره من المقابر؛ لأن في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي ﷺ؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا‏"‏‏.‏ فكان يأتي من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى يصلون فيه، ثم يرجعون لا يأتون مغارة الخليل ولا غيرها، وكانت مغارة الخليل مسدودة، حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة، ففتحوا الباب وجعلوا ذلك المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلاد اتخذه بعض الناس مسجدًا‏.‏ وأهل العلم ينكرون ذلك‏.‏ والذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء أنه قيل للنبي ﷺ‏:‏ هذه طيبة انزل فصل، فنزل فصلى، هذا مكان أبيك انزل فصل- كذب موضوع لم يصل النبي ﷺ تلك الليلة إلا في المسجد الأقصى خاصة، كما ثبت ذلك في الصحيح، ولا نزل إلا فيه‏.‏
    ولهذا لما قدم الشام من الصحابة من لا يحصي عددهم إلا الله،

    ج/ 17 ص -465-وقدمها عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وبعد فتح الشام لما صالح النصارى على الجزية وشرط عليهم الشروط المعروفة، وقدمها مرة ثالثة حتى وصل إلى سَرْغٍ، ومعه أكابر السابقين الأولين من المهاجرىن والأنصار، فلم يذهب أحد منهم إلى مغارة الخليل، ولا غيرها من آثار الأنبياء التي بالشام، لا ببيت المقدس، ولا بدمشق، ولا غير ذلك، مثل الآثار الثلاثة التي بجبل قاسيون، في غربيه الربوة المضافة إلى عيسى -عليه السلام، وفي شرقيه المقام المضاف إلى الخليل - عليه السلام، وفي وسطه وأعلاه مغارة الدم المضافة إلى هابيل لما قتله قابيل، فهذه البقاع وأمثالها لم يكن السابقون الأولون يقصدونها، ولا يزورونها، ولا يرجون منها بركة، فإنها محل الشرك‏.‏
    ولهذا توجد فيها الشياطين كثيرًا، وقد رآهم غير واحد على صورة الإنس، ويقولون‏:‏ لهم رجال الغيب، يظنون أنهم رجال من الإنس غائبين عن الأبصار، وإنما هم جن، والجن يسمون رجالًا، كما قال الله تعالى‏:‏
    ‏"وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏"‏ ‏[‏الجن‏:‏ 6‏]‏، والإنس سموا إنسًا؛ لأنهم يؤنسون، أي‏:‏ يرون، كما قال تعالى‏:‏ ‏"إِنِّي آنَسْتُ نَارًا‏"‏[‏طه‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ رأيتها‏.‏ والجن سموا جنًا؛ لاجتنانهم، يجتنون عن الأبصار، أي‏:‏ يستترون، كما قال تعالى‏:‏ ‏"فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ أي‏:‏ استولى عليه فغطاه وستره، وليس أحد من الإنس يستتر دائمًا عن

    ج/ 17 ص -466-أبصار الإنس، وإنما يقع هذا لبعض الإنس في بعض الأحوال، تارة على وجه الكرامة له، وتارة يكون من باب السحر وعمل الشياطين، ولبسط الكلام على الفرق بين هذا وبين هذا موضع آخر‏.‏
    والمقصود ههنا أن الصحابة والتابعين له بإحسان لم يبنوا قط على قبر نبي، ولا رجل صالح مسجدًا، ولا جعلوه مشهدًا ومزارًا، ولا على شيء من آثار الأنبياء، مثل مكان نزل فيه أو صلى فيه أو فعل فيه شيئًا من ذلك، لم يكونوا يقصدون بناء مسجد لأجل آثار الأنبياء والصالحين، ولم يكن جمهورهم يقصدون الصلاة في مكان لم يقصد الرسول الصلاة فيه، بل نزل فيه أو صلى فيه اتفاقًا، بل كان أئمتهم كعمر بن الخطاب وغيره ينهي عن قصد الصلاة في مكان صلى فيه رسول الله ﷺ اتفاقًا لا قصدًا، وإنما نقل عن ابن عمر خاصة أنه كان يتحرى أن يسير حيث سار رسول الله ﷺ، وينزل حيث نزل، ويصلي حيث صلي، وإن كان النبي ﷺ لم يقصد تلك البقعة لذلك الفعل، بل حصل اتفاقًا، وكان ابن عمر رضي الله عنهما رجلا صالحًا شديد الاتباع، فرأي هذا من الاتباع، وأما أبوه وسائر الصحابة من الخلفاء الراشدين‏:‏ عثمان وعلى وسائر العشرة وغيرهم، مثل ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب فلم يكونوا يفعلون ما فعل ابن عمر، وقول الجمهور أصح‏.‏

    ج/ 17 ص -467-وذلك أن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل، لأجل أنه فعل، فإذا قصد الصلاة والعبادة في مكان معين كان قصد الصلاة والعبادة في ذلك المكان متابعة له، وأما إذا لم يقصد تلك البقعة فإن قصدها يكون مخالفة لا متابعة له‏.‏ مثال الأول‏:‏ لما قصد الوقوف والذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرتين كان قصد تلك البقاع متابعة له، وكذلك لما طاف وصلي خلف المقام ركعتين كان فعل ذلك متابعة له، وكذلك لما صعد على الصفا والمروة للذكر والدعاء كان قصد ذلك متابعة له‏.‏ وقد كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأُسطوانة، قال‏:‏ لأني رأيت رسول الله ﷺ يتحرى الصلاة عندها، فلما رآه يقصد تلك البقعة لأجل الصلاة كان ذلك القصد للصلاة متابعة‏.‏ وكذلك لما أراد عِتْبَانُ بن مَالكٍ أن يبني مسجدًا لما عمي فأرسل إلى رسول الله ﷺ قال له‏:‏ إني أحب أن تأتيني تصلي في منزلي فأتخذه مصلي‏.‏ وفي رواية فقال‏:‏ تعال فخط لي مسجدًا، فأتي النبي ﷺ ومن شاء من أصحابه‏.‏ وفي رواية‏:‏ فغدا على رسول الله ﷺ وأبو بكر الصديق حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله ﷺ فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، فقال‏:‏ ‏"‏أين تحب أن أصلي من بيتك‏؟‏‏"‏ فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله ﷺ فقمنا وراءه فصلى ركعتين، ثم سلم، الحديث‏.‏

    ج/ 17 ص -468-فإنه قصد أن يبني مسجدًا وأحب أن يكون أول من يصلي فيه النبي ﷺ، وأن يبنيه في الموضع الذي صلى فيه، فالمقصود كان بناء المسجد، وأراد أن يصلي النبي ﷺ في المكان الذي يبنيه، فكانت الصلاة مقصودة لأجل المسجد، لم يكن بناء المسجد مقصودًا لأجل كونه صلى فيه اتفاقًا، وهذا المكان مكان قصد النبي ﷺ الصلاة فيه ليكون مسجدًا، فصار قصد الصلاة فيه متابعة له، بخلاف ما اتفق أنه صلى فيه بغير قصد، وكذلك قصد يوم الاثنين والخميس بالصوم متابعة لأنه قصد صوم هذين اليومين، وقال في الحديث الصحيح إنه-‏:‏ ‏"‏تفتح أبواب الجنة في كل خميس وإثنين فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كان بينه وبين أخيه شَحْنَاءُ فيقال‏:‏ أنظروا هذين حتى يصطلحا‏"‏‏.‏
    وكذلك قصد إتيان مسجد قباء متابعة له، فإنه قد ثبت عنه في الصحيحين أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، وذلك أن الله أنزل عليه‏:‏
    ‏"لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، وكان مسجده هو الأحق بهذا الوصف‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أنه سئل عن المسجد المؤسس على التقوى فقال‏:‏ ‏"‏هو مسجدي هذا‏"‏، يريد أنه أكمل في هذا الوصف من مسجد قباء، ومسجد قباء - أيضًا - أسس على التقوى، وبسببه نزلت الآية؛ ولهذا قال‏:‏

    ج/ 17 ص -469-"فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، وكان أهل قباء مع الوضوء والغسل يستنجون بالماء - تعلموا ذلك من جيرانهم اليهود - ولم تكن العرب تفعل ذلك، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا يظن ظان أن ذاك هو الذي أسس على التقوى دون مسجده، فذكر أن مسجده أحق بأن يكون هو المؤسس على التقوى، فقوله‏:‏ ‏"لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَى‏"‏، يتناول مسجده ومسجد قباء، ويتناول كل مسجد أسس على التقوى، بخلاف مساجد الضرار‏.‏
    ولهذا كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه ذلك، ويرون العتيق أفضل من الجديد؛ لأن العتيق أبعد عن أن يكون بني ضرارًا من الجديد الذي يخاف ذلك فيه، وعتق المسجد مما يحمد به؛ ولهذا قال‏:‏ ‏
    "ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏"‏[‏الحج‏:‏ 33‏]‏، وقال‏:‏ ‏"ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏، فإن قدمه يقتضي كثرة العبادة فيه أيضًا وذلك يقتضي زيادة فضله؛ ولهذا لم يستحب علماء السلف من أهل المدينة وغيرها قصد شيء من المساجد والمزارات التي بالمدينة وما حولها بعد مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا مسجد قباء؛ لأن النبي ﷺ لم يقصد مسجدًا بعينه يذهب إليه إلا هو‏.‏ وقد كان بالمدينة مساجد كثيرة، لكل قبيلة من الأنصار مسجد، لكن ليس في قصده دون أمثاله فضيلة، بخلاف مسجد قباء، فإنه أول مسجد بني بالمدينة

    ج/ 17 ص -470-على الإطلاق، وقد قصده الرسول ﷺ بالذهاب إليه، وصح عنه ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏من توضأ في بيته ثم أتي مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة‏"‏‏.‏
    ومع هذا فلا يسافر إليه، لكن إذا كان الإنسان بالمدينة أتاه، ولا يقصد إنشاء السفر إليه بل يقصد إنشاء السفر إلى المساجد الثلاثة؛ لقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا‏"‏؛ ولهذا لو نذر السفر إلى مسجد قباء لم يوف بنذره عند الأئمة الأربعة وغيرهم، بخلاف المسجد الحرام فإنه يجب الوفاء بالنذر إليه باتفاقهم، وكذلك مسجد المدينة، وبيت المقدس، في أصح قوليهم، وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه، وفي الآخر وهو قول أبي حنيفة ليس عليه ذلك، لكنه جائز ومستحب؛ لأن من أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان واجبًا بالشرع‏:‏ والأكثرون يقولون‏:‏ يجب بالنذر كل ما كان طاعة لله، كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة، عن النبي ﷺ؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏"‏‏.‏
    ويستحب أيضًا زيارة قبور أهل البقيع، وشهداء أحد، للدعاء لهم والاستغفار؛ لأن النبي ﷺ كان يقصد ذلك، مع أن

    ج/ 17 ص -471-هذا مشروع لجميع موتي المسلمين، كما يستحب السلام عليهم والدعاء لهم، والاستغفار‏.‏ وزيارة القبور بهذا القصد مستحبة‏.‏ وسواء في ذلك قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم‏.‏ وكان عبد الله بن عمر إذا دخل المسجد يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف‏.‏
    وأما زيارة قبور الأنبياء والصالحين لأجل طلب الحاجات منهم، أو دعائهم والإقسام بهم على الله، أو ظن أن الدعاء أو الصلاة عند قبورهم أفضل منه في المساجد والبيوت، فهذا ضلال وشرك وبدعة باتفاق أئمة المسلمين، ولم يكن أحد من الصحابة يفعل ذلك، ولا كانوا إذا سلموا على النبي ﷺ يقفون يدعون لأنفسهم؛ ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء، وقالوا‏:‏ إنه من البدع التي لم يفعلها السلف، واتفق العلماء الأربعة وغيرهم من السلف على أنه إذا أراد أن يدعو يستقبل القبلة، ولا يستقبل قبر النبي ﷺ، وأما إذا سلم عليه فأكثرهم قالوا‏:‏ يستقبل القبر، قاله مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة‏:‏ بل يستقبل القبلة - أيضًا - ويكون القبر عن يساره، وقيل‏:‏ بل يستدبر القبلة‏.‏
    ومما يبين هذا الأصل أن رسول الله ﷺ لما هاجر هو وأبو بكر ذهبا إلى الغار الذي بجبل ثور، ولم يكن على طريقهما

    ج/ 17 ص -472-بالمدينة، فإنه من ناحية اليمن، والمدينة من ناحية الشام، ولكن اختبآ فيه ثلاثًا لينقطع خبرهما عن المشركين، فلا يعرفون أين ذهبا، فإن المشركين كانوا طالبين لهما، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته لمن يأتي به، وكانوا يقصدون منع النبي ﷺ أن يصل إلى أصحابه بالمدينة، وألا يخرج من مكة، بل لما عجزوا عن قتله أرادوا حبسه بمكة، فلو سلك الطريق ابتداء لأدركوه، فأقام بالغار ثلاثًا لأجل ذلك، فلو أراد المسافر من مكة إلى المدينة أن يذهب إلى الغار، ثم يرجع لم يكن ذلك مستحبًا بل مكروهًا‏.‏ والنبي ﷺ في الهجرة سلك طريق الساحل وهي طويلة، وفيها دورة، وأما في عمره وحجته فكان يسلك الوسط، وهو أقرب إلى مكة، فسلك في الهجرة طريق الساحل؛ لأنها كانت أبعد عن قصد المشركين، فإن الطريق الوسطي كانت أقرب إلى المدينة، فيظنون أنه سلكها، كما كان إذا أراد غزوة وَرَّي بغيرها‏.‏
    وهو صلى الله عليه وآله وسلم لما قسم غنائم حنين بالجِعْرانَةِ اعتمر منها، ولما صده المشركون عن مكة حل بالحديبية، وكان قد أنشأ الإحرام بالعمرة من ميقات المدينة ذي الحليفة، ولما اعتمر من العام القابل عمرة القضية اعتمر من ذي الحليفة، ولم يدخل الكعبة في عمره ولا حجته وإنما دخلها عام الفتح، وكان بها صور مصورة فلم يدخلها

    ج/ 17 ص -473-حتى محيت تلك الصور، وصلي بها ركعتين‏.‏ وصلي يوم الفتح ثمان ركعات وقت الضحى، كما روت ذلك أم هانئ‏.‏ ولم يكن يقصد الصلاة وقت الضحى إلا لسبب مثل أن يقدم من سفر، فيدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين، ومثل أن يشغله نوم أو مرض عن قيام الليل فيصلي بالنهار ثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، فصلى ثنتي عشرة ركعة شفعًا لفوات وقت الوتر، فإنه ﷺ قال‏:‏ ‏"‏المغرب وتر صلاة النهار، فأوتروا صلاة الليل‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏صلاة الليل مثني مثني، فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة‏"‏‏.‏
    والمأثور عن السلف أنهم إذا ناموا عن الوتر كانوا يوترون قبل صلاة الفجر، ولا يؤخرونه إلى ما بعد الصلاة‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت‏:‏ ما صلى رسول الله ﷺ سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن كان ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم‏.‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه أوصى بركعتي الضحى لأبي هريرة، ولأبي الدرداء، وفيها أحاديث، لكن صلاته ثمان ركعات يوم الفتح جعلها بعض العلماء صلاة الضحى‏.‏
    وقال آخرون‏:‏ لم يصلها إلا يوم الفتح، فعلم أنه صلاها لأجل

    ج/ 17 ص -474-الفتح‏.‏ وكانوا يستحبون عند فتح مدينة أن يصلي الإمام ثماني ركعات شكرًا لله، ويسمونها صلاة الفتح، قالوا‏:‏ لأن الاتباع يعتبر فيه القصد والنبي ﷺ لا يقصد الصلاة لأجل الوقت، ولو قصد ذلك لصلي كل يوم، أو غالب الأيام، كما كان يصلي ركعتي الفجر كل يوم، وكذلك كان يصلي بعد الظهر ركعتين، وقبلها ركعتين أو أربعًا، ولما فاتته الركعتان بعد الظهر قضاهما بعد العصر، وهو ﷺ لما نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في غزوة خيبر فصلوا بعد طلوع الشمس ركعتين، ثم ركعتين، لم يقل أحد‏:‏ إن هذه الصلاة في هذا الوقت سنة دائمًا؛ لأنهم إنما صلوها قضاء، لكونهم ناموا عن الصلاة، ولما فاتته العصر في بعض أيام الخندق فصلاها بعد ما غربت الشمس‏.‏ وروي أن الظهر فاتته - أيضًا - فصلى الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، لم يقل أحد‏:‏ إنه يستحب أن يصلي بين العشاءين أحد عشر ركعة؛ لأن ذلك كان قضاء، بل ولا نقل عنه أحد أنه خص ما بين العشاءين بصلاة‏.‏
    وقوله تعالى‏:‏ ‏
    "نَاشِئَةَ اللَّيْلِ‏"‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 6‏]‏، عند أكثر العلماء هو إذا قام الرجل بعد نوم ليس هو أول الليل، وهذا هو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هكذا كان يصلي، والأحاديث بذلك متواترة عنه، كان يقوم بعد النوم لم يكن يقوم بين العشاءين‏.‏

    ج/ 17 ص -475-وكذلك أكله ما كان يجد من الطعام، ولبسه الذي يوجد بمدينته طيبة مخلوقًا فيها، ومجلوبًا إليها من اليمن وغيرها؛ لأنه هو الذي يسره الله له، فأكله التمر، وخبزه الشعير، وفاكهته الرطب والبطيخ الأخضر والقثاء، ولبس ثياب اليمن؛ لأن ذلك هو كان أيسر في بلده من الطعام والثياب، لا لخصوص ذلك، فمن كان ببلد آخر وقوتهم البُرُّ والذرة، وفاكهتهم العنب والرمان، ونحو ذلك، وثيابهم مما ينسج بغير اليمن القز لم يكن إذا قصد أن يتكلف من القوت والفاكهة واللباس ما ليس في بلده بل يتعسر عليهم متبعًا للرسول ﷺ، وإن كان ذلك الذي يتكلفه تمرًا أو رطبًا أو خبز شعير، فعلم أنه لابد في المتابعة للنبي ﷺ من اعتبار القصد والنية ف ‏"‏إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‏"‏‏.‏
    فعلم أن الذي عليه جمهور الصحابة وأكابرهم هو الصحيح، ومع هذا فابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يقصد أن يصلي إلا في مكان صلى فيه النبي ﷺ، لم يكن يقصد الصلاة في موضع نزوله ومقامه، ولا كان أحد من الصحابة يذهب إلى الغار المذكور في القرآن للزيارة والصلاة فيه وإن كان النبي ﷺ وصاحبه أقاما به ثلاثًا يصلون فيه الصلوات الخمس ولا كانوا أيضًا يذهبون إلى حراء وهو المكان الذي كان يتعبد فيه قبل النبوة

    ج/ 17 ص -476-وفيه نزل عليه الوحي أولًا، وكان هذا مكان يتعبدون فيه قبل الإسلام، فإن حراء أعلى جبل كان هناك، فلما جاء الإسلام ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة مرات بعد أن أقام بها قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ومع هذا فلم يكن هو ولا أصحابه يذهبون إلى حراء‏.‏
    ولما حج النبي ﷺ استلم الركنين اليمانيين، ولم يستلم الشاميين؛ لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم، فإن أكثر الحجر من البيت، والحجر الأسود استلمه وَقَبَّلَهُ، واليماني استلمه ولم يقبله، وصلي بمقام إبراهيم ولم يستلمه، ولم يقبله، فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود ليس بسنة، ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة، وإذا كان هذا نفس الكعبة، ونفس مقام إبراهيم بها، فمعلوم أن جميع المساجد حرمتها دون الكعبة، وأن مقام إبراهيم بالشام وغيرها وسائر مقامات الأنبياء دون المقام الذي قال الله فيه‏:‏ ‏
    "وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّي‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏‏.‏
    فعلم أن سائر المقامات لا تقصد للصلاة فيها، كما لا يحج إلى سائر المشاهد، ولا يتمسح بها، ولا يقبل شيء من مقامات الأنبياء ولا المساجد ولا الصخرة ولا غيرها، ولا يقبل ما على وجه الأرض إلا الحجر الأسود‏.‏

    ج/ 17 ص -477-وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل بمسجد بمكة إلا المسجد الحرام، ولم يأت للعبادات إلا المشاعر‏:‏ منى، ومزدلفة، وعرفة؛ فلهذا كان أئمة العلماء على أنه لا يستحب أن يقصد مسجدًا بمكة للصلاة غير المسجد الحرام، ولا تقصد بقعة للزيارة غير المشاعر التي قصدها رسول الله ﷺ، وإذا كان هذا في آثارهم، فكيف بالمقابر التي لعن رسول الله ﷺ من اتخذها مساجد، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏؟‏‏!
    ودين الإسلام أنه لا تقصد بقعة للصلاة إلا أن تكون مسجدًا فقط؛ ولهذا مشاعر الحج غير المسجد الحرام تقصد للنسك، لا للصلاة فلا صلاة بعرفة، وإنما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر يوم عرفة بعرفة خطب بها ثم صلى، ثم بعد الصلاة ذهب إلى عرفات، فوقف بها، وكذلك يذكر الله ويدعى بعرفات وبمزدلفة على قزح، وبالصفا والمروة، وبين الجمرات، وعند الرمي‏.‏ ولا تقصد هذه البقاع للصلاة‏.‏ وأما غير المساجد ومشاعر الحج فلا تقصد بقعة لا للصلاة، ولا للذكر، ولا للدعاء، بل يصلي المسلم حيث أدركته الصلاة، إلا حيث نهي، ويذكر الله ويدعوه حيث تيسر من غير قصد تخصيص بقعة بذلك، وإذا اتخذ بقعة لذلك كالمشاهد نهي عن ذلك، كما نهي عن الصلاة في المقبرة، إلا ما يفعله الرجل عند السلام على الميت من

    ج/ 17 ص -478-الدعاء له وللمسلمين، كما يفعل مثل ذلك في الصلاة على الجنازة، فإن زيارة قبر المؤمن من جنس الصلاة على جنازته، يفعل في هذا من جنس ما يفعل في هذا، ويقصد بالدعاء هنا ما يقصد بالدعاء هنا‏.‏
    ومما يشبه هذا أن الأنصار بايعوا النبي ﷺ ليلة العقبة بالوادى الذي وراء جمرة العقبة؛ لأنه مكان منخفض قريب من منى، يستر من فيه، فإن السبعين الأنصار كانوا قد حجوا مع قومهم المشركين، ومازال الناس يحجون إلى مكة قبل الإسلام وبعده، فجاؤوا مع قومهم إلى منى؛ لأجل الحج، ثم ذهبوا بالليل إلى ذلك المكان لقربه وستره لا لفضيلة فيه، ولم يقصدوه لفضيلة تخصه بعينه‏.‏
    ولهذا لما حج النبي ﷺ هو وأصحابه لم يذهبوا إليه، ولا زاروه، وقد بنى هناك مسجد، وهو محدث، وكل مسجد بمكة وما حولها غير المسجد الحرام فهو محدث، ومنى نفسها لم يكن بها على عهد النبي ﷺ مسجد مبني، ولكن قال‏:‏
    ‏"‏منى مناخ لمن سبق‏"‏ فنزل بها المسلمون، وكان يصلى بالمسلمين بمنى، وغير منى، وكذلك خلفاؤه من بعده، واجتماع الحجاج بمنى أكثر من اجتماعهم بغيرها، فإنهم يقيمون بها أربعًا، وكان النبي ﷺ وأبو بكر وعمر يصلُّون بالناس بمنى وغير منى، وكانوا يقصرون

    ج/ 17 ص -479-الصلاة بمنى وعرفة ومزدلفة، ويجمعون بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ويصلى بصلاتهم جميع الحجاج من أهل مكة وغير أهل مكة، وكلهم يقصرون الصلاة بالمشاعر، وكلهم يجمعون بعرفة ومزدلفة‏.‏
    وقد تنازع العلماء في أهل مكة ونحوهم‏:‏ هل يقصرون أو يجمعون‏؟‏ فقيل‏:‏ لا يقصرون ولا يجمعون، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد‏.‏وقيل‏:‏ يجمعون ولا يقصرون، كما يقول ذلك أبو حنيفة وأحمد ومن وافقه من أصحابه وأصحاب الشافعى‏.‏وقيل‏:‏ يجمعون ويقصرون، كما قال ذلك مالك وابن عيينة وإسحاق بن راهويه وبعض أصحاب أحمد وغيرهم، وهذا هو الصواب بلا ريب، فإنه الذي فعله أهل مكة خلف النبي ﷺ بلا ريب، ولم يقل النبي ﷺ قط ولا أبو بكر ولا عمر بمنى ولا عرفة ولا مزدلفة‏:‏ يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر، ولكن ثبت أن عمر قال ذلك في جوف مكة‏.‏وكذلك في السنن عن النبي ﷺ أنه قال ذلك في جوف مكة في غزوة الفتح‏.‏ وهذا من أقوى الأدلة على أن القصر مشروع لكل مسافر، ولو كان سفره بريدًا، فإن عرفة من مكة بريد أربع فراسخ ولم يصل النبي ﷺ ولا خلفاؤه بمكة صلاة عيد، بل ولا صلى في أسفاره قط صلاة

    ج/ 17 ص -480-العيد، ولا صلى بهم في أسفاره صلاة جمعة يخطب ثم يصلى ركعتين، بل كان يصلى يوم الجمعة في السفر ركعتين، كما يصلى في سائر الأيام‏.‏
    وكذلك لما صلى بهم الظهر والعصر بعرفة صلى ركعتين، كصلاته في سائر الأيام، ولم ينقل أحد أنه جهر بالقراءة يوم الجمعة في السفر، لا بعرفة ولا بغيرها، ولا أنه خطب بغير عرفة يوم الجمعة في السفر، فعلم أن الصواب ما عليه سلف الأمة وجماهيرها من الأئمة الأربعة وغيرهم، من أن المسافر لا يصلى جمعة ولا غيرها، وجمهورهم أيضًا على أنه لا يصلى عيدًا، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وهذا هو الصواب أيضًا فإن النبي ﷺ وخلفاءه لم يكونوا يصلون العيد إلا في المقام، لا في السفر، ولم يكن يصلى صلاة العيد إلا في مكان واحد مع الإمام يخرج بهم إلى الصحراء فيصلى هناك، فيصلى المسلمون كلهم خلفه صلاة العيد كما يصلون الجمعة ولم يكن أحد من المسلمين يصلى صلاة عيد في مسجد قبيلته ولا بيته، كما لم يكونوا يصلون جمعة في مساجد القبائل، ولا كان أحد منهم بمكة يوم النحر يصلى صلاة عيد على عهد النبي ﷺ وخلفائه، بل عيدهم بمنى بعد إفاضتهم من المشعر الحرام، ورمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لسائر أهل الأمصار يرمون ثم ينحرون وسائر أهل

    ج/ 17 ص -481-الأمصار يصلون ثم ينحرون، والنبى ﷺ لما أفاض من منى نزل بالمحَصِّبِ، فاختلف أصحابه‏:‏ هل التحصيب سنة لاختلافهم في قصده هل قصد النزول به أو نزل به لأنه كان أسمح لخروجه‏؟‏ وهذا مما يبين أن المقاصد كانت معتبرة عندهم في المتابعة‏.‏
    ولما اعتمر عمرة القضية وكانت مكة مع المشركين لم تفتح بعد، وكان المشركون قد قالوا‏:‏ يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حُمى يثرب، وقعد المشركون خلف قعيقعان وهو جبل المروة ينظرون إليهم، فأمر النبي ﷺ أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط من الطواف، ليرى المشركون جلدهم وقوتهم‏.‏وروى أنه دعا لمن فعل ذلك، ولم يرملوا بين الركنين؛ لأن المشركين لم يكونوا يرونهم من ذلك الجانب، فكان المقصود بالرمل إذ ذاك من جنس المقصود بالجهاد، فظن بعض المتقدمين أنه ليس من النسك؛ لأنه فعل لقصد وزال، لكن ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ وأصحابه لما حجوا رملوا من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، فكملوا الرَّمْلَ بين الركنين، وهذا قدر زائد على ما فعلوه في عمرة القضية، وفعل ذلك في حجة الوداع مع الأمن العام، فإنه لم يحج معه إلا مؤمن، فدل ذلك على أن الرمل صار من سنة الحج، فإنه فعل أولا لمقصود الجهاد، ثم شرع نسكًا، كما روى في سعى هاجر، وفي رمي الجمار، وفي ذبح الكبش‏:‏ أنه

    ج/ 17 ص -482-فعل أولًا لمقصود، ثم شرعه الله نسكًا وعبادة، لكن هذا يكون إذا شرع الله ذلك وأمر به، وليس لأحد أن يشرع ما لم يشرعه الله، كما لو قال قائل‏:‏ أنا أستحب الطواف بالصخرة سبعًا، كما يطاف بالكعبة، أو أستحب أن أتخذ من مقام موسى وعيسى مصلى، كما أمر الله أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، ونحو ذلك، لم يكن له ذلك؛ لأن الله تعالى يختص ما يختصه من الأعيان والأفعال بأحكام تخصه يمتنع معها قياس غيره عليه، إما لمعنى يختص به لا يوجد بغيره على قول أكثر أهل العلم، وإما لمحض تخصيص المشيء ة على قول بعضهم، كما خص الكعبة بأن يحج إليها ويطاف بها، وكما خص عرفات بالوقوف بها، وكما خص منى برمي الجمار بها، وكما خص الأشهر الحرم بتحريمها، وكما خص شهر رمضان بصيامه وقيامه، إلى أمثال ذلك‏.‏
    وإبراهيم ومحمد كل منهما خليل الله، فإنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏إن الله اتخذنى خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلا‏"‏‏.‏وقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن رجلًا قال للنبى ﷺ‏:‏ يا خير البرية قال‏:‏ ‏"‏ذاك إبراهيم‏"‏‏.‏ فإبراهيم أفضل الخلق بعد محمد ﷺ‏.‏وقوله‏:‏ ‏"‏ذاك إبراهيم‏"‏ تواضع منه، فإنه قد ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائى يوم القيامة ولا فخر‏"‏ إلى غير

    ج/ 17 ص -483-ذلك من النصوص المبينة أنه أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه، وإبراهيم هو الإمام الذي قال فيه‏:‏ ‏"إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏، وهو الأمة أي‏:‏ القدوة الذي قال الله فيه‏:‏ ‏"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏، وهو الذي بوأه الله مكان البيت، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه، وقد حرم الله الحرم على لسانه، وإسماعيل نبأه معه، وهو الذبيح الذي بذل نفسه لله وصبر على المحنة، كما بينا ذلك بالدلائل الكثيرة في غير هذا الموضع، وأمه هاجر هي التي أطاعت الله ورسوله إبراهيم في مقامها مع ابنها في ذلك الوادى الذي لم يكن به أنيس، كما قال الخليل‏:‏ ‏"رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ‏"‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏
    وكان لإبراهيم ولآل إبراهيم من محبة الله وعبادته والإيمان به وطاعته ما لم يكن لغيرهم، فخصهم الله بأن جعل لبيته الذي بنوه له خصائص لا توجد لغيره، وجعل ما جعله من أفعالهم قدوة للناس وعبادة يتبعونهم فيها، ولا ريب أن الله شرع لإبراهيم السعى ورمي الجمار والوقوف بعرفات بعد ما كان من أمر هاجر وإسماعيل وقصة الذبح وغير ذلك ما كان، كما شرع لمحمد الرَّمْلَ في الطواف حيث أمره أن ينادى في الناس بحج البيت، والحج مبناه على الذل والخضوع لله؛ ولهذا خص باسم النسك، والنَّسْكُ في اللغة‏:‏ العبادة‏.‏

    ج/ 17 ص -484-قال الجوهري‏:‏ النَّسْكُ‏:‏ العبادة، والنَّاسِكُ‏:‏ العابد، وقد نَسَكَ وتَنَسَّك، أي‏:‏ تعبد، ونَسُك بالضم، أي‏:‏ صار ناسكا، ثم خص الحج باسم النسك؛ لأنه أدخل في العبادة والذل لله من غيره، ولهذا كان فيه من الأفعال ما لا يقصد فيه إلا مجرد الذل لله، والعبادة له، كالسعى ورمي الجمار‏.‏قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إنما جعل رمي الجمار والسعى بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله‏"‏ رواه الترمذي‏.‏ وخص بذلك الذبح الفداء أيضًا دون مطلق الذبح؛ لأن إراقة الدم لله أبلغ في الخضوع والعبادة له، ولهذا كان من كان قبلنا لا يأكلون القربان، بل تأتى نار من السماء فتأكله؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏"الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 183‏]‏‏.‏
    وكذلك كانوا إذا غنموا غنيمة جمعوها ثم جاءت النار فأكلتها ليكون قتالهم محضا لله لا للمغنم، ويكون ذبحهم عبادة محضة لله لا لأجل أكلهم، وأمة محمد ﷺ وسع الله عليهم لكمال يقينهم وإخلاصهم، وأنهم يقاتلون لله ولو أكلوا المغنم، ويذبحون لله ولو أكلوا القربان؛ ولهذا كان عباد الشياطين والأصنام يذبحون لها الذبائح - أيضًا - فالذبح للمعبود غاية الذل والخضوع له‏.‏
    ولهذا لم يجز الذبح لغير الله، ولا أن يسمى غير الله على الذبائح،

    ج/ 17 ص -485-وحرم سبحانه ما ذبح على النصب، وهو ما ذبح لغير الله، وما سمى عليه غير اسم الله، وإن قصد به اللحم لا القربان، ولعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذبح لغير الله، ونهي عن ذبائح الجن، وكانوا يذبحون للجن، بل حرم الله ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقا كما دل على ذلك الكتاب والسنة في غير موضع‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"فصل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏"‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، أي‏:‏ انحر لربك، كما قال الخليل‏:‏ ‏"قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏، وقد قال هو وإسماعيل إذ يرفعان القواعد من البيت ‏:‏ ‏"رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 127، 128‏]‏، فالمناسك هنا مشاعر الحج كلها، كما قال تعالى‏:‏ ‏"لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏"لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ‏"‏[‏الحج‏:‏ 37‏]‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ‏"‏[‏الحج‏:‏ 32‏]‏‏.‏
    فالمقصود تقوى القلوب لله وهو عبادتها له وحده دون ما سواه بغاية العبودية له، والعبودية فيها غاية المحبة وغاية الذل والإخلاص، وهذه ملة إبراهيم الخليل، وهذا كله مما يبين أن عبادة القلوب هي الأصل، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب‏"‏،

    ج/ 17 ص -486-والنية والقصد هما عمل القلب، فلابد في المتابعة للرسول ﷺ من اعتبار النية والقصد‏.‏
    ومن هذا الباب‏:‏ أن النبي ﷺ لما احتجم وأمر بالحجامة‏.‏ وقال في الحديث الصحيح‏:‏
    ‏"‏شفاء أمتي في شَرْطَةِ محجم، أو شَرْبَة عسل، أو كية بنار، وما أحب أن أكتوي‏"‏، كان معلومًا أن المقصود بالحجامة‏:‏ إخراج الدم الزائد الذي يضر البدن، فهذا هو المقصود، وخص الحجامة لأن البلاد الحارة يخرج الدم فيها إلى سطح البدن فيخرج بالحجامة؛ فلهذا كانت الحجامة في الحجاز ونحوه من البلاد الحارة يحصل بها مقصود استفراغ الدم، وأما البلاد الباردة، فالدم يغور فيها إلى العروق فيحتاجون إلى قطع العروق بالفصاد‏.‏وهذا أمر معروف بالحس والتجربة، فإنه في زمان البرد تسخن الأجواف وتبرد الظواهر؛ لأن شبيه الشيء منجذب إليه، فإذا برد الهواء برد ما يلاقيه من الأبدان والأرض، فيهرب الحر الذي فيها من البرد المضاد له إلى الأجواف فيسخن باطن الأرض وأجواف الحيوان، ويأوى الحيوان إلى الأكنان الدافئة ولقوة الحرارة في باطن الإنسان يأكل في الشتاء وفي البلاد الباردة أكثر مما يأكل في الصيف وفي البلاد الحارة؛ لأن الحرارة تطبخ الطعام وتصرفه، ويكون الماء النابع في الشتاء سَخِنًا لسخونة جوف الأرض، والدم سخن فيكون في جوف العروق لا في سطح الجلد، فلو احتجم لم ينفعه ذلك بل قد يضره، وفي الصيف

    ج/ 17 ص -487-والبلاد الحارة تسخن الظواهر فتكون البواطن باردة فلا ينهضم الطعام فيها كما ينهضم في الشتاء، ويكون الماء النابع باردًا لبرودة باطن الأرض‏.‏ وتظهر الحيوانات إلى البرارى لسخونة الهواء، فهؤلاء قد لا ينفعهم الفصاد، بل قد يضرهم، والحجامة أنفع لهم‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏
    "‏شفاء أمتي‏"‏ إشارة إلى من كان حينئذ من أمته وهم كانوا بالحجاز، كما قال‏:‏ ‏"‏ما بين المشرق والمغرب قبلة‏"‏؛ لأن هذا كان قبلة أمتي حينئذ؛ لأنهم كانوا بالمدينة وما حولها، وهذا كما أنه في آخر الأمر بعد أن فرض الحج سنة تسع أو سنة عشر وَقَّتَ ثلاث مواقيت للمدينة ولنجد وللشام، ولما فتح اليمن وَقَّتَ لهم يلملم، ثم وَقَّتَ ذات عِرْقٍ لأهل العراق، وهذا كما أنه فرض صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير عن كل صغير وكبير ذكرًا وأنثى من المسلمين، وكان هذا هو الفرض على أهل المدينة؛ لأن الشعير والتمر كان قوتهم، ولهذا كان جماهير العلماء على أنه من اقتات الأرز والذرة ونحو ذلك يخرج من قوته، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهل يجزيه أن يخرج التمر والشعير إذا لم يكن يقتاته‏؟‏ فيه قولان للعلماء‏.‏
    وكان الصحابة يرمون بالقوس العربية الطويلة التي تشبه قوس النَّدَفِ، وفتح الله لهم بها البلاد، وقد رويت آثار في كراهة الرمي بالقوس الفارسية عن بعض السلف لكونها كانت شعار الكفار، فأما بعد أن

    ج/ 17 ص -488-اعتادها المسلمون وكثرت فيهم وهي في أنفسها أنفع في الجهاد من تلك القوس، فلا تكره في أظهر قولى العلماء، أو قول أكثرهم؛ لأن الله تعالى‏:‏ قال‏:‏"وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏‏.‏
    والقوة في هذا أبلغ بلا ريب، والصحابة لم تكن هذه عندهم فعدلوا عنها إلى تلك؛ بل لم يكن لهم غيرها، فينظر في قصدهم بالرمي‏:‏ أكان لحاجة إليها إذ ليس لهم غيرها‏؟‏ أم كان لمعنى فيها‏؟‏ ومن كره الرمي بها كرهه لمعنى لازم، كما يكره الكفر وما يستلزم الكفر، أم كرهها لكونها كانت من شعائر الكفار فكره التشبه بهم‏؟‏
    وهذا كما أن الكفار من اليهود والنصارى إذا لبسوا ثوب الغيار من أصفر وأزرق نهي عن لباسه لما فيه من التشبه بهم، وإن كان لو خلا عن ذلك لم يكره، وفي بلاد لا يلبس هذه الملابس عندهم إلا الكفار فنهي عن لبسها، والذين اعتادوا ذلك من المسلمين لا مفسدة عندهم في لبسها‏.‏
    ولهذا كره أحمد وغيره لباس السواد لما كان في لباسه تشبه بمن يظلم أو يعين على الظلم، وكره بيعه لمن يستعين بلبسه على الظلم، فأما إذا لم يكن فيه مفسدة لم ينه عنه‏.‏
    وكره من كره من الصحابة والتابعين بيع الأرض الخراجية؛ لأن

    ج/ 17 ص -489-المسلم المشترى لها إذا أدى الخراج عنها أشبه أهل الذمة في التزام الجزية، فإن الخراج جزية الأرض، وإن لم يؤدها ظلم المسلمين بإسقاط حقهم من الأرض، لم يكرهوا بيعها لكونها وقفا، فإن الوقف إنما منع من بيعه لأن ذلك يبطل الوقف؛ ولهذا لا يباع ولا يوهب ولا يُورث، والأرض الخراجية تنتقل إلى الوارث باتفاق العلماء، وتجوز هبتها، والمتهب المشترى يقوم فيها مقام البائع فيؤدى ما كان عليه من الخراج، وليس في بيعها مضرة لمستحقى الخراج، كما في بيع الوقف‏.‏وقد غلط كثير من الفقهاء فظنوا أنهم كرهوا بيعها لكونها وقفًا، واشتبه عليهم الأمر؛ لأنهم رأوا الآثار مروية في كراهة بيعها، وقد عرفوا أن عمر جعلها فيء ا لم يقسمها قط، وذلك في معنى الوقف، فظنوا أن بيعها مكروه لهذا المعنى، ولم يتأملوا حق التأمل، فيرون أن هذا البيع ليس هو من جنس البيع المنهي عنه في الوقف، فإن هذه يصرف مغلها إلى مستحقها قبل البيع وبعده، وعلى حد واحد، ليست كالدار التي إذا بيعت تعطل نفعها عن أهل الوقف وصارت للمشتري‏.‏
    وأعجب من ذلك أن طائفة من هؤلاء قالوا‏:‏ مكة إنما كره بيع رباعها لكونها فتحت عنوة، ولم تقسم أيضًا وهم قد قالوا مع جميع الناس‏:‏ إن الأرض العنوة التي جعلت أرضها فيء ا يجوز بيع مساكنها، والخراج إنما جعل على المزارع لا على المساكن، فلو كانت

    ج/ 17 ص -490-مكة قد جعلت أرضها للمسلمين، وجعل عليها خراج لم يمتنع بيع مساكنها لذلك، فكيف ومكة أقرها النبي ﷺ بيد أهلها على ما كانت عليه مساكنها ومزارعها ولم يقسمها ولم يضرب عليها خراجا؛ولهذا قال من قال‏:‏ إنها فتحت صلحًا، ولا ريب أنها فتحت عنوة كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة المتواترة، لكن النبي ﷺ أطلق أهلها جميعهم فلم يقتل إلا من قاتله، ولم يَسْبِ لهم ذرية، ولا غنم لهم مالًا؛ ولهذا سموا الطلقاء‏.‏
    وأحمد وغيره من السلف إنما عللوا ذلك بكونها فتحت عنوة مع كونها مشتركة بين المسلمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏، وهذه هي العلة التي اختصت بها مكة دون سائر الأمصار، فإن الله أوجب حجها على جميع الناس، وشرع اعتمارها دائمًا فجعلها مشتركة بين جميع عباده، كما قال‏:‏ ‏"سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ‏"‏‏.‏ ولهذا كانت منى وغيرها من المشاعر من سبق إلى مكان فهو أحق به حتى ينتقل عنه كالمساجد، ومكة نفسها من سبق إلى مكان فهو أحق به، والإنسان أحق بمسكنه ما دام محتاجًا إليه وما استغنى عنه من المنافع فعليه بذله بلا عوض لغيره من الحجيج، وغيرهم؛ ولهذا كانت الأقوال في إجارة دورها وبيع رباعها ثلاثة‏.‏
    قيل‏:‏ لا يجوز لا هذا ولا هذا، وقيل‏:‏ يجوز الأمران،

    ج/ 17 ص -491-والصحيح أنه يجوز بيع رباعها، ولا يجوز إجارتها، وعلى هذا تدل الآثار المنقولة في ذلك عن النبي ﷺ وعن الصحابة رضي الله عنهم فإن الصحابة كانوا يتبايعون دورها، والدور تورث وتوهب، وإذا كانت تورث وتوهب جاز أن تباع بخلاف الوقف، فإنه لا يباع ولا يورث ولا يوهب‏.‏
    وكذلك أم الولد من لم يجوز بيعها لم يجوز هبتها ولا أن تورث، وأما إجارتها فقد كانت تدعى السوائب على عهد النبي ﷺ، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن؛ لأن المسلمين كلهم محتاجون إلى المنافع، فصارت كمنافع الأسواق والمساجد والطرقات التي يحتاج إليها المسلمون، فمن سبق إلى شيء منها فهو أحق به، وما استغنى عنه أخذه غيره بلا عوض، وكذلك المباحات التي يشترك فيها الناس، ويكون المشترى لها استفاد بذلك أنه أحق من غيره ما دام محتاجا، وإذا باعها الإنسان قطع اختصاصه بها وتوريثه إياها، وغير ذلك من تصرفاته؛ ولهذا له أن ألا يبذله إلا بعوض، والنبي ﷺ مَنَّ على أهل مكة، فإن الأسير يجوز المن عليه للمصلحة، وأعطاهم مع ذلك ذراريهم وأموالهم، كما مَنَّ على هوازن لما جاؤوا مسلمين بإحدى الطائفتين‏:‏ السبي أو المال، فاختاروا السبي فأعطاهم السبي وكان ذلك بعد القسمة،

    ج/ 17 ص -492-فعوض عن نصيبه من لم يرض بأخذه منهم، وكان قد قسم المال فلم يرده عليهم، وقريش لم تحاربه كما حاربته هوازن، وهو إنما مَنَّ على مَنْ لم يقاتله منهم كما قال‏:‏ ‏"‏من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن‏"‏‏.‏
    فلما كف جمهورهم عن قتاله، وعرف أنهم مسلمون أطلقهم، ولم يغنم أموالهم ولا حريمهم، ولم يضرب الرق لا عليهم ولا على أولادهم بل سماهم الطلقاء من قريش، بخلاف ثقيف، فإنهم سموا العتقاء، فإنه أعتق أولادهم بعد الاسترقاق والقسمة، وكان في هذا ما دل على أن الإمام يفعل بالأموال والرجال والعقار والمنقول ما هو أصلح، فإن النبي ﷺ فتح خيبر فقسمها بين المسلمين، وسبى بعض نسائها، وأقر سائرهم مع ذراريهم حتى أجلوا بعد ذلك، فلم يسترقهم، ومكة فتحها عنوة ولم يقسمها لأجل المصلحة‏.‏
    وقد تنازع العلماء في الأرض إذا فتحت عنوة هل يجب قسمها كخيبر لأنها مغنم‏؟‏ أو تصير فيئا كما دلت عليه سورة الحشر، وليست الأرض من المغنم‏؟‏ أو يخير الإمام فيما بين هذا وهذا‏؟‏ على ثلاثة أقوال، وأكثر العلماء على التخيير، وهو الصحيح، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه وغيرهما‏.‏

    ج/ 17 ص -493-ولو فتح الإمام بلدًا وغلب على ظنه أن أهله يسلمون ويجاهدون جاز أن يمن عليهم بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، كما فعل النبي ﷺ بأهل مكة، فإنهم أسلموا كلهم بلا خلاف، بخلاف أهل خيبر فإنه لم يسلم منهم أحد، فأولئك قسم أرضهم؛ لأنهم كانوا كفارًا مصرين على الكفر، وهؤلاء تركها لهم؛ لأنهم كلهم صاروا مسلمين، والمقصود بالجهاد‏:‏ أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وقد كان النبي ﷺ يعطى المؤلفة قلوبهم ليتألفهم على الإسلام، فكيف لا يتألفهم بابقاء ديارهم وأموالهم‏؟‏ ‏!‏
    وهم لما حضروا معه حنينًا أعطاهم من غنائم حنين ما تألفهم به، حتى عتب بعض الأنصار، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك‏:‏ أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ‏:‏ ما أفاء، فطفق رسول الله ﷺ يعطى رجالًا من قريش المائة من الإبل، فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله يعطى قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس‏:‏ فحدث ذلك النبي ﷺ من قولهم، فأرسل رسول الله ﷺ إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله ﷺ فقال‏:
    ‏"‏ما حديث بلغنى عنكم‏؟‏ ‏!‏‏"‏ فقال له فقهاء الأنصار‏:‏ أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة

    ج/ 17 ص -494-أسنانهم فقالوا‏:‏ يغفر الله لرسول الله يعطى قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏فإني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله‏؟‏ ‏!‏ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به‏"‏، قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله قد رضينا، قال‏:‏ ‏"‏فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض‏"‏ قالوا‏:‏ سنصبر‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏لو سلك الناس واديا أو شِعْبًا وسلكت الأنصار واديًا أو شِعْبًا لسلكت وادى الأنصار وشعبهم، الناس دثارٌ، والأنصار شعار، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار‏"‏، وحدثهم حتى بكوا رضي الله تعالى عنهم‏.‏
    فهذا كله بذل وعطاء لأجل إسلام الناس، وهو المقصود بالجهاد‏.‏
    ومن قال‏:‏ إن الإمام يجب عليه قسمة العقار والمنقول مطلقًا، فقوله في غاية الضعف مخالف لكتاب الله وسنة رسوله المنقولة بالتواتر، وليس معه حجة واحدة توجب ذلك، فإن قسمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر تدل على جواز ما فعل، لا تدل على وجوبه، إذ الفعل لا يدل بنفسه على الوجوب، وهو لم يقسم مكة ولا شك أنها فتحت عنوة، وهذا يعلمه ضرورة من تدبر الأحاديث، وكذلك المنقول من قال‏:‏ إنه يجب قسمه كله بالسوية بين الغانمين في كل غزاة، فقوله

    ج/ 17 ص -495-ضعيف، بل يجوز فيه التفضيل للمصلحة، كما كان النبي ﷺ يفضل في كثير من المغازي‏.‏
    والمؤلفة قلوبهم الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم خيبر فيما أعطاهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه من الخمس، والثاني‏:‏ أنه من أصل الغنيمة، وهذا أظهر؛ فإن الذي أعطاهم إياه هو شيء كثير لا يحتمله الخمس، ومن قال‏:‏ العطاء كان من خمس الخمس، فلم يدر كيف وقع الأمر، ولم يقل هذا أحد من المتقدمين، هذا مع قوله‏:‏
    ‏"‏ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم‏"‏‏.‏ وهذا لأن المؤلفة قلوبهم كانوا من العسكر، ففضلهم في العطاء للمصلحة كما كان يفضلهم فيما يقسمه من الفيء للمصلحة‏.‏
    وهذا دليل على أن الغنيمة للإمام أن يقسمها باجتهاده كما يقسم الفيء باجتهاده، إذا كان إمام عدل قسمها بعلم وعدل، ليس قسمتها بين الغانمين كقسمة الميراث بين الورثة، وقسمة الصدقات في الأصناف الثمانية؛ ولهذا قال في الصدقات‏:‏
    ‏"‏إن الله لم يرض فيها بقسمة نبي ولا غيره، ولكن جعلها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأصناف أعطيتك‏"‏، فعلم أن ما أفاء الله من الكفار بخلاف ذلك، وقد قسم النبي ﷺ من خيبر لأهل السفينة الذين قدموا مع جعفر، ولم يقسم لأحد غاب عنها غيرهم، وقسم من غنائم بدر لطلحة والزبير ولعثمان،

    ج/ 17 ص -496-وكان قد أقام بالمدينة، وهؤلاء الذين كانوا يريدون القتال وكانوا مشغولين ببعض مصالح المسلمين الذين هم فيها في جهاد‏.‏
    وأيضًا، أهل السفينة وطلحة والزبير وعثمان لم يكونوا كغيرهم، والقتال لم يكن لأجل الغنيمة، فليست الغنيمة كمباح اشترك فيه ناس مثل الاحتشاش والاحتطاب والاصطياد، فإن ذلك الفعل مقصوده هو اكتساب المال، بخلاف الغنيمة، بل من قاتل فيها لأجل المال لم يكن مجاهدًا في سبيل الله؛ ولهذا لم تبح الغنائم لمن قبلنا وأبيحت لنا معونة على مصلحة الدين‏.‏
    فالغنائم أبيحت لمصلحة الدين وأهله، فمن كان قد نفع المجاهدين بنفع استعانوا به على تمام جهادهم جعل منهم وإن لم يحضر؛ ولهذا قال النبي ﷺ‏:‏ ‏
    "‏المسلمون يد واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد متسريهم على قاعدهم‏"‏، فإن المتسرى إنما تسرى بقوة القاعد، فالمعاونون للمجاهدين من المجاهدين‏.‏ ولبسط هذه الأمور موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا ذكر متابعة النبي ﷺ، وهو أنه يعتبر فيه متابعته في قصده، فإذا قصد مكانًا للعبادة فيه كان قصده لتلك

    ج/ 17 ص -497-العبادة سنة، وأما إذا صلى فيه اتفاقا من غير قصد لم يكن قصده للعبادة سنة؛ ولهذا لم يكن جمهور الصحابة يقصدون مشابهته في ذلك، وابن عمر رضي الله عنهما مع أنه كان يحب مشابهته في ظاهر الفعل لم يكن يقصد الصلاة إلا في الموضع الذي صلى فيه لا في كل موضع نزل به، ولهذا رخص أحمد بن حنبل في ذلك إذا كان شيئًا يسيرًا، كما فعله ابن عمر، ونهي عنه رضي الله عنه إذا كثر لأنه يفضي إلى المفسدة، وهي اتخاذ آثار الأنبياء مساجد وهي التي تسمى المشاهد، وما أحدث في الإسلام من المساجد والمشاهد على القبور والآثار فهو من البدع المحدثة في الإسلام، من فِعْل من لم يعرف شريعة الإسلام، وما بعث الله به محمدًا ﷺ من كمال التوحيد وإخلاص الدين لله وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان لبنى آدم؛ ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد وإخلاص الدين لله ومعرفة دين الإسلام هم أكثر تعظيما لمواضع الشرك، فالعارفون بسنة رسول الله ﷺ وحديثه أولى بالتوحيد وإخلاص الدين لله، وأهل الجهل بذلك أقرب إلى الشرك والبدع‏.‏
    ولهذا يوجد ذلك في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم؛ لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركًا وبدعًا، ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من غيرهم، ويخربون المساجد أكثر من غيرهم، فالمساجد لا يصلون فيها

    ج/ 17 ص -498-جمعة ولا جماعة، ولا يصلون فيها إن صلوا إلا أفرادًا، وأما المشاهد فيعظمونها أكثر من المساجد، حتى قد يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام، ويسمونها الحج الأكبر، وصنف ابن المفيد منهم كتابا سماه ‏[‏مناسك حج المشاهد‏]‏ وذكر فيه من الأكاذيب والأقوال ما لا يوجد في سائر الطوائف، وإن كان في غيرهم أيضًا نوع من الشرك والكذب والبدع؛ لكن هو فيهم أكثر، وكلما كان الرجل أتبع لمحمد ﷺ كان أعظم توحيدًا لله وإخلاصًا له في الدين، وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك، فإذا كثر بعده عنه ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه إلى اتباع الرسول‏.‏
    والله إنما أمر في كتابه وسنة رسوله بالعبادة في المساجد، والعبادة فيها هي عمارتها، قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏، ولم يقل‏:‏ مشاهد الله، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏، ولم يقل‏:‏ عند كل مشهد، فإن أهل المشاهد ليس فيهم إخلاص الدين لله، بل فيهم نوع من الشرك، وقال تعالى‏:‏ ‏"مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ‏"‏ الآيات ‏[‏التوبة‏:‏ 17، 18‏]‏،

    ج/ 17 ص -499-وفي الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان‏"‏، ثم قرأ هذه الآية‏.‏فإن المراد بعمارتها عمارتها بالعبادة فيها كالصلاة والاعتكاف، يقال‏:‏ مدينة عامرة، إذا كانت مسكونة، ومدينة خراب، إذا لم يكن فيها ساكن، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏‏.‏
    وأما نفس بناء المساجد، فيجوز أن يبنيها البر والفاجر، والمسلم والكافر، وذلك يسمى بناء كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة‏"‏، فبين الله تعالى أن المشركين ما كان لهم عمارة مساجد الله مع شهادتهم على أنفسهم بالكفر، وبين إنما يعمرها من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، وهذه صفة أهل التوحيد وإخلاص الدين لله، الذين لا يخشون إلا الله، ولا يرجون سواه، ولا يستعينون إلا به، ولا يدعون إلا إياه، وعمار المشاهد يخافون غير الله، ويرجون غيره، ويدعون غيره، وهو سبحانه لم يقل‏:‏ إنما يعمر مشاهد الله، فإن المشاهد ليست بيوت الله، إنما هي بيوت الشرك؛ ولهذا ليس في القرآن آية فيها مدح المشاهد، ولا عن النبي ﷺ في

    ج/ 17 ص -500-ذلك حديث، وإنما ذكره الله عمن كان قبلنا أنهم بنوا مسجدًا على قبر أهل الكهف، وهؤلاء من الذين نهانا الله أن نتشبه بهم حيث قال ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏"‏‏.‏
    ففي هذا الحديث ذم أهل المشاهد، وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة، كما قال‏:‏ ‏"‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏"‏، ثم أهل المشاهد كثير من مشاهدهم أو أكثرها كذب، فإن الشرك مقرون بالكذب في كتاب الله كثيرًا، قال تعالى‏:‏ ‏"وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30، 31‏]‏، وقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏عدلت شهادة الزور الإشراك بالله‏"‏ قالها ثلاثا‏.‏وذلك كالمشهد الذي بنى بالقاهرة على رأس الحسين، وهو كذب باتفاق أهل العلم، ورأس الحسين لم يحمل إلى هناك أصلًا، وأصله من عسقلان‏.‏وقد قيل‏:‏ إنه كان رأس راهب، ورأس الحسين لم يكن بعسقلان، وإنما أحدث هذا في أواخر دولة الملاحدة بنى عبيد‏.‏
    وكذلك مشهد على رضي الله عنه إنما أحدث في دولة بنى

    ج/ 17 ص -501-بويه، وقال محمد بن عبد الله مطين الحافظ وغيره‏:‏ إنما هو قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وعلى رضي الله عنه إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة، ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق، ودفن عمرو ابن العاص بقصر الإمارة بمصر، خوفًا عليهم إذا دفنوا في المقابر البارزة أن ينبشهم الخوارج المارقون، فإن الخوارج كانوا تعاهدوا على قتل الثلاثة، فقتل ابن ملجم عليا، وجرح صاحبه معاوية، وعمرو كان استخلف رجلًا اسمه خارجة فقتله الخارجى‏.‏ وقال‏:‏ أردت عمرًا وأراد الله خارجة‏.‏فسارت مثلًا‏.‏
    فالمقصود أن هذا المشهد إنما أحدث في دولة الملاحدة دولة بني عبيد، وكان فيهم من الجهل والضلال ومعاضدة الملاحدة وأهل البدع من المعتزلة والرافضة أمور كثيرة؛ ولهذا كان في زمنهم قد تضعضع الإسلام تضعضعًا كثيرًا، ودخلت النصارى إلى الشام، فإن بنى عبيد ملاحدة منافقون ليس لهم غرض في الإيمان بالله ورسوله، ولا في الجهاد في سبيل الله، بل في الكفر والشرك ومعاداة الإسلام بحسب الإمكان، وأتباعهم كلهم أهل بدع وضلال، فاستولت النصارى في دولتهم على أكثر الشام، ثم قيض الله من ملوك السنة مثل نور الدين، وصلاح الدين، وإخوته وأتباعهم ففتحوا بلاد الإسلام، وجاهدوا الكفار والمنافقين‏.‏

    ج/ 17 ص -502-ونهى النبي ﷺ عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها؛ لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها، وإن كان المسلم المصلي لا يقصد السجود لها، لكن سد الذريعة لئلا يتشبه بالمشركين في بعض الأمور التي يختصون بها فيفضى إلى ما هو شرك؛ ولهذا نهي عن تحرى الصلاة في هذين الوقتين، هذا لفظ ابن عمر الذي في الصحيحين‏.‏ فقصد الصلاة فيها منهي عنه‏.‏
    وأما إذا حدث سبب تشرع الصلاة لأجله، مثل تحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وركعتى الطواف، وإعادة الصلاة مع إمام الحي ونحو ذلك، فهذه فيها نزاع مشهور بين العلماء، والأظهر جواز ذلك واستحبابه، فإنه خير لا شر فيه، وهو يفوت إذا ترك، وإنما نهي عن قصد الصلاة وتحريها في ذلك الوقت لما فيه من مشابهة الكفار بقصد السجود ذلك الوقت، فما لا سبب له قد قصد فعله في ذلك الوقت، وإن لم يقصد الوقت، بخلاف ذي السبب فإنه فعل لأجل السبب فلا تأثير فيه للوقت بحال، ونهي النبي ﷺ عن الصلاة في المقبرة عموما فقال‏:‏ ‏
    "‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام‏"‏ رواه أهل السنن، وقد روى مسندًا ومرسلًا، وقد صحح الحفاظ أنه مسند، فإن الحمام مأوى الشياطين، والمقابر نهى عنها

    ج/ 17 ص -503-لما فيه من التشبه بالمتخذين القبور مساجد، وإن كان المصلى قد لا يقصد الصلاة لأجل فضيلة تلك البقعة، بل اتفق له ذلك‏.‏
    لكن فيه تشبه بمن يقصد ذلك، فنهي عنه كما ينهي عن الصلاة المطلقة وقت الطلوع والغروب‏.‏ وإن لم يقصد فضيلة ذلك الوقت لما فيه من التشبه بمن يقصد فضيلة ذلك الوقت وهم المشركون، فنهيه عن الصلاة في هذا الزمان، كنهيه عن الصلاة في ذلك المكان، فلما كان الشرك الذي أضل أكثر بنى آدم أصله وأعظمه من عبادة البشر والتماثيل المصورة على صورهم، فإن المشركين قد اعتادوا آلهة يلدون ويولدون، ويَرثون و يُورثون، ويكونون من شيء من الأشياء، فسألوا النبي ﷺ عن إلهه الذي يعبده‏:‏ من أي شيء هو‏؟‏ أمن كذا أم من كذا‏؟‏ وممن ورث الدنيا‏؟‏ ولمن يورثها‏؟‏ فقال تعالى‏:‏
    ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏‏.‏
    وفي حديث أبي بن كعب‏:‏ ‏
    "‏لأنه ليس أحد يولد إلا يموت، ولا أحد يرث إلا يورث‏"‏‏.‏ يقول‏:‏ كل من عُبِدَ من دون الله قد وُلِدَ مثل المسيح والعزير وغيرهما من الصالحين وتماثيلهم، ومثل الفراعنة المدعين الإلهية، فهذا مولود يموت، وهو وإن كان ورث من غيره ما هو فيه، فإذا مات ورثه غيره‏.‏ والله - سبحانه - حي لا يموت، ولا يورث سبحانه وتعالى‏.‏ والله أعلم، وصلى الله على محمد‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML