ج/ 15 ص -280-سورة النور
قال الشيخ الربانى والصديق الثانى، إمام الأئمة ومفتى الأمة، وبحر العلوم وبدر النجوم، وسند الحفاظ وفارس المعانى والألفاظ، وفريد العصر وأَوْحَد الدهر، وشيخ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام، وعلاَّمة الزمان وتُرْجُمَان القرآن، وعَلَمُ الزُهَّاد وأَوحد العباد، وقامع المبتدعين وآخر المجتهدين، البحر الزاخر والصارم الباتر، أبو العباس تقى الدين أحمد بن شهاب الدين أبى المحاسن عبد الحليم ابن شيخ الإسلام مجد الدين أبى البركات عبد السلام بن أبى محمد عبد الله بن أبى القاسم الخضر بن محمد بن الخضر على بن عبد الله بن تيمية الحرانى قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه ورضى عنه وأرضاه:
ج/ 15 ص -281- فَصْل
فى معان مستنبطة من سورة النور
قال تعالى: "سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَّ"[النور: 1]، ففرضها بالبينات والتقدير لحدود الله التى من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه، ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود، وبيَّن فيها فرض العقوبة للزانيين مائة جلدة، وبيَّن فيها فريضة الشهادة على الزنا، وأنها أربع شهادات، وكذلك فريضة شهادة المتلاعنين كل منهما يشهد أربع شهادات بالله، ونهى فيها عن تعدى حدوده فى الفروج والأعراض والعورات، وطاعة ذى السلطان سواء كان فى منزله أو فى ولايته، ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه، إذ الحقوق نوعان: نوع لله فلا يتعدى حدوده، ونوع للعباد فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك، وليس لأحد أن يفعل شيئًا فى حق غيره إلا بإذن الله، وإن لم يأذن المالك فإذن الله هو الأصل، وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه
ولهذا ضمنها الاستئذان فى المساكن والمطاعم، والاستئذان فى
ج/ 15 ص -282- الأمور الجامعة كالصلاة والجهاد ونحوهما، ووسطها بذكر النور الذى هو مادة كل خير وصلاح كل شىء، وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه، وعن الصبر على ذلك، فإنه ضياء، فإن حفظ الحدود بتقوى الله يجعل الله لصاحبه نورًا، كما قال تعالى: "اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ"[الحديد: 28]
فضد النور الظلمة؛ ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين فيها بأعمال الكفار وأهل البدع والضلال، فقال: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ" إلى قوله: "ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ"[النور: 39، 40]، وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة، وظلم العبد نفسه من الظلم، فإن للسيئة ظلمة فى القلب، وسوادًا فى الوجه، ووهنًا فى البدن، ونقصًا فى الرزق، وبغضًا فى قلوب الخلق، كما روى ذلك عن ابن عباس
يوضح ذلك أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور، ومثل أعمال الكفار بالظلمة
و [الإيمان]: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه و [الكفر]:
ج/ 15 ص -283- اسم جامع لكل ما يبغضه الله وينهى عنه، وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصى، كما لا يكون مؤمنًا إذا كان معه أصل الكفر وبعض فروع الإيمان ولغض البصر اختصاص بالنور كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وقد روى أبو هريرة عن النبى ﷺ أنه قال: [إن العبد إذا أذنب نُكِتَت فى قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى يعلو قلبه، فذلك [الران] الذى ذكر الله: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ"[المطففين: 14] رواه الترمذى وصححه [الران: الطبع والتغطية والختم] وفى الصحيح أنه قال: [إنه ليغان على قلبى وإنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة]، والغين: حجاب رقيق أرق من الغيم، فأخبر أنه يستغفر الله استغفارًا يزيل الغين عن القلب، فلا يصير نكتة سوداء كما أن النكتة السوداء إذا أزيلت لا تصير رَيْنًا
وقال حذيفة: إن الإيمان يبدو فى القلب لُمْظَة [أى نكتة] بيضاء، فكلما ازداد العبد إيمانًا ازداد قلبه بياضًا، فلو كشفتم عن قلب المؤمن لرأيتموه أبيض مشرقًا، وإن النفاق يبدو منه لمظة سوداء، فكلما ازداد العبد نفاقًا ازداد قلبه سوادًا، فلو كشفتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود مربدًا وقال ﷺ: "إن النور إذا دخل القلب انشرح وانفسح" قيل: فهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: "نعم،
ج/ 15 ص -284- التجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله"
وفى خطبة الإمام أحمد التى كتبها فى كتابه فى الرد على الجهمية والزنادقة قال: [الحمد لله الذى جعل فى كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه حيران قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون فى الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفى الله، وفى كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّال الناس بما يشبهون عليهم، نعوذ بالله من شبه المضلين ]
قلت: وقد قرن الله سبحانه فى كتابه فى غير موضع بين أهل الهدى والضلال، وبين أهل الطاعة والمعصية بما يشبه هذا، كقوله تعالى "وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ"[فاطر: 19 22]، وقال: "مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ الآية"[هود: 24]، وقال فى المنافقين:
ج/ 15 ص -285- "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً الآيات"[البقرة: 17]، وقال: "اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ الآية"[البقرة: 257]، وقال: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ"[إبراهيم: 1]،والآيات فى ذلك كثيرة
وهذا النور الذى يكون للمؤمن فى الدنيا على حسن عمله واعتقاده يظهر فى الآخرة، كما قال تعالى: "نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ الآية"[التحريم: 8]، فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة، كما ذكره فى سورة النور عقيب أمره بغض البصر، وأمره بالتوبة فى قوله: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[النور: 31]، وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما يتعلق بالنساء؛ وقال فى سورة الحديد: "يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم الآيات،إلى قوله فى المنافقين: مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ"[الحديد: 12 15]
فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذى كان المؤمنون يمشون به، ويطلبون الاقتباس من نورهم فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم وبين المؤمنين، كما أن المنافقين لما فقدوا النور فى الدنيا كان مثلهم كمثل الذى استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات، فقوله تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيالآية"[النور: 2]، فأمر بعقوبتهما وعذابهما بحضور طائفة من المؤمنين، وذلك بشهادته على نفسه، أو بشهادة المؤمنين عليه؛ لأن المعصية إذا كانت ظاهرة كانت عقوبتها
ج/ 15 ص -286- ظاهرة، كما جاء فى الأثر: من أذنب سرًا فليتب سرًا، ومن أذنب علانية فليتب علانية وليس من الستر الذى يحبه الله تعالى كما فى الحديث: [من ستر مسلمًا ستره الله] بل ذلك إذا ستر كان ذلك إقرارًا لمنكر ظاهر، وفى الحديث: [إن الخطيئة إذا خَفِيَت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة]، فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن
ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة، كما روى ذلك عن الحسن البصرى وغيره؛ لأنه لما أعلن ذلك استحق عقوبة المسلمين له، وأدنى ذلك أن يذم عليه لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته، ولو لم يذم ويذكر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لاغتر به الناس، وربما حمل بعضهم على أن يرتكب ما هو عليه، ويزداد أيضًا هو جرأة وفجورًا ومعاصى، فإذا ذكر بما فيه انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته ومخالطته، قال الحسن البصرى: أترغبون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه كى يحذره الناس، وقد روى مرفوعًا، و [الفجور]: اسم جامع لكل متجاهر بمعصية، أو كلام قبيح يدل السامع له على فجور قلب قائله
ولهذا كان مستحقًا للهجر إذا أعلن بدعة أو معصية أو فجورًا أو تهتكًا،أو مخالطة لمن هذا حاله بحيث لا يبالى بطعن الناس عليه، فإن
ج/ 15 ص -287- هجره نوع تعزير له،فإذا أعلن السىئات أعلن هجره،وإذا أسر أسر هجره، إذ الهجرة هى الهجرة على السيئات،وهجرة السيئات هجرة ما نهى الله عنه،كما قال تعالى: "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ"[المدثر: 5]، وقال تعالى: "وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا"[المزمل: 10]، وقال: "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ"[النساء: 140]
وقد روى عن عمر بن الخطاب: أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر، وذهب به أخوه إلى أمير مصر عمرو بن العاص ليجلده الحد، جلده الحد سرًا، وكان الناس يجلدون علانية، فبعث عمر بن الخطاب إلى عمرو ينكر عليه ذلك، ولم يعتد عمر بذلك الجلد حتى أرسل إلى ابنه فأقدمه المدينة فجلده الحد علانية، ولم ير الوجوب سقط بالحد الأول، وعاش ابنه بعد ذلك مدة ثم مرض ومات، ولم يمت من ذلك الجلد، ولا ضربه بعد الموت، كما يزعمه الكذَّابون
قوله تعالى: "وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ الآية"[النور: 2]،نهى تعالى عما يأمر به الشيطان فى العقوبات عمومًا، وفى أمر الفواحش خصوصًا، فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة والرأفة، التى يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش والرأفة بهم، حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة فى الدياثة وقلة الغيرة إذا
ج/ 15 ص -288- رأى من يهوى بعض المتصلين به أو يعاشره عِشْرَة منكرة، أو رأى له محبة أو ميلا وصبابة وعشقًا، ولو كان ولده رأف به، وظن أن هذا من رحمة الخلق، ولين الجانب بهم، ومكارم الأخلاق، وإنما ذلك دياثة ومهانة، وعدم دين وضعف إيمان، وإعانة على الإثم والعدوان، وترك للتناهى عن الفحشاء والمنكر
وتدخل النفس به فى القيادة التى هى أعظم الدياثة، كما دخلت عجوز السوء مع قومها فى استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك،وكانت فى الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط،وفى الباطن منافقة على دين قومها،لا تقلى عملهم كما قلاه لوط؛ فإنه أنكره ونهاهم عنه وأبغضه،وكما فعل النسوة اللواتى بمصر مع يوسف، فإنهن أعن امرأة العزيز على ما دعته إليه من فعل الفاحشة معها؛ولهذا قال: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ"[يوسف: 33]، وذلك بعد قولهن:"إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ"[يوسف: 30]
ولا ريب أن محبة الفواحش مرض فى القلب، فإن الشهوة توجب السكر، كما قال تعالى عن قوم لوط: "إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ"[الحجر: 72]، وفى الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث أبى هريرة عن النبى ﷺ قال: [العينان تزنيان وزناهما النظر] الحديث إلى آخره فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه
ج/ 15 ص -289- الأنواع المذكورة فى هذا الحديث؛ كالنظر، والاستمتاع، والمخاطبة، ومنهم: من يرتقى إلى اللمس والمباشرة، ومنهم: من يقبل وينظر، وكل ذلك حرام، وقد نهانا الله عز وجل أن تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن ونهى وتوبيخ وغير ذلك؟! بل ينبغى شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنا المذكورة فى هذا الحديث المتقدم وغيره
وذلك أن المحب العاشق وإن كان إنما يحب النظر والاستمتاع بصورة ذلك المحبوب وكلامه، فليس دواؤه فى أن يعطى نفسه محبوبها وشهوتها من ذلك؛ لأنه مريض، والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه، فأخذتنا رأفة عليه حتى نمنعه شربه فقد أعناه على ما يضره أو يهلكه وعلى ترك ما ينفعه، فيزداد سقمه فيهلك، وهكذا المذنب العاشق ونحوه هو مريض، فليس الرأفة به والرحمة أن يمكن مما يهواه من المحرمات، ولا يعان على ذلك، ولا أن يمكن من ترك ما ينفعه من الطاعات التى تزيل مرضه، قال تعالى: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ"[العنكبوت: 45]، أى: فيها الشفاء وأكبر من ذلك
بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريهًا؛ مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات، وأن يحمى عما يقوى داءه ويزيد علته وإن اشتهاه، ولا يظن الظان أنه إذا حصل له استمتاع
ج/ 15 ص -290- بمحرم يسكن بلاؤه، بل ذلك يوجب له انزعاجًا عظيمًا، وزيادة فى البلاء والمرض فى المآل، فإنه وإن سكن بلاؤه وهدأ ما به عقيب استمتاعه أعقبه ذلك مرضًا عظيمًا عسيرًا لا يتخلص منه، بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء الذى ترامى به إلى الهلاك والعطب، ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر وأخف من ألم المرض الباقى
وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهى من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم، الداخلة فى قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"[الأنبياء: 107]، فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض فهو الذى أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو فى ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء والرجال الجُهَّال بمرضاهم، وبمن يربونه من أولادهم وغلمانهم وغيرهم فى ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشر، ويتركونه من الخير رأفة بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم، وعداوتهم، وهلاكهم
ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم فى ذلك المرض وذوقه ما ذاقوه من قوة الشهوة وبرودة القلب والدياثة، فيترك ما أمر الله به من العقوبة، وهو فى ذلك من أظلم الناس وأَدْيَثِهِم فى حق نفسه ونظرائه، وهو بمنزلة جماعة من المرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم
ج/ 15 ص -291- فوجد كبيرهم مرارته فترك شربه، ونهى عن سقيه للباقين
ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانيين محبوبًا له، إما أن يكون محبًا لصورته وجماله بعشق أو غيره، أو لقرابة بينهما، أو لمودة أو لإحسانه إليه، أو لما يرجو منه من الدنيا أو غير ذلك، أو لما فى العذاب من الألم الذى يوجب رقة القلب ويتأول: [إنما يرحم الله من عباده الرحماء]، ويقول الأحمق: [الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى [لا يدخل الجنة ديوث]، فمن لم يكن مبغضًا للفواحش، كارهًا لها ولأهلها، ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها لم يكن مريدًا للعقوبة عليها، فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه، قال تعالى: "وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ الآية"[النور: 2]
فإن دين الله هو طاعته وطاعة رسوله المبنى على محبته ومحبة رسوله،وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله،ما لم تكن مضي [إنما يرحم الله من عباده الرحماء]، وقال: [لا يرحم الله من لا يرحم الناس]، وقال:
ج/ 15 ص -292- [من لا يَرْحَم لا يُرْحَم]، وفى السنن: " [الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء] فهذه الرحمة حسنة مأمور بها أمر إيجاب أو استحباب، بخلاف الرأفة فى دين الله فإنها منهى عنها
والشيطان يريد من الإنسان الإسراف فى أموره كلها، فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه،وإن رآه مائلا إلى الشدة، زين له الشدة فى غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله،ويتعدى فى الشدة فيزيد فى الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله: فهذا يترك ما أمر الله به من الرحمة والإحسان وهو مذموم مذنب فى ذلك، ويسرف فيما أمر الله به ورسوله من الشدة حتى يتعدى الحدود وهو من إسرافه فى أمره فالأول: مذنب، والثانى: مسرف، والله لا ىحب المسرفىن، فليقولا جميعًا: "ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"[آل عمران: 147]
وقوله تعالى: "إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"[النور: 2]، فالمؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ما يحبه الله ورسوله، وينهى عما يبغضه الله ورسوله، ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه، فتارة تغلب عليه الرأفة
ج/ 15 ص -293- هوى، وتارة تغلب عليه الشدة هوى، فيتبع ما يهواه فى الجانبين بغير هدى من الله "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ"[القصص: 50]، فإن الزنا من الكبائر، وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصَرَّ على النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش، فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به العشق والمعاشرة والمباشرة، قد يكون أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء فى الشاهد العدل: ألا يأتى كبيرة، ولا يُصِرَّ على صغيرة، وفى الحديث المرفوع: "لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار"
بل قد ينتهى النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ"[البقرة: 165]، ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان، والله تعالى إنما ذكره فى القرآن عن امرأة العزيز المشركة،وعن قوم لوط المشركين، والعاشق المتيم يصير عبدًا لمعشوقه، منقادًا له،أسير القلب له
وقد جمع النبى ﷺ ذكر الحدود إن حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله فيما رواه أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: [من حالت شفاعته دون حد
ج/ 15 ص -294- من حدود الله فقد ضاد الله فى أمره، ومن خاصم فى باطل وهو يعلم لم يزل فى سخط الله حتى ينزع، ومن قال فى مسلم ما ليس فيه حُبِسَ فى رَدْغَة الخَبَال حتى يخرج مما قال][ردْغة الخبال: جاء تفسيرها فى الحديث أنها عصارة أهل النار، والردْغة بسكون الدال وفتحها: طين ووحل كثير]، فالشافع فى تعطيل الحدود مضاد لله فى أمره؛ لأن الله أمر بالعقوبة على تعدى الحدود، فلا يجوز أن تأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصى والظلمة
وجماع ذلك كله فيما وصف الله به المؤمنين حيث قال: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ"[المائدة: 54] وقال: "أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ"[الفتح: 29]، فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر، ولم يكن المسلم كافرًا بمجرد ارتكاب كبيرة، ولكنه يزول عنه
اسم الإيمان الواجب، كما فى الصحاح عنه ﷺ: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" الحديث إلى آخره ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة والرحمة بهم، واستحقوا بتلك الشعبة من الشدة بقدر ما فيها، ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه، ويعذب ويبغض من وجه آخر، ويثاب من وجه، ويعاقب من وجه، فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران، خلافًا لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة، فإن عندهم أن من استحق العذاب من أهل القبلة لا يخرج من النار، فأوجبوا خلود أهل التوحيد وقال من استحق العذاب: لا يستحق الثواب
ج/ 15 ص -295- ولهذا جاء فى السنة: أن من أقيم عليه الحد والعقوبات، ولم يأخذ المؤمنين به رأفة أن يرحم من وجه آخر فيحسن إليه ويدعى له،وهذا الجانب أغلب فى الشريعة،كما أنه الغالب فى صفة الرب سبحانه كما فى الصحيحين: "إن الله كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتى تغلب غضبي"، وفى رواية: "سبقت غضبى"، وقال: "نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ"[الحجر: 49، 50]، وقال: "اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[المائدة: 98]، فجعل الرحمة صفة له مذكورة فى أسمائه الحسنى، وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته غير مذكورين فى أسمائه
ومن هذا الباب ما أمر الله به من الغلظة على الكفار والمنافقين، فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ"[التوبة: 73، والتحريم: 9] وقال: "لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ" الآيات، إلى قوله فى قصة إبراهيم: "حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ"[الممتحنة: 14]، وكذلك آخر المجادلة، وقد ثبت فى صحيح مسلم عن الحسن، عن حِطَّانَ بن عبد الله،عن عبادة بن الصامت: أن النبى ﷺ قال: "خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة وزيد بن خالد أنه صلى الله
ج/ 15 ص -296- عليه وسلم: اختصم إليه رجلان، فقال أحدهما: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وهو أفقه منه: يارسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لى: إن ابنى كان عسيفًا على هذا، وإنه زنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، وإنى سألت أهل العلم فقالوا: على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبى ﷺ: "لأقضين بينكما بكتاب الله: أما المائة شاة والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها"
فهذه المرأة أحد من رجمه النبى ﷺ، ورجم أيضا اليهوديين على باب مسجده، ورجم ماعز بن مالك،ورجم الغامدية، ورجم غير هؤلاء وهذا الحديث يوافق ما فى الآية من بيان السبيل الذى جعله الله لهن: وهو جلد مائة وتغريب عام فى البكر، وفى الثيب الرجم، لكن الذى فى هذا الحديث هو الجلد والنفي للبكر من الرجال، وأما الآية ففيها ذكر الإمساك فى البيوت للنساء خاصة،ومن فقهاء العراق من لا يوجب مع الحد تغريبًا، ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة،كما أن أكثرهم لا يوجبون مع رجم جلد مائة،ومنهم من يوجبهما جميعًا، كما فعل على بسراحة الهمدانية حيث جلدها ثم رجمها، وقال: "جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة نبيه"
ج/ 15 ص -297- رواه البخارى وعن أحمد فى ذلك روايتان
وهو سبحانه ذكر فى سورة النساء ما يختص بالنساء من العقوبة بالإمساك فى البيوت إلى الممات، أو إلى جعل السبيل ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال: "وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا"[النساء: 16]، فإن الأذى يتناول الصنفين، وأما الإمساك فيختص بالنساء، فالنساء يؤذين ويحبسن، بخلاف الرجال فإنه لم يأمر فيهم بالحبس؛ لأن المرأة يجب أن تصان وتحفظ بما لا يجب مثله فى الرجل؛ ولهذا خصت بالاحتجاب، وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب فى حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب فى حق الرجل؛ لأن ظهور النساء سبب الفتنة، والرجال قوامون عليهن
وقوله: "فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ"[النساء: 15]، دل على شيئين: على أن نصاب الشهادة على الفاحشة أربعة، وعلى أن الشهداء بها على نسائنا يجب أن يكونوا منا، فلا تقبل شهادة الكفار على المسلمين، وهذا لا نزاع فيه، وإنما النزاع فى قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض، وفيه قولان عند أحمد: أشهرهما عنده وعند أصحابه: أنها لا تقبل، كمذهب مالك والشافعى والثانية: أنها تقبل، اختارها أبو الخطاب من أصحاب أحمد، وهو قول أبى حنيفة، وهو أشبه بالكتاب والسنة وقد قال النبى ﷺ: "لاتجوز شهادة أهل ملة على أهل ملة إلا
ج/ 15 ص -298- أمتي فإن شهادتهم تجوز على من سواهم" فإنه لم ينف شهادة أهل الملة الواحدة بعضها على بعض، بل مفهوم ذلك جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضها على بعض،ولكن فيه بيان أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم لقوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ"[البقرة: 143]، وفى آخر الحج مثلها
وقد ثبت فى صحيح البخارى عن أبى سعيد الخدرى عن النبى ﷺ قال: "يُدْعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فَيُدْعى قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال لنوح: من يشهد لك،فيقول: محمد وأمته، فيؤتى بكم فتشهدون أنه بَلَّغَ"، وكذلك فى الصحيحين من حديث أنس فى شهادتهم على تلك الجنازتين، وأنهم أثنوا على إحداهما خيرًا، وعلى الأخرى شرًا، فقال: "أنتم شهداء الله فى أرضه" الحديث
ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة الذىن محضوا الإسلام ولم يشوبوه بغيره، كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة بخلاف أهل البدع والأهواء، كالخوارج والروافض، فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن كمال هذه الحقيقة التى جعلها الله لأهل السنة، قال النبى ﷺ فيهم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"
ج/ 15 ص -299- وقد استدل من جوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية التى فى المائدة، وهى قوله: "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ الآية"[المائدة: 106]، ثم قال من أخذ بظاهر هذه الآية من أهل الكوفة: دلت هذه الآية على قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين، فيكون فى ذلك تنبيه ودلالة على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأولى، ثم نسخ الظاهر لايوجب نسخ الفحوى والتنبيه، وهذه الآية الدالة على نصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف فى العمل بهذه الآية وما يوافقها من الحديث أوجه وأقوى، فإن مذهبه قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين فى الوصية فى السفر؛ لأنه موضع ضرورة فإذا جازت شهادتهم لغيرهم فعلى بعضهم أجوز وأجوز
ولهذا يجوز فى الشهادة للضرورة ما لا يجوز فى غيرها، كما تقبل شهادة النساء فيما لايَطَّلِعُ عليه الرجال، حتى نص أحمد على قبول شهادتهن فى الحدود التى تكون فى مجامعهن الخاصة،مثل الحمامات، والعرسات، ونحو ذلكفالكفار الذين لا يختلط بهم المسلمون أولى أن تقبل شهادة بعضهم على بعض إذا حكمنا بينهم، والله أمرنا أن نحكم بينهم، والنبى ﷺ رجم الزانيين من اليهود من غير سماع إقرار منهما، ولا شهادة مسلم عليهما، ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك، والله أعلم
ج/ 15 ص -300- ثم إن فى تولى مال بعضهم بعضَا نزاع، فهل يتولى الكافر العدل فى دينه مال ولده الكافر؟ على قولين فى مذهب أحمد وغيره، والصواب المقطوع به: أن بعضهم أولى ببعض، وقد مضت سنة النبى ﷺ بذلك وسنة خلفائه، وقوله تعالى: "فَآذُوهُمَا أمر بالأذى مطلقًا"، ولم يذكر كيفيته وصفته ولا قدره، بل ذكر أنه يجب إيذاؤهما ولفظ: "الأذى" يستعمل فى الأقوال كثيرًا، كقوله: "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى"[آل عمران: 111] وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" [الأحزاب: 57]، "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا "[الأحزاب: 58]، "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ"[التوبة: 61] وقول النبى ﷺ: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله"، ونظائر ذلك كثيرة ذكرناها فى كتاب "الصارم المسلول" وهذا كما قال ﷺ فى شارب الخمر: "عاقبوه وآذوه"، وقال "فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا"[النساء: 16] والإعراض هو الإمساك عن الإيذاء
فالمذنب لايزال يؤذى وينهى ويوعظ ويوبخ ويغلظ له فى الكلام إلى أن يتوب ويطيع الله، وأدنى ذلك هجره فلا يكلم بالكلام الطيب، كما هجر النبى ﷺ والمؤمنون الثلاثة الذىن خلفوا حتى ظهرت توبتهم وصلاحهم، وهذه آية محكمة لا نسخ فيها، فمن أتى الفاحشة من الرجال والنساء فإنه يجب إيذاؤه بالكلام الزاجر له عن المعصية إلى
ج/ 15 ص -301- أن يتوب، وليس ذلك محدودًا بقدر ولا صفة إلا ما يكون زاجرًا له داعيًا إلى حصول المقصود وهو توبته وصلاحه، وقد علقه تعالى على هذين الأمرين: التوبة، والإصلاح فإذا لم يوجدا فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجودًا فيؤذى، والآية دلت على وجوب الإيذاء للذين يأتيان الفاحشة منا، ودلت على وجوب الإعراض عن الأذى فى حق من تاب وأصلح، فأما من تاب بترك فعل الفاحشة ولم يصلح، فقد تنازع الفقهاء هل يشترط فى قبول التوبة صلاح العمل؟ على قولين فى مذهب أحمد وغيره
وهذه تشبه قوله تعالى: "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ" إلى قوله: "فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ" [التوبة: 5]، فأمر بقتالهم،ثم علق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح: وهو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكف عنهم، ثم إن صلوا وزكوا، وإلا عوقبوا بعد ذلك على ترك الفعل؛ لأن الشارع فى التوبة شرع الكف عن أذاه، ويكون الأمر فيه موقوفًا على التمام، وكذلك التائب من الفاحشة يشرع الكف عن أذاه إلى أن يصلح، فإن أصلح وجب الإعراض عن أذاه، وإن لم يصلح لم يجب الكف عن أذاه، بل يجوز أو يجب أذاه
وهذه الآية مما يستدل بها على التعزير بالأذى، والأذى وإن كان
ج/ 15 ص -302- يستعمل كثيرًا فى الكلام فى مرتكب الفاحشة فليس هو مختصًا به، كما قال النبى ﷺ لمن بصق فى القبلة: "إنك قد آذيت الله ورسوله" وكذلك قال فى حق فاطمة ابنته: "يريبنى ما رابها ويؤذينى ما آذاها"، وكذلك قال لمن أكل الثوم والبصل: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم"، وقال لصاحب السهام: "خذ بنصالها لئلا تؤذ أحدًا من المسلمين"، وقد قال تعالى: "فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ"[الأحزاب: 53]
وقوله تعالى: "فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا" هل يكون من توبته اعترافه بالذنب؟ فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد إقراره وكذب الشهود على إقراره، أو ثبت بشهادة شهود، هل يُعَدُّ بذلك تائبًا؟ فيه نزاع، فذكر الإمام أحمد أنه لا توبة لمن جحد، وإنما التوبة لمن أقر وتاب، واستدل بقصة على بن أبى طالب أنه أتى بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة فاعترف منهم ناس فتابوا فقبل توبتهم، وجحد منهم جماعة فقتلهم، وقد قال النبى ﷺ لعائشة: "إن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه" رواه البخارى
فمن أذنب سرًا فليتب سرًا، وليس عليه أن يظهر ذنبه، كما فى الحديث: "من ابتلى بشىء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله
ج/ 15 ص -303- ، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله"، وفى الصحيح: "كل أمتى معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله عليه فيكشف ستر الله عنه" فإذا ظهر من العبد الذنب فلابد من ظهور التوبة، ومع الجحود لا تظهر التوبة، فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب؛ ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورًا، فإن هذا أظهر حال الضالين، وهذا أظهر حال المغضوب عليهم، ومن أذاه منعه مع القدرة من الإمامة، والحكم، والفتيا، والرواية، والشهادة، وأما بدون القدرة فليفعل المقدور عليه
وقوله: "وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا"[النساء: 16] فأمر بإيذائهما ولم يعلق ذلك على استشهاد أربعة، كما علق ذلك فى حق النساء وإمساكهن فى البيوت، ولم يأمر به هنا كما أمر به هناك، وليس هذا من باب حمل المطلق على المقيد؛ لأن ذلك لابد أن يكون الحكم واحدًا مثل الإعتاق، فإذا كان الحكم متفقًا فى الجنس دون النوع كإطلاق الأيدى في التيمم وتقييدها فى الوضوء إلى المرافق، وإطلاق ستين مسكينًا فى الإطعام وتقييد الإعتاق بالإيمان، مع أن كلاهما عبادة مالية يراد بها نفع الخلق، وفى ذلك نزاع بين العلماء
ولم يحمل المسلمون من الصحابة والتابعين المطلق على المقيد فى قوله: "وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ" الآية [النساء: 23]
ج/ 15 ص -304-وقوله تعالى: "وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ"[النساء: 22] قال الصحابة والتابعون وسائر أئمة الدين: الشرط فى الربائب خاصة، وقالوا: أبهموا ما أبهم الله، والمبهم هو المطلق، والمشروط فيه هو المؤقت المقيد، فأمهات النساء، وحلائل الآباء والأبناء يحرمن بالعقد، والربائب لا يحرمن إلا إذا دخل بأمهاتهن، لكن تنازعوا هل الموت كالدخول؟ على قولين فى مذهب أحمد؛ وذلك لأن الحكم مختلف، والقيد ليس متساويًا فى الأعيان، فإن تحريم جنس ليس مثل تحريم جنس آخر يخالفه، كما أن تحريم الدم والميتة ولحم الخنزير لما كان أجناسًا، فليس تقييد الدم بكونه مسفوحًا يوجب تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحًا، وهنا القيد كون الربيبة مدخولا بأمها، والدخول بالأم لايوجد مثله فى الحليلتين وأم المرأة، إذ الدخول فى الحليلة بها نفسها، وفى أم المرأة ببنتها
وكذلك المسلمون لم يحملوا المطلق على المقيد في نصب الشهادة، بل لما ذكر الله فى آية الدين: رجلين أو رجلاً وامرأتين، وفى الرجعة: رجلين، أقروا كلا منهما على حاله؛ لأن سبب الحكم مختلف وهو المال والبضع، واختلاف السبب يؤثر فى نصاب الشهادة، وكما فى إقامة الحد فى الفاحشة وفى القذف بها اعتبر فيه أربعة شهداء،فلا يقاس بذلك عقود الإيمان والإبضاع، وذكر فى حد القذف ثلاثة أحكام:
ج/ 15 ص -305- جلد ثمانين، وترك قبول شهادتهم أبدًا، وأنهم فاسقون "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[النور: 5]، وأن التوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف، وترفع الفسق بلا تردد، وهل ترفع المنع من قبول الشهادة؟ فأكثر العلماء قالوا: ترفعه
وإذا اشتهر عن شخص الفاحشة بين الناس لم يُرْجَم؛ لما ثبت فى الصحيح عن ابن عباس أنه لما ذكر حديث الملاعنة وقول النبى ﷺ: "إن جاءت به يشبه الزوج فقد كذب عليها، وإن جاءت به يشبه الرجل الذى رماها فقد صدق عليها"، فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبى ﷺ: "لولا الإيمان لكان لى ولها شأن"، فقيل لابن عباس: أهذه التى قال فيها رسول الله ﷺ: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها؟" فقال: لا، تلك امرأة كانت تعلن السوء فى الإسلام فقد أخبر أنه لا يرجم أحدًا إلا ببينة ولو ظهر عن الشخص السوء
ودل هذا الحديث على أن الشبه له تأثير فى ذلك، وإن لم يكن بينة، وكذلك ثبت عنه أنه لما مر عليه بتلك الجنازة فأثنوا عليها خيرًا إلى آخره قال: "أنتم شهداء الله فى أرضه"، وفى المسند عنه أنه قال: "يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار"، قيل: يا رسول الله، وبم ذلك؟ قال: "بالثناء الحسن، والثناء السيئ" فقد جعل الاستفاضة
ج/ 15 ص -306- حجة وبينة فى هذه الأحكام ولم يجعلها حجة فى الرجموكذلك تقبل شهادة أهل الكتاب على المسلمين فى الوصية فى السفر عند أحمد، وكذلك شهادة الصبيان فى الجراح إذا أدوها قبل التفرق فى إحدى الروايتين، وإذا شهد شاهد أنه رأى الرجل والمرأة والصبى فى لحاف أو فى بيت مرحاض، أو رآهما مجردين، أو محلولى السراويل، ويوجد مع ذلك ما يدل على ذلك من وجود اللحاف قد خرج عن العادة إلى مكانهما، أو يكون مع أحدهما أو معهما ضوء قد أظهره فرآه فأطفأه، فإن إطفاءه دليل على استخفائه بما يفعل، فإذا لم يكن ما يستخفى به إلا ما شهد به الشاهد كان ذلك من أعظم البيان على ما شهد به
فهذا الباب باب عظيم النفع فى الدين، وهو مما جاءت به الشريعة التى أهملها كثير من القضاة والمتفقهة، زاعمين أنه لا يعاقب أحد إلا بشهود عاينوا، أو إقرار مسموع، وهذا خلاف ما تواترت به السنة وسنة الخلفاء الراشدين، وخلاف ما فطرت عليه القلوب التى تعرف المعروف وتنكر المنكر، ويعلم العقلاء أن مثل هذا لا تأباه سياسة عادلة: فضلا عن الشريعة الكاملة، ويدل عليه قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ"[الحجرات: 6] ففى الآية دلالات :
ج/ 15 ص -307-أحدها: قوله: "إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا" فأمر بالتبين عند مجىء كل فاسق بكل نبأ، بل من الأنباء ما ينهى فيه عن التبين، ومنها: ما يباح فيه ترك التبين، ومن الأنباء ما يتضمن العقوبة لبعض الناس؛ لأنه علل الأمر بأنه إذا جاءنا فاسق بنبأ خشية أن نصيب قوما بجهالة، فلو كان كل من أصيب بنبأ كذلك لم يحصل الفرق بين العدل والفاسق، بل هذه دلالة واضحة على أن الإصابة بنبأ العدل الواحد لا ينهى عنها مطلقًا، وذلك يدل على قبول شهادة العدل الواحد فى جنس العقوبات، فإن سبب نزول الآية يدل على ذلك، فإنها نزلت فى إخبار واحد بأن قومًا قد حاربوا بالردة أو نقض العهد
وفيه أيضا أنه متى اقترن بخبر الفاسق دليل آخر يدل على صدقه، فقد استبان الأمر وزال الأمر بالتثبت، فتجوز إصابة القوم وعقوبتهم بخبر الفاسق مع قرينة إذا تبين بهما الأمور، فكيف خبر الواحد العدل مع دلالة أخرى؛ ولهذا كان أصح القولين أن مثل هذا لوث فى باب القسامة، فإذا انضاف أىمان المقسمين صار ذلك بينة تبيح دم المقسم عليه وقوله: "أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ" فجعل المحذور هو الإصابة لقوم بلا علم، فمتى أصيبوا بعلم زال المحذور، وهذا هو المناط الذى دل عليه القرآن، كما قال: "إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"[الزخرف: 86] وقال: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"[الإسراء: 36]
ج/ 15 ص -308- وأيضًا، فإنه علل ذلك بخوف الندم، والندم إنما يحصل على عقوبة البرىء من الذنب، كما فى سنن أبى داود: "ادرؤوا الحدود بالشبهات، فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة"، فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئًا، أو يخطئ فيعفو عن مذنب، كان هذا الخطأ خير الخطأين أما إذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنبًا فإنه لا يندم، ولا يكون فيه خطأ، والله أعلم
وقد ذكر الشافعى وأحمد أن التغريب جاء فى السنة فى موضعين أحدهما: أن النبى ﷺ قال فى الزانى إذا لم يحصن:"جلد مائة وتغريب عام" والثانى: نفى المخنثين فيما روته أم سلمة: أن النبى ﷺ دخل عليها وعندها مخنث،وهو يقول لعبد الله أخيها: إن فتح الله لك الطائف غدًا أدلك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبى ﷺ: "أخرجوهم من بيوتكم"رواه الجماعة إلا الترمذى، وفى رواية فى الصحيح: "لا يدخلن هؤلاء عليكم "، وفى رواية: "أرى هذا يعرف مثل هذا لا يدخلن عليكم بعد اليوم"
قال ابن جُرَيْج: المخنث هو هيت [الهِيتُ: الغامض من الأرض، ومخنث نفاه النبى ﷺ من المدينة]، وهكذا ذكره غيره وقد قيل: إنه هِنْب [هِنبُ: رجل مخنث نفاه النبى ﷺ]، وزعم بعضهم أنه ماتع [ماتع: اسم]، وقيل: هوان وروى الجماعة إلا مسلمًا أن النبى ﷺ لعن المخنثين من الرجال،
ج/ 15 ص -309- والمترجلات من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم، وأخرجوا فلانًا وفلانًا، يعنى: المخنثين"، وقد ذكر بعضهم أنهم كانوا ثلاثة: بهم وهيت وماتع على عهد رسول الله ﷺ، ولم يكونوا يرمون بالفاحشة الكبرى إنما كان تخنيثهم وتأنيثهم لينًا فى القول، وخضابًا فى الأيدى والأرجل، كخضاب النساء ولعبًا كلعبهن
وفى سنن أبى داود عن أبى يسار القرشى عن أبى هاشم عن أبى هريرة: أن النبى ﷺ أُتى بمخنث وقد خضب رجليه ويديه بالحنّاء، فقال: "ما بال هذا؟" فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفى إلى النقيع، فقيل: يا رسول الله ألا نقتله فقال: "إنى نهيت عن قتل المصلين"، قال أبو أسامة حماد بن أسامة: والنقيع: ناحية عن المدينة، وليس بالبقيع، وقيل: إنه الذى حماه النبى ﷺ لإبل الصدقة، ثم حماه عمر، وهو على عشرين فرسخًا من المدينة، وقيل: عشرين ميلا ونقيع الخضمات موضع آخر قرب المدينة، وقيل: هو الذى حماه عمر والنقيع: موضع يستنقع فيه الماء، كما فى الحديث: "أول جمعة جمعت بالمدينة فى نقيع الْخَضَماتِ"
فإذا كان النبى ﷺ قد أمر بإخراج مثل هؤلاء من البيوت، فمعلوم أن الذى يمكن الرجال من نفسه والاستمتاع به، وبما يشاهدونه من محاسنه، وفعل الفاحشة الكبرى به شر من هؤلاء، وهو
ج/ 15 ص -310- أحق بالنفى من بين أظهر المسلمين وإخراجه عنهم؛ فإن المخنث فيه إفساد للرجال والنساء؛ لأنه إذا تَشبَّه بالنساء فقد تعاشره النساء، ويتعلمن منه وهو رجل فيفسدهن؛ ولأن الرجال إذا مالوا إليه فقد يعرضون عن النساء؛ ولأن المرأة إذا رأت الرجل يتخنث فقد تترجل هى وتتشبه بالرجال فتعاشر الصنفين، وقد تختار هى مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال
وأما إفساده للرجال: فهو أن يمكنهم من الفعل به كما يفعل بالنساء بمشاهدته ومباشرته وعشقه، فإذا أخرج من بين الناس وسافر إلى بلد آخر ساكن فيه الناس، ووجد هناك من يفعل به الفاحشة، فهنا يكون نفيه بحبسه فى مكان واحد ليس معه فيه غيره، وإن خيف خروجه فإنه يقيد إذ هذا هو معنى نفيه وإخراجه من بين الناس
ولهذا تنازع العلماء فى نفى المحارب من الأرض، هل هو طرده بحيث لا يأوى فى بلد، أو حبسه، أو بحسب ما يراه الإمام من هذا وهذا، ففى مذهب أحمد ثلاث روايات الثالثة أعدل وأحسن، فإن نفيه بحيث لا يأوى فى بلد لا يمكن لتفرق الرعية واختلاف هممهم، بل قد يكون بطرده يقطع الطريق، وحبسه قد لا يمكن؛ لأنه يحتاج إلى مؤنة؛ إلى طعام وشراب وحارس؛ ولا ريب أن النفى أسهل إن أمكن
ج/ 15 ص -311- وقد روى أن هِيْتًا لما اشتكى الجوع أمره النبى ﷺ أن يدخل المدينة من الجمعة إلى الجمعة يسأل ما يقيته إلى الجمعة الأخرى، ومعلوم أن قوله: "أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ"[المائدة: 33] لا يتضمن نفيه من جميع الأرض، وإنما هو نفيه من بين الناس، وهذا حاصل بطرده وحبسه
وهذا الذى جاءت به الشريعة من النفى هو نوع من الهجرة أى هجره، وليس هذا كنفى الثلاثة الذىن خُلِّفُوا، ولا هجره كهجرهم، فإنه منع الناس من مخالطتهم ومخاطبتهم حتى أزواجهم، ولم يمنعهم من مشاهدة الناس وحضور مجامعهم فى الصلاة وغيرها، وهذا دون النفى المشروع، فإن النفى المشروع مجموع من الأمرين، وذلك أن الله خلق الآدميين محتاجين إلى معاونة بعضهم بعضًَا على مصلحة دينهم ودنياهم، فمن كان بمخالطته للناس لا يحصل منه عون على الدين، بل يفسدهم ويضرهم فى دينهم ودنياهم استحق الإخراج من بينهم، وذلك أنه مضرة بلا مصلحة؛ فإن مخالطته لهم فيها فسادهم وفساد أولادهم، فإن الصبى إذا رأى صبيا مثله يفعل شيئًا تَشَبَّه به، وسار بسيرته مع الفُسَّاق، فإن الاجتماع بالزناة واللوطيين فيه أعظم الفساد، والضرر على النساء والصبيان والرجال، فيجب أن يعاقب اللوطى والزانى بما فيه تفريقه وإبعاده
ج/ 15 ص -312- البدع، وهُجْرَان الفُسَّاق، وهجران من يخالط هؤلاء كلهم أو يعاونهم، وكذلك من يترك الجهاد الذى لا مصلحة لهم بدونه، فإنه يعاقب بهجرهم له لما لم يعاونهم على البر والتقوى، فالزناة واللوطية، وتارك الجهاد، وأهل البدع، وَشَرَبَةُ الخمر، هؤلاء كلهم ومخالطتهم مضرة على دين الإسلام، وليس فيهم معاونة لا على بر ولا تقوى، فمن لم يهجرهم كان تاركا للمأمور فاعلا للمحظور، فهذا ترك المأمور من الاجتماع،وذلك فعل المحظور منه، فعوقب كل منهما بما يناسب جُرْمَه ُ، فإن العقوبة إنما تكون على ترك مأمور أو فعل محظور، كما قال الفقهاء: إنما يُشْرَع التعزير فى معصية ليس فيها حد، فإن كان فيها كفارة فعلى قولين فى مذهب أحمد وغيره
قال: وما جاءت به الشريعة من المأمورات والعقوبات والكفارات وغير ذلك فإنه يفعل منه بحسب الاستطاعة، فإذا لم يقدر المسلم على جهاد جميع المشركين، فإنه يجاهد من يقدر على جهاده وكذلك إذا لم يقدر على عقوبة جميع المعتدين، فإنه يعاقب من يقدر على عقوبته، فإذا لم يمكن النفى والحبس عن جميع الناس؛ كان النفى والحبس على حسب القدرة، مثل أن يحبس بدار لا يباشر إلا أهلها لا يخرج منها، أو ألا يباشر إلا شخصًا أو شخصين، فهذا هو الممكن، فيكون هو المأمور به، وإن أمكن أن يجعل فى مكان قد قل فيه القبيح ولا يعدم بالكلية كان ذلك هو المأمور به، فإن الشريعة جاءت بتحصيل
ج/ 15 ص -313- المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فالقليل من الخير خير من تركه، ودفع بعض الشر خير من تركه كله، وكذلك المرأة المتشبهة بالرجال تحبس شبيها بحالها إذا زنت، سواء كانت بكرًا أو ثيبًا، فإن جنس الحبس مما شرع فى جنس الفاحشة
ومما يدخل فى هذا أن عمر بن الخطاب نفى نصر بن حجاج من المدينة، ومن وطنه إلى البصرة، لما سمع تشبيب النساء به وتشبهه بهن، وكان أولاً قد أمر بأخذ شَعْرِهِ؛ ليزيل جماله الذى كان يفتن به النساء فلما رآه بعد ذلك من أحسن الناس وجنتين غَمَّه ذلك فنفاه إلى البصرة، فهذا لم يصدر منه ذنب ولا فاحشة يعاقب عليها؛ لكن كان فى النساء من يفتتن به فأمر بإزالة جماله الفاتن، فإن انتقاله عن وطنه مما يضعف همته وبدنه، ويعلم أنه معاقب، وهذا من باب التفريق بين الذين يخاف عليهم الفاحشة والعشق قبل وقوعه، وليس من باب المعاقبة، وقد كان عمر ينفى فى الخمر إلى خيبر زيادة فى عقوبة شاربها
ومن أقوى ما يهيج الفاحشة، إنشاد أشعار الذين فى قلوبهم مرض من العشق، ومحبة الفواحش، ومقدماتها بالأصوات المطربة، فإن المغنى إذا غنى بذلك حرك القلوب المريضة إلى محبة الفواحش، فعندها يهيج مرضه ويقوى بلاؤه، وإن كان القلب فى عافية من ذلك جعل فيه مرضًا، كما قال بعض السلف: الغناء رُقْيَةُ الزنا
ج/ 15 ص -314- ورقية الحية هى ما تستخرج بها الحية من جحرها، ورقية العين والحمة هى ما تستخرج به العافية، ورقية الزنا هو ما يدعو إلى الزنا، ويخرج من الرجل هذا الأمر القبيح، والفعل الخبيث، كما أن الخمر أم الخبائث، قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق فى القلب كما ينبت الماء البقل، وقال تعالى لإبليس: "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ"[الإسراء: 64] واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء كما قال من قال من السلف وبغيره من الأصوات؛ كالنياحة وغير ذلك، فإن هذه الأصوات كلها توجب انزعاج القلب والنفس الخبيثة إلى ذلك، وتوجب حركتها السريعة، واضطرابها حتى يبقى الشيطان يلعب بهؤلاء أعظم من لعب الصبيان بالكرة، والنفس متحركة، فإن سكنت فبإذن الله، وإلا فهى لا تزال متحركة
وشبهها بعضهم بكرة على مستوى أملس لا تزال تتحرك عليه،وفى الحديث المرفوع: "القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا"، وفى الحديث الآخر: "مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض تحركها الريح"، وفى صحيح البخارى عن سالم عن ابن عمر قال: كانت يمين رسول الله ﷺ: "لا ومقلب القلوب"، وفى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبى ﷺ يقول: "اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك"، وفى الترمذى
ج/ 15 ص -315- عن أبى سفيان قال: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك" قال: فقلت: ىا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء"
وقوله تعالى: "الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَو مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ"[النور: 3]، لما أمر الله تعالى بعقوبة الزانيين حرم مناكحتهما على المؤمنين هجرًا لهما، ولما معهما من الذنوب والسيئات كما قال تعالى: "وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ"[المدثر: 5]، وجعل مجالس فاعل ذلك المنكر مثله بقوله تعالى: "إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ"[النساء: 140]، وهو زوج له، وقد قال تعالى: "احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ"[الصافات: 22] أى: عشراءهم وقرناءهم وأشباههم ونظراءهم؛ ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب
ورفع إلى عمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر، وكان فيهم جليس لهم صائم فقال: ابدؤوا به فى الجلد، ألم تسمع الله يقول: "فَلا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ"[النساء: 140]، فإذا كان هذا فى المجالسة والعشرة العارضة حين فعلهم للمنكر يكون مجالسهم مثلا لهم، فكيف بالعشرة الدائمة؟
والزوج يقال له: العشير، كما فى الحديث من حديث ابن عباس عن النبى ﷺ قال: "رأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء
ج/ 15 ص -316- يكفرن"، قيل: يكفرن بالله؟ قال: "يَكْفرْنَ العشير ويَكْفُرْنَ الإحسان" فأخبر أنه لا يفعل ذلك إلا زانٍ أو مشرك
أما المشرك: فلا إيمان له يزجره عن الفواحش ومجامعة أهلها، وأما الزانى: ففجوره يدعوه إلى ذلك وإن لم يكن مشركا
وفى الآية دليل على أن الزانى ليس بمؤمن مطلق الإيمان، وإن لم يكن كافرًا مشركًا، كما فى الصحيح: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن"، وذلك أنه أخبر أنه لا ينكح إلا زانية أو مشركة، ثم قال تعالى: "وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" فعلم أن الإيمان يمنع من ذلك ويزجر، وأن فاعله إما مشرك وإما زان ليس من المؤمنين الذين يمنعهم إيمانهم من ذلك، وذلك أن الزانية فيها إفساد فراش الرجل، وفى مناكحتها معاشرة الفاجرة دائمًا، ومصاحبتها، والله قد أمر بهجر السوء وأهله ما داموا عليه، وهذا المعنى موجود فى الزانى، فإن الزانى إن لم يفسد فراش امرأته كان قرين سوء لها، كما قال الشُّعَبِىُّ: من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها
وهذا مما يدخل به على المرأة ضرر فى دينها ودنياها، فنكاح الزانية أشد من جهة الفراش، ونكاح الزاني أشد من جهة أنه السيد المالك الحاكم على المرأة، فتبقى المرأة الحرة العفيفة فى أسر الفاجر الزاني الذي
ج/ 15 ص -317- يقصر فى حقوقها ويتعدى عليها
ولهذا اتفق الفقهاء على اعتبار الكفاءة فى الدين، وعلى ثبوت الفسخ بفوات هذه الكفاءة، واختلفوا فى صحة النكاح بدون ذلك، وهما قولان مشهوران فى مذهب أحمد وغيره، فإن من نكح زانية مع أنها تزنى فقد رضى بأن يشترك هو وغيره فيها، ورضى لنفسه بالقيادة والدياثة، ومن نكحت زان وهو يزنى بغيرها فهو لا يصون ماءه حتى يضعه فيها؛ بل يرميه فيها وفى غيرها من البغايا، فهى بمنزلة الزانية المتخذة خِدْنًا، فإن مقصود النكاح حفظ الماء فى المرأة، وهذا الرجل لا يحفظ ماءه، والله سبحانه شرط فى الرجال أن يكونوا محصنين غير مسافحين، فقال: "وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ"[النساء: 24] وهذا المعنى مما لا ينبغى إغفاله؛ فإن القرآن قد نصه وبينه بيانًا مفروضًا، كما قال تعالى: "سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا"[النور: 1]
فأما تحريم نكاح الزانية فقد تكلم فيه الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، وفيه آثار عن السلف، وإن كان الفقهاء قد تنازعوا فيه، وليس مع من أباحه ما يعتمد عليه
وقد ادعى بعضهم أن هذه الآية منسوخة بقوله: "والْمُحْصَنَات"،
ج/ 15 ص -318- وزعموا أن البغى من المحصنات، وتلك الآيات حجة عليهم، فإن أقل ما فى الإحصان العفة، وإذا اشترط فيه الحرية فذاك تكميل للعفة والإحصان، ومن حرم نكاح الأَمَةِ لئلا يرق ولده، كيف يبيح البغى التى تلحق به من ليس بولده، وأين فساد فراشه من رق ولده؟! وكذلك من زعم أن النكاح هنا هو الوطء، والمعنى أن الزانى لا يطأ إلا زانية أو مشركة، والزانية لا يطؤها إلا زان أو مشرك، وهذا أبلغ فى الحجة عليهم، فمن وطئ زانية أو مشركة بنكاح فهو زان، وكذلك من وطئها زان، فإن ذم الزانى بفعله الذى هو الزنا حتى لو استكرهها أو استدخلت ذكره، وهو نائم كانت العقوبة للزانى دون قرينه، وهذه المسألة مبسوطة فى كتب الفقه
والمقصود قوله: "الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً"[النور: 3]، فإن هذا يدل على أن الزانى لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، وأن ذلك حرام على المؤمنين، وليس هذا لمجرد كونه فاجرًا، بل لخصوص كونه زانيًا، وكذلك فى المرأة ليس لمجرد فجورها، بل لخصوص زناها، بدليل أنه جعل المرأة زانية إذا تزوجت زانيًا، كما جعل الزوج زانيًا إذا تزوج زانية، هذا إذا كانا مسلمين يعتقدان تحريم الزنا، وإذا كانا مشركين، فينبغى أن يعلم ذلك ومضمونه أن الرجل الزانى لا يجوز نكاحه حتى يتوب، وذلك بأن يوافق اشتراطه الإحصان، والمرأة إذا كانت
ج/ 15 ص -319- زانية لا تحصن فرجها عن غير زوجها، بل يأتيها هو وغيره، كان الزوج زانيًا هو وغيره يشتركون فى وطئها، كما تشترك الزناة فى وطء المرأة الواحدة، ولهذا يجب عليه نفى الولد الذى ليس منه
فمن نكح زانية فهو زان أى تزوجها، ومن نكحت زانيًا فهى زانية أى تزوجته؛ فإن كثيرًا من الزناة قصروا أنفسهم على الزوانى فتكون المرأة خِدْنًا وخليلا له لا يأتى غيرها، فإن الرجل إذا كان زانيًا لا يعف امرأته، وإذا لم يعفها تشوقت هى إلى غيره فزنت به، كما هو الغالب على نساء الزوانى أو من يلوط بالصبيان، فإن نساءه يزنين ليقضين إربهن ووطرهن، ويراغمن أزواجهن بذلك حيث لم يعفوا أنفسهم عن غير أزواجهن، فهن أيضًا لم يعففن أنفسهن عن غير أزواجهن؛ ولهذا يقال: عفوا تعف نساؤكم وأبناؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها؛ فإن الرجل إذا رضى أن ينكح زانية رضى بأن تزنى امرأته، والله تعالى قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر، فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانيًا فقد رضيت عمله، وكذلك إن رضى الرجل أن ينكح زانية فقد رضى عملها، ومن رضى الزنا كان بمنزلة الزانى فإن أصل الفعل هو الإرادة؛ ولهذا جاء فى الأثر: من غاب عن معصية فرضيها
ج/ 15 ص -320- كان كمن شهدها أو فعلها، وفى الحديث: "المرء على دين خليله" وأعظم الخلة خلة الزوجين
وأيضًا، فإن الله قد جعل فى نفوس بنى آدم من الغيرة ما هو معروف، فيستعظم الرجل أن يطأ الرجل امرأته أعظم من غيرته على نفسه أن يزنى، فإذا لم يكره أن تكون زوجته بغياً وهو ديوث كيف يكره أن يكون هو زان؟! ولهذا لم يوجد من هو ديوث أو قواد يعف عن الزنا، فإن الزانى له شهوة فى نفسه، والديوث ليس له شهوة فى زنا غيره، فإذا لم يكن معه إيمان يكره به زنا غيره بزوجته كيف يكون معه إيمان يمنعه من الزنا ؟ فمن استحل أن يترك امرأته تزنى استحل أعظم الزنا، ومن أعان على ذلك فهو كالزانى، ومن أقر على ذلك مع إمكان تغييره فقد رضيه، ومن تزوج غير تائبة فقد رضى أن تزنى إذ لا يمكنه منعها من ذلك، فإن كيد النساء عظيم
ولهذا جاز للرجل إذا أتت امرأته بفاحشة مبينة أن يعضلها [يعضلها: العضل هو أن يضارها ولا يحسن عشرتها؛ ليضطرها ذلك إلى الافتداء منه بمهرها الذى أمهرها]؛ لتفتدى نفسها منه، وهو نص أحمد وغيره؛ لأنها بزناها طلبت الاختلاع منه وتعرضت لإفساد نكاحه، فإنه لا يمكنه المقام معها حتى تتوب، ولا يسقط المهر بمجرد زناها، كما دل عليه قول النبى ﷺ للملاعن لما قال: مالى، قال: "لا مال لك عندها، إن كنت صادقًا عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كاذبا عليها
ج/ 15 ص -321- فهو أبعد لك"؛ لأنها إذا زنت قد تتوب لكن زناها يبيح له إعضالها حتى تفتدى منه نفسها إن اختارت فراقه أو تتوب
وفى الغالب أن الرجل لا يزنى بغير امرأته إلا إذا أعجبه ذلك الغير، فلا يزال يزنى بما يعجبه فتبقى امرأته بمنزلة المعُلَّقة التى لا هى أيم ولا ذات زوج، فيدعوها ذلك إلى الزنا، ويكون الباعث لها على ذلك مقابلة زوجها على وجه القصاص مكايدة له ومغايظة؛ فإنه ما لم يحفظ غيبها لم تحفظ غيبه، ولها فى بضعه حق كما له فى بضعها حق، فإذا كان من العادين لخروجه عما أباح الله له لم يكن قد أحصن نفسه، وأيضا، فإن داعية الزانى تشتغل بما يختاره من البغايا، فلا تبقى داعيته إلى الحلال تامة، ولا غيرته كافية فى إحصانه المرأة، فتكون عنده كالزانية المتخذة خِدْنًا وهذه معان شريفة لا ينبغى إهمالها
وعلى هذا، فالمرأة المساحقة زانية كما جاء فى الحديث: "زنا النساء سحاقهن" والرجل الذى يعمل عمل قوم لوط بمملوك أو غيره هو زان، والمرأة الناكحة له زانية، فلا تنكحه إلا زانية أو مشركة؛ ولهذا يكثر فى نساء اللوطية من تزنى بغير زوجها،وربما زنت بمن يتلوط هو به مراغمة له وقضاء لوطرها، وكذلك المرأة المزوجة بمُخَنَّث ينكح كما تنكح هى متزوجة بزان،بل هو أسوأ الشخصين حالاً،فإنه مع الزنا صار مخنثًا ملعونًا على نفسه للتخنيث غير اللعنة التى تصيبه بعمل قوم لوط،
ج/ 15 ص -322- فإن النبى ﷺ لعن من يعمل عمل قوم لوط،وثبت عنه فى الصحيح أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم"
وكيف يجوز للمرأة أن تتزوج بمخنث قد انتقلت شهوته إلى دبره؟ فهو يؤتى كما تؤتى المرأة، وتضعف داعيته من أمامه كما تضعف داعية الزانى بغير امرأته عنها، فإذا لم تكن له غيرة على نفسه ضعفت غيرته على امرأته وغيرها، ولهذا يوجد من كان مخنثًا ليس له كبير غيرة على ولده ومملوكه ومن يكفله، والمرأة إذا رضيت بالمخنث واللوطى كانت على دينه فتكون زانية وأبلغ، فإن تمكين المرأة من نفسها أسهل من تمكين الرجل من نفسه، فإذا رضيت ذلك من زوجها رضيته من نفسها
ولفظ هذه الآية وهو قوله تعالى: "الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً الآية"[النور: 3]، يتناول هذا كله إما بطريق عموم اللفظ، أو بطريق التنبيه وفحوى الخطاب الذى هو أقوى من مدلول اللفظ، وأدنى ذلك أن يكون بطريق القياس، كما قد بيناه فى حد اللوطى ونحوه والله أعلم
وقوله تعالى: "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ"[النور: 26] فأخبر تعالى أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، فلا تكون خبيثة لطيب، فإن ذلك خلاف الحصر، فلا
ج/ 15 ص -323- تنكح الزانية الخبيثة إلا زانيًا خبيثًا، وأخبر أن الطيبين للطيبات، فلا يكون الطيب لامرأة خبيثة، فإن ذلك خلاف الحصر ؛ إذ قد ذكر أن جميع الخبيثات للخبيثين، فلا تبقى خبيثة لطيب ولا طيب لخبيثة وأخبر أن جميع الطيبات للطيبين فلا تبقى طيبة لخبيث، فجاء الحصر من الجانبين موافقًا لقوله: "الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ"[النور: 3] ؛ ولهذا قال من قال من السلف: ما بغت امرأة نبى قط، فإن هذه السورة نزل صدرها بسبب أهل الإفك وما قالوه فى عائشة ؛ ولهذا لما قيل فيها ما قيل، وصارت شبهة، استشار النبى ﷺ من استشاره فى طلاقها قبل أن تنزل براءتها، إذ لا يصلح له أن تكون امرأته غير طيبة وقد روى أنه: "لا يدخل الجنة ديوث" والديوث: الذى يقر السوء فى أهله
ولهذا كانت الغيرة على الزنا مما يحبها الله وأمر بها،حتى قال النبى ﷺ: أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير منى،من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"؛ ولهذا أذن الله للقاذف إذا كان زوجها أن يلاعن؛ فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين،وجعل ذلك يدفع عنه حد القذف،كما لو أقام على ذلك أربعة شهود؛ لأنه محتاج إلى قذفها لأجل ما أمر الله به من
ج/ 15 ص -324- الغيرة؛ ولأنها ظلمته بإفساد فراشه،وإن كانت قد حبلت من الزنا فعليه اللعان لينفى عنه النسب الباطل؛ لئلا يلحق به ما ليس منه
وقد مضت سنة النبى ﷺ بالتفريق بين المتلاعنين، سواء حصلت الفرقة بتلاعنهما أو احتاجت إلى تفريق الحاكم، أو حصلت عند انقضاء لعان الزوج؛ لأن أحدهما ملعون أو خبيث، فاقترانهما بعد ذلك يقتضى مقارنة الخبيث الملعون للطيب، وفى صحيح مسلم عن عمران بن حصين حديث المرأة التى لعنت ناقة لها فأمر النبى ﷺ فأخذ ما عليها وأرسلت، وقال: "لا تصحبنا ناقة ملعونة"، وفى الصحيحين عنه أنه لما اجتاز بديار ثمود قال: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين،فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لئلا يصيبكم ما أصابهم"، فنهى عن عبور ديارهم إلا على وجه الخوف المانع من العذاب
وهكذا السنة فى مقارنة الظالمين والزناة، وأهل البدع والفجور وسائر المعاصى، لا ينبغى لأحد أن يقارنهم ولا يخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله عز وجل وأقل ذلك أن يكون منكرًا لظلمهم، ماقتا لهم، شانئا ما هم فيه بحسب الإمكان، كما فى الحديث : "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع
ج/ 15 ص -325- فبقلبه،وذلك أضعف الإيمان"، وقال تعالى: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ الآية"[التحريم: 11]، وكذلك ما ذكره عن يوسف الصديق وعمله على خزائن الأرض لصاحب مصر لقوم كفار
وذلك أن مقارنة الفجار إنما يفعلها المؤمن فى موضعين: أحدهما: أن يكون مكرهًا عليها، والثانى: أن يكون ذلك فى مصلحة دينية راجحة على مفسدة المقارنة، أو أن يكون فى تركها مفسدة راجحة فى دينه، فيدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصل المصلحة الراجحة باحتمال المفسدة المرجوحة، وفى الحقيقة فالمكره هو من يدفع الفساد الحاصل باحتمال أدناهما، وهو الأمر الذى أُكْرِهَ عليه، قال تعالى: "إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ"[النحل: 106]، وقال تعالى: "وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء"[النور: 33]، ثم قال: "وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [النور: 33] وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا"[النساء: 97 99]، وقال: "وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ" الآية [النساء: 75]
ج/ 15 ص -326- فقد دلت هذه الآية على النهى عن مناكحة الزانى، والمناكحة نوع خاص من المعاشرة والمزاوجة والمقارنة والمصاحبة؛ ولهذا سمى كل منهما زوجًا وصاحبًا وقرينًا وعشيرًا للآخر، والمناكحة فى أصل اللغة: المجامعة، والمضامة، فقلوبهما تجتمع إذا عقد العقد بينهما، ويصير بينهما من التعاطف والتراحم ما لم يكن قبل ذلك، حتى تثبت بذلك حرمة المصاهرة فى غير الربيبة لمجرد ذلك، والتوارث وعدة الوفاة وغير ذلك، وأوسط ذلك اجتماعهما خاليين فى مكان واحد، وهو المعاشرة المقررة للصداق، كما قضى به الخلفاء، وآخر ذلك اجتماع المباضعة، وهذا وإن اجتمع بدون عقد نكاح فهو اجتماع ضعيف، بل اجتماع القلوب أعظم من مجرد اجتماع البدنين بالسفاح
ودل قوله: "وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ" على ذلك من جهة المعنى، ومن جهة اللفظ، ودل أيضًا على النهى عن مقارنة الفجار ومزاوجتهم، كما دل على هذا غير ذلك من النصوص؛ مثل قوله: "احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ"[الصافات: 22]، أى: وأشباههم ونظراءهم، والزوج أعم من النكاح المعروف، قال تعالى: "يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا"[الشورى: 49،50]، وقال: "وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ"[التكوير: 7]، وقال: "مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ"[الحج: 5]، و "كَرِيمٌ"[الشعراء: 7]، وقال: "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ" [الذاريات: 49]، وقال: "جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ"[الرعد: 3]، وقال: "وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا"[النبأ: 8]، وقال: "احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ"[هود: 40]،
ج/ 15 ص -327-وقال: "إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ"[التغابن: 14]
وإن كان فى الآية نص فى الزوجة التى هى الصاحبة وفى الولد منها، فمعنى ذلك فى كل مشابه ومقارن ومشارك، وفى كل فرع وتابع ف "الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ"[الإسراء: 111]، و "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا"[الفرقان: 1، 2]
فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع أهل طاعة الله تعالى على مراد الله، ويدل على ذلك الحديث الذى فى السنن: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقى"، وفيها: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"، وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة عن النبى ﷺ أنه قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليبعها ولو بضفير" و "الضفير": الحبل، وشك الراوى هل أمر ببيعها فى الثالثة أو الرابعة وهذا أمر من النبى ﷺ ببيع الأمة بعد إقامة الحد عليها مرتين أو ثلاثًا ولو بأدنى مال، قال الإمام أحمد: إن لم يبعها كان تاركًا لأمر النبى ﷺ
ج/ 15 ص -328- والإماء اللاتى يفعلن هذا تكون عامتهن للخدمة لا للتمتع، فكيف بأمة التمتع؟ وإذا وجب إخراج الأمة الزانية عن ملكه فكيف بالزوجة الزانية؟ والعبد المملوك نظير الأمة، ويدل على ذلك كله ما رواه مسلم فى صحيحه عن على بن أبى طالب عن النبى ﷺ: "أنه لعن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا" فهذا يوجب لعنة كل من آوى محدثًا سواء كان إحداثه بالزنا أو السرقة أو غير ذلك، وسواء كان الإيواء بملك يمين أو نكاح أو غير ذلك؛ لأن أقل ما فى ذلك تركه إنكار المنكر
فَصْل
والمؤمن محتاج إلى امتحان من يريد أن يصاحبه ويقارنه بنكاح وغيره، قال تعالى: "إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ الآية"[الممتحنة: 10]، وكذلك المرأة التي زني بها الرجل، فإنه لا يتزوج بها إلا بعد التوبة في أصح القولين، كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار، لكن إذا أراد أن يمتحنها هل هي صحيحة التوبة أم لا؟ فقال عبدالله بن عمر وهو المنصوص عن أحمد: أنه يراودها عن نفسها، فإن أجابته لم تصح توبتها، وإن لم تجبه فقد تابت وقالت طائفة: هذا الامتحان
ج/ 15 ص -329- فيه طلب الفاحشة منها، وقد تنقض التوبة، وقد تأمره نفسه بتحقيق فعل الفاحشة ويزين لهما الشيطان ذلك؛ ولا سيما إن كان يحبها وتحبه، وقد تقدم له معها فعل الفاحشة مرات وذاقته وذاقها، فقد تنقض التوبة ولا تخالفه فيما أراده منها
ومن قال بالأول قال: الأمر الذي يقصد به امتحانها لا يقصد به نفس الفعل، فلا يكون أمرًا بما نهي الله عنه، ويمكنه ألا يطلب الفاحشة، بل يعَرِّض بها وينوي شيئًا آخر، والتعريض للحاجة جائز، بل واجب في مواضع كثيرة، وأما نقضها توبتها فإذا جاز أن تنقض التوبة معه جاز أن تنقضها مع غيره، والمقصود أن تكون ممتنعة ممن يراودها، فإذا لم تكن ممتنعة منه لم تكن ممتنعة من غيره
وأما تزيين الشيطان له الفعل فهذا داخل في كل أمر يفعله الإنسان من الخير يجد فيه محبته، فإذا أراد الإنسان أن يصاحب المؤمن، أو أراد المؤمن أن يصاحب أحدًا وقد ذكر عنه الفجور وقيل: إنه تاب منه، أو كان ذلك مقولا عنه سواء كان ذلك القول صدقا أو كذبا؛ فإنه يمتحنه بما يظهر به بره أو فجوره وصدقه أو كذبه، وكذلك إذا أراد أن يولي أحدًا ولاية امتحنه؛ كما أمر عمر بن عبد العزيز غلامه أن يمتحن ابن أبي موسي لما أعجبه سمته، فقال له: قد علمت مكاني عند أمير المؤمنين فكم تعطيني إذا أشرت عليه بولايتك؟
ج/ 15 ص -330- فبذل له مالا عظيما، فعلم عمر أنه ليس ممن يصلح للولاية، وكذلك في المعاملات، وكذلك الصبيان والمماليك الذين عرفوا أو قيل عنهم الفجور وأراد الرجل أن يشتريه بأنه يمتحنه، فإن المخنث كالبغي، وتوبته كتوبتها ومعرفة أحوال الناس تارة تكون بشهادات الناس، وتارة تكون بالجرح والتعديل، وتارة تكون بالاختبار والامتحان
فصل
وكما عظم الله الفاحشة عظم ذكرها بالباطل وهو القذف، فقال بعد ذلك: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ" [النور: 4]، ثم ذكر رمي الرجل امرأته، وما أمر فيه من التلاعن، ثم ذكر قصة أهل الإفك، وبين ما في ذلك من الخير للمقذوف المكذوب عليه، وما فيه من الإثم للقاذف، وما يجب على المؤمنين إذا سمعوا ذلك أن يظنوا بإخوانهم من المؤمنين الخير، ويقولون: هذا إفك مبين؛ لأن دليله كذب ظاهر، ثم أخبر أنه قول بلا حجة، فقال: "لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ"[النور: 13]، ثم أخبر أنه لولا فضله عليهم ورحمته لعذبهم بما تكلموا به
ج/ 15 ص -331- وقوله: "إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ"[النور: 15]، فهذا بيان لسبب العذاب، وهو تلقي الباطل بالألسنة والقول بالأفواه، وهما نوعان محرمان: القول بالباطل، والقول بلا علم ثم قال سبحانه: "وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ"[النور: 16] فالأول تحضيض على الظن الحسن، وهذا نهي لهم عن التكلم بالقذف ففي الأول قوله: "اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ"[الحجرات: 12]، ويقول النبي صلي الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"، وكذا قوله: "ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا"[النور: 12]، دليل على حسن مثل هذا الظن الذي أمر الله به، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لعائشة: "ما أظن فلانا وفلانا يدريان من أمرنا هذا شيئًا" فهذا يقتضي جواز بعض الظن كما احتج البخاري بذلك، لكن مع العلم بما عليه المرء المسلم من الإيمان الوازع له عن فعل الفاحشة، يجب أن يظن به الخير دون الشر
وفي الآية نهي عن تلقي مثل هذا باللسان، ونهي عن أن يقول الإنسان ما ليس له به علم لقوله تعالى: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"[الإسراء: 36]، والله تعالى جعل في فعل الفاحشة والقذف من العقوبة ما لم يجعله في شيء من المعاصي؛ لأنه جعل فيها الرجم،وقد رجم هو تعالى قوم
ج/ 15 ص -332- لوط إذ كانوا هم أول من فعل فاحشة اللواط، وجعل العقوبة على القذف بها ثمانين جلدة، والرمي بغيرها فيه الاجتهاد، ويجوز عند بعض العلماء أن يبلغ الثمانين عند كثير منهم، كما قال على: لا أوتي بأحد يفَضِّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري وكما قال عبد الرحمن بن عوف: إذا شرب هذي، وإذا هذي افتري، وحد الشرب ثمانون، وحد المفتري ثمانون
وقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الآية"[النور: 19] وهذا ذم لمن يحب ذلك، وذلك يكون بالقلب فقط ويكون مع ذلك باللسان والجوارح، وهو ذم لمن يتكلم بالفاحشة أو يخبر بها محبة لوقوعها في المؤمنين؛ إما حسدًا أو بغضًا، وإما محبة للفاحشة وإرادة لها، وكلاهما محبة للفاحشة وبغضًا للذين آمنوا، فكل من أحب فعلها ذكرها
وكره العلماء الغزل من الشعر الذي يرغب فيها، وكذلك ذكرها غيبة محرمة سواء كان بنظم أو نثر، وكذلك التشبه بمن يفعلها منهي عنه؛ مثل الأمر بها، فإن الفعل يطلب بالأمر تارة، وبالإخبار تارة، فهذان الأمران لفجرة الزناة اللوطية؛ مثل ذكر قصص الأنبياء والصالحين للمؤمنين، أولئك يعتبرون من الغيرة بهم، وهؤلاء يعتبرون من الاغترار، فإن أهل الكفر والفسوق والعصيان يذكرون من قصص
ج/ 15 ص -333- أشباههم ما يكون به لهم فيهم قدوة وأسوة، ومن ذلك قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا"[لقمان: 6]، قيل: أراد الغناء، وقيل: أراد قصص الملوك من الكفار من الفرس
وبالجملة، كل ما رَغَّبَ النفوس في طاعة الله ونهاها عن معصيته من خبر أو أمر فهو من طاعته، وكل ما رَغَّبَها في معصيته ونهي عن طاعته فهو من معصيته، فأما ذكر الفاحشة وأهلها بما يجب أو يستحب في الشريعة؛ مثل النهي عنها وعنهم والذم لها ولهم، وذكر ما يبغضها وينفر عنها، وذكر أهلها مطلقًا حيث يسوغ ذلك، وما يشرع لهم من الذم في وجوههم ومغيبهم؛ فهذا كله حسن يجب تارة، ويستحب أخري، وكذلك ما يدخل فيها من وصفها ووصف أهلها من العشق على الوجه المشروع الذي يوجب الانتهاء عما نهي الله عنه، والبغض لما يبغضه
وهذا كما أن الله قص علينا في القرآن قصص الأنبياء والمؤمنين والمتقين، وقصص الفجار والكفار؛ لنعتبر بالأمرين؛ فنحب الأولين وسبيلهم ونقتدي بهم، ونبغض الآخرين وسبيلهم ونجتنب فعالهم
وقد ذكر الله عن أنبيائه وعباده الصالحين من ذكر الفاحشة
ج/ 15 ص -334-وعلائقها على وجه الذم ما فيه عبرة، قال تعالى: "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ"[الأعراف: 80]، إلى آخر القصة في مواضع من كتابه فهذا لوط خاطب أهل الفاحشة وهو رسول الله بتقريعهم بها بقوله: "أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ" وهذا استفهام إنكار ونهي، إنكار ذم، ونهي، كالرجل يقول للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ أما تتقي الله؟ ثم قال: "أأَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء"[النمل: 55]، وهذا استفهام ثان فيه من الذم والتوبيخ ما فيه، وليس هذا من باب القذف واللمز
وكذلك قوله: "كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ"[الشعراء: 160]، إلى آخر القصة، فقد واجههم بذمهم وتوبيخهم على فعل الفاحشة، ثم إن أهل الفاحشة توعدوهم وتهددوهم بإخراجهم من القرية، وهذا حال أهل الفجور إذا كان بينهم من ينهاهم طلبوا نفيه وإخراجه، وقد عاقب الله أهل الفاحشة اللوطية بما أرادوا أن يقصدوا به أهل التقوي؛ حيث أمر بنفي الزاني ونفي المخنث، فمضت سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم بنفي هذا وهذا، وهو سبحانه أخرج المتقين من بينهم عند نزول العذاب
وكذلك ما ذكره تعالى في قصة يوسف: "وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ" إلى قوله: "فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"[يوسف: 32 34]، وما ذكره بعد ذلك فمن كلام يوسف من قوله: "مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ"[يوسف: 50]،
ج/ 15 ص -335- "مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ"[يوسف: 50]، وهذا من باب الاعتبار الذي يوجب انتهار النفوس عن معصية الله والتمسك بالتقوي، وكذلك ما بينه في آخر السورة بقوله: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ"[يوسف: 111]
ومع هذا فمن الناس والنساء من يحب سماع هذه السورة لما فيها من ذكر العشق وما يتعلق به؛ لمحبته لذلك ورغبته في الفاحشة، حتي إن من الناس من يقصد إسماعها للنساء وغيرهن لمحبتهم للسوء، ويعطفون على ذلك، ولا يختارون أن يسمعوا ما في سورة النور من العقوبة والنهي عن ذلك، حتي قال بعض السلف: كل ما حصلته في سورة يوسف أنفقته في سورة النور وقد قال تعالى "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" ثم قال: "وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا"[الإسراء: 82] وقال: "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ"[التوبة: 124، 125] فكل أحد يحب سماع ذلك لتحريك المحبة المذمومة، ويبغض سماع ذلك إعراضًا عن دفع هذه المحبة وإزالتها، فهو مذموم
ومن هذا الباب ذكر أحوال الكفار والفجار وغير ذلك مما فيه ترغيب في معصية الله وصد عن سبيل الله
ج/ 15 ص -336- ومن هذا الباب سماع كلام أهل البدع والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ويدعوه إلى سبيلهم وإلى معصية الله، فهذا الباب تجتمع فيه الشبهات والشهوات، والله تعالى ذم هؤلاء في مثل قوله: "يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا"[الأنعام: 112]، وفي مثل قوله: "وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ"[الشعراء: 224]، ومثل قوله: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ الآية"[الشعراء: 221]، وما بعدها، ومثل قوله: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا"[لقمان: 6]، وقوله: "مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ"[المؤمنون: 76]، ومثل قوله: "وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً"[الأعراف: 146]، ومثل قوله: "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ الآية"[الأنعام: 116]
ومثل هذا كثير في القرآن، فأهل المعاصي كثيرون في العالم، بل هم أكثر، كما قال تعالى: "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ" الآية وفي النفوس من الشبهات المذمومة والشهوات قولا وعملا ما لا يعلمه إلا الله،وأهلها يدعون الناس إليها، ويقهرون من يعصيهم، ويزينونها لمن يطيعهم فهم أعداء الرسل وأندادهم، فرسل الله يدعون الناس إلى طاعة الله ويأمرونهم بها بالرغبة والرهبة، ويجاهدون عليها، وينهونهم عن معاصي الله، ويحذرونهم منها بالرغبة والرهبة، ويجاهدون من يفعلها وهؤلاء يدعون الناس إلى معصية الله
ج/ 15 ص -337- ويأمرونهم بها بالرغبة والرهبة قولا وفعلا، ويجاهدون على ذلك قال تعالى: "الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"[التوبة: 67]، ثم قال: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ"[التوبة: 71]، وقال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ"[النساء: 76]
ومثل هذا في القرآن كثير، والله سبحانه قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به، والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته، فمن لا يعلمه لا يمكنه النهي عنه، وقد أوجب الله علىنا فعل المعروف وترك المنكر، فإن حب الشيء وفعله وبغض ذلك وتركه لا يكون إلا بعد العلم بهما، حتي يصح القصد إلى فعل المعروف وترك المنكر، فإن ذلك مسبوق بعلمه، فمن لم يعلم الشيء لم يتصور منه حب له ولا بغض ولا فعل ولا ترك، لكن فعل الشيء والأمر به يقتضي أن يعلم علمًا مفصلا يمكن معه فعله والأمر به إذا أمر به مفصلا
ولهذا أوجب الله على الإنسان معرفة ما أمر به من الواجبات؛ مثل صفة الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف
ج/ 15 ص -338- والنهي عن المنكر، إذا أمر بأوصاف فلا بد من العلم بثبوتها، فكما أنا لا نكون مطيعين إذا علمنا عدم الطاعة فلا نكون مطيعين إلا إذا لم نعلم وجودها، بل الجهل بوجودها كالعلم بعدمها، وكون كل منهما معصية، فإن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في بيع الأموال الربوية بعضها بجنسه، فإن لم نعلم المماثلة كان كما لو علمنا المفاضلة وأما معرفة ما يتركه وينهي عنه فقد يكتفي بمعرفته في بعض المواضع مجملاً، فالإنسان يحتاج إلى معرفة المنكر وإنكاره، وقد يحتاج إلى الحجج المبينة لذلك، وإلي الجواب عما يعارض به أصحابها من الحجج، وإلي دفع أهوائهم وإراداتهم، وذلك يحتاج إلى إرادة جازمة وقدرة على ذلك، وذلك لا يكون إلا بالصبر، كما قال تعالى: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [ سورة العصر]
وأول ذلك أن نذكر الأقوال والأفعال على وجه الذم لها والنهي عنها وبيان ما فيها من الفساد، فإن الإنكار بالقلب واللسان قبل الإنكار باليد، وهذه طريقة القرآن فيما يذكره تعالى عن الكفار والفساق والعصاة من أقوالهم وأفعالهم؛ يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لها ولأهلها وبيان فسادها وضدها والتحذير منها، كما أن فيما يذكره عن أهل العلم والإيمان، ومن فيهم من أنبيائه وأوليائه على وجه المدح والحب، وبيان صلاحه ومنفعته، والترغيب فيه،وذلك نحو قوله تعالى:
ج/ 15 ص -339- "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ"[الأنبياء: 26]، "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا"[مريم: 88 95]، "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِالآيات" [التوبة: 30]
وهذا كثير جدًا، فالذي يحب أقوالهم وأفعالهم هو منهم؛ إما كافر، وإما فاجر بحسب قوله وفعله، وليس منهم من هو بعكسه، وليس عليه عذاب في تركه؛ لكنه لا يثاب على مجرد عدم ذلك، وإنما يثاب على قصده لترك ذلك وإرادته، وذلك مسبوق بالعلم بقبح ذلك وبغضه لله، وهذا العلم والقصد والبغض هو من الإيمان الذي يثاب عليه، وهو أدني الإيمان؛ كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: "من رأي منكم منكرًا فليغيره بيده" إلى آخره، وتغيير القلب يكون بالبغض لذلك وكراهته وذلك لا يكون إلا بعد العلم به وبقبحه، ثم بعد ذلك يكون الإنكار باللسان، ثم يكون باليد، والنبي صلي الله عليه وسلم قال: "وذلك أضعف الإيمان" فيمن رأي المنكر
فأما إذا رآه فلم يعلم أنه منكر ولم يكرهه لم يكن هذا الإيمان موجودًا في القلب في حال وجوده ورؤيته؛ بحيث يجب بغضه
ج/ 15 ص -340- وكراهته، والعلم بقبحه يوجب جهاد الكفار والمنافقين إذا وجدوا، وإذا لم يكن المنكر موجودًا لم يجب ذلك، ويثاب من أنكره عند وجوده، ولا يثاب من لم يوجد عنده حتي ينكره، وكذلك ما يدخل في ذلك من الأقوال والأفعال المنكرات قد يعرض عنها كثير من الناس إعراضهم عن جهاد الكفار والمنافقين، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات، فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها، حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
فتدبر هذا، فإنه كثيرًا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران بغض الكفر وأهله، وبغض الفجور وأهله، وبغض نهيهم وجهادهم، كما يحب المعروف وأهله ولا يحب أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال؛ وقد قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"[الحجرات: 15]، وقال تعالى: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"[التوبة: 24]، وقوله: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ" الآية [المجادلة: 22]
ج/ 15 ص -341-وكثير من الناس، بل أكثرهم كراهتهم للجهاد على المنكرات أعظم من كراهتهم للمنكرات؛ لا سيما إذا كثرت المنكرات وقويت فيها الشبهات والشهوات فربما مالوا إليها تارة وعنها أخري، فتكون نفس أحدهم لَوَّامَةً بعد أن كانت أَمَّارَةً، ثم إذا ارتقي إلى الحال الأعلى في هجر السيئات، وصارت نفسه مطمئنة تاركة للمنكرات والمكروهات، لا تحب الجهاد ومصابرة العدو على ذلك، واحتمال ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، فإن هذا شيء آخر داخل في قوله: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً"الآيات، إلى قوله: "وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا"[النساء: 77 85]، والشفاعة: الإعانة؛ إذ المعين قد صار شفعًا للمعان، فكل من أعان على بر أو تقوي كان له نصيب منه، ومن أعان على الإثم والعدوان كان له كِفْلٌ منه، وهذا حال الناس فيما يفعلونه بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم من الإعانة على البر والتقوي، والإعانة على الإثم والعدوان، ومن ذلك الجهاد بالنفس والمال على ذلك من الجانبين، كما قال تعالى قبل ذلك: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا" إلى قوله: " إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا"[النساء: 71، 76]
ج/ 15 ص -342- ومن هنا يظهر الفرق في السمع والبصر: من الإيمان وآثاره، والكفر وآثاره، والفرق بين المؤمن البر وبين الكافر والفاجر، فإن المؤمنين يسمعون أخبار أهل الإيمان فيشهدون رؤيتهم على وجه العلم والمعرفة والمحبة والتعظيم لهم ولأخبارهم وآثارهم، كرؤية الصحابة النبي صلي الله عليه وسلم، وسمعهم لما بلغه عن الله، والكافر والمنافق يسمع ويري على وجه البغض والجهل، كما قال تعالى: "وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ" [القلم: 51]، وقال: "فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ" [محمد: 20]، وقال: مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ"[هود: 20]، وقال: "فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ"[المائدة: 71]، وقال تعالى في حق المؤمنين: "وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا"[الفرقان: 73]، وقال في حق الكفار: "فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ"[المدثر: 49]، والآيات في هذا كثيرة جدًا
وكذلك النظر إلى زينة الحياة الدنيا فتنة، فقال تعالى: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى"[طه: 131]، وفي التوبة: "فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ الآية"[التوبة: 55]، وقال: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ الآية"[النور: 30]، وقال: "وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"[الكهف: 28]، وقال:
ج/ 15 ص -343- "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْالآيات"[الغاشية: 17]، وقال: "قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"[يونس: 101]، وقال: "أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ الآية" [سبأ: 9]، وكذلك قال الشيطان: "إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ"[الأنفال: 48]، وقال: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ الآيات"[الشعراء: 61]، وقال: "إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً الآية" [الأنفال: 43]
فالنظر إلى متاع الدنيا على وجه المحبة والتعظيم لها ولأهلها منهي عنه، والنظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه وأما رؤية ذلك عند الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدفع شر أولئك وإزالته فمأمور به، وكذلك رؤية الاعتبار شرعا في الجملة، فالعين الواحدة ينظر إليها نظرا مأمورًا به؛ إما للاعتبار، وإما لبغض ذلك والنظر إليه لبغض الجهاد منهي عنه، وكذلك الموالاة والمعاداة؛ وقد تحصل للعبد فتنة بنظر منهي عنه وهو يظن أنه نظر عبرة، وقد يؤمر بالجهاد فيظن أن ذلك نظر فتنة، كالذين قال الله تعالى فيهم: "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي الآية"[التوبة: 49]، فإنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلي الله عليه وسلم أن يتجهز لغزو الروم فقال: إني مغرم بالنساء وأخاف الفتنة بنساء الروم فائذن لي في القعود، قال تعالى: "أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ"[التوبة: 49]
ج/ 15 ص -344- فهذا ونحوه مما يكون باللسان من القول، وأما ما يكون من الفعل بالجوارح، فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخل في هذا، بل يكون عذابه أشد، فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل، فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا، ومن رضي عمل قوم حُشِرَ معهم، كما حُشِرَت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل فاحشة اللواط، فإن ذلك لا يقع من المرأة؛ لكنها لما رضيت فعلهم عمها العذاب معهم
فمن هذا الباب، قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها؛ مثل القَوَّاد الذي يقود النساء والصبيان إلى الفاحشة؛ لأجل ما يحصل له من رياسة أو سحت يأكله، وكذلك أهل الصناعات التي تنفق بذلك؛ مثل المغنين، وشَرَبَة الخمر، وضمان الجهات السلطانية وغيرها، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة؛ ليتمكنوا من دفع من ينكرها من المؤمنين، بخلاف ما إذا كانت قليلة خفيفة خفية، ولا خلاف بين المسلمين أن ما يدعو إلى معصية الله وينهي عن طاعته منهي عنه محرم، بخلاف عكسه فإنه واجب، كما قال تعالى: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ"[العنكبوت: 45]، أي: إن ما فيها من طاعة الله وذكره وامتثال أمره أكبر من ذلك
ج/ 15 ص -345- وقال في الخمر والميسر: "وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ"[المائدة: 91]، أي: يوقعهم ذلك في معصيته التي هي العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم المنكرات التي تنهي عنه الصلاة، والخمر تدعو إلى الفحشاء والمنكر كما هو الواقع، فإن شارب الخمر تدعوه نفسه إلى الجماع حلالا كان أو حراما، فالله تعالى لم يذكر الجماع؛ لأن الخمر لا تدعو إلى الحرام بعينه من الجماع، فيأتي شارب الخمر ما يمكنه من الجماع، سواء كان حلالا أو حرامًا، والسكر يزيل العقل الذي كان يميز السكران به بين الحلال والحرام، والعقل الصحيح ينهي عن مواقعة الحرام، ولهذا يكثر شارب الخمر من مواقعة الفواحش ما لا يكثر من غيرها حتي ربما يقع على ابنته وابنه ومحارمه، وقد يستغني بالحلال إذا أمكنه، ويدعو شرب الخمر إلى أكل أموال الناس بالباطل: من سرقة، ومحاربة، وغير ذلك؛ لأنه يحتاج إلى الخمر وما يستتبعه من مأكول وغيره من فواحش وغناء
وشرب الخمر يظْهِرُ أسرار الرجال حتي يتكلم شاربه بما في باطنه، وكثير من الناس إذا أرادوا استفهام ما في قلوب الرجال من الأسرار يسقونهم الخمر، وربما يشربون معهم ما لا يسكرون به
وأيضًا، فالخمر تصد الإنسان عن علمه وتدبيره ومصلحته في معاشه ومعاده، وجميع أموره التي يدبرها برأيه وعقله، فجميع الأمور التي تصد
ج/ 15 ص -346- عنها الخمر من المصالح وتوقعها من المفاسد داخلة في قوله تعالى: "وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ"[المائدة: 91]
وكذلك، إيقاع العداوة والبغضاء هي منتهي قصد الشيطان؛ ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟" قالوا: بلي يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين، فإن إفساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول : تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الفواحش والظلم وغير ذلك من الذنوب توقع العداوة والبغضاء، وأن كل عداوة أو بغضاء فأصلها من معصية الله، والشيطان يأمر بالمعصية ليوقع فيما هو أعظم منها، ولا يرضي بغاية ما قدر على ذلك
وأيضًا، فالعداوة والبغضاء شر محض لا يحبها عاقل؛ بخلاف المعاصي فإن فيها لذة كالخمر والفواحش؛ فإن النفوس تريد ذلك، والشيطان يدعو إليها النفوس حتي يوقعها في شر لا تهواه ولا تريده، والله تعالى قد بين ما يريده الشيطان بالخمر والميسر ولم يذكر ما يريده الإنسان، ثم قال في سورة النور: "أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ"[النور: 21]،
ج/ 15 ص -347- وقال في سورة البقرة: "وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"[البقرة: 168، 169]، فنهي عن اتباع خطواته وهو اتباع أمره بالاقتداء والاتباع وأخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر والسوء والقول على الله بلا علم، وقال فيها: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً"[البقرة: 268]، فالشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر والسوء، والله يعد المغفرة والفضل،ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي، وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقال عن نبيه: "يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ"[الأعراف: 157]، وقال عن أمته: "يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ" [التوبة: 71]
وذكر مثل ذلك في مواضع كثيرة فتارة يخص اسم المنكر بالنهي، وتارة يقرنه بالفحشاء، وتارة يقرن معهما البغي، وكذلك المعروف: تارة يخصه بالأمر، وتارة يقرن به غيره كما في قوله تعالى: "لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ"[النساء: 114]، وذلك لأن الأسماء قد يكون عمومها وخصوصها بحسب الإفراد والتركيب؛ كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد كان عامًا لما يدلان عليه عند الاقتران؛ بخلاف اقترانهما فإنه يكون معنى كل
ج/ 15 ص -348- منهما ليس هو معنى الآخر، بل أخص من معناه عند الإفراد، وأيضًا، فقد يعطف على الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التخصيص، ثم قد قيل: إن ذلك المخصص يكون مذكورًا بالمعني العام والخاص
فإذا عرف هذا، فاسم "المنكر" يعم كل ما كرهه الله ونهي عنه وهو المبغض،واسم "المعروف" يعم كل ما يحبه اللّه ويرضاه ويأمر به، فحيث أفردا بالذكر فإنهما يعمان كل محبوب في الدين ومكروه، وإذا قرن المنكر بالفحشاء فإن الفحشاء مبناها على المحبة والشهوة، و"المنكر" هو الذي تنكره القلوب، فقد يظن أن ما في الفاحشة من المحبة يخرجها عن الدخول في المنكر، وإن كانت مما تنكرها القلوب فإنها تشتهيها النفوس، و"المنكر" قد يقال: إنه يعم معني الفحشاء، وقد يقال: خصت لقوة المقتضي لما فيها من الشهوة، وقد يقال: قصد بالمنكر ما ينكر مطلقا والفحشاء لكونها تشتهي وتحب، وكذلك "البغي" قرن بها؛ لأنه أبعد عن محبة النفوس
ولهذا كان جنس عذاب صاحبه أعظم من جنس عذاب صاحب الفحشاء، ومنشؤه من قوة الغضب، كما أن الفحشاء منشؤها عن قوة الشهوة، ولكل من النفوس لذة بحصول مطلوبها، فالفواحش والبغي مقرونان بالمنكر، وأما الإشراك والقول على اللّه بلا علم فإنه منكر
ج/ 15 ص -349- محض ليس في النفوس ميل إليهما؛ بل إنما يكونان عن عناد وظلم، فهما منكر وظلم محض بالفطرة
فهذه الخصال فساد في القوة العلمية والعملية، فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، سواء كان الضمير عائداً إلى الشيطان، أو إلى من يتبع خطوات الشيطان، فإن من أتي الفحشاء والمنكر سواء، فإن كان الشيطان أمره فهو متبعه مطيعه عابد له، وإن كان الآتي هو الآمر فالأمر بالفعل أبلغ من فعله، فمن أمر بها غيره رضيها لنفسه
ومن الفحشاء والمنكر استماع العبد مزامير الشيطان، والمغني هو مُؤَذِّنُه الذي يدعو إلى طاعته، فإن الغناء رُقْيةُ الزنا، وكذلك من اتباع خطوات الشيطان القول على اللّه بلا علم "قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"[الأعراف: 28]، وهذه حال أهل البدع والفجور، وكثير ممن يستحل مؤاخاة النساء والمردان وإحضارهم في سماع الغناء، ودعوي محبة صورهم لله، وغير ذلك مما فتن به كثير من الناس فصاروا ضالين مضلين
ثم إنه سبحانه نهي المظلوم بالقذف أن يمنع ما ينبغي له فعله من الإحسان إلى ذوي قرابته، والمساكين، وأهل التوبة، وأمره بالعفو
ج/ 15 ص -350- والصفح؛ فإنهم كما يحبون أن يغفر اللّه لهم فليعفوا وليصفحوا وليغفروا، ولا ريب أن صلة الأرحام واجبة، وإيتاء المساكين واجب، وإعانة المهاجرين واجب، فلا يجوز ترك ما يجب من الإحسان للإنسان بمجرد ظلمه وإساءته في عرضه، كما لا يمنع الرجل ميراثه وحقه من الصدقات والفيء بمجرد ذنب من الذنوب، وقد يمنع من ذلك لبعض الذنوب
وفي الآية دلالة على وجوب الصلة والنفقة وغيرها لذوي الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإنه قد ثبت في الصحيح عن عائشة في قصة الإفك أن أبا بكر الصديق حلف ألا ينفق على مِسْطَح بن أثاثة، وكان أحد الخائضين في الإفك في شأن عائشة، وكانت أم مِسْطَح بنت خالة أبي بكر، وقد جعله اللّه من ذوي القربي الذين نهي عن ترك إيتائهم، والنهي يقتضي التحريم، فإذا لم يجز الحلف على ترك الفعل كان الفعل واجباً؛ لأن الحلف على ترك الجائز جائز
فَصل
قال اللّه تعالى: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً"[النور: 4]، وقال فيها: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ"[النور: 6]،
ج/ 15 ص -351- "ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً"[النور: 4]، وقال فيها: "لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء"[النور: 13]، فذكر عدد الشهداء وأطلق صفتهم، ولم يقيدهم بكونهم منا ولا ممن نرضي ولا من ذوي العدل، كما قيد صفة الشهداء في غير هذا الموضع
ولهذا تنازع العلماء،هل شهادة الأربعة التي يجب بها الحد على الزاني، مثل شهادة أهل الفسوق والعصيان وغيرهم؟ هل تدرأ الحد عن القاذف؟ على قولين في مذهب أحمد:
أحدهما: أنها تدرأ الحد عن القاذف وإن لم توجب حد الزنا على المقذوف، كشهادة الزوج على امرأته أربع شهادات باللّه، فإن ذلك يدرأ حد القذف ولا يجب الحد على امرأته لمجرد ذلك؛ لأنها تدفع العذاب عنها بشهادتها أربع شهادات، ولو لم تشهد فهل تحد أو تحبس حتي تقر أو تلاعن أو يخلي سبيلها؟ فيه نزاع مشهور بين العلماء، فلا يلزم من درء الحد عن القاذف وجوب حد الزنا على المقذوف؛ فإن كلاهما حد، والحدود تُدْرَأ بالشبهات، والأربع شهادات للقاذف شُبْهَة قوية، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثاً دُرِئ الحد عن القاذف، ولم يجب الحد عنها عند أكثر العلماء، ولو كان المقذوف غير محصن مثل أن يكون مشهوراً بالفاحشة لم يحد قاذفه حد القذف، ولم يحد هو حد الزنا لمجرد الاستفاضة،
ج/ 15 ص -352-وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد، وقد اعتبر نصاب حد الزنا بأربعة شهداء
وكذلك تعتبر صفاتهم، فلا يقام حد الزنا على مسلم إلا بشهادة مسلمين،لكن يقال: لم يقيدهم بأن يكونوا عدولا مرضيين، كما قيدهم في آية الدين بقوله: "مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء"[البقرة: 282]، وقال في آية الوصية: "اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ"[المائدة: 106]، وقال في آية الرجعة: "وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ"[الطلاق: 2]، فقد أمرنا اللّه سبحانه بأن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا، وهؤلاء هم الممتثلون ما أمرهم اللّه به بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ الآية"[النساء: 135]، وفي قوله: "وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى"[الأنعام: 152]، وقوله: "وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ"[البقرة: 283]، وقوله: "وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ"[البقرة: 282]، وقوله : وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ"[المعارج: 33]، فهم يقومون بالشهادة بالقسط للّه فيحصل مقصود الذي استشهده
الوجه الثاني: أن كون شهادتهم مقبولة مسموعة، لأنهم أهل العدل والرضا فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء، وقد نهي سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله: "إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا الآية"[الحجرات: 6]، لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره،
ج/ 15 ص -353-وأما الفاسقان فصاعداً فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخري، وما ذكروه من عدد الشهود لا يعتبر في الحكم باتفاق العلماء في مواضع، وعند جمهورهم قد يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك، ويحكم بشاهد ويمين كما مضت سنة رسول اللّه صلي الله عليه وسلم فإنه قضي بشاهد ويمين، رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم من حديث ابن عباس: "أن رسول اللّه صلي الله عليه وسلم قضي بشاهد ويمين" ورواه غيرهما، ويدل على هذا أن اللّه لم يعتبر عند الأداء هذا القيد: لا في آية الزنا ولا في آية القذف،بل قال: "فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ"[النساء: 15]، وقال: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء"[النور: 4]، وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد؛ ولم يأمر به عند خبر الفاسقين، فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد؛ ولهذا قال العلماء: إذا استراب الحاكم في الشهود فَرَّقَهُم وسألهم عن مكان الشهادة وزمانها وصفتها وتحملها، وغير ذلك مما يتبين به اتفاقهم واختلافهم
وقوله تعالى: "وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا"[النور: 4]، فهذا نص في أن هؤلاء القذفة لا تقبل لهم شهادة أبداً، واحداً كانوا أو عدداً، بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل؛ لأن الآية نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير، وكان الذين قذفوا
ج/ 15 ص -354-عائشة عدداً، ولم يكونوا واحداً لما رأوها قد قدمت" [في] صحبة صفوان ابن المعَُطَّل السُّلَمي بعد قفول العسكر، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها عدمت، فرفع أصحاب الهودج هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ولم تكن فيه، فلما رجعت لم تجد أحداً من الجيش فمكثت مكانها، وكان صفوان قد تَخَلَّفَ وراء الجيش، فلما رآها أعرض بوجهه عنها، وأناخ راحلته حتي ركبتها، ثم ذهب بها إلى العسكر، فكانت خلوته بها للضرورة، كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة، كسفر الهجرة؛ مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط مهاجرة وقصة عائشة
وقد دلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين
ودلت أيضاً على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة كما هو مذهب الجمهور؛ فإنه كان من جملتهم مِسْطَح بن أُثَاثَة وحسان بن ثابت كما في الصحيح عن عائشة، وكان منهم حِمْنَةُ بنت جحش وغيرها، ومعلوم أنه لم يرد النبي صلي الله عليه وسلم ولا المسلمون بعده شهادة أحد منهم؛ لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها، ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن، وهؤلاء ما زالوا مسلمين، وقد نهي اللّه عن قطع صلتهم ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة، وقصة عائشة كانت أعظم من قصة المغيرة، لكن من
ج/ 15 ص -355-رد شهادة القاذف بعد التوبة قد يقول: أرد شهادة من حد في القذف وهؤلاء لم يحدوا
والأولون يجيبون بأجوبة:
أحدها: أنه قد روي في السنن أن النبي صلي الله عليه وسلم حد أولئك
والثاني: أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن، وهم لا يقولون به كما هو مقرر في موضعه
والثالث: أن الذين اعتبروا الحد اعتبروه، وقالوا: قد يكون القاذف صادقاً وقد يكون كاذباً، فإعراض المقذوف عن طلب حد القذف قد يكون لصدق القاذف، فإذا طلب الحد ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه، ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد؛ فإن اللّه هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سموات يتلي، فإذا كانت شهادتهم بعد توبتهم مقبولة، فشهادة غيرهم ممن شهد على غيرها بالقذف أولي بالقبول، وقصة عمر بن الخطاب التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار في شأن المغيرة، لما شهد عليه ثلاثة بالزنا وتوقف الرابع عن الشهادة فجلد أولئك الثلاثة، ورد شهادتهم دليل على الفصلين جميعاً، كما دلت قصة عائشة على قبول شهادتهم بعد التوبة والجلد، لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل عمر
ج/ 15 ص -356-والمسلمون شهادتهما، والثالث: وهو أبو بكرة مع كونه من أفضلهم لم يتب، فلما لم يتب لم يقبل المسلمون شهادته، وكان من صالحي المسلمين، وقد قال عمر: تب أقْبَلُ شهادتك، لكن إذا كان القرآن قد بين أن القَذَفَةِ إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبداً، ثم قال بعد ذلك: "وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا "[النور: 4، 5]، فمعلوم أن قوله: "وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" وصف ذم لهم زائد على ما ذكره من رد شهادتهم
وأما تفسير "العدالة" المشروطة في هؤلاء الشهداء: فإنها الصلاح في الدين والمروءة، والصلاح في أداء الواجبات، وترك الكبيرة، والإصرار على الصغيرة و"الصلاح في المروءة": استعمال ما يجَمِّله ويزَينُه واجتناب ما يدَنِّسَه ويشينه، فإذا وجد هذا في شخص كان عدلا في شهادته، وكان من الصالحين الأبرار وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية أو رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتي يكون بهذه الصفة، فليس في كتاب اللّه وسنة رسوله ما يدل على ذلك، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها، ومن كان كذلك كان من أولياء اللّه المتقين
ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها، بل قد يجب على الإنسان من حقوق اللّه وحقوق عباده ما لا يحصيه
ج/ 15 ص -357-إلا اللّه تعالى مما يكون تركه أعظم إثما من شرب الخمر والزنا، ومع ذلك لم يجعلوه قادحا في عدالته؛ إما لعدم استشعار كثرة الواجبات، وإما لالتفاتهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات، وليس الأمر كذلك في الشريعة، وبالجملة، هذا معتبر في باب الثواب والعقاب، والمدح والذم، والموالاة والمعاداة وهذا أمر عظيم
وأما قول من يقول: الأصل في المسلمين العدالة فهو باطل، بل الأصل في بني آدم الظلم والجهل، كما قال تعالى: "وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"[الأحزاب: 72] ومجرد التكلم بالشهادتين لا يوجب انتقال الإنسان عن الظلم والجهل إلى العدل
و"باب الشهادة": مداره على أن يكون الشهيد مرضياً أو يكون ذا عدل، يتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله والصدق في شهادته وخبره، وكثيراً ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات، كما أن الصفات التي اعتبروها كثيراً ما توجد بدون هذا، كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيراً، لكن يقال: إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها؛ فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة" الحديث إلى آخره
ج/ 15 ص -358-فالصدق مستلزم للبر كما أن الكذب مستلزم للفجور، فإذا وجد الملزوم وهو تحري الصدق وجد اللازم وهو البر، وإذا انتفي اللازم وهو البر انتفي الملزوم وهو الصدق، وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم، وإذا انتفي اللازم وهو الفجور انتفي الملزوم وهو الكذب، فلهذا استدل بعدم بر الرجل على كذبه، وبعدم فجوره على صدقه
فالعدل الذي ذكره الفقهاء من انتفي فجوره، وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة، وإذا انتفي ذلك فيه انتفي كذبه الذي يدعوه إلى هذا الفجور، والفاسق هو من عُدِمَ بره، وإذا عدم بره عدم صدقه، ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور فالخطأ كالنسيان، والعمد كالكذب واللّه أعلم
ج/ 15 ص -359-وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
في قوله تعالي: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور: 23]، في طرده الكلام على ما يتعلق بهذه الآية وغيرها فقال: وأما الجواب المفصل فمن ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه الآية في أزواج النبي ﷺ خاصة في قول كثير من أهل العلم، فروي هشيم عن العوام بن حوشب، ثنا شيخ من بني كاهل، قال: فسر ابن عباس : "سورة النور" فلما أتي على هذه الآية: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ" إلى آخر الآية [النور: 32]، قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي ﷺ خاصة، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة، ثم قرأ: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء" إلى قوله: "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا"[النور: 4، 5]، فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فهمَّ رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسره
ج/ 15 ص -360-وقال أبو سعيد الأشج: حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العوام، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ" نزلت في عائشة خاصة، واللعنة في المنافقين عامة، فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين؛ لما في قذفهن من الطعن على رسول الله ﷺ وعيبه، فإن قذف المرأة أذى لزوجها، كما هو أذى لابنها؛ لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، فإن زنا امرأته يؤذيه أذى عظيمًا؛ ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت، ودرأ الحد عنه باللعان، ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال، ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله أعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف
ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدي الروايتين المنصوصتين عنه: إلى أن من قذف امرأة محصنة كالأمة والذمية، ولها زوج أو ولد محصن حدَّ لقذفها، لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين، والرواية الأخري عنه وهي قول الأكثرين أنه لا حد عليه؛ لأنه أذى لهما لا قذف لهما، والحد التام إنما يجب بالقذف، وفي جانب النبي ﷺ أذي، كقذفه، ومن يقصد عيب النبي ﷺ بعيب أزواجه فهو منافق، وهذا معني قول ابن عباس: اللعنة في المنافقين عامة
وقد وافق ابن عباس جماعة، فروي الإمام أحمد والأَشَج عن خَصِيف
ج/ 15 ص -361-قال: سألت سعيد بن جبير، فقلت: الزنا أشد أو قذف المحصنة؟ قال: لا، بل الزنا، قال: قلت: فإن الله تعالي يقول: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"[النور: 23]، فقال: إنما كان هذا في عائشة خاصة، وروي أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"، فقال: هذه الآية لأمهات المؤمنين خاصة، وروي الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية، قال: هن نساء النبي ﷺ، وقال معمر عن الكلبي: إنما عُنِي بهذه الآية أزواج النبي ﷺ، فأما من رمي امرأة من المسلمين فهو فاسق، كما قال الله تعالي أو يتوب
ووجه هذا، أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف، فتكون اللام في قوله:"الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ" لتعريف المعهود، والمعهود هنا أزواج النبي ﷺ؛ لأن الكلام في قصة الإفك، ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة، أو يقصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك
ويؤيد هذا القول: أن الله سبحانه رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول السورة: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً الآية"[النور: 4]، فرتب الحد ورد الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات،فلابد أن يكون
ج/ 15 ص -362-المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات؛ وذلك والله أعلم لأن أزواج النبي ﷺ مشهود لهن بالإيمان؛ لأنهن أمهات المؤمنين، وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة،وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان
ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة: "وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور: 11]، فتخصيصه متولي كبره دون غيره دليل على اختصاصه بالعذاب العظيم، وقال: "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور: 14]، فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف، وإنما يمس متولي كبره فقط، وقال هنا: "وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور: 23]، فعلم أن الذي رمي أمهات المؤمنين يعيب بذلك رسوله ﷺ، وتولي كبر الإفك، وهذه صفة المنافق ابن أبي والله أعلم أنه على هذا القول تكون هذه الآية حجة أيضًا موافقة لتلك الآية، لأنه لما كان رَمْي أمهات المؤمنين أذى للنبي ﷺ لُعِنَ صاحبه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال ابن عباس: ليس فيها توبة؛ لأن مؤذي النبي ﷺ لا تقبل توبته، أو يريد إذا تاب من القذف حتي يسلم إسلامًا جديدًا، وعلي هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي ﷺ، أو بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة، فإنه ما بغت امرأة نبي قط
ج/ 15 ص -363-ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي ﷺ، ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله ﷺ فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول الله ﷺ وهو على المنبر : "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحًا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتلنه ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتي هموا أن يقتتلوا، ورسول الله ﷺ قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله ﷺ يخفضهم حتي سكتوا وسكت وفي رواية أخري صحيحة أن هذه الآية في أزواج رسول الله ﷺ خاصة
ويقول آخرون: يعني أزواج المؤمنين عامة، وقال أبو سلمة: قذف
ج/ 15 ص -364-المحصنات من الموجبات، ثم قرأ: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ" الآية[النور: 23]،وعن عمر بن قيس قال: قذف المحصنة يحبط عمل تسعين سنة، رواهما الأشج، وهذا قول كثير من الناس
ووجهه ظاهر الخطاب، فإنه عام فيجب إجراؤه على عمومه؛ إذ لا موجب لخصوصه، وليس هو مختصًا بنفس السبب بالاتفاق؛ لأن حكم غير عائشة من أزواج النبي ﷺ داخل في العموم، وليس هو من السبب؛ ولأنه لفظ جمع والسبب في واحدة هنا؛ ولأن قصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وقد علم أن شيئًا منها لم يقصر على سببه، والفرق بين الآيتين: أنه في أول السورة ذكر العقوبات المشروعة على أيدي المكلفين من الجلد ورد الشهادة والتفسيق، وهنا ذكر العقوبة الواقعة من الله سبحانه وهي اللعنة في الدارين والعذاب العظيم، وقد روي عن النبي ﷺ من غير وجه وعن أصحابه: "إن قذف المحصنات من الكبائر"، وفي لفظ في الصحيح: "قذف المحصنات الغافلات المؤمنات"
ثم اختلف هؤلاء فقال أبو حمزة الثُّمَالي: بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله ﷺ إلى المدينة
ج/ 15 ص -365-مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت تفجر، فعلي هذا يكون فيمن قذف المؤمنات قذفًا يصدهن به عن الإيمان، ويقصد بذلك ذم المؤمنين لينفر الناس عن الإسلام، كما فعل كعب بن الأشرف، وعلي هذا فمن فعل ذلك فهو كافر، وهو بمنزلة من سب النبي ﷺ
وقوله: إنها نزلت زمن العهد، يعني والله أعلم : أنه عني بها مثل أولئك المشركين المعاهدين، وإلا فهذه الآية نزلت ليالي الإفك، وكان الإفك في غزوة بني المصطلق قبل الخندق، والهدنة كانت بعد ذلك بسنين، ومنهم من أجراها على ظاهرها وعمومها؛ لأن سبب نزولها قذف عائشة، وكان فيمن قذفها مؤمن ومنافق، وسبب النزول لابد أن يندرج في العموم؛ ولأنه لا موجب لتخصيصها
والجواب على هذا التقدير: أنه سبحانه قال هنا: "لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"[النور: 23]، على بناء الفعل للمفعول ولم يسَمَّ اللاعن، وقال في الآية الأخري: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"[الأحزاب: 57]، وإذا لم يسم الفاعل جاز أن يلعنهم غير الله من الملائكة والناس، وجاز أن يلعنهم الله في وقت ويلعنهم بعض خلقه في وقت، وجاز أن الله يتولي لعنة بعضهم وهو من كان قذفه طعنًا في الدين، ويتولي خلقه لعنة الآخرين، وإذا كان اللاعن مخلوقًا فلعنه قد يكون بمعنى
ج/ 15 ص -366-الدعاء عليهم، وقد يكون بمعني أنهم يبعدونهم عن رحمة الله
ويؤيد هذا، أن الرجل إذا قذف امرأته تلاعنا وقال الزوج في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فهو يدعو على نفسه إن كان كاذبًا في القذف أن يلعنه الله، كما أمر الله رسوله أن يباهل مَنْ حاجه في المسيح بعد ما جاءه من العلم بأن يبتهلوا فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين، فهذا مما يلعن به القاذف، ومما يلعن به أن يجلد، وأن ترد شهادته، ويفسق، فإنه عقوبة له وإقصاء له عن مواطن الأمن والقبول، وهي من رحمة الله، وهذا بخلاف من أخبر الله أنه لعنه في الدنيا والآخرة، فإن لعنة الله له توجب زوال النصر عنه من كل وجه، وبعده عن أسباب الرحمة في الدارين
ومما يؤيد الفرق أنه قال: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا"[الأحزاب: 57]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار، كقوله: "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا"[النساء: 37]، وقوله: "وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا"[النساء: 102]، وقوله: "فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ"[البقرة: 90]، "إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ"[آل عمران: 178]، "وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ"[الحج: 57]،
ج/ 15 ص -367- "وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ"[الجاثية: 9]، "وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ"[المجادلة: 5]،V"اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ"[المجادلة: 16] وأما قوله تعالى: "وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ"[النساء: 14]، فهي والله أعلم فيمن جحد الفرائض واستخف بها، على أنه لم يذكر أن العذاب أعد له
وأما العذاب العظيم فقد جاء وعيدًا للمؤمنين في قوله: "لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[الأنفال: 68]، وقوله: "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور: 14]، وفي المحارب: "ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[المائدة: 33]، وفي القاتل: "وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا"[النساء: 93]، وقوله: "وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النحل: 94]، وقد قال سبحانه:"وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ"[الحج: 18]، وذلك لأن الإهانة إذلال وتحقير وخزي، وذلك قدر زائد على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان، فلما قال في هذه الآية: "وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا"[الأحزاب: 75]، علم أنه من جنس العذاب الذي توعد به الكفار والمنافقين، ولما قال هناك: "وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور: 23]، جاز أن يكون من جنس العذاب في قوله: "لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور: 14]
ج/ 15 ص -368-ومما يبين الفرق أيضًا أنه سبحانه قال هناك: "وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا"[الأحزاب: 57]، والعذاب إنما أعد للكافرين؛ فإن جهنم لهم خلقت؛ لأنهم لابد أن يدخلوها، وما هم منها بمخرجين، وأهل الكبائر من المؤمنين يجوز أن يدخلوها إذا غفر الله لهم، وإذا دخلوها فإنهم يخرجون منها ولو بعد حين، قال سبحانه: "وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ"[آل عمران: 131]، فأمر سبحانه المؤمنين ألا يأكلوا الربا وأن يتقوا الله، وأن يتقوا النار التي أعدت للكافرين، فعلم أنهم يخاف عليهم من دخول النار إذا أكلوا الربا وفعلوا المعاصي، مع أنها معدة للكافرين لا لهم
ولذلك جاء في الحديث: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما أقوام لهم ذنوب فيصيبهم سفع من النار ثم يخرجهم الله منها"[والسفع: علامة تغير ألوانهم يقال: سفعت الشيء إذا جعلت عليه علامة، يريد أثرًا من النار]
وهذا كما أن الجنة أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، وإن كان يدخلها الأبناء بعمل آبائهم، ويدخلها قوم بالشفاعة، وقوم بالرحمة، وينشئ الله لما فضل منها خلقًا آخر في الدار الآخرة فيدخلهم إياها؛ وذلك لأن الشيء إنما يعد لمن يستوجبه ويستحقه، ولمن هو أولي الناس به، ثم قد يدخل معه غيره بطريق التبع أو لسبب آخر والله أعلم
ج/ 15 ص -369-وقال شيخ الإسلام :
فصل
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا" إلى قوله: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ"[النور: 27 30]، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "إنما جعل الاستئذان من أجل النظر" والنظر المنهي عنه هو نظر العورات ونظر الشهوات وإن لم تكن من العورات
والله سبحانه ذكر الاستئذان على نوعين: ذكر في هذه الآية أحدهما، وفي الآيتين في آخر السورة النوع الثاني، وهو استئذان الصغار والمماليك، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ"[النور: 58]، فأمر باستئذان الصغار والمماليك حين الاستيقاظ من النوم، وحين إرادة النوم،
ج/ 15 ص -370-وحين القائلة [وقت القيلولة]؛ فإن في هذه الأوقات تبدو العورات، كما قال تعالى: "ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ"
وفي ذلك ما يدل على أن المملوك المميِّز، والمميز من الصبيان: ليس له أن ينظر إلى عورة الرجل، كما لا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة الصبي والمملوك وغيرهما
وأما دخول هؤلاء في غير هذه الأوقات بغير استئذان، فهو مأخوذ من قوله تعالي: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ "[النور: 58]، وفي ذلك دلالة على أن الطوافين يرخص فيهم ما لا يرخص في غير الطوافين عليكم والطوافات، والطواف من يدخل بغير إذن كما تدخل الهرة، وكما يدخل الصبي والمملوك، وإذا كان هذا في الصبي المميز فغير المميز أولي
ويرخص في طهارته، كما قال ذلك طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم في الصبيان والهرة وغيرهم: أنهم إن أصابتهم نجاسة أنها تطهر بمرور الريق عليها، ولا تحتاج إلى غسل؛ لأنهم من الطوافين، كما أخبر به الرسول في الهرة مع علمه أنها تأكل الفأرة، ولم تكن بالمدينة مياه تردها السنانير [السنانير: الهر، والأنثي سنورة]، ليقال: طهر فمها بورودها الماء، فعلم أن طهارة هذه الأفواه لا تحتاج إلى غسل، فالاستئذان في أول السورة قبل دخول
ج/ 15 ص -371-البيت مطلقًا، والتفريق في آخرها لأجل الحاجة، لأن المملوك والصغير طواف يحتاج إلى دخول البيت في كل ساعة فشق استئذانه، بخلاف المحتلم
وقال تعالى: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى" الآية، إلى قوله: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [النور: 30، 31]، فأمر الله سبحانه الرجال والنساء بالغض من البصر وحفظ الفرج، كما أمرهم جميعًا بالتوبة، وأمر النساء خصوصًا بالاستتار، وألاَّ يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ومن استثناه الله تعالي في الآية، فما ظهر من الزينة هو الثياب الظاهرة، فهذا لا جناح عليها في إبدائها إذا لم يكن في ذلك محذور آخر، فإن هذه لابد من إبدائها، وهذا قول ابن مسعود وغيره، وهو المشهور عن أحمد وقال ابن عباس: الوجه واليدين من الزينة الظاهرة، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وهو قول طائفة من العلماء كالشافعي وغيره
وأمر سبحانه النساء بإرخاء الجلابيب لئلا يعرفن ولا يؤذين، وهذا دليل على القول الأول، وقد ذكر عبيدة السلماني [هو عبيدة بن عمرو السلماني المرادي الكوفي، الفقيه، أسلم في عام فتح مكة بأرض إلى من، ولا صحبة له، برع في الفقه وكان ثبتًا في الحديث، وهاجر إلى المدينة في زمان عمر وحضر كثيرًا من الوقائع، وكان يوازي شريحًا في القضاء توفي في سنة 72ه] وغيره: أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتي لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق، وثبت في الصحيح: أن المرأة المُحْرِمة تنهي عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدل على أن النقاب
ج/ 15 ص -372-والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن
وقد نهي الله تعالي عما يوجب العلم بالزينة الخفية بالسمع أو غيره، فقال: "وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ"[النور: 31]، وقال: "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ" فلما نزل ذلك عمد نساء المؤمنين إلى خمرهن فشققنهن وأرخينها على أعناقهن و [الجيب]: هو شق في طول القميص فإذا ضربت المرأة بالخمار على الجيب سترت عنقها، وأمرت بعد ذلك أن ترخي من جلبابها، والإرخاء إنما يكون إذا خرجت من البيت، فأما إذا كانت في البيت فلا تؤمر بذلك، وقد ثبت في الصحيح: أن النبي ﷺ لما دخل بصفية قال أصحابه: إن أرخي عليها الحجاب فهي من أمهات المؤمنين، وإن لم يضرب عليها الحجاب فهي مما ملكت يمينه، فضرب عليه الحجاب، وإنما ضرب الحجاب على النساء لئلا تري وجوههن وأيديهن
والحجاب مختص بالحرائر دون الإماء، كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي ﷺ وخلفائه أن الحرة تحتجب والأمة تبرز، وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة مختمرة ضربها، وقال أتتشبهين بالحرائر، أي لَكاعَ [اللكاع: المرأة اللئيمة]، فيظهر من الأمة رأسها ويداها ووجهها
ج/ 15 ص -373-وقال تعالى: "وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ"[النور: 60]، فرخص للعجوز التي لا تطمع في النكاح أن تضع ثيابها فلا تلقي عليها جلبابها ولا تحتجب، وإن كانت مستثنةة من الحرائر لزوال المفسدة الموجودة في غيرها، كما استثني التابعين غير أولي الإربة من الرجال في إظهار الزينة لهم، لعدم الشهوة التي تتولد منها الفتنة، وكذلك الأمة إذا كان يخاف بها الفتنة كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها
وليس في الكتاب والسنة إباحة النظر إلى عامة الإماء ولا ترك احتجابهن وإبداء زينتهن، ولكن القرآن لم يأمرهن بما أمر الحرائر، والسنة فرقت بالفعل بينهن وبين الحرائر، ولم تفرق بينهن وبين الحرائر بلفظ عام، بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر دون الإماء، واستثني القرآن من النساء الحرائر القواعد فلم يجعل عليهن احتجابًا، واستثني بعض الرجال وهم غير أولي الإربة، فلم يمنع من إبداء الزينة الخفية لهم، لعدم الشهوة في هؤلاء وهؤلاء، فأن يستثني بعض الإماء أولي وأحري، وهن من كانت الشهوة والفتنة حاصلة بترك احتجابها وإبداء زينتها
وكما أن المحارم أبناء أزواجهن ونحوه ممن فيه شهوة وشغف، لم يجز
ج/ 15 ص -374-إبداء الزينة الخفية له،فالخطاب خرج عاما على العادة، فما خرج عن العادة خرج به عن نظائره، فإذا كان في ظهور الأمة والنظر إلى ها فتنة وجب المنع من ذلك، كما لو كانت في غير ذلك، وهكذا الرجل مع الرجال والمرأة مع النساء،لو كان في المرأة فتنة للنساء وفي الرجل فتنة للرجال؛ لكان الأمر بالغض للناظر من بصره متوجهًا،كما يتوجه إلى ه الأمر بحفظ فرجه، فالإماء والصبيان إذا كن حسانًا تختشي الفتنة بالنظر إلى هم كان حكمهم كذلك،كما ذكر ذلك العلماء
قال المروزي : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل : الرجل ينظر إلى المملوك، قال: إذا خاف الفتنة لم ينظر إلى ه، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلاء، وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله: رجل تاب، وقال: لو ضُرِب ظهري بالسياط ما دخلت في معصية إلا أنه لا يدع النظر، فقال: أي توبة هذه؟! قال جرير: سألت رسول الله ﷺ عن نظرة الفجأة فقال: "اصرف بصرك"، وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبي وسويد قالا: حدثني إبراهيم بن هِراسة، عن عثمان بن صالح، عن الحسن بن ذكوان، قال: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صورًا كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذاري
وهذا الاستدلال والقياس والتنبيه بالأدني على الأعلي، وكان يقال :
ج/ 15 ص -375-لا يبيت الرجل في بيت مع الغلام الأمرد، وقال ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي سهل الصعلوكي، قال: سيكون في هذه الأمة قوم يقال لهم: اللوطيون على ثلاثة أصناف: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون ذلك العمل، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون مجالسة الأغنياء وأبناء الملوك، وقال: مجالستهم فتنة إنما هم بمنزلة النساء ووقفت جارية لم ير أحسن وجهًا منها على بشر الحافي فسألته عن باب حرب، فدلها، ثم وقف عليه غلام حسن الوجه فسأله عن باب حرب، فأطرق رأسه، فرد عليه الغلام السؤال فغمض عينيه، فقيل له: يا أبا نصر، جاءتك جارية فسألتك فأجبتها، وجاءك هذا الغلام فسألك فلم تكلمه، فقال: نعم يروي عن سفيان الثوري أنه قال: مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان، فخشيت على نفسي شيطانيه
وروي أبو الشيخ القزويني بإسناده عن بشر أنه قال: احذروا هؤلاء الأحداث، وقال فتح الموصلي: صحبت ثلاثين شيخًا كانوا يعدون من الأبدال كلهم أوصاني عند مفارقتي له: اتق صحبة الأحداث، اتق معاشرة الأحداث وكان سفيان الثوري لا يدع أمرد يجالسه، وكان مالك بن أنس يمنع دخول المرد مجلسه للسماع، فاحتال هشام فدخل في غمار الناس مستترًا بهم وهو أمرد فسمع منه ستة عشر حديثًا، فأخبر بذلك مالك فضربه ستة عشر سوطًا، فقال هشام: ليتني سمعت
ج/ 15 ص -376-مائة حديث وضربني مائة سوط، وكان يقول: هذا علم إنما أخذناه عن ذوي اللحي والشيوخ فلا يحمله عنا إلا أمثالهم، وقال يحيي بن معين: ما طمع أمرد أن يصحبني ولا أحمد بن حنبل في طريق
وقال أبو على الروذباري [هو أبو على أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور الروذباري، الزاهد المشهور الشافعي، كان فقيهًا نحويا حافظًا للأحاديث عارفًا بالطريقة، له تصانيف كثيرة، وأصله من بغداد، وسكن بمصر وصحب الجنيد حتي صار أحد أئمة الوقت وشيخ الصوفية، توفي بمصر سنة 322ه]: قال لي أبو العباس أحمد بن المؤدب: يا أبا علي، من أين أخذ صوفية عصرنا هذا الأنس بالأحداث وقد تصحبهم السلامة في كثير من الأمور؟ فقال: هيهات قد رأينا من هو أقوي منهم إيمانًا إذا رأي الحدث قد أقبل نفر منه كفراره من الأسد، وإنما ذاك على حسب الأوقات التي تغلب الأحوال على أهلها فيأخذها تصرف الطباع، ما أكثر الخطأ، ما أكثر الغلط! قال الجنيد بن محمد: جاء رجل إلى أحمد بن حنبل معه غلام أمرد حسن الوجه، فقال له: من هذا الفتي؟! فقال الرجل: ابني، فقال: لا تجئ به معك مرة أخري، فلامه بعض أصحابه في ذلك، فقال أحمد: على هذا رأينا أشياخنا، وبه أخبرونا عن أسلافهم
وجاء حسن بن الرازي إلى أحمد ومعه غلام حسن الوجه، فتحدث معه ساعة، فلما أراد أن ينصرف قال له أحمد: يا أبا علي، لا تمش مع هذا الغلام في طريق، فقال: يا أبا عبد الله، إنه ابن أختي، قال: وإن كان لا يأثم الناس فيك، وروي ابن الجوزي بإسناده عن
ج/ 15 ص -377-سعيد بن المسُيب قال: إذا رأيتم الرجل يلح بالنظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه، وقد روي في ذلك أحاديث مسندة ضعيفة، وحديث مرسل أجود منها، وهو ما رواه أبو محمد الخلال، ثنا عمر بن شاهين، ثنا محمد بن أبي سعيد المقري، ثنا أحمد بن حماد المصيصي، ثنا عباس بن مجوز، ثنا أبو أسامة، عن مُجَالد، عن سعيد، عن الشعبي قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله ﷺ وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة، فأجلسه النبي ﷺ وراء ظهره، وقال: "كانت خطيئة داود في النظر" هذا حديث منكر
وأما المسندة فمنها ما رواه ابن الجوزي بإسناده عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "من نظر إلى غلام أمرد بريبة حبسه الله في النار أربعين عامًا"، وروي الخطيب البغدادي بإسناده عن أنس عن رسول الله ﷺ أنه قال: "لا تجالسوا أبناء الملوك، فإن الأنفس تشتاق إلى هم ما لا تشتاق إلى الجواري العواتق"، إلى غير ذلك من الأحاديث الضعيفة
وكذلك المرأة مع المرأة، وكذلك محارم المرأة: مثل ابن زوجها وابنه وابن أخيها وابن أختها ومملوكها عند من يجعله محرمًا: متي كان يخاف عليه الفتنة أو عليها توجه الاحتجاب بل وجب وهذه المواضع التي أمر الله تعالي الاحتجاب فيها مظنة الفتنة، ولهذا قال تعالى:
ج/ 15 ص -378- "ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ"[النور: 30] فقد تحصل الزكاة والطهارة بدون ذلك لكن هذا أزكي، وإذا كان النظر والبروز قد انتفي فيه الزكاة والطهارة لما يوجد في ذلك من شهوة القلب واللذة بالنظر، كان ترك النظر والاحتجاب أولي بالوجوب، ولا زكاة بدون حفظ الفرج من الفاحشة، لأن حفظه يتضمن حفظه عن الوطء به في الفروج والأدبار ودون ذلك، وعن المباشرة ومس الغير له وكشفه للغير ونظر الغير إلى ه، فعليه أن يحفظ فرجه عن نظر الغير ومسه
ولهذا قال ﷺ في حديث بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده لما قال له: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر، فقال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قال: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت ألا يرينها أحد فلا يرينها"، قال: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "فالله أحق أن يسْتَحْيا منه من الناس" وقد نهي النبي ﷺ أن تباشر المرأةُ المرأةَ في شعار واحد، وأن يباشر الرجلُ الرجلَ في شعار واحد ونهي عن المشي عراة ونهي عن أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وأن تنظر المرأة إلى عورة المرأة وقال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر" وفي رواية: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام إلا بمئزر"
ج/ 15 ص -379-وقال العلماء: يرخص للنساء في الحمام عند الحاجة، كما يرخص للرجال مع غض البصر وحفظ الفرج، وذلك مثل أن تكون مريضة أو نفساء، أو عليها غسل لا يمكنها إلا في الحمام وأما إذا اعتادت الحمام وشق عليها تركه فهل يباح لها؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: لا يباح، والثاني: يباح، وهو مذهب أبي حنيفة واختاره ابن الجوزي
وكما يتناول غض البصر عن عورة الغير وما أشبهها من النظر إلى المحرمات فإنه يتناول الغض عن بيوت الناس، فبيت الرجل يستر بدنه كما تستره ثيابه، وقد ذكر سبحانه غض البصر وحفظ الفرج بعد آية الاستئذان، وذلك أن البيوت سترة كالثياب التي على البدن، كما جمع بين اللباسين في قوله تعالى: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ"[النحل: 81]، فكل منهما وقاية من الأذى الذي يكون سمومًا مؤذيا كالحر والشمس والبرد، وما يكون من بني آدم من النظر بالعين واليد وغير ذلك
وقد ذكر في أول "سورة النحل" أصول النِّعم، وذكر هنا ما يدفع البرد فإنه من المهلكات، وذكر في أثنائها تمام النِّعم وما يدفع الحر فإنه من المؤذيات، ثم قال: "كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ"[النحل: 81]،
ج/ 15 ص -380-وفي الصحيحين عن أبي هريرة: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: "إذا اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" وهذا الخاص يفسر العام الذي في الصحيح عن عبد الله بن مُغَفَّل: أنه رأي رجلاً يخذف، قال: لا تخذف، فإن رسول الله ﷺ نهي عن الخذف، وقال: "إنه لا يصاد به صيد ولا ينكأ به عدو، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" وفي الصحيحين عن سهل بن سعد: أن رجلاً اطلع في حجرة في باب النبي ﷺ، ومع النبي ﷺ مدري يحك بها رأسه، فقال: "لو أعلم أنك تنظر إلى لطعنت به في عينك؛ إنما جعل الاستئذان من أجل البصر"
وقد ظن طائفة من العلماء أن هذا من باب دفع الصائل؛ لأن الناظر معتد بنظره فيدفع كما يدفع سائر البغاة، ولو كان الأمر كما قالوا؛ لدفع بالأسهل فالأسهل ولم يجز قلع عينه ابتداء إذا لم يذهب إلا بذلك، والنصوص تخالف ذلك؛ فإنه أباح أن تخذفه حتي تفقأ عينه قبل أمره بالانصراف، وكذلك قوله: "لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك"، فجعل نفس النظر مبيحًا للطعن في العين، ولم يذكر الأمر له بالانصراف، وهذا يدل على أنه من باب المعاقبة له على ذلك، حيث جني هذه الجناية على حرمة صاحب البيت فله أن يفقأ عينه بالحصا والمدري
ج/ 15 ص -381-والنظر إلى العورات حرام، داخل في قوله تعالي: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ"[الأعراف: 33]، وفي قوله: "وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ"[الأنعام: 151]، فإن الفواحش وإن كانت ظاهرة في المباشرة بالفرج أو الدبر وما يتبع ذلك من الملامسة والنظر وغير ذلك، وكما في قصة لوط: "أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ"[الأعراف: 80]، "أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ"[النمل: 54]، وقوله: "تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً"[الإسراء: 32]، فالفاحشة أيضًا تتناول كشف العورة وإن لم يكن في ذلك مباشرة، كما قال تعالى: "وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا"[الأعراف: 28]، وهذه الفاحشة هي طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون : لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، إلا الحُمْسَ فإنهم كانوا يطوفون في ثيابهم، وغيرهم إن حصل له ثياب من الحمس طاف فيها وإلا طاف عريانًا، وإن طاف بثيابه حرمت عليه فألقاها، فكانت تسمي لقاء، وكذلك المرأة إذا لم يحصل لها ثياب جعلت يدها على فرجها ويدها الأخري على دبرها وطافت وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
وقد سمي الله ذلك فاحشة، وقوله في سياق ذلك: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"[الأعراف: 33]، يتناول كشف العورة أيضًا وإبداءها، ويؤكد ذلك أن إبداء فعل النكاح باللفظ الصريح يسمي فحشاء وتَفَحُّشًا، فكشف الأعضاء والفعل للبصر ككشف ذلك للسمع،
ج/ 15 ص -382-وكل واحد من الكشفين يسمي وصفًا، كما قال عليه السلام: "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها حتي كأنه ينظر إليها"، ويقال: فلان يصف فلانًا وثوب يصف البشرة، ثم إن كل واحد من إظهار ذلك للسمع والبصر يباح للحاجة، بل يستحب إذا لم يحصل المستحب أو الواجب إلا بذلك، كقول النبي ﷺ لماعز: "أنكتها"، وكقوله: "من تعزي بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا"
والمقصود أن الفاحشة تتناول الفعل القبيح وتتناول إظهار الفعل وأعضاءه، وهذا كما أن ذلك يتناول ما فحش وإن كان بعقد نكاح، كقوله تعالي: "وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً"[النساء: 22]، فأخبر أن هذا النكاح فاحشة، وقد قيل: إن هذا من الفواحش الباطنة، فظهر أن الفاحشة تتناول العقود الفاحشة، كما تتناول المباشرة بالفاحشة، فإن قوله: "وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَالنِّسَاء" يتناول العقد والوطء، وفي قوله: "مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"[الأعراف: 33]، عموم لأنواع كثيرة من الأقوال والأفعال، وأمر تعالي بحفظ الفرج مطلقًا بقوله: "وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ"[النور: 30]، وبقوله: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ الآيات"[المؤمنون: 5، 6]، وقال: "وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ"[الأحزاب: 35]، فحفظ الفرج مثل قوله: "وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ"[التوبة: 112]، وحفظها هو صرفها عما لا يحل
ج/ 15 ص -383-وأما الأبصار فلابد من فتحها والنظر بها،وقد يفجأ الإنسان ما ينظر إليه بغير قصد، فلا يمكن غضها مطلقًا؛ ولهذا أمر تعالي عباده بالغض منها، كما أمر لقمان ابنه بالغض من صوته وأما قوله تعالي:لآ "إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ" الآية [الحجرات: 3]، فإنه مدحهم على غض الصوت عند رسوله مطلقًا، فهم مأمورون بذلك في مثل ذلك ينهون عن رفع الصوت عنده ﷺ، وأما غض الصوت مطلقًا عند رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فهو غض خاص ممدوح، ويمكن العبد أن يغض صوته مطلقًا في كل حال، ولم يؤمر العبد به، بل يؤمر برفع الصوت في مواضع؛ إما أمر إيجاب أو استحباب؛ فلهذا قال: "وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ"[لقمان: 19]، فإن الغض في الصوت والبصر جماع ما يدخل إلى القلب ويخرج منه، فبالسمع يدخل القلب، وبالصوت يخرج منه، كما جمع العضوين في قوله: "أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ"[البلد: 8، 9]، فبالعين والنظر يعرف القلب الأمور، واللسان والصوت يخرجان من عند القلب الأمور، هذا رائد القلب وصاحب خبره وجاسوسه، وهذا ترجمانه
ثم قال تعالى: "ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ"[البقرة : 232]، وقال: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا"[التوبة: 103]، وقال: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"[الأحزاب: 33] وقال في آية الاستئذان
ج/ 15 ص -384- "وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ"[النور: 28] وقال: "فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ"[الأحزاب: 53] وقال: "فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ"[المجادلة: 12] وقال النبي ﷺ: "اللهم طهر قلبي من خطاياي بالماء والثلج والبرد"، وقال في دعاء الجنازة: "واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من خطاياه كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس"
فالطهارة والله أعلم هي من الذنوب التي هي رجس، والزكاة تتضمن معني الطهارة التي هي عدم الذنوب، ومعني النماء بالأعمال الصالحة: مثل المغفرة والرحمة، ومثل النجاة من العذاب والفوز بالثواب، ومثل عدم الشر وحصول الخير، فإن الطهارة تكون من الأرجاس والأنجاس، وقد قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ"[التوبة: 28] وقال: "فّاجًتّنٌبٍوا برٌَجًسّ مٌنّ الأّوًثّان "[الحج: 03]، وقال: "إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ"[المائدة: 90]، وقال عن المنافقين: "فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ"[التوبة: 95]
وقال عن قوم لوط: "وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ"[الأنبياء: 74]، وقال اللوطية عن لوط وأهله: "أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ"[الأعراف: 82]، قال مجاهد: عن أدبار الرجال، ويقال في دخول الغائط: أعوذ بك من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الخبيث
ج/ 15 ص -385-خبث، وهذه النجاسة تكون من الشرك والنفاق والفواحش والظلم ونحوها، وهي لا تزول إلا بالتوبة عن ترك الفاحشة وغيرها، فمن تاب منها فقد تطهر، وإلا فهو متنجس وإن اغتسل بالماء من الجنابة فذاك الغسل يرفع حدث الجنابة، ولا يرفع عنه نجاسة الفاحشة التي قد تنجس بها قلبه وباطنه، فإن تلك نجاسة لا يرفعها الاغتسال بالماء، وإنما يرفعها الاغتسال بماء التوبة النصوح المستمرة إلى الممات
وهذا معني ما رواه ابن أبي الدنيا وغيره: ثنا سويد بن سعيد، ثنا مسلم بن خالد، عن إسماعيل بن كثير، عن مجاهد، قال: لو أن الذي يعمل يعني عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء وكل قطرة في الأرض لم يزل نجسًا ورواه ابن الجوزي، وروي القاسم بن خلف [هو أبو عبيد قاسم بن خلف بن فتح بن عبد الله بن جبير، قاضٍٍ أندلسي، من علماء المالكية، ولد وتفقه في قرطبة، ولي قضاء بلنسية وطرطوسة زمانًا، له كتاب "في التوسط بين مالك وابن القاسم" فيما خالف به ابن القاسم مالكًا، ولد سنة 312، وتوفي سجينًا سنة 378ه] في كتاب [ذم اللواط] بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قال: لو أن لوطيا اغتسل بكل قطرة نزلت من السماء للقي الله غير طاهر وقد روي أبو محمد الخلال عن العباس الهاشمي ذلك مرفوعًا وحديث إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود: اللوطيان لو اغتسلا بماء البحر لم يجزهما إلا أن يتوبا، ورفع مثل هذا الكلام، وإنما هو معروف من كلام السلف
وكذلك روي عن أبي هريرة وابن عباس قالا: خطبنا رسول الله ﷺ، فقال في خطبته: "من نكح امرأة في دبرها
ج/ 15 ص -386-أو غلامًا، أو رجلاً: حشر يوم القيامة أنتن من الجيفة يتأذى به الناس حتى يدخله الله نار جهنم، ويحبط الله عمله، ولا يقبل منه صرفًا ولا عدلا، ويجعل في تابوت من نار، ويسمر عليه بمسامير من حديد، فتشك تلك المسامير في وجهه وجسده" قال أبو هريرة: هذا لمن لم يتب، وذلك أن تارك اللواط متطهر كما دل عليه القرآن، ففاعله غير متطهر من ذلك فيكون متنجسًا، فإن ضد الطهارة النجاسة، لكن النجاسة أنواع مختلفة تختلف أحكامها
ومن هاهنا غلط بعض الناس من الفقهاء، فإنهم لما رأوا ما دل عليه القرآن من طلب طهارة الجنب بقوله: "وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ"[المائدة: 6]، قالوا: فيكون الجنب نجسًا، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: "إن المؤمن لا ينجس" لما انخنس منه وهو جنب، وكره أن يجالسه، فهذه النجاسة التي نفاها النبي ﷺ هي نجاسة الطهارة بالماء التي ظنها أبو هريرة، والجنابة تمنع الملائكة أن تدخل بيتًا فيه جنب، وقال أحمد: إذا وضع الجنب يده في ماء قليل أنجس الماء، فظن بعض أصحابه أنه أراد النجاسة الحسية، وإنما أراد الحكمية، فإن الفرع لا يكون أقوي من الأصل، ولا يكون الماء أعظم من البدن، بل غايته أن يقوم به المانع الذي قام بالبدن، والجنب ظاهره ممنوع من الصلاة، فيكون الماء كذلك طاهرًا لا يتوضأ به للصلاة
ج/ 15 ص -387-وأما الزكاة فهي متضمنة النماء والزيادة كالزرع، وإن كانت الطهارة قد تدخل في معناها، فإن الشيء إذا تنظف مما يفسده زكي ونما وصلح وزاد في نفسه، كالزرع ينقي من الدغل، قال الله تعالي: "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء"[النور: 21]، "قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ"[الكهف: 74]، وقال: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"[الشمس: 9]، وقال: "فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ"[النور: 28]، فإن الرجوع عمل صالح يزيد المؤمن زكاة وطهارة، وقال: "ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ"[الأحزاب: 53]، فإن ذلك مجانبة لأسباب الريبة، وذلك من نوع مجانبة الذنوب والبعد عنها ومباعدتها، فأخبر أن ذلك أطهر لقلوب الطائفتين
وأما الآية التي نحن فيها وهي قوله: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ"[النور: 30] فالغض من البصر وحفظ الفرج يتضمن البعد عن نجاسة الذنوب، ويتضمن الأعمال الصالحة التى يزكو بها الإنسان، وهو أزكى، والزكاة تتضمن الطهارة؛ فإن فيها معنى ترك السيئات ومعنى فعل الحسنات؛ ولهذا تفسر تارة بالطهارة وتارة بالزيادة والنماء، ومعناها يتضمن الأمرين، وإن كان قرن الطهارة معها فى الذكر مثل قوله: "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا"[التوبة: 103]، فالصدقة توجب الطهارة من الذنوب، وتوجب الزكاة التى هى العمل الصالح، كما أن الغض من البصر وحفظ الفرج هو أزكى لهم،
ج/ 15 ص -388-وهما يكونان باجتناب الذنوب وحفظ الجوارح، ويكونان بالتوبة والصدقة التى هى الإحسان، وهذان هما التقوى والإحسان "و إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ"[النحل: 128]
وقد روى الترمذى وصححه أن النبى ﷺ سُئِلَ : ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: "الأجوفان: الفم والفرج"، وسُئِلَ عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: "تقوى الله وحسن الخلق" فيدخل فى تقوى الله حفظ الفرج وغض البصر، ويدخل فى حسن الخلق الإحسان إلى الخلق والامتناع من إيذائهم، وذلك يحتاج إلى الصبر، والإحسان إلى الخلق يكون عن الرحمة، والله تعالى يقول: "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ"[البلد: 17]
وهو سبحانه ذكر الزكاة هنا، كما قدمها فى قوله: "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا"[النور: 21]، فإن اجتناب الذنوب يوجب الزكاة التى هى زوال الشر وحصول الخير، والمفلحون: هم الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، كما وصفهم فى أول سورة البقرة فقال: "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الآيات"[البقرة: 1، 2]، وقال: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"[الشمس: 9]، فإذا كان قد أخبر أن هؤلاء مفلحون، وأخبر أن المفلحين هم المتقون: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ"[البقرة: 3]، وأخبر أن من زَكَّى نفسه فهو مفلح؛ دل ذلك على أن
ج/ 15 ص -389-الزكاة تنتظم الأمور المذكورة فى أول سورة البقرة
وقوله: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ"[النساء: 49]، وقوله: "فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"[النجم: 32]، فالتزكية من العباد لأنفسهم هى إخبارهم عن أنفسهم بكونها زاكية واعتقاد ذلك؛ لأنفس جعلها زاكية، وقال تعالى عن إبراهيم: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ"[البقرة: 129]، وقال: "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ الآية"[آل عمران: 164]، وقال: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ الآية"[الجمعة: 2]، فامتن سبحانه على العباد بإرساله فى عدة مواضع،فهذه أربعة أمور أرسله بها: تلاوة آياته عليهم، وتزكيتهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة
وقد أفرد تعليمه الكتاب والحكمة بالذكر مثل قوله: "وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ" [البقرة: 231]، وقوله: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ"[الأحزاب: 34]، وذلك أن التلاوة عليهم وتزكيتهم أمر عام لجميع المؤمنين؛ فإن التلاوة هى تبليغ كلامه تعالى إليهم وهذا لابد منه لكل مؤمن، وتزكيتهم هو جعل أنفسهم زكية بالعمل الصالح الناشئ عن الآيات التى سمعوها وتليت عليهم، فالأول سمعهم، والثانى طاعتهم، والمؤمنون يقولون: سمعنا وأطعنا الأول علمهم والثانى عملهم، والإيمان قول وعمل، فإذا سمعوا آيات الله وعوها بقلوبهم وأحبوها وعملوا بها، ولم يكونوا كمن قال فيهم:
ج/ 15 ص -390- "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ"[البقرة: 171]، وإذا عملوا بها زكوا بذلك وكانوا من المفلحين المؤمنين
والله قال: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"[المجادلة: 11]، وقال فى ضدهم: "الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ"[التوبة: 97]، فأخبر أنهم أعظم كفرًا ونفاقًا وجهلاً وذلك ضد الإيمان والعلم، فاستماع آيات الله والتزكى بها أمر واجب على كل أحد، فإنه لابد لكل عبد من سماع رسالة سيده التى أرسل بها رسوله إليه، وهذا هو السماع الواجب الذى هو أصل الإيمان، ولابد من التزكى بفعل المأمور وترك المحظور، فهذان لابد منهما
وأما العلم بالكتاب والحكمة فهو فرض على الكفاية، لا يجب على كل أحد بعينه أن يكون عالمًا بالكتاب: لفظه ومعناه، عالمًا بالحكمة جميعها، بل المؤمنون كلهم مخاطبون بذلك وهو واجب عليهم، كما هم مخاطبون بالجهاد، بل وجوب ذلك أسبق وأوكد من وجوب الجهاد، فإنه أصل الجهاد، ولولاه لم يعرفوا علام يقاتلون؛ ولهذا كان قيام الرسول والمؤمنين بذلك قبل قيامهم بالجهاد، فالجهاد سنام الدين، وفرعه وتمامه، وهذا أصله وأساسه وعموده ورأسه، ومقصود الرسالة فعل الواجبات والمستحبات جميعًا، ولا ريب أن استماع كتاب الله والإيمان به وتحريم حرامه وتحليل حلاله والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه واجب
ج/ 15 ص -391-على كل أحد، وهذا هو التلاوة المذكورة فى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ"[البقرة: 121]، فأخبر عن الذين يتلونه حق تلاوته أنهم يؤمنون به، وبه قال سلف الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم، وقوله: "حَقَّ تِلاَوَتِهِ" كقوله: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ"[الحج: 78]، "واتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ"[آل عمران: 102]
وأما حفظ جميع القرآن وفهم جميع معانيه ومعرفة جميع السنة فلا يجب على كل أحد، لكن يجب على العبد أن يحفظ من القرآن ويعلم معانيه ويعرف من السنة ما يحتاج إليه، وهل يجب عليه أن يسمع جميع القرآن؟ فيه خلاف، ولكن هذه المعرفة الحكمية التى تجب على كل عبد ليس هو علم الكتاب والحكمة التى علمها النبى ﷺ أصحابه وأمته، بل ذلك لا يكون إلا بمعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله من الألفاظ والمعانى والأفعال والمقاصد، ولا يجب هذا على كل أحد
وقوله تعالى: "فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"[النجم: 32]، دليل على أن الزكاة هى التقوى، والتقوى تنتظم الأمرين جميعًا، بل ترك السيئات مستلزم لفعل الحسنات؛ إذ الإنسان حارث هُمَام، ولا يدع إرادة السىئات وفعلها إلا بإرادة الحسنات وفعلها، إذ النفس لا تخلو عن الإرادتين جميعًا، بل الإنسان بالطبع مريد فعال، وهذا دليل على أن هذا يكون سببه
ج/ 15 ص -392-الزكاة والتقوى التى بها يستحق الإنسان الجنة، كما فى صحيح البخارى عن النبى ﷺ أنه قال: "من تكفل لى بحفظ ما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة"
ومن تزكى فقد أفلح فيدخل الجنة، والزكاة متضمنة حصول الخير وزوال الشر، فإذا حصل الخير وزال الشر من العلم والعمل حصل له نور وهدى ومعرفة وغير ذلك، والعمل يحصل له محبة وإنابة وخشية وغير ذلك هذا لمن ترك هذه المحظورات وأتى بالمأمورات ويحصل له ذلك أيضًا قدرة وسلطانًا، وهذه صفات الكمال: العلم، والعمل، والقدرة، وحسن الإرادة، وقد جاءت الآثار بذلك، وأنه يحصل لمن غض بصره نور فى قلبه ومحبة، كما جرب ذلك العالمون العاملون وفى مسند أحمد حدثنا عَتَّابَ عن عبد الله وهو ابن المبارك أنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، عن النبى ﷺ قال: "ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها"
ورواه أبو بكر ابن الأنبارى فى أماليه من حديث ابن أبى مريم، عن يحيى بن أيوب به، ولفظه: "من نظر إلى امرأة فغض بصره عند أول دفعة رزقه الله عبادة يجد حلاوتها"وقد رواه أبو نعيم فى الحلية :
ج/ 15 ص -393-حدثنا أبى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا محمد ابن يعقوب: قال: حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو مهدى سعيد بن سنان، عن أبى الزاهِرَّية، عن كُثَير بن مُرَّةَ، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: "النظرة الأولى خطأ، والثانية عمد، والثالثة تدبر، نظر المؤمن إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه خشية الله ورجاء ما عنده أثابه الله تعالى بذلك عبادة تبلغه لذتها"، رواه أبو جعفر الخرائطى فى كتاب "اعتلال القلوب" ثنا على بن حرب، ثنا إسحاق بن عبد الواحد، ثنا هُشَىْم، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن مُحِارب بن دِثار، عن جَبَلة، عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله ﷺ: "النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه خوفًا من الله أثابه الله إيمانًا يجد حلاوته فى قلبه"
وقد رواه أبو محمد الخَلاَّل من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن على، وفيه ذكر السهم ورواه أبو نعيم: ثنا عبد الله بن محمد هو أبو الشيخ ثنا ابن عفير، قال: ثنا شعيب بن سلمة، ثنا عصمة بن محمد، عن موسى يعنى ابن عقبة عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: "ما من عبد يَكُفُّ بصره عن محاسن امرأة ولو شاء أن ينظر إليها لنظر إلا أدخل الله قلبه عبادة يجد حلاوتها"، وروى ابن أبى الفوارس من طريق
ج/ 15 ص -394-ابن الجوزى، عن محمد بن المُسَيَّب، ثنا عبد الله، قال: حدثنى الحسن، عن مجاهد قال: غض البصر عن محارم الله يورث حب الله وقد روى مسلم فى صحيحه من حديث يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبى زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن جده جرير بن عبد الله البجلى قال: سألت رسول الله ﷺ عن نظر الفجأة فأمرنى أن أصرف بصرى ورواه الإمام أحمد، عن هشيم، عن يونس به، ورواه أبو داود والترمذى والنسائى من حديثه أيضًا وقال الترمذى: حسن صحيح وفى رواية قال: "أطرق بصرك"، أى: انظر إلى الأرض، والصرف أعم، فإنه قد يكون إلى الأرض أو إلى جهة أخرى
وقال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزارى، حدثنا شَرِىك، عن ربيعة الإىادى، عن عبد الله بن بَرِيدة، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ لعلى: "يا على، لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الأخرى" ورواه الترمذى من حديث شَرِيك، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وفى الصحيح عن أبى سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: "إياكم والجلوس على الطرقات"، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا نقعد فيها، فقال رسول الله ﷺ: "إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق
ج/ 15 ص -395-يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر"، وروى أبو القاسم البغوى عن أبى أمامة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اكفلوا لى ستًا أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم"
فالنظر داعية إلى فساد القلب قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب؛ فلهذا أمر الله بحفظ الفروج، كما أمر بغض الأبصار التى هى بواعث إلى ذلك، وفى الطبرانى من طريق عبيد الله بن يزيد عن القاسم عن أبى أمامة مرفوعًا: "لتغضن أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمن وجوهكم، أو لتكسفن وجوهكم"، وقال الطبرانى: حدثنا أحمد بن زهير التسترى، قال: قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرى: حدثنا يحيى بن أبى كثير، حدثنا هزيم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: "إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، فمن تركه من مخافة الله أبدله الله إيمانًا يجد حلاوته فى قلبه"، وفى حديث أبى هريرة الصحيح عن النبى ﷺ: "زنا العينين النظر"، وذكر الحديث رواه البخارى تعليقًا ومسلم مسندًا، وقد كانوا ينهون
ج/ 15 ص -396-أن يحد الرجل بصره إلى المردان، وكانوا يتهمون مَنْ فعل ذلك فى دينه
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة أصلا
قال شيخ الإسلام: وأما النور والعلم والحكمة،فقد دل عليه قوله تعالى فى قصة يوسف: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ"[يوسف: 22]، فهى لكل محسن وفى هذه السورة ذكر آية النور بعد غض البصر وحفظ الفرج، وأمره بالتوبة مما لا بد منه أن يدرك ابن آدم من ذلك وقال أبو عبد الرحمن السلمى [هو أبو عبد الرحمن بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدى السلمى النيسابورى، من علماء المتصوفة إمام حافظ محدث شيخ خراسان، بلغت تصانيفه مائة أو أكثر، منها: [حقائق التفسير] و [طبقات الصوفية] وغيرها، ولد سنة 325ه، ومات فى شهر شعبان سنة 412 ه، وكانت جنازته مشهودة] سمعت أبا الحسين الوَرَّاق يقول: من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهتدى بها، ويهدى بها إلى طريق مرضاته؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل؛ فإذا كان النظر إلى محبوب فتركه لله عوضه الله ما هو أحب إليه منه، وإذا كان النظر بنور العين مكروهًا أو إلى مكروه فتركه لله، أعطاه الله نورًا فى قلبه وبصرًا يبصر به الحق قال شاه الكرمانى: من غَضَّ بصره عن المحارم، وعَمَّرَ باطنهِ بِدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعَوَّدَ نفسه أكل الحلال، وكَفَّ نفسه عن الشهوات، لم تخطئ له فراسة وإذا صَلُحَ علم الرجل فعرف الحق وعمله واتبع الحق، صار زكيًا تقيًا مستوجبًا للجنة
ج/ 15 ص -397-ويؤيد ذلك حديث أبى أمامة المشهور من رواية البغوى: حدثنا طالوت بن عَبَّادُ، حدثنا فَضَالة بن جبير، سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اكفلوا لى بست أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، غضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم" فقد كفل بالجنة لمن أتى بهذه الست خصال، فالثلاثة الأولى تبرئة من النفاق، والثلاثة الأخرى تبرئة من الفسوق، والمخاطبون مسلمون، فإذا لم يكن منافقًا كان مؤمنًا، وإذا لم يكن فاسقًا كان تقيًا فيستحق الجنة ويوافق ذلك ما رواه ابن أبى الدنيا: حدثنا أبو سعيد المدنى، حدثنى عمر بن سهل المازنى، قال: حدثنى عمر بن محمد بن صُهْبَان، حدثنى صفوان بن سُلَىم، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله، وعينا سهرت فى سبيل الله، وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله"
وقوله سبحانه: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ" [طه: 131]، يتناول النظر إلى الأموال واللباس والصور وغير ذلك من متاع الدنيا: أما اللباس والصور فهما اللذان لا ينظر الله إليهما، كما فى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبى ﷺ قال :
ج/ 15 ص -398- "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وقد قال تعالى: "وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا"[مريم: 74]، وذلك أن الله يمتع بالصور كما يمتع بالأموال، وكلاهما من زهرة الحياة الدنيا، وكلاهما يفتن أهله وأصحابه، وربما أفضى به إلى الهلاك دنيا وأخرى
والهلكى رجلان: فمستطيع وعاجز، فالعاجز: مفتون بالنظر ومد العين إليه، والمستطيع: مفتون فيما أوتى منه، غارق قد أحاط به ما لا يستطيع إنقاذ نفسه منه وهذا المنظور قد يعجب المؤمن وإن كان المنظور منافقًا أو فاسقًا كما يعجبه المسموع منهم، قال تعالى: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ" [المنافقون: 4]، فهذا تحذير من الله تعالى من النظر إليهم واستماع قولهم، فلا ينظر إليهم ولا يسمع قولهم، فإن الله سبحانه قد أخبر أن رؤياهم تعجب الناظرين إليهم، وأن قولهم يعجب السامعين
ثم أخبر عن فساد قلوبهم وأعمالهم بقوله: "كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ"، فهذا مثل قلوبهم وأعمالهم، وقال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية"[البقرة: 204]، وقد قال تعالى فى قصة قوم لوط: "إِنَّفِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ"[الحجر: 75]، والتوسم من السمة، وهى العلامة، فأخبر
ج/ 15 ص -399-سبحانه أنه جعل عقوبات المعتدين آيات للمتوسمين وفى الترمذى عن النبى ﷺ قال: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ فدل ذلك على أن من اعتبر بما عاقب الله به غيره من أهل الفواحش كان من المتوسمين
وأخبر تعالى عن اللوطية أنه طمس أبصارهم، فكانت عقوبة أهل الفواحش طمس الأبصار، كما قد عرف ذلك فيهم وشوهد منهم، وكان ثواب المعتبرين بهم التاركين لأفعالهم إعطاء الأنوار، وهذا مناسب لذكر آية النور عقيب غض الأبصار وأما القدرة والقوة التى يعطيها الله لمن اتقاه وخالف هواه فذلك حاصل معروف، كما جاء: إن الذى يترك هواه يفرق الشيطان من ظله وفى الصحيح أن النبى ﷺ قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب" وفى رواية: أنه مر بقوم يخذفون حجرًا، فقال: "ليس الشدة فى هذا، وإنما الشدة فى أن يمتلئ أحدكم غيظًا ثم يكظمه لله" أو كما قال
وهذا ذكره فى الغضب؛ لأنه معتاد لبنى آدم كثيرًا، ويظهر للناس وسلطان الشهوة يكون فى الغالب مستورًا عن أعين الناس، وشيطانها خاف، ويمكن فى كثير من الأوقات الاعتياض بالحلال عن
ج/ 15 ص -400-الحرام، وإلا فالشهوة إذا اشتعلت واستولت قد تكون أقوى من الغضب، وقد قال تعالى : "وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا"[النساء: 28]، أى: ضعىفا عن النساء لا يصبر عنهن، وفى قوله "رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ"[البقرة: 286]، ذكروا منه العشق، والعشق يفضى بأهله إلى الأمراض والإهلاك، وإن كان الغضب قد يبلغ ذلك أيضًا وقد دل القرآن على أن القوة والعزة لأهل الطاعة التائبين إلى الله فى مواضع كثيرة، كقوله فى سورة هود: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ "[هود: 52]،وقوله: "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ"[المنافقون: 8]، "وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "[آل عمران: 139] وإذا كان الذى قد يهجر السيئات يغض بصره ويحفظ فرجه وغير ذلك مما نهى الله عنه، يجعل الله له من النور والعلم والقوة والعزة ومحبة الله ورسوله، فما ظنك بالذى لم يَحُمْ حول السيئات، ولم يُعِرْها طرفه قط ولم تحدثه نفسه بها؟! بل هو يجاهد فى سبيل الله أهلها ليتركوا السيئات فهل هذا وذاك سواء؟ بل هذا له من النور والإيمان والعزة والقوة والمحبة والسلطان والنجاة فى الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ذاك، وحاله أعظم وأعلى، ونوره أتم وأقوى، فإن السيئات تهواها النفوس، ويزينها الشيطان، فتجتمع فيها الشبهات والشهوات
فإذا كان المؤمن قد حبب الله إليه الإيمان وزينه فى قلبه، وكَرَّه
ج/ 15 ص -401-إليه الكفر والفسوق والعصيان حتى يعوض عن شهوات الغى بحب الله ورسوله وما يتبع ذلك، وعن الشهوات والشبهات بالنور والهدى، وأعطاه الله من القوة والقدرة ما أيده به، حيث دفع بالعلم الجهل، وبإرادة الحسنات إرادة السيئات، وبالقوة على الخير القوة على الشر فى نفسه فقط، والمجاهد فى سبيل الله يطلب فعل ذلك فى نفسه وغيره أيضًا حتى يدفع جهله بالظلم، وإرادته السيئات بإرادة الحسنات ونحو ذلك
والجهاد تمام الإيمان وسنام العمل، كما قال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"[الحجرات: 15]، وقال: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ الآية"[آل عمران: 110]، وقال: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ" الآيةْ [التوبة: 19]، فكذلك يكون هذا الجزاء فى حق المجاهدين، كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا"[العنكبوت: 69]، فهذا فى العلم والنور، وقال: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ" إلى قوله: "صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا" [ النساء : 66 68]، فقتل النفوس هو قتل بعضهم بعضًا، وهو من الجهاد، والخروج من ديارهم هو الهجرة، ثم أخبر أنهم إذا فعلوا ما يوعظون به من الهجرة والجهاد كان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا،ففى الآية أربعة أمور: الخير المطلق، والتثبيت المتضمن للقوة والمكنة، والأجر العظيم، وهداية الصراط المستقيم وقال تعالى: "إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "[محمد: 7]، وقال: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ"
ج/ 15 ص -402-إلى قوله: "عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"[الحج: 40، 41] وقال: "يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ"[المائدة: 54]
وأما أهل الفواحش الذين لا يغضون أبصارهم ولا يحفظون فروجهم، فقد وصفهم الله بضد ذلك: من السكرة، والعمه، والجهالة، وعدم العقل، وعدم الرشد، والبغض، وطمس الأبصار، هذا مع ما وصفهم به من الخبث، والفسوق، والعدوان، والإسراف، والسوء، والفحش، والفساد، والإجرام، فقال عن قوم لوط : "بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ"[النمل: 55]، فوصفهم بالجهل، وقال"لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ"[الحجر: 72]، وقال: "أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ"[هود: 78]، وقال: "فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ"[القمر: 37]، وقال: "بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ"[الأعراف: 81]، وقال: "فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ"[النمل: 69]، وقال: "إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ"[الأنبياء: 74]، وقال: "أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَر" إلى قوله: "انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ" إلى قوله: "بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ"[العنكبوت: 29 34]، وقوله: "مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ"[الذاريات: 34]
ج/ 15 ص -403-فَصْل
فى قوله فى آخر الآية: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[النور: 31]، فوائد جليلة، منها: أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة فى هذا السياق تنبيه على أنه لا يخلو مؤمن من بعض هذه الذنوب التى هى ترك غض البصر وحفظ الفرج، وترك إبداء الزينة وما يتبع ذلك، فمستقل ومستكثر، كما فى الحديث: "ما من أحد من بنى آدم إلا أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا"وذلك لا يكون إلا عن نظر، وفى السنن عن النبى ﷺ أنه قال: "كل بنى آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"، وفى الصحيح عن أبى ذر عن النبى ﷺ: "يقول الله تعالى: يا عبادى إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالى، فاستغفرونى أغفر لكم"
وفى الصحيحين عن ابن عباس قال: ما رأيت شىئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة: إن النبى ﷺ قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق" الحديث إلى آخره وفيه: "والنفس
ج/ 15 ص -404-تتمنى ذلك وتشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" أخرجه البخارى تعليقًا من حديث طاووس عن أبى هريرة ورواه مسلم من حديث سهيل بن أبى صالح، عن أبيه عن أبى هريرة، عن النبى ﷺ قال: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان زناهما البطش، والرجلان زناهما الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه"، وقد روى الترمذى حديثًا واستغربه عن ابن عباس فى قوله: "إِلَّا اللَّمَمَ"[النجم: 32]، قال رسول الله ﷺ: "إن تغفر اللهم تغفر جمًا، وأى عبد لك لا ألما"
ومنها: أن أهل الفواحش الذين لم يغضوا أبصارهم ولم يحفظوا فروجهم مأمورون بالتوبة، وإنما أمروا بها لتقبل منهم، فالتوبة مقبولة منهم ومن سائر المذنبين، كما قال تعالى: "يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ"[التوبة: 104]، وقال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ"[الشورى: 25]، وسواء كانت الفواحش مغلظة لشدتها وكثرتها كإتيان ذوات المحارم، وعمل قوم لوط أو غير ذلك وسواء تاب الفاعل أو المفعول به فمن تاب تاب الله عليه، بخلاف ما عليه طائفة من الناس فإنهم إذا رأوا من عمل من هذه الفواحش شيئًا أيسوه من رحمة الله، حتى يقول
ج/ 15 ص -405-أحدهم: من عمل من ذلك شيئًا لا يفلح أبدًا، ولا يرجون له قبول توبة، ويروى عن على أنه قال: منا كذا ومنا كذا، والمعفوج [المعفوج: مأخوذ من العَفْج، وهو أن يفعل الرجل بالغلام فعل قوم لوط، وربما يكنى به عن الجماع] ليس منا، ويقولون: إن هذا لا يعود صالحًا ولو تاب، مع كونه مسلمًا مقرًا بتحريم ما فعل
ويدخلون فى ذلك من استكره على فعل شىء من هذه الفواحش، ويقولون: لو كان لهذا عند الله خير ما سلط عليه من فعل به مثل هذا واستكرهه، كما يفعل بكثير من المماليك طوعًا وكرهًا، وكما يفعل بأجراء أهل الصناعات طوعًا وكرهًا، وكذلك من فى معناهم من صبيان الكتاتيب وغيرهم، ونسوا قوله تعالى: "وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[النور: 33]، وهؤلاء قد لا يعلمون صورة التوبة، وقد يكون هذا حالا وعملا لأحدهم، وقد يكون اعتقادًا، فهذا من أعظم الضلال والغى، فإن القنوط من رحمة الله بمنزلة الأمن من مكر الله تعالى وحالهم مقابل لحال مستحلى الفواحش، فإن هذا أمن مكر الله بأهلها، وذاك قنط أهلها من رحمة الله، والفقيه كل الفقيه هو الذى لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصى الله
وهذا فى أصل الذنوب الإرادية نظير ما عليه أهل الأهواء والبدع
ج/ 15 ص -406-فإن أحدهم يعتقد تلك السيئات حسنات فيأمن مكر الله، وكثير من الناس يعتقد أن توبة المبتدع لا تقبل، وقد قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[الزمر: 53]، وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال: كان رسول الله ﷺ يسمى لنا نفسه أسماء، فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والمُقَفِّى، والحاشر، ونبى التوبة، ونبى الرحمة"، وفى حديث آخر: "أنا نبى الرحمة وأنا نبى الملحمة" وذلك أنه بعث بالملحمة، وهى: المقتلة لمن عصاه، وبالتوبة لمن أطاعه، وبالرحمة لمن صدقه واتبعه، وهو رحمة للعالمين، وكان من قبله من الأنبياء لا يؤمر بقتال
وكان الواحد من أممهم إذا أصاب بعض الذنوب يحتاج مع التوبة إلى عقوبات شديدة، كما قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ"[البقرة: 54]، وقد روى عن أبى العالية وغيره: أن أحدهم كان إذا أصاب ذنبًا أصبحت الخطيئة والكفارة مكتوبة على بابه، فأنزل الله فى حق هذه الأمة: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ" إلى قوله: "وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"[آل عمران: 135، 136]، فخص الفاحشة بالذكر مع قوله: "ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ"، والظلم يتناول الفاحشة وغيرها تحقيقًا لما ذكرناه
ج/ 15 ص -407-من قبول التوبة من الفواحش مطلقًا: من اللذين يأتيانها من الرجال والنساء جميعًا
وفى الصحيح عن النبى ﷺ قال: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها"،وفى الصحيح عنه أنه قال: "من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه"، وفى السنن عنه أيضًا أنه قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"، وعنه ﷺ قال: "قال الشيطان: وعزتك يارب لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت أرواحهم فى أجسادهم، فقال الرب تعالى : وعزتى وجلالى وارتفاع مكانى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى"، وعن أبى ذر قال: قال رسول الله ﷺ: "يقول الله: ىابن آدم، إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ولا أبالى، ابن آدم، لو لقيتنى بقراب الأرض خطىئة ثم لقيتنى لا تشرك بى شئًا لأتيتك بقرابها مغفرة"
والذى يمنع توبة أحد هؤلاء إما بحاله وإما بقاله، ولا يخلو من أحد أمرين: أن يقول: إذا تاب أحدهم لم تقبل توبته، وإما أن
ج/ 15 ص -408-يقول أحدهم: لا يتوب الله على أبدًا، أما الأول فباطل بكتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين، وإن كان قد تكلم بعض العلماء فى توبة القاتل وتوبة الداعى إلى البدع، وفى ذلك نزاع فى مذهب أحمد، وفى مذهب مالك أىضًا نزاع ذكره صاحب التمثيل والبيان فى "الجامع" وغيره، وتكلموا أيضًا فى توبة الزنديق، ونحو ذلك
فهم قد يتنازعون فى كون التوبة فى الظاهر تدفع العقوبة: إما لعدم العلم بصحتها، وإما لكونها لا تمنع ما وجب من الحد، ولم يقل أحد من الفقهاء: إن الزنديق ونحوه إذا تاب فيما بينه وبين الله توبة صحيحة لم يتقبلها الله منه، وأما القاتل والمضل فذاك لأجل تعلق حق الغير به، والتوبة من حقوق العباد لها حال آخر، وليس هذا موضع الكلام فيها وفى تفصيلها، وإنما الغرض أن الله يقبل التوبة من كل ذنب، كما دل عليه الكتاب والسنة
والفواحش خصوصًا ما علمت أحدًا نازع فى التوبة منها، والزانى والمزنى به مشتركان فى ذلك إن تابا تاب الله عليهما، ويبين التوبة خصوصًا من عمل قوم لوط من الجانبين ما ذكره الله فى قصة قوم لوط، فإنهم كانوا يفعلون الفاحشة بعضهم ببعض، ومع هذا فقد دعاهم جمىعهم إلى تقوى الله والتوبة منها، فلو كانت توبة المفعول به أو غيره لا تقبل لم يأمرهم بما لا يقبل، قال تعالى: "كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ"[الشعراء: 160، 163]،
ج/ 15 ص -409- فأمرهم بتقوى الله المتضمنة لتوبتهم من هذه الفاحشة، والخطاب وإن كان للفاعل فإنه إنما خص به، لأنه صاحب الشهوة والطلب فى العادة، بخلاف المفعول به، فإنه لم تخلق فيه شهوة لذلك فى الأصل، وإن كانت قد تعرض له لمرض طارئ، أو أجر يأخذه من الفاعل، أو لغرض آخر والله سبحانه وتعالى أعلم
ج/ 15 ص -410-سُئِلَ شيخ الإسلام عن قوله تعالى: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا الآية"[النور: 30، 31]، والحديث عن النبى ﷺ فى ذكر زنا الأعضاء كلها، وماذا على الرجل إذا مس يد الصبى الأمرد، فهل هو من جنس النساء ينقض الوضوء أم لا؟ وما على الرجل إذا جاءت إلى عنده المردان، ومد يده إلى هذا وهذا ويتلذذ بذلك، وما جاء فى التحريم من النظر إلى وجه الأمرد الحسن؟ وهل هذا الحديث المروى: أن النظر إلى الوجه المليح عبادة صحيح أم لا؟ وإذا قال أحد: أنا ما أنظر إلى المليح الأمرد لأجل شىء، ولكنى إذا رأيته قلت: سبحان الله! تبارك الله أحسن الخالقين! فهل هذا القول صواب أم لا؟ أفتونا مأجورين
فأجاب قدس الله روحه، ونور ضريحه، ورحمه ورضى عنه، ونفع بعلومه وحشرنا فى زمرته :
ج/ 15 ص -411-الحمد لله، إذا مس الأمرد لشهوة ففيه قولان فى مذهب أحمد وغيره:
أحدهما: أنه كمس النساء لشهوة ينقض الوضوء، وهو المشهور فى مذهب مالك، وذكره القاضى أبو يعلى فى "شرح المذهب"، وهو أحد الوجهين فى مذهب الشافعى
والثانى: أنه لا ينقض، وهو المشهور من مذهب الشافعى والقول الأول أظهر،فإن الوطء فى الدبر يفسد العبادات التى تفسد بالوطء فى القبل، كالصيام والإحرام والاعتكاف، ويوجب الغسل كما يوجبه هذا، فتكون مقدمات هذا فى باب العبادات كمقدمات هذا، فلو مس الأمرد لشهوة وهو محرم فعليه دم، كما عليه لو مس أجنبية لشهوة، وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة وجب أن يكون كما لو مس المرأة لشهوة فى نقض الوضوء
والذى لا ينقض الوضوء بمسه يقول: إنه لم يخلق محلاً لذلك
فيقال: لا ريب أنه لم يخلق لذلك، وأن الفاحشة اللوطية من أعظم المحرمات، لكن هذا القدر لم يعتبر فى بعض الوطء، فلو وطئ فى الدبر تعلق به ما ذكر من الأحكام، وإن كان الدبر لم يخلق محلا
ج/ 15 ص -412-للوطء،مع أن نفرة الطباع عن الوطء فى الدبر أعظم من نفرتها عن الملامسة، ونقض الوضوء باللمس يراعى فيه حقيقة الحكمة، وهو أن يكون المس لشهوة عند الأكثرين كمالك وأحمد وغيرهما يراعى كما يراعى مثل ذلك فى الإحرام والاعتكاف وغير ذلك
وعلى هذا القول فحيث وجد اللمس لشهوة تعلق به الحكم، حتى لو مس بنته وأخته وأمه لشهوة انتقض وضوؤه؛ فكذلك من الأمرد
وأما الشافعى وأحمد فى رواية فيعتبر المظنة، وهو أن النساء مظنة الشهوة، فينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بغير شهوة؛ ولهذا لا ينقض مس المحارم، لكن لو مس ذوات محارمه لشهوة فقد وجدت حقيقة الحكمة وكذلك إذا مس الأمرد لشهوة، والتلذذ بمس الأمرد كمصافحته ونحو ذلك حرام بإجماع المسلمين، كما يحرم التلذذ بمس ذوات المحارم والمرأة الأجنبىة، كما أن الجمهور على أن عقوبة اللوطى أعظم من عقوبة الزنا بالأجنبية، فيجب قتل الفاعل والمفعول به، سواء كان أحدهما محصنًا أو لم يكن، وسواء كان أحدهما مملوكًا للآخر، أو لم يكن، كما جاء ذلك فى السنن عن النبى ﷺ وعمل به أصحابه من غير نزاع يعرف بينهم، وقتله بالرجم، كما قتل الله قوم لوط؛ وبذلك جاءت الشريعة فى قتل الزانى أنه بالرجم، فرجم النبى ﷺ ماعز بن مالك، والغامدية، واليهوديين،
ج/ 15 ص -413-والمرأة التى أرسل إليها أنيسا، وقال: "اذهب إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فرجمها
والنظر إلى وجه الأمرد بشهوة كالنظر إلى وجه ذوات المحارم،والمرأة الأجنبية بالشهوة، سواء كانت الشهوة شهوة الوطء أو كانت شهوة التلذذ بالنظر،كما يتلذذ بالنظر إلى وجه المرأة الأجنبية: كان معلومًا لكل أحد أن هذا حرام،فكذلك النظر إلى وجه الأمرد باتفاق الأئمة
وقول القائل: إن النظر إلى وجه الأمرد عبادة، كقوله: إن النظر إلى وجوه النساء الأجانب والنظر إلى محارم الرجل كبنت الرجل وأمه وأخته عبادة ومعلوم أن من جعل هذا النظر المحرم عبادة فهو بمنزلة من جعل الفواحش عبادة قال الله تعالى: "وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"[الأعراف: 28]
ومعلوم أنه قد يكون فى صور النساء الأجنبيات وذوات المحارم من الاعتبار والدلالة على الخالق من جنس ما فى صور المردان، فهل يقول مسلم: إن للإنسان أن ينظر على هذا الوجه إلى صور النساء نساء العالمين وصور محارمه ويقول: إن ذلك عبادة؟ بل من جعل مثل هذا
ج/ 15 ص -414-النظر عبادة فإنه كافر مرتد، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل
وهو بمنزلة من جعل إعانة طالب الفاحشة عبادة، أو جعل تناول يسير الخمر عبادة، أو جعل السكر من الحشيشة عبادة، فمن جعل المعاونة بقيادة أو غيرها عبادة، أو جعل شيئًا من المحرمات التى يعلم تحريمها فى دين الإسلام عبادة: فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل وهو مُضَاهٍ به للمشركين "وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"[الأعراف: 28]، وفاحشة أولئك إنما كانت طوافهم بالبيت عراة، وكانوا يقولون: لا نطوف فى الثياب التى عصينا الله فيها، فهؤلاء إنما كانوا يطوفون عراة على وجه اجتناب ثياب المعصية وقد ذكر الله عنهم ما ذكر، فكيف بمن جعل جنس الفاحشة المتعلقة بالشهوة عبادة؟
والله سبحانه قد أمر فى كتابه بغض البصر وهو نوعان: غض البصر عن العورة وغضه عن محل الشهوة
فالأول: كغض الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبى ﷺ: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة" ويجب على الإنسان أن يستر عورته، كما قال لمعاوية بن حيدة: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك"،
ج/ 15 ص -415-قلت: فإذا كان أحدنا مع قومه؟ قال: "إن استطعت أن لا تريها أحدًا فلا يرينها"، قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: "فالله أحق أن يستحىا منه من الناس"
ويجوز كشفها بقدر الحاجة، كما تكشف عند التخلى، وكذلك إذا اغتسل الرجل وحده بحيث يجد ما يستره فله أن يغتسل عريانًا، كما اغتسل موسى عريانًا، وأيوب، وكما فى اغتسال النبى ﷺ يوم الفتح، واغتساله فى حديث ميمونة
وأما النوع الثانى من النظر كالنظر إلى الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية: فهذا أشد من الأول، كما أن الخمر أشد من الميتة والدم ولحم الخنزير، وعلى صاحبها الحد، وتلك المحرمات إذا تناولها مستحلاً لها كان عليه التعزير؛ لأن هذه المحرمات لا تشتهيها النفوس كما تشتهى الخمر وكذلك النظر إلى عورة الرجل لا يشتهى كما يشتهى النظر إلى النساء ونحوهن وكذلك النظر إلى الأمرد بشهوة هو من هذا الباب، وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك، كما اتفقوا على تحريم النظر إلى الأجنبية وذوات المحارم بشهوة
والخالق سبحانه يُسبَّح عند رؤية مخلوقاته كلها، وليس خلق الأمرد بأعجب فى قدرته من خلق ذى اللحية، ولا خلق النساء بأعجب فى
ج/ 15 ص -416-قدرته من خلق الرجال؛ فتخصيص الإنسان بالتسبيح بحال نظره إلى الأمرد دون غيره كتخصيصه بالتسبيح بالنظر إلى المرأة دون الرجل ؛ وما ذاك لأنه أدل على عظمة الخالق عنده؛ ولكن لأن الجمال يغير قلبه وعقله، وقد يذهله ما رآه، فيكون تسبيحه لما حصل فى نفسه من الهوى، كما أن النسوة لما رأين يوسف: "وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ"[يوسف: 31]
وقد ثبت فى الصحيح عن النبى ﷺ أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" فإذا كان الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فكيف يفضل الشخص بما لم يفضله الله به وقد قال تعالى: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ"[طه: 131]، وقال فى المنافقين: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ"[المنافقون: 4]
فإذا كان هؤلاء المنافقون الذين تعجب الناظر أجسامهم، لما فيهم من البهاء والرواء، والزينة الظاهرة، وليسوا ممن ينظر إليه لشهوة، قد ذكر الله عنهم ما ذكر، فيكف بمن ينظر إليه لشهوة؟
ج/ 15 ص -417-وذلك أن الإنسان قد ينظر إليه لما فيه من الإيمان والتقوى،وهنا الاعتبار بقلبه وعمله لا بصورته،وقد ينظر إليه لما فيه من الصورة الدالة على المصور فهذا حسن وقد ينظر إليه من جهة استحسان خلقه، كما ينظر إلى الخيل والبهائم، وكما ينظر إلى الأشجار والأنهار، والأزهار؛فهذا أيضًا إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرئاسة والمال فهو مذموم بقوله: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ"[طه: 131]
وأما إن كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط: كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذى لا يستعان به على الحق
وكل قسم من هذه الأقسام متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوة تمتع بالنظر أو كان نظرًا بشهوة الوطء، وفرق بين ما يجده الإنسان عند نظره إلى الأشجار والأزهار، وما يجده عند نظره إلى النسوان والمردان
فلهذا الفرقان افترق الحكم الشرعى، فصار النظر إلى المردان ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تقترن به الشهوة فهو محرم بالاتفاق
ج/ 15 ص -418-والثانى: ما يجزم أنه لا شهوة معه كنظر الرجل الورع إلى ابنه الحسن، وابنته الحسنة، وأمه الحسنة، فهذا لا يقترن به شهوة إلا أن يكون الرجل من أفجر الناس، ومتى اقترنت به الشهوة حرم وعلى هذا نظر من لا يميل قلبه إلى المردان، كما كان الصحابة وكالأمم الذين لا يعرفون هذه الفاحشة، فإن الواحد من هؤلاء لا يفرق من هذا الوجه بين نظره إلى ابنه وابن جاره وصبى أجنبى، لا يخطر بقلبه شىء من الشهوة؛ لأنه لم يعتد ذلك، وهو سليم القلب من قبل ذلك، وقد كانت الإماء على عهد الصحابة يمشين فى الطرقات مكشفات الرؤوس، ويخدمن الرجال مع سلامة القلوب، فلو أراد الرجل أن يترك الإماء التركيات الحسان يمشين بين الناس فى مثل هذه البلاد والأوقات، كما كان أولئك الإماء يمشين كان هذا من باب الفساد
وكذلك المردان الحسان، لا يصلح أن يخرجوا فى الأمكنة والأزقة التى يخاف فيها الفتنة بهم إلا بقدر الحاجة، فلا يمكن الأمرد الحسن من التبرج، ولا من الجلوس فى الحمام بين الأجانب، ولا من رقصه بين الرجال، ونحو ذلك مما فيه فتنة للناس، والنظر إليه كذلك
وإنما وقع النزاع بين العلماء فى "القسم الثالث" من النظر، وهو: النظر إليه بغير شهوة لكن مع خوف ثورانها، ففيه وجهان فى
ج/ 15 ص -419-مذهب أحمد، أصحهما وهو المحكى عن نص الشافعى وغيره أنه لا يجوز والثانى: يجوز، لأن الأصل عدم ثورانها، فلا يحرم بالشك بل قد يكره والأول هو الراجح، كما أن الراجح فى مذهب الشافعى وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز، وإن كانت الشهوة منتفية، لكن لأنه يخاف ثورانها، ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية، لأنه مظنة الفتنة والأصل أن كلما كان سبباً للفتنة فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة
ولهذا كان النظر الذى قد يفضى إلى الفتنة محرما، إلا إذا كان لحاجة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما، فإنه يباح النظر للحاجة مع عدم الشهوة وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وأدامه، وقال: إنى لا أنظر لشهوة كذب فى ذلك، فإنه إذا لم يكن له داع يحتاج معه إلى النظر، لم يكن النظر إلا لما يحصل فى القلب من اللذة بذلك
وأما نظر الفجأة فهو عفو إذا صرف بصره، كما ثبت فى الصحاح عن جرير، قال: سألت رسول اللّه ﷺ عن نظر الفجأة، قال: "اصرف بصرك"، وفى السنن أنه قال لعلى رضى اللّه عنه:
ج/ 15 ص -420-يا على، لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الثانية"
وفى الحديث الذي فى المسند وغيره: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس"، وفيه: "من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث اللّه قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة" أو كما قال
ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي ينهى عن النظر إليها: كالمرأة، والأمرد الحسن، يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر:
أحدها: حلاوة الإيمان ولذته التي هى أحلى وأطيب مما تركه للّه، فإن من ترك شيئاً للّه عوضه اللّه خيراً منه، والنفس تحب النظر إلى هذه الصور، لا سيما نفوس أهل الرياضة والصفا، فإنه يبقى فيها رقة تنجذب بسببها إلى الصور، حتى تبقى الصورة تخطف أحدهم وتصرعه، كما يصرعه السبع
ولهذا قال بعض التابعين: ما أنا على الشاب التائب من سبع يجلس إليه بأخوف عليه من حدث جميل يجلس إليه وقال بعضهم: اتقوا النظر إلى أولاد الملوك، فإن فتنتهم كفتنة العذارى وما زال أئمة العلم والدين كأئمة الهدى وشيوخ الطريق يوصون بترك صحبة الأحداث، حتى يروى عن فتح الموصلى أنه قال: صحبت ثلاثين من
ج/ 15 ص -421-الأبدال كلهم يوصينى عند فراقه بترك صحبة الأحداث، وقال بعضهم: ما سقط عبد من عين اللّه إلا ابتلاه بصحبة هؤلاء الأنتان
ثم النظر يولد المحبة، فيكون علاقة، لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة، لانصباب القلب إليه، ثم غراما؛ للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقاً، إلى أن يصير تتيما، والمتيم: المعبد، وتيم اللّه: عبد اللّه، فيبقى القلب عبداً لمن لا يصلح أن يكون أخا ولا خادما
وهذا إنما يبتلى به أهل الأعراض عن الإخلاص للّه، الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال اللّه تعالى فى حق يوسف عليه السلام: "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ"[يوسف: 24]، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف - عليه السلام - مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة: عصمه اللّه بإخلاصه للّه، تحقيقاً لقوله: "وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ"[الحجر: 39، 40]، قال تعالى: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ"[الحجر: 42]، و"الغى": هو اتباع الهوى
وهذا الباب من أعظم أبواب اتباع الهوى، ومن أمر بعشق الصور من المتفلسفة كابن سينا وذويه، أو من الفرس، كما يذكر
ج/ 15 ص -422-عن بعضهم من جُهَّال المتصوفة فإنهم أهل ضلال، فهم مع مشاركة اليهود فى الغى، والنصارى فى الضلال: زادوا على الأمتين فى ذلك، فإن هذا وإن ظن أن فيه منفعة للعاشق كتلطيف نفسه، وتهذيب أخلاقه، أو للمعشوق من السعى فى مصالحه، وتعليمه وتأديبه وغير ذلك، فمضرة ذلك أضعاف منفعته، وأين إثم ذلك من نفعه ؟!
وإنما هذا كما يقال: إن فى الزنا منفعة لكل منهما بما يحصل له من اللذة والسرور، ويحصل لها من الجعل وغير ذلك، وكما يقال: إن فى شرب الخمر منافع بدنية ونفسية وقال تعالى فى الخمر والميسر: "قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا"[البقرة: 219]، وهذا قبل التحريم، دع ما قاله عند التحريم وبعده، فإن التعبد بهذه الصور هو من جنس الفواحش، وباطنه من باطن الفواحش، وهو من باطن الإثم قال اللّه تعالى: "وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ"[الأنعام: 120]، وقال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"[الأعراف: 33]، وقال تعالى: "وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ "[الأعراف: 28]
وليس بين أئمة الدين نزاع فى أن هذا ليس بمستحق، كما أنه ليس بواجب، فمن جعله ممدوحا وأثنى عليه فقد خرج عن إجماع المسلمين، واليهود والنصارى، بل وعمّا عليه عقلاء بنى آدم من جميع الأمم، وهو
ج/ 15 ص -423-
ممن اتبع هواه بغير هدى من اللّه "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ"[القصص: 50]، وقال تعالى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى"[النازعات: 40، 41]، وقال تعالى : "َلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ"[ص: 26]
وأما من نظر إلى المردان ظانا أنه ينظر إلى مظاهر الجمال الإلهى، وجعل هذا طريقا له إلى اللّه، كما يفعله طوائف من المدعين للمعرفة، فقوله هذا أعظم كفراً من قول عُبَّاد الأصنام، ومن كُفْرِ قوم لوط فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين، الذين يجب قتلهم بإجماع كل أمة، فإن عباد الأصنام قالوا: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"[الزمر: 3]
وهؤلاء يجعلون اللّه سبحانه موجوداً فى نفس الأصنام، وحالا فيها، فإنهم لا يريدون بظهوره وتجليه فى المخلوقات أنها أدلة عليه، وآيات له، بل يريدون أنه - سبحانه - ظهر فيها، وتجلى فيها، ويشبهون ذلك بظهور الماء فى الصوفة، والزبد فى اللبن، والزيت فى الزيتون، والدهن فى السمسم، ونحو ذلك مما يقتضى حلول نفس ذاته فى مخلوقاته، أو اتحاده بها، فيقولون فى جميع المخلوقات نظير ما قاله النصارى فى المسيح خاصة، ثم يجعلون المرادن مظاهر الجمال، فيقرون هذا الشرك الأعظم طريقاً إلى استحلال الفواحش، بل إلى استحلال كل محرم، كما قيل لأفضل
ج/ 15 ص -424-مشايخهم التلمسانى: إذا كان قولكم بأن الوجود واحد هو الحق، فما الفرق بين أمى وأختى وبنتى حتى يكون هذا حلال وهذا حرام؟ قال: الجميع عندنا سواء، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم
ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص، إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة، كقول الغالية فى على، أو ببعض الشيوخ، كالحَلاّجِية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور، كصور المردان ويقول أحدهم: إنما أنظر إلى صفات خالقى، وأشهدها فى هذه الصورة، والكفر فى هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن باللّه ورسوله ولو قال مثل هذا الكلام فى نبي كريم لكان كافراً، فكيف إذا قاله فى صبى أمرد؟! فقبح اللّه طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها !!
وقد قال تعالى: "وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ"[آل عمران: 80]، فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون للّه كفارًا، فكيف بمن اتخذ بعض المخلوقات أربابا؟ مع أن اللّه فيها، أو متحد بها، فوجوده وجودها، ونحو ذلك من المقالات
ج/ 15 ص -425-وأما الفائدة الثانية فى غض البصر: فهو نور القلب والفراسة، قال تعالى عن قوم لوط: "لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ"[الحجر: 72]، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب، بل جنونه، كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر مدامة فمتى يفيق من به سكران
وقيل - أيضا- :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون فى الحين
وذكر اللّه سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر، فقال: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"[النور: 35]، وكان شُجَاعُ بن شاه الكرمانى لا تخطئ له فراسة، وكان يقول: من عَمَّرَ ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام
ج/ 15 ص -426-المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكَفَّ نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة سادسة أظنه هو أكل الحلال: لم تخطئ له فراسة واللّه تعالى يجزى العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب
الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل اللّه له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن فى الأثر: الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله؛ ولهذا يوجد فى المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله اللّه لمن عصاه، فإن اللّه جعل العزة لمن أطاعه، والذلة لمن عصاه قال تعالى: "يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ"[المنافقون: 8]، وقال تعالى: "وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"[آل عمران: 139]
ولهذا كان فى كلام الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا فى طاعة اللّه وكان الحسن البصرى يقول: وإن هَمْلَجَتْ" [هملج: مشى مشية سهلة فى سرعة، حسن سير الدابة] بهم البراذين" [البرذون: دابة معروفة]، وطقطقت بهم ذُلُل البغال، فإن ذل المعصية فى رقابهم، أبى اللّه إلا أن يذل من عصاه، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه، وفى دعاء القنوت: "إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت"
ج/ 15 ص -427-ثم الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم لسان صدق فى الأمة لم يكونوا يستحسنون مثل هذا، بل ينهون عنه، ولهم فى الكلام فى ذم صحبة الأحداث، وفى الرد على أهل الحلول، وبيان مباينة الخالق: ما لا يتسع هذا الموضع لذكره وإنما استحسنه من تشبه بهم ممن هو عاص أو فاسق أو كافر، فيتظاهر بدعوى الولاية للّه، وتحقيق الإيمان والعرفان، وهو من شر أهل العداوة للّه، وأهل النفاق والبهتان واللّه تعالى يجمع لأوليائه المتقين خير الدنيا والآخرة، ويجعل لأعدائه الصفقة الخاسرة واللّه سبحانه أعلم