ج/ 16 ص -517-سورة التكاثر
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
سورة [التكاثر]، قيل فيها: "حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ" [التكاثر: 2]، تنبيها على أن الزائر لابد أن ينتقل عن مزاره، فهو تنبيه على البعث.
ثم قال: "كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ" [التكاثر:3 ،4]، فهذا خبر عن علمهم في المستقبل؛ ولهذا روي عن على أنه في عذاب القبر، ثم قال: "كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ" [التكاثر: 5]، فهذا إشارة إلى علمهم في الحال، والخبر محذوف، أي: لكان الأمر فوق الوصف، ولعلمتم أمرًا عظيمًا، ولألهاكم عما ألهاكم، فإن الالتهاء بالتكاثر، إنما وقع من الغفلة وعدم اليقين، كما قال: "كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ" [الأعراف:136]،ومثل قول النبي ﷺ: " لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا". وحَذْفُ جواب لو كثير في القرآن، تعظيمًا له وتفخيمًا، فإنه أعظم
ج/ 16 ص -518-من أن يوصف أو يتصور بسماع لفظ، إذ المخبر ليس كالمعاين؛ ولهذا اتبع ذلك بالقسم على الرؤية التي هي عين اليقين، التي هي فوق الخبر الذي هو علم اليقين، فقال: "لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ" [التكاثر: 6 ،7]،وهذا الكلام جواب قسم محذوف مستقبل، مع كون جواب لو محذوفًا كما تقدم، في أحد القولين. وفي الآخر: هو متعلق بلو، لكن يقال: جواب لو إنما يكون ماضيًا، فيقال: لرأيتم الجحيم. كقول النبي ﷺ: "لو تكونون على الحال التي تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة في طرقكم وعلى فرشكم" ، ولو كان ماضيًا فليس مما يؤكد بل يقال: لو يجيء، لأجيء. وجواب هذا أنه جواب قسم محذوف سد مسد جواب لو. كقوله: "وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" [الأنعام: 121]، وله نظائر في القرآن وكلام العرب، فإن الكلام إذا اشتمل على قسم وشرط، وكل منهما يقتضي جوابه، أجيب الأول منهما، وهو - هنا - القسم، وهو المقصود.
وعلى هذا القول، يكون المعنى: والله لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم بقلوبكم، والأول هو المشهور، ومن المفسرين من لم يذكر سواه، وهو الذي أثروه عن متقدميهم، ويدل على صحته وأنه الحق أن قوله:"ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا"، "ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ"،معطوف على ما قبله، فيكون داخلًا في حيزه، فلو كان الأول معلقًا بالشرط،لكان المعطوف عليه
ج/ 16 ص -519- كذلك، وهو باطل؛ لأن رؤيتها عين اليقين، والمسألة عن النعيم ليس معلقًا بأن يعلموها في الدنيا علم اليقين.
وأيضًا، فتفسير الرؤية المطلقة برؤية القلب ليس هو المعروف من كلام العرب.
وأيضًا، فيكون الشرط هو الجواب، فإن المعنى -حينئذ- لو علمتم علم اليقين، لرأيتم بقلوبكم، وذلك هو العلم، فالمعنى: لو علمتم لعلمتم، وهذا لا يفيد. ولو أريد بمشاهدة القلب قدر زائد على مجرد العلم، فهذا معلوم أن من علم الشيء أمكنه أن يجعل مشاهدًا له بقلبه.
وأيضًا، فهذا المعنى لو كان مفيدًا، لم يكن مما يستحق القسم عليه، فإنه ليس بطائل.
وأيضًا، فقوله: "لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ"، لم يذكر المعلوم، حتى يستلزم العلم به العلم بالجحيم، فإن أريد معلوم خاص، فلا دليل في الشرط عليه، حتى يصح الارتباط. وإن أريد المعلوم العام وهو ما بعد الموت فذاك يستلزم العلم بالجحيم وغيرها، وهذا فيه نظر. فقد يسأل ويقال: قوله: "سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ"، لم يذكر
ج/ 16 ص -520- فيه المعلوم بل أطلق، ومعلوم أن كل أحد سوف يعلم شيئًا لم يكن علمه، وجوابه: أن سياق الكلام يقتضي الوعيد والتهديد، حيث افتتحه بقوله: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ". وأيضًا، فمثل هذا الكلام قد صار في العرف يستعمل في الوعيد غالبًا أو في الوعد. وإذا كان العلم مقيدًا بالسياق اللفظي، وبالوضع العرفي، فقوله: "لَوْ تَعْلَمُونَ" هو ذاك العلم، أخبر بوقوعه مستقبلا، ثم علق بوقوعه حاضرًا، وقيد المعلق به بعلم اليقين، فإنهم قد يعلمون ما بعد الموت، لكن ليس علمًا هو يقين.