أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

تفسير سورة الأعلى

    ج/ 16 ص -82-سُورَة الأعلى وقال الشيخ رحمه الله ‏:‏
    فصل
    قال ابن فُورَك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له قال‏:‏ وجرى في كلام السلطان‏:‏ أليس تقول إنه يري لا في جهة‏؟‏ فقلت‏:‏ ‏"‏نعم، يرى لا في جهة، كما أنه لم يزل يرى نفسه لا في جهة، ولا من جهة، ويراه غيره على ما يرى ورأى نفسه‏.‏ والجهة ليست بشرط في الرؤية‏"‏‏.‏ وقلت أيضًا‏:‏ ‏"‏المرئيات المعقولة فيما بيننا هكذا نراها في جهة ومحل‏.‏ والقضاء بمجرد المعهود لا يمكن دون السير والبحث؛ لأنا كما لا نري إلا في جهة ومحل، كذلك لم نر إلا متلونًا ذا قدر وحجم يحتمل المساحة، والثقل، ولا يخلو من

    ج/ 16 ص -83- حرارة ورطوبة أو يبوسة، إذا لم يكن عرضًا لا يقبل التثنية والتأليف وغير ذلك، ومع هذا فلا عبرة بشيء من هذا‏"‏‏.‏
    قال‏:‏ ثم بلغني أن السلطان ذلك اليوم والليلة وثاني يوم، يكرر على نفسه في مجلسه‏:‏ كيف يعقل شيء لا في جهة‏؟‏ وما شغل القلب في أول الأمر وتربي عليه فإن قلعه صعب، والله المعين‏.‏ غير أنه فَرِحت الكرامية بما كان منه في ذلك‏.‏ فلما رجعت إلى البيت فإذا أنا برقعة فيها مكتوب‏:‏ ‏[‏الأستاذ أدام الله سلامته على مذهبه أن الباري ليس في جهة، فكيف يري لا في جهة‏؟‏‏]‏‏.‏
    فكتبت‏:‏خبر الرؤية صحيح‏.‏ وهي واجبة كما بشرهم النبي ﷺ، وفيه دلالة على أن الله يري لا في جهة؛ لأنه ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏لا تضامون في رؤيته‏"‏، ومعناه‏:‏لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته،فإنه لا في جهة‏.‏وكلامًا طويلا من كل وجه ملأت ظهر الرقعة وبطنها منه‏.‏
    فلما رُدَّت إليه، أنفذها إلى حاكم البلد، وهو أبو محمد الناصحي، واستفتاه فيما قلته، فجمع قومًا من الحنفية، والكرامية، فكتب هو أعزك الله‏:‏ بأن من قال بأن الله لا يري في جهة مبتدع ضال، وكتب أبو حامد المعتزلي مثله، وكتب إنسان بسطامي مؤدب في دار

    ج/ 16 ص -84- صاحب الجيش مثله، فردوا عليه، فأنفذ إلى ما في ذلك المحضر الذي فيه خطوطهم، وكتب إلى رقعة وقال فيها‏:‏ إنهم كتبوا هكذا‏.‏ فما تقول في هذه الفتاوى‏؟‏
    فقلت‏:‏ إن هؤلاء القوم يجب أن يسألوا عن مسائل الفقه التي يقال فيها بتقليد العامي للعالم؛فأما معرفة الأصول والفتاوى فيها فليس من شأنهم،وهم يقولون‏:‏إنا لا نحسن ذلك‏.‏
    قلت‏:‏ قول هؤلاء‏:‏ إن اللّه يري من غير معاينة ومواجهة‏.‏ قول انفردوا به دون سائر طوائف الأمة، وجمهور العقلاء على أن فساد هذا معلوم بالضرورة‏.‏
    والأخبار المتواترة عن النبي ﷺ ترد عليهم، كقوله في الأحاديث الصحيحة‏:‏ ‏
    "‏إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضارون في رؤيته‏"‏ ، وقوله لما سأله الناس ‏:‏ هل نري ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏هل ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ ‏"‏وهل ترون القمر صحوًا ليس دونه سحاب‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر‏"‏ ‏.‏
    فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي؛ فإن الكاف حرف

    ج/ 16 ص -85- التشبيه دخل على الرؤية‏.‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏"‏يرونه عيانًا‏"‏‏.‏ ومعلوم أنا نري الشمس والقمر عيانًا مواجهة، فيجب أن نراه كذلك، وأما رؤية ما لا نعاين ولا نواجهه فهذه غير متصورة في العقل، فضلا عن أن تكون كرؤية الشمس والقمر‏.‏
    ولهذا، صار حُذَّاقُهم إلى إنكار الرؤية، وقالوا‏:‏ قولنا هو قول المعتزلة في الباطن؛ فإنهم فسروا الرؤية بزيادة انكشاف ونحو ذلك مما لا ننازع فيه المعتزلة‏.‏
    وأما قوله‏:‏ إن الخبر يدل على أنهم يرونه لا في جهة، وقوله‏:‏ ‏"‏لا تضامون‏"‏؛ معناه‏:‏ لا تضمكم جهة واحدة في رؤيته، فإنه لا في جهة، فهذا تفسير للحديث بما لا يدل عليه، ولا قاله أحد من أئمة العلم، بل هو تفسير منكر عقلا وشرعا ولغة‏.‏
    فإن قوله‏:‏ ‏"‏لا تضامون‏"‏، يروي بالتخفيف، أي‏:‏ لا يلحقكم ضيم في رؤيته، كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال، فإنه قد يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يري، وهو سبحانه يتجلي تجليًا ظاهرًا، فيرونه كما تري الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته، وهذه الرواية المشهورة‏.‏
    وقيل‏:‏ ‏"‏لا تضامُّون‏"‏، بالتشديد، أي‏:‏ لا ينضم بعضكم إلى بعض،

    ج/ 16 ص -86- كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال‏.‏ وكذلك‏:‏ ‏"‏تضارون‏"‏، و ‏"‏تضارُّون‏"‏‏.‏
    فإما أن يروي بالتشديد ويقال‏:‏ ‏"‏لا تضامَّون‏"‏، أي لا تضمكم جهة واحدة، فهذا باطل؛ لأن التضام انضمام بعضهم إلى بعض، فهو ‏[‏تفاعل‏]‏، كالتماس، والتراد، ونحو ذلك‏.‏ وقد يروي‏:‏ ‏"‏لا تضامُّون‏"‏ بالضم والتشديد، أي‏:‏ لا يضام بعضكم بعضًا‏.‏
    وبكل حال، فهو من ‏[‏التضام‏]‏ الذي هو مضامة بعضهم بعضًا، ليس هو أن شيئًا آخر لا يضمكم، فإن هذا المعني لا يقال فيه‏:‏ ‏"‏لا تضامون‏"‏، فإنه لم يقل‏:‏ لا يضمكم شيء‏.‏
    ثم يقال‏:‏ الراؤون كلهم في جهة واحدة على الأرض،وإن قدر أن المرئي ليس في جهة، فكيف يجوز أن يقال‏:‏ لا تضمكم جهة واحدة،وهم كلهم على الأرض أرض القيامة أو في الجنة، وكل ذلك جهة، ووجودهم نفسهم لا في جهة ومكان ممتنع حسا وعقلا‏.‏
    وأما قوله‏:‏ هو يري لا في جهة فكذلك يراه غيره‏.‏ فهذا تمثيل باطل، فإن الإنسان يمكن أن يري بدنه، ولا يمكن أن يري غيره، إلا أن يكون بجهة منه، وهو أن يكون أمامه، سواء كان عاليًا أو سافلًا‏.‏

    ج/ 16 ص -87- وقد تُخْرَق له العادة فيرى من خلفه، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إني لأراكم من بعدي‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏من بعد ظهري‏"‏، وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏"‏إني لأراكم من ورائي‏"‏، وفي لفظ في الصحيحين‏:‏‏"‏إني واللّه لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي‏"‏، لكن هم بجهة منه، وهم خلفه، فكيف تقاس رؤية الرائي لغيره على رؤيته لنفسه‏؟‏
    ثم تشبيه رؤيته هو برؤيتنا نحن تشبيه باطل، فإن بصره يحيط بما رآه بخلاف أبصارنا‏.‏
    وهؤلاء القوم، أثبتوا ما لا يمكن رؤيته، وأحبوا نصر مذهب أهل السنة والجماعة والحديث، فجمعوا بين أمرين متناقضين، فإن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه يمتنع أن يري بالعين لو كان وجوده في الخارج ممكنًا، فكيف وهو ممتنع‏؟‏ وإنما يقدر في الأذهان من غير أن يكون له وجود في الأعيان، فهو من باب الوهم والخيال الباطل‏.‏
    ولهذا فسروا ‏[‏الإدراك‏]‏ بالرؤية في قوله‏:‏
    ‏"لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، كما فَسَّرَتْها المعتزلة، لكن عند المعتزلة‏:‏ هذا خرج مخرج المدح فلا يري بحال، وهؤلاء قالوا‏:‏ لا يرَي في الدنيا دون الآخرة‏.‏
    والآية تنفي الإدراك مطلقًا دون الرؤية كما قال ابن كلاب،

    ج/ 16 ص -88- وهذا أصح‏.‏وحينئذ، فتكون الآية دالة على إثبات الرؤية، وهو أنه يرَي ولا يدْرَك، فيري من غير إحاطة ولا حصر، وبهذا يحصل المدح، فإنه وصف لعظمته أنه لا تدركه أبصار العباد وإن رأته، وهو يدرك أبصارهم‏.‏ قال ابن عباس وعكرمة بحضرته لمن عارض بهذه الآية‏:‏‏"‏ألست تري السماء‏؟‏‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏بلي‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏أفكلها تري‏؟‏‏"‏‏.‏
    وكذلك قال‏:‏
    ‏"وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏"‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، وهؤلاء يقولون‏:‏ علمه شيء واحد لا يمكن أن يحاط بشيء منه دون شيء، فقالوا‏:‏ ولا يحيطون بشيء من معلومه‏.‏ وليس الأمر كذلك، بل نفس العلم جنس يحيطون منه بما شاء، وسائره لا يحيطون به‏.‏
    وقال‏:‏
    ‏"يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏"‏ [‏طه‏:‏ 110‏]‏، والراجح من القولين أن الضمير عائد إلى‏:‏ ‏"مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏"‏، وإذا لم يحيطوا بهذا علمًا، وهو بعض مخلوقات الرب، فإن لا يحيطوا علما بالخالق أولي وأحري‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏"‏[‏المدثر‏:‏ 13‏]‏، وقال‏:‏ ‏"أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ‏"‏ الآية ‏[‏إبراهيم‏:‏ 9‏] فإذا قيل‏:‏ ‏"لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، أي‏:‏ لا تحيط به، دل على أنه

    ج/ 16 ص -89- يوصف بنفي الإحاطة به مع إثبات الرؤية‏.‏ وهذا ممتنع على قول هؤلاء، فإن هذا إنما يكون بزعمهم فيما ينقسم، فيري بعضه من بعض، فتكون هناك رؤية بلا إدراك وإحاطة، وعندهم‏:‏ لا يتصور أن يري إلا رؤية واحدة متماثلة، كما يقولونه في كلامه‏:‏ إنه شيء واحد لا يتبعض ولا يتعدد‏.‏ وفي الإيمان به‏:‏ إنه شيء واحد لا يقبل الزيادة والنقصان‏.‏
    وأما الإدراك والإحاطة الزائد على مطلق الرؤية، فليس انتفاؤه لعظمة الرب عندهم، بل لأن ذاته لا تقبل ذاك كما قالت المعتزلة‏:‏ إنها لا تقبل الرؤية‏.‏
    وأيضًا، فهم والمعتزلة لا يريدون أن يجعلوا للإبصار إدراكًا غير الرؤية، سواء أثبتت الرؤية أو نفيت، فإن هذا يبطل قول المعتزلة بنفي الرؤية، ويبطل قول هؤلاء بإثبات رؤية بلا معاينة ومواجهة‏.‏
    فَصْل
    هذا، مع أن ابن فُورَك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين، وكذلك المجيء والإتيان، موافقةً لأبي الحسن، فإن هذا قوله، وقول متقدمي أصحابه‏.‏

    ج/ 16 ص -90- فقال ابن فُوَرك فيما صنف في أصول الدين‏:‏ فإن سألت الجهمية عن الدلالة على أن القديم سميع بصير، قيل لهم‏:‏ قد اتفقنا على أنه حي تستحيل عليه الآفات، والحي إذا لم يكن مأووفًا بآفات تمنعه من إدراك المسموعات والمبصرات كان سميعًا بصيرًا‏.‏
    وإن سألت فقلت‏:‏ أين هو‏؟‏، فجوابنا‏:‏ إنه في السماء، كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك، فقال عز من قائل‏
    :‏ ‏"أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏"‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه‏.‏ وأنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت‏:‏ أين اللّه‏؟‏ لقالوا‏:‏ إنه في السماء، ولم ينكروا لفظ السؤال ب ‏[‏أين‏]‏؛ لأن النبي ﷺ سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال‏:‏ ‏"‏أين الله‏؟‏‏"‏، فقالت‏:‏ في السماء مشيرة بها‏.‏ فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏اعتقها، فإنها مؤمنة‏"‏‏.‏ ولو كان ذلك قولا منكرًا لم يحكم بإيمانها، ولأنكره عليها‏.‏ ومعني ذلك أنه فوق السماء؛ لأن ‏[‏في‏]‏‏:‏ بمعني فوق، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏، أي‏:‏ فوقها‏.‏
    قال‏:‏ وإن سألت‏:‏ ‏[‏كيف هو‏؟‏‏]‏، قلنا له‏:‏ ‏[‏كيف‏]‏ سؤال عن صفته وهو ذو الصفات العلى هو العالِم الذي له العلم، والقادر

    ج/ 16 ص -91- الذي له القدرة، والحي الذي له الحياة، الذي لم يزل منفردًا بهذه الصفات لا يشْبه شيئًا، ولا يشبهه شيء‏.‏
    قلت‏:‏ فهذا الكلام هو موافق لما ذكره الأشعري ‏[‏هو أبو الحسن على بن إسماعيل بن إسحاق، من نسل الصحابي أبو موسي الأشعري توفي عام 423ه، وكان مولده سنة 072ه‏]‏ في كتاب ‏[‏الإبانة‏]‏، ولما ذكره ابن كلاب كما حكاه عنه ابن فورك، لكن ابن كلاب يقول‏:‏ إن العلو والمباينة من الصفات العقلية، وأما هؤلاء فيقولون‏:‏ كونه في السماء صفة خبرية كالمجيء والإتيان، ويطلقون القول بأنه بذاته فوق العرش، وذلك صفة ذاتية عندهم‏.‏
    والأشعري يبطل تأويل من تأول الاستواء بمعني الاستيلاء والقهر، بأنه لم يزل مستوليًا على العرش وعلى كل شيء، والاستواء مختص بالعرش، فلو كان بمعني الاستيلاء لجاز أن يقال‏:‏ هو مستو على كل شيء وعلى الأرض وغيرها‏.‏ كما يقال‏:‏ إنه مستولٍ عليها‏.‏ ولما اتفق المسلمون على أن الاستواء مختص بالعرش، فهذا الاستواء الخاص ليس بمعني الاستيلاء العام، وأين للسلطان جعل الاستواء بمعني القهر والغلبة، وهو الاستيلاء‏؟‏
    فيشبه واللّه أعلم أن يكون اجتهاده مختلفًا في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل، ثم حرمه، وحكي إجماع السلف على تحريمه، وابن عقيل له أقوال مختلفة، وكذلك

    ج/ 16 ص -92- لأبي حامد، والرازي، وغيرهم‏.‏
    ومما يبين اختلاف كلام ابن فورك أنه في مصنف آخر قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ أين هو‏؟‏ قيل‏:‏ ليس بذي كيفية فنخبر عنها إلا أن يقول‏:‏ ‏[‏كيف صنعه‏؟‏‏]‏، فمن صنعه أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وهو الصانع للأشياء كلها‏.‏
    فهنا أبطل السؤال عن الكيفية، وهناك‏:‏ جوزه، وقال‏:‏ الكيفية هي الصفة، وهو ذو الصفات، وكذلك السؤال عن الماهية، قال في ذلك المصنف‏:‏ وإن سألت الجهمية فقالت‏:‏ ما هو‏؟‏، يقال لهم‏:‏ ‏[‏ما‏]‏ يكون استفهامًا عن جنس أو صفة في ذات المستفهم‏.‏ فإن أردت بذلك سؤالًا عن صفته فهو العلم، والقدرة، والكلام والعزة، والعظمة‏.‏
    وقال في الآخر‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ حدثونا عن الواحد الذي تعبدونه ما هو‏؟‏ قيل‏:‏ إن أردت بقولك‏:‏ ما جنسه‏؟‏ فليس بذي جنس، وإن أردت بقولك‏:‏ ماهو‏؟‏ أي‏:‏ أشيروا إليه حتي أدركه بحواسي، فليس بحاضر للحواس، وإن أردت بقولك‏:‏ ماهو‏؟‏ أي‏:‏ دلوني عليه بعجائب صنعته وآثار حكمته، فالدلالة عليه قائمة‏.‏ وإن أردت بقولك‏:‏ ما اسمه‏؟‏ فنقول‏:‏ هو اللّّه، الرحمن، الرحيم، القادر، السميع، البصير‏.‏

    ج/ 16 ص -93- وهو في هذا المصنف أثبت أنه على العرش بخلاف ما كان عليه قبل العرش، فقال‏:‏ فإن قال‏:‏ فحدثونا عنه أين كان قبل أن يخلق‏؟‏ قيل‏:‏ ‏[‏أين‏؟‏‏]‏ تقتضي مكانًا، والأمكنة مخلوقات، وهو سبحانه لم يزل قبل الخلق والأماكن، لا في مكان ولا يجرى عليه وقت ولا زمان‏.‏
    فإن قال‏:‏ فعلى ما هو اليوم‏؟‏ قيل له‏:‏ مستوٍ على العرش كما قال سبحانه‏:‏ ‏"
    الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏"‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏
    وقال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ لم يزل الباري قادرًا عالمًا حيًا سميعًا بصيرًا‏؟‏ قيل‏:‏نعم، فإن قال‏:‏ فلم أنكرتم أن يكون لم يزل خالقًا‏؟‏ قيل له‏:‏ إن أردت بقولك‏:‏لم يزل خالقا‏.‏ أي‏:‏ لم يزل الخلق معه في قدمه، فهذا خطأ، لأن معني الخلق أنه لم يكن ثم كان‏.‏ فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودًا، وإن أردت بقولك أن الخالق لم يزل وكان قادرًا على أن يخلق الخلق، فكذلك نقول‏:‏ لأن الخالق لم يزل والخلق لم يكن ثم كان، وقد كان لم يزل قادرًا على أن يخلق الخلق، فهذا الجواب‏.‏
    قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ إذا قلتم إنه الآن خالق فما أنكرتم أن يكون لم يزل خالقًا‏؟‏ قيل له‏:‏ لا يلزم ذلك، وذلك أنه الآن مستوٍ على

    ج/ 16 ص -94- عرشه، فلا يجب أن يكون لم يزل مستويًا على عرشه، فكذلك ما قلناه يناسبه‏.‏
    فإن قيل‏:‏ الاستواء منه فعل، ويستحيل أن يكون الفعل لم يزل، قال‏:‏ قيل‏:‏ والخلق منه فعل، ويستحيل أن يكون الخلق لم يزل‏.‏
    فهذا الكلام ليس إلا ببيان الذين يقولون‏:‏ إنه استوي على العرش بعد أن لم يكن، ويقولون بقدم صفة التكوين والخلق، وأنه لم يزل خالقًا، فألزمهم‏:‏ أنا نقول في الخلق ما نقوله نحن وأنتم في الاستواء‏.‏ وهذا جواب ضعيف من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه في الحقيقة ليس عنده أنه استوي بعد أن لم يكن، كما قد بحثه مع السلطان، بل هو الآن كما كان، فلا يصح القياس عليه‏.‏
    الثاني‏:‏ أنه قد سلم أنه لم يزل قادرًا على أن يخلق الخلق، وهذا يقتضي إمكان وجود المقدور في الأزل، فإنه إذا كان المقدور ممتنعًا لم تكن هناك قدرة، فكيف يجعله لم يزل قادرًا مع امتناع أن يكون المقدور لم يزل ممكنًا‏؟‏ بل المقدور عنده كان ممتنعًا ثم صار ممكنًا بلا سبب حادث اقتضي ذلك‏.‏

    ج/ 16 ص -95-الثالث‏:‏ أن قوله‏:‏ لأن معني الخلق أنه لم يكن ثم كان، فكيف يكون ما لم يكن ثم كان لم يزل موجودًا‏؟‏ فيقال‏:‏ بل كل مخلوق فهو محدث مسبوق بعدم نفسه، وما ثم قديم أزلي إلا اللّه وحده‏.‏وإذا قيل‏:‏لم يزل خالقًا، فإنما يقتضي قدم نوع الخلق، و‏[‏دوام خالقيته‏]‏ لا يقتضي قدم شيء من المخلوقات، فيجب الفرق بين أعيان المخلوقات الحادثة بعد أن لم تكن، فإن هذه لا يقول عاقل إن منها شيئًا أزليًا، ومن قال بقدم شيء من العالم كالفلك أو مادته فإنه يجعله مخلوقا بمعني أنه كان بعد أن لم يكن، ولكن إذ أوجده القديم‏.‏
    ولكن لم يزل فعالًا خالقًا، ودوام خالقيته من لوازم وجوده‏.‏ فهذا ليس قولا بقدم شيء من المخلوقات، بل هذا متضمن لحدوث كل ما سواه‏.‏ وهذا مقتضي سؤال السائل له‏.‏
    الوجه الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ العرش حادث، كائن بعد أن لم يكن، لم يزل مستويًا عليه بعد وجوده، وأما الخلق‏:‏ فالكلام في نوعه، ودليله على امتناع حوادث لا أول لها، قد عرف ضعفه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    وكان ابن فُورَك في مخاطبة السلطان قصد إظهار مخالفة الكَرَّامية، كما قصد بنيسابور القيام على المعتزلة في استتابتهم، وكما كَفَّرَهم عند

    ج/ 16 ص -96- السلطان، ومن لم يعدل في خصومه ومنازعيه ويعذرهم بالخطأ في الاجتهاد، بل ابتدع بدعة وعادي من خالفه فيها أو كَفَّره، فإنه هو ظلم نفسه‏.‏
    وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق؛ يتبعون الرسول فلا يبتدعون‏.‏ ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه، وأهل البدع مثل الخوارج يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم ويستحلون دمه، وهؤلاء كل منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضًا مبتدع، فيرد بدعة ببدعة، وباطلاً بباطل‏.‏
    وكذلك ما حكاه من مناظراتهم له عند الوزير، مجلسًا بعد مجلس هو من هذا الباب‏.‏ فإن المعتزلة والكَرَّامِية يقولون حقًا وباطلا، وسنة وبدعة، كما أنه هو أيضًا كذلك يقول حقًا وباطلا موافقة لأبي الحسن، وأبو الحسن سلك في مسألة الأسماء، والأحكام، والقدر، مسلك الجهم بن صفوان، مسلك المجبرة ومسلك غلاة المرجئة، فهؤلاء قدرية مجبرة، والمعتزلة قدرية نافية، فوقع بينهم غاية التضاد في مسائل التعديل والتجويز ونحوها‏.‏
    واللّه يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار وقاض

    ج/ 16 ص -97- في الجنة؛ رجل قضي للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار‏.‏ ورجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة‏"‏‏.‏
    وقد حرم سبحانه الكلام بلا علم مطلقًا، وخص القول عليه بلا علم بالنهي، فقال تعالى‏:‏ ‏
    "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏‏.‏
    وأمر بالعدل على أعداء المسلمين، فقال‏:‏
    ‏"كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏"‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏
    فَصْل
    وهو سبحانه وصف نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم؛ لأنه من صفات الكمال،كما مدح نفسه بأنه العظيم،والعليم،والقدير، والعزيز، والحليم، ونحو ذلك‏.‏ وأنه الحي

    ج/ 16 ص -98- القيوم، ونحو ذلك من معاني أسمائه الحسني،فلا يجوز أن يتصف بأضداد هذه‏.‏
    فلا يجوز أن يوصف بضد الحياة والقيومية والعلم والقدرة، مثل الموت والنوم والجهل والعجز واللُّغُوب‏.‏ ولا بضد العزة وهو الذل، ولا بضد الحكمة وهو السفه‏.‏
    فكذلك، لا يوصف بضد العلو وهو السفول، ولا بضد العظيم وهو الحقير، بل هو سبحانه منزه عن هذه النقائص المنافية لصفات الكمال الثابتة له، فثبوت صفات الكمال له ينفي اتصافه بأضدادها، وهي النقائص‏.‏
    وهو سبحانه ليس كمثله شيء فيما يوصف به من صفات الكمال‏.‏
    فهو منزه عن النقص المضاد لكماله، ومنزه عن أن يكون له مثل في شيء من صفاته، ومعاني التنزيه ترجع إلى هذين الأصلين، وقد دل عليهما سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن بقوله‏:‏‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏"‏[‏الإخلاص‏:‏ 1، 2‏]‏، فاسمه ‏[‏الصمد‏]‏‏:‏ يجمع معاني صفات الكمال، كما قد بسط ذلك في تفسير هذه السورة وفي غير موضع، وهو كما في تفسير ابن أبي طلحة، عن ابن عباس؛ أنه المستوجب لصفات السؤدد، العليم

    ج/ 16 ص -99- الذي قد كمل في علمه، الحكيم الذي قد كمل في حكمته، إلى غير ذلك مما قد بين‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏[‏الأحد‏]‏ يقتضي أنه لا مثل له ولا نظير
    "وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏"‏
    وقد ذكرنا في غير موضع أن ما وصف اللّه تعالى به نفسه من الصفات السلبية، فلا بد أن يتضمن معني ثبوتيا، فالكمال هو في الوجود والثبوت،والنفي مقصوده نفي ما يناقض ذلك، فإذا نفي النقيض الذي هو العدم والسلب لزم ثبوت النقيض الآخر الذي هو الوجود والثبوت‏.‏
    وبينا هذا في آية الكرسي وغيرها مما في القرآن، كقوله‏:‏‏
    "لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ‏"‏، فإنه يتضمن كمال الحياة والقيومية‏.‏وقوله‏:‏‏"مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، يتضمن كمال الملك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏"‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، يقتضي اختصاصه بالتعليم دون ما سواه‏.‏
    والوحدانية‏:‏ تقتضي الكمال، والشركة‏:‏ تقتضي النقص‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏
    "وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، ‏"وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏، ‏"لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏، ‏"لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ‏"‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وأمثال ذلك مما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

    ج/ 16 ص -100- والمقصود هنا أن علوه من صفات المدح اللازمة له‏.‏ فلا يجوز اتصافه بضد العلو البتة؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء‏"‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏تحتك‏]‏، وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير هذا الموضع‏.‏
    وإذا كان كذلك، فالمخالفون للكتاب والسنة وما كان عليه السلف لا يجعلونه متصفا بالعلو دون السفول، بل إما أن يصفوه بالعلو والسفول أو بما يستلزم ذلك، وإما أن ينفوا عنه العلو والسفول‏.‏ وهم نوعان‏.‏
    فالجهمية القائلون بأنه بذاته في كل مكان، أو بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، لا يصفونه بالعلو دون السفول‏.‏ فإنه إذا كان في مكان فالأمكنة منها عال وسافل، فهو في العالي عال، وفي السافل سافل‏.‏ بل إذا قالوا‏:‏ إنه في كل مكان‏.‏ فجعلوا الأمكنة كلها محال له، ظروفا وأوعية، جعلوها في الحقيقة أعلى منه‏.‏ فإن المحل يحوي الحال، والظرف والوعاء يحوي المظروف الذي فيه، والحاوي فوق المحوي‏.‏
    والسلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا‏:‏ إنه فوق العرش،

    ج/ 16 ص -101- وإنه في السماء فوق كل شيء، لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره، أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاءً سبحانه وتعالى عن ذلك بل هو فوق كل شيء، وهو مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه‏.‏ وهو عال على كل شيء، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته‏.‏ وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق‏.‏
    وما في الكتاب والسنة من قوله‏:‏
    ‏"أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏"‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏، ونحو ذلك قد يفهم منه بعضهم أن ‏[‏السماء‏]‏ هي نفس المخلوق العالي؛ العرش فما دونه، فيقولون‏:‏ قوله ‏"فٌي بسَّمّاء ‏"‏، بمعنى‏:‏ ‏[‏على السماء‏]‏، كما قال‏:‏ "وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏"[‏طه‏:‏ 71‏]‏، أي‏:‏ ‏[‏على جذوع النخل‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏"فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ‏"‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، أي‏:‏ ‏[‏على الأرض‏]‏‏.‏ ولا حاجة إلى هذا، بل، ‏[‏السماء‏]‏ اسم جنس للعالي لا يخص شيئا‏.‏ فقوله‏:‏ ‏"فٌي بسَّمّاء ‏"‏، أي‏:‏ ‏"‏في العلو دون السفل‏"‏‏.‏ وهو العلى الأعلى، فله أعلى العلو، وهو ما فوق العرش وليس هناك غيره العلى الأعلى سبحانه وتعالى‏.‏
    والقائلون بأنه في كل مكان هو عندهم في المخلوقات السفلية القذرة الخبيثة، كما هو في المخلوقات العالية‏.‏ وغلاة هؤلاء الاتحادية الذين يقولون‏:‏ ‏[‏الوجود واحد‏]‏، كابن عربي الطائي صاحب ‏[‏فصوص

    ج/ 16 ص -102- الحكم‏]‏، و‏[‏الفتوحات المكية‏]‏، يقولون‏:‏ الموجود الواجب القديم هو الموجود المحدث الممكن‏.‏
    ولهذا قال ابن عربي في ‏[‏فصوص الحكم‏]‏‏:‏
    ‏[‏ومن أسمائه الحسني ‏[‏العلي‏]‏‏.‏ على من، وما ثم إلا هو‏؟‏ وعن ماذا، وما هو إلا هو‏؟‏ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمُسَمَّي ‏[‏محدثات‏]‏‏:‏ هي العلية لذاتها وليست إلا هو‏]‏‏.‏
    إلي أن قال‏:‏
    ‏[‏فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الأوصاف الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا، أو مذمومة عرفا وعقلًا وشرعا‏.‏ وليس ذلك إلا المسمي اللّه‏]‏‏.‏
    فهو عنده الموصوف بكل ذم، كما هو الموصوف بكل مدح‏.‏
    وهؤلاء يفضلون عليه بعض المخلوقات، فإن في المخلوقات ما يوصف بالعلو دون السفول كالسماوات‏.‏ وما كان موصوفا بالعلو دون السفول كان أفضل مما لا يوصف بالعلو، أو يوصف بالعلو والسفول‏.‏
    وقد قال فرعون‏:‏
    ‏"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏"[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏ قال ابن عربي‏:‏

    ج/ 16 ص -103- ولما كان فرعون في منصب التحكم والخليفة بالسيف، جاز في العرف الناموسي أن قال‏:‏ ‏"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏، أي‏:‏ وإن كان أن الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم‏.‏ ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، بل أقروا له بذلك وقالوا له‏:‏ ‏"فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏ فالدولة لك‏.‏ فصح قول فرعون‏:‏ ‏"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏"‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏‏.‏
    فبهذا وأمثاله يصححون قول فرعون‏:‏
    ‏"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏"‏، وينكرون أن يكون اللّه عاليا، فضلا عن أن يكون هو الأعلى، ويقولون‏:‏ على من يكون أعلي، أو‏:‏ عما ذا يكون أعلي‏؟‏
    وهكذا سائر الجهمية يصفون بالعلو على وجه المدح ما هو عال من المخلوقات، كالسماء، والجنة، والكواكب، ونحو ذلك‏.‏ ويعلمون أن العالي أفضل من السافل، وهم لا يصفون ربهم بأنه الأعلى، ولا العلي، بل يجعلونه في السافلات كما هو في العاليات‏.‏
    والجهمية الذين يقولون‏:‏ ليس هو داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه البتة، هم أقرب إلى التعطيل والعدم، كما أن أولئك أقرب إلى الحلول والاتحاد بالمخلوقات‏.‏ فهؤلاء يثبتون موجودًا لكنه في الحقيقة المخلوق لا الخالق، وأولئك ينفون فلا يثبتون وجودًا البتة، لكنهم

    ج/ 16 ص -104- يثبتون وجود المخلوقات، ويقولون‏:‏ إنهم يثبتون وجود الخالق‏.‏
    وإذا قالوا‏:‏ نحن نقول‏:‏ هو عال بالقدرة أو بالقدر، قيل‏:‏ هذا فرع ثبوت ذاته وأنتم لم تثبتوا موجودًا يعرف وجوده فضلا عن أن يكون قادرًا أو عظيم القدر‏.‏
    وإذا قالوا‏:‏ كان اللّه قبل خلق الأمكنة والمخلوقات موجودًا، وهو الآن على ما عليه كان لم يتغير، ولم يكن هناك فوق شيء ولا عاليًا على شيء فذلك هو الآن، قيل‏:‏ هذا غلط، ويظهر فساده بالمعارضة ثم بالحل وبيان فساده‏.‏
    أما الأول‏:‏ فيلزمهم ألا يكون الآن عاليًا بالقدرة ولا بالقدر كما كان في الأزل‏.‏ فإنه إذا قدر وجوده وحده فليس هناك موجود يكون قادرًا عليه ولا قاهرًا له ولا مستوليًا عليه، ولا موجودا يكون هو أعظم قدرًا منه‏.‏
    فإن كان مع وجود المخلوقات لم يتجدد له علو عليها كما زعموا، فيجب أن يكون بعدها ليس قاهرًا لشيء ولا مستوليًا عليه، ولا قاهرًا لعباده، ولا قدره أعظم من قدرها‏.‏ وإذا كانوا يقولون هم وجميع العقلاء إنه مع وجود المخلوق يوصف بأمور إضافية لا يوصف

    ج/ 16 ص -105- بها إذا قدر موجودًا وحده علم أن التسوية بين الحالين خطأ منهم‏.‏
    وقد اتفق العقلاء على جواز تجدد النسب والإضافات مثل المعية، وإنما النزاع في تجدد ما يقوم بذاته من الأمور الاختيارية‏.‏ وقد بين في غير هذا الموضع أن النسب والإضافات مستلزمة لأمور ثبوتية، وأن وجودها بدون الأمور الثبوتية ممتنع‏.‏
    والإنسان إذا كان جالسًا فتحول المتحول عن يمينه بعد أن كان عن شماله قيل‏:‏ إنه عن شماله‏.‏ فقد تجدد من هذا فعل به تغيرت النسبة والإضافة،‏.‏ وكذلك من كان تحت السطح فصار فوقه، فإن النسبة بالتحتية والفوقية تجدد لما تجدد فعل هذا‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ نفس السقف لم يتغير قيل‏:‏ قد يمنع هذا، ويقال‏:‏ ليس حكمه إذا لم يكن فوقه شيء كحكمه إذا كان فوقه شيء‏.‏ وإذا قيل عن الجالس‏:‏ إنه لم يتغير، قيل‏:‏ قد يمنع هذا، ويقال‏:‏ ليس حكمه إذا كان الشخص عن يساره كحكمه إذا كان عن يمينه، فإنه يحجب هذا الجانب ويوجب من التفات الشخص وغير ذلك ما لم يكن قبل ذلك‏.‏
    وكذلك من تجدد له أخ أو ابن أخ بإيلاد أبيه أو أخيه، قد وجد هنا أمور ثبوتية‏.‏ وهذا الشخص يصير فيه من العطف والحنو على هذا الولد المتجدد ما لم يكن قبل ذلك، وهي الرحم والقرابة‏.‏

    ج/ 16 ص -106- وبهذا يظهر الجواب الثاني، وهو أن يقال‏:‏
    العلو والسفول ونحو ذلك من الصفات المستلزمة للإضافة، وكذلك الاستواء، والربوبية، والخالقية، ونحو ذلك‏.‏ فإذا كان غيره موجودًا، فإما أن يكون عاليًا عليه وإما ألا يكون، كما يقولون هم‏:‏ إما أن يكون عاليًا عليه بالقهر أو بالقدر أو لا يكون، خلاف ما إذا قدر وحده، فإنهم لا يقولون‏:‏ إنه حينئذ قاهر، أو قادر أو مستول عليه، فلا يقال‏:‏ إنه عال عليه‏.‏ وإن قالوا‏:‏ ‏"‏إنه قادر وقاهر‏"‏ كان ذلك مشروطًا بالغير، وكذلك علو القدر، قيل‏:‏ وكذلك علو ذاته مازال عاليًا بذاته لكن ظهور ذلك مشروط بوجود الغير‏.‏ والإلزامات مفحمة لهم‏.‏
    وحقيقة قولهم‏:‏ إنه لم يكن قادرًا في الأزل ثم صار قادرًا‏.‏ يقولون‏:‏ لم يزل قادرًا مع امتناع المقدور، وإنه لم يكن الفعل ممكنًا فصار ممكنا‏.‏ فيجمعون بين النقيضين‏.‏
    فَصل
    وأما الذين يصفونه بالعلو والسفول، فالذين يقولون‏:‏ هو فوق العرش وهو أيضًا في كل مكان، والذين يقولون‏:‏ إذا نزل كل ليلة فإنه

    ج/ 16 ص -107- يخلو منه العرش، أو غيره من المخلوقات أكبر منه، ويقولون‏:‏ لا يمتنع أن يكون الخالق أصغر من المخلوق، كما يقول شيوخهم‏:‏ إنه لا يمتنع أن يكون الخالق أسفل من المخلوق، فهؤلاء لا يصفونه بأنه أكبر من كل شيء، بل ولا هو على قولهم الكبير المتعال، ولا هو العلى العظيم‏.‏
    وقد بسط الرد على هؤلاء في ‏"‏مسألة النزول‏"‏ لما ذكر قول أئمة السنة مثل حماد بن زيد ‏[‏هو أبو إسماعيل حماد بن درهم الأزدي الجهضمي، شيخ العراق في عصره، من حفاظ الحديث الموجودين، يعرف بالأزرق، أصله من سبي سجستان، مولده ووفاته في البصرة، يحفظ أربعة آلاف حديث‏.‏ خرج حديثه الأئمة الستة‏]‏، وإسحق بن راهويه، وغيرهما‏:‏ ‏"‏إنه ينزل ولا يخلو منه العرش‏"‏ ذكر قول من أنكر ذلك من المتأخرين المنتسبين إلى الحديث والسنة، وبَين فساد قولهم شرعا وعقلًا‏.‏ وهؤلاء في مقابلة الذين ينفون النزول‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ حديث النزول ونحوه ظاهره ليس يحتمل التأويل، فهذا صحيح إذا أريد بالظاهر ما يظهر لهؤلاء ونحوهم، من أنه ينزل إلى أسفل فيصير تحت العرش كما ينزل الإنسان من سطح داره إلى أسفل وعلى قول هؤلاء ولا يبقي حينئذ العلى ولا الأعلى، بل يكون تارة أعلى وتارة أسفل تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏
    وكذلك ما ورد من نزوله يوم القيامة في ظلل من الغمام، ومن نزوله

    ج/ 16 ص -108- إلى الأرض لما خلقها، ومن نزوله لتكليم موسي، وغير ذلك، كله من باب واحد، كقوله تعالى‏:‏ ‏"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏"‏ [‏الفجر‏:‏ 22‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏‏.‏ والنفاة المعطلة ينفون المجيء والإتيان بالكلية، ويقولون‏:‏ ما ثَمَّ إلا ما يحدث في المخلوقات، والحلولية يقولون‏:‏ إنه يأتي ويجيء بحيث يخلو منه مكان ويشغل آخر، فيخلو منه ما فوق العرش ويصير بعض المخلوقات فوقه‏.‏ فإذا أتي وجاء لم يصر على قولهم العلى الأعلى، ولا كان هو العلى العظيم، لا سيما إذا قالوا‏:‏ إنه يحويه بعض المخلوقات فتكون أكبر منه سبحانه وتعالى عما يقول هؤلاء وهؤلاء علوًا عظيما‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏
    ‏"أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء‏"‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏، إن كان قد قال أحد‏:‏ إنه في جوف السماء فهو شرٌ قولا من هؤلاء، ولكن هذا ما علمت به قائلًا معينًا منسوبا إلى علم حتي أحيكه قولا‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه في السماء فمراده أنه في العلو، ليس مراده أنه في جوف الأفلاك، إلا أن بعض الجهال يتوهم ذلك‏.‏ وقد ظن طائفة أن هذا ظاهر اللفظ‏.‏

    ج/ 16 ص -109- الظاهر ولا ريب أنه محمول على خلاف هذا الاتفاق؛ لكن هذا هو الذي يظهر لعامة المسلمين الذين يطلقون هذا القول ويسمعونه، أو هو مدلول اللفظ في اللغة، هو مما لا يسلم لهم، كما قد يبسط في مواضع‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏ 65‏]‏، فاستثني نفسه، والعالم ‏"مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏"‏ ‏.‏ ولا يجوز أن يقال‏:‏ هذا استثناء منقطع؛ لأن المستثني مرفوع، ولو كان منقطعًا لكان منصوبا‏.‏ والمرفوع على البدل، والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو بمنزلة المفرغ، كأنه قال‏:‏ ‏"‏لا يعلم الغيب إلا اللّه‏"‏‏.‏ فيلزم أنه داخل في‏:‏ ‏"مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏"‏‏.‏
    وقد قدمنا أن لفظ ‏"‏السماء‏"‏ يتناول كل ما سما، ويدخل فيه السموات، والكرسي، والعرش، وما فوق ذلك؛ لأن هذا في جانب النفي، وهو لم يقل هنا‏:‏ السموات السبع، بل عم بلفظ‏:‏ ‏"‏السموات‏"‏‏.‏ وإذا كان لفظ ‏"‏السماء‏"‏ قد يراد به السحاب، ويراد به الفلك، ويراد به ما فوق العالم، ويراد به العلو مطلقًا، ف ‏"‏السموات‏"‏‏:‏ جمع ‏"‏سماء‏"‏، وكل من فيما يسمي ‏"‏سماء‏"‏، وكل من فيما يسمي ‏"‏أرضًا‏"‏ لا يعلم الغيب إلا اللّه‏.‏

    ج/ 16 ص -110- وهو سبحانه قال‏:‏ ‏"قُل لَّا يَعْلَمُ مَن‏"‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏ما‏]‏، فإنه لما اجتمع ما يعقل وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه ب ‏[‏من‏]‏ لتكون أبلغ، فإنهم مع كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا اللّه‏.‏
    وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين الذي قال فيه‏:‏
    ‏"فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا‏"‏[‏الجن‏:‏ 26‏]‏‏.‏ والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه، ليس هو غيبًا عمن شهده‏.‏ والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا، فيكون غيبًا مقيدًا، أي‏:‏ غيبًا عمن غاب عنه من المخلوقين، لا عمن شهده، ليس غيبًا مطلقًا غاب عن المخلوقين قاطبة‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 46‏]‏، أي عالم ما غاب عن العباد مطلقًا ومعينًا وما شهدوه، فهو سبحانه يعلم ذلك كله‏.‏
    والنفاة للعلو ونحوه من الصفات معترفون بأنه ليس مستندهم خبر الأنبياء، لا الكتاب، ولا السنة، ولا أقوال السلف، ولا مستندهم فطرة العقل وضرورته، ولكن يقولون‏:‏ معنا النظر العقلي‏.‏ وأما أهل السنة المثبتون للعلو فيقولون‏:‏ إن ذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، مع فطرة اللّه التي فطر العباد عليها وضرورة العقل، ومع نظر العقل واستدلاله‏.‏

    ج/ 16 ص -111- لكن، الذين يقولون بأنه ينزل ولا يبقي فوق العرش، وأنه يكون في جوف المخلوقات، ونحو هؤلاء، قد يقولون‏:‏ إن مستندهم في ذلك السمع، وهو ما فهموه من القرآن، أو من الأحاديث الصحيحة أو غير الصحيحة، أو من أقوال السلف وهم أخطؤوا من حيث نظروا اقتصروا على فهمه من نص واحد،كفهمهم من حديث النزول ولم يتدبروا مافي الكتاب والسنة مما يصفه بالعلو والعظمة ونحو ذلك مما ينافي أن يكون شيء أعلى منه أو أكبر منه‏.‏
    ويتدبروا أيضًا دلالة النص، مثل نزوله إلى سماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر بأن الليل يختلف، فيكون ليل أهل المشرق ونصفه وثلثه الآخر قبل ذلك في المغرب بقريب من يوم، فيلزم على قولهم أنه لا يزال تحت العرش، وهو قد أخبر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض‏.‏ وما ذكروه ينافي استواءه على العرش، وأنه ليس فوق العرش، كما قد بسط في مواضع‏.
    فَصل
    ‏[‏الأعلى‏]‏‏:‏ على وزن أفعل التفضيل، مثل الأكرم، والأكبر، والأجمل؛ ولهذا قال النبي ﷺلما قال أبو سفيان‏:‏

    ج/ 16 ص -112- اعل هبل‏!‏ اعل هبل‏!‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا تجيبونه‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ وما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏قولوا ‏:‏ اللّه أعلى وأجل‏!‏‏"‏‏.‏ وهو مذكور بأداة التعريف ‏[‏الأعلى‏]‏ مثل‏:‏ ‏"وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏"‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3‏]‏، بخلاف ما إذا قيل‏:‏ ‏"‏اللّه أكبر‏"‏ فإنه منكر‏.‏
    ولهذا معنى يخصه يتميز به؛ ولهذا معنى يخصه يتميز به، كما بين العلو، والكبرياء، والعظمة، فإن هذه الصفات وإن كانت متقاربة، بل متلازمة، فبينها فروق لطيفة؛ ولهذا قال النبي ﷺ فيما يروى عن ربه تعالى‏:‏ ‏"‏العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته‏"‏، فجعل الكبرياء بمنزلة الرداء، وهو أعلى من الإزار‏.‏
    ولهذا كان شعائر الصلاة، والأذان، والأعياد والأماكن العالية، هو التكبير، وهو أحد الكلمات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن؛ سبحان الله، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ‏.‏ ولم يجئ في شيء من الأثر بدل قول‏:‏ ‏"‏الله أكبر‏"‏، ‏"‏اللّه أعظم‏"‏‏.‏ ولهذا كان جمهور الفقهاء على أن الصلاة لا تنعقد إلا بلفظ التكبير‏.‏ فلو قال‏:‏ ‏"‏اللّه أعظم‏"‏ لم تنعقد به الصلاة لقول النبي ﷺ‏:‏
    ‏"‏مفتاح الصلاة الطُّهُور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم‏"‏‏.‏ وهذا

    ج/ 16 ص -113- قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي يوسف، وداود، وغيرهم‏.‏ ولو أتى بغير ذلك من الأذكار، مثل سبحان اللّه، والحمد للّه، لم تنعقد به الصلاة‏.‏
    ولأن التكبير مختص بالذكر في حال الارتفاع، كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض، كما في السنن عن جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ كنا مع رسول اللّه ﷺإذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك‏.‏
    ولما نزل قوله‏:
    ‏ ‏"فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏"‏[‏الواقعة‏:‏ 74 ، 96‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏اجعلوها في ركوعكم‏"‏، ولما نزل‏: ‏"سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏، قال‏:‏ ‏"‏اجعلوها في سجودكم‏"‏‏.‏ وثبت عنه أنه كان يقول في ركوعه‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏، وفي سجوده‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏‏.‏ ولم يكن يكبر في الركوع والسجود‏.‏
    لكن قد كان يقرن بالتسبيح التحميد والتهليل، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة، أنه ﷺكان يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لى‏"‏ ، يتأول القرآن، أى‏:‏ يتأول قوله‏:‏ ‏
    "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏"‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فكان يجمع بين التسبيح والتحميد‏.‏

    ج/ 16 ص -114- وكذلك قد كان يقرن بالتسبيح في الركوع والسجود التهليل، كما في صحيح مسلم عن عائشة قالت‏:‏ افتقدت النبي ﷺذات ليلة‏.‏ فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسست، ثم رجعت، فإذا هو راكع أو ساجد يقول‏:‏ ‏"‏سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ بأبي أنت وأمى‏!‏ إنى لفي شأن وإنك لفي شأن‏.‏
    ففي هذه الأحاديث كلها أنه كان يسبح في الركوع والسجود، لكن قد يقرن بالتسبيح التحميد والتهليل، وقد يقرن به الدعاء‏.‏ ولم ينقل أنه كبر في الركوع والسجود‏.‏
    وأما قراءة القرآن فيهما فقد ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏إنى نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا‏"‏، رواه مسلم من حديث على، ومن حديث ابن عباس‏.‏ وذلك أن القرآن كلام اللّه فلا يتلى إلا في حال الارتفاع، والتكبير أيضًا محله حال الارتفاع‏.‏
    وجمهور العلماء على أنه يشرع التسبيح في الركوع والسجود، وروى عن مالك‏:‏ أنه كره المداومة على ذلك لئلا يظن وجوبه‏.‏ ثم اختلفوا في وجوبه‏.‏ فالمشهور عن أحمد، وإسحق، وداود، وغيرهم‏:‏ وجوبه‏.‏ وعن أبي حنيفة، والشافعي‏:‏ استحبابه‏.‏
    والقائلون بالوجوب، منهم من يقول‏:‏ يتعين‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏

    ج/ 16 ص -115- و‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏، للأمر بهما، وهو قول كثير من أصحاب أحمد، ومنهم من يقول‏:‏ بل يذكر بعض الأذكار المأثورة‏.‏
    والأقوى‏:‏ أنه يتعين التسبيح، إما بلفظ ‏"‏سبحان‏"‏، وإما بلفظ ‏"‏سبحانك‏"‏، ونحو ذلك‏.‏ وذلك أن القرآن سماها‏:‏ ‏"‏تسبيحًا‏"‏، فدل على وجوب التسبيح فيها، وقد بينت السنة أن محل ذلك الركوع والسجود، كما سماها اللّه‏:‏ ‏"‏قرآنًا‏"‏‏.‏ وقد بينت السنة أن محل ذلك القيام‏.‏ وسماها‏:‏ ‏[‏قيامًا‏]‏ و‏[‏سجودًا‏]‏ و‏[‏ركوعًا‏]‏، وبينت السنة علة ذلك ومحله‏.‏
    وكذلك التسبيح يسبح في الركوع والسجود‏.‏ وقد نقل عن النبي ﷺأنه كان يقول‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏ و‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏، وأنه كان يقول‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي‏"‏، و ‏"‏سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت‏"‏‏.‏ وفي بعض روايات أبي داود‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم وبحمده‏"‏، وفي استحباب هذه الزيادة عن أحمد روايتان‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة؛ أن رسول اللّه ﷺكان يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏"‏سبوح قدوس، رب الملائكة والروح‏"‏‏.‏ وفي السنن أنه كان يقول‏:‏ ‏"‏سبحان ذى الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة‏"‏‏.‏ فهذه كلها تسبيحات‏.‏

    ج/ 16 ص -116- والمنقول عن مالك أنه كان يكره المداومة على ذلك‏.‏ فإن كان كراهة المداومة على ‏:‏ ‏"‏سبحان ربي الأعلى والعظيم‏"‏، فله وجه، وإن كان كراهة المداومة على جنس التسبيح، فلا وجه له، وأظنه الأول‏.‏ وكذلك المنقول عنه إنما هو كراهة المداومة على ‏:‏ ‏"‏سبحان ربي العظيم‏"‏؛ لئلا يظن أنها فرض؛وهذا يقتضي‏:‏ أن مالكًا أنكر أن تكون فرضًا واجبًا‏.‏
    وهذا قوى ظاهر، بخلاف جنس التسبيح، فإن أدلة وجوبه في الكتاب والسنة كثيرة جدًا‏.‏ وقد علم أنه ﷺكان يداوم على التسبيح بألفاظ متنوعة‏.‏
    وقوله‏:‏ ‏"‏اجعلوها في ركوعكم وفي سجودكم‏"‏ يقتضي أن هذا محل لامتثال هذا الأمر، لا يقتضي أنه لا يقال إلا هي مع ما قد ثبت أنه كان يقول غيرها‏.‏
    والجمع بين صيغتي تسبيح بعيد، بخلاف الجمع بين التسبيح، والتحميد، والتهليل والدعاء‏.‏ فإن هذه أنواع، والتسبيح نوع واحد فلا يجمع فيه بين صيغتين‏.‏
    وأيضًا، قد ثبت في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏"‏أفضل الكلام بعد القرآن

    ج/ 16 ص -117- أربع وهن من القرآن‏:‏ سبحان اللّه، والحمد للّه،ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ‏"‏‏.‏ فهذا يقتضي أن هذه الكلمات أفضل من غيرها‏.‏فإن جعل التسبيح نوعا واحدًا، ف ‏"‏سبحان اللّه‏"‏ و‏"‏سبحان ربي الأعلى‏"‏ سواء، وإن جعل متفاضلا ف ‏"‏سبحان اللّه‏"‏ أفضل بهذا الحديث‏.‏
    وأيضًا، فقوله ‏:‏ ‏
    "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏"‏[‏الأعلى ‏:‏1‏]‏ و ‏"فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏"‏[‏الواقعة‏:‏ 74،96‏]‏، أمر بتسبيح ربه، ليس أمرًا بصيغة معينة‏.‏ فإذا قال سبحان اللّه وبحمده سبحانك اللهم وبحمدك‏.‏ فقد سبح ربه الأعلى والعظيم‏.‏ فإن اللّه هو الأعلى، وهو العظيم، واسمه ‏[‏اللّه‏]‏، يتناول معانى سائر الأسماء بطريق التضمن، وإن كان التصريح بالعلو والعظمة ليس هو فيه‏.‏ ففي اسمه ‏[‏الله‏]‏ التصريح بالإلهية، واسمه ‏[‏اللّه‏]‏ أعظم من اسمه ‏[‏الرب‏]‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول اللّه ﷺسئل‏:‏ أى الكلام أفضل‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏"‏ما اصطفي اللّه لملائكته أو لعباده؛ سبحان اللّه وبحمده‏"‏‏.‏
    فالقيام فيه التحميد‏.‏و في الاعتدال من الركوع،وفي الركوع والسجود‏:‏ التسبيح، وفي الانتقال‏:‏ التكبير، وفي القعود‏:‏التشهد، وفيه التوحيد‏.‏ فصارت الأنواع الأربعة في الصلاة‏.‏

    ج/ 16 ص -118- والفاتحة أيضًا فيها التحميد والتوحيد‏.‏ فالتحميد والتوحيد ركن يجب في القراءة‏.‏ والتكبير ركن في الافتتاح‏.‏ والتشهد الآخر ركن في القعود كما هو المشهور عن أحمد‏.‏ وهو مذهب الشافعي، وفيه التشهد المتضمن للتوحيد‏.‏
    يبقى التسبيح‏.‏ وأحمد يوجبه في الركوع والسجود‏.‏ وروى عنه أنه ركن‏.‏ وهو قوى لثبوت الأمر به في القرآن والسنة‏.‏ فكيف يوجب الصلاة على النبي ﷺولم يجئ أمر بها في الصلاة خصوصًا ولا يوجب التسبيح مع الأمر به في الصلاة، ومع كون الصلاة تسمى ‏[‏تسبيحًا‏]‏‏؟‏ وكل ما سميت به الصلاة من أبعاضها فهو ركن فيها، كما سميت ‏[‏قيامًا‏]‏، و‏[‏ركوعًا‏]‏، و‏[‏سجودًا‏]‏، و‏[‏قراءة‏]‏، وسميت أيضًا ‏[‏تسبيحًا‏]‏‏.‏
    ولم يأت عن النبي ﷺما ينفي وجوبه في حال السهو كما ورد في التشهد الأول أنه لما تركه سجد للسهو، لكن قد يقال‏:‏ لما لم يأمر به المسىء في صلاته دل على أنه واجب ليس بركن‏.‏ وبسط هذه المسألة له موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن التسبيح قد خص به حال الانخفاض، كما خص حال الارتفاع بالتكبير‏.‏ فذكر العبد في حال انخفاضه وذله ما يتصف به

    ج/ 16 ص -119- الرب مقابل ذلك‏.‏ فيقول في السجود‏:‏ سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع‏:‏ سبحان ربي العظيم‏.‏
    و‏[‏الأعلى‏]‏ يجمع معانى العلو جميعها، وأنه الأعلى بجميع معانى العلو‏.‏ وقد اتفق الناس على أنه علىّ على كل شيء بمعنى أنه قاهر له، قادر عليه، متصرف فيه، كما قال‏:‏
    ‏"إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏"‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏‏.‏
    وعلى أنه عال عن كل عيب ونقص ، فهو عال عن ذلك ، منزه عنه،كما قال تعالى ‏:‏
    ‏"وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 39 43‏]‏، فقرن تعاليه عن ذلك بالتسبيح‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91، 92‏]‏ ، وقالت الجن‏:‏ ‏"وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا‏"‏ ‏[‏الجن‏:‏ 3‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -120- وفي دعاء الاستفتاح‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين أنه كان يقول في آخر استفتاحه‏:‏ ‏"‏تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك‏"‏‏.‏
    فقد بين سبحانه أنه تعالى عما يقول المبطلون وعما يشركون‏.‏ فهو متعال عن الشركاء والأولاد، كما أنه مسبح عن ذلك‏.‏
    وتعاليه سبحانه عن الشريك هو تعاليه عن السمى ، والند ، والمثل فلا يكون شيء مثله‏.‏
    وقد ذكروا من معانى العلو الفضيلة، كما يقال‏:‏ الذهب أعلى من الفضة‏.‏ ونفي المثل عنه يقتضي أنه أعلى من كل شيء فلا شيء مثله‏.‏ وهو يتضمن أنه أفضل وخير من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء‏.‏ وفي القرآن‏
    :‏‏"قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفي آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏ 59‏]‏، ويقول‏:‏ ‏"أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏"‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ ، ويقول ‏"أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 35‏]‏، وقالت السحرة‏:‏ ‏"وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏"‏[‏طه‏:‏ 73‏]‏‏.‏
    وهو سبحانه يبين أن المعبودين دونه ليسوا مثله في مواضع، كقوله‏:‏‏

    ج/ 16 ص -121-"قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31 - 36‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17 - 21‏]‏، وكذلك قوله في أثناء السورة‏:‏ ‏"ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏"‏[‏النحل‏:‏ 75، 76‏]‏‏.‏
    فهو سبحانه يبين أنه هو المستحق للعبادة دون ما يعبد من دونه ،

    ج/ 16 ص -122-وأنه لا مثل له‏.‏ ويبين ما اختص به من صفات الكمال وانتفائها عما يعبد من دونه‏.‏ ويبين أنه يتعالى عما يشركون وعما يقولون من إثبات الأولاد والشركاء له‏.‏
    وقال‏:‏
    ‏"قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏، وهم كانوا يقولون إنهم يشفعون لهم، ويتقربون بهم‏.‏
    لكن كانوا يثبتون الشفاعة بدون إذنه، فيجعلون المخلوق يملك الشفاعة، وهذا نوع من الشرك‏.‏ فلهذا قال تعالى‏:‏
    ‏"وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏، فالشفاعة لا يملكها أحد غير الله‏.‏
    كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله‏:
    ‏ ‏"إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏، يقول لابُتغَت الحوائج من الله‏.‏ وعن معمر، عن قتادة‏:‏ ‏"لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏"‏ ‏:‏ لابتغوا التقرب إليه مع أنه ليس كما يقولون‏.‏ وعن سعيد، عن قتادة‏:‏ ‏"لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏، يقول‏:‏ لو كان معه آلهة إذًا لعرفوا له فضله ومزيته عليهم ولابتغوا إليه ما يقربهم إليه‏.‏ وروى عن سفيان الثورى‏:‏ لتعاطوا سلطانه‏.‏
    وعن أبي بكر الهذلى،عن سعيد بن جبير‏:‏ سبيلاً إلى أن يزيلوا ملكه، والهذلي ضعيف‏.‏

    ج/ 16 ص -123-فقد تضمن العلو الذى ينعت به نفسه في كتابه أنه متعال عما لا يليق به من الشركاء والأولاد، فليس كمثله شيء‏.‏ وهذا يقتضي ثبوت صفات الكمال له دون ما سواه‏.‏
    وأنه لا يماثله غيره في شيء من صفات الكمال، بل هو متعال عن أن يماثله شيء‏.‏ وتضمن أنه عال على كل ما سواه، قاهر له، قادر عليه، نافذة مشىئته فيه، وأنه عال على الجميع فوق عرشه‏.‏ فهذه ثلاثة أمور في اسمه ‏[‏العلي‏]‏‏.‏
    وإثبات علوه علوه على ما سواه، وقدرته عليه وقهره يقتضي ربوبيته له، وخَلْقَه له، وذلك يستلزم ثبوت الكمال‏.‏ وعلوه عن الأمثال يقتضي أنه لا مثل له في صفات الكمال‏.‏
    وهذا وهذا يقتضي جميع ما يوصف به في الإثبات والنفي‏.‏ ففي الإثبات يوصف بصفات الكمال، وفي النفي ينزه عن النقص المناقض للكمال، وينزه عن أن يكون له مثل في صفات الكمال‏.‏ كما قد دلت على هذا وهذا سورة الإخلاص‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ‏"‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏
    وتعاليه عن الشركاء يقتضي اختصاصه بالإلهية، وأنه لا يستحق

    ج/ 16 ص -124- العبادة إلا هو وحده، كما قال‏:‏ ‏"قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 42‏]‏، أي‏:‏ وإن كانوا كما يقولون يشفعون عنده بغير إذنه ويقربونكم إليه بغير إذنه فهو الرب والإله دونهم، وكانوا يبتغون إليه سبيلا بالعبادة له والتقرب إليه‏.‏ هذا أصح القولين‏.‏ كما قال‏:‏ ‏"إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ‏"‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29، 30‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏"‏[‏المدثر‏:‏ 54، 55‏]‏، وقال‏:‏‏"أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏‏.‏
    ثم قال‏:‏
    ‏"سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 43‏]‏، فتعالى عن أن يكون معه إله غيره، أو أحد يشفع عنده إلا بإذنه، أو يتقرب إليه أحد إلا بإذنه‏.‏ فهذا هو الذى كانوا يقولون‏.‏
    ولم يكونوا يقولون‏:‏ إن آلهتهم تقدر أن تمانعه أو تغالبه‏.‏ بل هذا يلزم من فرض إله آخر يخلق كما يخلق، وإن كانوا هم لم يقولوا ذلك، كما قال‏:‏ ‏
    "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏‏.‏
    فقد تبين أن اسمه ‏[‏الأعلى‏]‏ يتضمن اتصافه بجميع صفات الكمال، وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص، وعن أن يكون له مثل، وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه‏.

    ج/ 16 ص -125-فصل
    والأمر بتسبيحه يقتضي أيضًا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له، فإن التسبيح يقتضي التنزيه والتعظيم، والتعظيم يستلزم إثبات المحامد التي يحمد عليها‏.‏ فيقتضي ذلك تنزيهه، وتحميده، وتكبيره، وتوحيده‏.‏
    قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، ثنا ابن نفيل الحرانى، ثنا النضر بن عربي، قال‏:‏ سأل رجل ميمون بن مهران ‏[‏هو أبو أيوب ميمون بن مهران الرقى، فقيه من القضاة، كان مولى لامرأة بالكوفة وأعتقته، فنشأ فيها ثم استوطن الرقة من بلاد الجزيرة الفراتية، فكان عالم الجزيرة وسيدها، واستعمله عمر بن عبد العزيز على خراجها وقضائها، وكان ثقة في الحديث كثير العبادة، توفي عام 711ه‏]‏ عن ‏"‏سبحان الله‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏اسم يعظم الله به ويحاشى به من السوء‏"‏‏.‏
    وقال‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأَشَجّ، ثنا حفص بن غِياث، عن حجاج عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏[‏سبحان‏]‏، قال‏:‏ تنزيه الله نفسه من السوء‏.‏ وعن الضحاك عن ابن عباس في قوله‏:‏
    "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏، قال‏:‏ عجب‏.‏ وعن أبي الأشهب، عن الحسن قال‏:‏ ‏[‏سبحان‏]‏‏:‏ اسم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه‏.‏
    وقد جاء عن غير واحد من السلف مثل قول ابن عباس‏:‏ أنه

    ج/ 16 ص -126- تنزيه نفسه من السوء‏.‏ وروي في ذلك حديث مرسل‏.‏ وهو يقتضي تنزيه نفسه من فعل السيئات، كما يقتضي تنزيهه عن الصفات المذمومة‏.‏
    ونفي النقائص يقتضي ثبوت صفات الكمال، وفيها التعظيم كما قال ميمون بن مِهْران‏:‏ ‏"‏اسم يعظم الله به ويحاشى به من السوء‏"‏‏.‏ وروى عبد بن حميد‏:‏ حدثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن مَوْهَب، عن موسى بن طلحة قال‏:‏ سئل النبي ﷺ عن التسبيح، فقال‏:‏
    ‏"‏إنزاهه عن السوء‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ حدثنا الضحاك بن مَخْلدَ، عن شبيب عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ سبحان الله، قال‏:‏ تنزيهه‏.‏
    حدثنا كثير بن هشام، ثنا جعفر بن بُرْقان، ثنا يزيد بن الأصم قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فقال‏:‏ لا إله إلا الله، نعرفها أنه لا إله غيره، والحمد لله، نعرفها أن النعم كلها منه وهو المحمود عليها، والله أكبر، نعرفها أنه لا شيء أكبر منه، فما سبحان الله‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ وما ينكر منها‏؟‏ هي كلمة رضيها الله لنفسه، وأمر بها ملائكته، وفزع إليها الأخيار من خلقه‏.‏

    ج/ 16 ص -127-فصل
    قوله‏:‏ ‏"
    الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ العطف يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما ذكر وأن بينهما مغايرة إما في الذات وإما في الصفات‏.‏
    وهو في الذات كثير، كقوله‏:‏
    ‏"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا‏"‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وأما في الصفات فمثل هذه الآية‏.‏فإن الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى، لكن هذا الاسم والصفة ليس هو ذاك الاسم والصفة،ومثله قوله‏:‏‏"هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏3‏]‏،ومثله قوله‏:‏‏"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏"‏ إلى قوله‏:‏‏"والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏3، 4‏]‏،وقوله‏:‏‏"لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏"‏[‏النساء‏:‏162‏]‏، وقوله‏:‏‏"قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏1 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ‏"‏ الآيات ‏[‏المعارج‏:‏22 24‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -128-وقوله‏:‏ ‏"إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏"‏ الآيات ‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏، فإنه من صدق وصبر ولم يسلم ولم يؤمن لم يكن ممن أعد الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا‏.‏
    وكثيرًا ما تأتى الصفات بلا عطف، كقوله‏:‏ ‏
    "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ‏"‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 23‏]‏، وقوله‏:‏‏"قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ‏"‏ ‏[‏الناس‏:‏ 1 3‏]‏‏.‏
    وقد تجيء خبرًا بعد خبر، كقوله‏
    :‏ ‏"وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ‏"‏[‏البروج‏:‏ 14 16‏]‏‏.‏ ولو كان ‏[‏فعال‏]‏ صفة، لكان معرفًا، بل هو خبر بعد خبر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏، خبر بعد خبر، لكن بالعطف بكل من الصفات‏.‏
    وأخبار المبتدأ قد تجيء بعطف وبغير عطف‏.‏ وإذا ذكر بالعطف كان كل اسم مستقلا بالذكر، وبلا عطف يكون الثاني من تمام الأول بمعنى‏.‏ ومع العطف لا تكون الصفات إلا للمدح والثناء، أو للمدح، وأما بلا عطف فهو في النكرات للتمييز، وفي المعارف قد يكون للتوضيح‏.‏

    ج/ 16 ص -129-و‏"الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2 - 4‏]‏، وُصِفَ بكل صفة من هذه الصفات، ومُدِح بها، وأُثْنِىَ عليه بها‏.‏ وكانت كل صفة من هذه الصفات مستوجبة لذلك‏.‏
    فصل
    قال تعالى‏:‏ ‏
    "الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏، فأطلق الخلق والتسوية ولم يخص بذلك الإنسان، كما أطلق قوله بعد ‏"وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏ لم يقيده‏.‏ فكان هذا المطلق لا يمنع شموله لشيء من المخلوقات‏.‏ وقد بين موسى عليه السلام شموله في قوله‏:‏ ‏"رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏
    وقد ذكر المقيد بالإنسان في قوله‏:‏
    ‏"يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ‏"‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏
    وقد ذكر المطلق والمقيد في أول ما نزل من القرآن، وهو قوله‏:‏
    "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏"[‏العلق‏:‏ 1 - 5‏]‏‏.‏
    وفي جميع هذه الآيات مطلقها ومقيدها والجامع بين المطلق والمقيد قد ذكر خلقه، وذكر هدايته وتعليمه بعد الخلق، كما قال في هذه السورة‏:‏
    ‏"الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 2، 3‏]‏ ‏.‏

    ج/ 16 ص -130- لأن جميع المخلوقات خلقت لغاية مقصودة بها، فلابد أن تهدى إلى تلك الغاية التي خلقت لها‏.‏ فلا تتم مصلحتها وما أريدت له إلا بهدايتها لغاياتها‏.‏
    وهذا مما يبين أن الله خلق الأشياء لحكمة وغاية تصل إليها، كما قال ذلك السلف وجمهور المسلمين وجمهور العقلاء‏.‏ وقالت طائفة كجهم وأتباعه‏:‏ إنه لم يخلق شيئًا لشيء، ووافقه أبو الحسن الأشعرى ومن اتبعه من الفقهاء أتباع الأئمة‏.‏ وهم يثبتون أنه مريد، وينكرون أن تكون له حكمة يريدها‏.‏
    وطائفة من المتفلسفة يثبتون عنايته وحكمته، وينكرون إرادته‏.‏ وكلاهما تناقض‏.‏ وقد بُسِطَ الكلام على فساد قول هؤلاء في غير هذا الموضع، وأن منتهاهم جحد الحقائق‏.‏
    فإن هذا يقول‏:‏ لو كان له حكمة يفعل لأجلها لكان يجب أن يريد الحكمة وينتفع بها، وهو منزه عن ذلك‏.‏ وذاك يقول‏:‏ لو كان له إرادة لكان يفعل لجر منفعة؛ فإن الإرادة لا تعقل إلا كذلك‏.‏ وأرسطو وأتباعه يقولون‏:‏ لو فعل شيئًا لكان الفعل لغرض، وهو منزه عن ذلك‏.‏

    ج/ 16 ص -131- فيقال لهؤلاء‏:‏ هذه الحوادث المشهودة، ألها محدث أم لا‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ لا، فهو غاية المكابرة‏.‏ وإذا جوزوا حدوث الحوادث بلا محدث فتجويزها بمحدث لا إرادة له أولى‏.‏
    وإن قالوا‏:‏ لها محدث، ثبت الفاعل‏.‏ وإذا ثبت الخالق المحدث فإما أن يفعل بإرادة أو بغير إرادة‏.‏ فإن قالوا‏:‏ يفعل بغير إرادة كان ذلك أيضًا مكابرة‏.‏ فإن كل حركة في العالم إنما صدرت عن إرادة‏.‏
    فإن الحركات إما طبعية، وإما قَسْريَّة،وإما إرادية؛ لأن مبدأ الحركة إما أن يكون من المتحرك، أو من سبب خارج‏.‏ وما كان منها فإما أن يكون مع الشعور، أو بدون الشعور‏.‏ فما كان سببه من خارج فهو القسرى، وما كان سببه منها بلا شعور فهو الطبعي، وما كان مع الشعور فهو الإرادى‏.‏ فالقسري تابع للقاسر، والذي يتحرك بطبعه، كالماء والهواء والأرض، هو ساكن في مركزه، لكن إذا خرج عن مركزه قسرًا طلب العودة إلى مركزه، فأصل حركته القسر‏.‏ولم تبق حركة أصلية إلا الإرادية‏.‏ فكل حركة في العالم فهي عن إرادة‏.‏
    فكيف تكون جميع الحوادث والحركات بلا إرادة‏؟‏
    وأيضًا، فإذا جوزوا أن تحدث الحوادث العظيمة عن فاعل غير مريد فجواز ذلك عن فاعل مريد أولى‏.‏

    ج/ 16 ص -132- وإذا ثبت أنه مريد قيل‏:‏ إما أن يكون أرادها لحكمة،وإما أن يكون أرادها لغير حكمة‏.‏ فإن قالوا لغير حكمة، كان مكابرة‏.‏ فإن الإرادة لا تعقل إلا إذا كان المريد قد فعل لحكمة يقصدها بالفعل‏.‏
    وأيضًا، فإذا جوزوا أن يكون فاعلًا مريدًا بلا حكمة فَكَوْنُه فاعلًا مريدًا لحكمة أولى بالجواز‏.‏
    وأما قولهم‏:‏ هذا لا يعقل إلا في حق من ينتفع، وذلك يوجب الحاجة، والله منزه عن ذلك‏.‏ فإن أرادوا أنه يوجب احتياجه إلى غيره أو شيء من مخلوقاته فهو ممنوع وباطل، فإن كل ما سواه محتاج إليه من كل وجه‏.‏وهو الصمد الغنى عن كل ما سواه وكل ما سواه محتاج إليه،وهو القيوم القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه‏.‏ فكيف يكون محتاجًا إلى غيره‏؟‏
    وإن أرادوا أنه تحصل له بالخلق حكمة هي أيضًا حاصلة بمشيئته فهذا لا محذور فيه، بل هو الحق‏.‏
    وإذا قالوا‏:‏ الحكمة هي اللذة، قيل‏:‏ لفظ ‏[‏اللذة‏]‏ لم يرد به الشرع، وهو موهم ومجمل‏.‏ لكن جاء الشرع بأنه ‏[‏يحب‏]‏ ، و ‏[‏يرضى‏]‏

    ج/ 16 ص -133- ، و‏[‏يفرح بتوبة التائبين‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ فإذا أريد ما دل عليه الشرع والعقل فهو حق‏.‏
    وإن قالوا‏:‏ الحكمة إما أن تراد لنفسها أو لحكمة، قيل‏:‏ المرادات نوعان ما يراد لنفسه، وما يراد لغيره‏.‏ وقد يكون الشيء غاية وحكمة بالنسبة إلى مخلوق وهو مخلوق لحكمة أخرى‏.‏ فلابد أن ينتهي الأمر إلى حكمة يريدها الفاعل لذاتها‏.‏
    والمعتزلة ومن وافقهم، كابن عقيل وغيره تثبت حكمة لا تعود إلى ذاته‏.‏ وأما السلف؛ فإنهم يثبتون حكمة تعود إلىه، كما قد بين في غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود هنا ذكر قوله تعالى‏:‏
    ‏"الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏2، 3‏]‏ والتسوية‏:‏ جعل الشيئين سواء، كما قال‏:‏ ‏"وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ‏"‏[‏فاطر‏:‏ 19‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏، و ‏"سَوَاء‏"‏ وسط؛ لأنه معتدل بين الجوانب‏.‏
    وذلك أنه لابد في الخلق والأمر من العدل‏.‏ فلابد من التسوية بين المتماثلين، فإذا فضل أحدهما فسد المصنوع، كما في مصنوعات العباد إذا بنوا بنيانًا فلابد من التسوية بين الحيطان، إذ لو رفع حائط على

    ج/ 16 ص -134- حائط رفعًا كثيرًا فسد‏.‏ ولابد من التسوية بين جذوع السقف، فلو كان بعض الجذوع قصيرًا عن الغاية وبعضها فوق الغاية فسد‏.‏ وكذلك إذا بنى صف فوق صف لابد من التسوية بين الصفوف، وكذلك الدرج المبنية‏.‏ وكذلك إذا صنع لسقي الماء جداول ومساكب فلابد من العدل والتسوية فيها‏.‏ وكذلك إذا صنعت ملابس للآدميين فلابد من أن تكون مقدرة على أبدانهم لا تزيد ولا تنقص‏.‏ وكذلك ما يصنع من الطعام لابد أن تكون أخلاطه على وجه الاعتدال، والنار التي تطبخه كذلك‏.‏ وكذلك السفن المصنوعة‏.‏
    ولهذا قال الله لداود‏:‏ ‏"وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ‏"‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 11‏]‏، أي‏:‏ لا تدق المسمار فيقلق، ولا تغلظه فيفصم، واجعله بقدر‏.‏
    فإذا كان هذا في مصنوعات العباد وهي جزء من مصنوعات الرب فكيف بمخلوقاته العظيمة التي لا صنع فيها للعباد، كخلق الإنسان وسائر البهائم، وخلق النبات، وخلق السموات والأرض والملائكة‏.‏
    فالفلك الذي خَلَقه وجعله مستديرًا ما له من فروج، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسًِا وَهُوَ حَسِيرٌ‏"‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3، 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏

    ج/ 16 ص -135- ‏"أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏"‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏‏.‏
    فهو سبحانه سواها كما سوى الشمس والقمر وغير ذلك من المخلوقات، فعدل بين أجزائها‏.‏ ولو كان أحد جانبى السماء داخلًا أو خارجًا لكان فيها فروج، وهي الفتوق والشقوق، ولم يكن سواها، كمن بنى قبة ولم يسوها‏.‏ وكذلك لو جعل أحد جانبيها أطول أو أنقص، ونحو ذلك‏.‏
    فالعدل والتسوية لازم لجميع المخلوقات والمصنوعات‏.‏ فمتى لم تصنع بالعدل والتسوية بين المتماثلين وقع فيها الفساد‏.‏
    وهو سبحانه
    ‏"الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏‏.‏ قال أبو العالية في قوله‏:‏ ‏"خَلَقَ فَسَوَّى‏"‏ قال‏:‏ سوى خلقهن وهذا كما قال تعالى‏:‏ ‏"فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.‏
    فصل
    ثم إذا خلق المخلوق فسوى، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد‏.‏ فلابد أن يهدى بعد ذلك إلى ما خلق له‏.‏

    ج/ 16 ص -136- وتلك الغاية لابد أن تكون معلومة للخالق‏.‏ فإن العلة الغائية هي أول في العلم والإرادة، وهي آخر في الوجود والحصول‏.‏ ولهذا كان الخالق لابد أن يعلم ما خلق‏.‏ فإنه قد أراده، وأراد الغاية التي خلقه لها، والإرادة مستلزمة للعلم‏.‏ فيمتنع أن يريد الحى ما لا شعور له به‏.‏
    والصانع إذا أراد أن يصنع شيئًا فقد عَلِمه وأراده، وقدر في نفسه ما يصنعه، والغاية التي ينتهي إليها، وما الذي يوصله إلى تلك الغاية‏.‏
    والله سبحانه قدر وكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ أنه قال‏
    :‏ ‏"‏قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء‏"‏‏.‏
    وفي البخارى عن عمران بن حُصَيْن، عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"‏كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏ثم خلق السموات والأرض‏"‏‏.‏

    ج/ 16 ص -137- فقد قدر سبحانه ما يريد أن يخلقه من هذا العالم حين كان عرشه على الماء إلى يوم القيامة، كما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏أول ما خلق الله القلم، فقال‏:‏ اكتب‏.‏ فقال‏:‏ ما أكتب‏؟‏ فقال‏:‏ اكتب ما يكون إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏
    وأحاديث تقديره سبحانه وكتابته لما يريد أن يخلقه كثيرة جدًا‏.‏
    روى ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه سئل عن قوله‏:‏
    ‏"إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏"‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏، فقال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله قدر المقادير بقدرته ودبر الأمور بحكمته، وعلم ما العباد صائرون إليه، وما هو خالق وكائن من خلقه، فخلق الله لذلك جنة ونارًا، فجعل الجنة لأوليائه وعرفهم وأحبهم وتولاهم ووفقهم وعصمهم، وترك أهل النار استحوذ عليهم إبليس وأضلهم وأزلهم‏.‏
    فخلق لكل شيء ما يشاكله في خلقه ما يصلحه من رزقه في بر أو في بحر فجعل للبعير خلقًا لا يصلح شيء من خلقه على غيره من الدواب‏.‏ وكذلك كل دابة خلق الله له منها ما يشاكلها في خلقها، فخلقه مؤتلف لما خلقه له غير مختلف‏.‏
    قال ابن أبي حاتم‏:‏ ثنا أبي، ثنا يحيى بن زكريا بن مِهْرَان القزاز ،

    ج/ 16 ص -138- نا حبان بن عبيد الله قال‏:‏ سألت الضحاك عن هذه الآية ‏"إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏"‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏، قال الضحاك‏:‏ قال ابن عباس، فذكره‏.‏
    وقال‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، ثنا طلحة بن سِنان، عن عاصم عن الحسن قال‏:‏ من كذب بالقدر فقد كذب بالحق‏.‏ خلق الله خلقًا، وأجل أجلًا، وقدر رزقًا، وقدر مصيبة، وقدر بلاء، وقدر عافية‏.‏ فمن كفر بالقدر فقد كفر بالقرآن‏.‏
    وقال‏:‏ حدثنا الحسن بن عرفة، ثنا مروان بن شُجاع الجزرى، عن عبد الملك بن جُرَيْح، عن عطاء بن أبي رباح قال‏:‏ أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له‏:‏ قد تكلم في القدر‏.‏ فقال‏:‏ أو قد فعلوها‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم‏:‏ ‏"ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏"‏[‏القمر‏:‏ 48، 49‏]‏ أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم‏.‏ إن رأيت أحدًا منهم فقأت عينيه بأصبعى هاتين‏.‏
    وقال أيضًا‏:‏ حدثنا على بن الحسين بن الجنيد، حدثنا سهل الخياط، ثنا أبو صالح الحُدَّانى، نا حبان بن عبيد الله قال‏:‏ سألت

    ج/ 16 ص -139- الضحاك عن قوله‏:‏ ‏"مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏"‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏‏.‏ قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله خلق العرش فاستوى عليه، ثم خلق القلم فأمره ليجرى بإذنه وعظم القلم كقدر ما بين السماء والأرض فقال القلم‏:‏ بما يارب أجرى‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏بما أنا خالق وكائن في خلقى ‏.‏ من قَطْر أو نبات أو نفس أو أثر يعنى به العمل أو رزق أو أجل‏"‏‏.‏ فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ فأثبته الله في الكتاب المكنون عنده تحت العرش‏.‏
    فصل
    فقوله سبحانه ‏:‏ ‏
    "وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏، يتضمن أنه قَدَّر ما سيكون للمخلوقات، وهداها إليه‏.‏ علم ما يحتاج إليه الناس والدواب من الرزق، فخلق ذلك الرزق وسواه، وخلق الحيوان وسواه وهداه إلى ذلك الرزق‏.‏ وهدى غيره من الأحياء أن يسوق إليه ذلك الرزق‏.‏
    وخلق الأرض، وقَدَّر حاجتها إلى المطر، وقَدَّر السحاب وما يحمله من المطر‏.‏ وخلق ملائكة هداهم ليسوقوا ذلك السحاب إلى تلك الأرض

    ج/ 16 ص -140- فيمطر المطر الذي قدره‏.‏ وقَدَّر ما نبت بها من الرزق، وقَدَّر حاجة العباد إلى ذلك الرزق‏.‏ وهداهم إلى ذلك الرزق، وهدى من يسوق ذلك الرزق إليهم‏.‏
    وقد ذكر المفسرون أنواعًا من تقديره وهدايته‏:‏ فروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما، بالإسناد الثابت عن مجاهد في قوله‏:
    ‏ ‏"قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏ ، قال‏:‏ الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها‏.‏
    وكذلك رواه عبد بن حميد في تفسيره، قال‏:‏ هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراتعها‏.‏
    وقال‏:‏ حدثنا يونس، عن شيبان عن قتادة‏:
    ‏ ‏"وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏ ، قال‏:‏ لا والله‏!‏ ما أكره الله عبدًا على معصية قط ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره، ولكن رضى لكم الطاعة فأمركم بها، ونهاكم عن معصيته‏.‏
    قلت‏:‏ قتادة ذكر هذا عند هذه الآية ليبين أن الله قدر ما قدره من السعادة والشقاوة، كما قال الحسن وقتادة، وغيرهما من أئمة المسلمين، فإنهم لم يكونوا متنازعين‏.‏ فما سبق من سبق تقدير الله، وإنما كان نزاع بعضهم في الإرادة وخلق الأفعال ‏.‏

    ج/ 16 ص -141- وإنما نازع في التقدير السابق والكتاب أولئك الذين تبرأ منهم الصحابة كابن عمر، وابن عباس، وغيرهما‏.‏
    وذكر قتادة أن الله لم يكره أحدًا على معصية‏.‏ وهذا صحيح، فإن أهل السنة المثبتين للقدر متفقون على أن الله لا يكره أحدًا على معصية كما يكره الوالى والقاضى وغيرهما للمخلوق على خلاف مراده يكرهونه بالعقوبة والوعيد‏.‏ بل هو سبحانه يخلق إرادة العبد للعمل وقدرته وعمله، وهو خالق كل شيء‏.‏
    وهذا الذي قاله قتادة قد يظن فيه أنه من قول القَدَريَّة، وأنه لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر، حتى قيل‏:‏ إن مالكا كره لمعمر أن يروى عنه التفسير لكونه اتهم بالقدر‏.‏
    وهذا القول حق، ولم يعرف أحد من السلف قال‏:‏ إن الله أكره أحدًا على معصية‏.‏
    بل أبلغ من ذلك أن لفظ ‏[‏الجبر‏]‏ منعوا من إطلاقه، كالأوزاعى ‏.‏ والثورى، والزبيدى، وعبد الرحمن بن مهدى، وأحمد بن حنبل، وغيرهم‏.‏ نهوا عن أن يقال‏:‏ إن الله جبر العباد، وقالوا‏:‏ إن هذا بدعة في الشرع، وهو مفهم للمعنى الفاسد‏.‏

    ج/ 16 ص -142- قال الأوزاعى وغيره‏:‏ إن السُّنَّة جاءت ب‏[‏جبل‏]‏، ولم تأت ب‏[‏جبر‏]‏، فإن النبي ﷺ قال لأشج عبد القيس‏:‏ ‏"‏إن فيك لخُلقُين يحبهما الله، الحلم والأناة‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ أخلقين تَخَلَّقتُ بهما أم خلقين جُبِلْتُ عليهما‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بل خلقين جبلت عليهما‏"‏‏.‏ قال‏:‏ الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله‏.‏
    وقال الزُبَيْدي وغيره‏:‏ إنما يجبر العاجز يعنى الجبر الذي هو بمعنى الإكراه كما تجبر المرأة على النكاح، والله أجل وأعظم من أن يجبر أحدًا يعنى أنه يخلق إرادة العبد فلا يحتاج إلى إجباره‏.‏
    فالزُبَيدي وطائفة نفوا ‏[‏الجبر‏]‏ وكان مفهومه عندهم هذا‏.‏
    وأما الأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، فكرهوا أن يقال‏:‏ ‏[‏جبر‏]‏، وأن يقال‏:‏ ‏[‏لم يجبر‏]‏؛ لأن ‏[‏الجبر‏]‏ قد يراد به الإكراه، والله لا يكره أحدًا‏.‏
    وقد يراد به أنه خالق الإرادة، كما قال محمد بن كعب‏:‏ الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراد‏.‏ و‏[‏الجبر‏]‏ بهذا المعنى صحيح‏.‏
    وقول مجاهد في قوله‏:‏
    ‏"قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏ هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، يبين أن هذا عنده مما دخل في قوله‏:‏ ‏"قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏،

    ج/ 16 ص -143- أي‏:‏ هدى السعداء إلى السعادة التي قدرها، وهدى الأشقياء إلى الشقاء الذي قدره‏.‏
    وهكذا قال مجاهد في قوله‏:
    ‏‏"إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ‏"‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏، قال‏:‏ السعادة والشقاوة‏.‏
    وقال عكرمة‏:‏ سبيل الهدى‏.‏ رواهما عبد بن حميد‏.‏
    وكذلك روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏
    "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏"‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏، قال‏:‏ الشقاوة والسعادة‏.‏
    وقد قال هو وجماهير السلف‏:‏
    ‏"وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏"‏ ، أي‏:‏ الخير والشر‏.‏ رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود‏.‏ ثم قال‏:‏ وروى عن على بن أبي طالب، وابن عباس في إحدى‏.‏‏.‏‏.‏ وشقيق بن سلمة، وأبي صالح، ومجاهد، والحسن، ومحمد بن كعب، وعكرمة، وشُرَحْبيل بن سعيد، وابن سِنَان الرازى، والضحاك، وعَطَاء الخُرَاسَانى، وعمرو ابن قيس الملاُئى، نحو ذلك‏.‏
    وروى عن محمد بن كعب القُرَظى قال‏:‏ الحق والباطل‏.‏

    ج/ 16 ص -144- وهذا كلام مجمل فيه ما هو متفق عليه، وهو أنه يبين للناس ما أرسله من الرسل، ونصبه من الدلائل والآيات، وأعطاهم من العقول طريق الخير والشر كما في قوله‏:‏ ‏"وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏
    وأما إدخال الهدى الذي هو الإلهام في ذلك، بمعنى أنه هدى المؤمن إلى أن يؤمن ويعمل صالحًا إلى أن يسعد بذلك،وهدى الكافر إلى ما يعمله إلى أن يشقى بذلك، فهذا منهم من يدخله في الآية، كمجاهد وغيره ويدخله في قوله‏:‏ ‏
    "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ‏"‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ ‏.‏وعكرمة وغيره يخرجون ذلك عن معنى هذه الآية وإن كانوا مقرين بالقدر‏.‏
    ومن قال‏:‏ ‏"‏هَدَى‏"‏، بمعنى بَيَّن فقط، فقد هدى كل عبد إلى نُجُد الخير والشر جميعًا، أي بَيَّن له طريق الخير والشر‏.‏
    ومن أدخل في ذلك السعادة والشقاوة يقول‏:‏ في هذا تقسيم، أى‏:‏ هذه الهداية عامة مشتركة، وخص المؤمن بهداية إلى نَجْد الخير، وخص الكافر بهداية إلى نَجْد الشر‏.‏
    ومن لم يدخل ذلك في الآية قد يحتجون بحديث من مراسيل الحسن قال‏:‏ ذُكِر لنا أن رسول الله ﷺ كان يقول‏:
    ‏ ‏"‏يأيها الناس، إنما هما النّجْدان؛ نجد الخير، ونجد الشر‏.‏ فما يجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير‏؟‏‏"‏‏.‏

    ج/ 16 ص -145- ويحتجون بأن إلهام الفاجر طريق الفجور لم يسمه هدىً، بل سماه ضلالا، والله امتن بأنه هُدًى‏.‏
    وقد يجيب الآخر بأن يقول‏:‏ هو لا يدخل في الهدى المطلق، لكن يدخل في الهدى المقيد، كقوله‏:
    ‏ ‏"فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏"‏[‏الصافات‏:‏ 23‏]‏، وكما في لفظ البشارة، قال‏:‏ ‏"فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏، ولفظ الإيمان فقال‏:‏ ‏"يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏"‏[‏النساء‏:‏ 51‏]‏‏.‏
    وهذان القولان في قوله‏:‏
    ‏"فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏"‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏ قيل‏:‏ هو البيان العام، وقيل‏:‏ بل ألهم الفاجر الفجور والتقى التقوى‏.‏
    وهذا في تلك الآية أظهر، لأن الإلهام استعماله مشهور في إلهام القلوب، لا في التبين الظاهر الذي تقوم به الحجة‏.‏
    وقد علم النبي ﷺ حصينًا الخُزَاعى ‏[‏هو حصين بن عبيد، والد عمران بن حصين الخزاعى، روى عنه ابنه عمران بن حصين حديثًا مرفوعًا في إسلامه، وفي الدعاء‏]‏ لما أسلم أن يقول‏:‏ ‏"‏اللهم، ألهمني رشدي، وقني شر نفسي‏"‏‏.‏ ولو كان الإلهام بمعنى البيان الظاهرلكان هذا حاصلا للمسلم والكافر‏.‏
    قال ابن عطية‏:‏ و‏"سوّى‏"‏ معناه عدل وأتقن حتى صارت الأمور مستوية، دالة على قدرته ووحدانيته‏.‏
    وقرأ جمهور القراء ‏"قدَّر‏"‏ بتشديد الدال، فيحتمل أن يكون

    ج/ 16 ص -146- من القَدَر والقضاء، ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء‏.‏
    قلت‏:‏ هما متلازمان؛ لأن التقدير الأول يسمى تقديرًا؛ لأن ما يجرى بعد ذلك يجرى على قدره، فهو موازن له ومعادل له‏.‏ قال‏:‏ وقرأ الكِسَائي وحده بتخفيف الدال، فيحتمل أن يكون بمعنى القدرة‏.‏ ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة‏.‏
    قلت‏:‏ وهذا قول الأكثرين؛ أنهما بمعنى واحد‏.‏
    قال ابن عطية‏:‏ وقوله ‏"فهدى‏"‏ ، عام لوجوه الهدايات في الإنسان والحيوان‏.‏ وقد خصص بعض المفسرين أشياء من الهدايات، فقال الفرَّاء‏:‏ معناه هدى وأضل، واكتفي بالواحد لدلالتها على الأخرى‏.‏ قال، وقال مقاتل، والكلبي‏:‏ هدى إلى وطء الذكور للإناث‏.‏ وقيل‏:‏ هدى المولود عند وضعه إلى مَصِّ الثدي‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هدى الناس للخير والشر، والبهائم للمراتع‏.‏
    قال ابن عطية ‏:‏ وهذه الأقوال مثالات ، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كلهداية‏.‏
    وقد ذكر أبو الفَرَجِ بن الجوزي هذه الأقوال وغيرها، فذكر

    ج/ 16 ص -147- سبعة أقوال‏:‏ قَدَّر السعادة والشقاوة، وهدى للرشد والضلالة، قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه، قاله عطاء‏.‏ وقيل‏:‏ قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج، قاله السدى‏.‏ وقيل‏:‏ قدرهم ذكرانًا وإناثًا، وهدى الذكور لإتيان الإناث، قاله مقاتل وقيل‏:‏ قدر فهدى وأضل، فحذف ‏[‏وأضل‏]‏؛ لأن في الكلام ما يدل عليه، حكاه الزَّجْاج‏.‏ وقيل‏:‏ قدر الأرزاق وهدى إلى طلبها؛ وقيل، قدر الذنوب فهدى إلى التوبة، حكاهما الثعلبي‏.‏
    قلت‏:‏ القول الذي حكاه الزجاج هو قول الفَرَّاء، وهو من جنس قوله‏:‏ إن نفعت وإن لم تنفع، ومن جنس قوله‏:‏ سرابيل تقيكم الحر والبرد‏.‏ وقد تقدم ضعف مثل هذا؛ ولهذا لم يقله أحد من المفسرين‏.‏
    والأقوال الصحيحة هي من باب المثالات، كما قال ابن عطية‏.‏
    وهكذا كثير من تفسير السلف؛ يذكرون من النوع مثالا لينبهوا به على غيره، أو لحاجة المستمع إلى معرفته، أو لكونه هو الذي يعرفه، كما يذكرون مثل ذلك في مواضع كثيرة، كقوله‏:‏ ‏
    "سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏"‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏"وَآخَرِينَ مِنْهُمْ‏"‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏‏"فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ‏"‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -148- وكذلك تفسير‏:‏ ‏"وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ‏"‏[‏الفجر‏:‏ 3‏]‏، و ‏"وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ‏"‏[‏البروج‏:‏ 3‏]‏، وغير ذلك‏.‏ وقوله‏:‏‏"وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏، وأمثال ذلك كثير من تفسيرهم هو من باب المثال‏.‏
    ومن ذلك قولهم‏:‏ إن هذه الآية نزلت في فلان وفلان، فبهذا يمثل بمن نزلت فيه نزلت فيه أولًا وكان سبب نزولها لا يريدون به أنها آية مختصة به، كآية اللعان، وآية القذف، وآية المحاربة، ونحو ذلك‏.‏ لا يقول مسلم إنها مختصة بمن كان نزولها بسببه‏.‏
    واللفظ العام وإن قال طائفة‏:‏ إنه يقصر على سببه فمرادهم على النوع الذي هو سببه لم يريدوا بذلك أنه يقتصر على شخص واحد من ذلك النوع‏.‏
    فلا يقول مسلم‏:‏ إن آية الظهار لم يدخل فيها إلا أوس بن الصامت، وآية اللعان لم يدخل فيها إلا عاصم بن عدى، أو هلال بن أمية‏:‏ وأن ذم الكفار لم يدخل فيه إلا كفار قريش؛ ونحو ذلك، مما لا يقوله مسلم ولا عاقل‏.‏
    فإن محمدًا ﷺ قد عرف بالاضطرار من دينه أنه مبعوث إلى جميع الإنس والجن، والله تعالى خاطب بالقرآن جميع

    ج/ 16 ص -149- الثقلين، كما قال‏:‏‏"لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏19‏]‏‏.‏ فكل من بلغه القرآن من إنسى وجنى فقد أنذره الرسول به‏.‏ والإنذار هو‏:‏ الإعلام بالمخَوف، والمخوف‏:‏ هو العذاب ينزل بمن عصى أمره ونهيه‏.‏
    فقد أعلم كل من وصل إليه القرآن أنه إن لم يطعه وإلا عذبه الله تعالى، وأنه إن أطاعه أكرمه الله تعالى‏.‏
    وهو قد مات، فإنما طاعته باتباع ما في القرآن مما أوجبه الله وحرمه، وكذلك ما أوجبه الرسول وحرمه بسنته‏.‏ فإن القرآن قد بين وجوب طاعته، وبيَّن أن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة، وقال لأزواج نبيه‏:‏ ‏
    "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ‏"‏[‏الأحزاب‏:‏ 34‏]‏‏.‏
    فصل
    ثم قال‏:‏
    ‏"وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏
    هو سبحانه لما ذكر قوله‏:‏ ‏"
    قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏، دخل في ذلك ما قدره من أرزاق العباد والبهائم وهداهم إليها، فهدى من يأتى بها إليهم‏.‏ وذلك من تمام إنعامه على عباده، كما جاء في الأثر؛ إن الله يقول ‏:‏

    ج/ 16 ص -150- ‏"‏ إني والجن والإنس لفي نبأ عظيم؛ أخلق ويعبدون غيري، وأرزق ويشكرون سواي‏"‏‏.‏
    وهذا المعنى قد روى في قوله‏:‏ ‏
    "وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏"‏[‏الواقعة‏:‏82‏]‏، أي‏:‏ تجعلون شكركم وشكر ربكم التكذيب بإنعام الله، وإضافة الرزق إلى غيره كالأنواء، كما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال‏:‏ مُطِرَ الناس على عهد النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر قالوا‏:‏ هذه رحمة الله، وقال بعضهم‏:‏ لقد صدق نوء كذا وكذا‏"‏، قال‏:‏ فنزلت هذه الآية ‏"فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ‏"‏ حتى بلغ ‏"وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏"‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75 - 82‏]‏‏.‏
    وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين؛ ينزل الله الغيث فيقولون‏:‏ الكوكب كذا وكذا ‏"‏ ‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏بكوكب كذا وكذا‏"‏‏.‏
    وروى ابن المنذر في تفسيره‏:‏ ثنا محمد بن على يعني الصائغ ثنا سعيد هو ابن منصور ثنا هُشَيْم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ ‏"‏وتجعلون شكركم أنكم تكذبون‏"‏ ،

    ج/ 16 ص -151- يعني‏:‏ الأنواء‏.‏ وما مطر قوم إلا أصبح بعضهم كافرًا، وكانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله‏:‏ ‏"وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏"‏ ‏[‏الواقعة‏:‏28‏]‏‏.‏
    وروى ابن أبي حاتم، عن عطاء الخُرَاسَانى، عن عِكْرمة، في قول الله‏:‏
    ‏"وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ‏"‏ ، قال‏:‏ تجعلون رزقكم من عند غير الله تكذيبًا، وشكرًا لغيره‏.‏
    لكن قوله‏:‏
    ‏"وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى‏"‏[‏الأعلى‏:‏4‏]‏، خص به إخراج المرعى، وهو ما ترعاه الدواب، وذكر أنه جعله غثاء أحوى، وهذا فيه ذكر أقوات البهائم، لكن أقوات الآدميين أجل من ذلك، وقد دخلت هي وأقوات البهائم في قوله‏:‏ ‏"قَدَّرَ فَهَدَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 3‏]‏‏.‏
    وأيضًا، فالذي يصير غثاء أحوى لم تقتت به البهائم، وإنما تقتات به قبل ذلك‏.‏ فهو والله أعلم خص هذا بالذكر لأنه مثل الحياة الدنيا‏.‏
    إذ كانت هذه السورة تضمنت أصول الإيمان؛ الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالرسل والكتب التي جاؤوا بها، وذلك يتضمن الإيمان بالملائكة‏.‏ وفيها العمل الصالح الذي ينفع في الآخرة، والفاسد الذي يضر فيها‏.‏

    ج/ 16 ص -152- فذكر سبحانه المرعى ما ذكره من الخلق والهدى ليبين مآل بعض المخلوقات، وأن الدنيا، هذا مثلها‏.‏
    وقد ذكر الله ذلك في الكهف، ويونس، والحديد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"
    وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24، 25‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏"‏[‏الحديد‏:‏ 20‏]‏‏.‏
    وقد جعل إهلاك المهلكين حصادًا لهم، فقال‏:‏

    ج/ 16 ص -153-"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 100‏]‏‏.‏
    وقال‏:‏ ‏"
    لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏"‏[‏التين‏:‏ 4 - 6‏]‏‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏"
    وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 4، 5‏]‏، هو مثل للحياة الدنيا، وعاقبة الكفار، ومن اغتر بالدنيا، فإنهم يكونون في نعيم وزينة وسعادة، ثم يصيرون إلى شقاء في الدنيا والآخرة، كالمرعى الذي جعله غثاء أحوى‏.
    فصل
    قوله‏:‏ ‏"
    فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9 - 12‏]‏‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏
    "إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏ ، كقوله‏:‏‏"فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏الذاريات‏:‏55‏]‏‏. ‏
    وقوله‏:‏‏
    "إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏، و‏[‏إن‏]‏ هي الشرطية‏.‏

    ج/ 16 ص -154-وحكى الماوردي ‏[‏هو أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردى أقضى قضاة عصره، ولد بالبصرة عام 463ه، وانتقل إلى بغداد، وولى القضاء في أيام القائم بأمر الله العباسى، وكان يميل إلى مذهب الاعتزال، ووفاته ببغداد عام 054ه، من كتبه‏:‏ ‏[‏أدب الدنيا والدين‏]‏ و ‏[‏الأحكام السلطانية‏]‏ وغيرها‏]‏ أنها بمعنى ‏[‏ما‏]‏‏.‏ وهذه تكون ‏[‏ما‏]‏ المصدرية، وهي بمعنى الظرف، أي‏:‏ ذكر ما نفعت، ما دامت تنفع‏.‏ ومعناها قريب من معنى الشرطية‏.‏
    وأما إن ظن ظان أنها نافية فهذا غلط بَيِّن‏.‏ فإن الله لا ينفي نفع الذكرى مطلقًا وهو القائل‏:‏
    ‏"فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54، 55‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏"الْمُؤْمِنِينَ‏"‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏
    وعن‏.‏‏.‏‏.‏ ‏
    "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏ ‏:‏ إن قبلت الذكرى‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ فذكر وقد نفعت الذكرى‏.‏
    وقيل‏:‏ ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع‏.‏ قاله طائفة، أَوْلهُم الفراء، واتبعه جماعة، منهم النحاس، والزهراوى، والواحِدى، والبَغَوى ولم يذكر غيره‏.‏ قالوا‏:‏ وإنما لم يذكر الحال الثانية كقوله‏:‏‏
    "سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏ ، وأراد الحر والبرد‏.‏
    وإنما قالوا هذا؛ لأنهم قد علموا أنه يجب عليه تبليغ جميع الخلق وتذكيرهم سواء آمنوا أو كفروا‏.‏ فلم يكن وجوب التذكير مختصًا بمن

    ج/ 16 ص -155-تنفعه الذكرى، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ‏"‏[‏الغاشية‏:‏ 21، 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏،وقال‏:‏ ‏"وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏"‏[‏القلم‏:‏ 51، 52‏]‏، وقال‏:‏ ‏"لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏
    وهذا الذي قالوه له معنى صحيح، وهو قول الفَرّاء وأمثاله، لكن لم يقله أحد من مفسرى السلف؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل ينكر على الفراء وأمثاله ما ينكره، ويقول‏:‏ كنت أحْسَب الفرَّاء رجلا صالحًا حتى رأيت كتابه في معاني القرآن‏.‏
    وهذا المعنى الذي قالوه، مدلول عليه بآيات أُخر‏.‏ وهو معلوم بالاضطرار من أمر الرسول، فإن الله بعثه مُبَلِّغا ومُذَكِّرا لجميع الثقلين؛ الإنس والجن‏.‏لكن ليس هو معنى هذه الآية‏.‏
    بل معنى هذه يشبه قوله‏:‏
    ‏"فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏"‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إنَّمّا أّنتّ مٍنذٌرٍ مّن يّخًشّاهّا‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏"‏ [‏يس‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏"‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 27، 28‏]‏‏.‏
    فالقرآن جاء بالعام والخاص‏.‏ وهذا كقوله‏:‏
    ‏"هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

    ج/ 16 ص -156-وسبب ذلك أن التعليم والتذكير والإنذار والهدى ونحو ذلك له فاعل، وله قابل‏.‏ فالمعلم المذكر يُعَلِّم غيره، ثم ذلك الغير قد يتعلم ويتذكر، وقد لا يتعلم ولا يتذكر‏.‏ فإن تَعلَّم وتذكر فقد تم التعليم والتذكير، وإن لم يتعلم ولم يتذكر فقد وجد أحد طرفيه، وهو الفاعل، دون المحل القابل‏.‏ فيقال في مثل هذا‏:‏ عَلَّمّتُه فما تعلم، وَذَكَّرته فما تذكر، وأمرته فما أطاع‏.‏
    وقد يقال‏:‏ ‏[‏ما علمته وما ذكرته‏]‏؛ لأنه لم يحصل تامًا ولم يحصل مقصوده، فينفي لانتفاء كماله وتمامه‏.‏ وانتفاء فائدته بالنسبة إلى المخاطب السامع وإن كانت الفائدة حاصلة للمتكلم القائل المخاطب‏.‏
    فحيث خُصَّ بالتذكير والإنذار ونحوه المؤمنون؛ فهم مخصوصون بالتام النافع الذي سعدوا به‏.‏ وحيث عمم؛ فالجميع مشتركون في الإنذار الذي قامت به الحجة على الخلق سواء قبلوا أو لم يقبلوا‏.‏
    وهذا هو الهدى المذكور في قوله‏:
    ‏‏"وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏"‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏، فالهدى هنا هو البيان والدلالة والإرشاد العام المشترك‏.‏ وهو كالإنذار العام والتذكير العام‏.‏ وهنا قد هدى المتقين وغيرهم، كما قال‏:‏ ‏"وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏"‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏‏.‏
    وأما قوله‏:‏‏"اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، فالمطلوب الهدى الخاص

    ج/ 16 ص -157-التام الذي يحصل معه الاهتداء، كقوله‏:‏ ‏"هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ‏"‏[‏الأعراف‏:‏30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏، وهذا كثير في القرآن‏.‏
    وكذلك الإنذار، قد قال‏:‏ ‏
    "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ‏"‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏‏.‏
    وقال في الخاص‏:‏
    ‏"إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏"‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏، ‏"إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏ فهذا الإنذار الخاص، وهو التام النافع الذي انتفع به المنذر‏.‏ والإنذار هو الإعلام بالمخوف، فَعَلِمَ المخوِّف فخاف، فآمن وأطاع‏.‏
    وكذلك التذكير عام وخاص‏.‏فالعام‏:‏هو تبليغ الرسالة إلى كل أحد،وهذا يحصل بإبلاغهم ما أرسل به من الرسالة‏.‏ قال تعالى‏:
    ‏‏"قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 86، 87‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ‏"‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏التكوير‏:‏27‏]‏‏.‏ثم قال‏:‏ ‏"لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏"‏[‏التكوير‏:‏ 28‏]‏، فذكر العام والخاص‏.‏

    ج/ 16 ص -158-والتذكر هو الذكر التام الذي يذكره المذكَّر به وينتفع به‏.‏
    وغير هؤلاء قال تعالى فيهم‏:‏ ‏"
    مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 2، 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ‏"‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 5‏]‏، فقد أتاهم وقامت به الحجة، ولكن لم يصغوا إليه بقلوبهم فلم يفهموه، أو فهموه فلم يعملوا به، كما قال‏:‏ ‏"وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏"‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏‏.‏
    والخاص هو التام النافع، وهو الذي حصل معه تذكر لمدكر، فإن هذا ذكرى كما قال‏:‏
    ‏"فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9 - 11‏]‏، أي يجنب الذكرى، وهو إنما جنب الذكرى الخاصة‏.‏
    وأما المشترك الذي تقوم به الحجة فقد ذكر هو وغيره بذلك وقامت الحجة عليهم‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"
    وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وقال‏:‏ ‏"لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال عن أهل النار‏:‏ ‏"كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ‏"‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8، 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -159-وأما تمثيلهم ذلك بقوله‏:‏ ‏"سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏"‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، أي‏:‏ وتقيكم البرد فعنه جوابان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أنه ليس هناك حرف شرط عُلِّقَ به الحكم بخلاف هذا الموضع‏.‏ فإنه إذا علق الأمر بشرط وكان مأمورًا به في حال وجود الشرط كما هو مأمور به في حال عدمه، كان ذكر الشرط تطويلًا للكلام تقليلًا للفائدة وإضلالًا للسامع‏.‏
    وجمهور الناس على أن مفهوم الشرط حجة، ومن نازع فيه يقول‏:‏ سكت عن غير المعلق، لا يقول‏:‏ إن اللفظ دل على المسكوت كما دل على المنطوق‏.‏ فهذا لا يقوله أحد‏.‏
    الثاني‏:‏ أن قوله‏:‏
    ‏"تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏"‏ على بابه، وليس في الآية ذكر البرد‏.‏ وإنما يقول‏:‏ ‏[‏إن المعطوف محذوف‏]‏ هو الفرَّاء وأمثاله ممن أنكر عليهم الأئمة حيث يفسرون القرآن بمجرد ظنهم وفهمهم لنوع من علم العربية عندهم، وكثيرًا لا يكون ما فسروا به مطابقًا‏.‏
    وليس في الكلام ما يدل على ذكر البرد، ولكن الله ذكر في

    ج/ 16 ص -160-هذه السورة إنعامه على عباده، وتسمى ‏[‏سورة النعم‏]‏، فذكر في أولها أصول النعم التي لابد منها ولا تقوم الحياة إلا بها، وذكر في أثنائها تمام النعم‏.‏
    وكان ما يقي البرد من أصول النعم، فذكر في أول السورة في قوله‏:‏ ‏
    "وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ‏"‏[‏النحل‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فالدفء ما يدفئ ويدفع البرد‏.‏
    والبرد الشديد يوجب الموت بخلاف الحر‏.‏ فقد مات خلق من البرد بخلاف الحر، فإن الموت منه غير معتاد؛ ولهذا قال بعض العرب‏:‏ البرد بؤس، والحر أذى‏.‏
    فلما ذكر في أثنائها تمام النعم ذكر الظلال وما يقى الحر، وذكر الأسلحة وما يقى القتل، فقال‏:‏
    ‏"وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، فذكر أنه يتم نعمته كما بَىَّن ذلك في هذه الآيات، فقال‏:‏ ‏"كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏"‏ ‏.‏ وفرق بين الظلال والأكنان؛ فإن الظلال يكون بالشجر

    ج/ 16 ص -161-ونحوه مما يظل ولا يكن، بخلاف ما في الجبال من الغيران، فإنه يظل ويكن‏.‏
    فهذا في الأمكنة، ثم قال في اللباس‏:‏ ‏"
    وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، فهذا في اللباس‏.‏ واللباس والمساكن كلاهما تقى الناس ما يؤذيهم من حر وبرد وعدو، وكلاهما تسترهم عن أعين الناظرين‏.‏
    وفي البيوت خاصة يسكنون، كما قال‏:‏
    ‏"وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 80‏]‏ فلما ذكر البيوت المسكونة امتن بكونه جعلها سكنًا يسكنون فيها من تعب الحركات‏.‏ وذكر أنه جعل لهم بيوتًا أخرى يحملونها معهم ويَستَخفُّونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، فذكر البيوت الثقيلة التي لا تحمل والخفيفة التي تحمل‏.‏
    فتبين أن ما مثلوا به حجة عليهم‏.‏
    فقوله‏:‏ ‏
    "إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 9‏]‏، كما قال مفسرو السلف والجمهور على بابها، قال الحسن البصرى‏:‏ تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر‏.‏

    ج/ 16 ص -162-وعلى هذا فقوله تعالى‏:‏ ‏"إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏ ، لا يمنع كون الكافر يبلغ القرآن لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه لم يخص قومًا دون قوم، لكن قال‏:‏ ‏
    "فَذَكِّرْ‏"‏ ، وهذا مطلق بتذكير كل أحد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏ لم يقل‏:‏ ‏[‏إن نفعت كل أحد‏]‏ بل أطلق النفع‏.‏ فقد أمر بالتذكير إن كان ينفع‏.‏
    والتذكير المطلق العام ينفع‏.‏ فإن من الناس من يتذكر فينتفع به، والآخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك، فيكون عبرة لغيره، فيحصل بتذكيره نفع أيضًا؛ ولأنه بتذكيره تقوم عليه الحجة، فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره، فتحصل بالذكرى منفعة‏.‏
    فكل تذكير ذكر به النبى ﷺ للمشركين حصل به نفع في الجملة، وإن كان النفع للمؤمنين الذين قبلوه واعتبروا به وجاهدوا المشركين الذين قامت عليهم الحجة‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فعلى هذا كل تذكير قد حصل به نفع، فأي فائدة في التقييد‏؟‏

    ج/ 16 ص -163-قيل‏:‏ بل منه ما لم ينفع أصلًا،وهو ما لم يُؤمر به‏.‏وذلك كمن أخبر الله أنه لا يؤمن، كأبى لهب، فإنه بعد أن أنزل الله قوله‏:‏ ‏"سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏"‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏، فإنه لا يخص بتذكير بل يعرض عنه‏.‏
    وكذلك كل من لم يصغ إليه ولم يستمع لقوله، فإنه يعرض عنه، كما قال‏:‏
    ‏"فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54‏]‏، ثم قال‏:‏‏"وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏ ، فهو إذا بلغ قومًا الرسالة فقامت الحجة عليهم، ثم امتنعوا من سماع كلامه أعرض عنهم‏.‏ فإن الذكرى حينئذ لا تنفع أحدًا‏.‏
    وكذلك من أظهر أن الحجة قامت عليه وأنه لا يهتدى فإنه لا يكرر التبليغ عليه‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن الأمر بالتذكير أمر بالتذكير التام النافع، كما هو أمر بالتذكير المشترك‏.‏
    وهذا التام النافع يخص به المؤمنين المنتفعين‏.‏ فهم إذا آمنوا ذكرهم بما أنزل، وكلما أنزل شىءٌ من القرآن ذكرهم به، ويذكرهم بمعانيه، ويذكرهم بما نزل قبل ذلك‏.‏
    بخلاف الذين قال فيهم‏:‏
    ‏"فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏"‏[‏المدثر‏:‏ 49 51‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -164-فإن هؤلاء لا يذكرهم كما يذكر المؤمنين إذا كانت الحجة قد قامت عليهم وهم معرضون عن التذكرة لا يسمعون‏.‏
    ولهذا قال‏:‏ ‏"
    عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهي‏"‏ ‏[‏عبس‏:‏ 1 10‏]‏، فأمره أن يُقبل على من جاءه يطلب أن يتزكى وأن يتذكر‏.‏ وقال‏:‏ ‏"سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 10 14‏]‏، فذكر التذكر والتزكى، كما ذكرهما هناك‏.‏ وأمره أن يقبل على من أقبل عليه دون من أعرض عنه، فإن هذا ينتفع بالذكرى دون ذاك‏.‏
    فيكون مأمورًا أن يذكر المنتفعين بالذكرى تذكيرًا يخصهم به غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة، كما قال‏
    :‏ ‏"فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏ ‏.‏
    وقال‏:‏
    ‏"وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏، وفي الصحيحين عن ابن عباس‏:‏ قال‏:‏ كان رسول الله ﷺ إذا قرأ القرآن سمعه المشركون، فسبُّوا القرآن ومن أنزل عليه ومن جاء به، فقال الله له‏:‏ ولا تجهر به فيسمعه المشركون، ولا تخافت

    ج/ 16 ص -165-به عن أصحابك‏.‏ فنهي عن أن يسمعهم إسماعًا يكون ضرره أعظم من نفعه‏.‏
    وهكذا كل ما يأمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته‏.‏ والمصلحة هي المنفعة، والمفسدة هي المضرة‏.‏ فهو إنما يؤمر بالتذكير إذا كانت المصلحة راجحة، وهو أن تحصل به منفعة راجحة على المضرة‏.‏ وهذا يدل على الوجه الأول والثاني‏.‏ فحيث كان الضرر راجحًا فهو منهي عما يجلب ضررًا راجحًا‏.‏
    والنفع أعم في قبول جميعهم، فقبول بعضهم نفع، وقيام الحجة على من لم يقبل نفع، وظهور كلامه حتى يبلغ البعيد نفع، وبقاؤه عند من سمعه حتى بلغه إلى من لم يسمعه نفع‏.‏ فهو ﷺ ما ذكَّرَ قط إلا ذكرى نافعة، لم يذكر ذكرى قط يكون ضررها راجحًا‏.‏
    وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف؛ أن ما أمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة ومنفعته راجحة‏.‏ وأما ما كانت مضرته راجحة، فإن الله لا يأمر به‏.‏
    وأما جَهْم ومن وافقه من الجبرية فيقولون‏:‏ إن الله قد يأمر بما ليس فيه منفعة ولا مصلحة البتة، بل يكون ضررًا محضًا إذا فعله

    ج/ 16 ص -166-المأمور به، وقد وافقهم على ذلك طائفة من متأخرى أتباع الأئمة ممن سلك مسلك المتكلمين أبى الحسن الأشعري وغيره في مسائل القَدَر، فنصر مذهب جهم والجبرية‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏"
    الذِّكْرَى‏"‏ يتناول التذكر والتذكير‏.‏ فإنه قال‏:‏ ‏"فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فلابد أن يتناول ذلك تذكيره‏.‏
    ثم قال‏:‏
    ‏"سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏ والذي يتجنبه الأشقى هو الذي فعله من يخشى، وهو التذكر‏.‏ فضمير الذكرى هنا يتناول التذكر، وإلا فمجرد التذكير الذي قامت به الحجة لم يتجنبه أحد‏.‏
    لكن قد يراد بتجنبها أنه لم يستمع إليها ولم يصغ، كما قال‏:‏
    ‏"لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏ والحجة قامت بوجود الرسول المبلغ وتمكنهم من الاستماع والتدبر، لا بنفس الاستماع‏.‏ ففي الكفار من تجنب سماع القرآن واختار غيره، كما يتجنب كثير من المسلمين سماع أقوال أهل الكتاب وغيرهم، وإنما ينتفعون إذا ذكروا فتذكروا، كما قال‏:‏ ‏"سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏"‏ ‏.‏ فلما قال‏:‏ ‏"فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏ ، فقد يراد بالذكرى نفس

    ج/ 16 ص -167-تذكيره تذكر أو لم يتذكر وتذكيره نافع لا محالة كما تقدم، وهذا يناسب الوجه الأول‏.‏
    وقد ذكر بعضهم أن هذا يراد به توبيخ من لم يتذكر من قريش، قال ابن عطية‏:‏ اختلف الناس في معنى قوله‏:‏ ‏
    "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏‏:‏ فقال الفَرَّاء، والنحَّاس، والزَّهْرَاوى‏:‏ معناه‏:‏ وإن لم تنفع‏.‏ فاقتصر على الاسم الواحد لدلالته على الثاني‏.‏ قال‏:‏ وقال بعض الحُذَّاق‏:‏ قوله ‏"إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏، اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش‏.‏ أي‏:‏ إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة‏.‏ وهذا كنحو قول الشاعر‏:‏

    لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادى‏

    وهذا كله كما تقول لرجل‏:‏ ‏[‏قل لفلان واعذله إن سمعك‏]‏، إنما هو توبيخ للمشار إليه‏.‏
    قلت‏:‏ هذا القائل هو الزمخشري، وهذا القول فيه بعض الحق‏.‏ لكنه أضعف من ذاك القول من وجه آخر‏.‏ فإن مضمون هذا القول أنه مأمور بتذكير من لا يقبل ولا ينتفع بالذكرى دون من يقبل، كما قال‏:‏ ‏[‏إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة‏]‏، وكما أنشده في البيت‏.‏

    ج/ 16 ص -168-ثم البيت الذي أنشده خبر عن شخص خاطب آخر‏.‏ فيقول‏:‏ لقد أسمعت لو كان من تناديه حيا وهذا كقوله‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ‏"‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 45‏]‏‏.‏ فهذا يناسب معنى البيت، وهو خبر خاص‏.‏
    وأما الأمر بالإنذار فهو مطلق عام، وإن كان مخصوصًا، فالمؤمنون أحق بالتخصيص، كما قال‏:‏ ‏
    "فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏"‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ليس الأمر مختصًا بمن لا يسمع‏.‏
    كيف وقد قال بعد ذلك‏
    :‏ ‏"سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏"‏ ، فهذا الذي يخشى هو ممن أمره بتذكيره ، وهو ينتفع بالذكرى‏.‏ فكيف لا يكون لهذا الشرط فائدة إلا ذم من لم يسمع‏؟‏
    وأما قول القائل‏:‏ ‏[‏قل لفلان واعذله إن سمعك‏]‏، فهذا وأمثاله يقوله الناس لمن يظنون أنه لا يقبل ولكن يرجون قبوله‏.‏ فهم يقصدون توبيخه على تقدير الرد، لا على تقدير القبول‏.‏ فيقولون‏:‏‏[‏قل له إن كان يسمع منك‏]‏، و‏[‏قل له إن كان يقبل‏]‏، و‏[‏انصحه إن

    ج/ 16 ص -169- كان يقبل النصيحة‏]‏، وهو كله من هذا الباب‏.‏ فهو أمر بالنصيحة التامة المقبولة إن كان يقبلها، وأمر بأصل النصح وإن رده، وذم له على هذا التقدير‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏‏
    "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏، أمر بتذكير كل أحد، فإن انتفع كان تذكره تامًا نافعًا، وإلا حصل أصل التذكير الذي قامت به الحجة ، ودل ذلك على ذمه واستحقاقه التوبيخ‏.‏
    مع أنه سبحانه إنما قال‏:‏ ‏"إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى‏"‏، ولم يقل‏:‏ ‏[‏ذكر من تنفعه الذكرى فقط‏]‏، كما في قوله‏:
    ‏‏"فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏"‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، فهناك الأمر بالتذكير خاص‏.‏
    وقد جاء عامًا وخاصًا كخطاب القرآن ب‏[‏يا أيها الناس‏]‏، وهو عام، وب‏[‏يا أيها الذين آمنوا‏]‏، خاص لمن آمن بالقرآن‏.‏
    فهناك قال‏:‏‏
    "فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏، وهنا قال‏:‏ ‏"سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏"‏ ‏.‏ ولم يقل ‏[‏سينتفع من يخشى‏]‏‏.‏ فإن النفع الحاصل بالتذكير أعم من تذكر من يخشى‏.‏
    فإنه إذا ذكر قامت الحجة على الجميع‏.‏ والأشقى الذي تجنبها حصل بتذكيره قيام الحجة عليه واستحقاقه لعذاب الدنيا والآخرة‏.‏

    ج/ 16 ص -170-وفي ذلك لله حِكَم ومنافع هي نعم على عباده‏.‏ فكل ما يقضيه الله تعالى هو من نعمته على عباده؛ ولهذا يقول عقب تعديد ما يذكره ‏:‏ "فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏"‏[‏الرحمن‏:‏ 13‏]‏‏.‏
    ولما ذكر ما ذكره في سورة ‏[‏النجم‏]‏ وذكر إهلاك مكذبى الرسل قال‏:‏
    ‏"فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى‏"‏[‏النجم‏:‏ 55‏]‏، فإهلاكهم من آلاء ربنا‏.‏ وآلاؤه نعمه التي تدل على رحمته، وعلى حكمته، وعلى مشيئته، وقدرته، وربوبيته سبحانه وتعالى‏.‏
    ومن نفع تذكير الذي يتجنبها أنه لما قامت عليه الحجة واستحق العذاب خف بذلك شر عن المؤمنين، فإن الله يهلكهم بعذاب من عنده أو بأيديهم‏.‏وبهلاكه ينتصر الإيمان وينتشر، ويعتبر به غيره، وذلك نفع عظيم‏.‏
    وهو أيضًا يتعجل موته فيكون أقل لكفره‏.‏ فإن الله أرسل محمدًا رحمة للعالمين، فبه تصل الرحمة إلى كل أحد بحسب الإمكان‏.‏
    وأيضًا، فإن الذي يتجنبها بتجنبه استحق هذا الوعيد المذكور، فصار ذلك تحذيرًا لغيره من أن يفعل مثل فعله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 66‏]‏، وقال تعالى عن فرعون‏:‏

    ج/ 16 ص -171-‏"فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 56‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏
    فصل
    وقوله‏:‏
    ‏"سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏، يقتضى أن كل من يخشى يتذكر‏.‏ والخشية قد تحصل عقب الذكر، وقد تحصل قبل الذكر، وقوله‏:‏ ‏"مَن يَخْشَى‏"‏ مطلق‏.‏
    ومن الناس من يظن أن ذلك يقتضى أنه لابد أن يكون قد خشى أولًا حتى يذكر، وليس كذلك‏.‏ بل هذا كقوله‏:‏
    ‏"هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وقوله‏:‏‏"إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏
    وهو إنما خاف الوعيد بعد أن سمعه، لم يكن وعيد قبل سماع القرآن ، وكذلك قوله‏:‏ ‏
    "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ‏"‏ ، وهو إنما اتبع الذكر وخشى الرحمن بعد أن أنذره الرسول‏.‏
    وقد لا يكونون خافوها قبل الإنذار، ولا كانوا متقين قبل سماع

    ج/ 16 ص -172-القرآن، بل به صاروا متقين‏.‏
    وهذا كما يقول القائل‏:‏ ما يسمع هذا إلا سعيد، وإلا مفلح، وإلا من رضى الله عنه‏.‏ وما يدخل في الإسلام إلا من هداه الله، ونحو ذلك‏.‏ وإن كانت هذه الحسنات والنعم تحصل بعد الإسلام وسماع القرآن‏.‏
    ومثل هذا قوله‏:‏ ‏
    "هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ‏"‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 20‏]‏‏.‏
    وقد قال في نظيره‏:‏
    ‏"وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11‏]‏، وإنما يشقى بتجنبها‏.‏
    وهذا كما يقال‏:‏ إنما يحذر من يقبل، وإنما ينتفع بالعلم من عمل به‏.‏
    فمن استمع القرآن فآمن به وعمل به صار من المتقين الذين هو هدى لهم‏.‏ ومن لم يؤمن به ولم يعمل به لم يكن من المتقين، ولم يكن ممن اهتدى به‏.‏
    بل هو كما قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، ولم يرد أنهم كانوا مؤمنين، فلما سمعوه صار هدى وشفاء، بل إذا سمعه الكافر فآمن به صار في حقه هدى وشفاء، وكان من المؤمنين به بعد سماعه‏.‏

    ج/ 16 ص -173-وهذا كقوله في النوع المذموم‏:‏‏"يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26، 27‏]‏، ولا يجب أن يكونوا فاسقين قبل ضلالهم، بل من سمعه فكذب به صار فاسقًا وضل‏.‏
    وسعد بن أبى وقاص وغيره أدْخلوا في هذه الآية أهل الأهواء كالخوارج‏.‏ وكان سعد يقول‏:‏ هم من
    ‏"الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ‏"‏ ولم يكن على، وسعد، وغيرهما من الصحابة يكفرونهم‏.‏
    وسعد أدخلهم في هذه الآية لقوله‏:‏ ‏
    "وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ‏"‏‏.‏
    وهم ضلوا به بسبب تحريفهم الكلم عن مواضعه وتأويله على غير ما أراد الله‏.‏ فتمسكوا بمتشابهه، وأعرضوا عن محكمه، وعن السنة الثابتة التي تبين مراد الله بكتابه‏.‏ فخالفوا السنة وإجماع الصحابة مع ما خالفوه من محكم كتاب الله تعالى‏.‏
    ولهذا أدخلهم كثير من السلف في الذين ‏
    "فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏، ‏"إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    والمقصود الآية‏.‏ وقد دلت على أن كل من يخشى فلابد أن

    ج/ 16 ص -174-يتذكر‏.‏ فقد يتذكر فتحصل له بالتذكر خشية، وقد يخشى فتدعوه الخشية إلى التذكر‏.‏
    وهذا المعنى ذكره قتادة؛ فقال‏:‏ والله‏!‏ ما خشى الله عبدٌ قط إلا ذكره‏.‏
    ‏"وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى‏"‏، قال قتادة‏:‏ فلا والله‏!‏ لا يتنكب عبد هذا الذكر زهدًا فيه وبغضًا له ولأهله إلا شقيا بَين الشقاء‏.‏
    والخشية في القرآن مطلقة تتناول خشية الله وخشية عذابه في الدنيا والآخرة‏.‏
    قال الله تعالى‏
    :‏ ‏"يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا‏"‏[‏النازعات‏:‏ 42 - 45‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏"‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏
    وقال‏
    :‏ ‏"قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ‏"‏[‏الطور‏:‏ 26، 27‏]‏‏.

    ج/ 16 ص -175-فصل
    الكلام على قوله‏:‏
    ‏"مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ‏"‏ [‏ق‏:‏ 33‏]‏‏.‏
    وفي هذه الآية قال‏:‏
    ‏"سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏‏.‏
    وقال في قصة فرعون‏:‏ ‏"
    فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏"‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، فعطف الخشية على التذكر‏.‏
    وقال‏:‏
    ‏"لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏‏.‏
    وفي قصة الرجل الصالح المؤمن الأعمى قال‏:‏
    ‏"وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏"‏[‏عبس‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏
    وقال في ‏[‏حم‏]‏ المؤمن‏:‏ ‏"
    ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ‏"‏[‏غافر‏:‏ 12، 13‏]‏، فقال‏:‏ ‏"وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ‏"‏‏.‏

    ج/ 16 ص -176-والإنابة جعلها مع الخشية في قوله‏:‏ ‏"هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ‏"‏ ‏[‏ق‏:‏ 3234‏]‏‏.‏
    وذلك لأن الذي يخشى اللّه لابد أن يرجوه ويطمع في رحمته، فينيب إليه ويحبه، ويحب عبادته وطاعته‏.‏ فإن ذلك هو الذي ينجيه مما يخشاه، ويحصل به ما يحبه‏.‏
    والخشية لا تكون ممن قطع بأنه معذب؛ فإن هذا قطع بالعذاب، يكون معه القنوط، واليأس، والإبلاس‏.‏ ليس هذا خشية وخوفا‏.‏
    وإنما يكون الخشية والخوف مع رجاء السلامة؛ ولهذا قال‏:
    ‏ ‏"تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 22‏]‏‏.‏
    فصاحب الخشية للّه ينيب إلى اللّه، كما قال‏:‏‏"
    وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ‏"‏[‏ق‏:‏ 31 - 34‏]‏‏.‏ وهذا يكون مع تمام الخشية والخوف‏.‏
    فأما في مباديها، فقد يحصل للإنسان خوف من العذاب والذنب

    ج/ 16 ص -177-الذي يقتضيه، فيشتغل بطلب النجاة والسلام، ويعرض عن طلب الرحمة والجنة‏.‏
    وقد يفعل مع سيئاته حسنات توازيها وتقابلها، فينجو بذلك من النار ولا يستحق الجنة، بل يكون من أصحاب الأعراف‏.‏ وإن كان مآلهم إلى الجنة فليسوا ممن أُزْلفت لهم الجنة أي‏:‏ قربت لهم إذ كانوا لم يأتوا بخشية اللّه والإنابة إليه‏.‏ واستجمل بعد ذلك‏.‏
    فَصل
    وأما قوله في قصة فرعون ‏:‏
    ‏"لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏"‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏"‏ ‏[‏عبس‏:‏ 3، 4‏]‏، فلا يناقض هذه الآية؛ لأنه لم يقل في هذه الآية ‏[‏سيخشى من يذكر‏]‏، بل ذَكَرَ أن كل من خشى فإنه يتذكر؛ إما أن يتذكر فيخشى وإن كان غيره يتذكر فلا يخشى، وإما أن تدعوه الخشية إلى التذكر‏.‏ فالخشية مستلزمة للتذكر‏.‏ فكل خاش متذكر‏.‏
    كما قال تعالى‏:
    ‏‏"إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏"‏ ‏[‏فاطر‏:‏28‏]‏، فلا يخشاه إلا

    ج/ 16 ص -178-عالم‏.‏ فكل خاش للّه فهو عالم‏.‏ هذا منطوق الآية‏.‏
    وقال السلف وأكثر العلماء‏:‏ إنها تدل على أن كل عالم فإنه يخشى اللّه، كما دل غيرها على أن كل من عصى اللّه فهو جاهل‏.‏
    كما قال أبو العالية‏:‏ سألت أصحاب محمد عن قوله‏:‏ ‏
    "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍُ‏"‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏، فقالوا لي‏:‏ ‏[‏كل من عصى اللّه فهو جاهل‏]‏‏.‏ وكذلك قال مجاهد، والحسن البَصْري، وغيرهم من العلماء التابعين ومن بعدهم‏.‏
    وذلك أن الحصر في معنى الاستثناء، والاستثناء من النفي إثبات عند جمهور العلماء‏.‏ فنفي الخشية عمن ليس من العلماء؛ وهم العلماء به الذين يؤمنون بما جاءت به الرسل، يخافونه‏.‏
    قال تعالى‏:‏ ‏
    "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وأثبتها للعلماء‏.‏ فكل عالم يخشاه‏.‏ فمن لم يخش اللّه فليس من العلماء، بل من الجهال، كما قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ ‏[‏كفي بخشية اللّه علمًا، وكفي

    ج/ 16 ص -179-بالاغترار باللّه جهلًا‏]‏‏.‏ وقال رجل للشَّعبي‏:‏ ‏[‏أيها العالم‏!‏‏]‏ فقال‏:‏ ‏[‏إنما العالم من يخشى اللّه‏!‏‏]‏‏.‏
    فكذلك قوله‏:‏ ‏
    "سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏، يقتضى أن كل من يخشاه فلابد أن يكون ممن تذكر‏.‏ وقد ذكر أن الأشقى يتجنب الذكرى، فصار الذي يخشى ضد الأشقى‏.‏ فلذلك يقال‏:‏ ‏"‏كل من تذكر خشى‏"‏‏.‏
    والتحقيق أن التذكر سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية؛ كما أن العلم سبب الخشية، فإن كان تامًا أوجب الخشية‏.‏
    وعلى هذا، فقوله في قصة فرعون‏:
    ‏ ‏"لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏"‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏، جعل ذلك نوعين لما في ذلك من الفوائد‏:‏ أحدها‏:‏ أنه إذا تذكر أنه مخلوق وأن اللّه خالقه، وليس هو إلهًا وربّا كما ذكر، وذكر إحسان اللّه إليه‏.‏ فهذا التذكر يدعوه إلى اعترافه بربوبية اللّه وتوحيده وإنعامه عليه‏.‏ فيقتضى الإيمان والشكر، وإن قدر أن اللّه لا يعذبه‏.‏
    فإن مجرد كون الشيء حقًا ونافعًا يقتضى طلبه وإن لم يخف ضررًا

    ج/ 16 ص -180-بعدمه‏.‏ كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع وإن كان لا عقوبة في تركها كما يحب الإنسان علوما نافعة وإن لم يتضرر بتركها وكما قد يحب محاسن الأخلاق ومعالى الأمور لما فيها من المنفعة واللذة في الدنيا والآخرة وإن لم يخف ضررًا بتركها‏.‏
    فهو إذا تذكر آلاء اللّه وتذكر إحسانه إليه فهذا قد يوجب اعترافه بحق اللّه وتوحيده وإحسانه إليه، ويقتضى شكره للّه وتسليم قوم موسى إليه وإن لم يخف عذابًا فهذا قد حصل بمجرد التذكر‏.‏
    قال‏:‏
    ‏"أَوْ يَخْشَى‏"‏‏.‏ ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده اللّه به من عذاب الدنيا والآخرة، فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد ولو لم يتذكر‏.‏
    وقد يحصل تذكر بلا خشية، وقد يحصل خشية بلا تذكر، وقد يحصلان جميعا وهو الأغلب قال تعالى‏:‏
    ‏"لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏"‏‏.‏ وأيضًا، فَذِكْر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد‏.‏ فبالأول يكون ممن له قلب يعقل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها‏.‏

    ج/ 16 ص -181-وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌِ‏"‏[‏ق‏:‏ 36، 37‏]‏‏.‏
    الفائدة الثانية‏:‏ أن التذكر سبب الخشية، والخشية حاصلة عن التذكر‏.‏ فَذَكَرَ التذكر الذي هو السبب، وذَكَرَ الخشية التي هى النتيجة وإن كان أحدهما مستلزما للآخر كما قال‏:‏
    ‏"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ‏"‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏، وكما قال أهل النار‏:‏ ‏"لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ‏"‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏ ‏"أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏"‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ فكل من النوعين يحصل به النجاة لأنه مستلزم للآخر‏.‏
    فالذي يسمع ما جاءت به الرسل سمعًا يعقل به ما قالوه ينجو‏.‏ وإلا فالسمع بلا عقل لا ينفعه، كما قال‏:
    ‏ ‏"وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏"‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -182-وكذلك العقل بلا سمع لما جاءت به الرسل لا ينفع‏.‏ وقد اعترف أهل النار بمجيء الرسل فقالوا‏:‏ ‏"قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ‏"‏[‏الملك‏:‏ 9‏]‏‏.‏
    وكذلك المْعَتبِرين بآثار المعَذَّبين الذين قال فيهم‏:‏ ‏
    "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ‏"‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.‏ إنما ينتفعون إذا سمعوا أخبار المعذبين المكذبين للرسل والناجين الذين صدقوهم، فسمعوا قول الرسل وصدقوهم‏.‏
    الفائدة الثالثة‏:‏ أن الخشية أيضًا سبب للتذكر كما تقدم‏.‏ فكل منهما قد يكون سببًا للآخر‏.‏ فقد يخاف الإنسان فيتذكر، وقد يتذكر الأمور المخوفة فيطلب النجاة منها، ويتذكر ما يرجو به النجاة منها فيفعله‏.‏
    فإن قيل‏:‏ مجرد ظن المخوف قد يوجب الخوف، فكيف قال‏:
    ‏‏"إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء‏"‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏ ‏؟‏
    قيل‏:‏ النفس لها هوى غالب قاهر لا يصرفه مجرد الظن، وإنما يصرفه العلم بأن العذاب واقع لا محالة‏.‏ وأما من كان يظن أن العذاب يقع ولا يوقن بذلك فلا يترك هواه؛ ولهذا قال‏:‏
    ‏"وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏"‏[‏النازعات‏:‏ 40‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -183-وقال تعالى في ذم الكفار‏:‏ ‏"وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ‏"‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏، ووصف المتقين بأنهم بالآخرة يوقنون‏.‏
    ولهذا أقسم الرب على وقوع العذاب والساعة، وأمر نبيه أن يقسم على وقوع الساعة وعلى أن القرآن حق، فقال‏:‏ ‏
    "زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ‏"‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ‏"‏[‏سبأ‏:‏ 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ‏"‏[‏يونس‏:‏ 53‏]‏‏.‏
    فصل
    وأما قوله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ‏"‏ [‏غافر‏:‏ 13‏]‏، فهو حق كما قال‏.‏ فإن المتذكر إما أن يتذكر ما يدعو إلى الرحمة والنعمة والثواب كما يتذكر الإنسان ما يدعوه إلى السؤال فينيب، وإما أن يتذكر ما يقتضى الخوف والخشية فلابد له من الإنابة حينئذ لينجو مما يخاف‏.‏
    ولهذا قيل في فرعون‏:‏
    ‏"لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ‏"‏ فينيب، ‏"أَوْ يَخْشَى‏"‏‏.‏

    ج/ 16 ص -184-وكذلك قال له موسى ‏"فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18، 19‏]‏، فجمع موسى بين الأمرين لتلازمهما‏.‏
    وقال في حق الأعمى‏:
    ‏‏"وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏"‏[‏عبس‏:‏3، 4‏]‏‏.‏ فذكر الانتفاع بالذكرى، كما قال‏:‏‏"وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏‏.‏
    والنفع نوعان‏:‏ حصول النعمة، واندفاع النقمة‏.‏ ونفس اندفاع النقمة نفع وإن لم يحصل معه نفع آخر، ونفس المنافع التي يخاف معها عذاب نفع، وكلاهما نفع‏.‏ فالنفع تدخل فيه الثلاثة، والثلاثة تحصل بالذكرى، كما قال تعالى ‏
    "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏"‏، وقال‏:‏ ‏"وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏"‏‏.‏
    وأما ذكر التزكي مع التذكر فهو كما ذكر في قصة فرعون الخشية مع التذكر‏.‏ وذلك أن التزكي هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية، كما قال في هذه السورة‏:‏ ‏"
    قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14، 15‏]‏، وقال‏:‏‏"قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏"‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏، وقال

    ج/ 16 ص -185- ‏‏‏"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ‏"‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏،وقال موسى لفرعون‏:‏"هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى‏"[‏النازعات‏:‏18، 19‏]‏‏.‏
    وعطف عليه‏:‏
    ‏"أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏"‏،لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول وإن كان صاحبه لا يتذكر علومًا عنه كما قال‏
    :‏ ‏"يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏"‏‏.‏ فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم‏.‏ وكذلك التزكي عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها، فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن قوله‏:
    ‏ ‏"أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى‏"‏[‏عبس‏:‏ 4‏]‏ يدخل فيه النفع، قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك‏.‏
    الثالث‏:‏ أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا، فتزكى‏.‏ فذكر الحكم وذكر سببه‏.‏ ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر‏.‏

    ج/ 16 ص -186- فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمعه من الرسول، كما قال‏:‏ ‏"سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى‏"‏ [‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏‏.‏ فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر‏.‏
    وهو إذا تذكر فإنه ينتفع، وقد تتم المنفعة، فيتزكى‏.‏
    وقوله‏:
    ‏ ‏"لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏"‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏، فيه أيضًا نحو هذه الوجوه‏.‏
    فإن الشاكر قد يشكر اللّه على نعمه وإن لم يخف، والتذكر قد يقتضى الخشية‏.‏
    وأيضًا، فإن التذكر يقتضي الخوف من العقاب وطلب الثواب فيعمل للمستقبل، والشكر على النعم الماضية‏.‏
    وأيضًا، فالتذكر تذكر علوم سابقة، ومنها تذكر نعم اللّه عليه، فهو سبب للشكر‏.‏ تذكر السبب والمسبب‏.‏
    وأيضًا، فإن الشكر يقتضى المزيد من النعم، والتذكر قد يكون لهذا، وقد يكون خوفا من العذاب‏.‏
    وقد يكون الأمر بالعكس، فالشاكر قد يشكر الشكر الواجب لئلا يكون كفورًا فيعاقب على ترك الشكر بسلب النعمة وعقوبات أخر،

    ج/ 16 ص -187- والمتذكر قد يتذكر ما أعده اللّه لمن أطاعه فيطيعه طلبًا لرحمته‏.‏
    وأيضًا، فالتذكر قد يكون لفعل الواجبات التي يدفع بها العقاب، والشكور يكون للمزيد من فضله، كما في الصحيحين أن النبي ﷺ قام حتى تورمت قدماه‏.‏ فقيل له‏:‏ أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏
    "‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏؟‏‏"‏‏.‏
    وقال ﷺ
    لا يتمنين أحدُكُم الموت‏:‏ إما محسن فيزداد إحسانا، وإما مسيئًا فلعله أن يُسْتَعْتَب‏"‏‏.‏ فالمؤمن دائمًا في نعمة من ربه تقتضى شكرًا، وفي ذنب يحتاج إلى استغفار‏.‏
    وهو في سيد الاستغفار يقول‏:‏ ‏"‏أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏‏.‏
    وقد علم تحقيق قوله‏:‏
    ‏"مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، فما أصابه من الحسنات هى نعم اللّه فتقتضى شكرًا، وما أصابه من المصائب فبذنوبه تقتضى تذكرًا لذنوبه يوجب توبة واستغفارًا‏.‏
    وقد جعل اللّه ‏
    "اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏"‏‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏، فيتوب

    ج/ 16 ص -188-ويستغفر من ذنوبه، ‏"أَوْ أَرَادَ شُكُورًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏، لربه على نعمه‏.‏ وكل ما يفعله الله بالعبد من نعمة، وكل ما يخلفه اللّه، فهو نعمة اللّه عليه‏.‏ فكلما نظر إلى ما فعله ربه شكر، وإذا نظر إلى نفسه استغفر‏.‏
    والتذكر قد يكون تذكر ذنوبه وعقاب ربه‏.‏ وقد يدخل فيه تذكر آلائه ونعمه، فإن ذلك يدعو إلى الشكر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏، في غير موضع، فقد أمر بذكر نعمه‏.‏ فالمتذكر يتذكر نعم ربه، ويتذكر ذنوبه‏.‏
    وأيضًا، فهو ذكر الشكور؛ لأنه مقصود لنفسه، فإن الشكر ثابت في الدنيا والآخرة‏.‏ وذكر التذكر؛ لأنه أصل للاستغفار، والشكر، وغير ذلك‏.‏ فذكر المبدأ وذكر النهاية‏.‏ وهذا المعنى يجمع ما قيل‏.‏ واللّه سبحانه أعلم‏.‏
    فصل
    والتذكر اسم جامع لكل ما أمر اللّه بتذكره، كما قال‏:‏ ‏"أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ‏"‏ [‏فاطر‏:‏ 37‏]‏، أى قامت الحجة عليكم بالنذير الذي جاءكم، وبتعميركم عمرًا يتسع للتذكر‏.‏

    ج/ 16 ص -189-وقد أمر سبحانه بذكر نعمه في غير موضع، كقوله‏:‏ ‏"وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏‏.‏
    والمطلوب بذكرها شكرها، كما قال‏:‏
    ‏"وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 150 - 152‏]‏‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ‏"‏ يتناول كل من خوطب بالقرآن‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏"لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏‏.‏ فالرسول من أنفس من خوطب بهذا الكلام، إذ هى كاف الخطاب‏.‏
    ولما خوطب به أولا قريش، ثم العرب، ثم سائر الأمم، صار يخص ويعم بحسب ذلك‏.‏
    وفيه ما يخص قريشًا كقوله‏:‏
    ‏"لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ‏"‏[‏قريش‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -190-وقوله‏:‏ ‏"وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏‏.‏
    وفيه ما يعم العرب ويخصهم، كقوله‏:‏
    ‏"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ‏"‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، والأميون يتناول العرب قاطبة دون أهل الكتاب‏.‏
    ثم قال‏:
    ‏ ‏"وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏"‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ فهذا يتناول كل من دخل في الإسلام بعد دخول العرب فيه إلى يوم القيامة، كما قال ذلك مقاتل بن حيان ‏[‏هو أبو بسطام مقاتل بن حيان النبطى البلخى الخراز، مولى بكر بن وائل، وثقه ابن معين وأبو داود، وقال النسائى‏:‏ ليس به بأس، مات قبل الخمسين ومائة تقريبًا‏]‏، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهما‏.‏
    فإن قوله‏:‏
    ‏"وَآخَرِينَ مِنْهُمْ‏"‏ ؛ أى‏:‏ في الدين دون النسب، إذ لو كانوا منهم في النسب لكانوا من الأميين‏.‏
    وهذا كقوله تعالى‏:‏
    ‏"وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ‏"‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏‏.‏
    وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي ﷺ، فقال‏:‏ ‏"‏لو كان الإيمان معلقًا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس‏"‏‏.‏ فهذا يدل على دخول هؤلاء لا يمنع دخول غيرهم من الأمم‏.‏
    وإذا كانوا هم منهم فقد دخلوا في قوله‏:‏

    ج/ 16 ص -191-"لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، فالمنة على جميع المؤمنين عربهم وعجمهم، سابقهم ولاحقهم والرسول منهم؛ لأنه إنسى مؤمن‏.‏ وهو من العرب أخص؛ لكونه عربيا جاء بلسانهم، وهو من قريش أخص‏.‏
    والخصوص يوجب قيام الحجة، لا يوجب الفضل، إلا بالإيمان والتقوى لقوله‏:‏‏
    "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏‏.‏
    ولهذا كان الأنصار أفضل من الطلقاء من قريش، وهم ليسوا من ربيعة ولا مضر، بل من قحطان‏.‏
    وأكثر الناس على أنهم من ولد هود، ليسوا من ولد إبراهيم‏.‏
    وقيل‏:‏ إنهم من ولد إسماعيل؛ لحديث أسلم لما قال‏:‏ ‏"‏ارموا، فإن أباكم كان راميًا‏"‏، وأسلم من خزاعة، وخزاعة من ولد إبراهيم‏.‏
    وفي هذا كلام ليس هذا موضعه؛ إذ المقصود أن الأنصار أبعد نسبا من كل ربيعة ومضر مع كثرة هذه القبائل‏.‏ ومع هذا هم أفضل من جمهور قريش، إلا من السابقين الأولين من المهاجرين وفيهم قرشي وغير قرشي‏.‏
    ومجموع السابقين ألف وأربعمائة غير مهاجرى الحبشة‏.‏

    ج/ 16 ص -192-فقوله‏:‏ ‏"لَقَدْ جَاءكُمْ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏ يخص قريشًا، والعرب، ثم يعم سائر البشر؛ لأن القرآن خطاب لهم‏.‏ والرسول من أنفسهم، والمعنى ليس بملك لا يطيقون الأخذ منه، ولا جني‏.‏
    ثم يعم الجن؛ لأن الرسول أرسل إلى الإنس والجن، والقرآن خطاب للثقلين، والرسول منهم جميعًا، كما قال‏:‏
    ‏"يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، فجعل الرسل التي أرسلها من النوعين مع أنهم من الإنس‏.‏
    فإن الإنس والجن مشتركون مع كونهم أحياء ناطقين مأمورين منهيين فإنهم يأكلون ويشربون، وينكحون وينسلون، ويغتذون وينمون بالأكل والشرب‏.‏ وهذه الأمور مشتركة بينهم‏.‏ وهم يتميزون بها عن الملائكة، فإن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، ولا تنكح ولا تنسل‏.‏
    فصار الرسول مع أنفس الثقلين، باعتبار القدر المشترك بينهم الذي تميزوا به عن الملائكة، حتى كان الرسول مبعوثًا إلى الثقلين دون الملائكة‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏
    ‏"لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏،

    ج/ 16 ص -193-هو كقوله‏:‏‏"وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ‏"‏[‏ البقرة‏:‏ 231‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 151‏]‏‏.‏
    ثم قال‏:‏
    ‏"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏، والمقصود أنه أمر بذكر النعم وشكرها‏.‏
    وقال‏:‏‏
    "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏"‏[‏البقرة‏:‏40‏]‏ في غير موضع وقال للمؤمنين‏:‏ ‏"وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏، فذكر النعم من الذكر الذي أمروا به‏.‏
    ومما أمروا به تذكرة قصص الأنبياء المتقدمين، كما قال‏:‏ ‏
    "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ‏"‏[‏مريم‏:‏ 41‏]‏، ‏"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ موسى‏"‏[‏مريم‏:‏ 51‏]‏، ‏"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏، ‏"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 56‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ‏"‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏، ‏"وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏، ‏"وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَّ‏"‏[‏ص‏:‏ 48‏]‏‏.‏
    ومما أمروا به تذكرة ما وعدوا به من الثواب والعقاب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
    "إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 46‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -194-ومما أمروا بتذكره آيات اللّه التي يستدلون بها على قدرته وعلى المعاد، كقوله‏:‏ ‏"وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66، 67‏]‏‏.‏
    وقد قال لموسى‏:‏
    ‏"وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ‏"‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏، وهى تتناول أيام نعمه وأيام نقمه ليشكروا ويعتبروا‏.‏
    ولهذا قال‏:‏ ‏"إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ فإن ذكر النعم يدعو إلى الشكر، وذكر النقم يقتضى الصبر على فعل المأمور وإن كرهته النفس، وعن المحظور وإن أحبته النفس؛ لئلا يصيبه ما أصاب غيره من النقمة‏.‏
    فصل
    وقوله‏:‏ ‏
    "وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11 - 13‏]‏، وقد ذكر في سورة الليل قوله‏:‏ ‏"فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏"‏ ‏[‏الليل‏:‏ 14 - 16‏]‏‏.‏
    وهذا الصلي قد فسره النبي ﷺ في الحديث الصحيح

    ج/ 16 ص -195-الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدرى قال‏:‏ قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏"‏أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكنْ ناسٌ أصابتهم النار بذنوبهم أو قال‏:‏ بخطاياهم فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحمًا أُذِنَ بالشفاعة، فجىء بهم ضَبَائرَ ضَبَائرَ فَبُثُّوا على أنهار الجنة، ثم قيل‏:‏ يا أهل الجنة أفيضوا عليهم‏.‏ فينبتون نبات الحبة تكون في حَمِيل السَّيْل‏"‏‏.‏ فقال رجل من القوم‏:‏ كأن رسول اللّه ﷺ قد كان بالبادية‏.‏
    وفي رواية ذكرها ابن أبي حاتم فقال‏:‏ ذكر عن عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا أبي، ثنا سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد‏:‏ أن رسول اللّه ﷺ خطب، فأتى على هذه‏:‏
    ‏"لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى‏"‏، فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏أما أهلها الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون‏.‏ وأما الذين ليسوا من أهل النار، فإن النار تميتهم، ثم يقوم الشفعاءُ فَيَشْفَعُون فيهم فَيُشَفَّعُون، فيؤتى بهم إلى نهر يقال له‏:‏ الحياة، أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغُثَاء في حَمِيل السَّيْل‏"‏‏.‏
    فقد بين النبي ﷺ أن هذا الصلي لأهل النار الذين هم أهلها، وأن الذين ليسوا من أهلها فإنها تصيبهم بذنوبهم، وأن اللّه يميتهم فيها حتى يصيروا فحمًا، ثم يشفع فيهم فيخرجون ويؤتى

    ج/ 16 ص -196-بهم إلى نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل‏.‏
    وهذا المعنى مستفيض عن النبي ﷺ بل متواتر في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهما‏.‏
    وفيها الرد على طائفتين‏:‏ على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون‏:‏ ‏"‏إن أهل التوحيد يخلدون فيها‏"‏، وهذه الآية حجة عليهم، وعلى من حكى عنه من غلاة المرجئة‏:‏ ‏"‏أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد‏"‏‏.‏
    فإن إخباره بأن أهل التوحيد يخرجون منها بعد دخولها تكذيب لهؤلاء وأولئك‏.‏
    وفيه رد على من يقول‏:‏ ‏[‏يجوز ألا يُدْخِل اللّه من أهل التوحيد أحدًا النار‏]‏ كما يقوله طائفة من المرجئة الشيعة، ومرجئة أهل الكلام المنتسبين إلى السنة وهم الواقفة من أصحاب أبي الحسن وغيرهم كالقاضي أبي بكر وغيره‏.‏ فإن النصوص المتواترة تقتضي دخول بعض أهل التوحيد وخروجهم‏.‏
    والقول ب ‏[‏أن أحدًا لا يدخلها من أهل التوحيد‏]‏، ما أعلمه ثابتًا عن شخص معين فأحكيه عنه، لكنْ حكى عن مقاتل بن سليمان،

    ج/ 16 ص -197-وقال‏:‏ احتج من قال ذلك بهذه الآية‏.‏
    وقد أُجِيبُوا بجوابين‏:‏
    أحدهما‏:‏ جواب طائفة، منهم الزجاج، قالوا‏:‏ هذه نار مخصوصة‏.‏
    لكن قوله بعدها‏:‏ ‏
    "وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى‏"‏ [‏الليل‏:‏ 17‏]‏، لا يبقى فيه كبير وعد، فإنه إذا جُنِّبَ تلك النار جاز أن يدخل غيرها‏.‏
    وجواب آخرين قالوا‏:‏ لا يصلونها صلى خلود‏.‏ وهذا أقرب‏.‏
    وتحقيقه أن الصلي هنا هو الصلي المطلق، وهو المكث فيها، والخلود على وجه يصل العذاب إليهم دائمًا‏.‏
    فأما من دخل وخرج فإنه نوع من الصلي، ليس هو الصلي المطلق لا سيما إذا كان قد مات فيها والنار لم تأكله كله، فإنه قد ثبت أنها لا تأكل مواضع السجود‏.‏ واللّه أعلم‏.‏
    فصل
    جمع اللّه سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى اللّه عليهما وعلى سائر المرسلين في أمور، مثل قوله‏:‏
    ‏"إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 18، 19‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -198-وفي حديث أبي ذر الطويل، قلت‏:‏ يارسول اللّه، كم كتابًا أنزل اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏مائة كتاب وأربعة كتب؛ ثلاثين صحيفة على شيث، وخمسين على إدريس، وعشر على إبراهيم، وعشر على موسى قبل التوراة‏.‏ وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان‏"‏‏.‏ وقال في الحديث‏:‏ فهل عندنا شيء مما في صحف إبراهيم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏نعم‏]‏ وقرأ قوله‏:‏ ‏"قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏"‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14 - 19‏]‏‏.‏
    فإن التزكي هو التطهر والتبرك بترك السيئات الموجب زكاة النفس، كما قال‏:‏
    ‏"قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‏"‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏، ولهذا تفسر الزكاة تارة بالنماء والزيادة وتارة بالنظافة والإماطة‏.‏ والتحقيق أن الزكاة تجمع بين الأمرين‏:‏ إزالة الشر، وزيادة الخير‏.‏ وهذا هو العمل الصالح، وهو الإحسان‏.‏
    وذلك لا ينفع إلا بالإخلاص للّه، وعبادته وحده لا شريك له، الذي هو أصل الإيمان‏.‏ وهو قوله‏:‏
    ‏"وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏"‏ فهذه الثلاث، قد يقال‏:‏ تشبه الثلاث التي يجمع اللّه بينها في القرآن في مواضع، مثل قوله في أول البقرة‏:‏"هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ ومثل قوله‏:‏

    ج/ 16 ص -199-‏"فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ ‏"فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏‏.‏
    وقد يقال‏:‏ تشبه الثنتين المذكورتين في قوله‏:‏
    ‏"مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏
    لكن هنا التزكي في الآية أعم من الإنفاق، فإنه ترك السيئات الذي أصله بترك الشرك‏.‏
    فأول التزكي التزكي من الشرك، كما قال‏:‏
    ‏"وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏"‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏"يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏‏.‏
    والتزكي من الكبائر، الذي هو تمام التقوى، كما قال‏:‏
    ‏"فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى‏"‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏، وقال‏:‏ ‏"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 49‏]‏، فعلم أن التزكية هو الإخبار بالتقوى‏.‏
    ومنه التزكي بالطهارة، وبالصدقة والإحسان، كما قال‏
    :‏ ‏"خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏
    و‏"وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 15‏]‏، قد يعنى به الإيمان باللّه، و‏[‏الصلاة‏]‏‏:‏

    ج/ 16 ص -200-العمل، فقد يذكر اسم ربه من لا يصلي‏.‏
    ومن الفقهاء من يقول‏:‏ هو ذكر اسمه في أول الصلاة؛ ولهذا واللّه أعلم قدم التزكي في هذه الآية‏.‏
    وكان طائفة من السلف إذا أدوا صدقة الفطر قبل صلاة العيد يتأولون بهذه الآية‏.‏ وكان بعض السلف أظنه يزيد بن أبي حبيب ‏[‏هو أبو رجاء يزيد بن سويد الأزدي بالولاء المصري، مفتي أهل مصر في صدر الإسلام، وأول من أظهر علوم الدين والفقه بها، قال الليث‏:‏ يزيد عالمنا وسيدنا، كان نوبيًا أسود، أصله من دنقلة، وفي ولادته للأزد ونسبته إليهم أقوال، وكان حجة حافظًا للحديث، توفي سنة 821 ه‏]‏ يستحب أن يتصدق أمام كل صلاة؛ لهذا المعنى‏.‏
    ولما قدم الله الصلاة على النحر في قوله‏:‏ ‏
    "فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏"‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، وقدم التزكي على الصلاة في قوله‏:‏‏"قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏"‏[‏الأعلى‏:‏ 14، 15‏]‏ كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر، وأن الذبح بعد الصلاة في عيد النحر‏.‏
    ويشبه واللّه أعلم أن يكون الصوم من التزكي المذكور في الآية‏.‏ فإن اللّه يقول ‏
    "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏‏.‏ فمقصود الصوم التقوى، وهو من معنى التزكي‏.‏
    وفي حديث ابن عباس‏:‏ ‏"‏فرض رسول اللّه ﷺ صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ‏"‏‏.‏

    ج/ 16 ص -201-فالصدقة من تمام طهرة الصوم‏.‏ وكلاهما تزكٍ متقدم على صلاة العيد‏.‏
    فجمعت هاتان الكلمتان الترغيب فيما أمر اللّه به من الإيمان والعمل الصالح‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏"بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى‏"‏، الإيمان باليوم الآخر‏.‏
    وهذه الأصول المذكورة في قوله‏:‏
    ‏"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏
    وقال‏:‏
    ‏"إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى‏"‏، وقال أيضًا ‏:‏ ‏"أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفي أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفي ‏"‏[‏النجم‏:‏ 33 41‏]‏‏.‏
    وأيضًا، فإن إبراهيم صاحب الملة وإمام الأمة‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]

    ج/ 16 ص -202-وقال‏:‏ ‏"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا‏"‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏‏.‏
    وموسى صاحب الكتاب والكلام والشريعة، الذي لم يُنَزَّل من السماء كتاب أهدى منه ومن القرآن‏.‏
    ولهذا قرن بينهما في مواضع، كقوله‏:
    ‏‏"قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91، 92‏]‏، وقوله‏:‏‏"قَالُوا سِحْرَانِ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا‏"‏[‏القصص‏:‏ 48، 49‏]‏، وقول الجن‏:‏ ‏"إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏"‏[‏الأحقاف‏:‏ 30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ‏"‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏10‏]‏، وقول النجاشي‏:‏ ‏[‏إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة‏]‏‏.‏
    وقيل في موسى‏:‏‏
    "وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏، وفي إبراهيم‏:‏ ‏"وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏، وأصل الخلة عبادة اللّه وحده، والعبادة غاية الحب والذل‏.‏ وموسى صاحب الكتاب والكلام‏.‏
    ولهذا كان الكفار بالرسل ينكرون حقيقة خُلَّة إبراهيم وتكليم موسى‏.‏
    ولما نبغت البدع الشركية في هذه الأمة أنكر ذلك الجعد بن درهم

    ج/ 16 ص -203-فقتله المسلمون لما ضحى به أمير العراق خالد بن عبد اللّه وقال‏:‏ ‏"‏ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم فإنى مضحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليمًا‏"‏‏.‏ ثم نزل فذبحه‏.‏
    ولما بعث اللّه نبيه ﷺ بعثه إلى أهل الأرض، وهم في الأصل صنفان‏:‏ أميون وكتابيون، والأميون كانوا ينتسبون إلى إبراهيم، فإنهم ذريته، وخُزَّان بيته، وعلى بقايا من شعائره‏.‏ والكتابيون أصلهم كتاب موسى، وكلا الطائفتين قد بدلت وغيرت، فأقام ملة إبراهيم بعد اعوجاجها، وجاء بالكتاب المهيمن، المصدق لما بين يديه، المبين لما اختلف فيه وما حرف وكتم من الكتاب الأول‏.
    فصل
    وإبراهيم وموسى قاما بأصل الدين، الذي هو الإقرار باللّه، وعبادته وحده لا شريك له، ومخاصمة من كفر باللّه‏.‏
    فأما إبراهيم فقال اللّه فيه‏:‏

    ج/ 16 ص -204-‏"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏‏.‏
    وذكر اللّه عنه أنه طلب منه إرادة إحياء الموتى، فأمره اللّه بأخذ أربعة من الطير‏.‏
    فقرر أمر الخلق والبعث، المبدأ والمعاد، الإيمان باللّه واليوم الآخر‏.‏
    وهما اللذان يكفر بهما أو بأحدهما كفار الصابئة والمشركين من الفلاسفة ونحوهم الذين بعث الخليل إلى نوعهم‏.‏
    فإن منهم من ينكر وجود الصانع؛ وفيهم من ينكر صفاته، وفيهم من ينكر خلقه ويقول‏:‏ إنه عِلَّة، وأكثرهم ينكرون إحياء الموتى‏.‏ وهم مشركون يعبدون الكواكب العلوية والأصنام السفلية‏.‏
    والخليل صلوات اللّه عليه رد هذا جميعه‏.‏ فقرر ربوبية ربه كما في هذه الآية‏.‏ وقرر الإخلاص له ونفي الشرك كما في سورة الأنعام وغيرها‏.‏ وقرر البعث بعد الموت‏.‏
    واستقر في ملته محبته للّه، ومحبة اللّه له، باتخاذ اللّه له خليلًا‏.‏

    ج/ 16 ص -205-ثم إنه ناظر المشركين بعبادة من لا يوصف بصفات الكمال‏.‏ فقال لأبيه‏:‏ ‏"يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا‏"‏[‏مريم‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقال لأبيه وقومه‏:‏ ‏"مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ‏"‏ إلى قوله‏:‏‏"فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ‏"‏[‏الشعراء‏:‏ 70 - 81‏]‏، إلى آخر الكلام‏.‏
    وقال‏:
    ‏‏"إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 26 - 28‏]‏‏.‏
    فإبراهيم دعا إلى الفطرة‏.‏وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له‏.‏وهو الإسلام العام، والإقرار بصفات الكمال للّه، والرد على من عبد من سلبها‏.‏
    فلما عابهم بعبادة من لا علم له ولا يسمع ولا يبصر قال‏:‏
    ‏"رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفي عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 38، 39‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -206-ولما عابهم بعبادة من لا يغنى شيئًا فلا ينفع ولا يضر قال‏:‏ ‏"الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏"‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78 - 82‏]‏‏.‏
    فإن الإنسان يحتاج إلى جلب المنفعة لقلبه وجسمه، ودفع المضرة عن ذلك‏.‏ وهو أمر الدين والدنيا‏.‏
    فمنفعة الدين الهدى، ومضرته الذنوب، ودفع المضرة المغفرة؛ ولهذا جمع بين التوحيد والاستغفار في مواضع متعددة‏.‏
    ومنفعة الجسد الطعام والشراب، ومضرته المرض، ودفع المضرة الشفاء‏.‏
    وأخبر أن ربه يحيى ويميت، وأنه فطر السموات والأرض، وإحياؤه فوق كماله بأنه حى‏.‏
    وأنه فطر السموات والأرض، يقتضي إمساكها وقيامها الذي هو فوق كماله بأنه قائم بنفسه، حيث قال عن النجوم‏:‏
    ‏"لا أُحِبُّ الآفِلِينَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏
    فإن الآفل هو الذي يغيب تارة ويظهر تارة، فليس هو قائمًا على

    ج/ 16 ص -207-عبده في كل وقت‏.‏ والذين يعبدون ما سوى اللّه من الكواكب ونحوها ويتخذونها أوثانًا يكونون في وقت البزوغ طالبين سائلين، وفي وقت الأفول لا يحصل مقصودهم ولا مرادهم، فلا يجتلبون منفعة ولا يدفعون مضرة، ولا ينتفعون إذ ذاك بعبادة‏.‏
    فَبَيَّن ما في الآلهة التي تعبد من دون اللّه من النقص، وبَيَّن ما لربه فاطر السموات والأرض من الكمال بأنه الخالق، الفاطر، العليم، السميع، البصير، الهادى، الرازق، المحيى، المميت‏.‏
    وسمى ربه بالأسماء الحسنى الدالة على نعوت كماله، فقال‏:‏ ‏
    "يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏‏.‏وقال‏:‏ ‏"فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، وقال‏:‏ ‏"سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏، فوصف ربه بالحكمة والرحمة المناسب لمعنى الخلة، كما قال‏:‏ ‏"إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏"‏‏.‏ وموسى عليه السلام خاصم فرعون الذي جحد الربوبية والرسالة وقال‏:‏ ‏"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏"‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، و ‏"مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏"‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏، وقصته في القرآن مثناة مبسوطة لا يحتاج هذا الموضع إلى بسطها‏.‏
    وقرر أيضًا أمر الربوبية وصفات الكمال للّه ونفي الشرك‏.‏

    ج/ 16 ص -208-ولما اتخذ قومه العجل بَيَّن اللّه لهم صفات النقص التي تنافي الألوهية فقال‏:‏ ‏"وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏، وقال‏:‏‏"فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ‏"‏[‏طه‏:‏ 88 - 90‏]‏‏.‏
    فوصفه بأنه وإن كان قد صوت صوتا هو خوار فإنه لا يكلمهم، ولا يرجع إليهم قولا، وأنه لا يهديهم سبيلا، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا‏.‏
    وكذلك ذكر اللّه سبحانه على لسان محمد في الشرك عمومًا وخصوصًا فقال‏:‏
    ‏"أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 191 - 195‏]‏‏.‏

    ج/ 16 ص -209- واستفهم استفهام إنكار وجحود لطرق الإدراك التام وهو السمع والبصر‏.‏ والعمل التام وهو اليد والرجل، كما أنه سبحانه لما أخبر فيما روى عنه رسوله عن أحبابه المتقربين إليه بالنوافل فقال‏:‏ ‏"‏ولا يزال عبدى يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه‏.‏ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها‏"‏‏.‏
    فصل
    وأهل السنة والجماعة المتبعون لإبراهيم وموسى ومحمد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين يثبتون ما أثبتوه من تكليم اللّه، ومحبته، ورحمته، وسائر ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى‏.‏
    وينزهونه عن مشابهة الأجساد التي لا حياة فيها، فإن اللّه قال‏:‏
    ‏"وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ‏"‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏، فوصف الجسد بعدم الحياة، فإن الموتان لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينطق، ولا يغني شيئًا‏.‏
    وأما أهل البدع والضلالة من الجهمية ونحوهم فإنهم سلكوا

    ج/ 16 ص -210-سبيل أعداء إبراهيم وموسى ومحمد، الذين أنكروا أن يكون اللّه كلم موسى تكليما واتخذ إبراهيم خليلا‏.‏ وقد كلم اللّه محمدًا، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ورفعه فوق ذلك درجات‏.‏
    وتابعوا فرعون الذي قال‏:‏ ‏
    "يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏"‏[‏غافر‏:‏ 36، 37‏]‏، وتابعوا المشركين الذين ‏"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا‏"‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏، واتبعوا الذين ألحدوا في أسماء اللّه‏.‏
    فهم يجحدون حقيقة كونه الرحمن، أو أنه يرحم، أو يكلم، أو يود عباده أو يودونه، أو أنه فوق السموات‏.‏ ويزعمون أن من أثبت له هذه الصفات فقد شبهه بالأجسام الحسية، وهى الحيوان كالإنسان وأن هذا تشبيه للّه بخلقه‏.‏
    فهم قد شبهوه بالأجساد الميتة فيما هو نقص وعيب، وتشبيه دلت الكتب الإلهية والفطرة العقلية أنه عيب ونقص، بل يقتضي عدمه‏.‏
    وأما أهل الإثبات،فلو فرض أن فيما قالوه تشبيها ما،فليس هو تشبيها بمنقوص معيب، ولا هو في صفة نقص أو عيب،بل في غاية ما يعلم أنه الكمال،وإن لصاحبه الجلال والإكرام‏.‏

    ج/ 16 ص -211-فصار أهل السنة يصفونه بالوجود وكمال الوجود، وأولئك يصفونه بعدم كمال الوجود، أو بعدم الوجود بالكلية‏.‏ فهم ممثلة معطلة؛ ممثلة في العقل والشرع، معطلة في العقل والشرع‏.‏
    أما في العقل؛ فلأنهم مثلوه بالعدم والأجساد الموتان‏.‏
    وأما في الشرع، فإنهم مثلوا ما جاءت به الرسل من صفاته بنفس صفات المخلوقات وإن كان هذا التمثيل الذي ادعوا أنه معنى النصوص أقل تمثيلًا من تمثيلهم الذي ادعوه‏.‏
    وأما تعطيلهم في العقل، فإنه تعطيل للصفات؛ تعطيل مستلزم لعدم الذات؛ ولهذا ألجئ كثير منهم إلى نفي الذات بالكلية، وصاروا على طريقة فرعون؛ لا يقرون إلا بوجود المخلوقات، وإن كانوا قد ينافقون فيقرون بألفاظ لا معنى لها، أو بعبادات لا معبود لها‏.‏
    وأما تعطيلهم للشرع، فإنهم جحدوا ما في كتب اللّه من المعانى وحرفوا الكلم عن مواضعه، أو قالوا‏:‏ نحن كالأميين لا نعلم الكتاب إلا أمانى، أو‏:‏ قلوبنا غلف‏.‏
    وقالوا لِما جاء به الرسول من الكتاب والسنة نظير ما قالته الكفار‏:‏

    ج/ 16 ص -212-"قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ و‏"قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏‏.‏
    وهكذا قال هؤلاء‏:‏ لا نفقه كثيرًا مما يقول الرسول، وقالوا كما قال الذين يستمعون للرسول، فإذا خرجوا من عنده
    ‏"قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا‏"‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏‏.‏
    وصاروا كالذين قيل فيهم‏:‏
    ‏"وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 45، 46‏]‏‏.‏
    فتدبر ما ذكره اللّه عن أعداء الرسل، من نفي فقههم وتكذيبهم، تجد بعض ذلك فيمن أعرض عن ذكر اللّه وعن تدبر كتابه، واتبع ما تتلوه الشياطين وما توحيه إلى أوليائها، واللّه يهدينا صراطًا مستقيمًا‏.‏
    ولهذا كانت هذه الجهمية المعطلة المشابهون للكفار والمشركين من الصابئة وغيرهم، الجاحدة لوجود الصانع أو صفاته، ترمى أهل العلم والإيمان والكتاب والسنة، تارة بأنهم يشبهون اليهود؛ لما في التوراة

    ج/ 16 ص -213-وكتب الأنبياء من الصفات، ولما ابتدعه بعض اليهود من التشبيه المنفي عن اللّه، وتارة بأنهم يشبهون النصارى لما أثبتته النصارى من صفة الحياة والعلم، ولما ابتدعته من أن الأقانيم جواهر، وأن أقنوم الكلمة اتحد بالناسوت‏.‏
    وهذا الرمي موجود في كلامهم قبل الإمام أحمد بن حنبل وفي زمنه، وهو موجود في كلامه وكلام أصحابه، حكاية ذلك ذكره في كتاب‏:‏ ‏[‏الرد على الجهمية والزنادقة‏]‏، وأنهم قالوا‏:‏ ‏[‏إذا أثبتم الصفات فقد قلتم بقول النصارى‏]‏، وَرَدَّ ذلك‏.‏ وفي مسائله‏:‏ أن طائفة قالوا له‏:‏ من قال‏:‏ ‏[‏القرآن غير مخلوق، أو هو في الصدور‏]‏ فقد قال بقول النصاري‏.‏
    وهكذا الجهمية ترمي الصفاتية بأنهم يهود هذه الأمة‏.‏ وهذا موجود في كلام متقدمى الجهمية ومتأخريهم، مثل ما ذكره أبو عبد اللّه محمد بن عمر الرازي الجهمي الجبري، وإن كان قد يخرج إلى حقيقة الشرك وعبادة الكواكب والأوثان في بعض الأوقات، وصنف في ذلك كتابه المعروف في السحر وعبادة الكواكب والأوثان‏.‏ مع أنه كثيرًا ما يحرم ذلك وينهى عنه متبعًا للمسلمين وأهل الكتب والرسالة‏.‏
    وينصر الإسلام وأهله في مواضع كثيرة، كما يشكك أهله ويشكك غير

    ج/ 16 ص -214-أهله في أكثر المواضع‏.‏ وقد ينصر غير أهله في بعض المواضع‏.‏ فإن الغالب عليه التشكيك والحيرة، أكثر من الجزم والبيان‏.‏
    وهؤلاء لهم أجوبة‏:‏
    أحدها‏:‏ أن مشابهة اليهود والنصارى ليست محذورًا إلا فيما خالف دين الإسلام، ونصوص الكتاب والسنة، والإجماع‏.‏ وإلا فمعلوم أن دين المرسلين واحد، وأن التوراة والقرآن خرجًا من مشكاة واحدة‏.‏
    وقد استشهد اللّه بأهل الكتاب في غير موضع، حتى قال‏:‏ ‏
    "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏"‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏
    فإذا أشهد أهل الكتاب على مثل قول المسلمين كان هذا حجة ودليلًا،وهو من حكمة إقرارهم بالجزية‏.‏ فيفرح بموافقة المقالة المأخوذة من الكتاب والسنة لما يأثره أهل الكتاب عن المرسلين قبلهم‏.‏ ويكون هذا من أعلام النبوة، ومن حجج الرسالة، ومن الدليل على اتفاق الرسل‏.‏
    الثاني‏:‏ أن المشابهة التي يدعونها ليست صحيحة‏.‏ فإن أهل السنة

    ج/ 16 ص -215-لا يوافقون اليهود والنصارى فيما ابتدعوه من الدين والاعتقاد؛ ولهذا قلت في بيان فساد قول ابن الخطيب‏:‏ إنه لم يفهم مقالة أهل الحديث والسنة من الحنبلية وغيرهم، ولم يفهم مقالة النصارى، وأوضحت ذلك في موضعه، كما بين الإمام أحمد الفرق بين مقالة أهل السنة وبين مقالة النصارى المبتدعة، وكما يبين الفرق بين مقالة أهل السنة ومقالة اليهود المبتدعة‏.‏
    الثالث‏:‏ أنه إذا فرض مشابهة أهل الإثبات لليهود أو النصارى، فأهل النفي والتعطيل مشابهون للكفار والمشركين من النصارى وغيرهم‏.‏ ومعلوم قطعًا أن مشابهة أهل الكتابين خير من مشابهة من ليس من أهل الكتاب، من الكفار بالربوبية والنبوات ونحوهم؛ ولهذا قيل‏:‏ المشبه أعشى، والمعطل أعمى‏.‏
    ولهذا فرح المؤمنون على عهد النبي ﷺ بانتصار النصارى على المجوس، كما فرح المشركون بانتصار المجوس على النصارى‏.‏ فتدبر هذا، فإنه نافع في مواضع، واللّه أعلم‏.‏
    ولهذا كان المعتزلة ونحوهم من القدرية مجوس هذه الأمة‏.‏
    وهم يجعلون الصفاتية نصارى الأمة ويميلون إلى اليهود لموافقتهم

    ج/ 16 ص -216-لهم في أمور كثيرة أكثر من النصارى، كما يميل طائفة من المتصوفة والمتفقرة إلى النصارى أكثر من اليهود‏.‏
    فإذا كان الصفاتية إلى النصارى أقرب وضدهم إلى المجوس والمشركين أقرب تبين أن الصفاتية أتباع النبي ﷺ وأصحابه الذين فرحوا بانتصار الروم النصارى على فارس المجوس، وأن المعطلة هم إلى المشركين أقرب، الذين فرحوا بانتصار المجوس على النصارى‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML