أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

تفسير سورة الفرقان

    ج/ 15 ص -428-سورة الفرقان
    قال شيخ الإسلام رَحِمهُ اللّه تعالى ‏:
    فصل

    أكبر الكبائر ثلاث‏: الكفر، ثم قتل النفس بغير الحق، ثم الزنا، كما رتبها اللّه فى قوله:
    "‏‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ‏‏"[‏الفرقان‏: 68‏]‏، وفى الصحيحين من حديث عبد اللّه بن مسعود قال‏: قلت‏: يا رسول اللّه، أى الذنب أعظم‏؟‏ قال‏: "‏أن تجعل للّه ندا وهو خلقك‏"‏، قلت‏: ثم أى‏؟‏ قال‏: "‏ثم أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَمَ معك‏"‏، قلت‏: ثم أى‏؟‏ قال‏: "‏أن تزانى بحليلة جارك‏"‏‏‏
    ولهذا الترتيب وجه معقول، وهو أن قوى الإنسان ثلاث‏: قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة‏‏ فأعلاها القوة العقلية التي يختص بها الإنسان دون سائر الدواب، وتشركه فيها الملائكة، كما قال أبو بكر عبد العزيز من أصحابنا وغيره‏: خُلق للملائكة عقول بلا شهوة،

    ج/ 15 ص -429-وخُلق للبهائم شهوة بلا عقل، وخُلق للإنسان عقل وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه‏‏ ثم القوة الغضبية التي فيها دفع المضرة، ثم القوة الشهوية التي فيها جلب المنفعة‏‏
    ومن الطبائعيين من يقول‏: القوة الغضبية هى الحيوانية، لاختصاص الحيوان بها دون النبات‏‏ والقوة الشهوية هى النباتية لاشتراك الحيوان والنبات فيها‏‏ واختصاص النبات بها دون الجماد‏‏
    لكن يقال‏: إن أراد أن نفس الشهوة مشتركة بين النبات والحيوان فليس كذلك، فإن النبات ليس فيه حنين ولا حركة إرادية، ولا شهوة ولا غضب‏‏ وإن أراد نفس النمو والاغتذاء فهذا تابع للشهوة وموجبها‏‏
    وله نظير فى الغضب‏: وهو أن موجب الغضب وتابعه هو الدفع والمنع، وهذا معنى موجود فى سائر الأجسام الصلبة القوية، فذات الشهوة والغضب مختص بالحى‏‏ وأما موجبهما من الاعتداء والدفع فمشترك بينهما وبين النبات القوى، فقوة الدفع والمنع موجود فى النبات الصلب القوى، دون اللين الرطب، فتكون قوة الدفع مختصة ببعض النبات، لكنه موجود فى سائر الأجسام الصلبة، فبين الشهوة والغضب عموم وخصوص‏‏

    ج/ 15 ص -430-وسبب ذلك، أن قوى الأفعال فى النفس إما جذب وإما دفع، فالقوة الجاذبة الجالبة للملائم هى الشهوة وجنسها من المحبة والإرادة ونحو ذلك، والقوة الدافعة المانعة للمنافى هى الغضب وجنسها من البغض والكراهة، وهذه القوة باعتبار القدر المشترك بين الإنسان والبهائم هى مطلق الشهوة والغضب، وباعتبار ما يختص به الإنسان‏: العقل والإيمان والقوى الروحانية المعترضة‏‏
    فالكفر متعلق بالقوة العقلية الناطقة الإيمانية، ولهذا لا يوصف به من لا تمييز له، والقتل ناشئ عن القوة الغضبية، وعدوان فيها‏‏ والزنا عن القوة الشهوانية‏‏ فالكفر اعتداء وفساد فى القوة العقلية الإنسانية، وقتل النفس اعتداء وفساد فى القوة الغضبية‏‏ والزنا اعتداء وفساد فى القوة الشهوانية‏‏
    ومن وجه آخر ظاهر، أن الخلق خلقهم اللّه لعبادته، وقوام الشخص بجسده، وقوام النوع بالنكاح والنسل، فالكفر فساد المقصود الذي له خلقوا، وقتل النفس فساد النفوس الموجودة، والزنا فساد فى المنتظر من النوع‏‏ فذاك إفساد الموجود، وذاك إفساد لما لم يوجد بمنزلة من أفسد مالاً موجودا، أو منع المنعقد أن يوجد‏‏وإعدام الموجود أعظم فسادا، فلهذا كان الترتيب كذلك‏‏

    ج/ 15 ص -431-ومن وجه ثالث، أن الكفر فساد القلب والروح الذي هو ملك الجسد، والقتل إفساد للجسد الحامل له، وإتلاف الموجود‏‏ وأما الزنا فهو فساد فى صفة الوجود لا فى أصله، لكن هذا يختص بالزنا، ومن هنا يتبين أن اللواط أعظم فسادا من الزنا‏‏ فصل
    وباعتبار القوى الثلاث، انقسمت الأمم التي هى أفضل الجنس الإنسانى، وهم العرب والروم والفرس‏‏ فإن هذه الأمم هى التي ظهرت فيها الفضائل الإنسانية، وهم سكان وسط الأرض طولا وعرضا، فأما من سواهم كالسودان والترك ونحوهم فتبع‏‏
    فغلب على العرب القوة العقلية النطقية، واشتق اسمها من وصفها، فقيل لهم‏: عرب من الأعراب، وهو البيان والإظهار، وذلك خاصة القوة المنطقية‏‏
    وغلب على الروم القوة الشهوية من الطعام والنكاح ونحوهما، واشتق اسمها من ذلك فقيل لهم‏: الروم، فإنه يقال‏: رمت هذا أرومه إذا طلبته واشتهيته‏‏

    ج/ 15 ص -432-وغلب على الفرس القوة الغضبية من الدفع والمنع والاستعلاء والرياسة، واشتق اسمها من ذلك، فقيل‏: فرس، كما يقال‏: فرسه يفرسه إذا قهره وغلبه‏‏
    ولهذا توجد هذه الصفات الثلاث غالبة على الأمم الثلاث حاضرتها وباديتها؛ ولهذا كانت العرب أفضل الأمم، وتليها الفرس؛ لأن القوة الدفعية أرفع، وتليها الروم‏‏
    فصل
    وباعتبار هذه القوى كانت الفضائل ثلاثاً‏: فضيلة العقل، والعلم والإيمان‏: التي هى كمال القوة المنطقية، وفضيلة الشجاعة‏: التي هى كمال القوة الغضبية، وكمال الشجاعة هو الحلم، كما قال النبى ﷺ‏:
    "‏ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب‏"‏، والحلم والكرم ملزوزان فى قرن، كما أن كمال القوة الشهوية العفة، فإذا كان الكريم عفيفاً والسخى حليما اعتدل الأمر‏‏
    وفضيلة السخاء والجود التي هى كمال القوة الطلبية الحبية، فإن السخاء يصدر عن اللين والسهولة ورطوبة الخلق، كما تصدر الشجاعة عن

    ج/ 15 ص -433-القوة والصعوبة ويبس الخلق، فالقوة الغضبية هى قوة النصر، والقوة الشهوية قوة الرزق، وهما المذكوران فى قوله: "‏‏ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏‏"[‏قريش‏: 4‏]‏، والرزق والنصر مقترنان فى الكتاب والسنة، وكلام الناس كثيراً‏‏
    وأما الفضيلة الرابعة‏: التي يقال لها‏: العدالة، فهى صفة منتظمة للثلاث وهو الاعتدال فيها، وهذه الثلاث الأخيرات هى الأخلاق العملية، كما جاء من حديث سعد لما قال فيه العبسى‏: إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل فى القضية، ولا يخرج فى السرية‏‏
    فَصل
    وباعتبار القوى الثلاث كانت الأمم الثلاث‏: المسلمون، واليهود والنصارى، فإن المسلمين فيهم العقل والعلم والاعتدال فى الأمور،فإن معجزة نبيهم هى علم اللّه وكلامه؛ وهم الأمة الوسط‏‏
    وأما اليهود فأضعفت القوة الشهوية فيهم، حتى حرم عليهم من المطاعم والملابس ما لم يحرم على غيرهم، وأمروا من الشدة والقوة بما أمروا به، ومعاصيهم غالبها من باب القسوة والشدة لا من باب الشهوة،

    ج/ 15 ص -434-والنصارى أضعفت فيهم القوة الغضبية فنهوا عن الانتقام والانتصار، ولم تضعف فيهم القوة الشهوية، فلم يحرم عليهم من المطاعم ما حرم على من قبلهم، بل أحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وظهر فيهم من الأكل والشرب والشهوات ما لم يظهر فى اليهود، وفيهم من الرقة والرأفة والرحمة ما ليس فى اليهود، فغالب معاصيهم من باب الشهوات لا من باب الغضب، وغالب طاعاتهم من باب النصر لا من باب الرزق‏‏ ولما كان فى الصوفية والفقهاء عيسوية مشروعة أو منحرفة، كان فيهم من الشهوات ووقع فيهم من الميل إلى النساء والصبيان والأصوات المطربة ما يذمون به، ولما كان فى الفقهاء موسوية مشروعة أو منحرفة، كان فيهم من الغضب ووقع فيهم من القسوة والكبر ونحو ذلك ما يذمون به‏‏
    فَصل
    جنس القوة الشهوية الحب، وجنس القوة الغضبية البغض، والغضب والبغض متفقان فى الاشتقاق الأكبر؛ ولهذا قال النبى ﷺ‏:
    "‏أوثق عرى الإيمان الحب فى اللّه، والبغض فى اللّه‏"‏‏‏ فإن هاتين القوتين هما الأصل، وقال‏: "‏من أحب للّه وأبغض للّه

    ج/ 15 ص -435-وأعطى للّه ومنع للّه فقد استكمل الإيمان‏"‏، فالحب والبغض هما الأصل، والعطاء عن الحب وهو السخاء، والمنع عن البغض وهو الشحاحة‏‏ فأما الغضب فقد يقال‏: هو خصوص فى البغض، وهو الشدة التي تقوم فى النفس التي يقترن بها غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا هو الغضب الخاص؛ ولهذا تعدل طائفة من المتكلمين عن مقابلة الشهوة بالغضب إلى مقابلتها بالنفرة، ومن قابل الشهوة بالغضب فيجب ألا يريد الغضب الخاص، فإن نسبة هذا إلى النفرة نسبة الطمع إلى الشهوة، فأما الغضب العام فهو القوة الدافعة البغضية المقابلة للقوة الجاذبة الحبية‏‏
    فَصل
    فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية الحبية الشهوية، وترك المنهى عنه صادر عن القوة الكراهية البغضية الغضبية النفرية، والأمر بالمعروف صادر عن المحبة والإرادة،والنهى عن المنكر صادر عن البغض والكراهة،وكذلك الترغيب فى المعروف والترهيب عن المنكر، والحض على هذا والزجر عن هذا؛ولهذا لا تكف النفوس عن الظلم إلا بالقوة الغضبية الدفعية،وبذلك يقوم العدل والقسط فى الحكم والقسم

    ج/ 15 ص -436-وغير ذلك، كما أن الإحسان يقوم بالقوة الجذبىة الشهوىة، فإن اندفاع المكروه بدون حصول المحبوب عدم، إذ لا محبوب ولا مكروه، وحصول المحبوب والمكروه وجود فاسد، إذ قد حصلا معا وهما متقابلان فى الترجيح، فربما يختار بعض النفوس هذا ويختار بعضها هذا، وهذا عند التكافؤ، وأما المكروه اليسير مع المحبوب الكثير فيترجح فيه الوجود، كما أن المكروه الكثير مع المحبوب اليسير يترجح فيه العدم‏‏
    لكن لما كان المقتضى لكل واحد من المحبوب والمكروه الذي هو الخير والشر موجوداً، وبتقدير وجودهما يحصل النصر كالرزق مع الخوف، صار يعظم فى الشرع والطبع دفع المكروه ‏‏ أما فى الشرع فبالتقوى، فإن اسمها فى الكتاب والسنة والإجماع عظيم، والعاقبة لأهلها والثواب لهم، وأما فى الطبع فتعظيم النفوس لمن نصرهم بدفع الضرر عنهم من عدو أو غيره، فإن أهل الرزق معظمون لأهل النصر أكثر من تعظيم أهل النصر لأهل الرزق؛ وذاك - واللّه أعلم - لأن النصر بلا رزق ينفع، فإن الأسباب الجالبة للرزق موجودة تعمل عملها، وأما الرزق بلا نصر فلا ينفع، فإن الأسباب الناصرة تابعة، وفى هذا نظر فقد يقال‏: هما متقابلان فإن أهل النصر يحبون أهل الرزق أكثر مما يحب أهل الرزق لأهل النصر، فإن الرزق محبوب والنصر معظم‏‏

    ج/ 15 ص -437-وقد يقال‏: بل النصر أعظم كما تقدم، فإن اندفاع المكروه محبوب أيضاً وهو لا يحصل إلا بقوة الدفع التي هى أقوى من قوة الجذب، فاختص الناصر بالتعظيم لدفعه المعارض، وأما الرازق فلا معارض له، بل له موافق، فالناصر محبوب معظم‏‏ وقد يقابل هذا بأن يقال‏: وفوات المحبوب مكروه - أيضاً- والمحبوب لا يحصل إلا بقوة الجذب، ولا نسلم أن قوة الدفع أقوى، بل قد يكون الجذب أقوى، بل الجذب فى الأصل أقوى، لأنه المقصود بالقصد الأول، والدفع خادم تابع له، وكما أن الدافع دفع المعارض فالجاذب حصل المقتضى، وترجيح المانع على المقتضى غير حق، بل المقتضى أقوى بالقول المطلق، فإنه لابد منه فى الوجود‏‏
    وأما المانع فإنما يحتاج إليه عند ثبوت المعارض، وقد لا يكون معارض، فالمقتضى والمحبة هو الأصل والعمدة فى الحق الموجود والحق المقصود،وأما المانع والبغضة فهو الفرع والتابع‏‏
    ولهذا كتب اللّه فى الكتاب الموضوع عنده فوق العرش ‏: "‏إن رحمتى تغلب غضبى‏"‏‏‏ ولهذا كان الخير فى أسماء اللّه وصفاته، وأما الشر ففى الأفعال، كقوله:
    "‏‏‏نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ‏‏"[‏الحجر‏: 49، 50‏]‏، وقوله "‏‏اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏‏"[‏المائدة‏: 98‏]‏‏‏

    ج/ 15 ص -438-يبقى أن يقال‏: فلم عظمت التقوى‏؟‏ فيقال‏: إنها هى تحفظ الفطرة وتمنع فسادها، واحتاج العبد إلى رعايتها؛ لأن المحبة الفطرية لا تحتاج إلى محرك؛ ولهذا كان أعظم ما دعت إليه الرسل الإخلاص والنهى عن الإشراك؛ لأن الإقرار الفطرى حاصل لوجود مقتضيه، وإنما يحتاج إلى إخلاصه ودفع الشرك عنه؛ ولهذا كانت حاجة الناس إلى السياسة الدافعة لظلم بعضهم عن بعض والجالبة لمنفعة بعضهم بعضاً، كما أوجب اللّه الزكاة النافعة وحرم الربا الضار، وأصل الدين‏: هو عبادة اللّه الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس‏‏
    وهذه المحبة التي هى أصل الدين‏: انحرف فيها فريق من منحرفة الموسوية من الفقهاء والمتكلمين حتى أنكروها، وزعموا أن محبة اللّه ليست إلا إرادة عبادته، ثم كثير منهم تاركون للعمل بما أمروا به، فيأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهذا فاش فيهم، وهو عدم المحبة والعمل، وفريق من منحرفة العيسوية من الصوفية والمتعبدين، خلطوها بمحبة ما يكرهه، وأنكروا البغض والكراهية، فلم ينكروا شيئاً ولم يكرهوه أو قصروا فى الكراهة والإنكار، وأدخلوا فيها الصور والأصوات ومحبة الأنداد‏‏
    ولهذا كان لغواة الأولين وصف الغضب واللعنة الناشئ عن

    ج/ 15 ص -439-البغض؛ لأن فيهم البغض دون الحب، وكان لضلال الآخرين وصف الضلال والغلو؛ لأن فيهم محبة لغير معبود صحيح، ففيهم طلب وإرادة ومحبة، ولكن لا إلى مطلوب صحيح، ولا مراد صحيح، ولا محبوب صحيح، بل قد خلطوا وغلوا وأشركوه، ففيهم محبة الحق والباطل، وهو وجود المحبوب والمكروه، كما فى الآخرين بغض الحق والباطل، وهو دفع المحبوب والمكروه واللّه سبحانه يهدينا صراطه المستقيم فيحمد من هؤلاء محبة الحق والاعتراف به، ومن هؤلاء بغض الباطل وإنكاره‏‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML