أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

تفسير سورة الطلاق

    ج/ 16 ص -52-سورة الطلاق
    وقال‏:‏
    فصل
    وأما قوله‏:‏ ‏
    "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، فقد بين فيها‏:‏ أن المتقي يدفع الله عنه المضرة، بما يجعله له من المخرج، ويجلب له من المنفعة، بما ييسره له من الرزق، والرزق اسم لكل ما يغتَذي به الإنسان، وذلك يعم رزق الدنيا ورزق الآخرة‏.‏ وقد قال بعضهم‏:‏ ما افتقر تقي قط، قالوا‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله يقول‏:‏ ‏"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏"‏ ‏.‏ وقول القائل‏:‏ قد نري من يتقي وهو محروم‏.‏ ومن هو بخلاف ذلك وهو مرزوق‏.‏
    فجوابه‏:‏أن الآية اقتضت أن المتقي يرزق من حيث لا يحتسب،ولم تدل على أن غير المتقي لا يرزق، بل لابد لكل مخلوق من الرزق، قال الله تعالى‏
    :‏‏"وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا‏"‏ ‏[‏هود‏:‏6‏]‏ حتى

    ج/ 16 ص -53- إن ما يتناوله العبد من الحرام هو داخل في هذا الرزق، فالكفار قد يرزقون بأسباب محرمة، ويرزقون رزقا حسنًا، وقد لا يرزقون إلا بتكلف، وأهل التقوي يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون،ولا يكون رزقهم بأسباب محرمة،ولا يكون خبيثًا، والتَّقِي لا يحرم ما يحتاج إليه من الرزق، وإنما يحمَى من فضول الدنيا، رحمة به وإحسانًا إليه،فإن توسيع الرزق قد يكون مضرة على صاحبه، وتقديره يكون رحمة لصاحبه‏.‏
    قال تعالى‏:‏
    ‏"فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا‏"‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 15 - 17‏]‏ أي‏:‏ ليس الأمر كذلك، فليس كل من وسع عليه رزقه يكون مكرمًا، ولا كل من قُدِرَ عليه رزقه يكون مهانًا، بل قد يوسع عليه رزقه إملاء واستدراجا، وقد يقدر عليه رزقه حماية وصيانة له، وضيق الرزق على عبد من أهل الدين قد يكون لما له من ذنوب وخطايا، كما قال بعض السلف‏:‏ إن العبد لَيحرَم الرزق بالذنب يصيبه، وفي الحديث عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏"‏‏.‏
    وقد أخبر الله تعالى أن الحسنات يذهِبن السيئات، والاستغفار سبب للرزق والنعمة، وأن المعاصي سبب للمصائب والشدة، فقال تعالى‏:‏

    ج/ 16 ص -54- ‏"الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏"‏[‏هود‏:‏1 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا‏"‏ ‏[‏نوح‏:‏ 10 12‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏"‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16، 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم‏"‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ‏"‏‏[‏هود‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏"‏[‏الأنعام‏:‏42، 43‏]‏‏.‏
    وقد أخبر الله تعالى في كتابه‏:‏ أنه يبتلي عباده بالحسنات والسيئات؛ فالحسنات هي النعم، والسيئات هي المصائب؛ ليكون العبد صَبَّارًا شكورًا‏.‏ وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏
    :‏ ‏"‏والذي نفسي بيده‏!‏ لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له‏"‏‏.‏

    ج/ 16 ص -55-وقال أيضًا‏:‏
    فصل
    قال الله تعالى‏:‏
    ‏"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏ قد روي عن أبي ذر عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"مَخْرَجًا‏"‏ عن بعض السلف‏:‏ أي من كل ما ضاق علي الناس، وهذه الآية مطابقة لقوله‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ الجامعة لعلم الكتب الإلهية كلها؛ وذلك أن التقوي هي العبادة المأمور بها، فإن تقوي الله وعبادته وطاعته أسماء متقاربة متكافئة متلازمة، والتوكل عليه هو الاستعانة به،فمن يتقي الله مثال‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏"‏، ومن يتوكل علي الله مثال‏:‏ ‏"وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏، كما قال‏:‏ ‏"فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقال‏:‏‏"عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا‏"‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏"عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏"‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏‏.‏
    ثم جعل للتقوي فائدتين‏:‏ أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من

    ج/ 16 ص -56-حيث لا يحتسب‏.‏ والمخرج هو موضع الخروج، وهو الخروج، وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فَبَين أن فيها النصر والرزق، كما قال‏:‏ ‏"أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏"‏ ‏[‏قريش‏:‏ 4‏]‏؛ ولهذا قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏ بدعائهم، وصلاتهم، واستغفارهم‏"‏ هذا لجلب المنفعة، وهذا لدفع المضرة‏.‏
    وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه، أي‏:‏ كافيه، وفي هذا بيان التوكل علي الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه، كما قال‏:‏
    ‏"أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ خلافا لمن قال‏:‏ ليس في التوكل إلا التفويض والرضا‏.‏ ثم إن الله بالغ أمره، ليس هو كالعاجز، ‏"قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏"‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏ وقد فسروا الآية بالمخرج من ضيق الشبهات بالشاهد الصحيح، والعلم الصريح، والذوق، كما قالوا‏:‏ يعلمه من غير تعليم بَشَرٍ، ويفطنه من غير تجربة، ذكره أبو طالب المكي، كما قالوا في قوله‏:‏‏"إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏29‏]‏ أنه نور يفرق به بين الحق والباطل، كما قالوا‏:‏ بصرًا، والآية تعم المخرج من الضيق الظاهر والضيق الباطن، قال تعالى‏:‏ ‏"فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وتعم ذوق الأجساد وذوق القلوب، من العلم والإيمان، كما قيل مثل ذلك في قوله‏:‏ ‏"وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏"أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏، وهو القرآن والإيمان‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML