ج/ 15 ص -230- سورة مريم
قال شيخ الإسلام رَحِمَهَُُ الله:
فَصْل
"سورة مريم" مضمونها: تحقيق عبادة الله وحده، وأن خواص الخلق هم عباده، فكل كرامة ودرجة رفيعة في هذه الإضافة، وتضمنت الرد علي الغالين الذين زادوا في النسبة إلي الله حتي نسبوا إليه عيسي بطريق الولادة، والرد علي المفرطين في تحقيق العبادة وما فيها من الكرامة، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها علي عباده المصطفين
افتتحها بقوله: "ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا"[مريم: 2]،وندائه ربه نداء خفيا، وموهبته له يحيي، ثم قصة مريم وابنها، وقوله: "إِنِّي عَبْدُ اللَّهِإلخ"[مريم: 30]، بين فيها الرد علي الغلاة في المسيح، وعلي الجفاة النافين عنه ما أنعم الله به عليه، ثم أمر نبيه بذكر إبراهيم وما دعا إليه من عبادة الله وحده، ونهيه أباه عن عبادة الشيطان، وموهبته
ج/ 15 ص -231- له إسحاق ويعقوب، وأنه جعل له لسان صدق عليا، وهو الثناء الحسن، وأخبر عن يحيي وعيسي وإبراهيم ببر الوالدين مع التوحيد، وذكر موسي ومن هبته له أخاه هارون نبيا، كما وهب يحيي لزكريا وعيسي لمريم وإسحاق لإبراهيم
فهذه السورة "سورة المواهب"، وهي ما وهبه الله لأنبيائه من الذرية الطيبة، والعمل الصالح، والعلم النافع، ثم ذكر ذرية آدم لأجل إدريس، "وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ"[مريم: 58] وهو إبراهيم، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل إلي آخر القصة
ثم قال: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِالآية"[مريم: 59] فهذه حال المفرطين في عبادة الله، ثم استثني التائبين وبَينَ أن الجنة لمن تاب، وأن جنات عدن وعدها الرحمن عباده بالغيب، وهم أهل تحقيق العبادة، ثم قال: "تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا"[مريم: 36]،ثم قال: "فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ"[مريم: 56]
ثم ذكر حال منكري المعاد وحال من جعل له الأولاد، وقرن بينهما فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة: "كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك"، الحديث "وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا"[مريم: 66]،ثم ذكر إقسامه على
ج/ 15 ص -232- حشدهم والشياطين، وإحضارهم حول جهنم جثيا، وفيها دلالة علي أن المخبر عن خبر يحصل في المستقبل لا يكون إلا بطريقين: إما اطلاعه علي الغيب، وهو العلم بما سيكون، وإما أن يكون قد اتخذ عند الرحمن عهدًا، والله موف بعهده، فالأول علم بالخبر، والثاني علم بالأمر الأول علم بالكلمات الكونية، والثاني علم بالكلمات الدينية، وهذا الذي أقسم أنه يأتي يوم المعاد ما ذكر كاذب في قسمه، فإنه ليس له اطلاع علي الغيب، ولا اتخذ عند الرحمن عهدًا
وهذا كما قيل في إجابة الدعاء: إنه تارة يكون لصحة الاعتقاد، وهو مطابقة الخبر،وتارة لكمال الطاعة وهو موافقة الأمر،كقوله: "فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي"[البقرة: 186]،فذكر حال من تمني علي الله الباطل بلا علم بالواقع، ولا اتخاذ عهد بالمشروع
ثم ذكر حال الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدًا، فنفي الولادة عن نفسه، ورد علي من أثبتها، وأثبت المودة ردًا علي من أنكرها، فقال: "سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا"[مريم: 96] أي: يحبهم، ويحببهم إلي عباده، وقد وافق ذلك ما في الصحيحين: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض"،
ج/ 15 ص -233- وقال في البغض عكس ذلك
وفي قول إبراهيم: "إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا"[مريم: 47]،وقوله في موسي: "وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا"[مريم: 52]،وماذكره للمؤمنين من المودة: إثبات لما ينكره الجاحدون من محبة الله وتكليمه، كما في الأول نفي لما يثبته المفترون من اتخاذ الولد
ج/ 15 ص -234- سُئِلَ رَضي الله عَنْهُ عن قوله عز وجل : "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا"[مريم: 59]، هل ذلك فيمن أضاع وقتها فصلاها في غير وقتها، أم فيمن أضاعها فلم يصلها؟ وقوله تعالي: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ" [الماعون: 4، 5]، هل هو عن فعل الصلاة، أو السهو فيها كما جرت العادة من صلاة الغَفَلَة الذين لا يعقلون من صلاتهم شيئًا؟ أفتونا مأجورين
فأجاب رضي الله عنه :
الحمد لله رب العالمين، بل المراد بهاتين الآيتين من أضاع الواجب في الصلاة لا مجرد تركها، هكذا فسرها الصحابة والتابعون وهو ظاهر الكلام،فإنه قال: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ"، فأثبت لهم صلاة وجعلهم ساهين عنها، فَعُلِم أنهم كانوا يصلون مع السهو عنها، وقد قال طائفة من السلف: بل هو السهو عما يجب فيها مثل ترك الطمأنينة، وكلا المعنيين حق، والآية تتناول هذا وهذا، كما في صحيح مسلم عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال: "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق،
ج/ 15 ص -235- تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتي إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً"
فبين النبي ﷺ في هذا الحديث أن صلاة المنافق تشتمل علي التأخير عن الوقت الذي يؤمر بفعلها فيه، وعلي النقر الذي لا يذكر الله فيه إلا قليلا، وهكذا فسروا قوله: "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ" بأن إضاعتها تأخيرها عن وقتها وإضاعة حقوقها، وجاء في الحديث: "إن العبد إذا قام إلي الصلاة بطهورها وقراءتها وسجودها أو كما قال صعدت ولها برهان كبرهان الشمس تقول له: حفظك الله كما حفظتني، وإذا لم يتم طهورها وقراءتها وسجودها أو كما قال فإنها تلف كما يلف الثوب وتقول له: ضيعك الله كما ضيعتني" قال سلمان الفارسي: الصلاة مكيال من وَفَّي وُفِّي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال في المطففين وفي سنن أبي داود عن عمار عن النبي ﷺ أنه قال: "إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها"
وقد تنازع العلماء فيمن غلب عليه الوسواس في صلاته هل عليه الإعادة علي قولين
لكن الأئمة كأحمد وغيره علي أنه لا إعادة عليه، واحتجوا بما في
ج/ 15 ص -236- الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتي لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التَّثْوِيبُ أقبل حتي يخطر بين المرء ونفسه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتي يضل الرجل لن يدري كم صلي، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم" "فقد عم بهذا الكلام ولم يأمر أحدًا بالإعادة
والثاني: عليه الإعادة، وهو قول طائفة من العلماء: من الفقهاء والصوفية من أصحاب أحمد وغيره؛ كأبي عبد الله بن حامد وغيره لما تقدم من قوله: " ولم يكتب له منها إلا عشرها"
والتحقيق، أنه لا أجر له إلا بقدر الحضور، لكن ارتفعت عنه العقوبة التي يستحقها تارك الصلاة، وهذا معني قولهم: تبرأ ذمته بها، أي: لا يعاقب علي الترك، لكن الثواب علي قدر الحضور، كما قال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، فلهذا شرعت السنن الرواتب جبرًا لما يحصل من النقص في الفرائض والله أعلم