ج/ 16 ص -526- سورة الكوثر
وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله:
سورة [الكوثر]، ما أجلها من سورة! وأغزر فوائدها -على اختصارها- وحقيقة معناها تعلم من آخرها، فإنه -سبحانه وتعالى- بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحًا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يَعِي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله. ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا، ولا عونًا. ويبتره من جميع القُرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعمًا، ولا يجد لها حلاوة -وإن باشرها بظاهره- فقلبه شارد عنها. وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول ﷺ، ورده لأجل هواه، أو متبوعه، أو شيخه، أو أميره، أو كبيره. كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير مراد الله
ج/ 16 ص -527- ورسوله منها، أو حملها على ما يوافق مذهبه، ومذهب طائفته، أو تمني ألا تكون آيات الصفات أنزلت، ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله ﷺ.
ومن أقوى علامات شناءته لها، وكراهته لها، أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق اشمأز من ذلك، وحاد ونفر عن ذلك؛ لما في قلبه من البغض لها، والنفرة عنها. فأي شانئ للرسول أعظم من هذا؟ وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغنا والقصائد والدفوف والشَّبَّابات، إذا سمعوا القرآن يتلي ويقرأ في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه، فأي شنآن أعظم من هذا؟ وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب.
وكذا من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول ما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسي القرآن بعد أن حفظه، ويشتغل بقول فلان وفلان، ولكن أعظم من شنأه ورده: من كفر به وجحده وجعله أساطير الأولين وسحرًا يؤثر، فهذا أعظم وأطم انبتارًا. وكل من شنأه له نصيب من الانبتار، على قدر شناءته له. فهؤلاء لما شنؤوه وعادوه، جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديًا لهم، فبترهم منه، وخص نبيه ﷺ بضد ذلك، وهو أنه أعطاه الكوثر، وهو من الخير الكثير الذي آتاه الله في الدنيا
ج/ 16 ص -528- والآخرة، فمما أعطاه في الدنيا: الهدي والنصر والتأييد وقرة العين والنفس وشرح الصدر، ونعم قلبه بذكره وحبه بحيث لا يشبه نعيمَه نعيم في الدنيا البتة، وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخرة لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك. وجعل المؤمنين كلهم أولاده وهو أب لهم، وهذا ضد حال الأبتر الذي يشنؤه ويشنأ ما جاء به.
وقوله:"إِنَّ شَانِئَكَ" [الكوثر: 3]، أي: مبغضك. والأبتر: المقطوع النسل، الذي لا يولد له خير ولا عمل صالح، فلا يتولد عنه خير، ولا عمل صالح. قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قومًا يجلسون ويجلس إليهم، فقال: من جلس للناس، جلس الناس إليه. ولكن أهل السنة يموتون، ويحيي ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول ﷺ فكان لهم نصيب من قوله:"وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" [الشرح: 4]، وأهل البدعة شنؤوا ما جاء به الرسول ﷺ، فكان لهم نصيب من قوله: "إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ" [الكوثر: 3].
فالحذَرَ الحذر أيها الرجل، من أن تكره شيئًا مما جاء به الرسول ﷺ، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارًا لمذهبك، أو
ج/ 16 ص -529- لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق، واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يطاع، إنما يطاع تبعًا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول، ما أطيع. فاعلم ذلك واسمع، وأطع واتبع، ولا تبتدع، تكن أبتر مردودًا عليك عملك، بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع، ولا خير في عامله. والله أعلم.
وقوله تعالى: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ" [الكوثر: 1]، تدل هذه الآية على عطية كثيرة صادرة عن معطٍ كبير غني واسع. وأنه تعالى وملائكته وجنده معه. صدر الآية [ بإنَّ ] الدالة على التأكيد، وتحقيق الخبر، وجاء الفعل بلفظ الماضي الدال عن التحقيق، وأنه أمر ثابت واقع، ولا يدفعه ما فيه من الإيذان، بأن إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قُدِّرت مقادير الخلائق، قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين، وأتي بالصفة، أي: أنه سبحانه وتعالى قال:"إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"، فوصفه بالكوثر، والكوثر المعروف إنما هو نهر في الجنة، كما قد وردت به الأحاديث الصحيحة الصريحة. وقال ابن عباس: الكوثر:إنما هو من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وإذا كان أقل أهل
ج/ 16 ص -530- الجنة من له فيها مثل الدنيا عشر مرات، فما الظن بما لرسول الله ﷺ مما أعده الله له فيها؟! فالكوثر علامة وإمارة على تعدد ما أعده الله له من الخيرات، واتصالها وزيادتها، وسمو المنزلة وارتفاعها. وإن ذلك النهر وهو الكوثر أعظم أنهار الجنة وأطيبها ماء، وأعذبها وأحلاها وأعلاها.
وذلك أنه أتى فيه بلام التعريف الدالة على كمال المسمي وتمامه. كقوله: زيد العَالِم، زيد الشجاع، أي: لا أعلم منه ولا أشجع منه، وكذلك قوله: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"، دل على أنه أعطاه الخير كله كاملا موفرًا، وإن نال منه بعض أمته شيئًا، كان ذلك الذي ناله ببركة اتباعه، والاقتداء به، مع أن له ﷺ مثل أجره من غير أن ينقص من أجر المتبع له شيء ففيه الإشارة إلى أن الله تعالى يعطيه في الجنة بقدر أجور أمته. كلهم من غير أن ينتقص من أجورهم، فإنه هو السبب في هدايتهم، ونجاتهم، فينبغي -بل يجب- على العبد اتباعه والاقتداء به، وأن يمتثل ما أمره به، ويكثر من العمل الصالح صومًا وصلاة وصدقة وطهارة؛ ليكون له مثل أجره، فإنه إذا فعل المحظورات، فات الرسول مثل أجر ما فرط فيه من الخير، فإن فعل المحظور مع ترك المأمور قوي وزره، وصعبت نجاته؛ لارتكابه المحظور وتركه المأمور، وإن فعل المأمور وارتكب المحظور، دخل فيمن يشفع
ج/ 16 ص -531- فيه الرسول ﷺ، لكونه ناله مثل أجر ما فعله من المأمور، وإلى الله إياب الخلق، وعليه حسابهم، وهو أعلم بحالهم، أي: بأحوال عباده، فإن شفاعته لأهل الكبائر من أمته، والمحسن إنما أحسن بتوفيق الله له، والمسيء لا حجة له ولا عذر.
والمقصود أن الكوثر نهر في الجنة، وهو من الخير الكثير الذي أعطاه الله رسوله ﷺ في الدنيا والآخرة، وهذا غير ما يعطيه الله من الأجر الذي هو مثل أجور أمته إلى يوم القيامة، فكل من قرأ، أو علم أو عمل صالحًا، أو علم غيره، أو تصدق، أو حج، أو جاهد، أو رابط، أو تاب، أو صبر، أو توكل، أو نال مقامًا من المقامات القلبية من خشية وخوف ومعرفة وغير ذلك، فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر ذلك العامل. والله أعلم.
وقوله: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" [الكوثر: 2]، أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره، وفضله، وخلفه، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها، والذين لا ينحرون له خوفًا من الفقر، وتركًا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم؛ ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى:
ج/ 16 ص -532-"قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام: 162]،والنسك هي الذبيحة ابتغاء وجهه.
والمقصود أن الصلاة والنسك هما أجَلّ ما يتَقَربُ به إلى الله. فإنه أتي فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك -وهو الصلاة والنحر- سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر، والخير الكثير، فشكر المنعم عليه وعبادته أعظمها هاتان العبادتان، بل الصلاة نهاية العبادات، وغاية الغايات، كأنه يقول: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"، الخير الكثير، وأنعمنا عليك بذلك لأجل قيامك لنا بهاتين العبادتين، شكرًا لإنعامنا عليك، وهما السبب لإنعامنا عليك بذلك. فقم لنا بهما، فإن الصلاة والنحر محفوفان بإنعام قبلهما، وإنعام بعدهما، وأجل العبادات المالية النحر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع للعبد في الصلاة، لا يجتمع له في غيرها من سائر العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وأصحاب الهمم العالية، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص. وقد امتثل النبي ﷺ أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه كثير النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثًا وستين بُدْنة، وكان ينحر في الأعياد وغيرها.
وفي قوله: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" [الكوثر:1 ،2]، إشارة إلى
ج/ 16 ص -533-أنك لا تتأسف على شيء من الدنيا، كما ذكر ذلك في آخر[طه] و[الحجر] وغيرهما، وفيها الإشارة إلى ترك الالتفات إلى الناس، وما ينالك منهم، بل صل لربك وانحر. وفيها التعريض بحال الأبتر الشانئ، الذي صلاته ونسكه لغير الله.
وفي قوله: "إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ"، أنواع من التأكيد: أحدها: تصدير الجملة بإن. الثاني: الإتيان بضمير الفصل الدال على قوة الإسناد والاختصاص. الثالث: مجيء الخبر على أفعل التفضيل، دون اسم المفعول. الرابع: تعريفه باللام الدالة على حصول هذا الموصوف له بتمامه، وأنه أحق به من غيره، ونظير هذا في التأكيد قوله: "لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى" [طه:68].
ومن فوائدها اللطيفة: الالتفات في قوله: "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" الدالة على أن ربك مستحق لذلك، وأنت جدير بأن تعبده، وتنحر له. والله أعلم.
ج/ 16 ص -534-سُورَة الكافِرون
َقَالَ الشّيخ رَحِمَه الله:
فَصل
في سورة "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" للناس في وجه تكرير البراءة من الجانبين طرق، حيث قال: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" [الكافرون: 2 ،3]، ثم قال: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" [الكافرون: 4 ،5]، منها قولان مشهوران ذكرهما كثير من المفسرين، هل كرر الكلام للتوكيد،أو لنفي الحال والاستقبال؟
قال أبو الفرج: في تكرار الكلام قولان؛ أحدهما: إنه لتأكيد الأمر وحسم إطماعهم فيه، قاله الفراء. وقد أفعمناهذا في سورة الرحمن قال ابن قتيبة: التكرير في سورة الرحمن للتوكيد. قال: وهذه مذاهب العرب، أن التكرير للتوكيد والإفهام، كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف
ج/ 16 ص -535- والإيجاز؛ لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون، أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد. يقول القائل: والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله! إذا أراد التوكيد وحسم الإطماع من أن يفعله، كما يقول: والله أفعله؟ بإضمار [لا] إذا أراد الاختصار. ويقول للمرسل المستعجل: اعجل، اعجل! والرامي: ارم، ارم! قال الشاعر:
كم نعمة كانت لكم وكم وكم؟وقال الآخر:
هل سألت جموع كن دة يوم ولوا أين أينا؟
وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية؛ لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفًا.
قال ابن قتيبة: فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته، جعل كل كلمة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها، كقولك للرجل: ألم أنزلك منزلًا وكنت طريدًا؟ أفتنكر هذا؟ ألم أحج بك وكنت صرورًا؟ أفتنكر هذا؟.
قلت: قال ابن قتيبة: تكرار الكلام في "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"؛
ج/ 16 ص -536- لتكرار الوقت. وذلك أنهم قالوا: إن سرك أن ندخل في دينك عامًا فادخل في ديننا عامًا، فنزلت هذه السورة.
قلت: هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب، فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب، وإما في الخبر، بتكرار الكلام. ومنه قول النبي ﷺ: "والله! لأغزون قريشًا، ثم والله! لأغزون قريشًا، ثم والله! لأغزون قريشًا، ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يغزهم"
وروي عنه أنه في غزوة تبوك كان يقود به حذيفة، ويسوق به عمار، فخرج بضعة عشر رجلًا حتى صعدوا العقبة ركبانًا متلثمين، وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله ﷺ، فقال لحذيفة: "قد، قد" ولعمار: "سق، سق".
فهذا أكثر، لكن ليس في القرآن من هذا شيء. فإن القرآن له شأن اختص به، لا يشبهه كلام البشر - لا كلام نبي، ولا غيره، وإن كان نزل بلغة العرب- فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة، ولا ببعض سورة مثله.
فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط. وإنما في
ج/ 16 ص -537- سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية، لم يذكر متواليا. وهذا النمط أرفع من الأول.
وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار، كما ظنه بعضهم.
و"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، ليس فيها لفظ تكرار إلا قوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ". وهو مع الفصل بينهما بجملة.
وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه،وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها: ألم تك فقيرًا فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك عريانًا فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك خاملًا فعرفتك؟ ونحو ذلك. وهذا أقرب من التكرار المتوالي، كما في اليمين المكررة.
وكذلك ما يقوله بعضهم: إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ، كقوله:
فألفي قولها كذبًا ومينًا
فليس في القرآن من هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا، إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ" [آل عمران:159]، وقوله: "عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ" [المؤمنون: 40]، وقوله: "قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ" [الأعراف: 3]، فالمعنى مع هذا أزيد من المعنى بدونه. فزيادة اللفظ لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى. والضم أقوى
ج/ 16 ص -538- من الكسر، والكسر أقوى من الفتح؛ ولهذا يقطع على الضم لما هو أقوى مثل [الكره] و [الكَرْهُ]. فالكره هو الشيء المكروه، كقوله: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ً" [البقرة: 216]، والكره المصدر، كقوله: "طَوْعًا أَوْ كَرْهًا" [فصلت: 11]، والشئ الذي في نفسه مكروه أقوى من نفس كراهة الكاره.
وكذلك [الذِّبْح] و[الذَّبْح]، فالذِّبح: المذبوح، كقوله: "وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ" [الصافات: 107]، والذَّبح: الفعل. والذبح: مذبوح، وهو جسد يذبح، فهو أكمل من نفس الفعل.
قال أبو الفرج: والقول الثاني أن المعنى: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" في حالي هذه، "وَلَا أَنتُمْ" في حالكم هذه "عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ" في ما استقبل، وكذلك "أَنتُمْ" فنفي عنهم في الحال والاستقبال. وهذا في قوم بأعيانهم أعلمه الله أنهم لا يؤمنون، كما ذكرناه عن مقاتل. فلا يكون حينئذ تكرار. قال: وهذا قول ثعلب، والزجاج.
قلت: قد ذكر القولين جماعة، لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني. فقالوا واللفظ للبغوي: معنى الآية: لا أعبد ما تعبدون في الحال، ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال،
ج/ 16 ص -539- ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال. وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.
قال: وقال أكثر أهل المعاني: نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم. ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز.
قلت: ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني - منهم المهدوي وابن عطية. قال ابن عطية: لما كان قوله: "لَا أَعْبُدُ" محتملًا أن يراد به الآن، ويبقي المستأنف منتظرًا ما يكون فيه من عبادته، جاء البيان بقوله: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ"، أي: أبدًا ما حييت. ثم جاء قوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"، الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا، كالذين كشف الغيب عنهم، كما قيل لنوح: "أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ" [هود: 36]، أما إن هذا فخطاب لمعينين، وقوم نوح قد عموا بذلك.
قال: فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة. وليس هو بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، مع الإبلاغ والتوكيد، وزيادة الأمر بيانًا وتبريا منهم.
قلت:هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى
ج/ 16 ص -540- زائد على التكرير.لكن فيه نقص من جهة أخري.وهو جعلهم هذا خطابًا لمعينين،فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه.
وهذا غلط، فإن قوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، خطاب لكل كافر، وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين، ويأمر بها ويقول: هي براءة من الشرك. فلو كانت خطابًا لأولئك المعينين، أو لمن علم منهم أنه يموت كافرًا، لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه.
وأيضًا، فأولئك المعينون إن صح أنه إنما خاطبهم فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر.
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين، قول لم يقله من يعتمد عليه. ولكن قد قال مقاتل ابن سليمان: إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين. ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد. ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث، كنقل الكلبي.
ولهذا كان المصنفون في التفسير من أهل النقل لا يذكرون عن واحد منهما شيئًا، كمحمد بن جرير، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، فضلًا عن مثل أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
وقد ذكر غيره هذا عن قريش مطلقًا، كما رواه عبد بن حُمَيْد،
ج/ 16 ص -541- عن وهْب بن مُنبِّه قال: قالت قريش للنبي ﷺ: إن سرك أن ندخل في دينك عامًا وتدخل في ديننا عامًا، فنزلت: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" حتى ختمها. وعن ابن عباس، قالت قريش:
يا محمد، لو استلمت آلهتنا، لعبدنا إلهك، فنزلت السورة. وعن قتادة قال: أمره الله أن ينادي الكفار فنادهم بقوله: "يَا أَيُّهَا"
وروي ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه، قال: كفار قريش، فذكره، وقال عكرمة: برأه الله بهذه السورة من عبدة جميع الأوثان ودين جميع الكفار،وقال قتادة: أمر الله نبيه أن يتبرأ من المشركين فتبرأ منهم.
وروي قتادة عن زُرَارَة بن أوفي: كانت تسمى: [المقشقشة]. يقال: قشقش فلان، إذا برئ من مرضه، فهي تبرئ صاحبها من الشرك.
وبهذا نعتها النبي ﷺ في الحديث المعروف في المسند والترمذي من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل عن أبيه، عن النبي ﷺ قال له: "مجيء ما جاء بك؟". قال: جئت، يا رسول الله؛ لتعلمني شيئًا أقوله عند منامي. قال: "إذا أخذت مضجعك فاقرأ: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، ثم نم على
ج/ 16 ص -542- خاتمتها، فإنها براءة من الشرك".
رواه غير واحد عن أبي إسحاق، وكان تارة يسنده، وتارة يرسله رواه عنه زهير، وإسرائيل مسندًا. ورواه عنه شعبة ولم يذكر عن أبيه وقال: [عن أبي إسحاق، عن رجل، عن فروة بن نوفل ]، ولم يقل [عن أبيه]. قال الترمذي: وحديث زهير أشبه وأصح من حديث شعبة. قال: وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، فرواه عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه،عن النبي ﷺ وعبد الرحمن بن نوفل هو أخو فروة بن نوفل.
قلت: وقد رواه عن أبي إسحاق، إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاء رجل من أشجع إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، علمني كلاما أقوله عند منامي. قال: "إنك لنا ظِئْر، اقرأ:"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" عند منامك، فإنها براءة من الشرك".
فقد أمر رسول الله ﷺ واحدًا من المسلمين أن يقرأها، وأخبره أنها براءة من الشرك. فلو كان الخطاب لمن يموت على الشرك، كانت براءة من دين أولئك فقط، لم تكن براءة من الشرك الذي يسلم صاحبه فيما بعد. ومعلوم أن المقصود منها أن تكون براءة من كل شرك اعتقادي وعملي.
ج/ 16 ص -543- وقوله: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"، خطاب لكل كافر وإن أسلم فيما بعد. فدينه قبل الإسلام له كان، والمؤمنون بريئون منه، وإن غفره الله له بالتوبة منه، كما قال لنبيه: "فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ" [الشعراء: 216]، فإنه بريء من معاصي أصحابه، وإن تابوا منها. وهذا كقوله: "وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ" [يونس:41].
وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبي ثنا محمد بن موسي الجُرْشي، ثنا أبو خلف عبد الله ابن عيسي، ثنا داود بن أبي هند، عن عَكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن قريشًا دعوا رسول الله ﷺ إلى أن يعطوه مالا فيكون أغني رجل فيهم، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطؤوا عقبه أي يسودوه فقالوا: هذا لك عندنا. يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض علي خصلة واحدة، وهي لك ولنا فيها صلاح. قال: "ما هي؟". قالوا: تعبد آلهتنا سنة اللات والعزي ونعبد إلهك سنة. قال: "حتى أنظر ما يأتيني من ربي". فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، إلى آخرها، وأنزل الله عليه: "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ"[الزمر:64 ،66].
ج/ 16 ص -544- وقوله: "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ"، خطاب لكل من عبد غير الله وإن كان قد قدر له أن يتوب فيما بعد. وكذلك كل مؤمن يخاطب بهذا من عَبَدَ غير الله.
وقوله في هذا الحديث: "حتى أنظر ما يأتيني من ربي"، قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك، فيؤخر الجواب حتى يستأمره، وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه.
وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول: حتى أشاور أمها، وهو يريد ألا يزوجها بذلك، ويعلم أن أمها لا تشير به. وكذلك قد يقول النائب: حتى أشاور السلطان.
فليس في مثل هذا الجواب تردد ولا تجويز منه أن الله يبيح له ذلك.
وقد كان جماعة من قريش من الذين يأمرونه وأصحابه أن يعبدوا غير الله، ويقاتلونهم، ويعادونهم عداوة عظيمة على ذلك، ثم تابوا وأسلموا وقرؤوا هذه السورة.
ومن النقلة من يعين ناسا غير الذين عينهم غيره. منهم من يذكر أبا جهل وطائفة، ومنهم من يذكر عتبة بن ربيعة وطائفة، ومنهم من
ج/ 16 ص -545- يذكر الوليد بن المغيرة وطائفة. ومنهم من يقول: طلبوا أن يعبدوا الله معه عامًا ويعبد آلهتهم معهم عامًا. ومنهم من يقول: طلبوا أن يستلم آلهتهم.
ومنهم من يقول: طلبوا الاشتراك، كما روي ابن أبي حاتم وغيره عن ابن إسحاق قال: حدثني سعيد بن مِيْنَاء مولى أبي البَخْتَرِي قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، رسول الله ﷺ،فقالوا: هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله. فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. فأنزل الله السورة.
وهذا منقول عن عبيد بن عمير، وفيه أن القائل له عتبة، وأمية.
فهذه الروايات متطابقة على معنى واحد، وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم، ويدخلوا في شيء من دينه، ثم إن كانت كلها صحيحة، فقد طلب منه تارة هذا وتارة هذا، وقوم هذا وقوم هذا.
وعلى كل تقدير، فالخطاب للمشركين، كلهم من مضي، ومن يأتي إلى يوم القيامة.
ج/ 16 ص -546- وقد أمره الله بالبراءة من كل معبود سواه. وهذه ملة إبراهيم الخليل، وهو مبعوث بملته. قال الله تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ" [الزخرف: 26 ،28].
وقال الخليل أيضًا: "يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [الأنعام: 78 ،79]، وقال: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" [الممتحنة: 4].
وقال لنبيه: "وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ" [يونس: 41]. فقد أمره الله أن يتبرأ من عمل كل من كذبه، وتبريه هذا يتناول المشركين وأهل الكتاب.
وقد ذكر المَهْدَوي هذا القول، وذكر معه قولين أخرىن. فقال: الألف واللام ترجع إلى معهود وإن كانت للجنس حيث كانت صفة؛ لأن لامها مُخَاطِبة لمن سبق في علم الله أن يموت كافرًا. فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم.
وتكرير ما كرر فيها، ليس بتكرير في المعنى، ولا في اللفظ، سوى
ج/ 16 ص -547- موضع واحد منها. فإنه تكرير في اللفظ دون المعنى. بل معنى "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ": في الحال. "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ": في الحال. "وّلا أّنّا عّابٌدِ مَّا عّبّدتٍَمً": في الاستقبال. "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ": في الاستقبال.
قال: فقد اختلف اللفظ، والمعنى في قوله:"لَا أَعْبُدُ"، وما بعده، "وَلَا أَنَا". وتكرر "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" في اللفظ دون المعنى.
قال: وقيل إن معنى الأول: ولا أنتم عابدون ما عبدت، ومعنى الثاني: ولا أنتم عابدون ما أعبد. فعدل عن لفظ [عبدتُ] للإشعار بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل قد يقع أحدهما موقع الآخر. وأكثر ما يأتي ذلك في إخبار الله تعالى.
ويجوز أن تكون [ما] والفعل مصدرًا، وقيل: إن معنى الآيات وتقديرها: قل يأيها الكافرون، لا أعبد الأصنام، التي تعبدون، ولا أنتم عابدون الذي أعبده، لإشراككم به واتخاذكم معه الأصنام. فإن زعمتم أنكم تعبدونه،فأنتم كاذبون، لأنكم تعبدونه مشركين به. فأنا لا أعبد ما عبدتم،أي مثل عبادتكم.فهو في الثاني مصدر. وكذلك: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" هو في الثاني مصدر أيضًا معناه ولا أنتم عابدون مثل عبادتي التي هي توحيد.
ج/ 16 ص -548- قلت: القول الثالث هو في معنى الثاني، لكن جعل قوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" معنيين؛ أحدهما: بمعنى [ما عبدت]، والآخر: بمعنى [ما أعبد] ليطابق قوله لهم: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ"، "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ". فلما تبرأ من أن يعبد في الحال والاستقبال ما يعبدونه في الماضي والحال، كذلك برأهم من عبادة ما يعبد في الحال والاستقبال. لكن العبارة عنهم وقعت بلفظ الماضي. قال هؤلاء: وإنما لم يقل في حقه: [ما عبدت]، للإشعار بأن ما أعبده في الماضي هو الذي أعبده في المستقبل.
قلت: أصحاب هذا القول أرادوا المطابقة كما تقدم.
لكن إذا أريد بقوله: "مَّا عَبَدتُّمْ" ما أريد بقوله: "مَا أَعْبُدُ" في أحد الموضعين الماضي كان التقدير على ما ذكروه: لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم في الماضي. فيكون قد نفي عن نفسه في المستقبل عبادة ما عبدوه في الماضي دون ما يعبدونه في المستقبل.
وكذلك إذا قيل: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"، أي: في الماضي. فسواء أريد بما يعبدون الحال أو الاستقبال إنما نفي عبادة ما عبدوه في الماضي. وهذا أنقص لمعنى الآية. وكيف يتبرأ في المستقبل من عبادة ما عبدوه في الماضي فقط؟ وكذلك هم؟.
ج/ 16 ص -549- وإن قيل: في المستقبل قد يعبدون الله بالانتقال عن الكفر، فهو في الحال والاستقبال لا يعبد ما عبدوه، قيل: فعلى هذا، لا يقال لهؤلاء! ولا أنتم عابدون في المستقبل ما عبدت في الماضي، بل قد يعبدون في المستقبل إذا انتقلوا ربه الذي عبده فيما مضي.
وإن قيل: قول هؤلاء هو القول الثاني لا أعبد في الحال ما تعبدون في الحال، ولا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل قيل: ولفظ الآية "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ"، ليس لفظها [ولا أنا عابد ما تعبدون]. فقوله: "مَّا عَبَدتُّمْ"، إن أريد به الماضي الذي أراده هؤلاء، فسد المعنى. وإن أريد به المستقبل، بطل ما ذكروه من أن المضارع بمعنى الماضي في قوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"، فإن الماضي هنا بمعنى المضارع. فإذا كان المضارع مطابقًا له بقي مضارعًا لم ينقل إلى الماضي فيكون عكس المقصود.
والقول الرابع الذي ذكره قول من جعل [ما] مصدرية في الجملةالثانية دون الأخرى. وهذا أيضًا ليس في الكلام ما يدل على الفرق بينهما. وإذا جعلت في الجمل كلها مصدرية كان أقرب إلى الصواب مع أن هذا المعنى الذي تدل عليه [ما] المصدرية حاصل بقوله [ما]. فإنه لم يقل: [ولا أنتم عابدون من أعبد]، بل قال: "مَا أَعْبُدُ"
ج/ 16 ص -550- ولفظ [ما] يدل على الصفة بخلاف [من]. فإنه يدل على العين، كقوله:"فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء" [النساء: 3]، أي: الطيب، "وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا" [الشمس: 5]، أي: وبانيها. ونظيره قوله: "إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ" [البقرة:133]، ولم يقل: [من تعبدون من بعدي].
وهذا نظير قوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" سواء. فالمعنى: لا أعبد معبودكم، ولا أنتم عابدون معبودي.
فقوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"، يتناول شركهم، فإنه ليس بعبادة الله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، فإذا أشركوا به لم يكونوا عابدين له وإن دعوه وصلوا له.
وأيضًا، فما عبدوا ما يعبده، وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص. بل هذا يتناول عبادته وحده، ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات. فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه. وأيضًا، فالشرائع قد تتنوع في العبادات، فيكون المعبود واحدًا وإن لم تكن العبادة مثل العبادة. وهؤلاء لا يتبرأ منهم. فكل من عبد الله
ج/ 16 ص -551- مخلصًا له الدين فهو مسلم في كل وقت، ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه. فلو قال: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي، فقد يظن أنه تدخل فيه البراءة من كل عبادة تخالف صورتها صورة عبادته. وإنما البراءة من المعبود وعبادته.
فَصْل
إذا تبين هذا فنقول: القرآن تنزيل من حكيم حميد، وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت.
ولو أن رجلًا من بني آدم له علم، أو حكمة، أو خطبة، أو قصيدة، أو مصنف، فهذب ألفاظ ذلك وأتي فيه بمثل هذا التغاير، لعلم أنه قصد في ذلك حكمة، وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدي. فكيف بكلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين؟ لا سيما وقد قال فيه: "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" [الإسراء: 88].
فنقول: الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي، فيعم الحاضر والمستقبل، كما قال سِيبَويه: وبنوه لِمَا مضي من
ج/ 16 ص -552- الزمان، ولما هو دائم لم ينقطع، ولما لم يأت بمعنى الماضي، والمضارع وفعل الأمر. فجعل المضارع لما هو من الزمان دائمًا لم ينقطع، وقد يتناول الحاضر والمستقبل.
فقوله: "لَا أَعْبُدُ"، يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل. وقوله: "مَا تَعْبُدُونَ"، يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل. كلاهما مضارع.
وقال في الجملة الثانية عن نفسه: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ". فلم يقل: [لا أعبد]، بل قال:"وَلَا أَنَا عَابِدٌ"، ولم يقل: [ما تعبدون]، بل قال: "مَّا عَبَدتُّمْ". فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأول.والنفي بهذه الجملة الثانية، أعم من النفي بالأولي. فإنه قال: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ" بصيغة الماضي. فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي؛ لأن المشركين يعبدون آلهة شتي. وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى.
فقوله: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ"، براءة من كل ما عبدوه في الأزمنة
ج/ 16 ص -553- الماضية، كما تبرأ أولا مما عبدوه في الحال والاستقبال. فتضمنت الجملتان البراءة من كل ما يعبده المشركون والكافرون في كل زمان ماض، وحاضر، ومستقبل. وقوله أولا: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ"، لا يتناول هذا كل.
وقوله: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ"، اسم فاعل قد عمل عمل الفعل، ليس مضافًا، فهو يتناول الحال والاستقبال أيضًا لكنه جملة اسمية، والنفي بما بعد الفعل فيه زيادة معنى، كما تقول: ما أفعل هذا، ما أنا بفاعله.
وقولك: [ما هو بفاعل هذا أبدًا] أبلغ من قولك: [ما يفعله أبدًا]. فإنه نفي عن الذات صدور هذا الفعل عنها، بخلاف قولك: [ما يفعل هذا]، فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه. ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له، بخلاف قوله: [ما هو فاعلا، وما هو بفاعل]، كما في قوله: "فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ" [النحل: 71]. وقوله: "مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ" [إبراهيم: 22]، وقوله: "وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" [البقرة: 85]، "وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ" [النمل: 81]، "وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ" [فاطر: 22]، "وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ" [البقرة:102]
ولا يقال: الجملة الاسمية ترك الثبوت، ونفي ذلك لا يقتضي نفي
ج/ 16 ص -554- العارض. فإن هذه الجملة في معنى الفعلية نفي؛لكونها عملت عمل الفعل.لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا، فنفت عن الذت أن يعرض لها هذا الفعل تنزيهًا للذات، ونفيًا لقبولها لذلك. فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل، والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل.
فقوله: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ" [الكافرون: 4]، أي: نفسي لا تقبل ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط. ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط. فأي معبود عبدتموه في وقت، فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات.
ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل، ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان، ما ليس في الجملة الأولى. تلك تضمنت نفي الفعل في الزمان غير الماضي، وهذه تضمنت نفي إمكانه وقبوله لما كان معبودًا لهم ولو في بعض الزمان الماضي فقط. والتقدير: ما عبدتموه ولو في بعض الأزمان الماضية فأنا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدًا.
ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل؛ لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال. وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها.
ج/ 16 ص -555- فهو يتبرأ في الحاضر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان، وينفي جواز عبادته لمعبودهم،ويبين أن مثل هذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ. فهو ينفي جوازه شرعًا ووقوعًا. فإن مثل هذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال، كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقال: [أنا أفعل هذا؟ ما أنا بفاعل هذا أبدًا]. فهو أبلغ من قوله: [لا أفعله أبدًا]. وهذا كقوله: "وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ" [البقرة: 145].
فهو يتضمن نفي الفعل بغضًا فيه وكراهة له بخلاف قوله: [لا أفعل]. فقد يتركه الإنسان وهو يحبه لغرض آخر. فإذا قال: [ما أنا عابد ما عبدتم]، دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه. وهذه هي البراءة.
ولهذا تستعمل في ضد الولاية فيقال: تول فلانًا، وتبرأ من فلان. كما قال تعالى: "إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ" الآية [الممتحنة: 4].
وأما قوله عن الكفار: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"،فهو خطاب لجنس الكفار0وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارًا.فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك.فإنهم حينئذ مؤمنون، لا كافرون،
ج/ 16 ص -556- وإن كانوا منافقين، فهم كافرون في الباطن، فيتناولهم الخطاب.
وهذا كما يقال: قل يا أيها المحاربون، والمخاصمون، والمقاتلون، والمعادون. فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة.
وما دام الكافر كافرًا، فإنه لا يعبد الله، وإنما يعبد الشيطان، سواء كان متظاهرًا، أو غير متظاهر به كاليهود.
فإن اليهود لا يعبدون الله، وإنما يعبدون الشيطان؛ لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر. وهم وإن زعموا أنهم يعبدونه فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها، فليست عبادة.
فكل كافر بمحمد، لا يعبد ما يعبده محمد ما دام كافرًا. والفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع. فهو ما دام كافرًا، لا يعبد معبود محمد ﷺ، لا في الحاضر، ولا في المستقبل.
ولم يقل عنهم: [ولا تعبدون ما أعبد]، بل ذكر الجملة الاسمية ليبين أن نفس نفوسكم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله محمد، لا يمكن أن تعبده ما دامت كافرة؛ إذ لا تكون عابدته إلا بأن تعبده
ج/ 16 ص -557- وحده بما أمر به على لسان محمد. ومن كان كافرًا بمحمد، لا يكون عمله عبادة الله قط.
وتبرئتهم من عبادة الله، جاءت بلفظ واحد، بجملة اسمية تقتضي براءة ذواتهم من عبادة الله، لم تقتصر على نفي الفعل.
ولم يحتج أن يقول فيهم: [ولا أنتم عابدون ما عبدت]، كما قال في نفسه: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ"لوجهين:
أحدهما: أن كل مؤمن فهو مأمور بقراءة هذه السورة، ومنهم من كان معبوده غير الله. فلو قال: [ولا أنتم عابدون ما عبدت]، لقالوا: بل نحن نعبد ما كنت تعبد لما كنت مشركًا، بخلاف ما إذا قال: [ولا أنتم عابدون ما أعبده في هذا الوقت]. ولم يقل: [ما أنا عابد له] إذ نفسه قد لا تكون عابدة له مطلقًا. وقد يجوز أن يعبد الواحد من الناس غير الله في المستقبل، فلا يكون من لم يعبد ما يعبده في المستقبل مذمومًا، بخلاف المؤمن الذي يخاطب بهذه السورة غيره، فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله. فهو يقول للكفار: [ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن]. وذكر النفي عن الكفار في الجملتين لتقارب كل جملة جملة. فلما قال: "لا أّعبد ما تعبدون" فنفي الفعل، قال: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ".
ج/ 16 ص -558- ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه، ونفي أن يعبد شيئًا مما عبدوه ولو في بعض الزمان قال: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"، بل أنتم بريؤون من عبادة ما أعبده.فليس لبراءتي، وكمال براءتي، وبُعْدِي من معبودكم، وكمال قربي إلى الله في عبادتي له وحده لا شريك له، يكون لكم نصيب من هذه العبادة. بل أنتم أيضًا في هذه الحال لا تعبدون ما أعبد لا في الحال الأولى، ولا في الثانية.
ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولي، لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية. فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولي الخاصة، وحين البراءة الثانية العامة القاطعة.
وهم لم يختلف حالهم في الحالين، بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد. فلم يكن في تغيير العبارة فائدة، وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنىين.
والإنسان يقوي يقينه، وإخلاصه، وتوحيده، وبراءته من الشرك وأهله، وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم، فرفع درجته في ذلك. وهو في ذلك يقول للكفار: [لا تعبدون ما أعبد] في هذه الحال سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له أو لم يزد.
ج/ 16 ص -559- فالمقصود بالسورة: أن المؤمن يتبرأ منهم، ويخبرهم أنهم برآء منه، وتبريه منهم إنشاء ينشئه، كما ينشئ المتكلم بالشهادتين. وهذا يزيد وينقص. ويقوي ويضعف.
وأما هم، فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال، لا ينشئ شيئًا لم يكن فيهم. فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم، والخبر مطابق للمخبر عنه، فلم يتغير لفظ خبره عنهم، إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته الله لا يعبدون ما يعبد. فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات زادوا أو نقصوا.
ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم، فإن ذلك محرم. بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان. وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به. فلم يكن في الإخبار عن حالهم زيادة فيما هم عليه ولا نقص. فلم يغير لفظ الخبر في الحالين بلفظ واحد. وأما المؤمن نفسه فهو مأمور بأن ينشئ قوة الإخلاص الله وحده، وعبادته وحده، والبراءة من كل معبود سواه وعبادته، وبراءته منه ومن عابديه. وقوله: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ"، وإن كان لفظها خبرًا، ففيها معنى الإنشاء، كسائر ألفاظ الإنشاءات، كقوله: [أشهد أن لا إله إلا الله]، وقوله: "إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي" [الزخرف:26 ،27]، وقوله: "إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ" [الأنعام: 78]، فكل هذه الأقوال فيها معنى الإنشاء لما ينشئه المؤمن في
ج/ 16 ص -560- نفسه من زيادة البراءة من الشرك وهي المقَشْقِشَة التي تُقَشْقِشُ من الشرك، كما يُقَشْقَشُ المريض من المرض. فإن الشرك والكفر أعظم أمراض القلوب. فأمر المؤمن بقول يوجب في قلبه من البراءة من الشرك ما لم يكن في قلبه قبل ذلك. وكلما قاله ازداد براءة من الشرك، وقلبه شفاء من المرض، وإن كان الكَفَرة المخاطبون لا يزدادون بالإخبار عنهم إلا كفرًا. فالجمل الخبرية تطابق المخبر عنه، والإنشاء يوجب إحداث ما لم يكن. فقيل: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" [الكافرون:1 ،2]، أي: أنا ممتنع من هذا، تارك له، ثم قال: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ" [الكافرون: 4] أي: أنا بريء من هذا متنزه عنه. مزكٍ لنفسي منه. فإن الشرك أعظم ما تنجس به النفس، وأعظم تزكية النفس وتطهيرها، تزكيتها منه وتطهيرها منه. فما أنا عابد قط ما عبدتم في وقت من الأوقات.
وأنتم مع ذلك ما أنتم عابدون ما أعبد، بل أنتم بريؤون مما أعبد. وأنا بريء مما تعبدون، مأمور بالبراءة منه، وطالب زيادة البراءة منه، ومجتهد في ذلك.
وأنا أخبر عنكم بأنكم بريؤون مما أعبد، إما لكونكم تأمرون بذلك، وإما لكونكم تعبدونه، فلا أخبر به، فإنه كذب. وإما لكونكم تجتهدون في البراءة وتبالغون فيها، فبها تختلف فيه أحوالكم.
ج/ 16 ص -561- وأنا لا يسوغ لي أن أذكر ما يزيل براءتكم، ولا أكذب عليكم، فإنكم تنقصون منها إذا تبرأت، بل التبري منها داع وباعث لمن له عقل أن ينظر في سبب هذه البراءة، لا سيما في حق الرسول الذي خوطب أولًا بقوله: "قُلْ" فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه، واختياري به عداوتكم، والصبر على أذاكم. واحتمالي هذه المكاره العظيمة. بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم، وتصفوني بالأمانة، وتسموني [الأمين] وتفضلوني على غيري، ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان، وأني لا أختار لأحد منكم سوءًا، ولا أريد أن أصيب أحدًا بِشَرٍّ. فاختياري للبراءة مما تعبدون، وإظهاري لسبهم وشتمهم، أهو سُدي ليس له موجب أوجبه؟ فانظروا في ذلك. ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته، مع ما فيها من كمال البراءة منهم. ومعانيها كثيرة شريفة يطول وصفها.
وقوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، يتناول كل كافر. فهو لا يعبد ما يعبده أحد من الكفار، ولا مشركي العرب، ولا غيرهم من المشركين
ج/ 16 ص -562- والكفار أهل الكتاب لا اليهود ولا النصارى، ولا غيرهم من أصناف الكفار وذلك أنه قال: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ". فذكر لفظ [ما]، ولم يقل: [من تعبدون]. و[ما] تدل على الصفة كما تقدم وما ذكره المهدوي وغيره من أنه قال: "مَا أَعْبُدُ" ولم يقل: [من أعبد] يقابل به "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ" الذي يراد به الأصنام، فضعيف جدًا يغيِّر اللغة ويخص عموم القرآن وهو عموم مقصود ويزيل المعنى الذي به تعلقت هذه البراءة.
فإن [ما] في اللغة إما لما لا يعلم، ولصفات ما يعلم، كما في قوله: "فَانكِحُواْ مَا طَابَ" [النساء: 3] "وَمَا سَوَّاهَا" [الشمس: 7]، "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى" [الليل: 3]، وفي التسيبح المأثور أنه يقال عند سماع الرعد: [سبحان ما سبحت له] ومثله كثير. فقوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"، جار على أصل اللغة.
وأيضًا، فقوله: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ"، خطاب للكفار مطلقًا، فهو لا يعبد الملائكة، ولا غير ذلك مما عبد من دون الله وإن كان ما عبد أهل العلم والعقل فَعَبَّر عن ذواتهم ب[من] فتخصيص البراءة من الشرك بشرك مشركي العرب غلط عظيم، وإنما هي براءة من كل شرك.
وكون الرب يتصف بما تتصف به الأصنام من عدم العلم ما لا
ج/ 16 ص -563- يجوز عليه، ولا تصح المقابلة في مثل ذلك، بل المقصود ذكر الصفات والإخبار بمعبود الرسول والمؤمنين ليتبرأ من معبدوهم ويبرئهم من معبوده.
وإذا قال اليهود: نحن نقصد عبادة الله، كانوا كاذبين، سواء عرفوا أنهم كاذبون أو لم يعرفوا، كما يقول النصارى: إنا نعبد الله وحده وما نحن بمشركين، وهم كاذبون؛ لأنهم لو أرادوا عبادته لعبدوه بما أمر به، وهو الشرع، لا بالمنسوخ المبدل.
وأيضًا، فالرب الذي يزعمون أنهم يقصدون عبادته، هو عندهم رب لم ينزل الإنجيل ولا القرآن، ولا أرسل المسيح ولا محمدًا. بل هو عند بعضهم فقير، وعند بعضهم بخيل، وعند بعضهم عاجز، وعند بعضهم لا يقدر أن يغير ما شرعه. وعند جميعهم أنه أيد الكاذبين المفترين عليه، الذين يزعمون أنهم رسله وليسوا رسله، بل هم كاذبون سحرة. قد أيدهم ونصرهم، ونصر أتباعهم على أوليائه المؤمنين؛ لأنهم عند أنفسهم أولياؤه دون الناس. فالرب الذي يعبدونه هو دائمًا ينصر أعداءه.
فهم يعبدون هذا الرب، والرسول والمؤمنون لا يعبدون هذا المعبود الذي تعبده اليهود. فهو منزه عما وصفت به اليهود معبودها
ج/ 16 ص -564- من جهة كونه معبودًا لهم منزه عن هذه الإضافة. فليس هو معبودًا لليهود، وإنما في جبلاتهم صفات ليست هي صفاته زينها لهم الشيطان. فهم يقصدون عبادة المتصف بتلك الصفات، وإنما هو الشيطان.
فالرسول والمؤمنون لا يعبدون شيئًا تعبده اليهود وإن كانوا يعبدون من يعبدونه، وهذا مما يظهر به فائدة ما ذكرنا.
وعلى هذا فقوله: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"، خطاب لجميع الكفار كما دلت عليه الآية. وبهذا يظهر خطأ من قال: إنه خطاب للمشركين والنصارى دون اليهود، كما في قول ابن زيد: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"، قال: للمشركين والنصارى، واليهود، لا يعبدون إلا الله، ولا يشركون، إلا أنهم يكفرون ببعض الأنبياء بما جاؤوا به من عند الله، ويكفرون برسول الله ﷺ وبما جاء به، وقتلوا طوائف الأنبياء ظلمًا وعدوانًا. قال: إلا العصابة التي تقول حيث خرج بُخْت نَصَّر، وقيل: من سموا عزيرًا [ابن الله] ولم يعبدوه. ولم يفعلوا كما فعلت النصارى قالت: المسيح ابن الله، وعبدته.
فهذا الذي ذكره من أن اليهود لا تشرك كما أشركت العرب والنصارى صحيح، لكنهم مع هذا لا يعبدون الله، بل يستكبرون عن عبادته، ويعبدون الشيطان، لا يعبدون الله. ومن قال: إن اليهود
ج/ 16 ص -565- تعبد الله فقد غلط غلطًا قبيحًا. فكل من عبد الله، كان سعيدًا من أهل الجنة، وكان من عباد الله الصالحين. قال تعالى: "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ" [يس:60 ،61]
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قومًا هم أهل كتاب، فأول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" وفي رواية: "فادعهم إلى عبادة الله فإذا عرفوا الله فأعلمهم..."
فلا يعبد إلا الله بعد أن أرسل محمدًا وعرفت رسالته وبلغت؛ ولهذا اتفق العلماء على أن أعمالهم حابطة. ولو عبدوا الله لم تحبط أعمالهم. فإن الله لا يظلم أحدًا.
وقبل إرسال محمد، إنما كان يعبد الله من عبده بما أمر به. فأما من ترك عبادته بما أمر به واتبع هواه، فهو لا يعبد الله، إنما يعبد الشيطان، ويعبد الطاغوت. وقد أخبر الله عن اليهود بأنهم عبدوا الطاغوت، وأنه لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
وهو اسم جنس يدخل فيه الشيطان، والوثن، والكهان،
ج/ 16 ص -566- والدرهم، والدينار، وغير ذلك. وقال تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ" [النساء: 51]، وقال: "نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ" الآية [البقرة: 101 ،102].
وهم أشد عداوة للمؤمنين من النصارى، وكفرهم أغلظ،وهم مغضوب عليهم. ولهذا قيل:إنهم تحت النصارى في النار. واليهود إن لم يعبدوا المسيح، فقد افتروا عليه وعلى أمه بما هو أعظم من كفر النصارى. ولهذا جعل الله النصارى فوقهم إلى يوم القيامة.
فالنصارى مشركون يعبدون الله ويشركون به. وأما اليهود فلا يعبدون الله، بل هم معطلون لعبادته، مستكبرون عنها كلما جاءهم رسول بما لا تهوي أنفسهم استكبروا ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون. بل هم متبعون أهواءهم، عابدون للشيطان.
فالنبي والمؤمنون لا يعبدون ما تعبده اليهود. وهم وإن وصفوا الله ببعض ما يستحقه فهم يصفونه بما هو منزه عنه. وليس في قلوبهم عبادة له وحده. فإن ذلك لا يكون إلا لمن عبده بما أمره به.
والسورة لم يقل فيها: [يا أيها المشركون] حتى يقال فيها: إنها
ج/ 16 ص -567- إنما تناولت من أشرك. بل قال: "يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، فتناولت كل كافر، سواء كان ممن يظهر الشرك، أو كان فيه تعطيل لما يستحقه الله واستكبار عن عبادته. والتعطيل شر من الشرك، وكل معطل فلابد أن يكون مشركًا.
والنصارى مع شركهم لهم عبادات كثيرة، واليهود من أقل الأمم عبادة وأبعدهم عن العبادة الله وحده. لكن قد يعرفون مالا تعرفه النصارى، لكن بلا عبادة وعمل بالعلم. فهم مغضوب عليهم، وأولئك ضالون. وكلاهما قد برأ الله منهم رسوله والمؤمنين.
وفي هذه الأمة من يعرف ما لا تعرفه اليهود والنصارى بلا عمل بالعلم، ففيهم شبه، كما قال سُفيان بن عُيَيْنة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. بل قد قال أبو هريرة: ما أقرب الليلة من البارحة، أنتم أشبه الناس ببني إسرائيل. بل في الحديث الصحيح: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه". قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" وفي رواية: فارس والروم؟ قال: "ومَنِ الناس إلا أولئك؟".
وقال: "افترقت اليهود على إحدي وسبعين فرقة، وافترقت
ج/ 16 ص -568- النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة".
وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن فيه حال الفرقة الناجية الذين هم على مثل ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه.
ومما يوضح ما تقدم أن قوله: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" [الكافرون:2 ،3]، معناه المعبود. ولكن هو لفظ مطلق يتناول الواحد والكثير، والمذكر والمؤنث. فهو يتناول كل معبود لهم.
والمعبود هو الإله، فكأنه قال:لا أعبد إلهكم، ولا تعبدون إلهي،كما ذكر الله في قصة يعقوب.قال تعالى:"أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" [البقرة: 133]، واسم الإله والمعبود يتضمن إضافة إلى العابد. وقال:"إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ"، هو الذي يعبده هؤلاء صلوات الله وسلامه عليهم ويألهونه.
وإنما يعبده من كان على ملتهم، كما قال يوسف:
ج/ 16 ص -569-"إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ" إلى قوله : "ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" [يوسف: 37 ،40]. فتبين أن ملة آبائه هي عبادة الله، وهي ملة إبراهيم. وقد قال تعالى: "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ" إلى قوله : "فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" [البقرة: 130 ،132].
وإذا كان كذلك، فاليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم، وإذا لم يكونوا على ملته، لم يكونوا يعبدون إله إبراهيم. فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملته، قال تعالى: "وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" إلى قوله : "وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [البقرة: 135 ،137]، فقوله: "قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيم"، يبين أن ما عليه اليهود والنصارى ينافي ملة إبراهيم.
وهذا بعد مبعث محمد مما لا ريب فيه، فإنه هو الذي بعث بملة إبراهيم. والطائفتان كانتا خارجتين عنها بما وقع منهم من التبديل. قال تعالى: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ" [آل عمران: 68]، وقال: "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ّ" الآية [الأنعام: 161].
وقال: "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا" [النحل: 123].
وقوله: "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ"، يبين
ج/ 16 ص -570- أن كل من رغب عنها فقد سفه نفسه. وفيه من جهة الإعراب والمعنى قولان:
أحدهما وهو قول الفراء وغيره من نحاة الكوفة واختيار ابن قتيبة وغيره، وهو معنى قول أكثر السلف : أن النفس هي التي سفهت. فإن [سفه] فعل لازم لا يتعدي، لكن المعنى: إلا من كان سفيهًا فجعل الفعل له ونصب النفس على التمييز لا النكرة، كقوله: "وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا" [مريم: 4].
وأما الكوفيون فعرفوا هذا وهذا. قال الفراء: نصب النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعا، معناه: ضاق ذرعي به. ومثله: "وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا"، أي: اشتعل الشيب في الرأس. قال: ومنه قوله: ألم فلان رأسه، ووجع بطنه، ورشد أمره. وكان الأصل: سفهت نفس زيد، ورشد أمره، فلما حول الفعل إلى زيد انتصب ما بعده على التمييز.
فهذه شواهد عرفها الفراء من كلام العرب. ومثله قوله: غُبِنَ فلان رأيه، وبطر عيشه. ومثل هذا قوله: "بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا" [القصص: 58]، أي: بطرت نفس المعيشة. وهذا معنى قول يَمَان بن رباب: حمق رأيه ونفسه، وهو معنى قول ابن السائب: ضل من قبل نفسه، وقول
ج/ 16 ص -571- أبي روق: عجز رأيه عن نفسه.
والبصريون لم يعرفوا ذلك. فمنهم من قال: جهل نفسه، كما قاله ابن كَيسان، والزجّاج. قال: لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه، لأنه لم يعلم خالقها.
وهذا الذي قالوه ضعيف. فإنه إن قيل: إن المعنى صحيح، فهو إنما قال: [سفه]، و[سفه] فعل لازم، ليس بمتعدٍ، و[جهل] فعل متعد. وليس في كلام العرب [سفهت كذا] البتة بمعنى: جهلته. بل قالوا: سَفُه بالضم سفاهة، أي صار سفيهًا، وسفِه بالكسر أي: حصل منه سفه، كما قالوا في [فقُه وفقِه]. ونقل بعضهم: سفهت الشرب إذا أكثرت منه. وهو يوافق ما حكاه الفراء، أي: صار شربه سفيها، فسفه شربه لما جاوز الحد.
وقال الأخفش، ويونس: نصب بإسقاط الخافض، أي: سفه في نفسه. وقولهم [بإسقاط الخافض]، ليس هو أصلا فيعتبر به، ولكن قد تنزع حروف الجر في مواضع مسموعة، فيتعدي الفعل بنفسه. وإن كان مقيسًا في بعض الصور، ف [سفه] ليس من هذا، لا يقال:سفهت أمر الله، ولا دين الإسلام، بمعنى: جهلته، أي: سفهت فيه. وإنما يوصف بالسفه وينصب على التمييز ما خص به،
ج/ 16 ص -572- مثل نفسه أو شربه، ونحو ذلك.
والمقصود أن كل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه. قال أبو العالية: رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا دين إبراهيم. وكذلك قال قتادة: بدلوا دين الأنبياء واتبعوا المنسوخ.
فأما موسي والمسيح، ومن اتبعهما، فهم على ملة إبراهيم متبعون له، وهو إمامهم. وهذا معنى قوله: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ" [آل عمران: 68]. فهو يتناول الذين اتبعوه قبل مبعث محمد وبعد مبعثه. وقيل: إنه عام، قال الحسن البصري: كل مؤمن ولي إبراهيم ممن مضي وممن بقي.وقال الربيع بن أنس:هم المؤمنون الذين صدقوا نبي الله واتبعوه،وكان محمد والذين معه من المؤمنين أولي الناس بإبراهيم. وهذا وغيره مما يبين أن اليهود والنصارى لا يعبدون الله، وليسوا على ملة إبراهيم.
فإن قيل: فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قول الخليل: "قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 75 ،77]، فقد استثناه مما يعبدون، فدل على أنهم كانوا يعبدون الله. وكذلك قوله: "إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي" [الزخرف:26 ،27]، واستثناه
ج/ 16 ص -573- أيضًا. وفي المسند وغيره حديث حُصَين الخُزَاعي لما قال له النبي ﷺ: [يا حُصَين !، كم تعبد اليوم؟] قال: سبعة آلهة ستة في الأرض، وواحد في السماء. قال: [فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟] قال: الذي في السماء.
قيل: هذا قول المشركين، كما تقول اليهود والنصارى: نحن نعبد الله. فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا.
وأما قول الخليل، ففيه قولان؛ قال طائفة: إنه استثناء منقطع، وقال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يعبدون الله مع آلهتهم.
وعلى هذا، فهذا لفظ مقيد. فإنه قال: "مَا تَعْبُدُونَ". فسماه عبادة إذا عرف المراد، لكن ليست هي العبادة التي هي عند الله عبادة. فإنه كما قال تعالى: "أنا أغني الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك". وهذا كقوله تعالى: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ" [يوسف: 106]. سماه إيمانًا مع التقييد، وإلا فالمشرك الذي جعل مع الله إلهًا آخر لا يدخل في مسمي الإيمان عند الإطلاق. وقد قال: "يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ" [النساء: 51]، "فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" [التوبة: 34]. فهذا مع التقييد. ومع الإطلاق. فالإيمان هو الإيمان بالله، والبشارة بالخير.
ج/ 16 ص -574- وقوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" [الكافرون: 3]، نفي العبادة مطلقًا، ليس هو نفي لما قد سمي عبادة مع التقييد. والمشرك إذا كان يعبد الله ويعبد غيره فيقال: إنه يعبد الله وغيره، أو يعبده مشركًا به. لا يقال: إنه يعبد مطلقًا. والمعطل الذي لا يعبد شيئًا شر منه. والعبادة المطلقة المعتدلة هي المقبولة،وعبادة المشرك ليست مقبولة.
ومما يوضح هذا قوله: "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ" الآية [البقرة: 133]، قالوا فيها: "نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ"، ثم قالوا: "إِلَهًا وَاحِدًا" [البقرة: 133]، فهذا بدل من الأول في أظهر الوجهين. فإن النكرة تبدل من المعرفة، كما في قوله: "كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ" [العلق: 15 ،16]، فذكرت معرفة وموصوفة. كذلك قالوا: "نَعْبُدُ إِلَهَكَ" فعرفوه. ثم قالوا: "إِلَهًا وَاحِدًا" فوصفوه. والبدل في حكم تكرير العامل أحيانًا، كما في قوله: "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ" [الأعراف: 75]، فالتقدير: نعبد إلهك، نعبد إلهًا واحدًا، ونحن له مسلمون. فجمعوا بين الخبرين بأمرين بأنهم يعبدون إلهه، وأنهم إنما يعبدون إلهًا واحدًا. فمن عبد إلهين لم يكن عابدًا لإلهه وإله آبائه. وإنما يعبد إلهه من عبد إلهًا واحدًا.
ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابدًا له، لكانت عبادته نوعين؛ عبادة إشراك، وعبادة إخلاص. وإذا كان كذلك لم يكن
ج/ 16 ص -575- قوله: "إِلَهًا وَاحِدًا" بدلًا؛ لأن هذا كل من كل، ليس هو بدل بعض من كل. فَعُلِم أن إلهه وإله آبائه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
والوجه الثاني:قوله:"إِلَهًا وَاحِدًا" نصب على الحال، لكنها حال لازمة فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.كقوله:"وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا" [البقرة: 91]، وهو لا يكون إلا مصدقًا. ومنه: "مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا" [البقرة: 135]، "وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ" [آل عمران: 21]. فمن عبد معه غيره، فما عبده إلها واحدًا، ومن أشرك به فما عبده. وهو لا يكون إلا إلهًا واحدًا. فإذا لم يعبده في الحال اللازمة له، لم تكن له حال أخرى يعبده فيها، فما عبده.
فإن قيل: المشرك يجعل معه آلهة أخرى، فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد، قيل: هذا غلط منشؤه أن لفظ [الإله] يراد به المستحق للإلهية، ويراد به ما اتخذه الناس إلهًا وإن لم يكن إلهًا في نفس الأمر، بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم. فتلك ليست في نفسها آلهة، وإنما هي آلهة في أنفس العابدين. فإلهيتها أمر قدره المشركون، وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقًا للخارج، كالذي يجعل من ليس بعالم عالمًا، ومن ليس بحي حيا، ومن ليس بصادق ولا عدل صادقًا وعدلًا فيقال: هذا عندك صادق، وعادل، وعالم، وتلك اعتقادات غير مطابقة، وأقوال كاذبة غير لائقة.
ج/ 16 ص -576- ولهذا يجعل سبحانه ذلك من باب الافتراء والكذب كما قال أصحاب الكهف: "هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا" [الكهف: 15]، وقال الخليل: "إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا" [العنكبوت: 17]. وقال: "وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ" [يونس: 66]، أي: أي شيء يتبع الذين يشركون؟ وإنما يتبعون الظن والخرص، وهو الحزْرُ. هذا صواب، وإن ما استفهامية. وقد قيل: إنها نافية. وبعضهم لم يذكر غيره، كأبي الفرج. وهو ضعيف كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع.
وقال هود: "اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ" [هود:50].
وإذا كانت إلهية ما سوى الله أمرًا مختلقا يوجد في الذهن واللسان لا وجود له في الأعيان. هو من باب الكذب والاعتقاد الباطل الذي ليس بمطابق. وما عند عابديها من الحب والخوف والرجاء لها تابع لذلك الاعتقاد الباطل. كمن اعتقد في شخص أنه صادق فصدقه فيما يقول، وبني على إخباره أعمالًا كثيرة. فلما تبين كذبه، ظهر فساد تلك الأعمال كأتباع مسيلمة،والأسود، وغيرهما من أصحاب الزوايا والتُّرهَات، وما يشرعونه لأتباعهم مما لم يأذن به الله، بخلاف الصادق والصدق.
ج/ 16 ص -577- ولهذا كانت كلمة التوحيد "كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء" [إبراهيم: 24]. وقال في كلمة الشرك: "كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ" [إبراهيم: 26]. فليس لها أساس ثابت، ولا فرع ثابت؛ إذ كانت باطلة، كأقوال الكاذبين وأعمالهم، بل هي أعظم الكذب والافتراء مع الحب لها.
والشرك أعظم الظلم. قال ابن مسعود: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك"
فنفس تألههم لها، وعبادتهم إياها، وتعظيمها، وحبها، ودعائها، واعتقادها آلهة، والخبر عنها بأنها آلهة موجود، كما كان اعتقاد الكذابين موجودًا. وأما نفس اتصافها بالإلهية، فمفقود، كاتصاف مسيلمة بالنبوة.
فهنا حالان: حال للعابد. وحال للمعبود. فأما العابدون فكلهم في قلوبهم عبادة وتأله لمن عبدوه. وأما المعبودون، فالرحمن له الإلهية، وما سواه لا إلهية له، بل هو ميت لا يملك لعابديه ضرًا ولا نفعا. "قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا" [الإسراء:42]، وهو في أصح القولين "سَبِيلًا" بالتقرب بعبادته وذكره. ولهذا قال بعدها:"تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ" [الإسراء: 44]،
ج/ 16 ص -578-فأخبر عن الخلائق كلها أنها تسبح بحمده. وقد بسط هذا في موضع آخر.
فقوله: "نَعْبُدُ إِلَهَكَ... إِلَهًا وَاحِدًا" [البقرة: 133]، إذا قيل: إنه منصوب على الحال، فإما أن يكون حالًا من الفاعل العابد، أو من المفعول المعبود. فالأول: نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه. والثاني نعبده في الحال اللازمة له، وهو أنه إله واحد، فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه.
فإن كان التقدير هذا الثاني، امتنع أن يكون المشرك عابدًا له. فإنه لا يعبده في هذه الحال، وهو -سبحانه- ليست له حال أخرى نعبده فيها. وإن كان التقدير الأول، فقد يمكن أن نعبده في حال أخرى نتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا.
لكن قوله: "إِلَهًا وَاحِدًا" دليل على أنها حال من المعبود، بخلاف ما إذا قيل: نعبده مخلصين له الدين، فإن هذه حال من الفاعل.
ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيرًا، كقوله: "فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ" [الزمر: 2]، وقوله: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي" [الزمر: 14]. فهذا حال من الفاعل
ج/ 16 ص -579- فإنه يكون تارة مخلصا، وتارة مشركا. وأما الرب - تعالى - فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.
والحال - وإن كانت صفة للمفعول فهي - أيضًا - حال للفاعل. فإنهم قالوا: نعبده في هذه الحال. فلزم أن عبادتهم له ليست في غير هذا الحال. وبين أن قوله: "نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ... إِلَهًا وَاحِدًا" [البقرة: 133]، هي حال متعلقة بالفاعل والمفعول جميعًا - بالعابد والمعبود. فإن العامل فيها - المتعلق بها - العبادة، وهي فعل العابد، والذي يقال له المفعول في العربية هو المعبود.
كما قيل في الجملة: "وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" [البقرة: 133] قيل: هي واو العطف. وقيل: واو الحال. أى: نعبده في هذه الحال. قالوا: وهي حال من فاعل [نعبد] أو مفعوله لرجوع الهاء إليه في [له]. وهذا التقدير غلط؛ إذ هي حال منهما جميعًا. فإنهم إذا عبدوه وهم مسلمون فهم مسلمون حال كونهم عابدين، وحال كونه معبودًا؛ إذ كونهم عابدين وكونه معبودًا ليس مختصًا بمقارنة أحدهما دون الآخر.
فالظرف والحال -هنا- كلمة وليست مفردًا؛ ولهذا اشتبه عليهم.فإن المفرد لا يمكن أن يكون في اللفظ صفة لهذا وهذا.فإذا قلت:ضربت زيدًا قاعدًا، فالقعود حال للفاعل أو المفعول. وإذا قلت:ضربته والناس
ج/ 16 ص -580- قعود، فليس هذه الحال من أحدهما دون الآخر، بل هي مقارنة للضرب المتعلق بها، كأنه قال: ضربته في زمان قعود الناس. فهو ظرف للفعل المتعلق بالفاعل والمفعول، بخلاف ما إذا قلت: ضربته في حال قعودي أو قعوده، فهذا يختلف.
والآية فيها "إِلَهًا وَاحِدًا". فهذه حال من المعبود بلا ريب. فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلهًا واحدًا، وهذه لازمة له.
وإذا قيل: المراد في حال كونه معبودًا واحدًا لا نتخذ معه معبودًا آخر، فهذه حال ليست لازمة، لكنه صفة للعابدين، لا له. قيل: هذا ليس فيه مدح له، ولا وصف له بأنه يستحق الإلهية. لكن فيها وصفهم فقط.
وأيضًا. فقوله:"إِلَهًا وَاحِدًا"، كقوله: "وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ" [البقرة: 163] فهو في نفسه إله واحد وإن جعل معه المشركون آلهة بالافتراء والحب. فيجب أن يكون المراد ما دل عليه هذا الاسم.
ولو أرادوا ذلك المعني لقالوا: نعبده مخلصين له الدين. وهذا المعني قد ذكروه في الجملة الثانية، وهي قولهم: "وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"، لا سيما إذا جعلت حالا، أى: نعبده إلها واحدًا في حال إسلامنا له.
ج/ 16 ص -581- وإسلامهم له يتضمن إخلاص الدين له، وخضوعهم، واستسلامهم لأحكامه، بخلاف غير المسلمين.
ولهذا قال آمرًا للمؤمنين أن يقولوا: "آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" [البقرة: 136].
ثم قال: "صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ" [البقرة: 138، 139].
وفي هذه الآيات معان جليلة ليس هذا موضع استيفائها.
فَصل
وهذا النزاع في قوله : "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" ، هل هو خطاب لجنس الكفار ،كما قاله الأكثرون؟ أو لمن علم أنه يموت كافرًا، كما قاله بعضهم؟ يتعلق بمسمى [الكافر] ومسمى [المؤمن].
ج/ 16 ص -582- فطائفة تقول: هذا إنما يتناول من وافي القيامة بالإيمان. فاسم المؤمن -عندهم- إنما هو لمن مات مؤمنًا. فأما من آمن ثم ارتد فذاك ليس عندهم بإيمان.
وهذا اختيار الأشعري، وطائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم. وهكذا يقال: الكافر من مات كافرًا.
وهؤلاء يقولون: إن حب الله وبغضه، ورضاه وسخطه، وولايته وعداوته، إنما يتعلق بالموافاة فقط. فالله يحب من علم أنه يموت مؤمنًا. ويرضى عنه ويواليه بحب قديم وموالاة قديمة. ويقولون: إن عمر حال كفره كان وليًا لله.
وهذا القول معروف عن ابن كُلاب ومن تبعه، كالأشعرى وغيره.
وأكثر الطوائف يخالفونه في هذا، فيقولون: بل قد يكون الرجل عدوًا لله ثم يصير وليًا لله، ويكون الله يبغضه ثم يحبه. وهذ مذهب الفقهاء والعامة. وهو قول المعتزلة، والكرامية، والحنفية قاطبة، وقدماء المالكية، والشافعية، والحنبلية.
وعلى هذا يدل القرآن، كقوله: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ" [آل عمران:31]، "وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ" [الزمر:7]، وقوله:
ج/ 16 ص -583- "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ" [النساء: 137]، فوصفهم بكفر بعد إيمان، وإيمان بعد كفر. وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار، وأنهم إن انتهوا يغفر لهم ما قد سلف. وقال: "فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمًْ" [الزخرف: 55]، وقال: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" [محمد: 28] .
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة: تقول الأنبياء: "إن ربي قد غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله. ولن يغضب بعده مثله".
وفي دعاء الحجاج عند الملتزم عن ابن عباس وغيره: [فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن فارض عني]. وبعضهم حذف: [فارض عني]، فظن بعض الفقهاء أنه [فمن الآن] أنه من [المن]. وهو تصحيف. وإنما هو من حروف الجر كما في تمام الكلام، وإلا فمن الآن فارض عني.
فبين أنه يزداد رضا، وأنه يرضى في وقت محدود. وشواهد هذا كثيرة. وهو مبسوط في مواضع.
فَصل
ونظير القول في: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"، القولان في قوله: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" [البقرة: 6]، فإن للناس في هذه الآية قولين:
ج/ 16 ص -584-أحدهما: أنها خاصة بمن يموت كافرًا. وهذا منقول عن مقاتل، كما قال في قوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ". وكذلك نقل عن الضحاك. قالا: نزلت في مشركى العرب، كأبي جهل، وأبي طالب، وأبي لهب، ممن لم يسلم. وقال الضحاك: ونزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته.
وطائفة من المفسرين لم يذكروا غير هذا القول، كالثعلبى والبغوى وابن الجوزى. قال البغوى: هذه الآية في أقوام حقت عليهم كلمة الشقاوة في سابق علم الله.
وقال ابن الجوزي: قال شيخنا على بن عبيد الله: وهذه الآية وردت بلفظ العموم والمراد بها الخصوص؛ لأنها آذنت بأن الكفار حين إنذارهم لا يؤمنون، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم. ولو كانت على ظاهرها في العموم لكان خبر الله بخلاف مخبره، فلذلك وجب نقلها إلى الخصوص.
والقول الثاني : أن الآية على مقتضاها، والمراد بها أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى الكافر ما دام كافرًا ، لا ينفعه الإنذار ولا يؤثر فيه، كما قيل مثل ذلك في الآيات: إنها غير موجبة للإيمان. وقد جمع بينهما في قوله: "وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ" [يونس: 101].
ج/ 16 ص -585-فالآيات أفقية، وأرضية، وقرآنية، وهي أدلة العلم. والإنذار يقتضى الخوف. فالآيات لمن إذا عرف الحق عمل به، فهذا تنفعه الحكمة. والإنذار لمن يعرف الحق وله هوى يصده فينذر بالعذاب الذي يدعوه إلى مخالفة هواه، وهو خوف العذاب. وهذا هو الذي يحتاج إلى الموعظة الحسنة. وآخر لا يقبل الحق فيحتاج إلى الجدل، فيجادل بالتي هي أحسن.
وقد قال تعالى: "وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ" [الأنعام: 111]، وقال: "إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا" [النازعات: 45]، "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ" [يس: 11].
فالمراد أن الكافر ما دام كافرًا لا يقبل الحق سواء أنذر أم لم ينذر، ولا يؤمن ما دام كذلك؛ لأن على قلبه وسمعه وبصره موانع تصد عن الفهم والقبول. وهكذا حال من غلب عليه هواه.
هو -سبحانه- لم يقل: [إنهم لا يؤمنون]. وقيل ذلك لمن سبقت عليه الشقوة، أو حقت عليه الكلمة، كقوله: "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ" [يونس: 96، 97]، فبين أن هؤلاء لا يؤمنون إلا حين لا ينفعهم إيمانهم وقت
ج/ 16 ص -586-رؤية العذاب الأليم، كإيمان فرعون المذكور قبلها. وموسى قد دعا عليه فقال: "رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا" [يونس: 88، 89].
وأما إذا أطلق -سبحانه- الكفار فهو مثل قوله: "وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ" الآية [الأنعام: 111]، فبين أنهم قد يؤمنوا إذا شاء.
وآية البقرة مطلقة عامة. فإنه ذكر في أول السورة أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في المنافقين. فبين حال الكافر المصر على كفره أن الإنذار لا ينفعه للحجب التي على قلبه وسمعه وبصره. وليس قال: إن الله لا يهدي أحدًا من هؤلاء، فيسمع ويقبل. ولكن هو حين يكون كافرًا لا تتناوله الآية. وهذا كما يقال في الكافر الحربي:لا يجوز أن تعقد له الذمة، ولا يكون قط من أهل دار الإسلام ما دام حربيًا.
فالكفار ما داموا كفارًا هم بهذه المثابة لهم موانع تمنعهم من الإيمان كما أن للمنافقين موانع تمنعهم ما داموا كذلك، وإن أنذروا. وهذا كقوله: "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" [البقرة: 171]، فهذا مثل كل كافر ما دام كافرًا.
ج/ 16 ص -587-وذلك لا يمنع أن يكونوا قد يسمعون إذا زال الغطاء الذي على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فإنهم لا يسمعون لذلك المعني المشتق منه، وهو الكفر. فما داموا هذه حالهم فهم كذلك، ولكن تغير الحال ممكن، كما قال: "إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ"، وكما هو الواقع.
ومثل هذا يفيد أن الإنسان لا يعتقد أنه بدعائه وإنذاره وبيانه يحصل الهدى، ولو كان أكمل الناس، وأن الداعي وإن كان صالحًا ناصحًا مخلصًا فقد لا يستجيب المدعو؛ لا لنقص في الدعاء، لكن لفساد في المدعو.
وهذا لأن حصول المطلوب متوقف على فعل الفاعل وقبول القابل، كالسيف القاطع يؤثر بشرط قبول المحل فيه لا يقطع الحجارة والحديد ونحو ذلك. والنفخ يؤثر إذا كان هناك قابل لا يؤثر في الرماد.
والدعاء، والتعليم، والإرشاد. وكل ما كان من هذا الجنس، له فاعل وهو المتكلم بالعلم والهدى والنذارة، وله قابل وهو المستمع. فإذا كان المستمع قابلا حصل الإنذار التام، والتعليم التام، والهدى التام. وإن لم يكن قابلا قيل: علمته فلم يتعلم، وهديته فلم يهتد، وخاطبته فلم يصغ، ونحو ذلك.
ج/ 16 ص -588-فقوله في القرآن: "هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" [البقرة: 2]، هو من هذا. إنما يهتدى من يقبل الاهتداء، وهم المتقون، لا كل أحد. وليس المراد أنهم كانوا متقين قبل اهتدائهم، بل قد يكونوا كفارًا. لكن إنما يهتدى به من كان متقيًا. فمن اتقى الله اهتدى بالقرآن. والعلم والإنذار إنما يكون بما أمر به القرآن.
وهكذا قوله: "لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا" [يس: 70]، الإنذار التام، فإن الحى يقبله. ولهذا قال: "وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ" [يس: 70]، فهم لم يقبلوا الإنذار.
ومثله قوله: "إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا" [النازعات: 45].
وعكسه قوله: "وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ" [البقرة: 26] أي: كل من ضل به فهو فاسق. فهو ذم لمن يضل به، فإنه فاسق. ليس أنه كان فاسقًا قبل ذلك.
ولهذا تأولها سعد بن أبي وقاص في الخوارج، وسماهم [فاسقين]؛ لأنهم ضلوا بالقرآن. فمن ضل بالقرآن فهو فاسق.
فقوله: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ" [البقرة: 6]، من هذا الباب. والتقدير: من ختم على قبله وجعل على سمعه وبصره غشاوة فسواء عليك أنذرته أم لم تنذره هو لا يؤمن، أي: ما دام كذلك ،
ج/ 16 ص -589-ولكن هذا قد يزول.
وفي صفة النبي ﷺ: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" [الأحزاب: 45]، وحرزًا للأميين. أنت عبدى ورسولى، سميتك [المتوكل]، لست بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق. ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر. ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صما، وقلوبًا غلفًا.
وقد قال: "لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" [يس: 6، 7]، فدل على أن بعضهم يؤمنون. ثم قال: "إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلًا" إلى قوله: "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ" [يس: 8 11] فهذا هو الإنذار التام، وهو الإنذار الذي يقبله المنذر وينتفع به.
وقوله: "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" [البقرة: 6] هو أصل الإنذار، كما يقال في البليد والمشغول الذهن بأمور الدنيا والشهوات: سواء عليك أعلمته أم لم تعلمه لا يتعلم ولا يقبل الهدى، ويقال في الذكى الفارغ: إنما يتعلم مثل هذا. ثم المشغول قد يتفرغ. وقد يصلح ذهن بعد فساده. ويفسد بعد صلاحه لفساد قلبه وصلاحه.
وعلى هذا القول أكثر تفسير السلف، كما ذكره ابن إسحاق، وقد رواه ابن أبي حاتم وغيره. قال ابن إسحاق، حدثنى محمد بن أبي
ج/ 16 ص -590-محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ"، أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا: إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك، "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ"، أي: إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك. فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا؟
فقد تبين أنهم لا يسمعون الإنذار؛ لكفرهم بما عندهم وما جاءهم من الحق. ومعلوم أن منهم خلقًا تابوا بعد ذلك وآمنوا.
وروى عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: آيتان في قادة الأحزاب:"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ". قال: هم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ" [إبراهيم: 28].
قلت: جعلهم قادة الأحزاب لكونهم أضلوا الأتباع فأحلوهم دار البوار. والأحزاب يوم الخندق قد أسلم عامة قادتها، وحسن إسلامهم، مثل عكْرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وأبي سفيان. وهؤلاء أسلم منهم من أسلم عام الفتح، وهم الطلقاء. ومنهم من أسلم قبل ذلك. والحزب الآخر غَطَفَان، وقد أسلموا أيضًا.
ج/ 16 ص -591- والآية لابد أن تتناول كفار أهل الكتاب،كما قال ابن إسحاق. فإن السورة مدنية،وإن تناولت مع ذلك المشركين.فهي تعم كل كافر.ومقاتل،والضحاك يخصاها ببعض مشركى العرب. وابن السائب يقول: هي إنما نزلت في اليهود،منهم حيى بن أخْطَب.وكذلك ما ذكره ابن إسحاق،عن ابن عباس، أنها في اليهود، وأبو العالية يقول: إنها نزلت في قادة الأحزاب.
والآية تعم هؤلاء كلهم وغيرهم، كما أن آيات المؤمنين والمنافقين كان سبب نزولها المؤمنين والمنافقين الموجودين وقت النزول، وهي تعمهم وغيرهم من المؤمنين والمنافقين إلى قيام الساعة.
والمقصود أن قوله: "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" [البقرة: 6]، كقوله: "فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ" [الروم: 52، 53]، وقوله: "أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ" [يونس: 42، 43].
وكل هذا فيه بيان أن مجرد دعائك وتبليغك وحرصك على هداهم ليس موجب ذلك، وإنما يحصل ذلك إذا شاء الله هداهم فشرح صدورهم للإسلام، كما قال تعالى:"إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ" [النحل: 37]،
ج/ 16 ص -592-ففيه تعزية لرسوله ﷺ، وبينت الآية له أن تبليغك وإن لم يهتدوا به ففيه مصالح عظيمة غير ذلك.
وفيه بيان أن الهدى هدى الله. ف "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا" [الكهف: 17]، وقد قال له: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء" [القصص: 56]. ففيه تقرير التوحيد، وتقرير مقصود الرسالة.
وهو سبحانه أخبر عمن لا يؤمن فقال: "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ" [يونس: 96، 97]. وقال: "لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ" [يس: 6]. ثم قال: "لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" [يس: 7]. فخص في هذه الآية، وفي تلك: "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ". وهم الذين حق عليهم القول، أي: حق عليهم ما قاله الله سبحانه وكتبه، وقدره. فجعل الموجب هو التقدير السابق، وهو قوله.
والقول وإن كان قد يكون خبرًا مجردًا بما سيكون، وقد يكون قولا يتضمن أشياء كاليمين المتضمنة للحض والمنع، فقد ذكر في مواضع تقديم اليمين، كقوله: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي" [السجدة: 13]، ونحو ذلك.
ج/ 16 ص -593- فهو خبر عما قاله، أو قاله وكتبه. وهو التقدير الذي يتضمن أنه قدر ما يفعله، وعلمه، وكتبه، كما تظاهرت النصوص بأن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. والقدر تضمن علمه بما سيكون، ومشيئته لوجود ما قدره وعلم أن سيخلقه.
والقول قد يكون خبرًا، وقد يكون فيه معني الطلب الحض والمنع بالقسم، وإما لكتابته على نفسه، كقوله: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىنَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" [الأنعام: 54]، وقوله: "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم: 47]، وقوله: "ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا".
وأما قوله: "وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ" [الزمر: 71]، فهذا مختص بالكفار. وهو الوعيد المتضمن الجزاء على الأعمال، كما قال تعالى لإبليس: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" [ص: 85].
وقوله: "وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى" [طه: 129] أي: إن عذابهم له أجل مسمى، إما يوم القيامة، وإما في الدنيا كيوم بدر، وإما عقب الموت وقد ذكر في الآية الأقوال الثلاثة. فلولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لكان العذاب لزامًا، أي: لازمًا لهم. فإن المقتضي له قائم تام، وهو كفرهم.
ج/ 16 ص -594- وأما إذا أطلق القول على الكفار من غير تقييد، فإنه لايريد من لا يؤمن منهم. فإن اللفظ لايدل على ذلك البتة.
وأيضًا، فإن هذا لا فائدة فيه، إذ كان أولئك غير معروفين، وإنما هم طائفة قد حق عليهم القول، وهم لايتميزون من غيرهم. بل هو مأمور بإنذار الجميع، وفيهم من يؤمن ومن لا يؤمن. فذكر اللفظ العام - وإرادة أولئك دون غيرهم ليس فيه بيان للمراد الخاص. وذكر المعني الذي أوجب أنهم لا يؤمنون قط، ولا فيه تعليق الحكم بالمعني العام. وكلام الله تعالى يصان عن مثل ذلك.
وما ذكر من الموانع هي موجودة في كل من لم يقبل الإنذار، سواء كان كافرًا، أو منافقًا أو فاسقًا أو غير ذلك، لسبب يوجب ذلك، فيمتنع قبول الإنذار بسبب الموانع. ولكن هذه الموانع قد تزول، فإنها ليست لازمة لكل كافر.
وإذا كان المانع ما سبق من القول الذي حق عليهم فقد لا يزول أبدًا، كما قال: "إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ" [يونس: 96، 97].
وقد يذكر هذا وهذا.
ج/ 16 ص -595- وأما إذا اقتصر على ذكر الموانع التي فيهم، ولم يذكر ما سبق من القول، فهذه الموانع يرجى زوالها ويمكن، ما لم يذكر معها ما يقتضى امتناع تغير حالهم وحصول الهدى.
فصل
"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" جاء الخطاب فيها ب [ما]، ولم يجئ ب [من]، فقيل: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" لم يقل: [لا أعبد من تعبدون]؛ لأن [من] لمن يعلم، والأصنام لا تعلم.
وهذا القول ضعيف جدًا، فإن معبود المشركين يدخل فيه من يعلم كالملائكة والأنبياء والجن والإنس، ومن لم يعلم. وعند الاجتماع تغلب صيغة أولى العلم، كما في قوله: "فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ" [النور:45].
فإذا أخبر عنهم بحال من يعلم عبر عنهم بعبادته، كما في قوله: "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا" الآية [الأعراف:194، 195]، فعبر عنهم بضمير الجمع المذكر.وهو لأولى العلم.
ج/ 16 ص -596- وأما ما لا يعلم فجمعه مؤنث،كما تقول:الأموال جمعتها والحجارة قذفتها.
ف [ما] هي لما لا يعلم، ولصفات من يعلم. ولهذا تكون للجنس العام؛ لأن شمول الجنس لما تحته هو باعتبار صفاته، كما قال: "فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء" [النساء: 3]، أي: الذي طاب، والطيب من النساء. فلما قصد الإخبار عن الموصوف بالطيب، وقصد هذه الصفة دون مجرد العين، عبر ب [ما].
ولو عبر ب [من]، كان المقصود مجرد العين والصفة للتعريف ، حتى لو فقدت لكانت غير مقصودة، كما إذا قلت: جاءنى من يعرف ، ومن كان أمس في المسجد، ومن فعل كذا، ونحو ذلك. فالمقصود الإخبار عن عينه، والصلة للتعريف وإن كانت تلك الصفة قد ذهبت.
ومنه قوله: "وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا" [الشمس: 5 - 7]. على القول الصحيح إنها اسم موصول، والمعني: وبانيها، وطاحيها، ومسويها. ولما قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" [الشمس: 9، 10]، أخبر ب [من]؛ لأن المقصود الإخبار عن فلاح عينه وإن كان فعله للتزكية والتدسية قد ذهب في الدنيا.
فالقسم هناك بالموصوف، بحيث أنه إنما أقسم بهذا الموصوف والصفة
ج/ 16 ص -597- لازمة. فإنه لا توجد مبنية إلا ببانيها، ولا مطحية إلا بطاحيها، ولا مسواة إلا بمسويها. وأما المرء المزكى نفسه والمدسيها، فقد انقضى عمله في الدنيا، وفلاحه وخيبته في الآخرة ليسا مستلزمًا لذلك العمل.
ونحو هذا قوله: "وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى" [الليل: 3].
ولهذا يستفهم بها عن صفات من يعلم في قوله: "وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 23]، كما يستفهم على وجه بها في قوله "مَاذَا تَعْبُدُونَ" [الصافات: 85].
وأما قوله: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" [لقمان: 25]. فالاستفهام عن عين الخالق للتمييز بينه وبين الآلهة التي تعبد. فإن المستفهمين بها كانوا مقرين بصفة الخالق، وإنما طلب بالاستفهام تعيينه وتمييزه، ولتقام عليهم الحجة باستحقاقه وحده العبادة.
وأما فرعون، فكان منكرًا للموصوف المسمى، فاستفهم بصيغة [ما]؛ لأنه لم يكن مقرًا به، طالبًا لتعيينه؛ ولهذا كان الجواب في هذا الاستفهام بقول موسى:"رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" [الرعد: 16، الإسراء: 102]، وبقوله: "رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ" [الشعراء: 26]، فأجاب أيضًا بالصفة. وهناك قال: "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" [الزخرف: 87]، فكان الجواب بالاسم المميز للمسمى عن غيره. وكذلك قوله: "قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا" [المؤمنون: 84] إلى تمام الآيات.
ج/ 16 ص -598- فقوله: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ" ، يقتضى تنزيهه عن كل موصوف بأنه معبودهم؛ لأن كل ما عبده الكافر وجبت البراءة منه؛ لأن كل من كان كافرًا،لا يكون معبوده الإله الذي يعبده المؤمن. إذ لو كان هو معبوده لكان مؤمنًا، لا كافرًا.وذلك يتضمن أمورًا:
أحدها: أن ذلك يستلزم براءته من أعيان من يعبدونهم من دون الله.
الثاني: أنهم إذا عبدوا الله وغيره فمعبودهم المجموع، وهو لا يعبد المجموع لايعبد إلا الله وحده. فيعبده على وجه إخلاص الدين له، لا على وجه الشرك بينه وبين غيره.
وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول الخليل: "إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي" [الزخرف: 26، 27]. وقوله: "أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 75 - 77]، بأن يقال: هنا نفي عبادة المجموع، وذلك لا ينفي عبادة الواحد الذي هو الله. والخليل تبرأ من المجموع، وذلك يقتضى البراءة من كل واحد، فاستثنى. أو يقال: الخليل تبرأ من جميع المعبودين من الجميع فوجب أن يستثنى رب العالمين. ولهذا لما وقع مستثنى في أول الكلام في قوله:
ج/ 16 ص -599- "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ" [الممتحنة: 4] لم يحتج إلى استثناء آخر.
وأما هذه السورة فإن فيها التبري من عبادة ما يعبدون، لا من نفس ما يعبدون. وهو برىء منهم، ومن عبادتهم، ومما يعبدون. فإن ذلك كله باطل، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ يقول الله: [أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك].
فعبادة المشرك كلها باطلة، لا يقال: نصيب الله منها حق، والباقى باطل، بخلاف معبودهم. فإن الله إله حق، وماسواه آلهة باطلة.
فلما تبرأ الخليل من المعبودين احتاج إلى استثناء رب العالمين. ولما كان في هذه تبرؤه من أن يعبد ما يعبدون،فكان المنفي هو العبادة، تبرأ من عبادة المجموع الذين يعبدهم الكافرون.
الثالث: إن كان النفي عن الموصوف بأنه معبودهم، لا عن عينه، فهو لايعبد شيئًا من حيث هو معبودهم؛ لأنه من حيث هو معبودهم هم مشركون به، فوجبت البراءة من عبادته على ذلك الوجه. ولو قال: [من تعبدون]، لكان يقال: إلا رب العالمين؛ لأن النفي واقع على
ج/ 16 ص -600- عين المعبود. وليس إذا لم يعبد ما يعبدون متبرئًا منه ومعاديًا له حتى يحتاج إلى الاستثناء، بل هو تارك لعبادة ما يعبدون.
وهذا يتبين بالوجه الرابع: وهو قوله: "وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"، نفي عنهم عبادة معبوده. فهم إذا عبدوا الله مشركين به لم يكونوا عابدين معبوده. وكذلك هو إذا عبده مخلصًا له الدين لم يكن عابدًا معبودهم.
الوجهالخامس: أنهم لو عينوا الله بما ليس هو الله، وقصدوا عبادة الله، معتقدين أن هذا هو الله، كالذين عبدوا العجل، والذين عبدوا المسيح، والذين يعبدون الدجال، والذين يعبدون ما يعبدون من دنياهم وهواهم، ومن عبد من هذه الأمة، فهم عند نفوسهم إنما يعبدون الله، لكن هذا المعبود الذي لهم ليس هو الله.
فإذا قال: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ"، كان متبرئًا من هؤلاء المعبودين وإن كان مقصود العابدين هو الله.
الوجهالسادس: أنهم إذا وصفوا الله بما هو برىء منه، كالصاحبة والولد، والشريك، وأنه فقير أو بخيل، أوغير ذلك، وعبدوه كذلك، فهو برىء من المعبود الذي لهؤلاء. فإن هذا ليس هو الله
ج/ 16 ص -601- كما قال النبي ﷺ: "ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش؟ يسبون مُذَمَّما وأنا محمد". فهم وإن قصدوا عينه لكن لما وصفوه بأنه مذمم كان سبهم واقعًا على من هو مذمم، وهو محمد ﷺ. وذاك ليس هو الله.
فالمؤمنون برآء مما يعبد هؤلاء.
الوجه السابع: أن كل من لم يؤمن بما وصف به الرسول ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول من تلك الجهة.
وقس على هذا، فلتتأمل هذه المعانى، وتلخص وتهذب، والله - تعالى - أعلم.