ج/ 16 ص -251-سُورَة العَلَق
وقَال الشيخ رحمه الله :
فَصْل
في بيان أن الرسول ﷺ أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين وهي الأدلة العقلية الدالة على ثبوت الصانع وتوحيده، وصدق رسوله ﷺ، وعلى المعاد إمكانًا ووقوعًا.
وقد ذكرنا فيما تقدم هذا الأصل غير مرة، وأن الرسول ﷺ بين الأدلة العقلية والسمعية التي يهتدى بها الناس إلى دينهم، وما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وأن الذين ابتدعوا أصولًا تخالف بعض ما جاء به هي أصول دينهم، لا أصول دينه. وهي باطلة عقلًا وسمعًا، كما قد بسط في غير موضع. وبين أن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم والدين قاصرون أو مقصرون في معرفة ما جاء به من
ج/ 16 ص -252-الدلائل السمعية والعقلية.
فطائفة قد ابتدعت أصولًا تخالف ما جاء به من هذا وهذا.
وطائفة رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه،وصاروا ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك.ولكن هم مع ذلك لم يتبعوا السنة على وجهها، ولا قاموا بما جاء به من الدلائل السمعية والعقلية.بل الذي يخبر به من السمعيات مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر، غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من غير تصور لما أخبر به. بل قد يقولون مع هذا إنه نفسه لم يكن يعلم معنى ما أخبر به؛ لأن ذلك عندهم هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
وأما الأدلة العقلية فقد لا يتصورون أنه أتى بالأصول العقلية الدالة على ما يخبر به، كالأدلة الدالة على التوحيد والصفات. ومنهم من يقر بأنه جاء بهذا مجملًا، ولا يعرف أدلته. بل قد يظن أن ما يستدل به كالاستدلال بخلق الإنسان على حدوث جواهره هو دليل الرسول.
وكثير من هؤلاء يعتقدون: أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل كالمعاد،وحسن التوحيد والعدل والصدق، وقبح الشرك والظلم
ج/ 16 ص -253-والكذب. والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك. وينكر على من لم يستدل بها. ويبين أنه بالعقل يعرف المعاد، وحسن عبادته وحده وحسن شكره. وقبح الشرك، وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع.
وكثير من الناس يكون هذا في فطرته وهو ينكر تحسين العقل وتقبيحه إذا صنف في أصول الدين على طريقة النفاة الجبرية أتباع جهم. وهذا موجود في عامة ما يقوله المبطلون يقولون بفطرتهم ما يناقض ما يقولونه في اعتقادهم البِدْعِى.
وقد ذكر أبو عبد الله ابن الجد الأعلى أنه سمع أبا الفرج ابن الجوزي ينشد في مجلس وعظه البيتين المعروفين:
هب البعثُ لم تأتنا رُسْله وجاحمة النار لم تُضرم
أليس من الواجب المستَحَقِ حياءُ العباد من المنْعِم؟
فقد صرح في هذا بأنه من الواجب المستحق حياء الخلق من الخالق المنعم.
وهذا تصريح بأن شكره واجب مستحق ولو لم يكن وعيد، ولا
ج/ 16 ص -254-رسالة أخبرت بجزاء. وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب.
وهذا فيه نزاع قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح. ونتيجة فعل المنهي انخفاض المنزلة وسلب كثير من النعم التي كان فيها وإن كان لا يعاقب بالضرر.
ويبين أن الوجوب والاستحقاق يُعْلم بالبديهة. فتارك الواجد وفاعل القبيح وإن لم يُعَذَّب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه. وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها أن يسلبها. فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد. والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك يُنْقص النعمة ولا يزيد.
مع أنه لابد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار.قال تعالى:"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" [التين:4 - 6]،وهذا مبسوط في مواضع.
والمقصود هنا أن بيان هذه الأصول وقع في أول ما أنزل من القرآن. فإن أول ما أنزل من القرآن: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" [العلق: 1]، عند جماهير
ج/ 16 ص -255-رسالة أخبرت بجزاء. وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب.
وهذا فيه نزاع قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح. ونتيجة فعل المنهي انخفاض المنزلة وسلب كثير من النعم التي كان فيها وإن كان لا يعاقب بالضرر.
ويبين أن الوجوب والاستحقاق يُعْلم بالبديهة. فتارك الواجد وفاعل القبيح وإن لم يُعَذَّب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه. وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها أن يسلبها. فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد. والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك يُنْقص النعمة ولا يزيد.
مع أنه لابد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار.قال تعالى:"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" [التين:4 - 6]،وهذا مبسوط في مواضع.
والمقصود هنا أن بيان هذه الأصول وقع في أول ما أنزل من القرآن. فإن أول ما أنزل من القرآن: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" [العلق: 1]، عند جماهير
ج/ 16 ص -256-فقلت: "ما أنا بقارئ"
"فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"" [العلق: 1 - 5].
فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: "زملوني. زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي"
فقالت له خديجة: كلا، والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد
ج/ 16 ص -257- العزى ابن عم خديجة. وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرى، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي.
فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا بن أخى، ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. يا ليتنى فيها جذعًا! ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك!
فقال رسول الله ﷺ: "أو مخرجي هم؟"
قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى.وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفَتَر الوحي.
قال ابن شهاب الزهرى، سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال: أخبرنى جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله ﷺ يحدث
ج/ 16 ص -258- عن فَتْرَة الوحي: "فبينما أنا أمشى سمعت صوتًا فرفعت بصرى قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْت [جُئِثْتُ: أى ذعرت] حتى هويت إلى الأرض. فجئت أهلى فقلت: زملونى، زملونى، فزملونى. فأنزل الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ" إلى قوله: "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ"" [المدثر: 1 - 5].
فهذا يبين أن [المدثر] نزلت بعد تلك الفَتْرَة، وأن ذلك كان بعد أن عاين الملك الذي جاءه بحراء أولا فكان قد رأى الملك مرتين.
وهذا يفسر حديث جابر الذي روى من طريق آخر كما أخرجاه من حديث يحيى بن أبي كثير، قال:سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن.قال:"يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ" [المدثر: 1]. قلت:يقولون: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" [العلق: 1]. فقال أبو سلمة:سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت،فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله ﷺ قال: "جاورت بحراء، فلما قضيت جوارى هبطت فنوديت، فنظرت عن يمينى فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئًا،ونظرت أمامى فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا. فرفعت رأسى فرأيت شيئًا. فأتيت خديجة فقلت: دثرونى وصبوا علىّ ماءً باردًا، فدثروني وصبوا علي ماءً باردًا".
ج/ 16 ص -259- قال: "فنزلت: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ"" [المدثر: 1 - 3].
فهذا الحديث يوافق المتقدم، وإن [المدثر] نزلت بعد أن هبط من الجبل وهو يمشى، وبعد أن ناداه الملك حينئذ. وقد بين في الرواية الأخرى أن هذا الملك هو الذي جاءه بحراء، وقد بينت عائشة أن "اقْرَأْ" نزلت حينئذ في غار حراء. لكن كأنه لم يكن علم أن "اقًرأ" نزلت حينئذ، بل علم أنه رأى الملك قبل ذلك، وقد يراه ولا يسمع منه. لكن في حديث عائشة زيادة علم، وهو أمره بقراءة "اقْرَأْ".
وفي حديث الزهرى أنه سمى هذا [فَتْرَة الوحي]، وكذلك في حديث عائشة [فَتْرَة الوحي]. فقد يكون الزهري روى حديث جابر بالمعنى، وسمى ما بين الرؤيتين [فترة الوحي] كما بينته عائشة، وإلا فإن كان جابر سماه [فترة الوحي] فكيف يقول: إن الوحي لم يكن نزل؟
وبكل حال، فالزهري عنده حديث عروة، عن عائشة، وحديث أبي سلمة، عن جابر وهو أوسع علمًا وأحفظ من يحيى بن أبي كثير لو اختلفا. لكن يحيى ذكر أنه سأل أبا سلمة عن الأولى، فأخبر جابر بعلمه، ولم يكن علم ما نزل قبل ذلك، وعائشة أثبتت وبينت.
ج/ 16 ص -260- والآيات آيات [اقرأ] و[المدثر] تبين ذلك، والحديثان متصادقان مع القرآن ومع دلالة العقل على أن هذا الترتيب هو المناسب.
وإذا كان أول ما أنزل "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 1 5]، ففي الآية الأولى إثبات الخالق تعالى، وكذلك في الثانية.
وفيها وفي الثانية الدلالة على إمكان النبوة، وعلى نبوة محمد ﷺ.
أما الأولى؛ فإنه قال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"، ثم قال:"خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ". فذكر الخلق مطلقًا، ثم خص خلق الإنسان أنه خلقه من علق.وهذا أمر معلوم لجميع الناس،كلهم يعلمون أن الإنسان يحدث في بطن أمه،وأنه يكون من علق.وهؤلاء بنو آدم.
وقوله: "الْإِنسَانَ" هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين. فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات
ج/ 16 ص -261- يعلمها المستدل. والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق.
فأما خلق آدم من طين، فذاك إنما علم بخبر الأنبياء، أو بدلائل أُخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار الدهرية وغيرهم الذين لا يقرون بالنبوات.
وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة. فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة، وهذه السورة أول ما نزل، وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر، بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة، والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق.
وذكر سبحانه خلق الإنسان من العلق وهو جمع [عَلَقَة]، وهي القطعة الصغيرة من الدم؛ لأن ما قبل ذلك كان نطفة، والنطفة قد تسقط في غير الرحم كما يحتلم الإنسان، وقد تسقط في الرحم ثم يرميها الرحم قبل أن تصير عَلَقَة. فقد صار مبدأ لخلق الإنسان، وعُلِم أنها صارت علقة ليخلق منها الإنسان.
وقد قال في سورة القيامة: "أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى" [القيامة: 37 - 40]،
ج/ 16 ص -262-فهنا ذكرهذا على إمكان النشأة الثانية التي تكون من التراب؛ ولهذا قال في موضع آخر: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ" [الحج: 5]، ففي القيامة استدل بخلقه من نطفة، فإنه معلوم لجميع الخلق. وفي الحج ذكر خلقه من تراب، فإنه قد علم بالأدلة القطعية. وذكر أول الخلق أدل على إمكان الإعادة.
وأما هنا، فالمقصود ذكر ما يدل على الخالق تعالى ابتداء فذكر أنه خلق الإنسان من علق، وهو من العلقة الدم، يصير مضغة، وهو قطعة لحم كاللحم الذي يمضغ بالفم، ثم تخلق فتصور، كما قال تعالى "ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ" [الحج:5] فإن الرحم قد يقذفها غير مخلقة. فبين للناس مبدأ خلقهم، ويرون ذلك بأعينهم.
وهذا الدليل وهو خلق الإنسان من علق يشترك فيه جميع الناس. فإن الناس هم المستدلون، وهم أنفسهم الدليل والبرهان والآية. فالإنسان هوالدليل وهو المستدل، كما قال تعالى: "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" [الذاريات: 21]، وقال: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" [فصلت: 53]. وهذا كما قال في آية أخرى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" [الطور: 35].
ج/ 16 ص -263- وهو دليل يعلمه الإنسان من نفسه، ويذكره كلما تذكر في نفسه وفيمن يراه من بنى جنسه. فيستدل به على المبدأ والمعاد، كما قال تعالى: "وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا" [مريم: 66، 67]، وقال تعالى: "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ" [يس: 78، 79].
وكذلك قال زكريا لما تعجب من حصول ولد على الكبر فقال: "أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا" [مريم: 8، 9]، ولم يقل: "إنه أهون عليه" كما قال في المبدأ والمعاد: "وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ" [الروم: 27].
وقال سبحانه "خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" [العلق: 2]، بعد أن قال: "الَّذِي خَلَقَ" [العلق: 1]، فأطلق الخلق الذي يتناول كل مخلوق، ثم عين خلق الإنسان فكان كلما يعلم حدوثه داخلًا في قوله: "الَّذِي خَلَق".َ وذكر بعد الخلق التعليم الذي هو التعليم بالقلم، وتعليم الإنسان ما لم يعلم. فخص هذا التعليم الذي يستدل به على إمكان النبوة.
ولم يقل هنا: [هدى]، فيذكر الهدى العام المتناول للإنسان
ج/ 16 ص -264- وسائر الحيوان، كما قال في موضع آخر: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى" [الأعلى: 1 3]، وكما قال موسى "رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" [طه:50]؛ لأن هذا التعليم الخاص يستلزم الهدى العام، ولا ينعكس. وهذا أقرب إلى إثبات النبوة، فإن النبوة نوع من التعليم.
وليس جعل الإنسان نبيًا بأعظم من جعله العَلَقَة إنسانًا، حيًا، عالمًا، ناطقًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، قد علم أنواع المعارف، كما أنه ليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته. والقادر على المبدأ كيف لا يقدر على المعاد؟ والقادر على هذا التعليم كيف لا يقدر على ذاك التعليم وهو بكل شيء عليم، ولا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء؟
وقال سبحانه أولا: "عَلَّمَ بِالْقَلَمِ"،فأطلق التعليم والمعلم، فلم يخص نوعًا من المعلمين. فيتناول تعليم الملائكة وغيرهم من الإنس والجن، كما تناول الخلق لهم كلهم.
وذكر التعليم بالقلم؛ لأنه يقتضى تعليم الخط،والخط يطابق اللفظ وهو البيان والكلام. ثم اللفظ يدل على المعانى المعقولة التي في القلب فيدخل فيه كل علم في القلوب.
وكل شيء له حقيقة في نفسه ثابتة في الخارج عن الذهن، ثم
ج/ 16 ص -265- يتصوره الذهن والقلب، ثم يعبر عنه اللسان، ثم يخطه القلم. فله وجود عينى، وذهنى، ولفظى، ورسمى. وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان. لكن الأول هو هو، وأما الثلاث، فإنها مثال مطابق له. فالأول هو المخلوق، والثلاثة معلمة. فذكر الخلق والتعليم ليتناوب المراتب الأربع، فقال: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 1 5].
وقد تنازع الناس في الماهيات هل هي مجعولة أم لا؟ وهل ماهية كل شيء زائدة على وجوده؟ كما قد بُسِطَ هذا في غير هذا الموضع وبين الصواب في ذلك، وأنه ليس إلا ما يتصور في الذهن، ويوجد في الخارج.
فإن أريد الماهية ما يتصور في الذهن. وبالوجود ما في الخارج، أو بالعكس، فالماهية غير الوجود إذا كان ما في الأعيان مغايرًا لما في الأذهان.
وإن أريد بالماهية ما في الذهن، أو الخارج، أو كلاهما، وكذلك بالوجود، فالذي في الخارج من الوجود هو الماهية الموجودة في الخارج وكذلك ما في الذهن من هذا هو هذا، ليس في الخارج شيئان:
ج/ 16 ص -266-وهو سبحانه علم ما في الأذهان وخلق ما في الأعيان، وكلاهما مجعول له. لكن الذي في الخارج جعله جعلا خلقيًا. والذي في الذهن جعله جعلا تعليميًا. فهو الذي "خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ"، وهو "الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ". وقوله:"عَلَّمَ بِالْقَلَمِ" يدخل فيه تعليم الملائكة الكاتبين، ويدخل فيه تعليم كتب الكتب المنزلة. فعلم بالقلم أن يكتب كلامه الذي أنزله كالتوراة والقرآن،بل هو كتب التوراة لموسى.
وكون محمد كان نبيًا أميًا هو من تمام كون ما أتى به معجزًا خارقًا للعادة، ومن تمام بيان أن تعليمه أعظم من كل تعليم، كما قال تعالى: "وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" [العنكبوت: 48]، فغيره يعلم ما كتبه غيره، وهو علم الناس ما يكتبونه، وعلمه الله ذلك بما أوحاه إليه.
وهذا الكلام الذي أنزل عليه هو آية وبرهان على نبوته، فإنه لا يقدر عليه الإنس والجن. "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" [الإسراء: 88]، "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" [يونس: 38]، وفي الآية الأخرى: "فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" [هود: 13، 14].
ج/ 16 ص -267-فَصْل
وقد بسطنا في غير هذا الموضع طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة وأن كل طريق تتضمن ما يخالف السنة فإنها باطلة في العقل كما هي مخالفة للشرع.
والطريق المشهورة عند المتكلمين هو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام.
وقد بينا الكلام على هذه في غير موضع،وأنها مخالفة للشرع والعقل. وكثير من الناس يعلم أنها بدعة في الشرع، لكن لا يعلم فسادها في العقل. وبعضهم يظن أنها صحيحة في العقل والشرع، وأنها طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام وقد بين فساد هذا في غير موضع.
والمقصود هنا أن طائفة من النُظَّار مثبتة الصفات أرادوا
ج/ 16 ص -268- سلوك سبيل السنة ولم يكن عندهم إلا هذه الطريق.
فاستدلوا بخلق الإنسان، لكن لم يجعلوا خلقه دليلا كما في الآية، بل جعلوه مستدلا عليه. وظنوا أنه يعرف بالبديهة والحس حدوث أعراض النطفة. وأما جواهرها فاعتقدوا أن الأجسام كلها مركبة من الجواهر المنفردة، وأن خلق الإنسان وغيره إنما هو إحداث أعراض في تلك الجواهر بجمعها وتفريقها، ليس هو إحداث عين.
فصاروا يريدون أن يستدلوا على أن الإنسان مخلوق. ثم إذا ثبت أنه مخلوق قالوا: إن له خالقًا.
واستدلوا على أنه مخلوق بدليل الأعراض، وأن النطفة والعلقة والمضغة لا تنفك من أعراض حادثة، إذ كان عندهم جواهر تجمع تارة وتفرق أخرى، فلا تخلو عن اجتماع وافتراق، وهما حادثان. فلم يخل الإنسان عن الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها.
وهذه هي الطريقة التي سلكها الأشعرى في: "اللمع في الرد على أهل البدع"، وشرحه أصحابه شروحًا كثيرة. وكذلك في: [رسالته إلى أهل الثغر]. وذكر قوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ" [الواقعة: 58، 59]،
ج/ 16 ص -269-فاستدل على أن الإنسان مخلوق بأنه مركب من الجواهر التي لا تخلو من اجتماع وافتراق، فلم تخل من الحوادث، فهي حادثة.
وهذه الطريقة هي مقتضية من كون الأجسام كلها كذلك.
وتلك هي الطريقة المشهورة التي يسلكها الجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم من المتأخرين المنتسبين إلى المذاهب الأربعة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، كما ذكرها القاضى، وابن عقيل، وغيرهما. وذكرها أبو المعالى الجوينى، وصاحب [التتمة]، وغيرهما. وذكرها أبو الوليد الباجى [هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التُّجىبىُّ لمالكى الأندلسى الباجى، من علماء الأندلس، صنف كتبًا كثيرة منها المنتقى وهو أحد أئمة المسلمين، توفي بالمرية ليلة الخميس بين العشاءين 19 رجب سنة 474ه ودفن بالرِّباط على ضفة البحر]، وأبو بكر بن العربي، وغيرهما. وذكرها أبو منصور الماتريدي، والصابونى [هو أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل الصابوني الحافظ الواعظ المفسر، لقبه أهل السنة فيها أى في بلاد خراسان بشيخ الإسلام، ولد عام 373، ومات في نيسابور عام 449ه، يجيد الفارسية إجادته العربية، له كتاب عقيدة السلف]. وغيرهما.
لكن هؤلاء الذين استدلوا بخلق الإنسان فرضوا ذلك في الإنسان ظنًا أن هذه طريقة القرآن. وطولوا في ذلك ودققوا حتى استدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوقة، لظنهم أن المعلوم بالحس وبديهة العقل إنما هو حدوث أعراض، لا حدوث جواهر. وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب، والمطر، والزرع، والثمر، والإنسان والحيوان، فإنما يحدث فيه أعراضًا، وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها.
ج/ 16 ص -270- وزعموا أن أحدًا لا يعلم حدوث غيره من الأعيان بالمشاهدة، ولا بضرورة العقل، وإنما يعلم ذلك إذا استدل كما استدلوا. فقالوا: هذه أعراض حادثة في جواهر، وتلك الجواهر لم تخل من الأعراض لامتناع خلو الجواهر من الأعراض.
ثم قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.
وهذا بنوه على أن الأجسام المركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، وقالوا: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض.
وجمهور العقلاء من السلف، وأنواع العلماء، وأكثر النظار، يخالفون هؤلاء فيما يثبتون من الجوهر الفرد، ويثبتون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، ويقولون بأن الرب لا يزال يحدث الأعيان، كما دل على ذلك القرآن.
ولهذا كانت هذه الطريق باطلة عقلا وشرعًا، وهي مكابرة للعقل فإن كون الإنسان مخلوقًا محدثًا كائنًا بعد أن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس. وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن، وأن عينه حدثت كما قال تعالى: "وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا" [مريم: 9]، وقال تعالى: "أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا" [مريم: 67].
ج/ 16 ص -271-ليس هذا مما يستدل عليه، فإنه أبين وأوضح مما يستدل به عليه لو كان صحيحًا. فكيف إذا كان باطلًا.
وقولهم: إن الحادث أعراض فقط، وإنه مركب من الجواهر الفردة، قولان باطلان لا يعلم صحتهما. بل يعلم بطلانهما.
ويعلم حدوث جوهر الإنسان وغيره من المادة التي خلق منها، وهي العلق كما قال: "خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" [العلق: 2].
وكونه مركبًا من جواهر فردة ليس صحيحًا. ولو كان صحيحًا لم يكن معلومًا إلا بأدلة دقيقة لا تكون هي أصل الدين الذي هو مقدمات أولية. فإن تلك المقدمات يجب أن تكون بينة أولية، معلومة بالبديهة.
فطريقهم تضمن جحد المعلوم، وهو حدوث الأعيان الحادثة، وهذا معلوم للخلق؛ وإثبات ما ليس بمعلوم، بل هو باطل، وأن الإحداث لها إنما هو جمع وتفريق للجواهر، وأنه إحداث أعراض فقط.
ولهذا كان استدلالهم بطريقة الجواهر والأعراض على هذا الوجه مما أنكره عليهم أئمة الدين، وبينوا أنهم مبتدعون في ذلك، بل
ج/ 16 ص -272- بينوا ضلالهم شرعًا وعقلاً، كما بسط كلام السلف والأئمة عليهم في غير هذا الموضع، إذ هو كثير.
فالقرآن استدل بما هو معلوم للخلق من أنه: "خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" [العلق: 2]. وهؤلاء جاؤوا إلى هذا المعلوم فزعموا أنه غير معلوم، بل هو مشكوك فيه. ثم زعموا أنهم يذكرون الدليل الذي به يصير معلومًا. فذكروا دليلا باطلًا لا يدل على حدوثه، بل يظن أنه دليل وهو شبهة، ولها لوازم فاسدة.
فأنكروا المعلوم بالعقل، ثم الشرع، وادَّعوا طريقًا معلومة بالعقل وهي باطلة في العقل، والشرع. فضاهوا الذين قال الله فيهم: "لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: 10].
وكذلك في إثبات النبوات وإمكانها، وفي إثبات المعاد وإمكانه، عدلوا عن الطريق الهادية التي توجب العلم اليقينى التي هدى الله بها عباده إلى طريق تورث الشك والشبهة والحيرة. ولهذا قيل: غاية المتكلمين المبتدعين الشك، وغاية الصوفية المبتدعين الشطح.
ثم لها لوازم باطلة مخالفة للعقل والشرع، فألزموا لوازمها التي أوجبت لهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات. وتكلموا
ج/ 16 ص -273- في دلائل النبوة والمعاد، ودلائل الربوبية بأمور، وزعموا أنها أدلة وهي عند التحقيق ليست بأدلة. ولهذا يطعن بعضهم في أدلة بعض.
وإذا استدلوا بدليل صحيح فهو مطابق لما جاء به الرسول وإن تنوعت العبارات.
ولهذا قد يستدل بعضهم بدليل إما صحيح وإما غير صحيح فيطعن فيه آخر، ويزعم أنه يذكر ما هو خير منه، ويكون الذي يذكره دون ما ذكره ذاك. وهذا يصيبهم كثيرًا في الحدود، يطعن هؤلاء في حد هؤلاء، ويذكرون حدًا مثله أو دونه.
وتكون الحدود كلها من جنس واحد، وهي صحيحة إذا أريد بها التمييز بين المحدود وغيره. وأما من قال: إن الحدود تفيد تصوير ماهية المحدود، كما يقوله أهل المنطق، فهؤلاء غالطون ضالون، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع. وإنما الحد مُعرَّف للمحدود، ودليل عليه، بمنزلة الاسم، لكنه يفصل ما دل عليه الاسم بالإجمال، فهو نوع من الأدلة، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.
إذ المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الطريق المفيد للعلم واليقين كالتي بينها القرآن وبين ما ليس كذلك من طرق أهل البدع الباطلة شرعًا وعقلًا.
ج/ 16 ص -274-فَصْل
وهؤلاء الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام اضطربوا كثيرًا،كما قد بسط في مواضع.ولابد لكل منهم مع مخالفته للشرع المنزل من السماء إلى أن يخالف أيضًا صريح العقل ويكابر، فيكون ممن لا يسمع ولا يعقل.
فإن القول له لوازم، فإذا كان باطلًا فقد يستلزم أمورًا باطلة ظاهرة البطلان. وصاحبه يريد إثبات تلك اللوازم، فيظهر مخالفته للحس والعقل.
كالذين أثبتوا الجواهر المنفردة وقالوا: إن الحركات في نفسها لا تنقسم إلى سريع وبطىء، إذ كانت الحركة عندهم منقسمة كانقسام المتحرك، وكذلك الزمان وأجزاء الزمان. والحركة والمتحرك عندهم واحد لا ينقسم فإذا كان المتحركان سواء وحركة أحدهما أسرع قالوا: إنما ذاك لتخلل السكنات. وادعوا أن الرحا والدولاب وكل مستدير إذا تحرك فإن زمان حركة المحيط والطوق الصغير واحد مع كثرة أجزاء المحيط، فيجب أن تكون حركتها أكثر، فيكون زمانها أكثر، وليس هو بأكثر،
ج/ 16 ص -275- فادَّعوا أنها تنفك ثم تتصل. وهذه مكابرة من جنس "طفرة النَّظَّام" [هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ البصرى النظام، من أئمة المعتزلة قال الجاحظ: الأوائل يقولون: في كل سنة رجل لا نظير له، فإن صح ذلك فأبو إسحاق من هؤلاء الضلال وصدق فيما قال رأس الفرقة النظامية قد ألفت كتب في الرد على ضلاله وكفره، وفي لسان الميزان: أنه متهم بالزندقة].
وكذلك الذين قالوا: بأن العرض لا يبقى زمانين خالفوا الحس وما يعلمه العقلاء بضرورة عقولهم. فإن كل أحد يعلم أن لون جسده الذي كان لحظة هو هذا اللون. وكذلك لون السماء، والجبال، والخشب، والورق، وغير ذلك.
ومما ألجأهم إلى هذا، ظنهم أنهما لو كانا باقيين لم يمكن إعدامهما، فإنهم حاروا في إفناء الله الأشياء إذا أراد أن يفنيها، كما حاروا في إحداثها. وحيرتهم في الإفناء أظهر. هذا يقول: يخلق فناء لا في محل، فيكون ضدًا لها، فتفنى بضدها. وهذا يقول: يقطع عنها الأعراض مطلقًا، أو البقاء الذي لا تبقى إلا به، فيكون فناؤها لفوات شرطها.
ومن أسباب ذلك ظنهم، أو ظن من ظن منهم، أن الحوادث لا تحتاج إلى الله إلا حال إحداثها، لا حال بقائها، وقد قالوا: إنه قادر على إفنائها. فتكلفوا هذه الأقوال الباطلة.
وهؤلاء لا يحتجون على بقاء الرب بافتقار العالم إليه، بل بأنه قديم، وما وجب قدمه امتنع عدمه. وإلا فالباقى حال بقائه لا يحتاج إلى الرب عندهم.
ج/ 16 ص -276- وهؤلاء شر من الذين سألوا موسى: هل ينام ربك؟ فضرب الله لهم المثل بالقارورتين لما أرق موسى ليالى، ثم أمره بإمساك القارورتين فلما أمسكهما غلبه النوم فتكسرتا. فبين الله له لو أخذته سنة أو نوم لتدكدك العالم.
وعلى رأى هؤلاء: لو أخذته سنة أو نوم لم يعدم الباقى. لكن منهم من يقول: هو محتاج إلى إحداث الأعراض متوالية؛ لأن العرض عنده لا يبقى زمانين. فمن هذا الوجه يقول: إذ لو أخذته سنة أو نوم لم تحدث الأعراض التي تبقى بها الأجسام، لا لأن الأجسام في نفسها مفتقرة إليه في حال بقائها عنده.
وكذلك يقولون: إن الإرادة لا تتعلق بالقديم، ولا بالباقى. وكذلك القدرة عندهم لا تتعلق بالباقى، ولا العجز يصح أن يكون عجزًا عن الباقى والقديم عندهم؛ لأن العجز عندهم إنما يكون عجزًا عما تصح القدرة عليه.
وهؤلاء يقولون: علة الافتقار إلى الخالق مجرد الحدوث. وآخرون من المتفلسفة يقولون: هو مجرد الإمكان، ويدَّعون أن القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال هو مفتقر إلى الصانع. فهذا يدعى أن الباقى المحدث لا يفتقر، وهذا يدعى أن الباقى القديم يفقتر وكلا القولين
ج/ 16 ص -277- فاسد، كما قد بسط في مواضع.
والحق أن كل ما سوى الله حادث، وهو مفتقر إليه دائمًا. وهو يبقيه ويعدمه،كما ينشئه ويحدثه، كما يحدث الحوادث من التراب وغيره ثم يفنيها ويحيلها إلى التراب وغيره.
وهؤلاء ادعى كثير منهم أن كل ما سوى الله يعدم ثم يعاد، وبعضهم قال: هذا ممكن، لكنه موقوف على الخبر، والخبر لم يتعرض لذلك بنفي ولا إثبات. وهذا هو المعاد عندهم.
وهذا لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا دل عليه عقل. بل الكتاب والسنة يبين أن الله يحيل العالم من حال إلى حال، كما يشق السماء، ويجعل الجبال كالعهن، ويكور الشمس، إلى غير ذلك مما أخبر الله في كتابه لم يخبر أن جميع الأشياء تعدم ثم تعاد.
ثم منهم من يقول: إنها تعدم بعد ذلك لامتناع وجود حوادث لا آخر لها، كما تقوله الجهمية. وهذا مما أنكره عليهم السلف والأئمة، كما قد ذكر في غير هذا الموضع.
وهؤلاء إنما قالوا هذا طردًا لقولهم بامتناع دوام جنس الحوادث، وقالوا: ما وجب أن يكون له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء، كما قد بسط هذا وبين فساد هذا الأصل.
ج/ 16 ص -278-فَصْل
وهو سبحانه تارة يذكر خلق الإنسان مجملًا، وتارة يذكره مفصلا، كقوله: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" [المؤمنون: 12- 14]. ثم ومن الناس من يقول: لم دخلت لام التوكيد في الموت وهو مشاهد ولم تدخل في البعث وهو غيب فيحتاج إلى التوكيد؟ وذلك والله أعلم أن المقصود بذكر الموت والبعث هو الإخبار بالجزاء والمعاد، وأول ذلك هو الموت. فنبه على الإيمان بالمعاد، والاستعداد لما بعد الموت.
وهو إنما قال: [تبعثون] فقط ولم يقل:[تجازون]، لكن قد علم أن البعث للجزاء.
وأيضًا، ففيه تنبيه على قهر الإنسان وإذلاله. يقول: بعد هذا
ج/ 16 ص -279- كله إنك تموت، فترد إلى أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" [التين: 4 - 6].
وهذا الرد هو بالموت. فإنه يصير في أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال: "كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ" [المطففين: 7]، وقال: "إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ" [المطففين: 18].
وفي قوله: "أَسْفَلَ سَافِلِينَ" قولان؛ قيل: الهرم. وقيل: العذاب بعد الموت، وهذا هو الذي دلت عليه الآية قطعًا. فإنه جعله في أسفل سافلين إلا المؤمنين. والناس نوعان: فالكافر بعد الموت يعذب في أسفل سافلين، والمؤمن في عليين.
وأما القول الأول ففيه نظر. فإنه ليس كل من سوى المؤمنين يهرم فيرد إلى أسفل سافلين. بل كثير من الكفار يموت قبل الهرم، وكثير من المؤمنين يهرم، وإن كان حال المؤمن في الهرم أحسن حالا من الكافر، فكذلك في الشباب حال المؤمن أحسن من حال الكافر فجعل الرد إلى أسفل سافلين في آخر العمر وتخصيصه بالكفار ضعيف.
ولهذا قال بعضهم: إن الاستثناء منقطع على هذا القول، وهو أيضًا
ج/ 16 ص -280- ضعيف. فإن المنقطع لا يكون في الموجب، ولو جاز هذا لجاز لكل أحد أن يدعى في أى استثناء شاء أنه منقطع. وأيضًا فالمنقطع لا يكون الثاني منه بعض الأول، والمؤمنون بعض نوع الإنسان.
وقد فسر ذلك بعضهم على القول الأول بأن المؤمن يكتب له ما كان يعمله إذا عجز. قال إبراهيم النخعى: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب الله له ما كان يعمل، وهو قوله: "فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" [التين:6]. وقال ابن قتيبة: المعنى: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا" [التين:6] في وقت القوة والقدرة فإنهم في حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات. فإن الله يعلم لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير فهو يجرى لهم أجر ذلك.
فيقال: وهذا أيضًا ثابت في حال الشباب إذا عجز الشاب لمرض أو سفر، كما في الصحيحين عن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم".
وفسره بعضهم بما روى عن ابن عباس أنه قال: من قرأ القرآن فإنه لا يرد إلى أرذل العمر. فيقال: هذا مخصوص بقارئ القرآن، والآية استثنت الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء قرؤوا القرآن أو لم
ج/ 16 ص -281- يقرؤوه، وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها".
وأيضًا، فيقال: هرم الحيوان ليس مخصوصًا بالإنسان،بل غيره من الحيوان إذا كبر هرم.
وأيضًا، فالشيخ وإن ضعف بدنه فعقله أقوى من عقل الشاب. ولو قدر أنه ينقص بعض قواه فليس هذا ردًا إلى أسفل سافلين. فإنه سبحانه إنما يصف الهرم بالضعف كقوله: "ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً" [الروم: 54]، وقوله: "وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ" [يس: 68]، فهو يعيده إلى حال الضعف. ومعلوم أن الطفل ليس هو في أسفل سافلين، فالشيخ كذلك وأولى.
وإنما في أسفل سافلين من يكون في سجين، لا في عليين،كما قال تعالى: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" [النساء: 145].
ومما يبين ذلك قوله: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"[التين: 7]. فإنه يقتضى ارتباط هذا بما قبله لذكره بحرف الفاء. ولو كان المذكور إنما هو رده إلى الهرم دون ما بعد الموت لم يكن هناك تعرض للدين والجزاء، بخلاف
ج/ 16 ص -282- ما إذا كان المذكور أنه بعد الموت يرد إلى أسفل سافلين غير المؤمن المصلح. فإن هذا يتضمن الخبر بأن الله يدين العباد بعد الموت فيكرم المؤمنين ويهين الكافرين.
وأيضًا، فإنه سبحانه أقسم على ذلك بأقسام عظيمة بالتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين. وهي المواضع التي جاء منها محمد، والمسيح، وموسى، وأرسل الله بها هؤلاء الرسل مبشرين ومنذرين.
وهذا الإقْسَام لا يكون على مجرد الهرم الذي يعرفه كل أحد، بل على الأمور الغائبة التي تؤكد بالإقسام. فإن إقسام الله هو على أنباء الغيب.
وفي نفس المقسم به وهو إرسال هؤلاء الرسل تحقيق للمقسم عليه وهو الثواب والعقاب بعد الموت لأن الرسل أخبروا به.
وهو يتضمن أيضًا الجزاء في الدنيا، كإهلاك من أهلكهم من الكفار. فإنه ردهم إلى أسفل سافلين بهلاكهم في الدنيا. وهو تنبيه على زوال النعم إذا حصلت المعاصى، كمن رد في الدنيا إلى أسفل جزاء على ذنوبه.
ج/ 16 ص -283- وقوله: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ" أى بالجزاء يتناول جزاءه على الأعمال في الدنيا، والبرزخ، والآخرة. إذ كان قد أقسم بأماكن هؤلاء المرسلين الذين أرسلوا بالآيات البينات الدالة على أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده مبشرين لأهل الإيمان، منذرين لأهل الكفر، وقد أقسم بذلك على أن الإنسان بعد أن جعل في أحسن تقويم إن آمن وعمل صالحًا كان له أجر غير ممنون، وإلا كان في أسفل سافلين.
فتضمنت السورة بيان ما بعث به هؤلاء الرسل الذين أقسم بأماكنهم. والإقسام بمواضع محنهم تعظيم لهم. فإن موضع الإنسان إذا عظم لأجله كان هو أحق بالتعظيم. ولهذا يقال في المكاتبات: [إلى المجلس، والمقر ونحو ذلك السامي، والعالي]، ويذكر بخضوع له وتعظيم والمراد صاحبه.
فلما قال: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ" [التين: 7]، دل على أن ما تقدم قد بين فيه ما يمنع التكذيب بالدين.
وفي قوله: "يُكَذِّبُكَ" قولان. قيل: هو خطاب للإنسان، كما قال مجاهد وعكرمة، ومقاتل، ولم يذكر البغوى غيره. قال عكرمة، يقول: فما يكذبك بعد بهذه الأشياء التي فعلت بك. وعن مقاتل:
ج/ 16 ص -284- فما الذي يجعلك مكذبًا بالجزاء، وزعم أنها نزلت في عَيَّاش بن أبي ربيعة.
والثاني أنه خطاب للرسول وهذا أظهر فإن الإنسان إنما ذكر مخبرًا عنه لم يخاطب. والرسول هو الذي أنزل عليه القرآن، والخطاب في هذه السور له، كقوله: "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" [الضحى: 3]، وقوله: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ" [الشرح: 1]، وقوله: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" [العلق:1].
والإنسان إذا خوطب، قيل له: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" [الانفطار: 6]، "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا" [الانشقاق: 6].
وأيضًا، فبتقدير أن يكون خطابًا للإنسان يجب أن يكون خطابًا للجنس، كقوله: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ". وعلى قول هؤلاء؛إنما هو خطاب للكافر خاصة المكذب بالدين.
وأيضًا، فإن قوله: "يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"، أى يجعلك كاذبا، هذا هو المعروف من لغة العرب. فإن استعمال كَذَّب غيره، أى: نسبه إلى الكذب وجعله كاذبًا مشهور، والقرآن مملوء من هذا. وحيث ذكر الله تكذيب المكذبين للرسل، أو التكذيب بالحق ونحو ذلك، فهذا مراده.
ج/ 16 ص -285- لكن هذه الآية فيها غموض من جهة كونه قال: "يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ". فذكر المكذب بالدين فذكر المكَذِّبَ والمكَذَّبَ به جميعًا. وهذا قليل جاء نظيره في قوله: "فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ" [الفرقان: 19] فأما أكثر المواضع فإنما يذكر أحدهما إما المُكَذِّب، كقوله: "كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ" [الشعراء: 105]؛ وإما المُكَذَّب به، كقوله: "بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ" [الفرقان: 11].
وأما الجمع بين ذكر المكذب والمكذب به فقليل.
ومن هنا اشتبهت هذه الآية على من جعل الخطاب فيها للإنسان، وفسر معنى قوله: "فَمَا يُكَذِّبُكَ": فما يجعلك مكذبًا.
وعبارة آخرين: فما يجعلك كذابًا. قال ابن عطية: وقال جمهور من المفسرين: المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذابًا بالدين تجعل لله أندادًا، وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل؟
قلت: وكلا القولين غير معروف في لغة العرب، أن يقول: [كذبك، أي: جعلك مكذبًا]، بل [كذبك: جعلك كذابًا].
وإذا قيل: [جعلك كذابًا]، أى: كاذبًا فيما يخبر به، كما جعل الكفار الرسل كاذبين فيما أخبروا به فكذبوهم، وهذا يقول:
ج/ 16 ص -286- جعلك كاذبًا بالدين، فجعل كذبه أنه أشرك وأنه أنكر المعاد، وهذا ضد الذي ينكر.
ذاك جعله مكذبًا بالدين، وهذا جعله كاذبًا بالدين. والأول فاسد من جهة العربية، والثاني فاسد من جهة المعنى. فإن الدين هو الجزاء الذي كذب به الكافر. والكافر كذب به، لم يكذب هو به.
وأيضًا، فلا يعرف في المخبر أن يقال: [كذبت به]، بل يقال: [كذبته].
وأيضًا، فالمعروف في [كذبه]، أي نسبه إلى الكذب، لا أنه جعل الكذب فيه. فهذا كله تكلف لا يعرف في اللغة، بل المعروف خلافه. وهو لم يقل: [فما يكذبك]، ولا قال: [فما كذبك].
ولهذا كان علماء العربية على القول الأول. قال ابن عطية: واختلف في المخاطب بقوله: "فما يكذبك"، فقال قتادة، والفراء، والأخفش: هو محمد ﷺ. قال الله له: [فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت]؟
قال: ويحتمل أن يكون الدين على هذا التأويل جميع شرعه ودينه.
ج/ 16 ص -287- قلت: وعلى أن المخاطب محمد ﷺ في المعنى قولان: أحدهما قول قتادة، قال: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"، أى: استيقن، فقد جاءك البيان من الله. وهكذا رواه عنه ابن أبي حاتم بإسناد ثابت.
وكذلك ذكره المهْدَوى: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"، أى استيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين. فالخطاب للنبى ﷺ، وقال: معناه عن قتادة. قال: وقيل المعنى: فما يكذبك أيها الشاك يعنى الكفار في قدرة الله؟ أى شيء يحملك على ذلك بعد ما تبين لك من قدرته؟ قال: وقال الفراء:فمن يكذبك بالثواب والعقاب؟ وهو اختيار الطبرى.
قلت:هذا القول المنقول عن قتادة هو الذي أوجب نفور مجاهد عن أن يكون الخطاب للنبى ﷺ،كما روى الناس ومنهم ابن أبي حاتم عن الثورى، عن منصور قال:قلت لمجاهد:"فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ" عنى به النبي ﷺ؟ قال:معاذ الله! عنى به الإنسان.
وقد أحسن مجاهد في تنزيه النبي ﷺ أن يقال له: "فَمَا يُكَذِّبُكَ"، أى: استيقن، ولا تكذب. فإنه لو قيل له: [لا تكذب]
ج/ 16 ص -288- لكان هذا من جنس أمره بالإيمان والتقوى، ونهيه عما نهي الله عنه. وأما إذا قيل:"فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"، فهو لم يكذب بالدين، بل هو الذي أخبر بالدين وصدق به، فهو "وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ" [الزمر: 33]، فكيف يقال له:"مَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"؟ فهذا القول فاسد لفظًا ومعنى.
واللفظ الذي رأيته منقولًا بالإسناد عن قتادة ليس صريحًا فيه، بل يحتمل أن يكون أراد به خطاب الإنسان. فإنه قال: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"، قال: "استيقن، فقد جاءك البيان". وكل إنسان مخاطب بهذا. فإن كان قتادة أراد هذا فالمعنى صحيح.
لكن هم حكوا عنه أن هذا خطاب للرسول ﷺ وعلى هذا فهذا المعنى باطل. فلا يقال للرسول: [فأى شيء يجعلك مكذبًا بالدين؟] وإن ارتأت به النفس، لأن هذا فيه دلائل تدل على فساده. ولهذا استعاذ منه مجاهد.
والصواب ما قاله الفَرَّاء، والأخْفَش، وغيرهما. وهو الذي اختاره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وغيره من العلماء كما تقدم.
وكذلك ذكره أبو الفرج ابن الجوزي عن الفراء، فقال: إنه خطاب
ج/ 16 ص -289- للنبي ﷺ، والمعنى: فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، قاله الفراء.
قال: وأما [الدين] فهو الجزاء. قلت: وكذلك قال غير واحد، كما روى ابن أبي حاتم عن النضر بن عربي: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"، أي: بالحساب.
ومن تفسير العوفي عن ابن عباس: أي بحكم الله. قلت: قال: [بحكم الله] لقوله: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" [التين: 8]، وهو سبحانه يحكم بين المصدق بالدين والمكذب به.
وعلى هذا، قوله: "فَمَا" وصف للأشخاص. ولم يقل: [فمن]؛ لأن [ما] يراد به الصفات دون الأعيان، وهو المقصود، كقوله: "فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء" [النساء:3]، وقوله: "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ" [الكافرون: 2]، وقوله: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا" [الشمس: 7]. كأنه قيل: فما المكذب بالدين بعد هذا؟ أى: من هذه صفته ونعته، هو جاهل ظالم لنفسه،والله يحكم بين عباده فيما يختلفون فيه من هذا النبأ العظيم.
وقوله: "بّعًد "، قد قيل: إنه [بعد ما ذكر من دلائل الدين].
ج/ 16 ص -290- وقد يقال: لم يذكر إلا الإخبار به، وأن الناس نوعان: في أسفل سافلين، ونوع لهم أجر غير ممنون؟
فقد ذكر البشارة والنذارة، والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين.
فمن كذبك بعد هذا، فحكمه إلى الله أحكم الحاكمين وأنت قد بلغت ما وجب عليك تبليغه.
وقوله: "فَمَا يُكَذِّبُكَ" ليس نفيًا للتكذيب، فقد وقع. بل قد يقال: إنه تعجب منه، كما قال: "وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" [الرعد: 5].
وقد يقال: إن هذا تحقير لشأنه وتصغير لقدره لجهله وظلمه، كما يقال: [من فلان؟] و[من يقول هذا إلا جاهل؟]. لكنه ذكره بصيغة [ما] فإنها تدل على صفته، وهي المقصودة، إذ لا غرض في عينه. كأنه قيل: [فأي صنف وأي جاهل يكذبك بعد بالدين؟ فإنه من الذين يردون إلى أسفل سافلين].
وقوله: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" [التين: 8]، يدل على أنه الحاكم بين المكذب بالدين والمؤمن به. والأمر في ذلك له سبحانه وتعالى.
ج/ 16 ص -291- والقرآن لا تنقضي عجائبه. والله سبحانه بين مراده بيانًا أحكمه، لكن الاشتباه يقع على من لم يرسخ في علم الدلائل الدالة. فإن هذه السورة وغيرها فيها عجائب لا تنقضي.
منها: أن قوله: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ" [التين 7] ذكر فيه الرسول المكَذَّبَ والدين المكَذَّب به جميعًا. فإن السورة تضمنت الأمرين. تضمنت الإقسام بأماكن الرسل المبينة لعظمتهم، وما أتوا به من الآيات الدالة على صدقهم الموجبة للإيمان. وهم قد أخبروا بالمعاد المذكور في هذه السورة.
وقد أقسم الله عليه كما يقسم عليه في غير موضع، وكما أمر نبيه أن يقسم عليه في مثل قوله: "زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ" [التغابن: 7]، وقوله: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ" [سبأ: 3].
فلما تضمنت هذا وهذا ذكر نوعي التكذيب، فقال: "فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ"، والله سبحانه أعلم.
وأيضًا، فإنه لا ذنب له في ذلك، والقرآن مراده أن يبين أن هذا الرد جزاء على ذنوبه؛ ولهذا قال: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [التين: 6]،
ج/ 16 ص -292-كما قال:"إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر: 2،3].
لكن هنا ذكر الخسر فقط، فوصف المستثنين بأنهم تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مع الإيمان والصلاح. وهناك ذكر أسفل سافلين، وهو العذاب، والمؤمن المصلح لا يعذب، وإن كان قد ضيع أمورًا خسرها، لو حفظها لكان رابحًا غير خاسر. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أنه سبحانه يذكر خلق الإنسان مجملًا ومفصلًا.
وتارة يذكر إحياءه، كقوله تعالى: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [البقرة: 82]، وهو كقول الخليل عليه السلام: "رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ" [البقرة: 258].
فإن خلق الحياة ولوازمها وملزوماتها أعظم وأدل على القدرة، والنعمة، والحكمة.
ج/ 16 ص -293-فَصْل
قوله: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 3 - 5]. سمى ووصف نفسه بالكرم، وبأنه الأكرم، بعد إخباره أنه خلق؛ ليتبين أنه ينعم على المخلوقين ويوصلهم إلى الغايات المحمودة، كما قال في موضع آخر: "الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى" [الأعلى: 2، 3]، وكما قال موسى عليه السلام : "رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" [طه: 50]، وكما قال الخليل عليه السلام : "الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ" [الشعراء: 78].
فالخلق يتضمن الابتداء، والكرم تضمن الانتهاء، كما قال في أم القرآن: "رَبِّ الْعَالَمِينَ"، ثم قال: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" [الفاتحة: 1، 2].
ولفظ الكرم لفظ جامع للمحاسن والمحامد. لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن. والكرم كثرة الخير ويسرته.
ولهذا قال النبي ﷺ: "لا تسموا العنب الكَرْم، فإنما الكَرْم قلب المؤمن".
ج/ 16 ص -294- وهم سموا العنب [الكَرْم] ؛ لأنه أنفع الفواكه يؤكل رطبًا، ويابسًا، ويعصر فيتخذ منه أنواع.
وهو أعم وجودًا من النخل؛ يوجد في عامة البلاد، والنخل لا يكون إلا في البلاد الحارة؛ ولهذا قال في رزق الإنسان: "فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" [عبس: 24 32].
فقدم العنب. وقال في صفة الجنة: "إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا" [النبأ: 31، 32].
ومع هذا نهي النبي ﷺ عن تسميته بالكرم وقال: "الكَرْمُ قلب المؤمن". فإنه ليس في الدنيا أكثر ولا أعظم خيرًا من قلب المؤمن.
والشيء الحسن المحمود يوصف بالكرم. قال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ" [الشعراء: 7]، قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن. وقال الزجاج: الزوج النوع، والكريم المحمود. وقال غيرهما:"مِن كُلِّ زَوْجٍ" صنف وضرب، "كَرِيمٍ" حسن، من النبات مما يأكل الناس والأنعام. يقال: [نخلة كريمة]، إذا طاب حملها، و[ناقة كريمة]، إذا كثر لبنها.
ج/ 16 ص -295- وعن الشَّعْبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
والقرآن قد دل على أن الناس فيهم كريم على الله يكرمه، وفيهم من يهينه. قال تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات: 13]، وقال تعالى: "وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء" [الحج: 18].
وقال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل: "وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". وكرائم الأموال: التي تكرم على أصحابها لحاجتهم إليها وانتفاعهم بها من الأنعام وغيرها.
وهو سبحانه أخبر أنه الأكرم بصيغة التفضيل والتعريف لها. فدل على أنه الأكرم وحده، بخلاف ما لو قال: [وربك أكرم]. فإنه لا يدل على الحصر، وقوله: "الْأَكْرَمُ" يدل على الحصر.
ولم يقل: [الأكرم من كذا]، بل أطلق الاسم ليبين أنه الأكرم مطلقًا غير مقيد. فدل على أنه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه.
قال ابن عطية: ثم قال له تعالى: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ" [العلق: 3]، على
ج/ 16 ص -296- جهة التأنيس، كأنه يقول: امض لما أُمِرْتَ به وربك ليس كهذه الأرباب، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص، فهو ينصرك ويظهرك.
قلت: وقد قال بعض السلف: [لا يهدين أحدكم لله ما يستحي أن يهديه لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء]. أى: هو أحق من كل شيء بالإكرام، إذ كان أكرم من كل شيء.
وهو سبحانه ذو الجلال والإكرام. فهو المستحق لأن يُجل، ولأن يُكرم. والإجلال يتضمن التعظيم، والإكرام يتضمن الحمد والمحبة.
وهذا كما قيل في صفة المؤمن: إنه رزق حلاوة ومهابة.
وفي حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي ﷺ: "من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه".
وهذا لأنه سبحانه له الملك وله الحمد.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبَيَّنَ أن أهل السنة يصفونه بالقدرة الإلهية، والحكمة، والرحمة. وهم الذين يعبدونه ويحمدونه، وأنه يجب أن يكون هو المستحق لأن يعبد دون ما سواه والعبادة تتضمن غاية الذل وغاية الحب.
ج/ 16 ص -297- وأن المنكرين لكونه يحب من الجهمية ومن وافقهم حقيقة قولهم: أنه لا يستحق أن يعبد، كما أن قولهم: إنه يفعل بلا حكمة ولا رحمة، يقتضي أنه لا ىحمد.
فهم إنما يصفونه بالقدرة والقهر. وهذا إنما يقتضي الإجلال فقط لا يقتضي الإكرام، والمحبة، والحمد. وهو سبحانه الأكرم. قال تعالى: "إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ" [البروج: 12، 13]، ثم قال: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" [البروج: 14 - 16]، وقال شعيب: "وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ" [هود: 90]. وفي أول ما نزل: وَصَفَ نفسه بأنه الذي خلق، وبأنه الأكرم. والجهمية ليس عندهم إلا كونه خالقًا مع تقصيرهم في إثبات كونه خالقًا لا يصفونه بالكرم،ولا الرحمة، ولا الحكمة.
وإن أطلقوا ألفاظها فلا يعنون بها معناها، بل يطلقونها لأجل مجيئها في القرآن، ثم يلحدون في أسمائه ويحرفون الكلم عن مواضعه. فتارة يقولون: الحكمة هي القدرة، وتارة يقولون: هي المشيئة، وتارة يقولون: هي العلم.
وأن الحكمة وإن تضمنت ذلك واستلزمته فهي أمر زائد
ج/ 16 ص -298- على ذلك. فليس كل من كان قادرًا أو مريدًا كان حكيمًا، ولا كل من كان له علم يكون حكيمًا، حتى يكون عاملا بعلمه. قال ابن قُتَيبَة وغيره: الحكمة هي العلم والعمل به، وهي أيضًا : القول الصواب. فتتناول القول السديد، والعمل المستقيم الصالح.
والرب تعالى أحكم الحاكمين، وأحكم الحكماء.
والإحكام الذي في مخلوقاته دليل على علمه. وهم مع سائر الطوائف يستدلون بالإحكام على العلم، وإنما يدل إذا كان الفاعل حكيمًا يفعل لحكمة.
وهم يقولون: إنه لا يفعل لحكمة، وإنما يفعل بمشيئة تخص أحد المتماثلين بلا سبب يوجب التخصيص. وهذا مناقض للحكمة، بل هذا سفه.
وهو قد نزه نفسه عنه في قوله:"لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ" [الأنبياء: 17، 18].
وقد أخبر أنه إنما خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأنه
ج/ 16 ص -299- لم يخلقهما باطلًا، وأن ذلك ظن الذين كفروا. وقال: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا" [المؤمنون: 115]، وقال: "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" [القيامة: 36]، أي: مهملًا، لا يُؤْمَر ولا يُنْهي. وهذا استفهام إنكار على من جوز ذلك على الرب.
والجهمية المجْبِرة تُجَوِّزُ ذلك عليه، ولا تنزهه عن فعل، وإن كان من منكرات الأفعال. ولا تنعته بلوازم كرمه، ورحمته، وحكمته، وعدله؛ فيعلم أنه يفعل ما هو اللائق بذلك، ولا يفعل ما يضاد ذلك.
بل تجوز كل مقدور أن يكون، وألا يكون، وإنما يجزم بأحدهما لأجل خبر سمعي، أو عادة مطردة، مع تناقضهم في الاستدلال بالخبر أخبار الرسل وعادات الرب كما بسط هذا في مواضع، مثل الكلام على معجزات الأنبياء، وعلى إرسال الرسل، والأمر والنهي، وعلى المعاد، ونحو ذلك، مما يتعلق بأفعاله وأحكامه الصادرة عن مشيئته. فإنها صادرة عن حكمته وعن رحمته، ومشيئته مستلزمة لهذا وهذا، لا يشاء إلا مشيئة متضمنة للحكمة، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها".
ج/ 16 ص -300- فهم في الحقيقة لا يقرون بأنه الأكرم.
والإرادة التي يثبتونها لم يدل عليها سمع ولا عقل، فإنه لا تعرف إرادة ترجح مرادًا على مراد بلا سبب يقتضي الترجيح. ومن قال من الجهمية والمعتزلة: إن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، فهو مكابر.
وتمثيلهم ذلك بالجائع إذا أخذ أحد الرغيفين، والهارب إذا سلك أحد الطريقين، حجة عليهم، فإن ذلك لا يقع إلا مع رجحان أحدهما، إما لكونه أيسر في القدرة، وإما لأنه الذي خطر بباله وتصوره، أو ظن أنه أنفع، فلابد من رجحان أحدهما بنوع ما؛ إما من جهة القدرة، وإما من جهة التصور والشعور. وحينئذ، يرجح إرادته، والآخر لم يرده. فكيف يقال: إن إرادته رَجَّحَت أحدهما بلا مُرَجِّح؟ أو أنه رَجَّحَ إرادة هذا على إرادة ذاك بلا مرجح؟ وهذا ممتنع يعرف امتناعه من تصوره حق التصور.
ولكن لما تكلموا في مبدأ الخلق بكلام ابتدعوه خالفوا به الشرع والعقل احتاجوا إلى هذه المكابرة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبذلك تسلط عليهم الفلاسفة من جهة أخرى. فلا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا.
ج/ 16 ص -301- ومعلوم بصريح العقل أن القادر إذا لم يكن مريدًا للفعل ولا فاعلا، ثم صار مريدًا فاعلاً، فلابد من حدوث أمر اقتضى ذلك. والكلام هنا في مقامين: أحدهما: في جنس الفعل والقول. هل صار فاعلا متكلمًا بمشيئته بعد أن لم يكن، أو ما زال فاعلا متكلمًا بمشيئته. وهذا مبسوط في مسائل الكلام والأفعال في مسألة القرآن وحدوث العالم.
والثانى: إرادة الشيء المعين وفعله، كقوله تعالى: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونٍُ" [يس: 82]، وقوله: "فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا" [الكهف:82]، وقوله: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" [الإسراء: 16]، وقوله: "وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ" [الرعد: 11]، وقوله: "وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ" [يونس:107]، وقوله: "قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ" [الزمر: 38].
وهو سبحانه إذا أراد شيئًا من ذلك فللناس فيها أقوال:
قيل: الإرادة قديمة أزلية واحدة، وإنما يتجدد تعلقها بالمراد،
ج/ 16 ص -302- ونسبتها إلى الجميع واحدة، ولكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص. فهذا قول ابن كلاب، والأشعرى. ومن تابعهما.
وكثير من العقلاء يقول: إن هذا فساده معلوم بالاضطرار، حتى قال أبو البركات: ليس في العقلاء من قال بهذا.
وما علم أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر والكلام، وبطلانه من جهات: من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك، ومن جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها، ومن جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئًا حدث حتى تخصص أو لا تخصص. بل تجددت نسبة عدمية ليست وجودًا،وهذا ليس بشيء، فلم يتجدد شيء. فصارت الحوادث تحدث وتتخصص بلا سبب حادث، ولا مخصص.
والقول الثانى: قول من يقول بإرادة واحدة قديمة مثل هؤلاء، لكن يقول: تحدث عند تجدد الأفعال إرادات في ذاته بتلك المشيئة القديمة، كما تقوله الكرَّامية وغيرهم.
وهؤلاء أقرب من حيث أثبتوا إرادات الأفعال. ولكن يلزمهم ما لزم أولئك من حيث أثبتوا حوادث بلا سبب حادث، وتخصيصات بلا مُخَصِّص، وجعلوا تلك الإرادة واحدة تتعلق بجميع الإرادات الحادثة،
ج/ 16 ص -303- وجعلوها أيضًا تخصص لذاتها،ولم يجعلوا عند وجود الإرادات الحادثة شيئًا حدث حتى تخصص تلك الإرادات الحدوث.
والقول الثالث: قول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون قيام الإرادة به. ثم إما أن يقولوا بنفي الإرادة، أو يفسرونها بنفس الأمر والفعل، أو يقولوا بحدوث إرادة لا في محل كقول البصريين.
وكل هذه الأقوال قد علم أيضًا فسادها.
والقول الرابع: أنه لم يزل مريدًا بإرادات متعاقبة، فنوع الإرادة قديم وأما إرادة الشيء المعين فإنما يريده في وقته.
وهو سبحانه يقدر الأشياء ويكتبها، ثم بعد ذلك يخلقها. فهو إذا قدرها علم ما سيفعله، وأراد فعله في الوقت المستقبل، لكن لم يرد فعله في تلك الحال، فإذا جاء وقته أراد فعله فالأول عزم، والثاني قصد.
وهل يجوز وصفه بالعزم؟ فيه قولان: أحدهما المنع، كقول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى. والثاني الجواز، وهو أصح. فقد قرأ جماعة من السلف: "فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله"، بالضم. وفي الحديث
ج/ 16 ص -304- الصحيح من حديث أم سلمة: "ثم عزم الله لي". وكذلك في خطبة مسلم: "فعزم لي".
وسواء سمى [عزمًا] أو لم يسم، فهو سبحانه إذا قدرها، علم أنه سيفعلها في وقتها، وأراد أن يفعلها في وقتها. فإذا جاء الوقت فلابد من إرادة الفعل المعين، ونفس الفعل، ولابد من علمه بما يفعله.
ثم الكلام في علمه بما يفعله هل هو العلم المتقدم بما سيفعله؟ وعلمه بأن قد فعله هل هو الأول؟ فيه قولان معروفان. والعقل والقرآن يدل على أنه قدر زائد، كما قال: "لنعلم" في بضعة عشر موضعًا، وقال ابن عباس: إلا لنرى.
وحينئذ، فإرادة المعين تترجح لعلمه بما في المعين من المعنى المرجح لإرادته. فالإرادة تتبع العلم.
وكون ذلك المعين متصفًا بتلك الصفات المرجحة، إنما هو في العلم والتصور، ليس في الخارج شيء.
ومن هنا غلط من قال: [المعدوم شيء]، حيث أثبتوا ذلك المراد في الخارج. ومن لم يثبته شيئًا في العلم، أو كان ليس عنده إلا إرادة
ج/ 16 ص -305- واحدة وعلم واحد، ليس للمعلومات والمرادات صورة علمية عند هؤلاء. فهؤلاء نفوا كونه شيئًا في العلم والإرادة، وأولئك أثبتوا كونه شيئًا في الخارج.
وتلك الصورة العلمية الإرادية حدثت بعد أن لم تكن. وهي حادثة بمشيئته وقدرته، كما يُحدث الحوادث المنفصلة بمشيئته وقدرته. فيقدر ما يفعله، ثم يفعله.
فتخصيصها بصفة دون صفة، وقدر دون قدر هو للأمور المقتضية لذلك في نفسه. فلا يريد إلا ما تقتضى نفسه إرادته بمعنى يقتضي ذلك، ولا يرجح مرادًا على مراد إلا لذلك.
ولا يجوز أن يرجح شيئًا لمجرد كونه قادرًا. فإنه كان قادرًا قبل إرادته، وهو قادر على غيره. فتخصيص هذا بالإرادة لا يكون بالقدرة المشتركة بينه وبين غيره.
ولا يجوز أيضًا أن تكون الإرادة تُخَصَّص مثلًا على مثل بلا مُخَصِّص، بل إنما يريد المريد أحد الشيئين دون الآخر لمعنى في المريد والمراد، لابد أن يكون المريد إلى ذلك أميل، وأن يكون في المراد ما أوجب رجحان ذلك الميل.
ج/ 16 ص -306- والقرآن والسنة تثبت القدر، وتقدير الأمور قبل أن يخلقها، وأن ذلك في كتاب، وهذا أصل عظيم يثبت العلم والإرادة لكل ما سيكون ويزيل إشكالات كثيرة ضل بسببها طوائف في هذا المكان في مسائل العلم والإرادة.
فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان، كما ذكره النبي ﷺ في حديث جبريل، قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره". وقد تبرأ ابن عمر وغيره من الصحابة من المكذبين بالقدر.
ومع هذا، فطائفة من أهل الكلام وغيرهم لا تثبت القدر إلا علمًا أزليًا وإرادة أزلية فقط. وإذا أثبتوا الكتابة قالوا: إنها كتابة لبعض ذاك.
وأما من يقول: إنه قدرها حينئذ، كما في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ أنه قال: "قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"، فقد بُسِطَ الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
ج/ 16 ص -307- وهو كقوله: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ" [الأعراف: 167]، وقوله: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" [ص: 85]، وقوله: "وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى" [طه: 129]، وقوله: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" [الصافات:171 173]، وقوله: "لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [الأنفال: 68].
والكتاب في نفسه لا يكون أزليًا. وفي حديث رواه حماد بن سلمة، عن الأشعث ابن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قِلابة، عن أبي الأشعث الصنعانى، عن شداد بن أوس؛ أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي سنة أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة"، رواه الترمذي، وقال: غريب.
وهو سبحانه أنزل القرآن ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
وكثير من الكتب المصنفة في أصول الدين والكلام، يوجد فيها الأقوال المبتدعة دون القول الذي جاء به الكتاب والسنة.
فالشهرستاني [هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد، الشهرستاني من فلاسفة الإسلام كان إمامًا في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة، يلقب بالأفضل، ولد في شهرستان عام 479، وانتقل إلى بغداد عام 510ه، فأقام ثلاث سنين وعاد إلى بلده فتوفي بها عام 548ه، من كتبه [الملل والنحل]، و[نهاية الإقدام في علم الكلام] وغيرهما] مع تصنيفه في الملل والنحل يذكر في مسألة الكلام
ج/ 16 ص -308- والإرادة وغيرهما أقوالًا ليس فيها القول الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإن كان بعضها أقرب.
وقَبْله أبو الحسن كتابه في اختلاف المصلين من أجمع الكتب، وقد استقصي فيه أقاويل أهل البدع. ولما ذكر قول أهل السنة والحديث ذكره مجملًا، غير مفصل. وتصرف في بعضه، فذكره بما اعتقده هو أنه قولهم من غير أن يكون ذلك منقولًا عن أحد منهم.
وأقرب الأقوال إليه قول ابن كُلاَّب.
فأما ابن كلاب، فقوله مشوب بقول الجهمية، وهو مركب من قول أهل السنة وقول الجهمية،وكذلك مذهب الأشعرى في الصفات وأما في القدر والإيمان فقوله قول جهم.
وأما ما حكاه عن أهل السنة والحديث وقال: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، فهو أقرب ما ذكره.
وبعضه ذكره عنهم على وجهه، وبعضه تصرف فيه وخلطه بما هو من أقوال جهم في الصفات والقدر، إذ كان هو نفسه يعتقد صحة تلك الأصول.
وهو يحب الانتصار لأهل السنة والحديث وموافقتهم فأراد أن
ج/ 16 ص -309- يجمع بين ما رآه من رأى أولئك، وبين ما نقله عن هؤلاء؛ ولهذا يقول فيه طائفة: إنه خرج من التصريح إلى التمويه. كما يقوله طائفة: إنهم الجهمية الإناث، وأولئك الجهمية الذكور.
وأتباعه الذين عرفوا رأيه في تلك الأصول، ووافقوه أظهروا من مخالفة أهل السنة والحديث ما هو لازم لقولهم، ولم يهابوا أهل السنة والحديث ويعظموا ويعتقدوا صحة مذاهبهم كما كان هو يرى ذلك.
والطائفتان أهل السنة والجهمية يقولون: إنه تناقض، لكن السنى يحمد موافقته لأهل الحديث ويذم موافقته للجهمية، والجهمى يذم موافقته لأهل الحديث ويحمد موافقته للجهمية.
ولهذا كان متأخرو أصحابه كأبي المعالى ونحوه أظهر تجهمًا وتعطيلًا من متقدميهم. وهي مواضع دقيقة، يغفر الله لمن أخطأ فيها بعد اجتهاده.
لكن الصواب ما أخبر به الرسول، فلا يكون الحق في خلاف ذلك قط والله أعلم.
ومن أعظم الأصول التي دل عليها القرآن في مواضع كثيرة جدًا، وكذلك الأحاديث، وسائر كتب الله، وكلام السلف، وعليها تدل
ج/ 16 ص -310- المعقولات الصريحة، هو إثبات الصفات الاختيارية، مثل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته، وكذلك يقوم بذاته فِعْلُه الذي يفعله بمشيئته.
فإثبات هذا الأصل يمنع ضلال الطوائف الذين كذبوا به، والقرآن والحديث مملوء، وكلام السلف والأئمة مملوء من إثباته.
فالحق المحض؛ ما أخبر به الرسول ﷺ، فلا يكون الحق في خلاف ذلك. لكن الهدى التام يحصل بمعرفة ذلك وتصوره. فإن الاختلاف تارة ينشأ من سوء الفهم ونقص العلم، وتارة من سوء القصد.
والناس يختلفون في العلم والإرادة في تعدد ذلك وإيجاده.
ومعلوم أن ما يقوم بالنفس من إرادة الأمور، لا يمكن أن يقال فيه. العلم بهذا هو العلم بهذا، ولا إرادة هذا هو إرادة هذا. فإن هذا مكابرة وعناد.
وليس تمييز العلم عن العلم، والإرادة عن الإرادة، تمييزًا مع انفصال أحدهما عن الآخر. بل نفس الصفات المتنوعة كالعلم
ج/ 16 ص -311- والقدرة، والإرادة إذا قامت بمحل واحد لم ينفصل بعضها عن بعض، بل محل هذا هو محل هذا، كالطعم واللون والرائحة القائمة بالأَتْرُجَّة الواحدة وأمثالها من الفاكهة وغيرها.
فإذا قيل:[هي علوم وإرادات]، لم ينفصل هذا عن هذا بفصل حسي، بل هو نوع واحد قائم بالنفس. وإذا علم هذا بعد علمه بذلك فقد زاد هذا النوع وكثر وإن شئت قلت: عظم. فلا يزيد فيه زيادة الكمية عن زيادة الكيفية.
بل يقال: [علم كثير، وعلم عظيم] بأن تكون العظمة ترجع إلى قوته وشرف معلومه، ونحو ذلك، كما قال النبي ﷺ لأبي بن كعب: [أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟] قال: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة: 255]. فقال: [لِيَهْنِكَ العلم، أبا المنذر!].
وكتب سلمان إلى أبي الدرداء: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك وَيْعْظُم حلمك.
وانضمام العلم إلى العلم، والإرادة إلى الإرادة، والقدرة إلى القدرة، هو شبيه بانضمام الأجسام المتصلة، كالماء إذا زيد فيه ماء، فإنه يكثر قدره. لكن هو كم متصل لا منفصل، بخلاف الدراهم.
ج/ 16 ص -312- فإذا قيل: [تعددت العلوم والإرادات] فهو إخبار عن كثرة قدرها وأنها أكثر وأعظم مما كانت، لا أن هناك معدودات منفصلة كما قد يفهم بعض الناس.
ولهذا كان العلم اسم جنس. فلا يكاد يجمع في القرآن، بل يقال: "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ" [آل عمران: 61]، فيذكر الجنس، كذلك الماء، ليس في القرآن ذكر مياه، بل إنما يذكر جنس الماء: "وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا" [الفرقان: 48]، ونحو ذلك.
والعلم يشبه بالماء، كقوله ﷺ: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا..... الحديث". وقد قال: "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" إلى قوله: "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ" [الرعد: 17].
وماخلقه الرب تعالى فإنه يراه، ويسمع أصوات عباده. والمعدوم لا يرى باتفاق العقلاء.
والسالمية كأبي طالب المكي وغيره لم يقولوا: إنه يرى قائمًا بنفسه، وإنما قالوا: يراه الرب في نفسه وإن كان هو معدومًا في ذات الشيء المعدوم. فهم يجعلون الرؤية لما يقوم بنفس العالم من صورته العلمية
ج/ 16 ص -313- ما هو عدم محض. وهم وإن كانوا غلطوا في بعض ما قالوه فلم يقولوا: إن العدم المحض الذي ليس بشيء يرى فإن هذا لا يقوله عاقل. وفي الحقيقة إذا رؤى شيء فإنما رؤى مثاله العلمى، لا عينه.
وأبو الشيخ الأصبهانى لما ذكرت هذا المسألة أَمَرَ بالإمساك عنها.
فقبل أن يوجد لم يكن يرى، وبعد أن يعدم لا يرى، وإنما يرى حال وجوده. وهذا هو الكمال في الرؤية.
وكذلك سمع أصوات العباد هو عند وجودها، لا بعد فنائها، ولا قبل حدوثها. قال تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: 105] وقال: "ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" [يونس: 14].
فَصْل
الرسول ﷺ بعثه الله تعالى هدى ورحمة للعالمين. فإنه كما أرسله بالعلم والهدى، والبراهين العقلية والسمعية، فإنه أرسله بالإحسان إلى الناس، والرحمة لهم بلا عوض، وبالصبر على أذاهم
ج/ 16 ص -314- واحتماله. فبعثه بالعلم، والكرم، والحلم، عليم هاد، كريم محسن، حليم صفوح.
قال تعالى: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ" [الشورى: 52، 53]. وقال تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [إبراهيم: 1]. وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا" [الشورى: 52]. ونظائره كثيرة.
وقال: "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" [الفرقان: 57].وقال:"قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ" [سبأ:47]. وقال:"قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا" [الأنعام: 90]. فهو يعلم ويهدى ويصلح القلوب ويدلها على صلاحها في الدنيا والآخرة بلا عوض.
وهذا نعت الرسل كلهم، كل يقول: "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" [الشعراء: 109]. ولهذا قال أصحاب يس: "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ" [يس: 20، 21].
وهذه سبيل من اتبعه، كما قال: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف: 108].
ج/ 16 ص -315- وأما المخالفون لهم، فقد قال عن المنتسبين إليهم مع بدعة: "إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ" [التوبة: 34]. فهؤلاء أخذوا أموالهم ومنعوهم سبيل الله، ضد الرسل فكيف بمن هو شر من هؤلاء من علماء المشركين، والسحرة، والكهان؟ فهم أوكل لأموالهم بالباطل، وأصد عن سبيل الله من الأحبار والرهبان.
وهو سبحانه قال: "إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ"، فليس كلهم كذلك، بل قال في موضع آخر: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" [المائدة: 82].
وقد قال في وصف الرسول: "وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ" [التكوير: 24]. وفيها قراءتان. فمن قرأ: [بظنين]، أي: ما هو بمتهم على الغيب، بل هو صادق أمين فيما يخبر به. ومن قرأ: "بِضَنِينٍ"، أى: ما هو ببخيل، لا يبذله إلا بعوض، كالذين يطلبون العوض على ما ىعلمونه.
فوصفه بأنه يقول الحق فلا يكذب، ولا يكتم. وقد وصف أهل الكتاب بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا، وأنهم يشترون به ثمنًا قليلًا.
ج/ 16 ص -316- ومع هذا وهذا قد أمده بالصبر على أذاهم، وجعله كذلك يعطيهم ما هم محتاجون إليه غاية الحاجة بلا عوض، وهم يكرهونه ويؤذونه عليه.
وهذا أعظم من الذي يبذل الدواء النافع للمرضي، ويسقيهم إياه بلا عوض وهم يؤذونه كما يصنع الأب الشفيق. وهو أب المؤمنين.
وكذلك نعت أمته بقوله: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل عمران: 110]، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل حتى تدخلوهم الجنة فيجاهدون، يبذلون أنفسهم وأموالهم لمنفعة الخلق وصلاحهم، وهم يكرهون ذلك لجهلهم، كما قال أحمد في خطبته:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فَتْرَة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم!. إلى آخر كلامه.
فهذا هذا، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. وهو سبحانه يجزي الناس بأعمالهم، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه
ج/ 16 ص -317- فهو ينعم على الرسول بإنعامه جزاء على إحسانهم، والجميع منه. فهو الرحمن الرحيم، الجواد الكريم، الحنان المنان، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، وله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
وهو سبحانه يحب معالى الأخلاق، ويكره سفسافها. وهو يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات. وقد قيل أيضًا : وقد يحب الشجاعة ولو على قتل الحيات، ويحب السماحة ولو بكف من تمرات.
والقرآن أخبر أنه يحب المحسنين، ويحب الصابرين. وهذا هو الكرم والشجاعة. فَصْل
وقوله: "الْأَكْرَمُ"، يقتضي اتصافه بالكرم في نفسه، وأنه الأكرم وأنه محسن إلى عباده. فهو مستحق للحمد لمحاسنه وإحسانه.
وقوله: "ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" [الرحمن: 27]. فيه ثلاثة أقوال؛ قيل: أهْلٌ أن يُجَلَ وأَن يُكْرَم، كما يقال: إنه "أَهْلُ التَّقْوَى" [المدثر: 56]، أي: المستحق لأن
ج/ 16 ص -318- يُتَّقَى. وقيل: أَهْلٌ أن يُجَلَّ في نفسه، وأن يكرم أهل ولايته وطاعته. وقيل: أهل أن يُجَلَّ في نفسه وأهل أن يكرم.
ذكر الخَطَّأبي الاحتمالات الثلاثة، ونقل ابن الجوزي كلامه فقال: قال أبو سليمان الخطابي: الجلال مصدر الجليل، يقال: جليل بين الجلالة والجلال. والإكرام مصدر أكرم، يكرم، إكرامًا. والمعنى: أنه يكرم أهل ولايته وطاعته، وأن الله يستحق أن يُجَلَّ ويكرم، ولا يجحد ولا يكفر به، قال: ويحتمل أن يكون المعنى: يَكْرِم أهل ولايته ويرفع درجاتهم.
قلت: وهذا الذي ذكره البغوى فقال:"ذُو الْجَلَالِ": العظمة والكبرياء "وَالْإِكْرَامِ": يكرم أنبياءه وأولياءه بلطفه مع جلاله وعظمته.
قال الخطَّابي: وقد يحتمل أن يكون أحد الأمرين وهو الجلال مضافًا إلى الله بمعنى الصفة له، والآخر مضافًا إلى العبد بمعنى الفعل، كقوله تعالى: "هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ" [المدثر: 56]، فانصرف أحد الأمرين إلى الله وهو المغفرة، والآخر إلى العباد وهي التقوى.
قلت: القول الأول هو أقربها إلى المراد، مع أن الجلال هنا
ج/ 16 ص -319- ليس مصدر جل جلالا، بل هو اسم مصدر أجل إجلالًا، كقول النبي ﷺ: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالى فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذى السلطان المقسط". فجعل إكرام هؤلاء من جلال الله، أى: من إجلال الله، كما قال: "وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا" [نوح: 17]. وكما يقال: كلَّمه كلامًا، وأعطاه عطاء، والكلام والعطاء اسم مصدر التكليم والإعطاء.
والجلال قُرِن بالإكرام، وهو مصدر المتعدى، فكذلك الإكرام.
ومن كلام السلف: أَجِلُّوا الله أن تقولوا كذا. وفي حديث موسى: يا رب، إني أكون على الحال التي أجلك أن أذكرك عليها. قال: "اذكرني على كل حال".
وإذا كان مستحقًا للإجلال والإكرام لزم أن يكون متصفًا في نفسه بما يوجب ذلك،كما إذا قال: الإله هو المستحق لأن يُؤْلَه،أى: يعبد، كان هو في نفسه مستحقًا لما يوجب ذلك. وإذا قيل: "هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى"، كان هو في نفسه متصفًا بما يوجب أن يكون هو المتقى.
ومنه قول النبي ﷺ إذا رفع رأسه من الركوع بعد
ج/ 16 ص -320- ما يقول: "ربنا ولك الحمد": "ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجِد منك الجِد". أي: هو مستحق لأن يثنى عليه وتمجد نفسه.
والعباد لا يحصون ثناء عليه، وهو كما أثنى على نفسه، كذلك هو أهل أن يجل وأن يكرم. وهو سبحانه يجل نفسه ويكرم نفسه، والعباد لا يحصون إجلاله وإكرامه.
والإجلال من جنس التعظيم، والإكرام من جنس الحب والحمد وهذا كقوله: "لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ" [التغابن: 1]. فله الإجلال والملك، وله الإكرام والحمد.
والصلاة مبناها على التسبيح في الركوع والسجود، والتحميد والتوحيد في القيام والقعود، والتكبير في الانتقالات، كما قال جابر: كنا مع رسول الله ﷺ، فكنا إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سَبَّحنَا، فوضعت الصلاة على ذلك. رواه أبو داود.
وفي الركوع يقول: "سبحان ربي العظيم". وقال النبي صلى الله
ج/ 16 ص -321-عليه وسلم: "إنى نُهِيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا. أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم".
وإذا رفع رأسه حمد فقال: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد". فيحمده في هذا القيام، كما يحمده في القيام الأول إذا قرأ أم القرآن.
فالتحميد والتوحيد مقدم على مجرد التعظيم؛ ولهذا اشتملت الفاتحة على هذا؛ أولها تحميد،وأوسطها تمجيد،ثم في الركوع تعظيم الرب،وفي القيام يحمده،ويثنى عليه، ويمجده.
فدل على أن التعظيم المجرد، تابع لكونه محمودًا وكونه معبودًا. فإنه يحب أن يُحْمَد ويُعْبَد، ولابد مع ذلك من التعظيم، فإن التعظيم لازم لذلك.
وأما التعظيم، فقد يتجرد عن الحمد والعبادة على أصل الجهمية. فليس ذلك بمأمور به، ولا يصير العبد به لا مؤمنًا، ولا عابدًا، ولا مطيعًا.
وأبو عبد الله بن الخطيب الرازى يجعل الجلال للصفات السلبية، والإكرام للصفات الثبوتية، فيسمى هذه [صفات الجلال]، وهذه [صفات الإكرام]. وهذا اصطلاح له، وليس المراد هذا في قوله:
ج/ 16 ص -322- "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" [الرحمن: 27]، وقوله: "تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " [الرحمن: 78].
وهو في مصحف أهل الشام: [تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام]. وهي قراءة ابن عامر، فالاسم نفسه يذوى بالجلال والإكرام. وفي سائر المصاحف وفي قراءة الجمهور: "ذي الجلال"، فيكون المسمى نفسه.
وفي الأولى: "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ". فالمذوى وجهه سبحانه وذلك يستلزم أنه هو ذو الجلال والإكرام. فإنه إذا كان وجهه ذا الجلال والإكرام، كان هذا تنبيهًا، كما أن اسمه إذا كان ذا الجلال والإكرام كان تنبيهًا على المسمى.
وهذا يبين أن المراد: أنه يستحق أن يُجل ويُكرم.
فإن الاسم نفسه يسبح ويذكر ويراد بذلك المسمى.والاسم نفسه لا يفعل شيئًا، لا إكراما ولا غيره؛ ولهذا ليس في القرآن إضافة شيء من الأفعال والنعم إلى الاسم.
ولكن يقال: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" [الأعلى: 1]، "تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ"، ونحو ذلك. فإن اسم الله مبارك تنال معه البركة. والعبد يسبح اسم ربه الأعلى فيقول: "سبحان ربي الأعلى". ولما نزل قوله:
ج/ 16 ص -323-"سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى"، قال: "اجعلوها في سجودكم"، فقالوا: "سبحان ربي الأعلى".
فكذلك كان النبي ﷺ لا يقول: "سبحان اسم ربي الأعلى". لكن قوله: "سبحان ربي الأعلى"، هو تسبيح لاسمه يراد به تسبيح المسمى، لا يراد به تسبيح مجرد الاسم، كقوله: "قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى" [الإسراء:110]. فالداعى يقول: [يا الله]، [يا رحمن]، ومراده المسمى. وقوله: "أَيًّا مَّا"، أى الاسمين تدعوا، ودعاء الاسم هو دعاء مسماه.
وهذا هو الذي أراده من قال من أهل السنة:إن الاسم هو المسمى. أرادوا به أن الاسم إذا دعي وذكر يراد به المسمى.فإذا قال المصلى:[الله أكبر]، فقد ذكر اسم ربه،ومراده المسمى.
لم يريدوا به أن نفس اللفظ هو الذات الموجودة في الخارج.فإن فساد هذا لا يخفي على من تصوره،ولو كان كذلك كان من قال: [نارًا]، احترق لسانه. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود أن الجلال والإكرام مثل الملك والحمد، كالمحبة والتعظيم، وهذا يكون في الصفات الثبوتية والسلبية. فإن كل سلب فهو متضمن
ج/ 16 ص -324- للثبوت. وأما السلب المحض فلا مدح فيه.
وهذا مما يظهر به فساد قول من جعل أحدهما للسلب والآخر للإثبات، لا سيما إذا كان من الجهمية الذين ينكرون محبته، ولا يثبتون له صفات توجب المحبة والحمد، بل إنما يثبتون ما يوجب القهر، كالقدرة. فهؤلاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وألحدوا في أسمائه وآياته بقدر ما كذبوا به من الحق، كما بسط هذا في غير هذا الموضع.
فَصْل
قوله تعالى في أول ما أنزل: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" [العلق: 1]، وقوله: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ" [العلق: 3].
ذكر في الموضعين بالإضافة التي توجب التعريف، وأنه معروف عند المخاطبين، إذ الرب تعالى معروف عند العبد بدون الاستدلال بكونه خلق. وأن المخلوق مع أنه دليل وأنه يدل على الخالق، لكن هو معروف في الفطرة قبل هذا الاستدلال؛ ومعرفته فطرية، مغروزة في الفطرة، ضرورية، بديهية، أولية.
وقوله: "اقْرَأْ" وإن كان خطابًا للنبى ﷺ أولا، فهو
ج/ 16 ص -325- خطاب لكل أحد، سواء كان قوله: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ" هو خطاب للإنسان مطلقًا، والنبى ﷺ أول من سمع هذا الخطاب، أو من النوع، أو هو خطاب للنبى ﷺ خصوصًا، كما قد قيل في نظائر ذلك.
مثل قوله: "مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ" [النساء: 79]، قيل: خطاب له، وقيل: خطاب للجنس، وأمثال ذلك. فإنه وإن قيل: إنه خطاب له، فقد تقرر أن ما خوطب به من أمر ونهي فالأمة مخاطبة به ما لم يقم دليل التخصيص.
وبهذا يبين أن قوله تعالى: "فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ" [يونس: 94]، يتناول غيره، حتى قال كثير من المفسرين: الخطاب لرسول الله ﷺ، والمراد به غيره. أي: هم الذين أريد منهم أن يسألوا لِمَا عندهم من الشك، وهو لم يرد منه السؤال إذ لم يكن عنده شك.
ولا شك أن هذا لا يمنع أن يكون هو مخاطبًا ومرادًا بالخطاب، بل هذا صريح اللفظ، فلا يجوز أن يقال: إن الخطاب لم يتناوله. ولأن ليس في الخطاب أنه أمر بالسؤال مطلقًا، بل أمر به إن كان عنده شك، وهذا لا يوجب أن يكون عنده شك. ولا أنه أمر به
ج/ 16 ص -326- مطلقًا، بل أمر به إن كان هذا موجودًا، والحكم المعلق بشرط عدم عند عدمه.
وكذلك كثير من المفسيرين يقول في قوله: "الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" [البقرة: 147]، وفي قوله: "وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَّ" [الأحزاب: 48]، ونحو ذلك: إن الخطاب لرسول ﷺ والمراد به غيره. أي: غيره قد يكون ممتريا ومطيعًا لأولئك فنهي، وهو لا يكون ممتريًا ولا مطيعًا لهم.
ولكن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فهو أيضًا مخاطب بهذا، وهو منهي عن هذا. فالله سبحانه قد نهاه عما حرمه من الشرك، والقول عليه بلا علم، والظلم، والفواحش. وينهي الله له عن ذلك وطاعته لله في هذا استحق عظيم الثواب، ولولا النهي والطاعة لما استحق ذلك.
ولا يجب أن يكون المأمور المنهي ممن يشك في طاعته ويجوز عليه أن يعصى الرب، أو يعصيه مطلقًا ولا يطيعه، بل الله أمر الملائكة مع علمه أنهم يطيعونه، ويأمر الأنبياء مع علمه أنهم يطيعونه، وكذلك المؤمنون كل ما أطاعوه فيه قد أمرهم به مع علمه أنهم يطيعونه.
ج/ 16 ص -327- ولا يقال: لا يحتاج إلى الأمر، بل بالأمر صار مطيعًا مستحقًا لعظيم الثواب.
ولكن النهي يقتضي قدرته على المنهي عنه، وأنه لو شاء لفعله، ليثاب على ذلك إذا تركه. وقد يقتضي قيام السبب الداعى إلى فعله فينهي عنه، فإنه بالنهي وإعانة الله له على الامتثال يمتنع مما نهي عنه إذا قام السبب الداعى له إليه.
وكذلك قد قيل في قوله: "سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ" [البقرة: 211]: إنه أمر للرسول، والمراد به هو والمؤمنون. وقيل: هو أمر لكل مكلف.
فقوله في هذه السورة: "اقْرَأْ" ، كقوله في آخرها: "وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ" [العلق: 19]، وقوله: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" [الضحى: 9 11]، هذا متناول لجميع الأمة. وقوله: "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا" [المزمل: 1، 2]، فإنه كان خطابا للمؤمنين كلهم.
وكذلك قوله: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ" [المدثر: 1، 2] لما أُمِرَ بتبليغ ما أنزل إليه من الإنذار. وهذا فرض على الكفاية. فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه وينذروا كما أنذر. قال تعالى: "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" [التوبة: 122]
ج/ 16 ص -328-والجن لما سمعوا القرآن، "وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ" [الأحقاف: 29].
وإذا كان كذلك، فكل إنسان في قلبه معرفة بربه. فإذا قيل له: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"، عرف ربه الذي هو مأمور أن يقرأ باسمه، كما يعرف أنه مخلوق، والمخلوق يستلزم الخالق ويدل عليه.
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن الإقرار والاعتراف بالخالق فطرى ضرورى في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة. وهذا قول جمهور الناس، وعليه حُذَّاق النظار، أن المعرفة تارة تحصل بالضرورة، وتارة بالنظر. كما اعترف بذلك غير واحد من أئمة المتكلمين.
وهذه الآية أيضًا تدل على أنه ليس النظر أول واجب، بل أول ما أوجب الله على نبيه ﷺ: "ا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"، لم يقل: [انظر واستدل حتى تعرف الخالق].
وكذلك هو أول ما بلغ هذه السورة، فكان المبلغون مخاطبين بهذه الآية قبل كل شيء ولم يؤمروا فيها بالنظر والاستدلال.
وقد ذهب كثير من أهل الكلام إلى أن اعتراف النفس بالخالق وإثباتها له، لا يحصل إلا بالنظر.
ج/ 16 ص -329- ثم كثير منهم جعلوا ذلك نظرًا مخصوصًا، وهو النظر في الأعراض، وأنها لازمة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها.
قالوا: وما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
ثم منهم من اعتقد أن هذه المقدمة بينة بنفسها، بل ضرورية، ولم يميز بين الحادث المعين والمحدود وبين الجنس المتصل شيئًا بعد شيء؛ إما لظنه أن هذا ممتنع، أو لعدم خطوره بقلبه. لكن، وإن قيل هو ممتنع، فليس العلم بذلك بديهيًا.
وإنما العلم البديهي أن الحادث الذي له مبدأ محدود كالحادث والحوادث المقدرة من حين محدود فتلك ما لايسبقها فهو حادث. وما لا يخلو منها لم يسبقها فهو حادث. فإنه إذا لم يسبقها كان معها أو متأخرًا عنها. وعلى التقديرين فهو حادث.
وأما إذا قدر حوادث دائمة شيئًا بعد شيء، فهذا إما أن يقال: هو ممكن، وإما أن يقال: هو ممتنع. لكن العلم بامتناعه يحتاج إلى دليل، ولم تُعْلَم طائفة معروفة من العقلاء قالوا: إن العلم بامتناع هذا بديهي ضرورى، ولا يفتقر إلى دليل.
ج/ 16 ص -330- بل كثير من الناس لا يتصور هذا تصورًا تامًا، بل متى تصور الحادث قدر في ذهنه مبدأ، ثم يتقدم في ذهنه شيء قبل ذلك، ثم شيء قبل ذلك، لكن إلى غايات محدودة بحسب تقدير ذهنه، كما يقدر الذهن عددًا بعد عدد، ولكن كل ما يقدره الذهن فهو منته.
ومن الناس من إذا قيل له: [الأزل] أو: [كان هذا موجودًا في الأزل]، تصور ذلك. وهذا غلط، بل [الأزل] ما ليس له أول، كما أن [الأبد] ليس له آخر، وكل ما يومئ إليه الذهن من غاية ف [الأزل] وراءها. وهذا لبسطه موضع آخر.
والمقصود هنا أن هؤلاء الذين قالوا: معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا: لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام الجهمية القدرية ومن تبعهم. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه. إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول ﷺ أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة.
ثم هذا النظر هذا الدليل للناس فيه ثلاثة أقوال:
ج/ 16 ص -331-قيل: إنه واجب، وإن المعرفة موقوفة عليه، كما يقوله هؤلاء.
وقيل: بل يمكن حصول المعرفة بدونه،لكنه طريق آخر إلى المعرفة. وهذا يقوله كثير من هؤلاء ممن يقول بصحة هذه الطريقة لكن لا يوجبها؛ كالخطأبي والقاضى أبي يعلى، وأبي جعفر السمنانى قاضى الموصل شيخ أبي الوليد الباجي وكان يقول: إيجاب النظر بقية بقيت على الشيخ أبي الحسن الأشعري من الاعتزال.وهؤلاء الذين لا يوجبون هذا النظر.
ومنهم من لا يوجب النظر مطلقا كالسِّمْناني، وابن حزم وغيرهما.
ومنهم من يوجبه في الجملة، كالخطَّأبي، وأبي الفَرَج المقْدِسي.
والقاضى أبو يعلى يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، بل ويقول تارة بإيجاب النظر المعين، كما يقوله أبو المعالى وغيره.
ثم من الموجبين للنظر من يقول: هو أول الواجبات، ومنهم من يقول: بل المعرفة الواجبة به، وهو نزاع لفظى. كما أن بعضهم قال: أول الواجبات القصد إلى النظر، كعبارة أبي المعالى. ومن هؤلاء من قال: بل الشك المتقدم كما قاله أبو هاشم.
وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في موضع آخر،
ج/ 16 ص -332- وبين أنها كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل أيضًا.
وهذه الآية مما يستدل به على ذلك، فإن أول ما أوجب الله على رسوله وعلى المؤمنين هو ما أُمر به في قوله: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ".
والذين قالوا: المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، قالوا: لو حصلت بغيره لسقط التكليف بها، كما ذكر ذلك القاضى أبو بكر، وغيره.
فيقال لهم: وليس فيما قص الله علينا من أخبار الرسل أن منهم أحدًا أوجبها، بل هي حاصلة عند الأمم جميعهم. ولكن أكثر الرسل افتتحوا دعوتهم بالأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه كما أخبر الله عن نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وقومهم كانوا مقرين بالخالق لكن كانوا مشركين يعبدون غيره، كما كانت العرب الذين بعث فيهم محمد ﷺ.
ومن الكفار من أظهر جحود الخالق، كفرعون حيث قال: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ" [القصص: 38]، وقال:
ج/ 16 ص -333-"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" [النازعات: 24]، وقال لموسى: "لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ" [الشعراء: 29]، وقال: "يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا" [غافر: 36، 37].
ومع هذا، فموسى أمره الله أن يقول ما ذكره الله في القرآن، قال: "وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ " [الشعراء: 10 - 21]. قال فرعون إنكارًا وجحدًا: "وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 23]، قال موسى:"رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا " الآيات [الشعراء: 24 28].
ج/ 16 ص -334-وقد ظن بعض الناس أن سؤال فرعون "وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ"، هو سؤال عن ماهية الرب، كالذي يسأل عن حدود الأشياء فيقول: ما الإنسان؟ ما الملك؟ ما الجنى؟ ونحو ذلك. قالوا: ولما لم يكن للمسؤول عنه ماهية، عدل موسى عن الجواب إلى بيان ما يعرف به وهو قوله: "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ". وهذا قول قاله بعض المتأخرين وهو باطل.
فإن فرعون إنما استفهم استفهام إنكار وجَحْد، لم يسأل عن ماهية رب أقر بثبوته، بل كان منكرًا له جاحدًا؛ ولهذا قال في تمام الكلام: "لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ" [الشعراء: 29]، وقال: "وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا". فاستفهامه كان إنكارًا وجحدًا، يقول: ليس للعالمين رب يرسلك، فمن هو هذا؟ إنكارًا له.
فبين موسى أنه معروف عنده وعند الحاضرين، وأن آياته ظاهرة بينة لا يمكن معها جحده. وأنكم إنما تجحدون بألسنتكم ما تعرفونه بقلوبكم، كما قال موسى في موضع آخر لفرعون: "لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ" [الإسراء: 102] ، وقال الله تعالى: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" [النمل: 14].
ج/ 16 ص -335-لم يقل فرعون: ومن رب العالمين؟ فإن [من] سؤال عن عينه يسأل بها من عرف جنس المسؤول عنه أنه من أهل العلم وقد شك في عينه، كما يقال لرسول عُرف إنه جاء من عند إنسان: من أرسلك؟
وأما [ما] فهي سؤال عن الوصف. يقول: أى شيء هو هذا؟ وما هو هذا الذي سميته رب العالمين؟ قال ذلك منكرًا له جاحدًا.
فلما سأل جحدا أجابه موسى بأنه أعرف من أن ينكر، وأظهر من أن يُشك فيه ويرتاب. فقال: "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ". ولم يقل: [موقنين بكذا وكذا]، بل أطلق، فأى يقين كان لكم بشيء من الأشياء، فأول اليقين اليقين بهذا الرب، كما قالت الرسل لقومهم:"أَفِي اللّهِ شَكٌّ" [إبراهيم: 10]
وإن قلتم: لا يقين لنا بشيء من الأشياء، بل سلبنا كل علم، فهذه دعوى السفسطة العامة، ومدعيها كاذب ظاهر الكذب. فإن العلوم من لوازم كل إنسان، فكل إنسان عاقل لابد له من علم؛ ولهذا
ج/ 16 ص -336-قيل في حد [العقل]: إنه علوم ضرورية، وهي التي لا يخلو منها عاقل.
فلما قال فرعون: "إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ" [الشعراء: 27]، وهذا من افتراء المكذبين على الرسول لما خرجوا عن عاداتهم التي هي محمودة عندهم نسبوهم إلى الجنون. ولما كانوا مظهرين للجحد بالخالق، أو للاسترابة والشك فيه. هذه حال عامتهم ودينهم، وهذا عندهم دين حسن، وإنما إلههم الذي يطيعونه فرعون، قال: "إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ"
فبين له موسى أنكم الذين سلبتم العقل النافع، وأنتم أحق بهذا الوصف فقال: "رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق. فلما ذكر أولًا أن من أيقن بشيء فهو موقن به، واليقين بشيء هو من لوازم العقل، بين ثانيًا أن الإقرار به من لوازم العقل.
ولكن المحمود هو العلم النافع الذي يعمل به صاحبه، فإن لم يعمل به صاحبه قيل: إنه ليس له عقل. ويقال أيضًا لمن لم يتبع ما أيقن به:
ج/ 16 ص -337-إنه ليس له يقين. فإن اليقين أيضًا يراد به العلم المستقر في القلب ويراد به العمل بهذا العلم. فلا يطلق: [الموقن] إلا على من استقر في قلبه العلم والعمل.
وقوم فرعون لم يكن عندهم اتباع لما عرفوه،فلم يكن لهم عقل ولا يقين. وكلام موسى يقتضي الأمرين: إن كان لك يقين فقد عرفته، وإن كان لك عقل فقد عرفته. وإن ادعيت أنه لا يقين لك ولا عقل لك، فكذلك قومك، فهذا إقرار منكم بسلبكم خاصية الإنسان.
ومن يكون هكذا، لا يصلح له ما أنتم عليه من دعوى الإلهية. مع أن هذا باطل منكم، فإنكم موقنون به، كما قال تعالى: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل: 14].
ولكم عقل تعرفونه به، ولكن هواكم يصدكم عن اتباع موجب العقل، وهو إرادة العلو في الأرض والفساد. فأنتم لا عقل لكم بهذا الاعتبار، كما قال أصحاب النار: "لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: 10]، وقال تعالى عن الكفار: "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" [الفرقان: 44].
قال تعالى عن فرعون وقومه: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" [الزخرف: 54]
ج/ 16 ص -338-والخفيف: هو السفيه الذي لا يعمل بعلمه، بل يتبع هواه. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أنه ليس في الرسل من قال أول ما دعا قومه : إنكم مأمورون بطلب معرفة الخالق، فانظروا واستدلوا حتى تعرفوه. فلم يكلفوا أولا بنفس المعرفة، ولا بالأدلة الموصلة إلى المعرفة، إذ كانت قلوبهم تعرفه وتقر به، وكل مولود يولد على الفطرة، لكن عرض للفطرة ما غيَّرها، والإنسان إذا ذكر ذكر ما في فطرته.
ولهذا قال الله في خطابه لموسى:"فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44]،ما في فطرته من العلم الذي به يعرف ربه،ويعرف إنعامه عليه،وإحسانه إليه،وافتقاره إليه، فذلك يدعوه إلى الإيمان،"أَوْ يَخْشَى" ما ينذره به من العذاب،فذلك أيضا يدعوه إلى الإيمان.
كما قال تعالى: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" [النحل: 125]، فالحكمة تعريف الحق، فيقبلها من قبل الحق بلا منازعة. ومن نازعه هواه وعظ بالترغيب والترهيب.
فالعلم بالحق يدعو صاحبه إلى اتباعه؛ فإن الحق محبوب في الفطرة، وهو أحب إليها. وأجل فيها، وألذ عندها من الباطل الذي لا حقيقة له؛ فإن الفطرة لا تحب ذاك.
ج/ 16 ص -339- فإن لم يدعه الحق والعلم به خوف عاقبة الجحود والعصيان، وما في ذلك من العذاب فالنفس تخاف العذاب بالضرورة. فكل حى يهرب مما يؤذيه بخلاف النافع.
فمن الناس من يتبع هواه، فيتبع الأدنى دون الأعلى. كما أن منهم من يكذب بما خوف به، أو يتغافل عنه، حتى يفعل ما يهواه. فإنه إذا صدق به واستحضره لم يبعث نفسه إلى هواها، بل لابد من نوع من الغفلة والجهل حتى يتبعه؛ ولهذا كان كل عاص لله جاهلا، كما قد بسط هذا في مواضع.
إذ المقصود هنا التنبيه على أن قوله: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"، فيه تنبيه على أن الرب معروف عند المخاطبين، وأن الفطر مقرة به.
وعلى ذلك، دل قوله: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ" الآية [الأعراف: 172]، كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.
وكذلك قول الرسل: "أَفِي اللّهِ شَكٌّ" [إبراهيم: 10]، هو نفي، أى ليس في الله شك. وهو استفهام تقرير يتضمن تقرير الأمم على ما هم مقرون به من أنه ليس في الله شك، فهذا استفهام تقرير.
ج/ 16 ص -340- فإن حرف الاستفهام إذا دخل على حرف النفي كان تقريرًا، كقوله: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ" [الشرح: 1]، "أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ" [البلد: 8]، "أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ" [التوبة: 70]، ومثله كثير. بخلاف استفهام فرعون، فإنه استفهام إنكار، لا تقرير؛ إذ ليس هناك إلا أداة الاستفهام فقط، ودل سياق الكلام على أنه إنكار.
فإن قيل: إذا كانت معرفته، والإقرار به ثابتًا في كل فطرة فكيف ينكر ذلك كثير من النظار نظار المسلمين وغيرهم وهم يَدَّعون أنهم الذين يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية؟.
فيقال أولا: أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمه من الجهمية والقدرية. وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم. ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية. فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك، إنما صدر أولا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين.
الثاني: أن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير
ج/ 16 ص -341- شعور صاحبها بأنها قامت به. فوجود الشيء في الإنسان وغيره غير علم الإنسان به.
وهذا كصفات بدنه، فإن منها ما لا يراه كوجهه وقفاه. ومنها ما يراه إذا تعمد النظر إليه كبطنه وفخذه وعضديه. وقد يكون بهما آثار من خيلان وغير خيلان، وغير ذلك من الأحوال، وهو لم يره ولم يعرفه، لكن لو تعمد رؤيته لرآه. ومن الناس من لا يستطيع رؤية ذلك لعارض عرض لبصره من العشى أو العمى، أو غير ذلك.
كذلك صفات نفسه قد يعرف بعضها، وبعضها لا يعرفه. لكن لو تعمد تأمل حال نفسه لعرفه. ومنها ما لا يعرفه ولو تأمل لفساد بصيرته وما عرض لها.
والذي يبين ذلك: أن الأفعال الاختيارية لا تتصور إلا بإرادة تقوم بنفس الإنسان. وكل من فعل فعلا اختياريًا وهو يعرفه فلابد أن يريده، كالذي يأكل ويشرب ويلبس وهو يعرف أنه يفعل ذلك، فلابد أن يريده. فالفعل الاختياري يمتنع أن يكون بغير إرادة. وإذا تصور الفعل الذي يفعله وقد فعله لزم أن يكون مريدًا له وقد تصوره. وإذا كان مريدًا له وقد تصوره امتنع ألا يريد ما تصوره وفعله.
ج/ 16 ص -342- فالإنسان، إذا قام إلى صلاة يعلم أنها الظُّهر، فمن الممتنع أن يصلى الظهر وهو يعلم هذا لم ينسه ولا يريد صلاة الظهر.
وكذلك الصيام إذا تصور أن غدًا من رمضان وهو مريد لصوم رمضان امتنع ألا ينوي صومه.
وكذلك إذا أهل بالحج وهو يعلم أنه مهل به امتنع ألا يكون مريدًا للحج.
وكذلك الوضوء إذا علم أنه يتوضأ للصلاة وهو يتوضأ امتنع ألا يكون مريدًا للوضوء. ومثل هذا كثير؛ نجد خلقًا كثيرًا من العلماء دع العامية يستدعون النية بألفاظ يقولونها ويتكلفون ألفاظًا، ويشكون في وجودها مرة بعد مرة، ويخرجون إلى ضرب من الوسوسة التي يشبه أصحابها المجانين.
والنية: هي الإرادة، وهي القصد، وهي موجودة في نفوسهم لوجودها في نفس كل من يصلى في ذلك المسجد والجامع، ومن توضأ في تلك المطهرة. أولئك يعلمون هذا من نفوسهم ولم يحصل لهم وسواس، وهؤلاء ظنوا أن النية لم تكن في قلوبهم يطلبون حصولها من قلوبهم.
ج/ 16 ص -343- وهم يعلمون أن التلفظ بها ليس بواجب، وإنما الفرض وجود الإرادة في القلب وهي موجودة ومع هذا يعتقدون أنها ليست موجودة. وإذا قيل لأحدهم: [النية حاصلة في قلبك] لم يقبل لما قام به من الاعتقاد الفاسد المناقض لفطرته.
وكذلك حب الله ورسوله موجود في قلب كل مؤمن، لا يمكنه دفع ذلك من قلبه إذا كان مؤمنًا. وتظهر علامات حبه لله ولرسوله إذا أخذ أحد يسب الرسول ويطعن عليه، أو يسب الله ويذكره بما لا يليق به. فالمؤمن يغضب لذلك أعظم مما يغضب لو سب أبوه وأمه.
ومع هذا، فكثير من أهل الكلام والرأى أنكروا محبة الله، وقالوا: يمتنع أن يكون محبًا أو محبوبًا، وجعلوا هذا من أصول الدين، وقالوا: خلافًا للحلولية، كأنه لم يقل بأن الله يحب إلا الحلولية. ومعلوم: أن هذا دين الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وأهل الإيمان أجمعين. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، كما قد بسطناه في مواضع.
فهذه المحبة لله ورسوله موجودة في قلوب أكثر المنكرين لها، بل في قلب كل مؤمن وإن أنكرها لشبهة عرضت له.
ج/ 16 ص -344- وهكذا المعرفة موجودة في قلوب هؤلاء. فإن هؤلاء الذين أنكروا محبته هم الذين قالوا: معرفته لا تحصل إلا بالنظر، فأنكروا ما في فطرهم وقلوبهم من معرفته، ومحبته.
ثم قد يكون ذلك الإنكار سببًا إلى امتناع معرفة ذلك في نفوسهم وقد يزول عن قلب أحدهم ما كان فيه من المعرفة والمحبة فإن الفطرة قد تفسد فقد تزول، وقد تكون موجودة ولا ترى "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" [الحج: 46].
وقد قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [الروم: 30، 31].
وفي الصحيحين، عن النبى ﷺ أنه قال: [كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء]، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" [الروم: 30].
والفطرة تستلزم معرفة الله، ومحبته، وتخصيصه بأنه أحب الأشياء
ج/ 16 ص -345- إلى العبد وهو التوحيد. وهذا معنى قول: [لا إله إلا الله]، كما جاء مفسرًا: "كل مولود يولد على هذه الملة"، وروى: [على ملة الإسلام].
وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار؛ أن النبى ﷺ قال: "يقول الله تعالى: إنى خلقت عبادى حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وَحَرْمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهم، وأَمَرَتْهُمْ أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا".
فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب، ومحبته، وتوحيده. فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول: "لا إله إلا الله".
فإن في هذه الكلمة الطيبة التي هي "كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء" [إبراهيم: 24]، فيها إثبات معرفته والإقرار به. وفيها إثبات محبته، فإن الإله هو المألوه الذي يستحق أن يكون مألوهًا؛ وهذا أعظم ما يكون من المحبة. وفيها أنه لا إله إلا هو. ففيها المعرفة، والمحبة، والتوحيد.
وكل مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها. ولكن أبواه يفسدان ذلك فيهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، ويشركانه.
ج/ 16 ص -346- كذلك يجهمانه فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده. ثم المعرفة يطلبها بالدليل، والمحبة ينكرها بالكلية. والتوحيد المتضمن للمحبة ينكره من لا يعرفه، وإنما ثبت توحيد الخلق، والمشركون كانوا يُقرون بهذا التوحيد وهذا الشرك.
فهما يُشرّكانه، ويُهودانه، ويُنصرانه، ويُمجسانه. وقد بسط الكلام على هذا الحديث وأقوال الناس فيه في غير هذا الموضع.
وأيضا، مما يبين أن الإنسان قد يخفي عليه كثير من أحوال نفسه، فلا يشعر بها. إن كثيرًا من الناس يكون في نفسه حب الرياسة كامن لا يشعر به، بل إنه مخلص في عبادته وقد خفيت عليه عيوبه، وكلام الناس في هذا كثير مشهور؛ ولهذا سميت هذه: [الشهوة الخفية].
قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرياسة. فهي خفية تخفي على الناس، وكثيرًا ما تخفي على صاحبها.
بل كذلك حب المال والثروة، فإن الإنسان قد يحب ذلك ولا يدرى. بل نفسه ساكنة ما دام ذلك موجودًا، فإذا فقده ظهر من
ج/ 16 ص -347- جزع نفسه وتلفها ما دل على المحبة المتقدمة. والحب مستلزم للشعور، فهذا شعور من النفس بأمور وجب لها. والإنسان قد يخفي ذلك عليه من نفسه. لا سيما والشيطان يغطى على الإنسان أمورًا.
وذنوبه أيضًا تبقى رينًا على قلبه قال تعالى: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ" [المطففين: 14، 15] . وفي الترمذى وغيره عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ عن النبى ﷺ أنه قال: "إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء. فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه. فذلك الران الذي قال الله: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ"" قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
ومنه قوله تعالى: "وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ" [البقرة: 88]
وقال:"إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" [الأعراف:102].فالمتقون إذا أصابهم هذا الطيف الذي يطيف بقلوبهم يتذكرون ما علموه قبل ذلك، فيزول الطيف ويبصرون الحق الذي كان معلومًا،ولكن الطيف يمنعهم عن رؤيته.
قال تعالى: "وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ" [الأعراف: 202]. فإخوان
ج/ 16 ص -348- الشياطين تمدهم الشياطين في غيهم، "ثٍمَّ لا يٍقًصٌرٍونّ"، لا تقصر الشياطين عن المدد والإمداد، ولا الإنس عن الغى. فلا يبصرون مع ذلك الغى ما هو معلوم لهم، مستقر في فطرهم، لكنهم ينسونه.
ولهذا كانت الرسل إنما تأتى بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته، وإمداده، ونفي المغير للفطرة. فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والكمال يحصل بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة.
فصل
وهذا النسيان نسيان الإنسان لنفسه ولما في نفسه حصل بنسيانه لربه ولما أنزله. قال تعالى: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [الحشر: 19]، وقال تعالى في حق المنافقين: "نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ" [التوبة: 67]، وقال: "كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى" [طه: 126].
وقوله: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ"، يقتضي أن نسيان الله كان سببًا لنسيانهم أنفسهم، وأنهم لما نسوا الله عاقبهم بأن أنساهم أنفسهم.
ج/ 16 ص -349- ونسيانهم أنفسهم يتضمن إعراضهم وغفلتهم وعدم معرفتهم بما كانوا عارفين به قبل ذلك من حال أنفسهم، كما أنه يقتضي تركهم لمصالح أنفسهم. فهو يقتضي أنهم لا يذكرون أنفسهم ذكرًا ينفعها ويصلحها، وأنهم لو ذكروا الله لذكروا أنفسهم.
وهذا عكس ما يقال: [من عرف نفسه عرف ربه]. وبعض الناس يروى هذا عن النبى ﷺ، وليس هذا من كلام النبى ﷺ، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد.
ولكن يروى في بعض الكتب المتقدمة إن صح "يا إنسان، اعرف نفسك، تعرف ربك". وهذا الكلام سواء كان معناه صحيحا أو فاسدًا لا يمكن الاحتجاج بلفظه، فإنه لم يثبت عن قائل معصوم. لكن إن فسر بمعنى صحيح عرف صحة ذلك المعنى، سواء دل عليه هذا اللفظ أو لم يدل.
وإنما القول الثابت ما في القرآن، وهو قوله: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ". فهو يدل على أن نسيان الرب موجب لنسيان النفس.
وحينئذ،فمن ذكر الله ولم ينسه، يكون ذاكرًا لنفسه،فإنه لو
ج/ 16 ص -350- كان ناسيا لها سواء ذكر الله أو نسيه لم يكن نسيانها مسببا عن نسيان الرب.فلما دلت الآية على أن نسيان الإنسان نفسه مسبب عن نسيانه لربه، دل على أن الذاكر لربه لا يحصل له هذا النسيان لنفسه.
والذكر يتضمن ذكر ما قد علمه، فمن ذكر ما يعلمه من ربه ذكر ما يعلمه من نفسه. وهو قد ولد على الفطرة التي تقتضى أنه يعرف ربه ويحبه ويوحده. فإذا لم ينس ربه الذي عرفه، بل ذكره على الوجه الذي يقتضي محبته ومعرفته وتوحيده، ذكر نفسه، فأبصر ما كان فيها قبل من معرفة الله ومحبته وتوحيده.
وأهل البدع الجهمية ونحوهم لما أعرضوا عن ذكر الله الذكر المشروع الذي كان في الفطرة وجاءت به الشرعة، الذي يتضمن معرفته ومحبته وتوحيده نسوا الله من هذا الوجه. فأنساهم أنفسهم من هذا الوجه، فنسوا ما كان في أنفسهم من العلم الفطري، والمحبة الفطرية، والتوحيد الفطري.
وقد قال طائفة من المفسرين: "نَسُواْ اللّهَ"، أي: تركوا أمر الله "فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ"، أى: حظوظ أنفسهم حيث لم يقدموا لها خيرًا، هذا لفظ طائفة منهم البغوى ولفظ آخرين منهم ابن الجوزي : حين لم يعملوا بطاعته. وكلاهما قال: "نَسُواْ اللّهَ" أى: تركوا أمر الله.
ج/ 16 ص -351- ومثل هذا التفسير يقع كثيرًا في كلام من يأتى بمجمل من القول يبين معنى دلت عليه الآية ولا يفسرها بما يستحقه من التفسير. فإن قولهم: [تركوا أمر الله]. هو تركهم للعمل بطاعته، فصار الأول هو الثاني. والله سبحانه قال: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" [الحشر: 19]، فهنا شيئان: نسيانهم لله، ثم نسيانهم لأنفسهم الذي عوقبوا به.
فإن قيل: هذا الثاني هو الأول لكنه تفصيل مجمل، كقوله: "وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ" [الأعراف:4]، وهذا هو هذا، قيل: هو لم يقل: [نسوا الله فنسوا حظ أنفسهم] حتى يقال: هذا هو هذا، بل قال:"نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ"، فثم إنساء منه لهم أنفسهم. ولو كان هذا هو الأول لكان قد ذكر ما يعذرهم به، لا ما يعاقبهم به.
فلو كان الثاني هو الأول لكان: "نَسُواْ اللّهَ"، أي: تركوا العمل بطاعته، فهو الذي أنساهم ذلك. ومعلوم فساد هذا الكلام لفظًا ومعنى.
ولو قيل: "نَسُواْ اللّهَ"، أى: نسوا أمره، "فَأَنسَاهُمْ" العمل بطاعته، أى: تذكرها، لكان أقرب، ويكون النسيان الأول على بابه. فإن من نسى نفس أمر الله لم يطعه.
ج/ 16 ص -352- ولكن هم فسروا نسيان الله بترك أمره. وأمره الذي هو كلامه ليس مقدورًا لهم حتى يتركوه، إنما يتركون العمل به، فالأمر بمعنى المأمور به.
إلا أن يقال: مرادهم بترك أمره هو ترك الإيمان به. فلما تركوا الإيمان أعقبهم بترك العمل. وهذا أيضًا ضعيف، فإن الإيمان الذي تركوه إن كان هو ترك التصديق فقط فكفي بهذا كفرًا وذنبًا. فلا تجعل العقوبة ترك العمل به، بل هذا أشد. وإن كان المراد بترك الإيمان، ترك الإيمان تصديقًا وعملا، فهذا هو ترك الطاعة كما تقدم.
وهؤلاء أتوا من حيث أرادوا أن يفسروا نسيان العبد بما قيل في نسيان الرب، وذاك قد فسر بالترك. ففسروا هذا بالترك. وهذا ليس بجيد، فإن النسيان المناقض للذكر جائز على العبد بلا ريب. والإنسان يعرض عما أمر به حتى ينساه، فلا يذكره. فلا يحتاج أن يجعل نسيانه تركًا مع استحضار وعلم.
وأما الرب تعالى فلا يجوز عليه ما يناقض صفات كماله سبحانه وتعالى وفي تفسير نسيانه الكفار بمجرد الترك نظر.
ثم هذا قيل في قوله تعالى: "كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا" [طه: 126] .
ج/ 16 ص -353- أي: تركت العمل بها. وهنا قال: "نَسُواْ اللّهَّ"، ولا يقال في حق الله: [تركوه].
فصل
قوله: "الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" [العلق: 1، 2]، بيان لتعريفه بما قد عرف من الخلق عمومًا، وخلق الإنسان خصوصًا، وإن هذا مما تعرف به الفطرة كما تقدم.
ثم إذا عرف أنه الخالق فمن المعلوم بالضرورة أن الخالق لا يكون إلا قادرًا. بل كل فعل يفعله فاعل، لا يكون إلا بقوة وقدرة، حتى أفعال الجمادات. كهبوط الحجر والماء وحركة النار هو بقوة فيها. وكذلك حركة النبات هي بقوة فيه. وكذلك فعل كل حى من الدواب وغيرها هو بقوة فيها. وكذلك الإنسان وغيره.
والخلق أعظم الأفعال، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، فالقدرة عليه أعظم من كل قدرة، وليس لها نظير من قدر المخلوقين.
وأيضًا، فالتعليم بالقلم يستلزم القدرة. فكل من الخلق والتعليم يستلزم القدرة.
ج/ 16 ص -354- وكذلك كل منهما يستلزم العلم.فإن المعلم لغيره يجب أن يكون هو عالمًا بما علمه إياه، وإلا فمن الممتنع أن يعلم غيره ما لا يعلمه هو. فمن علم كل شيء الإنسان غيره ما لم يعلم، أولى أن يكون عالمًا بما علَّمَه. والخلق أيضًا يستلزم العلم، كما قال تعالى: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" [الملك: 14]. وذلك من جهة أن الخلق يستلزم الإرادة. فإن فعل الشيء على صفة مخصوصة ومقدار مخصوص دون ما هو خلاف ذلك لا يكون إلا بإرادة تخصص هذا عن ذاك. والإرادة تستلزم العلم. فلا يريد المريد إلا ما شعر به وتصور في نفسه، والإرادة بدون الشعور ممتنعة.
وأيضًا، فنفس الخلق خلق الإنسان هو فعل لهذا الإنسان الذي هو من عجائب المخلوقات. وفيه من الإحكام والإتقان ما قد بهر العقول. والفعل المحكم المتقن لا يكون إلا من عالم بما فعل. وهذا معلوم بالضرورة.
فالخلق يدل على العلم من هذا الوجه، ومن هذا الوجه.
وقد قال في سورة الملك "وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ". وهو بيان ما في المخلوقات من لطف الحكمة التي تتضمن إيصال الأمور إلى غاياتها بألطف الوجوه، كما قال يوسف عليه السلام : "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء" [يوسف: 100].
ج/ 16 ص -355-وهذا يستلزم العلم بالغاية المقصودة، والعلم بالطريق الموصل وكذلك الخبرة.
وبسط هذا يطول، إذ المقصود هنا التنبيه على ما في الآيات التي هي أول ما أنزل.
ثم إذا ثبت أنه قادر عالم، فذلك يستلزم كونه حيًا. وكذلك الإرادة تستلزم الحياة.
والحي إذا لم يكن سميعًا بصيرًا متكلمًا، كان متصفًا بضد ذلك من العمى والصمم والخرس، وهذا ممتنع في حق الرب تعالى. فيجب أن يتصف بكونه سميعًا بصيرًا متكلمًا.
والإرادة؛ إما أن تكون لغاية حكيمة، أو لا. فإن لم تكن لغاية حكيمة كانت سفهًا، وهو منزه عن ذلك، فيجب أن يكون حكيما.
وهو إما أن يقصد نفع الخلق والإحسان إليهم، أو يقصد مجرد ضررهم وتعذيبهم، أو لا يقصد واحدًا منهما، بل يريد ما يريد سواء كان كذا أو كذا. والثاني شرير ظالم يتنزه الرب عنه، والثالث سفيه عابث. فتعين أنه تعالى رحيم، كما أنه حكيم، كما قد بسط في مواضع.
ج/ 16 ص -356-فَصل
إثبات صفات الكمال له طرق:
أحدها: ما نبهنا عليه من أن الفعل مستلزم للقدرة ولغيرها. فمن النظار من يثبت أولا القدرة، ومنهم من يثبت أولا العلم، ومنهم من يثبت أولا الإرادة، وهذه طرق كثير من أهل الكلام.
وهذه يستدل عليها بجنس الفعل، وهي طريقة من لا يميز بين مفعول ومفعول، كجهم ابن صفوان ومن اتبعه.
وهؤلاء لا يثبتون حكمة، ولا رحمة، إذ كان جنس الفعل لا يستلزم ذلك.لكن هم أثبتوا بالفعل المحكم المتقن العلم.وكذلك تثبت بالفعل النافع الرحمة،وبالغايات المحمودة الحكمة.
ولكن هم متناقضون في الاستدلال بالإحكام والإتقان على العلم؛ إذ كان ذلك إنما يدل إذا كان فاعلا لغاية يقصدها. وهم يقولون: إنه يفعل لا لحكمة، ثم يستدلون بالإحكام على العلم، وهو تناقض.
كما تناقضوا في المعجزات حيث جعلوها دالة على صدق النبى، إما
ج/ 16 ص -357- للعلم الضرورى بذلك، وإما لكونه لو لم تدل لزم العجز. وهي إنما تدل إذا كان الفاعل يقصد إظهارها ليدل بها على صدق الأنبياء. فإذا قالوا: إنه لا يفعل شيئًا لشيء تناقضوا.
وأما الطريق الأخرى في إثبات الصفات وهي: الاستدلال بالأثر على المؤثر، وأن من فعل الكامل فهو أحق بالكمال.
والثالثة: طريقة قياس الأولى، وهي الترجيح والتفضيل، وهو أن الكمال إذا ثبت للمحدث الممكن المخلوق، فهو للواجب القديم الخالق أولى.
والقرآن يستدل بهذه، وهذه، وهذه.
فالاستدلال بالأثر على المؤثر أكمل، كقوله تعالى:"وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً" [فصلت: 15]، قال الله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً" [فصلت: 15].
وهكذا، كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يدل على أن الله أولى بالعلم والحياة.
ج/ 16 ص -358- وهذه طريقة يقر بها عامة العقلاء، حتى الفلاسفة يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة.
وأما الاستدلال بطريق الأولى فكقوله: "وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ" [النحل: 60]، ومثل قوله: "ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ" [الروم: 28]، وأمثال ذلك مما يدل على أن كل كمال لا نقص فيه يثبت للمحدث المخلوق الممكن فهو للقديم الواجب الخالق أولى من جهة أنه أحق بالكمال؛ لأنه أفضل.
وذاك من جهة أنه هو جعله كاملا وأعطاه تلك الصفات.
واسمه [العلي] يفسر بهذين المعنيين؛ يفسر بأنه أعلى من غيره قدرًا، فهو أحق بصفات الكمال. ويفسر بأنه العالى عليهم بالقهر والغلبة، فيعود إلى أنه القادر عليهم وهم المقدورون. وهذا يتضمن كونه خالقًا لهم وربًا لهم.
وكلاهما يتضمن أنه نفسه فوق كل شيء، فلا شيء فوقه، كما قال النبى ﷺ: [أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء].
ج/ 16 ص -359- فلا يكون شيء قبله، ولا بعده، ولا فوقه، ولا دونه، كما أخبر النبى ﷺ وأثنى به على ربه. وإلا فلو قدر أنه تحت بعض المخلوقات، كان ذلك نقصًا، وكان ذلك أعلى منه.
وإن قيل: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، كان ذلك تعطيلا له، فهو منزه عن هذا.
وهذا هو العلي الأعلى، مع أن لفظ [العلي] و [العلو]، لم يستعمل في القرآن عند الإطلاق إلا في هذا وهو مستلزم لذينك لم يستعمل في مجرد القدرة، ولا في مجرد الفضيلة.
ولفظ [العلو] يتضمن الاستعلاء، وغير ذلك من الأفعال إذا عدى بحرف الاستعلاء دل على العلو، كقوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" [الحديد: 4] فهو يدل على علوه على العرش.
والسلف فسروا [الاستواء] بما يتضمن الارتفاع فوق العرش، كما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية في قوله: "ثُمَّ اسْتَوَى" قال: ارتفع. وكذلك رواه ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم رواه من حديث آدم بن أبي إياس، عن أبي جعفر، عن أبي الربيع، عن أبي العالية: "ثُمَّ اسْتَوَى"، قال: ارتفع.
ج/ 16 ص -360- وقال البخاري: وقال مجاهد في قوله:"ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ": علا على العرش. ولكن يقال: [علا على كذا]، و[علا عن كذا] وهذا الثاني جاء في القرآن في مواضع،لكن بلفظ [تعالى] كقوله:"سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا" [الإسراء: 43]، "عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" [المؤمنون: 29]، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن كل واحد من ذكر أنه خلق، وأنه الأكرم الذي علم بالقلم، يدل على هاتين الطريقتين من إثبات الصفات، كما دلنا على الطريقة الأولى طريقة الاستدلال بالفعل.
فإن قوله: "الْأَكْرَمُ"، يقتضي أنه أفضل من غيره في الكرم، والكرم اسم جامع لجميع المحاسن. فيقتضي أنه أحق بجميع المحامد، والمحامد هي صفات الكمال فيقتضي أنه أحق بالإحسان إلى الخلق والرحمة، وأحق بالحكمة، وأحق بالقدرة، والعلم والحياة، وغير ذلك.
وكذلك قوله: "خَلَقَ" فإن الخالق قديم أزلى، مستغن بنفسه، واجب الوجود بنفسه، قيوم. ومعلوم أنه أحق بصفات الكمال من المخلوق المحدث الممكن.
فهذا من جهة قياس الأولى. ومن جهة الأثر، فإن الخالق لغيره
ج/ 16 ص -361- الذي جعله حيًا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا، هو أولى بأن يكون حيا عالمًا قديرًا سميعًا بصيرًا.
و"الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 3 5] . فجعله عليمًا، والعليم لا يكون إلا حيًا. وكرمه أيضًا أن يكون قديرًا سميعًا بصيرًا. والأكرم الذي جعل غيره عليمًا هو أولى أن يكون عليمًا. وكذلك في سائر صفات الكمال والمحامد.
فهذا استدلال بالمخلوق الخاص، والأول استدلال بجنس الخلق؛ ولهذا دل هذا على ثبوت الصفات بالضرورة من غير تكلف، وكذلك طريقة التفضيل والأولى، وأن يكون الرب أولى بالكمال من المخلوق.
وهذه الطرق لظهورها يسلكها غير المسلمين من أهل الملل وغيرهم كالنصارى، فإنهم أثبتوا أن الله قائم بنفسه حتى يتكلم بهذه الطريق، لكن سموه [جوهرًا]، وضلوا في جعل الصفات ثلاثة، وهي الأقانيم.
فقالوا: وجدنا الأشياء تنقسم إلى جوهر وغير جوهر، والجوهر أعلى النوعين، فقلنا: هو جوهر. ثم وجدنا الجوهر ينقسم إلى حى وغير حي، ووجدنا الحى أكمل، فقلنا: هو حي. ووجدنا الحى ينقسم إلى: ناطق وغير ناطق، فقلنا: هو ناطق.
ج/ 16 ص -362- وكذلك يقال لهم في سائر صفات الكمال: إن الأشياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، والقادر أكمل. وقد بسط ما في كلامهم من صواب وخطأ في الكتاب الذي سميناه: [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح].
والمقصود هنا التنبيه على دلالة هذه الآية وهذه الآيات التي هي أول ما نزل على أصول الدين.
وقوله: "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، يدل على قدرته على تعليم الإنسان ما قد علَّمَه، مع كون جنس الإنسان فيه أنواع من النقص. فإذا كان قادرًا على ذلك التعليم فقدرته على تعليم الأنبياء ما علمهم أولى وأحرى. وذلك يدخل في قوله: "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، فإن الأنبياء من الناس.
فقد دلت هذه الآيات على جميع الأصول العقلية، فإن إمكان النبوات هو آخر ما يعلم بالعقل.
وأما وجود الأنبياء وآياتهم، فيعلم بالسمع المتواتر، مع أن قوله: "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، يدخل فيه إثبات تعليمه للأنبياء ما علَّمهم، فهي تدل على الإمكان والوقوع.
ج/ 16 ص -363- وقد ذكرنا في مواضع أن تنزيهه يرجع إلى أصلين:
تنزيهه عن النقص المناقض لكماله. فما دل على ثبوت الكمال له فهو يدل على تنزهه عن النقص المناقض لكماله.
وهذا مما يبين أن تنزهه عن النقص معلوم بالعقل، بخلاف ما قال طائفة من المتكلمين إن ذلك لا يعلم إلا بالسمع.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق العقلية التي سلكوها من الاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام لا تدل على إثباته، ولا على إثبات شيء من صفات الكمال، ولا على تنزهه عن شيء من النقائص. فليس عند القوم ما يحيلون به عنه شيئًا من النقائص.
وهم معترفون بأن الأفعال يجوز عليه منها كل شيء بخلاف الصفات. لكن طريقهم في الصفات فاسد متناقض، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
الثاني: أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال.
والقرآن مملوء بإثبات هذين الأصلين بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، وتنزيهه عن التمثيل سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ج/ 16 ص -364-فصل
وقوله:"بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" [العلق: 1]، وقوله: "عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 4، 5]، يدل على إثبات أفعاله وأقواله.
فالخلق فعله، والتعليم يتناول تعليم ما أنزله، كما قال: "الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" [الرحمن: 1 - 4]، وقوله: "بِالْقَلَمِ" يتناول تعليم كلامه الذي يكتب بالقلم. ونزوله في أول السورة التي أنزل فيها كلامه، وعلم نبيه كلامه الذي يكتب بالقلم دليل على شمول الآية لذلك، فإن سبب اللفظ المطلق والعام لابد أن يكون مندرجًا فيه. وإذا دل على أنه خلق وتكلم.
وقد قال: "خَلَقَ الْإِنسَانَ". ومعلوم بالعقل وبالخطاب أن الإنسان المخلوق غير خلق الرب له، وكذلك خلقه لغيره.
والذين نازعوا في ذلك إنما نازعوا لشبهة عرضت لهم، كما قد ذكر بعد هذا وفي مواضع. وإلا فهم لا يتنازعون أن [خلق] فعل له مصدر يقال: خلق يخلق خلقًا. والإنسان مفعول المصدر [المخلوق] ليس هو المصدر.
ج/ 16 ص -365- ولكن قد يطلق لفظ المصدر على المفعول، كما يقال: [درهم ضرب الأمير]. ومنه قوله: "هذا خلق الله" [لقمان: 11]، والمراد هناك: هذا مخلوق الله. وليس الكلام في لفظ [خلق] المراد به [المخلوق]، بل في لفظ [الخلق] المراد به [الفعل] الذي يسمي المصدر، كما يقال: خلق يخلق خلقًا، وكقوله: "مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ" [لقمان: 28]، وقوله:"يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ" [الزمر: 6]، وقوله: "مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ" [الكهف:51].
وإذا كان الخلق فعله فهو بمشيئته، إذ يمتنع أن يكون فعله بغير مشيئة. وما كان بالمشيئة، امتنع قدم عينه، بل يجوز قدم نوعه.
وإذا كان الخلق للحادث لابد له من مؤثر تام أوجب حدوثه لزم أنه لم يزل متصفًا بما يقوم به من الأمور الاختيارية، لكن إن يثبت أنه كان قبل هذا المخلوق مخلوق آخر ثبت أنه متصف بخلق بعد خلق.
وكذلك الكلام، هو متكلم بمشيئته. ويمتنع ألا يكون متكلمًا ثم يصير متكلمًا لوجهين:
أحدهما: أنه سلب لكماله، والكلام صفة كمال.
والثاني: أنه يمتنع حدوث ذلك. فإن من لا يكون متكلمًا يمتنع
ج/ 16 ص -366- أن يجعل نفسه متكلمًا، ومن لا يكون عالمًا يمتنع أن يجعل نفسه عالمًا، ومن لا يكون حيًا يمتنع أن يجعل نفسه حيًا. فهذه الصفات من لوازم ذاته.
وكذلك من لا يكون خالقًا يمتنع أن يجعل نفسه خالقًا. فإنه إذا لم يكن قادرًا على أن يخلق فجعله نفسه خالقة أعظم؛ فيكون هذا ممتنعًا بطريق الأولى، فإن جعل نفسه خالقة يستلزم وجود المخلوق.
ولهذا لما كان قادرًا على جعل الإنسان فاعلًا، كان هو الخالق لما يفعله الإنسان. فلو جعل نفسه خالقة كان هو الخالق لما جعلها تخلقه.
فإذا فرض أنه يمتنع أن يكون خالقًا في الأزل امتنع أن يجعل نفسه خالقة بوجه من الوجوه. ويلزم من القول بامتناع الفعل عليه في الأزل امتناعه دائمًا. وقد دلت الآية على أنه خلق. فعلم أنه ما زال قادرًا على الخلْق، ما زال يمكنه أن يَخْلُقَ، وما زال الخلْق ممكنًا مقدورًا. وهذا يبطل أصل الجهمية.
بل وإذا كان قادرًا عليه فالموجب له ليس شيئًا بائنًا من خارج، بل هو من نفسه. فيمتنع أن يجعل نفسه مريدة بعد أن لم تكن، فيلزم أنه ما زال مريدًا قادرًا. وإذا حصلت القدرة والإرادة، وجب وجود المقدور.
ج/ 16 ص -367- وأهل الكلام الذين ينازعون في هذا يقولون: لم يزل قادرًا على ما سيكون.
فيقال لهم: القدرة لا تكون إلا مع إمكان المقدور، إذا كانت القدرة دائمة، فهل كان يمكنه أن يفعل المقدور دائمًا؟ وهم يقولون: لا، بل الإمكان إمكان الفعل حادث. وهذا يناقض إثبات القدرة، وإن قالوا: بل الإمكان حاصل، تبين أنه لم يزل الفعل ممكنا فثبت إمكان وجود ما لا يتناهي من مقدور الرب.
وحينئذ، فإذا كان لم يزل قادرًا، والفعل ممكنًا، وهذا الممكن قد وجد، فما لا يزال، فالموجب لوجود جنس المقدور، كالإرادة مثلا، إما أن يكون وجودها في الأزل ممتنعًا، فيلزم امتناع الفعل، وقد بينا أنه ممكن.
وأيضًا، إذا كان وجودها ممتنعًا، لم يزل ممتنعًا؛ لأنه لا شيء هناك يجعلها ممكنة، فضلًا عن أن تكون موجودة. ومعلوم أن وجودها بعد أن لم تكن، لابد له من موجب. وإذا كان وجودها في الأزل ممكنًا، فوجود هذا الممكن لا يتوقف على غير ذاته، وذاته كافية في حصوله. فيلزم أنه لم يزل مريدًا.
وهكذا في جميع صفات الكمال متي ثبت إمكانها في الأزل، لزم
ج/ 16 ص -368- وجودها في الأزل. فإنها لو لم توجد لكانت ممتنعة، إذ ليس في الأزل شيء سوي نفسه يوجب وجودها. فإذا كانت ممكنة والمقتضي التام لها نفسه لزم وجوبها في الأزل.
وهذا مما يدل على أنه لم يزل حيًا، عليمًا، قديرًا، مريدًا، متكلمًا فاعلًا؛ إذ لا مقتضي لهذه الأشياء إلا ذاته، وذاته وحدها كافية في ذلك. فيلزم قدم النوع، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، لكن أفراد النوع تحصل شيئًا بعد شيء بحسب الإمكان والحكمة.
ولهذا قد بين في مواضع أنه ليس في نفس الأمر ممكن يستوي طرفًا وجوده وعدمه، بل إما أن يحصل المقتضي لوجوده فيجب، أو لا يحصل فيمتنع. فما اتصف به الرب، فاتصافه به واجب. وما لم يتصف به،فاتصافه به ممتنع. وما شاء،كان ووجب وجوده. وما لم يشأ، لم يكن وامتنع وجوده. فالممكن مع مرجحه التام واجب وبدونه ممتنع.
ففي قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" وفي قوله: "اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ" [العلق: 1 4]، دلالة على ثبوت صفات الكمال له، وأنه لم يزل متصفًا بها.
وأقوال السلف في ذلك كثيرة. وبهذا فسروا قوله: "وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء:158]،
ج/ 16 ص -369-نحوه،كما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم من عدة طرق لما قيل له: قوله: "وَكَانَ اللّهُ.."، كأنه كان شيء ثم مضى؟ فقال ابن عباس: هو سمى نفسه بذلك ولم يزل كذلك.
هذا لفظ ابن أبي حاتم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. فقال ابن عباس: كذلك كان ولم يزل.
ومن رواية عمرو بن أبي قيس، عن مُطرَّف، عن المِنْهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: أتاه رجل فقال: سمعت الله يقول: "وَكَانَ اللّهُ..."، كأنه شيء كان؟ فقال ابن عباس: أما قوله: "كَانَ"، فإنه لم يزل ولا يزال، و "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [الحديد: 3].
ومن رواية عبد الرحمن بن مَغْراء عن مُجَمّع بن يحيي، عن عمه، عن ابن عباس. قال، قال يهودي: إنكم تزعمون أن الله كان عزيزًا حكيمًا، فكيف هو اليوم؟ فقال ابن عباس: إنه كان في نفسه عزيزًا حكيمًا.
وهذه أقوال ابن عباس تبين أنه لم يزل متصفًا بخبر [كان]، ولا
ج/ 16 ص -370-يزال كذلك، وأن ذلك حصل له من نفسه. فلم يزل متصفًا في نفسه إذا كان من لوازم نفسه، ولهذا لا يزال لأنه من نفسه.
وقال أحمد بن حنبل: لم يزل الله عالمًا، متكلمًا، غفورًا. وقال أيضًا : لم يزل الله متكلمًا إذا شاء.
فصل
وكما أنه أول آية نزلت من القرآن تدل على ذلك، فأعظم آية في القرآن تدل على ذلك، لكن مبسوطًا دلالة أتم من هذا.
وهي آية الكرسي، كما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال لأبي بن كعب: "يا أبا المنذر، أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟" فقال: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة: 552]،فقال: "لِيَهْنِكَ العلم، أبا المنذر!".
وهنا افتتحها بقوله: "اللّهُ"، وهو أعظم من قوله: "ربك" ولهذا افتتح به أعظم سورة في القرآن فقال:"الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الفاتحة: 2].
ج/ 16 ص -371- وقال:"اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"، إذا كان المشركون قد اتخذوا إلهًا غيره وإن قالوا بأنه الخالق. ففي قوله: "خَلَقَ" لم يذكر نفي خالق آخر إذ كان ذلك معلومًا. فلم يثبت أحد من الناس خالقًا آخر مطلقًا خلق كل شيء وخلق الإنسان وغيره، بخلاف الإلهية.
قال تعالى: "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ" [الأنبياء: 68]، وقال تعالى: "وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ" [ص: 6]، وقال تعالى: "أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ" [الأنعام: 19]، وقال تعالى: "قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا" [الإسراء: 42].
فابتغوا معه آلهة أخري، ولم يثبتوا معه خالقًا آخر.
فقال في أعظم الآيات: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ". ذكره في ثلاثة مواضع من القرآن، كل موضع فيه أحد أصول الدين الثلاثة؛ وهي التوحيد، والرسل، والآخرة.
هذه التي بعث بها جميع المرسلين، وأخبر عن المشركين أنهم يكفرون بها في مثل قوله: "وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ" [الأنعام:150].
ج/ 16 ص -372- فقال هنا: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ"، قرنها بأنه لا إله إلا هو.
وزاد في آل عمران: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ" [آل عمران: 3، 4]، وهذا إيمان بالكتب والرسل.
وقال في طه: "يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" [طه: 109 111].
فصل
ومن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه من الصفات الفعلية، كقوله في هذه السورة: "الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" [العلق: 1، 2]، و [الخلق] مذكور في مواضع كثيرة، وكذلك غيره من الأفعال. وهو نوعان:
فعل متعدإلى مفعول به. مثل [خلق]، فإنه يقتضي مخلوقًا، وكذلك [رزق]، كقوله: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ" [الروم: 40]،
ج/ 16 ص -373-وكذلك الهدي، والإضلال، والتعليم والبعث، والإرسال والتكليم.
وكذلك ما أخبر به من قوله: "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" [فصلت: 12]، "فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ" [البقرة: 29]، وقوله: "وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ" [الذاريات: 47]، وقوله: "الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ" [البقرة: 22]، وقوله في الآية الأخري: "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ" [غافر: 64] وهذا في القرآن كثير جدًا.
والأفعال اللازمة، كقوله: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء" [البقرة: 29]، "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" [الحديد: 4]، "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ" [البقرة: 210]، "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ" [الأنعام: 158]، وقوله: "وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" [الفجر: 22].
فأما النوع الأول: فالمسلمون متفقون على إضافتهإلى الله، وأنه هو الذي يخلق ويرزق، ليس ذلك صفة لشيء من مخلوقاته.
لكن هل قام به فعل هو الخلق، أو الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق؟ وهذا فيه قولان لمن يثبت اتصافه بالصفات. فأما
ج/ 16 ص -374- من ينفي الصفات من الجهمية والمعتزلة، فهم ينفون قيام الفعل به بطريق الأولي.
لكن منهم من يجعل الخلق غير المخلوق، ويجعل الخلق إما معني قام بالمخلوق، أو المعاني المتسلسلة، كما يقوله مُعَمَّر بن عباد، أو يجعل الخلق قائمًا لا في محل، كقول بعضهم: إنه قول: [كن] لا في محل. وقول البصريين: إنه إرادة لا في محل. وهذا فرار منهم عن قيام الحوادث به، مع أن منهم من يلتزم ذلك، كما التزمه أبو الحسين وغيره.
والجمهور المثبتون للصفات هم في الأفعال على قولين:
منهم من يقول: لا يقوم به فعل، وإنما الفعل هو المفعول. وهذا قول طائفة منهم الأشعري ومن وافقه من أصحابه وغير أصحابه، كابن عقيل وغيره، وهو أول قولي القاضي أبي يعلي.
وهؤلاء يقسمون الصفاتإلى ذاتية، ومعنوية، وفعلية. وهذا تقسيم لا حقيقة له. فإن الأفعال عندهم لا تقوم به فلا يتصف بها، لكن يخبر عنه بها.
وهذا التقسيم يناسب قول من قال: الصفات هي الأخبار التي
ج/ 16 ص -375- يخبر بها عنه، لا معاني تقوم به، كما تقول ذلك الجهمية والمعتزلة. فهؤلاء إذا قالوا: الصفات تنقسم إلى ذاتية وفعلية، أرادوا بذلك ما يخبر به عنه من الكلام تارة يكون خبرًا عن ذاته، وتارة عن المخلوقات ليس عندهم صفات تقوم به. فمن فسر الصفات بهذا أمكنه أن يجعلها ثلاثة أقسام؛ ذاتية ومعنوية وفعلية.
وأما من كان مراده بالصفات ما يقوم به؛ فهذا التقسيم لا يصلح على أصلهم، ولكن أخذوا التقسيم عن أولئك وهم مخالفون لهم في المراد بالصفات.
وهذا التقسيم موجود في كلام أبي الحسن ومن وافقه، كالقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، والباجي وغيرهم.
والقول الثاني: إنه تقوم به الأفعال. وهذا قول السلف وجمهور مثبتة الصفات.
ذكر البخاري في كتاب [خلق أفعال العباد]: أن هذا إجماع العلماء، خالق، وخلق، ومخلوق. وذكره البغوي قول أهل السنة، وذكره أبو نصر محمد بن إسحاق الكلاباذي في كتاب [التعرف بمذاهب التصوف]، أنه قول الصوفية. وهو قول الحنفية مشهور عندهم يسمونه
ج/ 16 ص -376- [التكوين]. وهو قول الكَرَّامِية، والهشامية، ونحوهما وهو قول القدماء من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد. وهو آخر قولي القاضي أبي يعلي.
ثم إذا قيل: الخلق غير المخلوق، وإنه قائم بالرب، فهل هو خلق قديم لازم لذات الرب مع حدوث المخلوقات، كما يقوله أصحاب أبي حنيفة وغيرهم؟ أو هم خلق حادث بذاته حدث لما حدث جنس المخلوقات؟ أم خلق بعد خلق؟ على ثلاثة أقوال.
وهذا أو هذا هو الذي عليه أئمة السنة والحديث وجمهورهم. وهو قول طوائف من أهل الكلام من الكرامية والهشامية، وغيرهم.
فمن قال: [إنه يتكلم بمشيئته واختياره كلامًا يقوم بذاته، يمكنه أن يقول: إنه يفعل باختياره ومشيئته فعلًا يقوم بذاته].
والذين يقولون بقيام الأمور الاختيارية بذاته، منهم من يصحح دليل الأعراض والاستدلال به على حدوث الأجسام، كالكرامية، ومتأخري الحنفية، والمالكية، والحنبلية، والشافعية. ومنهم من لا يصححه، كأئمة السلف، وأئمة السنة والحديث، وأحمد بن حنبل، والبخاري وغيرهم.
ج/ 16 ص -377- وهذه المسألة يعبر عنها ب [مسألة التأثير] هل هو أمر وجودي أم لا؟ وهل التأثير زائد على المؤثر والأثر أم لا؟ وكلام الرازي في ذلك مختلف، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع.
وعمدة الذين قالوا: إن الخلق هو المخلوق، والتأثير هو وجود الأثر، لم يثبتوا زائدًا أن قالوا: لو كان الخلق والتأثير زائدًا على ذات المخلوق والأثر، لكان إما أن يقوم بمحل أو لا، والثاني باطل، فإن المعاني لا تقوم بأنفسها. وهذا رد على طائفة من المعتزلة قالوا: يقوم بنفسه.
قالوا: وإذا قام بمحل، فإما أن يقوم بالخالق أو بغيره، والثاني باطل، لأنه لو قام بغيره، لكان ذلك الغير هو الخالق، لا هو. وهذا رد على طائفة ثانية يقولون: إنه يقوم بالمخلوق.
وإذا قام بالخالق، فإما أن يكون قديمًا أو محدثًا، ولو كان قديمًا، للزم قدم المخلوق، فإن الخلق والمخلوق متلازمان.فوجود خلق بلا مخلوق ممتنع، وكذلك وجود تأثير بلا أثر.
وإن كان محدثًا، فهو باطل لوجهين؛ أحدهما: أنه يلزم قيام الحوادث به. والثاني: أن ذلك الخلق الحادث يفتقرإلى خلق آخر ويلزم التسلسل. ومعمر بن عباد التزم التسلسل، وجعل للخلق خلقًا، وللخلق خلقًا،
ج/ 16 ص -378- لكن لا في ذات الله، وجعل ذلك في وقت واحد.
فهذه عمدة هؤلاء. وكل طائفة تخالفهم، منعت مقدمة من مقدمات دليلهم.
فمن جوَّز أن يقوم بنفسه، أو بالمخلوق، منع تينك المقدمتين. وأما الجمهور فكل أجاب بحسب قوله.
منهم من قال: بل الخلق والتكوين قديم، كما أن الإرادة عندكم قديمة. ومع القول بقدمها لم يلزم تقدم المراد، كذلك الخلق والتكوين قديم، ولا يلزم تقدم المخلوق. وهذا لازم للكلابية من الأشعرية وغيرهم لا جواب لهم عنه.
لكن لا يلزم من نفي قدم إرادة معينة، بل نفي قدم الإرادة، كما يقوله الجهمية والمعتزلة. أو يقول بقدم نوع الإرادة، كما يقوله أئمة أهل الحديث ومن وافقهم من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم.
لكن صاحب هذا القول يقال له: التكوين القديم إما أن يكون بمشيئته، وإما ألا يكون بمشيئته. فإن كان بغير مشيئته لزم أن يكون قد خلق الخلق بلا مشيئته. وإن كان بمشيئته، لزم أن يكون القديم مرادًا. وهذا باطل. ولو صح لأمكن كون العالم قديمًا مع كونه مخلوقًا
ج/ 16 ص -379- بخلق قديم بإرادة قديمة. ومعلوم أن هذا باطل. ولهذا كان كل من قال: [القرآن قديم]، يقولون: تكلم بغير مشيئته وقدرته.
فالمفعول المراد لا يكون إلا حادثًا، وكذلك الفعل المراد لا يكون إلا حادثًا.
وأيضًا، فهؤلاء المنازعون لهم يقولون: الإرادة مستلزمة للمراد، والخلق مستلزم للمخلوق. وما ذكر حجة على هؤلاء، وهؤلاء. فإن الإرادة والخلق من الأمور الإضافية، وثبوت إرادة بلا مراد وخلق بلا مخلوق ممتنع. لكن المنازع يقول: توجد الإرادة والخلق، ويتأخر المراد المخلوق.
فيقال لهؤلاء: تقولون: توجد الإرادة،أو الخلق مع الإرادة، ولا يوجد لا المراد ولا المخلوق. ثم بعد ذلك بما لا يتناهي من تقدير الأوقات يوجد المراد المخلوق من غير سبب. وهذا معلوم البطلان في بداية العقول. فإن الإرادة أو الخلق كان موجودًا مع القدرة. فإن كان هذا مؤثرًا تامًا استلزم وجود الأثر، ولزم وجود الأثر عند وجود المؤثر التام.
فإن الأثر [ممكن]، والممكن يجب وجوده عند وجود المرجح
ج/ 16 ص -380- التام، إذ لو لم يكن كذلك، كان جائزًا بعد وجود المرجح يقبل الوجود والعدم، وحينئذ، فيفتقرإلى مرجح. وهذا يستلزم التسلسل. ولا ينقطع التسلسل إلا إذا وجد المرجح التام الموجب.
وهنا تنازع الناس،فقالت طائفة مثل محمد بن الهيصم الكرامي ومحمود الخوارزمي : يكون الممكن أولي بالوقوع لكن لا ينتهيإلى حد الوجوب.
وقال أكثر المعتزلة والأشعرية: بل لا يصير أولي ولكن القادر، أو القادر المريد، يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح.
وآخرون عرفوا أن هذا لازم فاعترفوا بأنه عند وجود المرجح التام، يجب وجود الأثر، وعند الداعي التام مع القدرة، يجب وجود الفعل، كما اعترف بذلك أبو الحسين البصري، والرازي، والطوسي وغيرهم. وكثير من قدماء المتكلمين يقولون بالإرادة الموجبة، وأن الإرادة تستلزم وجود المراد.
والمتفلسفة أوردوا هذا على المتكلمين، لكن بأن الأثر يقارن وجود التأثير فيكون معه بالزمن.
وكثير من الناس لا يعرف إلا هذا القول، وذاك القول
ج/ 16 ص -381- كالرازي وغيره، فيبقون حياري في هذا الأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين والكلام.
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير موضع، وبينا أن قولًا ثالثًا هو الصواب الذي عليه أئمة العلم.وهو أن التأثير التام، يستلزم وجود الأثر عقبه ؛ لا معه في الزمان،ولا متراخيًا عنه.
فمن قال بالتراخي من أهل الكلام فقد غلط، ومن قال بالاقتران كالمتفلسفة فهم أعظم غلطًا. ويلزم قولهم من المحالات ما قد بيناه في مواضع.
وأما هذا القول فعليه يدل السمع والعقل. قال الله تعالى: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [يس: 82]، والعقلاء يقولون: [قطعته فانقطع، وكسرته فانكسر]، و[طلق المرأة فطلقت، وأعتق العبد فعتق]. فالعتق والطلاق يقعان عقب الإعتاق والتطليق لا يتراخي الأثر، ولا يقارن. وكذلك الانكسار والانقطاع مع القطع والكسر.
وهذا مما يبين أنه إذا وجد الخلق، لزم وجود المخلوق عقبه، كما يقال: كون الله الشيء فَتَكَوَّنَ. فَتَكَوَّنه عقب تكوين الله لا مع التكوين، ولا متراخيا.
ج/ 16 ص -382- وكذلك الإرادة التامة مع القدرة تستلزم وجود المراد المقدور.
فهو يريد أن يخلق، فيوجد الخلق بإرادته وقدرته. ثم الخلق يستلزم وجود المخلوق، وإن كان ذلك الخلق حادثًا بسبب آخر يكون هذا عقبه. فإنما في ذلك وجود الأثر عقب المؤثر التام، والتسلسل في الآثار. وكلاهما حق، والله أعلم.
وأما المخلوق، فلا يكون إلا بائنًا عنه لا يقوم به مخلوق.
بل نفس الإرادة مع القدرة تقتضي وجود الخلق، كما تقتضي وجود الكلام.
ولا يفتقر الخلقإلى خلق آخر، بل يفتقرإلى ما به يحصل وهو الإرادة المتقدمة وإذا خلق شيئًا أراد خلق شيء آخر. وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ومن قال: إن الخلق حادث كالهشامية والكرامية قال: نحن نقول بقيام الحوادث.
ولا دليل على بطلان ذلك. بل العقل والنقل، والكتاب والسنة وإجماع السلف، يدل على تحقيق ذلك، كما قد بسط في موضعه.
ج/ 16 ص -383- ولا يمكن القول بأن الله يدبر هذا العالم إلا بذلك، كما اعترف بذلك أقرب الفلاسفةإلى الحق، كأبي البركات صاحب [المعتبر] وغيره.
وأما قولهم: يلزم أن للخلق خلقًا آخر، فقد أجابهم من يلتزم ذلك كالكرامية وغيرهم بأنكم تقولون: إن المخلوقات المنفصلة تحدث بلا حدوث سبب أصلًا. وحينئذ، فالقول بحدوث الخلق الذي تحصل به المخلوقات بلا حدوث، سبب أقربإلى العقل والنقل.
وهذا جواب لازم على هذا التقدير تقدير قيام الأمور الاختيارية.
والكرامية يسمون ما قام به [حادثًا]، ولا يسمونه [مُحْدَثًا]، كالكلام الذي يتكلم به القرآن، أو غيره يقولون: هو حادث، ويمنعون أن يقال: هو محدث؛ لأن [الحادث] يحدث بقدرته ومشيئته ك [الفعل]. وأما [المحدث] فيفتقرإلى إحداث، فيلزم أن يقوم بذاته إحداث غير المحدث، وذلك الإحداث يفتقرإلى إحداث، فيلزم التسلسل.
وأما غير الكرامية من أئمة الحديث والسنة والكلام، فيسمون ذلك [محدثًا]، كما قال: "مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ" [الأنبياء: 2]،
ج/ 16 ص -384- وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: "إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة". والذي أحدثه هو النهي عن تكلمهم في الصلاة.
وقولهم: [إن المحدث يفتقر إلى إحداث، وهلم جرًا]، هذا يستلزم التسلسل في الآثار، مثل كونه متكلمًا بكلام بعد كلام، وكلمات الله لا نهاية لها، وأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء. وهذا قول أئمة السنة، وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل.
وكذلك أفعاله، فإن الفعل والكلام صفة كمال. فإن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يخلق أكمل ممن لا يخلق. قال تعالى: "أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" [النحل: 17].
وحينئذ، فهو مازال متصفًا بصفات الكمال. منعوتًا بنعوت الإكرام والجلال.
وبهذا تزول أنواع الإشكال، ويعلم أن ما أخبرت به الرسل عن الله من أصدق الأقوال، وأن دلائل العقول لا تدل إلا على ما يوافق أخبار الرسول.
ولكن، نشأ الغلط من جهل كثير من الناس بما أخبر به الرسول
ج/ 16 ص -385- وسلوكهم أدلة برأيهم ظنوها عقلية وهي جهلية. فغلطوا في الدلائل السمعية والعقلية، فاختلفوا. "وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" [البقرة: 176].
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع في مسألة الكلام والأفعال وذكر ما تيسر من كلام السلف والأئمة في هذ الأصل. والمقصود هنا التنبيه على مآخذ الأقوال.
وهذا الموضع مما بينه أئمة السنة كالإمام أحمد وغيره. فتكلم في [الرد على الجهمية ] على قوله: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا" [الزخرف: 3]، وبين أن [الجعل] من الله قد يكون [خلقًا] كقوله: "وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ" [الأنعام: 1]، وقد يكون [فعلًا ليس بخلق]، وقوله: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا"، من هذا الباب.
وذلك أن الخلق ونحوه من الأفعال التي ليست خلقًا، مثل تكلمه بالقرآن وغيره، وتكلمه لموسي وغيره، ومثل النزول، والإتيان والمجيء، ونحو ذلك فهذه إنما تكون بقدرته ومشيئته، وبأفعال أُخر تقوم بذاته ليست خلقًا.
وبهذا يجيب البخاري وغيره من أئمة السنة للكرامية إذا قالوا: [المحدث لابد له من إحداث؟]، فيقول: [نعم، وذلك الإحداث
ج/ 16 ص -386-
ج/ 16 ص -387- عن أحمد بن حنبل، عن الأشجعي، عن سفيان الثوري في قوله: "جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا": بيناه قرآنًا عربيًا.
والإنسان يفرق بين تكلمه وتحركه في نفسه، وبين تحريكه لغيره. وقد احتج سفيان بن عيينة وغيره من السلف على أنه غير مخلوق بأن الله خلق الأشياء ب[كن]. فلو كانت [كن] مخلوقة لزم أن يكون خلق مخلوقًا بمخلوق، فيلزم التسلسل الباطل.
وذلك أنه إذا لم يخلق إلا ب [كن]، فلو كانت [كن] مخلوقة، لزم ألا يخلق شيئًا. وهو الدور الممتنع. فإنه لا يخلق شيئًا حتي يقول: [كن]، ولا يقول: [كن] حتي يخلقها، فلا يخلق شيئًا. وهذا تسلسل في أصل التأثير والفعل، مثل أن يقال: لا يفعل حتي يفعل، فيلزم ألا يفعل؛ ولا يخلق حتي يخلق، فيلزم ألا يخلق.
وأما إذا قيل: قال: [كن]، وقبل [كن] [كن]، وقبل [كن] [كن]، فهذا ليس بممتنع. فإن هذا التسلسل في آحاد التأثير، لا في جنسه. كما أنه في المستقبل يقول: [كن] بعد [كن]، ويخلق شيئًا بعد شيء إلى غير نهاية.
فالمخلوقات التامة يخلقها بخلقه، وخلقه فعله القائم به، وذلك إنما يكون بقدرته ومشيئته.
ج/ 16 ص -388- وإذا قيل: هذا الفعل القائم به يفتقرإلى فعل آخر يكون هو المؤثر في وجوده غير القدرة والإرادة فإنه لو كان مجرد ذلك كافيا كفي في وجود المخلوق فلما كان لابد له من خلق، فهذا الخلق أمر حادث بعد أن لم يكن، وهو فعل قائم به. فالمؤثر التام فيه يكون مستلزمًا له مستعقبًا له، كالمؤثر التام في وجود الكلام الحادث بذاته.
والمتكلم من الناس إذا تكلم، فوجود الكلام لفظه ومعناه مسبوق بفعل آخر. فلابد من حركة تستعقب وجود الحروف التي هي الكلام. فتلك الحركة هي التي تجعل الكلام عربيًا أو عجميا، وهو فعل يقوم بالفاعل. وذلك الجعل الحادث حدث بمؤثر تام قبله أيضًا.
وذات الرب هي المقتضية لذلك كله، فهي تقتضي الثاني بشرط انقضاء الأول، لا معه. واقتضاؤها للثاني فعل يقوم بها بعد الأول. وهي مقتضية لهذا التأثير وهذا التأثير.
ثم هذا التأثير وكل تأثير هو مسبب عما قبله، وشرط لما بعده. وليس في ذلك شيء مخلوق وإن كانت [حادثة].
وإن قال قائل: أنا أسمِّي هذا [خلقًا]، كان نزاعه لفظيا، وقيل له: الذين قالوا: [القرآن مخلوق]، لم يكن مرادهم هذا، ولا رد السلف والأئمة هذا. إنما ردوا قول من جعله مخلوقًا بائنًا عن الله، كما قال
ج/ 16 ص -389- الإمام أحمد: كلام الله من الله ليس بائنًا عنه.
وقالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ.
قال أحمد: منه بدأ هو المتكلم به لم يبدأ من مخلوق، كما قال من قال: إنه مخلوق، قال تعالى: "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ" [الأنعام:114].
ولهذا لا يقول أحد: إنه خلق نزوله، واستواءه، ومجيئه. وكذلك تكليمه لموسي، ونداؤه له ناداه وكلمه بمشيئته وقدرته. والتكليم فعل قام بذاته، وليس هو الخلق، كما أن الإنسان إذا تكلم، فقد فعل كلامًا وأحدث كلامًا، ولكن في نفسه، لا مباينًا له.
ولهذا كان الكلام صفة فعل، وهو صفة ذات أيضًا على مذهب السلف والأئمة.
ومن قال: إنه مخلوق يقول: إنه صفة فعل، ويجعل الفعل بائنًا عنه، والكلام بائنًا عنه. ومن قال:صفة ذات يقول: إنه يتكلم بلا مشيئته وقدرته.
ومذهب السلف: أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه قائم به. فهو صفة
ج/ 16 ص -390- ذات وصفة فعل. ولكن الفعل هنا ليس هو الخلق، بل كما قال الإمام أحمد: الجعل جعلان؛ جعل هو خلق، وجعل ليس بخلق.
وهذا كله يستلزم قيام الأفعال بذاته، وأنها تنقسمإلى قسمين: أفعال متعدية كالخلق، وأفعال لازمة كالتكلم والنزول. والسلف يثبتون النوعين هذا وغيره.
وأما جعل القرآن عربيا وإن كان متعديا في صناعة العربية بمعني أنه نصب مفعولًا ففي [الكلام] الفعل الذي هو [التكلم] متصلًا بالمفعول الذي هو [الكلام] كلاهما قائم بالمتكلم.
ولهذا قد يراد بالمفعول المصدر. إذا قلت: [قال قولًا حسنًا]. فقد يراد ب [القول] المصدر فقط، وقد يراد به [الكلام] فقط فيكون المفعول، وقد يراد به المجموع فيكون مفعولًا به ومصدرًا.
وكذلك [القرآن] هو في الأصل [قرأ قرآنًا]، وهو الفعل والحركة، ثم سمي الكلام المقروء [قرآنًا]. قال تعالى في الأول: "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" [القيامة: 17، 18]، وقال في الثاني: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ" [الإسراء: 9].
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن التلاوة والقراءة في
ج/ 16 ص -391- الأصل مصدر [تلا تلاوة، وقرأ قراءة، كالقرآن]، لكن يسمي به الكلام كما يسمي بالقرآن. وحينئذ، فتكون القراءة هي المقروء، والتلاوة هي المتلو.
وقد يراد بالتلاوة، والقراءة: المصدر الذي هو الفعل، فلا تكون القراءة والتلاوة هي المقروء المتلو، بل تكون مستلزمة له.
وقد يراد بالتلاوة والقراءة مجموع الأمرين، فلا تكون هي المتلو؛ لأن فيها الفعل، ولا تكون مباينة مغايرة للمتلو؛ لأن المتلو جزؤها.
هذا، إذا أريد بالقراءة والمقروء شيء واحد معين، مثل قراءة الرب ومقروءه، أو قراءة العبد ومقروءه. وأما إذا أريد بالقراءة قراءة العبد وهي حركته، وبالمقروء صفة الرب، فلا ريب أن حركة العبد ليست صفة الرب.
ولكن هذا تكلف. بل قراءة العبد مقروءه كمقروئه. وقراءته للقرآن إذا عني بها نفس القرآن، فهي مقروءه. وإن عني بها حركته، فليست مقروءه. وإن عني بها الأمران فلا يطلق أحدهما.
ولهذا كان من المنتسبين إلى السنة من يقول: القراءة هي المقروء. ومنهم من يقول: القراءة غير المقروء. ومنهم من لا يطلق واحدًا
ج/ 16 ص -392- منهما. ولكل قول وجه من الصواب عند التصور التام والإنصاف. وليس فيها قول يحيط بالصواب، بل كل قول فيه صواب من وجه وقد يكون خطأ من وجه آخر.
والبخاري إنما يثبت خلق أفعال العباد حركاتهم وأصواتهم. وهذه القراءة هي فعل العبد يؤمر به وينهي عنه. وأما الكلام نفسه، فهو كلام الله. ولم يقل البخاري: إن لفظ العبد مخلوق ولا غير مخلوق كما نهي أحمد عن هذا وهذا.
والذي قال البخاري إنه مخلوق من أفعال العباد وصفاتهم، لم يقل أحمد ولا غيره من السلف إنه غير مخلوق، وإن سكتوا عنه؛ لظهور أمره، ولكونهم كانوا يقصدون الرد على الجهمية.
والذي قال أحمد إنه غير مخلوق هو كلام الله لا صفة العباد لم يقل البخاري إنه مخلوق.
ولكن أحمد كان مقصوده الرد على من يجعل كلام الله مخلوقًا إذا بلغ عن الله، والبخاري كان مقصوده الرد على من يقول: أفعال العباد وأصواتهم غير مخلوقة.
وكلا القصدين صحيح لا منافاة بينهما. وقد بين ذلك ابن قتيبة في
ج/ 16 ص -393- مسألة اللفظ، ولكن المنحرفونإلى أحد الطرفين ينكرون على الآخر. والله سبحانه أعلم.
فصل
وأما الأفعال اللازمة كالاستواء والمجيء فالناس متنازعون في نفس إثباتها؛ لأن هذه ليس فيها مفعول موجود يعلمونه حتي يستدلوا بثبوت المخلوق على الخلق، وإنما عرفت بالخبر. فالأصل فيها الخبر، لا العقل.
ولهذا كان الذين ينفون الصفات الخبرية ينفونها ممن يقول: [الخلق غير المخلوق]. وممن يقول: [الخلق هو المخلوق] ومن يثبت الصفات الخبرية من الطائفتين يثبتها.
والذين أثبتوا الصفات الخبرية لهم في هذه قولان:
منهم من يجعلها من جنس الفعل المتعدي بجعلها أمورًا حادثة في غيرها. وهذا قول الأشعري، وأئمة أصحابه ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلي، وابن الزاغوني، وابن عقيل في كثير من أقواله.
فالأشعري يقول: الاستواء فعل فعله في العرش،فصار به
ج/ 16 ص -394- مستويا على العرش. وكذلك يقول في الإتيان، والنزول. ويقول: هذه الأفعال ليست من خصائص الأجسام، بل توصف بها الأجسام والأعراض،فيقال: [جاءت الحمى، وجاء البرد، وجاء الحر]. ونحو ذلك.
وهذا أيضًا قول القاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وغيرهما.
وحملوا ما روي عن السلف، كالأوزاعي وغيره، أنهم قالوا في النزول: يفعل الله فوق العرش بذاته، كما حكاه القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر، وكما حكوه عن الأشعري وغيره، كما ذكر في غير موضع من كتبه.
ولكن عندهم هذا من الصفات الخبرية. وهذا قول البيهقي وطائفة وهو أول قولي القاضي أبي يعلي.
وكل من قال: إن الرب لا تقوم به الصفات الاختيارية، فإنه ينفي أن يقوم به فعل شاءه سواء كان لازمًا أو متعديًا. لكن من أثبت من هؤلاء فعلًا قديمًا كمن يقول بالتكوين. وبهذا فإنه يقول: ذلك القديم قام به بغير مشيئته، كما يقولون في إرادته القديمة.
والقول الثاني: أنها كما دلت عليه أفعال تقوم بذاته بمشيئته
ج/ 16 ص -395- واختياره، كما قالوا مثل ذلك في الأفعال المتعدية. وهذا قول أئمة السنة، والحديث، والفقه، والتصوف، وكثير من أصناف أهل الكلام، كما تقدم.
وعلي هذا، ينبني نزاعهم في تفسير قوله: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء" [البقرة: 29].
وقوله: "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ" [البقرة: 210].
وقوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" [يونس: 3]، ونحو ذلك.
فمن نفي هذه الأفعال يتأول إتيانه بإتيان أمره أو بأسه، والاستواء على العرش بجعله القدرة والاستيلاء، أو بجعله علو القدر.
فإن الاستواء للناس فيه قولان: هل هو من صفات الفعل أو الذات؟ على قولين:
والقائلون بأنه صفة ذات، يتأولونه بأنه قدر على العرش. وهو مازال قادرًا، ومازال عالي القدر؛ فلهذا ظهر ضعف هذا القول من وجوه:
منها: قوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" فأخبر أنه استوي بحرف [ثم].
ج/ 16 ص -396-ومنها: أنه عطف فعلًا على فعل، فقال: خلق ثم استوى.
ومنها: أن ما ذكروه لا فرق فيه بين العرش وغيره، وإذا قيل: إن العرش أعظم المخلوقات، فهذا لا ينفي ثبوت ذلك لغيره، كما في قوله : "رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" [النمل: 26]، لما ذكر ربوبيته للعرش لعظمته، والربوبية عامة، جاز أن يقال: [رب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم]، ويقال: "بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ" [الشعراء: 47، 48].
والاستواء مختص بالعرش باتفاق المسلمين مع أنه مستول مقتدر على كل شيء من السماء والأرض وما بينهما. فلو كان استواؤه على العرش هو قدرته عليه، جاز أن يقال: على السماء والأرض وما بينهما.
وهذا مما احتج به طوائف،منهم الأشعري. قال: في إجماع المسلمين على أن الاستواء مختص بالعرش دليل على فساد هذا القول.
وأيضًا، فإنه مازال مقتدرًا عليه من حين خلقه.
ومنها: كون لفظ [الاستواء] في لغة العرب يقال على القدرة أو علو القدر ممنوع عندهم. والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة وكلام العرب يمنع هذا، كما قد بسط في موضعه.
وتكلم على البيت الذي يحتجون به:
ج/ 16 ص -397- ثم استوي بِشْرٌ على العراق من غير سيفٍ ودم مهراق
وأنه لو كان صحيحًا، لم يكن فيه حجة. فإنهم لم يقولوا: استوى عمر على العراق لما فتحها، ولا استوي عثمان على خراسان، ولا استوى رسول الله ﷺ على اليمن.
وإنما قيل: هذا البيت إن صح في بشر بن مروان لما دخل العراق واستوى على كرسي ملكها. فقيل هذا كما يقال: جلس على سرير الملك، أو تخت الملك، ويقال: قعد على الملك، والمراد هذا.
وأيضًا، فالآيات الكثيرة والأحاديث الكثيرة وإجماع السلف يدل على أن الله فوق العرش، كما قد بسط في مواضع.
وأما الذين قالوا: الاستواء صفة فعل، فهؤلاء لهم قولان هنا على ما تقدم : هل هو فعل بائن عنه لأن الفعل بمعني المفعول، أم فعل قائم به يحصل بمشيئته وقدرته :
الأول: قول ابن كُلاب، ومن اتبعه كالأشعري وغيره. وهو قول القاضي، و ابن عقيل، وابن الزاغوني، وغيرهم.
ج/ 16 ص -398-والثاني: قول أئمة أهل الحديث والسنة، وكثير من طوائف الكلام، كما تقدم.
ولهذا صار للناس فيما ذكر الله في القرآن من الاستواء والمجيء ونحو ذلك ستة أقوال:
طائفة يقولون: تجري على ظاهرها، ويجعلون إتيانه من جنس إتيان المخلوق، ونزوله من جنس نزولهم. وهؤلاء المشبهة الممثلة، ومن هؤلاء من يقول: إذا نزل خلا منه العرش، فلم يبق فوق العرش.
وطائفة يقولون: بل النصوص على ظاهرها اللائق به، كما في سائر ما وصف به في نفسه، وهو "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" [الشوري: 11]، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. ويقولون: نزل نزولًا يليق بجلاله، وكذلك يأتي إتيانًا يليق بجلاله. وهو عندهم ينزل ويأتي ولم يزل عاليًا وهو فوق العرش، كما قال حماد بن زيد: هو فوق العرش يقرب من خلقه كيف شاء. وقال إسحاق بن راهويه: ينزل ولا يخلو منه العرش. ونقل ذلك عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد.
وتفسير النزول بفعل يقوم بذاته هو قول علماء أهل الحديث ، وهو الذي حكاه أبو عمر ابن عبد البر عنهم، وهو قول عامة القدماء من أصحاب أحمد ، وقد صرح به ابن حامد وغيره.
ج/ 16 ص -399- والأول نفي قيام الأمور الاختيارية : هو قول التميمي موافقة منه لابن كلاب، وهو قول القاضي أبي يعلى وأتباعه.
وطائفتان يقولان: بل لا ينزل ولا يأتي، كما تقدم، ثم منهم من يتأول ذلك، ومنهم من يفوض معناه.
وطائفتان واقفتان، منهم من يقول: ما ندري ما أراد اللّه بهذا. ومنهم من لا يزيد على تلاوة القرآن.
وعامة المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف، يبطلون تأويل من تأول ذلك بما ينفي أن يكون هو المستوي الآتي، لكنْ كثير منهم يرد التأويل الباطل ويقول: ما أعرف مراد اللّه بهذا.
ومنهم من يقول: هذا مما نهي عن تفسيره، أو مما يكتم تفسيره.
ومنهم من يقرره كما جاءت به الأحاديث الصحيحة والآثار الكثيرة عن السلف من الصحابة والتابعين.
قال أبو محمد البغوي الحسين بن مسعود الفرَّاء الملقب ب [محيي السنة] في تفسيره: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء" [البقرة: 29]: قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء. وقال الفراء، وابن كيسان ،
ج/ 16 ص -400- وجماعة من النحويين: أي أقبل على خلق السماء. وقيل: قصد.
وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي في تفسيره. قال: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء"، أي : عمد إلى خلقها.
وكذلك هو يرجح قول من يفسر الإتيان بإتيان أمره، وقول من يتأول الاستواء. وقد ذكر ذلك في كتب أخري، ووافق بعض أقوال ابن عقيل. قال: ابن عقيل له في هذا الباب أقوال مختلفة وتصانيف يختلف فيها رأيه واجتهاده.
وقال البغوي في تفسير قوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" [يونس: 3]: قال الكَلْبي، ومقاتل: استقر. وقال أبو عبيدة: صعد. وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء.
وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة للّه بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم فيه إلى اللّه. وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه: 5]، كيف استوى؟ فأطرق مالك رأسه مليًا، وعلاه الرُّحَضاء [هو: العرق]، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالا. ثم أمر به فأخرج.
ج/ 16 ص -401- قال: روي عن سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبد اللّه بن المبارك، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: أمروها كما جاءت بلا كيف.
وقال في قوله: "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ" [البقرة: 210]: الأولَي في هذه الآية وفيما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى اللّه، ويعتقد أن اللّه منزه عن سمات الحدث. على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة.
قال الكَلْبي: هذا من المكتوم الذي لا يفسر.
قلت: وقد حكي عنه أنه قال في تفسير قوله: "ثُمَّ اسْتَوَى": استقر. ففسر ذاك، وجعل هذا من المكتوم الذي لا يفسر؛ لأن ذاك فيه وصفه بأنه فوق العرش، وهذا فيه إتيانه في ظلل من الغمام.
قال البغوي: وكان مكحول [هو أبو عبد الله مكحول بن أبي مسلم بن شاذل، الهذلي، فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث، ورحل في طلب الحديث إلى العراق فالمدينة وطاف كثيرًا واستقر في دمشق، وتوفي بها عام 211ه] والزهري، والأوزاعي، ومالك، وعبد اللّه بن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، يقولون فيه وفي أمثاله: أمروها كما جاءت بلا كيف. قال سفيان بن عيينة: كل ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه؛ ليس لأحد أن يفسره إلا اللّه ورسوله.
ج/ 16 ص -402- وهذه الآية أغمض من آية الاستواء؛ ولهذا كان أبو الفرج يميل إلى تأويل هذا وينكر قول من تأول الاستواء بالاستيلاء.
قال في تفسيره: قال الخليل بن أحمد: [العرش]: السرير، وكل سرير للملك يسمى [عرشًا] وقلما يجمع العرش إلا في الاضطرار.
قلت: وقد روي ابن أبي حاتم عن أبي رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: يسمي [عرشًا] لارتفاعه. قلت: والاشتقاق يشهد لهذا، كقوله: "وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ" [الأعراف: 137]، وقوله: "مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ" [الأنعام: 141]، وقول سعد: وهذا كافر بالعرش. ومقعد الملك يكون أعلى من غيره. فهذا بالنسبة إلى غيره عال عليه، وبالنسبة إلى ما فوقه هو دونه. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن". فدل على أن العرش أعلى المخلوقات، كما بسط في مواضع أخر.
قال أبو الفَرَج: واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام. قال أمية بن أبي الصلت:
مجدوا اللّه فهو للمجد أهل
ربنا في السماء أمسي كبيرا
ج/ 16 ص -403- بالبناء الأعلى الذي سبق النا س وسوى فوق السماء سريرًا
شرْجَعا لا يناله بصر العي ن تري دونه الملائك صورا
[الشَّرْجَعُ: السرير]
قلت: يريد أنه ذكره من العرب من لم يكن مسلمًا أخذه عن أهل الكتاب. فإن أمية ونحوه إنما أخذ هذا عن أهل الكتاب، وإلا فالمشركون لم يكونوا يعرفون هذا.
قال أبو الفَرَج ابن الجوزي، وقال كعب: إن السموات في العرش كقنديل معلق بين السماء والأرض.
قال: وإجماع السلف منعقد على ألا يزيدوا على قراءة الآية. وقد شذ قوم فقالوا: العرش بمعني المُلْك. وهو عدول عن الحقيقة إلى التجوز مع مخالفة الأثر. ألم يسمعوا قوله: "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء" [هود: 7]، أفتراه كان المُلْك على الماء؟
قال: وبعضهم يقول: استوى بمعني استولي، ويستدل بقول الشاعر:
حتي استوى بِشْر على العراق من غير سيف ودم مهراق
وقال الشاعر أيضًا:
ج/ 16 ص -404- قد قلما استوى بفضلهما جمي عًا على عرش الملوك بغير زور
قال: وهو منكر عند اللُّغَويين. قال ابن الأعرابي: إن العرب لا تعلم استوى بمعني استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم.
قال: وإنما يقال ب [استولى فلان على كذا] إذا كان بعيدًا عنه غير متمكن ثم تمكن منه، واللّه سبحانه وتعالى لم يزل مستوليًا على الأشياء.
والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي. ولو صحا لم يكن حجة فيهما لما بينا من الاستيلاء من لم يكن مستوليًا نعوذ باللّه من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة !.
قلت: فقد تأول قوله: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء" [البقرة: 29]، وأنكر تأويل "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" [يونس: 3] وهو في لفظ [الإتيان] قد ذكر القولين. فقال: قوله: "أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ" [البقرة: 210]، كان جماعة من السلف يمسكون عن مثل هذا. وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال: المراد به قدرته وأمره. قال: وقد بينه في قوله: "أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ" [النحل: 33].
قلت: هذا الذي ذكره القاضي وغيره أن حنبلا نقله عن
ج/ 16 ص -405- أحمد في كتاب: [المحنة]؛ أنه قال ذلك في المناظرة لهم يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله: "تجيء البقرة وآل عمران"، قالوا: والمجيء لا يكون إلا لمخلوق. فعارضهم أحمد بقوله: "وَجَاء رَبُّكَ" [الفجر: 22]، "أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ" [الأنعام: 158]، وقال: المراد بقوله: "تجيء البقرة وآل عمران": ثوابهما، كما في قوله: "وَجَاء رَبُّكَ": أمره وقدرته.
وقد اختلف أصحاب أحمد فيما نقله حنبل. فإنه لا ريب أنه خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا، وتأويل النزول، والاستواء، ونحو ذلك من الأفعال.
ولهم ثلاثة أقوال:
قيل: إن هذا غلط من حنبل ، انفرد به دون الذين ذكروا عنه المناظرة، مثل صالح، وعبد اللّه، والمروذي، وغيرهم. فإنهم لم يذكروا هذا. وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة، كالخلاَّل [هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، مفسر عالم بالحديث واللغة، من كبار الحنابلة، من أهل بغداد، قال الذهبي: جامع علم أحمد ومرتبه، من كتبه: [تفسير الغريب]، و[طبقات أصحاب ابن حنبل] وغيرهما] وصاحبه. قال أبو إسحاق ابن شَاقلا: هذا غلط من حنبل لا شك فيه.
وكذلك نُقِل عن مالك رواية أنه تأول: "ينزل إلى السماء الدنيا": أنه ينزل أمره. لكن هذا من رواية حبيب كاتبه وهو كذاب باتفاقهم . وقد رويت من وجه آخر لكن الإسناد مجهول.
والقول الثاني: قال طائفة من أصحاب أحمد: هذا قاله إلزاما للخصم
ج/ 16 ص -406- على مذهبه لأنهم في يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله: "تأتي البقرة وآل عمران" أجابهم بأن معناه: يأتي ثواب البقرة وآل عمران، كقوله: "أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ"، أي: أمره وقدرته، على تأويلهم، لا أنه يقول بذلك. فإن مذهبه ترك التأويل.
والقول الثالث: أنهم جعلوا هذا رواية عن أحمد، وقد يختلف كلام الأئمة في مسائل مثل هذه، لكن الصحيح المشهور عنه رد التأويل. وقد ذكر الروايتين ابن الزاغُوني وغيره، وذكر أن ترك التأويل هي الرواية المشهورة المعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا.
ورواية التأويل فسر ذلك بالعمد والقصد، لم يفسره بالأمر والقدرة كما فسروا "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء".
فعلى هذا في تأويل ذلك إذا قيل به وجهان.
وابن الزاغُوني، والقاضي أبو يعلى، ونحوهما وإن كانوا يقولون بإمرار المجيء والإتيان على ظاهره فقولهم في ذلك من جنس قول ابن كُلاب ، والأشعري. فإنه أيضًا يمنع تأويل النزول والإتيان والمجيء، ويجعله من الصفات الخبرية، ويقول: إن هذه الأفعال لا تستلزم الأجسام، بل يوصف بها غير الأجسام. وكلام ابن الزاغوني في
ج/ 16 ص -407- هذا النوع وفي استواء الرب على العرش هو موافق لقول أبي الحسن نفسه.
هذا قولهم في الصفات الخبرية الواردة في هذه الأفعال.
وأما علو الرب نفسه فوق العالم فعند ابن كُلاب أنه معلوم بالعقل، كقول أكثر المثبتة، كما ذكر ذلك الخطابي، وابن عبد البر، وغيرهما. وهو قول ابن الزاغُوني، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى، وكان القاضي أولا يقول بقول الأشعري: أنه من الصفات الخبرية. وهذا قول القاضي أبي بكر، والبيهقي، ونحوهما.
وأما أبو المعالي الجويني وأتباعه، فهؤلاء خالفوا الأشعري وقدماء أصحابه في الصفات الخبرية، فلم يثبتوها. لكن منهم من نفاها فتأول الاستواء بالاستيلاء، وهذا أول قولي أبي المعالي؛ ومنهم من توقف في إثباتها ونفيها، كالرازي، والآمدي، وآخر قولي أبي المعالي المنع من تأويل الصفات الخبرية، وذكر أن هذا إجماع السلف، وأن التأويل لو كان مسوغًا أو محتوما، لكان اهتمامهم به أعظم من اهتمامهم بغيره.
فاستدل بإجماعهم على أنه لا يجوز التأويل، وجعل الوقف التام على
ج/ 16 ص -408- قوله: "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ" [آل عمران: 7]، ذكر ذلك في: [النظَّامية في الأركان الإسلامية].
وهذه طريقة عامة المنتسبين إلى السنة يرون التأويل مخالفًا لطريقة السلف. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وذكر لفظ [التأويل] وما فيه من الإجمال، والكلام على قوله: "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ"، وأن كلا القولين حق.
فمن قال: لا يعلم تأويله إلا اللّه، فأراد به ما يؤول إليه الكلام من الحقائق التي لا يعلمها إلا اللّه. ومن قال: إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل، فالمراد به تفسير القرآن الذي بينه الرسول والصحابة.
وإنما الخلاف في لفظ [التأويل] على المعنى المرجوح، وأنه حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح دون الراجح لدليل يقترن به. فهذا اصطلاح متأخر، وهو التأويل الذي أنكره السلف والأئمة تأويلات أهل البدع.
وكذلك يقول أحمد في [رده على الجهمية] : الذين تأولوا القرآن على غير تأويله. وقد تكلم أحمد على متشابه القرآن وفسره كله.
ج/ 16 ص -409- ومنه تفسير متفق عليه عند السلف، ومنه تفسير مختلف فيه.
وقد ذكر الجَد أبو عبد الله في تفسيره من جنس ما ذكره البغوي، لا من جنس ما ذكره ابن الجوزي، فقال:
أما الإتيان المنسوب إلى الله، فلا يختلف قول أئمة السلف، كمكحول والزهري والأوزاعي، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد، وأتباعهم، أنه يمر كما جاء. وكذلك ما شاكل ذلك مما جاء في القرآن، أو وردت به السنة، كأحاديث النزول، ونحوها. وهي طريقة السلامة ومنهج أهل السنة والجماعة يؤمنون بظاهرها ويكلون علمها إلى الله ويعتقدون أن الله منزه عن سمات الحدث. على ذلك مضت الأئمة خلفًا بعد سلف، كما قال تعالى: "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ" [آل عمران: 7] .
وقال ابن السائب في قوله: "أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ" [البقرة: 210]. هذا من المكتوم الذي لا يفسر، وذكر ما يشبه كلام الخَطَّابي في هذا.
فإن قيل: [كيف يقع الإيمان بما لا يحيط من يدعي الإيمان به علما بحقيقته؟]، فالجواب: كما يصح الإيمان بالله
ج/ 16 ص -410- ،وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والنار والجنة. ومعلوم أنا لا نحيط علما بكل شيء من ذلك على جهة التفصيل، وإنما كُلِّفنا الإيمان بذلك في الجملة. ألا تري أنا لا نعرف عدة من الأنبياء وكثيرًا من الملائكة، ولا نحيط بصفاتهم، ثم لا يقدح ذلك في إيماننا بهم؟ وقد قال النبي ﷺ في صفة الجنة: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
قلت: لا ريب أنه يجب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول وتصديقه فيما أخبر به، وإن كان الشخص لم يفقه بالعربية ما قال ولا فهم من الكلام شيئًا، فضلا عن العرب. فلا يشترط في الإيمان المجمل العلم بمعني كل ما أخبر به؛ هذا لا ريب فيه.
فكل من اشتبه عليه آية من القرآن. ولم يعرف معناها، وجب عليه الإيمان بها، وأن يكل علمها إلى الله في قول: [الله أعلم]. وهذا متفق عليه بين السلف والخلف. فما زال كثير من الصحابة يمر بآية ولفظ لا يفهمه فيؤمن به وإن لم يفهم معناه.
لكن، هل يكون في القرآن ما لا يفهمه أحد من الناس. بل ولا الرسول، عند من يجعل التأويل هو [معنى الآية] ويقول: إنه لا
ج/ 16 ص -411- يعلمه إلا الله؟ فيلزم أن يكون في القرآن كلام لا يفهمه لا الرسول، ولا أحد من الأمة، بل ولا جبريل. هذا هو الذي يلزم على قول من يجعل معاني هذه الآيات لا يفهمه أحد من الناس.
وليس هذا بمنزلة ما ذكر في الملائكة، والنبيين، والجنة. فإنا قد فهمنا الكلام الذي خوطبنا به، وأنه يدل على أن هناك نعيمًا لا نعلمه. وهذا خطاب مفهوم، وفيه إخبارنا أن من المخلوقات ما لا نعلمه وهذا حق كقوله: "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" [المدثر: 31]، وقوله لما سألوه عن الروح: "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا" [الإسراء: 85]. فهذا فيه إخبارنا بأن لله مخلوقات لا نعلمها، أو نعلم جنسهم ولا نعلم قدرهم، أو نعلم بعض صفاتهم دون بعض.
وكل هذا حق، لكن ليس فيه أن الخطاب المنزل الذي أمرنا بتدبره لا يفقه ولا يفهم معناه لا الرسول ولا المؤمنون. فهذا هو المنكر الذي أنكره العلماء. فإن الله قال: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [الزخرف: 3]، وقال: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد:24]، وقال: "أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ" [المؤمنون: 68]، وقال: "حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ" [محمد: 16].
وفرق بين ما لم يخبر به أو أخبرنا ببعض صفاته دون بعض فما
ج/ 16 ص -412- لم يخبر به لا يضرنا ألا نعلمه وبين ما أخبرنا به. وهو الكلام العربي الذي جعل هدي وشفاء للناس. وقال الحسن:ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت وما عني بها. فكيف يكون في مثل هذا الكلام ما لا يفهمه أحد قط؟
وفرق بين أن يقال: [الرب هو الذي يأتي إتيانًا يليق بجلاله]، أو يقال: [ما ندري، هل هو الذي يأتي أو أمره. فكثير من لا يجزم بأحدهما، بل يقول: اسكت، فالسكوت أسلم].
ولا ريب أنه من لم يعلم فالسكوت له أسلم، كما قال النبي ﷺ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". لكن هو يقول: إن الرسول وجميع الأمة كانوا كذلك لا يدرون هل المراد به هذا أو هذا، ولا الرسول كان يعرف ذلك. فقائل: هذا مبطل متكلم بما لا علم له به. وكان يسعه أن يسكت عن هذا لا يجزم بأن الرسول والأئمة كلهم جهال يجب عليهم السكوت كما يجب عليه.
ثم إن هذا خلاف الواقع، فأحاديث النبي ﷺ وكلام السلف في معني هذه الآية ونظائرها كثير مشهور. لكن قال على رضي الله عنه : "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون. أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟". وقال ابن مسعود: [ما من
ج/ 16 ص -413-رجل يحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم].
وإذا قال: بل كان من السلف من يجزم بأن المراد هو إتيانه نفسه، فهذا جزم بأنهم عرفوا معناها وبطلان القول الآخر، لم يكونوا ساكتين حيارى. ولا ريب أن مقدوره ومأموره مما يأتي أيضا، ولكن هو يأتي كما أخبر عن نفسه إتيانًا يليق بجلاله.
فإذا قيل: لا نعلم كيفية الاستواء، كان هذا صحيحًا. وإذا كان الخطاب والكلام مما لا يفهم أحد معناه لا الرسول، ولا جبريل، ولا المؤمنون لم يكن مما يتدبر ويعقل. بل مثل هذا عبث، والله منزه عن العبث.
ثم هذا يلزمهم في الأحاديث، مثل قوله: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء". أفكان الرسول يقول هذا الحديث ونحوه وهو لا يفقه ما يقول ولا يفهم له معني؟ سبحان الله! هذا بهتان عظيم، وقدح في الرسول، وتسليط للملحدين. إذا قيل: إن نفس الكلام الذي جاء به قد كان لا يفهم معناه قالوا: فغيره من العلوم العقلية أولي ألا يفهم معناه.
والكلام إنما هو في صفات الرب،فإذا قيل: إن ما أنزل عليه من
ج/ 16 ص -414- صفات الرب لم يكن هو ولا غيره يفهمه، وهو كلام أمي عربي ينزل عليه، قيل: فالمعاني المعقولة في الأمور الإلهية أولي ألا يكون يفهمها.وحينئذ،فهذا الباب لم يكن موجودًا في رسالته، ولا يؤخذ من جهته لا من جهة السمع،ولا من جهة العقل. قالت الملاحدة:فيؤخذ من طريق غيره.
فإذا قال لهم هؤلاء : هذا غير ممكن لأحد، منعوا ذلك وقالوا: إنما في القرآن أن ذلك الخطاب لا يعلم معناه إلا الله. لكن من أين لكم أن الأمور الإلهية لا تعلم بالأدلة العقلية التي يقصر عنها البيان بمجرد الخطاب والخبر؟
والملاحدة يقولون: إن الرسل خاطبت بالتخييل، وأهل الكلام يقولون: بالتأويل، وهؤلاء الظاهرية يقولون: بالتجهيل. وقد بسط الكلام على خطأ الطوائف الثلاث، وبين أن الرسول قد أتي بغاية العلم والبيان الذي لا يمكن أحدًا من البشر أن يأتي بأكمل مما جاء به ﷺ تسليما. فأكمل ما جاء به القرآن، والناس متفاوتون في فهم القرآن تفاوتًا عظيما.
وقول ابن السائب: إن هذا من المكتوم الذي لا يفسر، يقتضي أن له تفسيرًا يعلمه العلماء ويكتمونه.
ج/ 16 ص -415- وهذا على وجهين؛ إما أن يريد أن يكتم شيء مما بينه الرسول ﷺ عن جميع الناس فهذا من الكتمان المجرد الذي ذم الله عليه. وهذه حال أهل الكتاب. وعاب الذين يكتمون ما بينه للناس من البينات والهدي من بعد ما بينه للناس في الكتاب. وقال: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ" [البقرة:140].
وهذه حال أهل الكتاب في كتمان ما في كتابهم من الألفاظ يتأولها بعضهم. ويجعلها بعضهم متشابها. وهي دلائل على نبوة محمد ﷺ، وغير ذلك. فإن ألفاظ التوراة والإنجيل وسائر كتب الأنبياء وهي بضع وعشرون كتابا عند أهل الكتاب لا يمكنهم جحد ألفاظها، لكن يحرفونها بالتأويل الباطل، ويكتمون معانيها الصحيحة عن عامتهم، كما قال تعالى: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ" [البقرة: 78].
فمن جعل أهل القرآن كذلك، وأمرهم أن يكونوا فيه أميين لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة، فقد أمرهم بنظير ما ذم الله عليه أهل الكتاب.
وصَبيغ بن عَسْل التميمي إنما ضربه عمر؛ لأنه قصد باتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وهؤلاء الذين عابهم الله في كتابه لأنهم
ج/ 16 ص -416- جمعوا شيئين؛ سوء القصد، والجهل. فهم لا يفهمون معناه ويريدون أن يضربوا كتاب الله بعضه ببعض ليوقعوا بذلك الشبهة والشك. وفي الصحيح عن عائشة أن النبي ﷺ قال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم".
فهذا فعل من يعارض النصوص بعضها ببعض ليوقع الفتنة وهي الشك والريب في القلوب، كما روي أنه خرج على القوم وهم يتجادلون في القدر، هؤلاء يقولون: ألم يقل الله كذا؟ وهؤلاء يقولون: ألم يقل الله كذا؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، ثم قال: "أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه".
فكل من اتبع المتشابه على هذا الوجه فهو مذموم. وهو حال من يريد أن يشكك الناس فيما علموه لكونه وإياهم لم يفهموا ما توهموا أنه يعارضه. هذا أصل الفتنة أن يترك المعلوم لغير معلوم. كالسفسطة التي تورث شبها يقدح بها فيما علم وتيقن. فهذه حال من يفسد قلوب الناس وعقولهم بإفساد ما فيها من العلم والعمل أصل الهدي، فإذا شككهم فيما علموه بقوا حيارى.
والرسول ﷺ قد أتي بالآيات البينات الدالة على
ج/ 16 ص -417- صدقه، والقرآن فيه الآيات المحكمات اللاتي هي أم الكتاب قد علم معناها وعلم أنها حق،وبذلك يهتدي الخلق وينتفعون.
فمن اتبع المتشابه ابتغي الفتنة وابتغي تأويله والأول قصدهم فيه فاسد، والثاني ليسوا من أهله، بل يتكلمون في تأويله بما يفسد معناه إذ كانوا ليسوا من الراسخين في العلم.
وإنما الراسخ في العلم الذي رسخ في العلم بمعني المحكم، وصار ثابتا فيه لا يشك ولا يرتاب فيه بما يعارضه من المتشابه، بل هو مؤمن به، قد يعلمون تأويل المتشابه.
وأما من لم يرسخ في ذلك بل إذا عارضه المتشابه شك فيه فهذا يجوز أن يراد بالمتشابه ما يناقض المحكم، فلا يعلم معني المتشابه، إذ لم يرسخ في العلم بالمحكم. وهو يبتغي الفتنة في هذا وهذا. فهذا يعاقب عقوبة تردعه، كما فعل عمر بصَبِيغ.
وأما من قصده الهدي والحق، فليس من هؤلاء. وقد كان عمر يسأل ويسأل عن معاني الآيات الدقيقة، وقد سأل أصحابه عن قوله: "إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ" [النصر: 1]، فذكروا ظاهر لفظها. ولما فسرها ابن عباس بأنها إعلام النبي ﷺ بقرب وفاته قال: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
ج/ 16 ص -418- وهذا باطن الآية الموافق لظاهرها. فإنه لما أمر بالاستغفار عند ظهور الدين، والاستغفار يؤمر به عند ختام الأعمال، وبظهور الدين حصل مقصود الرسالة، علموا أنه إعلام بقرب الأجل مع أمور أُخر. وفوق كل ذي علم عليم.
والاستدلال على الشيء بملزوماته. والشيء قد يكون له لازم، وللازمه لازم، وهلم جرا. فمن الناس من يكون أفطن بمعرفة اللوازم من غيره، يستدل بالملزوم على اللازم. ومن الناس من لا يتصور اللازم، ولو تصوره لم يعرف الملزوم، بل يقول: يجوز أن يلزم، ويجوز ألا يلزم؛ ويحتمل، ويحتمل. وتردد الاحتمال هو من عدم العلم، وإلا فالواقع هو أحد أمرين. فحيث كان احتمال بلا ترجيح كان لعدم العلم بالواقع وخفاء دليله، وغيره قد يعلم ذلك ويعلم دليله.
ومن ظن أن ما لا يعلمه هو لا يعلمه غيره، كان من جهله. فلا ينفي عن الناس إلا ما علم انتفاؤه عنهم، وفوق كل ذي علم عليم أعلم منه، حتي ينتهي الأمر إلى الله تعالى. وهذا قد بسط في مواضع.
ثم إنهم يقولون: المأثور عن السلف هو السكوت عن الخوض في
ج/ 16 ص -419- تأويل ذلك، والمصير إلى الإيمان بظاهره، والوقوف عن تفسيره؛ لأنا قد نهينا أن نقول في كتاب الله برأينا، ولم ينبهنا الله ورسوله على حقيقة معني ذلك.
فيقال: أما كون الرجل يسكت عما لا يعلم، فهذا مما يؤمر به كل أحد. لكن هذا الكلام يقتضي أنهم لم يعلموا معني الآية وتفسيرها وتأويلها. وإذا كان لم يتبين لهم، فمضمونه عدم علمهم بذلك، وهو كلامُ شاكٍ لا يعلم ما أريد بالآية.
ثم إذا ذكر لهم بعض التأويلات، كتأويل من يفسره بإتيان أمره وقدرته، أبطلوا ذلك بأن هذا يسقط فائدة التخصيص. وهذا نفي للتأويل وإبطال له.
فإذا قالوا مع ذلك: "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ" [آل عمران: 7]، أثبتوا تأويلا لا يعلمه إلا الله وهم ينفون جنس التأويل.
ونقول: ما الحامل على هذا التأويل البعيد؟ وقد أمكن بدونه أن نثبت إتيانا ومجيئًا لا يعقل كما يليق به، كما أثبتنا ذاتًا لها حقيقة لا تعقل، وصفات من سمع وبصر وغير ذلك لا تعقل. ولأنه إذا جاز تأويل هذا، وأن نُقَدِّر مضمرًا محذوفًا من قدرة أو عذاب ونحو ذلك، فما منعكم من تأويل قوله: "ترون ربكم" كذلك؟
ج/ 16 ص -420- وهذا كلام في إبطال التأويل وحمل للفظ على ما دل عليه ظاهره على ما يليق بجلال الله.
فإذا قيل مع هذا: إن له تأويلا لا يعلمه إلا الله وأريد بالتأويل هذا الجنس، كان تناقضًا. كيف ينفي جنس التأويل ويثبت له تأويل لا يعلمه إلا الله.
فعُلِم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لا يناقض حمله على ما دل عليه اللفظ، بل هو أمر آخر يحقق هذا ويوافقه، لا يناقضه ويخالفه كما قال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
وإذا كان كذلك، أمكن أن من العلماء من يعلم من معني الآية ما يوافق القرآن لم يعلمه غيره، ويكون ذلك من تفسيرها. وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم،كمن يعلم أن المراد بالآية مجيء الله قطعًا لا شك في ذلك لكثرة ما دل عنده على ذلك.ويعلم مع ذلك أنه العلي الأعلى يأتي إتيانًا تكون المخلوقات محيطة به وهو تحتها. فإن هذا مناقض لكونه العلي الأعلى.
والجد الأعلى أبو عبد الله رحمه الله قد جري في تفسيره على ما ذكر من الطريقة. وهذه عادته وعادات غيره .
ج/ 16 ص -421- وذكر كلام ابن الزاغُوني ، فقال: قال الشيخ على بن عبيد الله الزاغُوني:
وقد اختلف كلام إمامنا أحمد في هذا المجيء هل يحمل على ظاهره، وهل يدخل التأويل؟ على روايتين:
إحداهما: أنه يحمل على ظاهره من مجيء ذاته. فعلى هذا يقول: لا يدخل التأويل، إلا أنه لا يجب أن يحمل مجيئه بذاته إلا على ما يليق به. وقد ثبت أنه لا يحمل إثبات مجيء هو زوال وانتقال يوجب فراغ مكان وشغل آخر من جهة أن هذا يعرف بالجنس في حق المحدث الذي يقصر عن استيعاب المواضع والمواطن؛ لأنها أكبر منه وأعظم، يفتقر مجيئه إليها إلى الانتقال عما قرب إلى ما بعد.
وذلك ممتنع في حق الباري تعالى لأنه لا شيء أعظم منه، ولا يحتاج في مجيئه إلى انتقال وزوال؛ لأن داعي ذلك وموجبه لا يوجد في حقه. فأثبتنا المجيء صفة له ومنعنا ما يتوهم في حقه ما يلزم في حق المخلوقين؛ لاختلافهما في الحاجة إلى ذلك. ومثله قوله: "وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" [الفجر: 22].
ومثله الحديث المشهور الذي رواه عامة الصحابة، أن النبي ﷺ قال: "ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقي ثلث
ج/ 16 ص -422- الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه،من يستغفرني فأغفر له". فنحن نثبت وصفه بالنزول إلى سماء الدنيا بالحديث ولا نتأول ما ذكروه ولا نلحقه بنزول الآدميين الذي هو زوال وانتقال من علو إلى أسفل. بل نسلم للنقل كما ورد، وندفع التشبيه لعدم موجبه، ونمنع من التأويل لارتفاع نسبته.
قال: وهذه الرواية هي المشهورة والمعمول عليها عند عامة المشائخ من أصحابنا.
قلت: أما كون إتيانه ومجيئه ونزوله ليس مثل إتيان المخلوق ومجيئه ونزوله، فهذا أمر ضروري متفق عليه بين علماء السنة ومن له عقل. فإن الصفات والأفعال تتبع الذات المتصفة الفاعلة. فإذا كانت ذاته مباينة لسائر الذوات، ليست مثلها، لزم ضرورة أن تكون صفاته مباينة لسائر الصفات ليست مثلها. ونسبة صفاته إلى ذاته، كنسبة صفة كل موصوف إلى ذاته. ولا ريب أنه العلي الأعلى العظيم، فهو أعلى من كل شيء، وأعظم من كل شيء. فلا يكون نزوله وإتيانه بحيث تكون المخلوقات تحيط به أو تكون أعظم منه وأكبر. هذا ممتنع.
وأما لفظ [الزوال] و[الانتقال] فهذا اللفظ مجمل، ولهذا كان
ج/ 16 ص -423- أهل الحديث والسنة فيه على أقوال.
فعثمان بن سعيد الدارمي وغيره، أنكروا على الجهمية قولهم: إنه لا يتحرك، وذكروا أثرًا أنه لا يزول، وفسروا الزوال بالحركة. فبين عثمان بن سعيد أن ذلك الأثر إن كان صحيحًا لم يكن حجة لهم؛ لأنه في تفسير قوله: "الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة: 255]، ذكروا عن ثابت: دائم باق لا يزول عما يستحقه، كما قال ابن إسحاق: لا يزول عن مكانته.
قلت: والكَلْبي بنفسه الذي روي هذا الحديث هو يقول: "اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ": استقر، ويقول: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء": صعد إلى السماء.
وأما [الانتقال] فابن حامد وطائفة يقولون: ينزل بحركة وانتقال. وآخرون من أهل السنة كالتميمي من أصحاب أحمد أنكروا هذا وقالوا: بل ينزل بلا حركة وانتقال. وطائفة ثالثة، كابن بطة وغيره يقفون في هذا.
وقد ذكر الأقوال الثلاثة القاضي أبو يعلى في كتاب [اختلاف الروايتين والوجهين ونفي اللفظ بمجمله].
والأحسن في هذا الباب، مراعاة ألفاظ النصوص، فيثبت ما
ج/ 16 ص -424- أثبت الله ورسوله باللفظ الذي أثبته، وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه. وهو أن يثبت النزول، والإتيان، والمجيء، وينفي المثل، والسمي، والكفؤ، والند.
وبهذا يحتج البخاري وغيره على نفي المثل. يقال: ينزل نزولا ليس كمثله شيء، نزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين نزولا يختص به، كما أنه في ذلك وفي سائر ما وصف به نفسه ليس كمثله شيء في ذلك. وهو منزه أن يكون نزوله كنزول المخلوقين، وحركتهم، وانتقالهم، وزوالهم مطلقًا لا نزول الآدميين ولا غيرهم.
فالمخلوق إذا نزل من علو إلى سفل، زال وصفه بالعلو وتبدل إلى وصفه بالسفول، وصار غيره أعلى منه.
والرب تعالى لا يكون شيء أعلى منه قط، بل هو العلي الأعلى ولا يزال هو العلي الأعلى مع أنه يقرب إلى عباده ويدنو منهم، وينزل إلى حيث شاء، ويأتي كما شاء. وهو في ذلك العلي الأعلى، الكبير المتعالى، على في دنوه، قريب في علوه.
فهذا وإن لم يتصف به غيره فلعجز المخلوق أن يجمع بين هذا وهذا. كما يعجز أن يكون هو الأول والآخر، والظاهر والباطن.
ج/ 16 ص -425- ولهذا قيل لأبي سعيد الخَرَّاز: بم عرفت الله؟ قال: [بالجمع بين النقيضين]. وأراد أنه يجتمع له ما يتناقض في حق الخلق، كما أجتمع له أنه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها من الأعيان والأفعال مع ما فيها من الخبث وأنه عدل،حكيم، رحيم. وأنه يمكن من مكنه من عباده من المعاصي مع قدرته على منعهم، وهو في ذلك حكيم عادل. فإنه أعلم الأعلمين، وأحكم الحاكمين، وخير الفاتحين، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم.
فألا يحيطوا علما بما هو أعظم في ذلك أولي وأحري. وقد سألوا عن الروح فقيل لهم: "الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا" [الإسراء: 85]. وفي الصحيحين، أن الخضر قال لموسى لما نقر عصفور في البحر: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر".
فالذي ينفي عنه وينزه عنه، إما أن يكون مناقضًا لما علم من صفاته الكاملة، فهذا ينفي عنه جنسه، كما قال: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" [البقرة: 255]، وقال: "وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ" [الفرقان: 58]، فجنس السنة،والنوم، والموت، ممتنع عليه، لا يجوز أن يقال في شيء من هذا: "إنه يجوز عليه كما يليق بشأنه"؛ لأن هذا الجنس يوجب نقصًا في كماله.
ج/ 16 ص -426- وكذلك لا يجوز أن يقال: هو يكون في السفل، لا في العلو، وهو سفول يليق بجلاله، فإنه سبحانه العلي الأعلى لا يكون قط إلا عاليًا، والسفول نقص هو منزه عنه.
وقوله: "وأنت الباطن فليس دونك شيء" ، لا يقتضي السفول إلا عند جاهل لا يعلم حقيقة العلو والسفول، فيظن أن السموات - وما فيها - قد تكون تحت الأرض إما بالليل وإما بالنهار وهذا غلط كمن يظن أن ما في السماء من المشرق يكون تحت ما فيها مما في المغرب. فهذا أيضا غلط. بل السماء لا تكون قط إلا عالية على الأرض وإن كان الفلك مستديرًا محيطًا بالأرض فهو العإلى على الأرض علوًا حقيقيا من كل جهة. وهذا مبسوط في مواضع.
والنوع الثاني: أنه منزه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته، فالألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة في الإثبات تثبت. والتي جاءت بالنفي تنفي. والألفاظ المجملة كلفظ [الحركة] و[النزول] و[الانتقال] يجب أن يقال فيها: إنه منزه عن مماثلة المخلوقين من كل وجه، لا يماثل المخلوق لا في نزول، ولا في حركة، ولا انتقال ولا زوال، ولا غير ذلك.
وأما إثبات هذا الجنس، كلفظ [النزول]، أو نفيه
ج/ 16 ص -427- مطلقًا كلفظ [النوم] و[الموت]، فقد يسلك كلاهما طائفة تنتسب إلى السنة.
والمثبتة يقولون: نثبت حركة، أو حركة وانتقالا، أو حركة وزوالًا، تليق به، كالنزول والإتيان اللائق به.
والنفاة يقولون: بل هذا الجنس يجب نفيه.
ثم منهم من ينفي جنس ذلك في حقه بكل اعتبار، ولا يجَوِّز عليه أن يقوم به شيء من الأحوال المتجددة. وهذه طريقة الكُلاَّبية ومن اتبعهم ممن ينتسب إلى السنة والحديث.
ومنهم من لا ينفي في ذلك ما دل عليه النص، ولا ينفي هذا الجنس مطلقًا بما ذكروه من أنه لا تقوم به الحوادث لما قد علم بالآيات والسنة والعقل أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه يحب عبده المؤمن إذا اتبع رسوله، إلى غير ذلك من المعاني التي دل عليها الكتاب والسنة. بل ينفي ما ناقض صفات كماله، وينفي مماثلة مخلوق له. فهذان هما اللذان يجب نفيهما. والله أعلم.
وكذلك إذا قال القائل: الله يجب تنزيهه عن سمات الحدث، أو
ج/ 16 ص -428- علامات الحدث، أو كل ما أوجب نقصًا وحدوثا فالرب منزه عنه، فهذا كلام حق معلوم متفق عليه.
لكن الشأن فيما تقول النافية: إنه من سمات الحدث، وآخرون ينازعونهم لا سيما والكتاب والسنة تناقض قولهم - قالت الجهمية: إن قيام الصفات به، أو قيام الصفات الاختيارية، هو من سمات الحدث. وهذا باطل عند السلف وأئمة السنة، بل وجمهور العقلاء. بل ما ذكروه يقتضي حدوث كل شيء. فإنه ما من موجود إلا وله صفات تقوم به، وتقوم به أحوال تحصل بالمشيئة والقدرة. فإن كان هذا مستلزما للحدوث، لزم حدوث كل شيء، وألا يكون في العالم شيء قديم. وهذا قد بسط في مواضع أيضًا.
وسمات الحدث التي تستلزم الحدوث مثل افتقار إلى الغير. فكل ما افتقر إلى غيره، فإنه محدث، كائن بعد أن لم يكن. والرب منزه عن الحاجة إلى ما سواه بكل وجه. ومن ظن أنه محتاج إلى العرش، أو حملة العرش، فهو جاهل ضال، بل هو الغني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه. وهو الصمد الغني عن كل شيء، وكل ما سواه يصمد إليه محتاجا إليه: "يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" [الرحمن: 29].
ج/ 16 ص -429- ومن سمات الحدث النقائص، كالجهل، والعمى، والصمم، والبكم، فإن كل ما كان كذلك، لم يكن إلا محدثًا؛ لأن القديم الأزلي منزه عن ذلك؛ لأن القديم الأزلي متصف بنقيض هذه الصفات، وصفات الكمال لازمة له. واللازم يمتنع زواله إلا بزوال الملزوم. والذات قديمة أزلية، واجبة بنفسها، غنية عما سواها، يستحيل عليها العدم والفناء بوجه من الوجوه. فيستحيل عدم لوازمها، فيستحيل اتصافها بنقيض تلك اللوازم. فلا يوصف بنقيضها إلا المحدث، فهي من سمات الحدث المستلزمة لحدوث ما اتصف بها.
وهذا يدخل في قول القائل: [كل ما استلزم حدوثًا أو نقصًا فالرب منزه عنه]. والنقص المناقض لصفات كماله مستلزم لحدوث المتصف به، والحدوث مستلزم للنقص اللازم للمخلوق. فإن كل مخلوق فهو يفتقر إلى غيره، كائن بعد أن لم يكن لا يعلم إلا ما علم، ولا يقدر إلا ما أقدر، وهو محاط به مقدور عليه.
فهذه النقائص اللازمة لكل مخلوق هي ملزومة للحدوث،حيث كان حدوث كانت. والحدوث أيضًا ملزوم لها، فحيث كان محدث كانت هذه النقائص.
فقولنا: [ما استلزم نقصًا أو حدوثًا فالرب منزه عنه] حق.
ج/ 16 ص -430- والحدوث والنقص اللازم للمخلوق متلازمان. والرب منزه عن كل منهما من جهتين: من جهة امتناعه في نفسه. ومن جهة أنه مستلزم للآخر وهو ممتنع في نفسه فكل منهما دليل ومدلول عليه باعتبارين: على أن الرب منزه عنه، وعن مدلوله الذي هو لازمه.
والحاجة إلى الغير والفقر إليه مما يستلزم الحدوث والنقص اللازم للمخلوق. وقولى: [اللازم]، ليعم جميع المخلوقين، وإلا فمن النقائص ما يتصف بها بعض المخلوقين دون بعض. فتلك ليست لازمة لكل مخلوق.
والرب منزه عنها أيضا لكن إذا نزه عن النقص اللازم لكل مخلوق فعن ما يختص به بعض المخلوقين أولى وأحرى. فإنه إذا كان مخلوق ينزه عن نقص، فالخالق أولى بتنزيهه عنه. وهذه طريقة [الأولى] كما دل عليها القرآن في غير موضع.
وقد ذكرنا في جواب [المسائل التدمرية] الملقب ب [تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وبيان حقيقة الجمع بين القدر والشرع]؛ أنه لا يجوز الاكتفاء فيما ينزه الرب عنه على عدم ورود السمع والخبر به فيقال: كل ماورد به الخبر أثبتناه، وما لم يرد به لم نثبته بل ننفيه. وتكون عمدتنا في النفي على عدم الخبر.
ج/ 16 ص -431- بل هذا غلط لوجهين:
أحدهما: أن عدم الخبر هو عدم دليل معين، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم إذا لم يخبر هو بالشيء أن يكون منتفيًا في نفس الأمر. ولله أسماء سمى بها نفسه واستأثر بها في علم الغيب عنده. فكما لا يجوز الإثبات إلا بدليل لا يجوز النفي إلا بدليل. ولكن إذا لم يرد به الخبر ولم يعلم ثبوته يسكت عنه فلا يتكلم في الله بلا علم.
الثانى: أن أشياء لم يرد الخبر بتنزيهه عنها، ولا بأنه منزه عنها، لكن دل الخبر على اتصافه بنقائضها فعلم انتفاؤها. فالأصل أنه منزه عن كل ما يناقض صفات كماله وهذا مما دل عليه السمع والعقل.
وما لم يرد به الخبر إن علم انتفاؤه نفيناه، وإلا سكتنا عنه. فلا نثبت إلا بعلم ولا ننفي إلا بعلم.
ونفي الشيء من الصفات وغيرها كنفي دليله طريقة طائفة من أهل النظر والخبر. وهي غلط إلا إذا كان الدليل لازمًا له. فإذا عدم اللازم، عدم الملزوم.
وأما جنس الدليل، فيجب فيه الطرد، لا العكس. فيلزم من وجود الدليل وجود المدلول عليه، ولا ينعكس.
ج/ 16 ص -432-فالأقسامثلاثة: ما علم ثبوته أُثبت، وما علم انتفاؤه نفي، وما لم يعلم نفيه ولا إثباته سكت عنه. هذا هو الواجب. والسكوت عن الشيء غير الجزم بنفيه أو ثبوته.
ومن لم يثبت ما أثبته إلا بالألفاظ الشرعية التي أثبتها، وإذا تكلم بغيرها استفسر واستفصل، فإن وافق المعنى الذي أثبته الشرع أثبته باللفظ الشرعى، فقد اعتصم بالشرع لفظًا ومعنى. وهذه سبيل من اعتصم بالعروة الوثقى.
لكن ينبغي أن تعرف الأدلة الشرعية إسنادًا ومتنًا. فالقرآن معلوم ثبوت ألفاظه، فينبغي أن يعرف وجوه دلالته. والسنة ينبغي معرفة ما ثبت منها وما علم أنه كذب.
فإن طائفة ممن انتسب إلى السنة، وعظَّم السنة والشرع، وظنوا أنهم اعتصموا في هذا الباب بالكتاب والسنة جمعوا أحاديث وردت في الصفات، منها ما هو كذب معلوم أنه كذب، ومنها ما هو إلى الكذب أقرب، ومنها ما هو إلى الصحة أقرب، ومنها متردد. وجعلوا تلك الأحاديث عقائد، وصنفوا مصنفات. ومنهم من يكفر من يخالف ما دلت عليه تلك الأحاديث.
وبإزاء هؤلاء المكذبين بجنس الحديث ومن يقول عن أخبار
ج/ 16 ص -433- الصحيحين وغيرها: هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم.
وأبلغ من هؤلاء من يقول: دلالة القرآن لفظية سمعية، والدلالة السمعية اللفظية لا تفيد اليقين. ويجعلون العمدة على ما يدعونه من العقليات، وهي باطلة فاسدة، منها ما يعلم بطلانه وكذبه.
وهؤلاء أيضًا قد يكفرون من خالف ذلك، كما فعل أولئك. وكلا الطريقين باطل ولو لم يكفر مخالفه. فإذا كفر مخالفه صار من أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، كما فعلت الخوارج وغيرهم.
وقد بسط في غير هذا الموضع؛ أن الأدلة التي توجب العلم لا تناقض قط. ولا يناقض الدليل العقلى الذي يفيد العلم للدليل السمعى الذي يفيد العلم قط، كما قد بينا ذلك في كتاب [درء تعارض العقل والنقل].
وهذه الأحاديث قد ذكر بعضها القاضي أبو يعلى في كتاب [إبطال التأويل]، مثل ما ذكر في حديث المعراج حديثًا طويلًا عن أبي عبيدة [أن محمدًا رأى ربه].
وطائفة ممن يقول بأنه رأى ربه بعينه، يكَفِّرون من خالفهم لما
ج/ 16 ص -434- ظنوا أنه قد جاء في ذلك أحاديث صحيحة، كما فعل أبو الحسن على بن شكر، فإنه سريع إلى تكفير من يخالفه فيما يدعيه من السنة، وقد يكون مخطئًا فيه، إما لاحتجاجه بأحاديث ضعيفة، أو بأحاديث صحيحة لكن لا تدل على مقصوده. وما أصاب فيه من السنة لا يجوز تكفير كل من خالف فيه. فليس كل مخطئ كافرًا لا سيما في المسائل الدقيقة التي كثر فيها نزاع الأمة، كما قد بسط هذا في مواضع.
وكذلك أبو علي الأهوازي له مصنف في الصفات قد جمع فيه الغث والسمين.
وكذلك ما يجمعه عبد الرحمن بن مَنْدَه [هو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني، حافظ مؤرخ، جليل القدر، واسع الرواية، وصنف كتبًا كثيرة، ولد عام 383 وتوفي 470ه بأصبهان. قال الذهبى: له محاسن، وقالوا: إنه حاطب ليل يروى الغث والثمين] مع أنه من أكثر الناس حديثا، لكن يروى شيئًا كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، ولا يميز بين الصحيح والضعيف. وربما جمع بابًا وكل أحاديثه ضعيفة، كأحاديث أكل الطين وغيرها. وهو يروى عن أبي علي الأهوازي.
وقد وقع ما رواه من الغرائب الموضوعة إلى حسن بن عدى فبنى على ذلك عقائد باطلة، وادعى أن الله يرى في الدنيا عيانًا. ثم الذين يقولون بهذا من أتباعه يكفرون من خالفهم. وهذا كما تقدم من فعل أهل البدع، كما فعلت الخوارج.
ومن ذلك: حديث عبد الله بن خليفة المشهور، الذي يروى عن عمر
ج/ 16 ص -435- عن النبي ﷺ، وقد رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى في [مختاره].
وطائفة من أهل الحديث ترده لاضطرابه، كما فعل ذلك أبو بكر الإسماعيلي، وابن الجوزي، وغيرهم. لكن أكثر أهل السنة قبلوه.
وفيه قال: [إن عرشه أو كرسيه وسع السموات والأرض، وإنه يجلس عليه فما يفضل منه قدر أربعة أصابع أو فما يفضل منه إلا قدر أربعة أصابع وإنه لَىَئِط به أطيط الرَّحْل الجديد براكبه].
ولفظ [الأطيط] قد جاء في حديث جبير بن مطعم الذي رواه أبو داود في السنن. وابن عساكر عمل فيه جزءًا، وجعل عمدة الطعن في ابن إسحاق..والحديث قد رواه علماء السنة كأحمد، وأبي داود وغيرهما، وليس فيه إلا ما له شاهد من رواية أخرى. ولفظ [الأطيط] قد جاء في غيره.
وحديث ابن خليفة رواه الإمام أحمد وغيره مختصرًا، وذكر أنه حدث به وكيع.
لكن كثير ممن رواه رووه بقوله: [إنه ما يفضل منه إلا أربع أصابع، فجعل العرش يفضل منه أربع أصابع] واعتقد القاضي، وابن
ج/ 16 ص -436- الزَّاغُوني، ونحوهما، صحة هذا اللفظ، فأمروه وتكلموا على معناه بأن ذلك القدر لا يحصل عليه الاستواء. وذكر عن ابن العايذ أنه قال: هو موضع جلوس محمد ﷺ.
والحديث قد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره، ولفظه: [وإنه ليجلس عليه، فما يفضل منه قدر أربع أصابع] بالنفي.
فلو لم يكن في الحديث إلا اختلاف الروايتين هذه تنفي ما أثبتت هذه. ولا يمكن مع ذلك الجزم بأن رسول الله ﷺ أراد الإثبات، وأنه يفضل من العرش أربع أصابع لا يستوى عليها الرب. وهذا معنى غريب ليس له قط شاهد في شيء من الروايات. بل هو يقتضي أن يكون العرش أعظم من الرب وأكبر. وهذا باطل، مخالف للكتاب والسنة، وللعقل.
ويقتضي أيضًا أنه إنما عرف عظمة الرب بتعظيم العرش المخلوق وقد جعل العرش أعظم منه. فما عظم الرب إلا بالمقايسة بمخلوق، وهو أعظم من الرب. وهذا معنى فاسد، مخالف لما علم من الكتاب والسنة والعقل.
فإن طريقة القرآن في ذلك؛ أن يبين عظمة الرب، فإنه أعظم من كل ما يعلم عظمته. فيذكر عظمة المخلوقات ويبين أن الرب أعظم منها.
ج/ 16 ص -437- كما في الحديث الآخر الذي في سنن أبي داود، والترمذي، وغيرهما حديث الأطيط لما قال الأعرأبي: إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله تعالى فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: [ويحك! أتدرى ماتقول؟ أتدرى ما الله؟ شأن الله أعظم من ذلك. إن عرشه على سمواته هكذا] وقال بيده مثل القبة : [وإنه لىئط به أطيط الرحل الجديد براكبه].
فبين عظمة العرش، وأنه فوق السموات مثل القبة. ثم بين تصاغره لعظمة الله، وأنه يئط به أطيط الرحل الجديد براكبه. فهذا فيه تعظيم العرش، وفيه أن الرب أعظم من ذلك. كما في الصحيحين عن النبي ﷺ قال: [أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير منى]. وقال: [لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن] ومثل هذا كثير.
وهذا وغيره يدل على أن الصواب في روايته النفي، وأنه ذكر عظمة العرش، وأنه مع هذه العظمة فالرب مستو عليه كله لا يفضل منه قدر أربعة أصابع. وهذه غاية ما يقدر به في المساحة من أعضاء الإنسان، كما يقدر في الميزان قدره فيقال: ما في السماء قدر كف سحابًا. فإن الناس يقدرون الممسوح بالباع والذراع، وأصغر ما عندهم
ج/ 16 ص -438- قال: حدثنا أبو زُرْعة، ثنا مِنْجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدرى، عن رسول الله ﷺ في قوله تعالى: "لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ" [الأنعام: 103]، قال: "لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفًا واحدًا ما أحاطوا بالله أبدًا".
وهذا له شواهد، مثل ما في الصحاح في تفسير قوله تعالى: "وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ" [الزمر: 67]، قال ابن عباس: ما السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.
ومعلوم أن العرش لا يبلغ هذا، فإن له حملة وله حول، قال تعالى: "الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ" [غافر: 7].
وهذا قد بسط في موضع آخر في [مسألة الإحاطة] وغيرها. والله أعلم.
فَصْل
فالرسول ﷺ بين الأصول الموصلة إلى الحق
ج/ 16 ص -439- أحسن بيان، وبين الآيات الدالة على الخالق سبحانه وأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ووحدانيته، على أحسن وجه، كما قد بسط في مواضع.
وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق، بل أصَّلوا أصولا تناقض الحق. فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلوا على الحق حتى أصَّلوا أصولا تناقض الحق، ورأوا أنها تناقض ما جاء به الرسول ﷺ، فقدموها على ما جاء به الرسول.
ثم تارة يقولون: الرسول جاء بالتخييل، وتارة يقولون: جاء بالتأويل، وتارة يقولون: جاء بالتجهيل.
فالفلاسفة ومن وافقهم أحيانًا يقولون: خاطب الجمهور بالتخييل لم يقصد إخبارهم بالأمر على ما هو عليه، بل أخبرهم بخلاف ما الأمر عليه ليتخيلوا ما ينفعهم. وهذا قول من يعرف بأنه كان يعرف الحق، كابن سينا وأمثاله، ويقولون: الذي فعله من التخييل غاية ما يمكن.
ومنهم من يقول: لم يعرف الحق، بل تَخيَّل وخَيَّل، كما يقوله الفارأبي وأمثاله. ويجعلون الفيلسوف أفضل من النبي، ويجعلون النبوة من جنس المنامات.
ج/ 16 ص -440- وأما أكثر المتكلمين فيقولون: بل لم يقصد أن يخبر إلا بالحق، لكن بعبارات لا تدل وحدها عليه، بل تحتاج إلى التأويل ليبعث الهمم على معرفته بالنظر والعقل، ويبعثها على تأويل كلامه ليعظم أجرها.
والملاحدة يسلكون مسلك التأويل ويفتحون باب القرمطة، وهؤلاء يجوزون التأويل مع الخاصة.
وأما أهل التخييل فيقولون: الخاصة قد عرفوا أن مراده التخييل للعامة، فالتأويل ممتنع.
والفريقان يسلكون مسلك إلجام العوام عن التأويل، لكن أولئك يقولون: لها تأويل يفهمه الخاصة.
وهي طريقة الغزالى في [الإلجام]. استقبح أن يقال: كذبوا للمصلحة. وهو أيضًا لا يرى تأويل الأعمال كالقرامطة، بل تأويل الخبر عن الملائكة وعن اليوم الآخر. وكذلك طائفة من الفلاسفة ترى التأويل في ذلك. وهذا مخالف لطريقة أهل التخييل.
وقد ذكر الغزالى هذا عنهم في [الإحياء] لما ذكر إسرافهم في التأويل، وذكره في مواضع، كما حكى كلامه في [السبعينية] وغيرها.
ج/ 16 ص -441- والقسم الثالث: الذين يقولون: هذا لا يعلم معناه إلا الله، أو له تأويل يخالف ظاهره لا يعلمه إلا الله. فهؤلاء يجعلون الرسول وغيره غير عالمين بما أنزل الله. فلا يسوغون التأويل؛ لأن العلم بالمراد عندهم ممتنع. ولا يستجيزون القول بطريقة التخييل لما فيها من التصريح بكذب الرسول. بل يقولون: خوطبوا بما لا يفهمونه؛ ليثابوا على تلاوته والإيمان بألفاظه وإن لم يفهموا معناه. يجعلون ذلك تعبدًا محضَا على رأى المجبرة الذين يجوزون التعبد بما لا نفع فيه للعامل، بل يؤجر عليه.
والكلام على هؤلاء وفساد قولهم مذكور في مواضع. والمقصود هنا أن الذي دعاهم إلى ذلك ظنهم أن المعقول يناقض ما أخبر به الرسول ﷺ، أو ظاهر ما أخبر به الرسول. وقد بسط الكلام على رد هذا في مواضع، وبين أن العقل لا يناقض السمع، وأن ما ناقضه فهو فاسد. وبين بعد هذا أن العقل موافق لما جاء به الرسول، شاهد له، ومصدق له.
لا يقال: إنه غير معارض فقط، بل هو موافق مصدق، فأولئك كانوا يقولون: هو مكذب مناقض. بين أولا أنه لا يكذب ولا يناقض، ثم بين ثانيا أنه مصدق موافق.
ج/ 16 ص -442- وأما هؤلاء فيبين أن كلامهم الذي يعارضون به الرسول باطل لا تعارض فيه. ولا يكفي كونه باطلا لا يعارض، بل هو أيضًا مخالف لصريح العقل. فهم كانوا يدعون أن العقل يناقض النقل.
فيبين أربع مقامات: أن العقل لا يناقضه. ثم يبين أن العقل يوافقه. ويبين أن عقلياتهم التي عارضوا بها النقل باطلة. ويبين أيضًا أن العقل الصريح يخالفهم.
ثم لا يكفي أن العقل يبطل ما عارضوا به الرسول، بل يبين أن ما جعلوه دليلا على إثبات الصانع إنما يدل على نفيه. فهم أقاموا حجة تستلزم نفي الصانع، وإن كانوا يظنون أنهم يثبتون بها الصانع.
والمقصود هنا أن كلامهم الذي زعموا أنهم أثبتوا به الصانع إنما يدل على نفي الصانع وتعطيله. فلا يكفي فيه أنه باطل لم يدل على الحق، بل دل على الباطل الذي يعلمون هم وسائر العقلاء أنه باطل.
ولهذا كان يقال في أصولهم: [ترتيب الأصول في تكذيب الرسول]. ويقال أيضًا هي: [ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول]. جعلوها أصولا للعلم بالخالق، وهي أصول تناقض العلم به. فلا يتم العلم بالخالق إلا مع اعتقاد نقيضها. وفَرْقٌ بين الأصل والدليل المستلزم للعلم بالرب، وبين المناقض المعارض للعلم بالرب.
ج/ 16 ص -443- فالمتفلسفة يقولون: إنهم أثبتوا واجب الوجود. وهم لم يثبتوه، بل كلامهم يقتضي أنه ممتنع الوجود. والجهمية والمعتزلة ونحوهم يقولون: إنهم أثبتوا القديم المحدث للحوادث، وهم لم يثبتوه، بل كلامهم يقتضي أنه ما ثم قديم أصلا. وكذلك الأشعرية والكَرَّامية وغيرهم ممن يقول: إنه أثبت العلم بالخالق، فهم لم يثبتوه، لكن كلامهم يقتضي أنه ما ثَمَّ خالق.
وهذه الأسماء الثلاثة هي التي يُظْهرها هؤلاء واجب الوجود، والقديم، والصانع أو الخالق، ونحو ذلك.
ثم إنه من المعلوم بضرورة العقل أنه لا بد في الوجود من موجود واجب بنفسه قديم أزلى محدث للحوادث. فإذا كان هذا معلومًا بالفطرة والضرورة والبراهين اليقينية، وكانت أصولهم التي عارضوا بها الرسول تناقض هذا، دل على فسادها جملة وتفصيلًا.
وقد ذكرنا في مواضع أن الإقرار بالصانع فطرى ضروري مع كثرة دلائله وبراهينه.
ونقول هنا : لا ريب أنا نشهد الحوادث كحدوث السحاب، والمطر والزرع، والشجر، والشمس، وحدوث الإنسان وغيره من الحيوان ،
ج/ 16 ص -444- وحدوث الليل والنهار، وغير ذلك. ومعلوم بضرورة العقل أن المحدَث لابد له من مُحدِث، وأنه يمتنع تسلسل المحدثات بأن يكون للمحدَثِ محدِث، وللمحدِث محدِث، إلى غير غاية. وهذا يسمى تسلسل المؤثرات والعلل، والفاعلية، وهو ممتنع باتفاق العقلاء ، كما قد بسط في مواضع، وذكر ما أورد عليه من الإشكالات. حتى ذكر كلام الآمدي، والأَبْهَرَى [هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح التميمى الأبهرى، شيخ المالكية في العراق، له تصانيف في شرح مالك والرد على مخالفيه منها [الرد على المزني] و[الأصول]، وغيرها كثير، وكان ثقة أمينًا مستورًا، وانتهت إليه الرياسة في مذهب مالك] مع كلام الرازي، وغيرهم.
مع أن هذا بديهي ضرورى في العقول، وتلك الخواطر من وسوسة الشيطان. ولهذا أمر النبي ﷺ العبد إذا خطر له ذلك أن يستعيذ بالله منه، وينتهي عنه. فقال: [يأتى الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ فيقول: الله. فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته].
ومعلوم أن المحْدَثَ الواحد لا يحدث إلا بمحْدِثٍ. فإذا كثرت الحوادث وتسلسلت كان احتياجها إلى المحدِث أولى. وكلها محدَثَات، فكلها محتاجة إلى محدِث. وذلك لا يزول إلا بمحدثٍ لا يحتاج إلى غيره، بل هو قديم أزلي بنفسه سبحانه وتعالى.
وإذا قيل: إن الموجود إما قديم وإما محدَثٌ، والمحدَثُ لابد له من قديم، فيلزم وجود القديم على التقديرين، كان برهانًا صحيحًا ،
ج/ 16 ص -445- وكذلك إذا قيل: إما ممكن وإما واجب، وبين الممكن بأنه المحدث كان من هذا الجنس.
وأما إذا فسر الممكن بما يتناول القديم، كما فعل ابن سينا وأتباعه كالرازي، كان هذا باطلاً. فإنه على هذا التقدير لا يمكن إثبات الممكن المفتقر إلى الواجب ابتداء، والدليل لا يتم إلا بإثبات هذا ابتداء. وإنما يمكن ذلك في أن المحدَث لابد له من محدِث. فإن هذا تشهد أفراده وتعلم بالعقل كلياته.
وأما إثبات قديم أزلي ممكن، فهذا مما اتفق العقلاء على امتناعه. وابن سينا وأتباعه وافقوا على امتناعه، كما ذكروه في المنطق تبعًا لسلفهم، لكن تناقضوا أولا. فسلفهم وهم يقولون: الممكن العامى والخاصى الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثًا، لا يكون ضروريًا، وكل ما كان قديمًا أزليًا فهو ضروري عندهم.
وكذلك إذا قيل: الموجود؛ إما أن يكون مخلوقًا وإما ألا يكون مخلوقًا، والمخلوق لابد له من موجود غير مخلوق، فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين.
وكذلك إذا قيل: الموجود؛إما غنى عن غيره، وإما فقير إلى غيره، والفقير المحتاج إلى غيره لا تزول حاجته وفقره إلا بغنى عن غيره،
ج/ 16 ص -446- فيلزم وجود الغنى عن غيره على التقديرين.
وكذلك إذا قيل: الحي؛ إما حى بنفسه، وإما حى حياته من غيره، وما كانت حياته من غيره فذلك الغير أولى بالحياة، فيكون حيًا بنفسه، فثبت وجود الحي بنفسه على التقديرين.
وكذلك إذا قيل: العالم؛ إما عالم بنفسه، وإما عالم علمه غيره، ومن علم غيره فهو أولى أن يكون عالمًا، وإذا لم يتعلم من غيره كان عالمًا بنفسه، فثبت وجود العالم بنفسه على التقديرين الحاصرين، فإنه لا يمكن سوى هذين التقديرين والقسمين.
فإذا كان لا يمكن إلا أحدهما، وعلى كل تقدير العالم بنفسه موجود والحي بنفسه موجود، والغنى بنفسه موجود، والقديم الواجب بنفسه موجود، لزم وجوده في نفس الأمر وامتناع عدمه في نفس الأمر، وهو المطلوب.
وكذلك إذا قيل: القادر؛ إما قادر بنفسه، وإما قادر قدَّره غيره، ومن أقدر غيره فهو أولى أن يكون قادرًا. وإذا لم تكن قدرته من غيره، كانت قدرته من لوازم نفسه، فثبت وجود القادر بنفسه الذي قدرته من لوازم نفسه، وعلمه من لوازم نفسه، وحياته من لوازم نفسه، على كل تقدير.
ج/ 16 ص -447- وكذلك الحكيم إما أن يكون حكيمًا بنفسه، وإما أن تكون حكمته من غيره. ومن جعل غيره حكيمًا، فهو أولى أن يكون حكيمًا، فيلزم وجود الحكيم بنفسه على التقديرين.
وكذلك إذا قيل: الرحيم؛ إما أن تكون رحمته من نفسه، وإما أن يكون غيره جَعَله رحيمًا. ومن جعل غيره رحيمًا فهو أولى أن يكون رحيمًا وتكون رحمته من لوازم نفسه، فثبت وجود الرحيم بنفسه الذي رحمته من لوازم نفسه على التقديرين.
وكذلك إذا قيل: الكريم المحسن؛ إما أن يكون كرمه وإحسانه من نفسه وإما أن يكون من غيره. ومن جعل غيره كريمًا محسنًا فهو أولى أن يكون كريمًا محسنًا وذلك من لوازم نفسه. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه رأى امرأة من السبي إذا رأت طفلا أرضعته رحمة له، فقال: "أترون هذه طارحة ولدها في النار؟" قالوا: لا، يا رسول الله! فقال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
فبين أن الله أرحم بعباده من أرحم الوالدات بولدها. فإنه من جعلها رحيمة أرحم منها.
وهذا مما يدل علىه قوله: "وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ" [العلق: 3]، وقولنا: [الله أكبر]
ج/ 16 ص -448- فإنه سبحانه أرحم الراحمين. وخير الغافرين، وخير الفاتحين، وخير الناصرين، وأحسن الخالقين، وهو نعم الوكيل، ونعم المولى، ونعم النصير.
وهذا يقتضي حمدًا مطلقًا على ذلك، وأنه كافي من توكل عليه، وأنه يتولى عبده توليًا حسنًا، وينصره نصرًا عزيزًا. وذلك يقتضي أنه أفضل وأكمل من كل ما سواه، كما يدل على ذلك قولنا: [الله أكبر].
وكذلك إذا قيل: المتكلم السميع البصير إما أن يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا بنفسه، وإما أن يكون غيره جعله سميعًا بصيرًا، متكلمًا.ومن جعل غيره متكلمًا سميعًا بصيرًا، فهو أولى أن يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا، وإلا كان المفعول أكمل من الفاعل، فإن هذه صفات كمال.
وكذلك يقال: العادل؛ إما أن يكون عادلا بنفسه. والصادق؛ إما أن يكون صادقًا بنفسه، وإما أن يكون غيره جعله صادقًا عادلًا. ومن جعل غيره صادقًا عادلًا، فهو أولى أن يكون صادقًا عادلًا.
فهذه كلها طرق صحيحة بينة.
فإن قيل: يُعَارَضُ هذا بأن يقال: من جعل غيره ظالمًا أو كاذبًا فهو أيضًا ظالم كاذب، وأهل السنة يقولون: إنه جعل غيره كذلك ،
ج/ 16 ص -449- وليس هو كذلك سبحانه، قيل: هذا باطل من وجهين:
أحدهما: أنه ليس كل من جعل غيره على صفة أى صفة كانت كان متصفًا بها، بل من جعل غيره على صفة من صفات الكمال فهو أولى باتصافه بصفة الكمال من مفعوله.
وأما صفات النقص، فلا يلزم إذا جعل الجاعل غيره ناقصًا أن يكون هو ناقصًا. فالقادر يقدر أن يعجز غيره ولا يكون عاجزًا. والحي يمكنه أن يقتل غيره ويميته ولا يكون ميتًا. والعالم يمكنه أن يُجَهِّل غيره ولا يكون جاهلًا. والسميع والبصير والناطق يمكنه أن يعمى غيره، ويصمه، ويخرصه، ولا يكون هو كذلك.
فلا يلزم حينئذ أن من جعل غيره ظالمًا وكاذبًا أن يكون كاذبًا وظالمًا؛ لأن هذه صفة نقص.
فإن قيل: الكاذب والظالم قد يلزم غيره بالصدق والعدل أحيانًا، قيل: هو لم يجعله صادقًا وعالمًا وإنما أمره بذلك، وهو فعل ذلك بنفسه. ولم نقل: كل من أمر غيره بشيء كان متصفًا بما أمر به غيره.
الثانى: أن الظلم أمر نسبى إضافي، فمن أمر غيره أن يقتل شخصًا
ج/ 16 ص -450- فقتله هذا القاتل من غير جرم يعلمه كان ظالمًا، وإن كان ذلك الآمر إنما أمره به لكونه قد قتل أباه والمأمور لم يفعله لذلك. فلو فعله بطريق النيابة لم يكن ظالمًا. فإن كان له معه غرض فقتله ظلمًا، ولكن الآمر كان مستحقًا لقتله.
وكذلك من أمر غيره بماهو كذب من المأمور كأمر يوسف للمؤذن أن يقول: "أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ" [يوسف: 70]، يوسف عليه السلام قصد: إنكم لسارقون يوسف من أبيه، وهو صادق في هذا. والمأمور قصد: إنكم لسارقون الصواع، وهو يظن أنهم سرقوه، فلم يكن متعمدًا للكذب، وإن كان خبره كذبًا.
والرب تعالى لا تقاس أفعاله بأفعال عباده. فهو يخلق جميع ما يخلقه لحكمة ومصلحة، وإن كان بعض ما خلقه فيه قبح، كما يخلق الأعيان الخبيثة كالنجاسات وكالشياطين لحكمة راجحة، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن دلائل إثبات الرب كثيرة جدًا. وهؤلاء الذين يزعمون أن المعقول يعارض خبر الرسول الذين يقولون إنهم أثبتوا واجب الوجود، أو القديم، أو الصانع هم لم يثبتوه، بل حججهم تقتضى نفيه وتعطيله، فهم نافون له. لا مثبتون له. وحججهم باطلة في
ج/ 16 ص -451- العقل، لا صحيحة في العقل.
والمعرفة بالله ليست موقوفة على أصولهم. بل تمام المعرفة موقوف على العلم بفساد أصولهم وإن سموها [أصول العلم والدين] فهي [أصول الجهل وأصول دين الشيطان لا دين الرحمن]. وحقيقة كلامهم: [ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول]، كما قال أصحاب النار: "لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: 10]، فمن خالف الرسول فقد خالف السمع والعقل خالف الأدلة السمعية والعقلية.
أما القائلون بواجب الوجود، فقد بينا في غير موضع أنهم لم يقيموا دليلاً على واجب الوجود.
وأن الرازي لما تبع ابن سينا، لم يكن في كتبه إثبات واجب الوجود. فإنهم جعلوا وجوده موقوفًا على إثبات [الممكن] الذي يدخل فيه القديم. فما بقى يمكن إثبات واجب الوجود على طريقهم إلا بإثبات ممكن قديم، وهذا ممتنع في بديهة العقل واتفاق العقلاء. فكان طريقهم موقوفًا على مقدمة باطلة في صريح العقل. وقد اتفق العقلاء على بطلانها، فبطل دليلهم. ولهذا كان كلامهم في [الممكن] مضطربًا غاية الاضطراب.
ولكن أمكنهم أن يستدلوا على أن المحدث لابد له من قديم، وهو
ج/ 16 ص -452- واجب الوجود. ولكن قد أثبتوا قديمًا ليس بواجب الوجود. فصار ما أثبتوه من القديم يناقض أن يكون هو رب العالمين؛ إذ أثبتوا قديمًا ينقسم إلى واجب وإلى غير واجب.
وأيضًا، فالواجب الذي أثبتوه قالوا: إنه يمتنع اتصافه بصفة ثبوتية. وهذا ممتنع الوجوب،لا ممكن الوجوب، فضلا عن أن يكون واجب الوجود، كما قد بسط هذا في مواضع، وبين أن الواجب الذي يدعونه يقولون: إنه لا يكون لا صفة ولا موصوفًا البتة. وهذا إنما يتخيل في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان.
والواجب إذا فسر بمبدع الممكنات فهو حق، وهو اسم للذات المتصفة بصفاتها. وإذا فسر بالموجود بنفسه الذي لا فاعل له فالذات واجبة والصفات واجبة. وإذا فسر بما لا فاعل له ولا محدث، فالذات واجبة والصفات ليست واجبة. وإذا فسر بما ليس صفة ولا موصوفًا فهذا باطل لا حقيقة له. بل هو ممتنع الوجود، لا ممكن الوجود، ولا واجب الوجود. وكلما أمعنوا في تجريده عن الصفات، كانوا أشد إيغالا في التعطيل، كما قد بسط في مواضع.
وأما الذين قالوا إنهم أثبتوا القديم من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكَراية الذين استدلوا بحدوث الأعراض
ج/ 16 ص -453- ولزومها للأجسام، وامتناع حوادث لا أول لها، على حدوث الأجسام فهؤلاء لم يثبتوا الصانع؛ لما عرف من فساد هذا الدليل حيث ادعوا امتناع كون الرب متكلمًا بمشيئته أو فعَّالا لما يشاء. بل حقيقة قولهم امتناع كونه لم يزل قادرًا. وأدلتهم على هذا الامتناع قد ذكرت مستوفاة في غير هذا الموضع، وذكر كلامهم هم في بيان بطلانها.
وأما كونهم عطلوا الخالق، فلأن حقيقة قولهم أن من لم يزل متكلمًا بمشيئته فهو محدث، فيلزم أن يكون الرب محدثًا، لا قديمًا. بل حقيقة أصلهم أن ما قامت به الصفات والأفعال فهو محدث، وكل موجود فلا بد له من ذلك، فيلزم أن يكون كل موجود محدثًا. ولهذا صرح أئمة هذا الطريق الجهمية والمعتزلة بنفي صفات الرب، وبنفي قيام الأفعال وسائر الأمور الاختيارية بذاته؛ إذ هذا موجب دليلهم. وهذه الصفات لازمة له، ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم. فكان حقيقة قولهم نفي الرب وتعطيله.
وهم يسمون الصفات أعراضًا، والأفعال ونحوها حوادث. فقالوا: الرب ينزه عن أن تقوم به الأعراض والحوادث. فإن ذلك مستلزِم أن يكون جسمًا. قالوا: وقد أقمنا الدليل على حدوث كل جسم. فإن
ج/ 16 ص -454-
ج/ 16 ص -455- الجسم لا ينفك من الأعراض المحدثة ولا يسبقها، وما لم ينفك عن الحوادث ولم يسبقها فهو حادث.
وقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على مذهب السلف،وأن الرب لم يزل متكلمًا إذا شاء، فيلزم على قولهم أنه لم يسبق الحوادث ولم ينفك عنها. ويجب على قولهم كونه حادثًا.
فالأصل الذي أثبتوا به القديم هو نفسه يقتضي أنه ليس بقديم، وأنه ليس في الوجود قديم. كما أن أولئك أصلهم يقتضي أنه ليس بواجب بذاته،وأنه ليس في الوجود واجب بذاته.
والطريق التي قالوا بها يثبت الصانع مناقضة لإثبات الصانع. وإذا قالوا: لا يمكن العلم بالصانع إلا بها، كان الحق أن يقال: بل لا يمكن تمام العلم بالصانع إلا مع العلم بفسادها.
ولهذا كان كل من أقر بصحتها قد كذب بعض ما أخبر به الرسول مما هو من لوازم الرب، ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم.
والذين زعموا أنهم يحتجون به على حدوث الأجسام من جنس ما زعم أولئك أنهم يحتجون به على إمكان الأجسام. وكل منهما باطل.
ج/ 16 ص -456- ومقتضاه حدوث كل موجود وإمكان كل موجود، وأنه ليس في الوجود قديم ولا واجب بنفسه.
فأصولهم تناقض مطلوبهم. وهي طريقة مُضِلَّةٌ، لا هادية. لكن كما قال الله تعالى: "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ" [الزخرف: 36، 37]. وأما الذين يقولون: نثبت الصانع والخالق، ويقولون: إنا نسلك غير هذه الطريق، كالاستدلال بحدوث الصفات على الرب. فإن هذه تدل عليه من غير احتياج إلى ما التزمه أولئك. والرازي قد ذكر هذه الطريق.
وأما الأشعرى نفسه، فلم يستدل بها. بل [في اللمع]، و[رسالته إلى الثغر]، استدل بالحوادث على حدوث ما قامت به، كما ذكره في النطفة بناء على امتناع حوادث لا أول لها. ثم جعل حدوث تلك الجواهر التي ذكر أنه دل على حدوثها هو الدليل على ثبوت الصانع. وهذه الطريق باطلة، كما قد بين.
وأما تلك فهي صحيحة، لكن أفسدوها من جهة كونهم جعلوا
ج/ 16 ص -457- الحوادث المشهود لهم حدوثها هي الأعراض فقط، كما قد بينا هذا في مواضع.
ثم يقال: هؤلاء يثبتون خالقًا لا خلق له.وهذا ممتنع في بداية العقول، فلم يثبتوا خالقًا.
والكَرَّامية، وإن كانوا يقولون: الخلق غير المخلوق، فهم يقولون بحدوث الخلق بلا سبب يوجب حدوثه. وهذا أيضًا ممتنع. فما أثبتوا خالقًا.
وأيضًا، فهؤلاء وهؤلاء يقولون: الموجب للتخصيص بحدوث ما حدث دون غيره هو إرادة قديمة أزلية. فالكَرَّامية يقولون: هي المخصص لما قام به وما خلقه. وهؤلاء عندهم لم يقم به شيء يكون مرادًا، بل يقولون: هي المخصص لما حدث.
والطائفتان ومن وافقهم يقولون: تلك الإرادة قديمة أزلية لم تزل على نعت واحد، ثم وجدت الحوادث بلا سبب أصلا. ويقولون: من شأنها أن تخصص مثلًا على مثل، ومن شأنها أن تتقدم على المراد تقدمًا لا أول له. فوصفوا الإرادة بثلاث صفات باطلة يعلم بصريح العقل أن الإرادة لا تكون هكذا. وهي المقتضية للخلق والحدوث، فإذا أثبتت فلا خلق ولا حدوث.
ج/ 16 ص -458- وكذلك القدرة التي أثبتوها وصفوها بما يمتنع أن يكون قدرة، وهي شرط في الخلق. فإذا نفوا شرط الخلق، انتفي الخلق، فلم يبق خالقًا، فالذي وصفوا به الخالق يناقض كونه خالقًا، ليس بلازم لكونه خالقًا. وهم جعلوه لازمًا، لا مناقضًا.
أما الإرادة، فذكروا لها ثلاثة لوازم، والثلاثة تناقض الإرادة.
قالوا: إنها تكون ولا مراد لها، بل لم يزل كذلك ثم حدث مرادها من غير تحول حالها. وهذا معلوم الفساد ببديهة العقل. فإن الفاعل إذا أراد أن يفعل، فالمتقدم كان عزمًا على الفعل، وقصدًا له في الزمن المستقبل لم يكن إرادة للفعل في الحال. بل إذا فعل فلابد من إرادة الفعل في الحال. ولهذا يقال: الماضى عزم. والمقارن قصد. فوجود الفعل بمجرد عزم من غير أن يتجدد قصد من الفاعل ممتنع. فكان حصول المخلوقات بهذه الإرادة ممتنعًا لو قدر إمكان حدوث بلا سبب، فكيف وذاك أيضًا ممتنع في نفسه؟ فصار الامتناع من جهة الإرادة، ومن جهة تعينت بما هو ممتنع في نفسه.
الثانى: قولهم: إن الإرادة ترجح مثلًا على مثل: فهذا مكابرة، بل لا تكون الإرادة إلا لما ترجح وجوده على عدمه عند الفاعل. إما لعلمه بأنه أفضل، أو لكون محبته له أقوى. وهو إنما يترجح في العلم لكون
ج/ 16 ص -459- عاقبته أفضل. فلا يفعل أحد شيئًا بإرادته إلا لكونه يحب المراد، أو يحب ما يؤول إليه المراد بحيث يكون وجود ذلك المراد أحب إليه من عدمه، لا يكون وجوده وعدمه عنده سواء.
الثالث: أن الإرادة الجازمة يتخلف عنها مرادها مع القدرة، فهذا أيضًا باطل. بل متى حصلت القدرة التامة والإرادة الجازمة وجب وجود المقدور، وحيث لا يجب فإنما هو لنقص القدرة أو لعدم الإرادة التامة. والرب تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
وهو يخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أمورًا لم يفعلها، كما قال: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" [السجدة: 13]، "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً" [هود: 118]، "وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ" [البقرة: 253]. فبين أنه لو شاء ذلك لكان قادرًا عليه. لكنه لا يفعله؛ لأنه لم يشأه؛ إذ كان عدم مشىئته أرجح في الحكمة مع كونه قادرًا عليه لو شاءه.
وقد بسط الكلام على ما يذكرونه في القدرة والإرادة هم وغيرهم في غير هذا الموضع. وأن من هؤلاء من يقول:إنما يقدر على الأمور المباينة له دون الأفعال القائمة بنفسه،كما يقول ذلك المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم.ومنهم من يقول: بل يقدر على ما يقوم به من الأفعال، وعلى ما هو باين عنه، كما يحكى عن الكَرَّامية.
ج/ 16 ص -460- والصواب الذي دل عليه القرآن والعقل؛ أنه يقدر على هذا وهذا، قال تعالى: "بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهٍُ" [القيامة: 4]، وقال: "أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى" [القيامة: 40] ، وقال "أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم" [يس: 81]، وقال: "وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ" [المؤمنون: 18]، وهذا كثير في القرآن أكثر من النوع الآخر.
فإن ما قاله الكَرَّامية والهشامية أقرب إلى العقل والنقل مما قالت الجهمية ومن وافقهم، وإن كان فيما حكوه عنهم خطأ من جهة نفيهم القدرة على الأمور المباينة.
والله تعالى قد أخبر أنه على كل شيء قدير. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لأبي مسعود لما رآه يضرب غلامه : [لله أقدر عليك منك على هذا]. وفي القرآن: "فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ" [الزخرف: 41، 42]، وبسط هذا له مواضع أخر.
فجميع ما أخبر به الرسول ﷺ هو لازم في نفس الأمر. وكل ما أثبته من صفات الرب فهو لازم. وإذا قدر عدمه لزم عدم الملزوم. فنفي ما أخبر به الرسول مستلزم للتعطيل.
لكن من ذلك ما يظهر بالعقل مع تفاوت الناس في العقل، ومنه
ج/ 16 ص -461- ما يكفي فيه مجرد خبر الرسول. فإن ما أخبر به الرسول فهو حق. وكل ما أثبت للرب فهو لازم الثبوت، وما انتفي عنه فهو لازم الانتفاء فإذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم.
لكن هذا كله لازم المذهب، وهو يدل على بطلانه. ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبًا، بل أكثر الناس يقولون أقوالًا ولا يلتزمون لوازمها. فلا يلزم إذا قال القائل ما يستلزم التعطيل أن يكون معتقدًا للتعطيل. بل يكون معتقدًا للإثبات، ولكن لا يعرف ذلك اللزوم.
وأيضًا، فإذا كانت أصولهم التي بنوا عليها إثبات الصانع باطلة، لم يلزم أن يكونوا هم غير مقرين بالصانع، وإن كان هذا لازمًا من قولهم. إذا قالوا: إنه لا يعرف إلا بهذه الطريق، وقد ظهر فساده، لزم ألا يعرف. لكن هذا اللزوم يدل على فساد هذا النفي، ولا يلزم ألا يكونوا هم مقرين بالصانع لما قد بيناه في غير موضع أن الإقرار بالصانع، ومعرفته، ومحبته، وتوحيده فطري، يكون ثابتًا في قلب الإنسان، وهو يظن أنه ليس في قلبه.
ولهذا كان عامة هؤلاء مقرين بالصانع، معترفين به، قبل أن يسلكوا هذه الطريق النظرية، سواء كانت صحيحة أو باطلة. وهذا
ج/ 16 ص -462- أمر يعرفونه من أنفسهم. فعلم أنه لا يلزم من عدم سلوك هذه الطريق عدم المعرفة. وقد اعترف كثير منهم بذلك، كما قد بيناه في مواضع.
ومنهم من يقول: إن الطريق النظرية التي يسلكها زادته بصيرة وعلمًا. كما يقوله ابن حزم وغيره. وهو سَلْك طريقة الأعراض.
وكثير من الناس يقول: إن هذه الطريق لم تفدهم إلا شكا وريبًا وفطرة هؤلاء أصح، فإنها طرق فاسدة.
ومنهم من يقول: لم يحصل لى بها شيء لا علم ولا شك. وذلك أنها لم تحصل له علمًا ولا سلمها، فلم يتبين له صحتها ولا فسادها.
ومن الناس من لا يفهم مرادهم بها. وأكثر أتباعهم لا يفهمونها، بل يتبعونهم تقليدًا وإحسانًا للظن بهم.
فَصْل
ومما ينبغي أن يعرف؛ أنا لا نقول: إن الشيء لا يعرف إلا بإثبات جميع لوازمه. هذا لا يقوله عاقل، بل قد تعرف عامة الأشياء وكثير
ج/ 16 ص -463- من لوازمها لا تعرف، وقد يعلم المسلمون أن الرب على كل شيء قدير وأنه يفعل ما يشاء، وهم لا يعرفون كثيرًا من لوازم القدرة والمشيئة. لكن أهل الاستقامة كما لا يعرفون اللوازم فلا ينفونها، فإن نفيها خطأ.
وأما عدم العلم بها كلها فهذا لازم لجميع الناس فسبحان من أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا. وما سواه "وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء" [البقرة: 255]، وهو سبحانه "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا" [طه: 110].
ولكن المقصود بيان أن المخالفين للرسول ﷺ ولو في كلمة لابد أن يكون في قولهم من الخطأ بحسب ذلك. وأن الأدلة العقلية والسمعية المنقولة عن سائر الأنبياء توافق ما جاء به الرسول ﷺ، وتناقض ما يقوله أهل البدع المخالفون للكتاب والسنة.
وإذا قالوا: إن العقل يخالف النقل، أخطؤوا في خمسة أصول:
أحدها: أن العقل الصريح لا يناقضه.
الثانى: أنه يوافقه.
الثالث: أن ما يدعونه من العقل المعارض ليس بصحيح.
الرابع: أن ما ذكروه من المعقول المعارض هو المعارض للمعقول الصريح.
الخامس: أن ما أثبتوا به الأصول كمعرفة البارى وصفاته لا يثبتها، بل يناقض إثباتها.
ج/ 16 ص -464-فَصْل
وذلك أن ما جاء به الرسول هو من علم الله. فما أخبر به عن الله، فالله أخبر به، وهو سبحانه يخبر بعلمه يمتنع أن يخبر بنقيض علمه وما أمر به فهو من حكم الله. والله عليم حكيم.
قال تعالى: "لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللّهِ شَهِيدًا" [النساء: 166]، وقال تعالى: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" [هود: 13، 14].
وقوله: "أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ"، قال الزجاج: أنزله وفيه علمه. وقال أبو سليمان الدمشقى: أنزله من علمه. وهكذا ذكر غيرهما.
وهذا المعنى مأثور عن السلف، كما روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن السائب قال: أقرأنى أبو عبد الرحمن القرآن. وكان إذا أقرأ أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل، ثم يقرأ: "أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفي بِاللّهِ شَهِيدًا" وكذلك قالوا في قوله تعالى "فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ" ، قالوا: أنزله وفيه علمه.
ج/ 16 ص -465- قلت: الباء قد تكون للمصاحبة، كما تقول: جاء بأسياده وأولاده. فقد أنزله متضمنًا لعلمه، مستصحبًا لعلمه. فما فيه من الخبر هو خبر بعلم الله. وما فيه من الأمر فهو أمر بعلم الله، بخلاف الكلام المنزل من عند غير الله. فإن ذلك قد يكون كذبا وظلمًا كقرآن مسيلمة، وقد يكون صدقا لكن إنما فيه علم المخلوق الذي قاله فقط، لم يدل على علم الله تعالى إلا من جهة اللزوم. وهو أن الحق يعلمه الله.
وأما القرآن فهو متضمن لعلم الله ابتداء. فإنما أنزل بعلمه لا بعلم غيره، ولا هو كلام بلا علم.
وإذا كان قد أنزل بعلمه فهو يقتضي أنه حق من الله، ويقتضي أن الرسول، رسول من الله الذي بين فيه علمه. قال الزجاج: [الشاهد] المبين لما شهد به، والله يبين ذلك ويعلم مع ذلك أنه حق.
قلت: قوله: "لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ"، شهادته هو بيانه وإظهاره دلالته وإخباره. فالآيات البينات التي بين بها صدق الرسول تدل عليه ومنها القرآن هو شهادة بالقول.
وهو في نفسه آية ومعجزة تدل على الصدق كما تدل سائر الآيات، والآيات كلها شهادة من الله، كشهادة بالقول، وقد تكون أبلغ.
ولهذا ذكر هذا في سورة هود لما تحداهم بالإتيان بالمثل فقال:
ج/ 16 ص -466- "فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ" [هود: 13 ،14]. فإن عجز أولئك عن المعارضة، دل على عجز غيرهم بطريق الأولي، وتبين أن جميع الخلق عاجزون عن معارضته، وأنه آية بينة تدل على الرسالة وعلى التوحيد.
وكذلك قوله: "لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ" [النساء:166].
بعد قوله: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ" إلى قوله: "لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" [النساء: 136،135]، وقد ذكروا أن من الكفار من قال: لا نشهد لمحمد بالرسالة، فقال تعالى: "لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَّ". وأحسن من هذا أنه لما قال: "لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ"، نفي حجة الخلق على الخالق فقال: لكن حجة الله على الخلق قائمة بشهادته بالرسالة، فإنه يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه فما للخلق على الله حجة، بل له الحجة البالغة. وهو الذي هدي عباده بما أنزله.
وعلى ما تقدم فقوله: "أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ"، أي: فيه علمه بما كان وسيكون وما أخبر به، وهو أيضًا مما يدل على أنه حق. فإنه إذا أخبر بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله، دل على أن الله أخبره به،
ج/ 16 ص -467- كقوله: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ" الآية [الجن: 26 ،27]
وقد قيل: أنزله وهو عالم به وبك. قال ابن جرير الطبري في آية النساء: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه.
وذكر الزجاج في آية هود قولين. أحدهما: أنزله وهو عالم بإنزاله، وعالم أنه حق من عنده. والثاني: أنه أنزله بما أخبر فيه من الغيوب، ودل على ما سيكون وما سلف.
قلت: هذا الوجه هو الذي تقدم.
وأما الأول فهو من جنس قول ابن جرير. فإنه عالم به وبمن أنزل إليه وعالم بأنه حق، وأن الذي أنزل عليه أهل لما اصطفاه الله له. ويكون هذا كقوله: "وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [الدخان: 32]، وقول من قال: "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ" [القصص:78]، أي: على علم من الله باستحقاقي.
قلت: وهذا الوجه يدخل في معنى الأول فإنه إذا نزل الكلام بعلم الرب، تضمن أن كل ما فيه فهو من علمه، وفيه الإخبار بحاله وحال الرسول. وهذا الوجه هو الصواب. وعليه الأكثرون، ومنهم من لم يذكر غيره.
ج/ 16 ص -468- والأول - وإن كان معناه صحيحًا - فهو جزء من هذا الوجه.
وأما كون الثاني هو المراد بالآية فغلط؛ لأن كون الرب - سبحانه - يعلم الشيء لا يدل على أنه محمود ولا مذموم. وهو - سبحانه - بكل شيء عليم. فلا يقول أحد: إنه أنزله وهو لا يعلمه.
لكن قد يظن أنه أنزل بغير علمه، أي: وليس فيه علمه، وأنه من تنزيل الشيطان، كما قال تعالى: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ" [الشعراء:221 ،222]. والشياطين، هو يرسلهم وينزلهم، لكن الكلام الذي يأتون به ليس منزلا منه ولا هو منزل بعلم الله، بل منزل بما تقوله الشياطين من كذب وغيره.
ولهذا هو - سبحانه - إذا ذكر نزول القرآن، قيده بأن نزوله منه، كقوله: "تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهٌِ" [الزمر:1]، "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ" [الأنعام: 114]، "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ" [النحل: 102]
وهذا مما استدل به الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة على أن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق خَلَقَه في محل غيره، فإنه كان يكون منزلا من ذلك المحل لا من الله. وقال: إنه نزل بعلم الله، وإنه من علم الله، وعلم الله غير مخلوق.
ج/ 16 ص -469- وقال أحمد: كلام الله من الله ليس شيئان منه. ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. فقالوا: منه بدأ لم يبدأ من غيره، كما تقوله الجهمية. يقولون: بدأ من المحل الذي خلق فيه. وهذا مبسوط في مواضع.
والمقصود أنه إذا كان فيه علمه فهو حق، والكلام الذي يعارضه به خلاف علم الله فهو باطل، كالشرك الذي قال الله - تعالى - فيه:" وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ" [يونس: 18].
فصل
وهذا الذي ذكرته من أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة، كما بينته من أن الكتاب بَيّنَ الأدلة العقلية التي بها تعرف المطالب الإلهية، وبَيَّن ما يدل على صدق الرسول في كل ما يقوله هو يظهر الحق بأدلته السمعية والعقلية.
وبَيَّن أن لفظ [العقل والسمع] قد صار لفظًا مجملا. فكل من
ج/ 16 ص -470- وضع شيئًا برأيه سماه [عقليات]، والآخر يبين خطأه فيما قاله ويدعي العقل - أيضًا، ويذكر أشياء أُخر تكون - أيضًا - خطأ، كما قد بسط في مواضع.
وهو نظير من يحتج في السمع بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو نصوص ثابتة لكن لا تدل على مطلوبه.
وكثير من أهل الكلام يجعل دلالة القرآن والأحاديث من جهة الخبر المجرد. ومعلوم أن ذلك لا يوجب العلم إلا بعد العلم بصدق المخبر. فلهذا يضطرون إلى أن يجعلوا العلوم العقلية أصلا، كما يفعل أبو المعالى، وأبو حامد، والرازي، وغيرهم.
وأئمة المتكلمين يعترفون بأن القرآن بَيَّن الأدلة العقلية، كما يذكر ذلك الأشعري وغيره، وعبد الجبار بن أحمد وغيره من المعتزلة.
ثم هؤلاء قد يذكرون أدلة يجعلونها أدلة القرآن ولا تكون هي إياها، كما فعل الأشعري في [اللمع] وغيره، حيث احتج بخلق الإنسان، وذكر قوله: "أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ" [الواقعة: 58 ،59]، لكن هو يظن أن النطفة فيها جواهر باقية، وأن نقلها في
ج/ 16 ص -471- الأعراض يدل على حدوثها، فاستدل على حدوث جواهر النطفة.
وليست هذه طريقة القرآن،ولا جمهور العقلاء،بل يعرفون أن النطفة حادثة بعد أن لم تكن، مستحيلة عن دم الإنسان، وهي مستحيلة إلى المضغة،وأن اللّه يخلق هذا الجوهر الثاني من المادة الأولي بالاستحالة ويعدم المادة الأولي - لا تبقي جواهرها بأعيانها دائمًا، كما تقدم.
فالنظار في القرآن ثلاث درجات، منهم من يعرض عن دلائله العقلية. ومنهم من يقر بها لكن يغلط في فهمها. ومنهم من يعرفها على وجهها. كما أنهم ثلاث طبقات في دلالته الخبرية؛ منهم من يقول لم يدل على الصفات الخبرية، ومنهم من يستدل به على غير ما دل عليه. ومنهم من يستدل به على ما دل عليه.
والأشعري وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية. أخذوا من هؤلاء كلامًا صحيحًا، ومن هؤلاء أصولا عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة. فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية. ومن الناس من مال إليه من الجهة البدعية الجهمية، كأبي المعالى وأتباعه. ومنهم من سلك مسلكهم كأئمة أصحابهم، كما قد بسط في مواضع.
إذًا المقصود - هنا - أن جعل القرآن إمامًا يؤتم به في أصول الدين
ج/ 16 ص -472- وفروعه هو دين الإسلام. وهو طريقة الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين. فلم يكن هؤلاء يقبلون من أحد قط أن يعارض القرآن بمعقول أو رأي يقدمه على القرآن. ولكن إذا عرض للإنسان إشكال، سأل حتى يتبين له الصواب.
ولهذا صنف الإمام أحمد كتابًا في [الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله].
ولهذا كان الأئمة الأربعة وغيرهم يرجعون في التوحيد والصفات إلى القرآن والرسول، لا إلى رأي أحد، ولا معقوله، ولا قياسه.
قال الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن اللّه فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا يوصف اللّه إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث.
وقال الشافعي في خطبة [الرسالة]: الحمد للّه الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه.
وقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به
ج/ 16 ص -473- واجب، والسؤال عنه بدعة. وكان يكره ما أحدث من الكلام. وروي عنه وعن أبي يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق. وقال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت أظنه، ولأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك باللّه خير له من أن يبتلى بالكلام.
وقد بُسِط تفسير كلامه وكلام غيره في مواضع، وبُيِّن أن مرادهم بالكلام هو كلام الجهمية الذي نفوا به الصفات، وزعموا أنهم يثبتون به حدوث العالم، وهي طريقة الأعراض.
وقال أحمد أيضًا : علماء الكلام زنادقة، وما ارتدي أحد بالكلام فأفلح. وكلام عبد العزيز بن أبي سَلَمَة الماجشون مبسوط في هذا.
وذكر أصحاب أبي حنيفة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في اللّه بشيء من رأيه، ولكنه يصفه بما وصف به نفسه.
وقال أبوحنيفة: أتانا من خُرَاسان ضيفان كلاهما ضالان: الجهمية، والمشبهة.
ج/ 16 ص -474- وعن أبي عصمة قال: سألت أبا حنيفة: من أهل الجماعة؟ قال: من فَضَّل أبا بكر وعمر. وأحب عليًا وعثمان، ولم يُحَرِّم نبيذ الجرَّ، ولم يكفر أحدًا بذنب، ورأي المسح على الخفين، وآمن بالقدر خيره وشره من اللّه، ولم ينطق في اللّه بشيء.
وروي خالد بن صُبَيْح، عن أبي حنيفة قال: الجماعة سبعة أشياء: أن يفضل أبا بكر وعمر، وأن يحب عثمان وعليًا، وأن يصلي على من مات من أهل القبلة بذنب، وألا ينطق في اللّه شيئًا.
قلت: قوله في هاتين الروايتين: [لا ينطق في اللّه شيئًا] قد بينه في رواية أبي يوسف، وهو [ألا ينطق في اللّه بشيء من رأيه ولكنه يصفه بما وصف به نفسه]
فهذا ذم من الأئمة لكل من يتكلم في صفات الرب بغير ما أخبر به الرسول. فكيف بالذين يجعلون الكتاب والسنة لا يفيد علمًا، ويقدمون رأيهم على ذلك، مع فساده من وجوه كثيرة؟!
وروي هشام، عن محمد، عن أبي حنيفة وأبي يوسف - وهو قول محمد - قالوا: السنة التي عليها أمر الناس ألا يكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، ويخرج من الإسلام، ولا يشك في الدين - يقول الرجل: لا أدري أمؤمن أنا أو كافر، ولا يقول بالقدر، ولا يخرج
ج/ 16 ص -475- على المسلمين بالسيف، ويقدم من يقدم من أصحاب النبي ﷺ ويفضل من فضل.
وذكروا عن أبي يوسف أنه قال: مذهب أهل الجماعة عندنا، وما أدركنا عليه جماعة أهل الفقه ممن لم يأخذ من البدع والأهواء، ألا يشتم أحدًا من أصحاب رسول اللّه ﷺ، ولا يذكر فيهم عيبا، ولا يذكر ما شجر بينهم فيحرف القلوب عنهم، وألا يشك بأنهم مؤمنون، وألا يكفر أحدًا من أهل القبلة ممن يقر بالإسلام ويؤمن بالقرآن، ولا يخرجه من الإيمان بمعصية إن كانت فيه، ولا يقول بقول أهل القدر، ولا يخاصم في الدين، فإنها من أعظم البدع.
فهذا قول أهل السنة والجماعة، ولا ينبغي لأحد أن يقول في هذا كيف ولم؟ ولا ينبغي أن يخبر السائل عن هذا إلا بالنهى له عن المسألة وترك المجالسة والمشي معه إن عاد. ولا ينبغي لأحد من أهل السنة والجماعة أن يخالط أحدًا من أهل الأهواء حتى يصاحبه ويكون خاصته، مخافة أن يستزله أو يستزل غيره بصحبة هذا.
قال: والخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة. لو كانت فضلا لسبق إليها أصحاب رسول اللّه ﷺ وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوي ولها أبصر. وقال
ج/ 16 ص -476- اللّه تعالى: "فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ" [آل عمران: 20]، ولم يأمره بالجدال. ولو شاء لأنزل حججًا وقال له: قل كذا وكذا.
وقال أبو يوسف: دعوا قول أصحاب الخصومات وأهل البدع في الأهواء من المرجئة، والرافضة، والزيدية، والمشبهة، والشيعة، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية.
قالوا: وروي عن محمد قال: أبو بكر وعمر أفضل من على.
قلت: ما ذكر أبو يوسف في أمر الجدال هو يشبه كلام كثير من أئمة السنة - يشبه كلام الإمام أحمد وغيره. وفيه بسط وتفصيل ليس هذا موضعه.
ولهذا كان بشير بن الوليد صاحب أبي يوسف يحب أحمد، ويميل إليه. فإن أبا يوسف كان أميل إلى الحديث من غيره. واللّه أعلم وأحكم.
ج/ 16 ص -477-وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ اللّه:
فصل
السور القصار في أواخر المصحف متناسبة. فسورة "اقرأ" هي أول ما نزل من القرآن؛ ولهذا افتتحت بالأمر بالقراءة، وختمت بالأمر بالسجود، ووسطت بالصلاة التي أفضل أقوالها وأولها بعد التحريم هو القراءة، وأفضل أفعالها وآخرها قبل التحليل هو السجود؛ ولهذا لما أُمِرَ بأن يقرأ أنزل عليه بعدها المدثر، لأجل التبليغ فقيل :"له قُمْ فَأَنذِرْ " [المدثر:2]، فبالأولي صار نبيًا، وبالثانية صار رسولا؛ ولهذا خوطب بالمتدثر، وهو المتدفئ من برد الرعب والفزع الحاصل بعظمة ما دهمه لما رجع إلى خديجة ترجف بوادره، وقال دثروني دثروني، فكأنه نهى عن الاستدفاء وأُمِرَ بالقيام للإنذار، كما خوطب في [المزمل] وهو المتلفف للنوم لما أُمِر بالقيام إلى الصلاة، فلما أُمِر في هذه السورة بالقراءة ذكر في التي تليها نزول القرآن ليلة القدر،وذكر فيها تنزل الملائكة والروح، وفي [المعارج] عروج الملائكة والروح، وفي [النبأ] قيام الملائكة والروح. فذكر الصعود والنزول والقيام، ثم
ج/ 16 ص -478- في التي تليها تلاوته على المنذرين حيث قال: "يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ" [البينة:2 ،3].
فهذه السور الثلاث منتظمة للقرآن أمرًا به وذكرًا لنزوله ولتلاوة الرسول له على المنذرين، ثم سورة [الزلزلة] و[العاديات] و[القارعة] و[التكاثر] متضمنة لذكر اليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب، وكل واحد من القرآن وإليوم الآخر قيل هو النبأ العظيم.
ثم سورة [العصر] و[الهمزة] و[الفيل] و[لإيلاف] و[أرأيت] و[الكوثر] و[الكافرون] و[النصر] و[تبت] متضمنة لذكر الأعمال حسنها وسيئها، وإن كان لكلٍ سورة خاصة.
وأما سورة [الإخلاص] و[المعوذتان]، ففي الإخلاص الثناء على اللّه،وفي المعوذتين دعاء العبد ربه ليعيذه، والثناء مقرون بالدعاء، كما قرن بينهما في أم القرآن المقسومة بين الرب والعبد: نصفها ثناء للرب،ونصفها دعاء للعبد، والمناسبة في ذلك ظاهرة؛ فإن أول الإيمان بالرسول الإيمان بما جاء به من الرسالة وهو القرآن، ثم الإيمان بمقصود ذلك وغايته وهو ما ينتهي الأمر إليه من النعيم والعذاب. وهو الجزاء، ثم معرفة طريق المقصود وسببه وهو الأعمال: خيرها ليفعل، وشرها ليترك.
ج/ 16 ص -479- ثم ختم المصحف بحقيقة الإيمان وهو ذكر اللّه ودعاؤه، كما بنيت عليه أم القرآن، فإن حقيقة الإنسان المعنوية هو المنطق، والمنطق قسمان: خبر وإنشاء، وأفضل الخبر وأنفعه وأوجبه ما كان خبرًا عن اللّه كنصف الفاتحة وسورة الإخلاص، وأفضل الإنشاء الذي هو الطلب وأنفعه وأوجبه ما كان طلبًا من اللّه، كالنصف الثاني من الفاتحة والمعوذتين.