ج/ 2 ص -362-وسئل :
ما تقول السادة العلماء، أئمة الدين، و هداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في الكلام الذي تضمنه كتاب [فصوص الحكم] وما شاكله من الكلام الظاهر في اعتقاد قائله: أن الرب والعبد شيء واحد، ليس بينهما فرق، وأن ما ثمَّ غير، كمن قال في شعره:
أنا وهو واحد ما معنا شيء
ومثل :
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
ومثل :
إذا كنت ليلى وليلى أنا
وكقول من قال:
لو عرف الناس الحق ما
رأوا عابدًا ولا معبودًا.
وحقيقة هذه الأقوال لم تكن في كتاب الله عز وجل، ولا في السنة، ولا في كلام الخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين.
ويدعي القائل لذلك: أنه يحب الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ" [آل عمران: 31]، والله سبحانه وتعالى ذكر خير
ج/ 2 ص -363-خلقه بالعبودية في غير موضع، فقال تعالى عن خاتم رسله ﷺ: "فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى" [النجم: 10]، وكذلك قال في حق عيسى عليه السلام: "إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عليه" [الزخرف: 59]، وقال تعالى: "لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ" الآية [النساء: 172].
فالنصارى كفار بقولهم مثل هذا القول في عيسى بمفرده، فكيف بمن يعتقد هذا الاعتقاد: تارة في نفسه، وتارة في الصور الحسنة من النسوان والمردان؟!
ويقولون: إن هذا الاعتقاد له سر خفي، وباطن حق، وإنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق.
فهل في هذه الأقوال سر خفي يجب على من يؤمن بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله أن يجتهد على التمسك بها والوصول إلى حقائقها كما زعم هؤلاء أم باطنها كظاهرها؟ وهذا الاعتقاد المذكور هو حقيقة الإيمان بالله ورسوله، وبما جاء به، أم هو الكفر بعينه؟
وهل يجب على المسلم أن يتبع في ذلك قول علماء المسلمين، ورثة الأنبياء والمرسلين، أم يقف مع قول هؤلاء الضالين المضلين؟ وإن ترك ما أجمع عليه أئمة المسلمين، ووافق هؤلاء المذكورين، فماذا يكون من أمر الله له يوم الدين؟
أفتونا مأجورين، أثابكم الله الكريم.
ج/ 2 ص -364-فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام بن تيمية رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ما تضمنه كتاب فصوص الحكم وما شاكله من الكلام: فإنه كفر باطنا وظاهرًا، وباطنه أقبح من ظاهره. وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة، وأهل الحلول، وأهل الاتحاد. وهم يسمون أنفسهم المحققين.
وهؤلاء نوعان: نوع يقول بذلك مطلقًا، كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله: مثل ابن سبعين، وابن الفارض، والقونوي، والششتري، والتلمساني، وأمثالهم ممن يقول: إن الوجود واحد، ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر، بل يقولون: الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق.
ج/ 2 ص -365-ويقولون: إن وجود الأصنام هو وجود الله، وإن عبَّاد الأصنام ما عبدوا شيئا إلا الله.
ويقولون: إن الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم.
ويقولون: إن عبّاد العجل ما عبدوا إلا الله، وإن موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل، وإن موسى كان بزعمهم من العارفين الذين يرون الحق في كل شيء، بل يرونه عين كل شيء، وأن فرعون كان صادقًا في قوله: "فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" [النازعات: 24]، بل هو عين الحق، ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص.
ويقول أعظم محققيهم: إن القرآن كله شرك؛ لأنه فرق بين الرب والعبد، وليس التوحيد إلا في كلامنا.
فقيل له: فإذا كان الوجود واحدًا، فلم كانت الزوجة حلالا والأم حرامًا؟ فقال: الكل عندنا واحد، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام. فقلنا: حرام عليكم.
وكذلك ما في شعر ابن الفارض في قصيدته التي سماها نظم السلوك كقوله :
لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
ج/ 2 ص -366- وما كان لي صلى سواي، ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل سجدة
وقوله:
وما زلت إياها، وإياي لم تزل ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت
وقوله:
إلىَّ رسولا، كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي علىّ استدلت
فأقوال هؤلاء ونحوها باطنها أعظم كفرًا وإلحادًا من ظاهرها، فإنه قد يظن أن ظاهرها من جنس كلام الشيوخ العارفين، أهل التحقيق والتوحيد، وأما باطنها فإنه أعظم كفرًا وكذبًا وجهلًا من كلام اليهود والنصارى وعبّاد الأصنام.
ولهذا فإن كل من كان منهم أعرف بباطن المذهب وحقيقته، كان أعظم كفرًا وفسقا، كالتلمساني، فإنه كان من أعرف هؤلاء بهذا المذهب، وأخبرهم بحقيقته، فأخرجه ذلك إلى الفعل فكان يعظم اليهود والنصارى والمشركين، ويستحل المحرمات ويصنف للنصيرية كتبًا على مذهبهم، يقرهم فيها على عقيدتهم الشركية.
وكذلك ابن سبعين كان من أئمة هؤلاء، وكان له من الكفر والسحر
ج/ 2 ص -367-الذي يسمى السيميا والموافقة للنصارى، والقرامطة والرافضة، ما يناسب أصوله.
فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب، ووافقهم عليه، كان أظهر كفرًا وإلحادًا.
وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين، الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانًا، ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقرارا لهؤلاء وإحسانا للظن بهم، وتسليما لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد، أو جاهل ضال.
وهؤلاء من جنس الجهمية الذين يقولون: إن الله بذاته حال في كل مكان، ولكن أهل وحدة الوجود حققوا هذا المذهب أعظم من تحقيق غيرهم من الجهمية.
وأما النوع الثاني: فهو قول من يقول بالحلول والاتحاد في معين، كالنصارى الذين قالوا بذلك في المسيح عيسى، والغالية الذين يقولون بذلك في علي بن أبي طالب وطائفة من أهل بيته، والحاكمية الذين يقولون بذلك في الحاكم، والحلاَّجية الذين يقولون بذلك في الحلاج، واليونسية الذين يقولون
ج/ 2 ص -368-بذلك في يونس، وأمثال هؤلاء ممن يقول بإلهية بعض البشر، وبالحلول والاتحاد فيه، ولا يجعل ذلك مطلقا في كل شيء.
ومن هؤلاء من يقول بذلك في بعض النسوان والمردان، أو بعض الملوك أو غيرهم، فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.
وأما الأولون: فيقولون بالإطلاق. ويقولون: النصارى إنما كفروا بالتخصيص.
وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى، وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى، ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يُلَبِّسون على من لم يفهمه.
فهذا كله كفر باطنا وظاهرًا بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين.
ولكن هؤلاء يشبهون بشيء آخر، وهو ما يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام والسكر، فإنه قد يعرض لأحدهم لقوة استيلاء الوجد والذكر عليه من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره، فيغيب بمعبوده عن عبادته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده.
ج/ 2 ص -369-ومثل هذا قد يعرض لبعض المحبين لبعض المخلوقين، كما يذكرون أن رجلا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في اليم، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال له: أنا وقعت، فما الذي أوقعك؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني.
وينشدون:
رق الزجاج، وراقت الخمر وتشاكلا، فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر
وهذه الحال تعرض لكثير من السالكين، وليست حالا لازمة لكل سالك، ولا هي أيضا غاية محمودة، بل ثبوت العقل والفهم والعلم مع التوحيد باطنا وظاهرًا كحال نبينا ﷺ وأصحابه أكمل من هذا وأتم.
والمعنى الذي يسمونه الفناء ينقسم ثلاثة أقسام: فناء عن عبادة السوي، وفناء عن شهود السوي، وفناء عن وجود السوي.
فالأول: أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وهذا هو حقيقة التوحيد والإخلاص الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو تحقيق [لا إله إلا الله] فإنه يفنى من قلبه كل تأله لغير الله، ولا يبقى في قلبه تأله لغير الله، وكل من كان أكمل في هذا التوحيد كان أفضل عند الله.
ج/ 2 ص -370-والثاني: أن يفنى عن شهود ما سوى الله، وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمع، ونحو ذلك.
وهذا فيه فضيلة من جهة إقبال القلب على الله، وفيه نقص من جهة عدم شهوده للأمر على ما هو عليه، فإنه إذا شهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه المعبود لا إله إلا هو، الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب، وأمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، فشهد حقائق أسمائه وصفاته وأحكامه خلقا وأمرًا كان أتم معرفة وشهودًا، وإيمانًا وتحقيقا، من أن يفنى بشهود معنى عن شهود معنى آخر، وشهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، وهو الشهود الصحيح المطابق. لكن إذا كان قد ورد على الإنسان ما يعجز معه عن شهود هذا وهذا، كان معذورًا للعجز، لا محمودًا على النقص والجهل.
والثالث: الفناء عن وجود السوى، وهو قول الملاحدة أهل الوحدة كصاحب الفصوص وأتباعه الذين يقولون: وجود الخالق هو وجود المخلوق، وما ثم غير ولا سوى في نفس الأمر.
فهؤلاء قولهم أعظم كفرًا من قول اليهود والنصارى وعباد الأصنام.
وأيضا، فإن ولاية الله هي موافقته بالمحبة لما يحب، والبغض لما يبغض والرضا بما يرضي، والسخط بما يسخط، والأمر بما يأمر به، والنهي عما ينهى عنه، والموالاة لأوليائه، والمعاداة لأعدائه، كما في صحيح البخاري
ج/ 2 ص -371-عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يسعى، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه"، فهذا أصح حديث روى في الأولياء.
فالملاحدة والاتحادية يحتجون به على قولهم، لقوله "كنت سمعه وبصره ويده ورجله" والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة:
منها قوله: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" فأثبت معاديا محاربًا ووليا غير المعادي، وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا.
ومنها قوله: "وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه" فأثبت عبدًا متقربًا إلى ربه، وربا افترض عليه فرائض.
ومنها قوله: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" فأثبت متقرِِّبًا ومتقرَّبًا إليه، ومحبا ومحبوبًا غيره. وهذا كله ينقض قولهم: الوجود واحد.
ومنها قوله: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر
ج/ 2 ص -372-به" إلى آخره، فإنه جعل لعبده بعد محبته هذه الأمور، وهو عندهم قبل المحبة وبعدها واحد، وهو عندهم هذه الأعضاء: بطنه، وفرجه، وشعره، وكل شيء، لا تعدد عندهم، ولا كثرة في الوجود، ولكن يثبتون مراتب ومجالي ومظاهر، فإن جعلوها موجودة نقضوا قولهم.
وإن جعلوها ثابتة في العدم كما يقوله ابن عربي أو جعلوها المعينات، والمطلق هو الحق، كانوا قد بنوا ذلك على قول من يقول: المعدوم شيء، وقول من جعل الكليات ثابتة في الخارج زائدة على المعينات.
والأول: قول طائفة من المعتزلة، وهو قول ابن عربي.
والثاني: قول طائفة من الفلاسفة، وهو قول القونوي صاحب ابن عربي، وكلا القولين باطلان عند العقلاء، ولهذا كان التلمساني أحذق منهما فلم يثبت شيئا وراء الوجود.
كما قيل:
وما البحر إلا الموج، لا شيء غيره وإن فرقته كثرة المتعدد
لكن هؤلاء الضلال من الفلاسفة والمعتزلة ما قالوا: وجود المخلوق هو وجود الخالق، وهؤلاء الملاحدة قالوا: هذا هو هذا، ولهذا صاروا يقولون بالحلول من وجه، لكون الوجود في كل الذوات، أو بالعكس، وبالاتحاد من وجه لاتحادهما، وحقيقة قولهم هي وحدة الوجود.
ج/ 2 ص -373-في الحديث وجوه أخرى تدل على فساد قولهم.
والحديث حق، كما أخبر به النبي ﷺ، فإن ولي الله لكمال محبته لله وطاعته لله يبقى إدراكه لله وبالله، وعمله لله وبالله، فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه، وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه، وما يراه مما يحبه الحق أحبه، وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه، ويبقى في سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل، كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق على صحته: "اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورا، واجعل لي نورا"
فولي الله فيه من الموافقة لله ما يتحد به المحبوب والمكروه، والمأمور والمنهي ونحو ذلك، فيبقى محبوب الحق محبوبه، ومكروه الحق مكروهه، ومأمور الحق مأموره، وولي الحق وليه، وعدو الحق عدوه، بل المخلوق إذا أحب المخلوق محبة تامة حصل بينهما نحو من هذا، حتى قد يتألم أحدهما بتألم الآخر، ويلتذ بلذته.
ولهذا قال ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"؛ ولهذا كان المؤمن يسره ما يسر المؤمنين، ويسوؤه ما يسوؤهم، ومن لم يكن كذلك لم يكن منهم.
ج/ 2 ص -374-فهذا الاتحاد الذي بين المؤمنين ليس هو أن ذات أحدهما هي بعينها ذات الآخر، ولا حلت فيه، بل هو توافقهما واتحادهما في الإيمان بالله ورسوله وشعب ذلك مثل محبة الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله.
فإذا كان هذا معقولا بين المؤمنين فالعبد إذا كان موافقا لربه تعالى فيما يحبه ويبغضه، ويأمر به وينهى عنه، ونحو ذلك مما يحبه الرب من عبده: كيف تكون ذات أحدهما هي الأخرى أو حالة فيها؟
فإذا عرفت هذه الأصول من الحلول والاتحاد المطلق والمعين، الذي هو باطل، ومما هو من أحوال أهل الإيمان، ومن ولاية الله تعالى وموافقته فيما يحبه ويرضاه وتوابع ذلك، تبين لك جواب مسائل السائل.
وهؤلاء قد يجدون من كلام بعض المشايخ كلمات مشتبهة مجملة، فيحملونها على المعاني الفاسدة، كما فعلت النصارى فيما نقل لهم عن الأنبياء، فيدعون المحكم، ويتبعون المتشابه
فقول القائل: إن الرب والعبد شيء واحد، ليس بينهما فرق: كفر صريح، لا سيما إذا دخل في ذلك كل عبد مخلوق، وأما إذا أراد بذلك عباد الله المؤمنين وأوليائه المتقين، فهؤلاء يحبهم ويحبونه ويوافقونه فيما يحبه ويرضاه ويأمر به، فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ولما رضوا ما يرضي وسخطوا ما يسخط، كان الحق يرضي لرضاهم ويغضب لغضبهم، إذ ذلك متلازم من الطرفين.
ج/ 2 ص -375-ولا يقال في أفضل هؤلاء: إن الرب والعبد شيء واحد ليس بينهما فرق، لكن يقال لأفضل الخلق كما قال الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" [الفتح: 10]، وقال: "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ"[النساء: 80]، وقال: "وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ"[التوبة: 62] وقال: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" [الأحزاب: 57] وأمثال ذلك. وأما سائر العباد، فإن الله خالقهم ومالكهم وربهم، وخالق قدرتهم وأفعالهم، ثم ما كان من أفعالهم موافقا لمحبته ورضاه، كان محبا لأهله مكرمًا لهم، وما كان منها مما يسخطه ويكرهه، كان مبغضا لأهله مهينا لهم.
وأفعال العباد مفعولة مخلوقة للّه، ليست صفة له ولا فعلًا قائما بذاته.
وقوله تعالى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى" [الأنفال: 17]، فمعناه: وما أوصلت إذ حذفت، ولكن الله أوصل المرمى، فإن النبي ﷺ كان قد رمى المشركين بقبضة من تراب، وقال: "شاهت الوجوه" فأوصلها الله إلى وجوه المشركين وعيونهم، وكانت قدرة النبي ﷺ عاجزة عن إيصالها إليهم، والرمي له مبدأ، وهو الحذف، ومنتهي وهو الوصول، فأثبت الله لنبيه المبدأ بقوله: "إِذْ رَمَيْتَ" ونفى عنه المنتهي، وأثبته لنفسه بقوله: "وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى" وإلا فلا يجوز أن يكون المثبت عين المنفي، فإن هذا تناقض.
ج/ 2 ص -376-والله تعالى مع أنه هو خالق أفعال العباد فإنه لا يصف نفسه بصفة من قامت به تلك الأفعال، فلا يسمي نفسه مصليا ولا صائما، ولا آكلا ولا شاربا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقول القائل: ما ثم غير إذا أراد به ما يريده أهل الوحدة، أي ما ثم غير موجود سوى الله: فهذا كفر صريح. ولو لم يكن ثم غير لم يقل: "قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا" [الأنعام: 14] ولم يقل: "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ"[الزمر: 64] فإنهم كانوا يأمرونه بعبادة الأوثان، فلو لم يكن غير الله لم يصح قوله: "أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَاالْجَاهِلُونَ" ولم يقل: "أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا َ" [الأنعام: 114] ولم يقل الخليل: "قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 75، 77] ولم يقل: فّطّرّنٌي"إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ" [الزخرف: 26، 27] فإن إبراهيم لم يعاد ربه، ولم يتبرأ من ربه، فإن لم تكن تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم الأقدمون غير الله، لكان إبراهيم قد تبرأ من الله وعادى الله، وحاشا إبراهيم من ذلك.
وهؤلاء الملاحدة في أول أمرهم ينفون الصفات، ويقولون: القرآن هو الله، أو غير الله. فإذا قيل لهم: غير الله. قالوا: فغير الله مخلوق.
وفي آخر أمرهم يقولون: ما ثم موجود غير الله، أو يقولون: العالم لا هو الله ولا هو غيره.
ويقولون:
ج/ 2 ص -377- وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
فينكرون على أهل السنة إذا أثبتوا الصفات، ولم يطلقوا عليها اسم الغير، وهم لا يطلقون على المخلوقات اسم الغير، وقد سمعت هذا التناقض من مشايخهم، فإنهم في ضلال مبين.
وأما قول الشاعر في شعره:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا؟
وقوله:
إذا كنت ليلى وليلى أنا
فهذا إنما أراد به هذا الشاعر الاتحاد الوضعي، كاتحاد أحد المتحابين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغض، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، وهو تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إذ كان قد استغرق في محبوبه حتى فنى به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:
غبت بك عني فظننت أنك أني
فإما أن يكون غالطًا مستغرقًا بالفناء، أو يكون عني التماثل والتشابه، واتحاد المطلوب والمرهوب، لا الاتحاد الذاتي. فإن أراد الاتحاد الذاتي مع عقله لما يقول فهو كاذب مفتر، مستحق لعقوبة المفترين.
وأما قول القائل: لو رأى الناس الحق لما رأوا عابدًا ولا معبودًا، فهذا من جنس قول الملاحدة الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الرب والعبد،
ج/ 2 ص -378- وقد تقدم بيان قول هؤلاء، وهؤلاء يجمعون بين الضلال والغي، بين شهوات الغي في بطونهم وفروجهم، وبين مضلات الفتن.
وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغَيِّ في بطونكم وفروجكم"، حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون: هو الراهب في الصومعة، وهذه مظاهر الجمال، ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول: أنت الله.
ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السموات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه: أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك.
فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوؤها الذي تفترشه، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صَرْفا ولا عَدْلا.
ومن قال: إن لقول هؤلاء سرًا خفيًا وباطن حقٍ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق، فهو أحد رجلين: إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال. فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرَّف حقيقة الأمر، فإن أصرَّ على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله.
ج/ 2 ص -379- ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق. وهذا السر هو أشد كفرًا وإلحادا من ظاهره، فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء، قد لا يفهمه كثير من الناس.
ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض، ويتواجد عليها ويعظمها، ظانا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة، وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين، فلا يفهمون حقيقته، فإما أن يتوقفوا عنه أو يعبروا عن مذهبهم بعبارة من لم يفهم حقيقته، وإما أن ينكروه إنكارًا مجملا من غير معرفة بحقيقته، ونحو ذلك، وهذا حال أكثر الخلق معهم.
وأئمتهم إذا رأوا من لم يفهم حقيقة قولهم طمعوا فيه، وقالوا: هذا من علماء الرسوم، وأهل الظاهر، وأهل القشر، وقالوا: علمنا هذا لا يعرف إلا بالكشف والمشاهدة، وهذا يحتاج إلى شروط، وقالوا: ليس هذا عشك فادرج عنه، ونحو ذلك مما فيه تعظيم له وتشويق إليه، وتجهيل لمن لم يصل إليه.
وإن رأوه عارفا بقولهم نسبوه إلى أنه منهم، وقالوا: هو من كبار العارفين.
ج/ 2 ص -380- وإذا أظهر الإنكار عليهم والتكفير قالوا: هذا قام بوصف الإنكار لتكميل المراتب والمجالي
وهكذا يقولون في الأنبياء ونهيهم عن عبادة الأصنام.
وهذا كله وأمثاله مما رأيته وسمعته منهم.
فضَلالُهم عظيم، وإفكُهم كبير، وتلْبيسُهم شديد، والله تعالى يظهر ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، والله أعلم.
ج/ 2 ص -381- فصل
فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين، مما يشبه الاتحاد والحلول الباطل وهو حق وإن سمي حلولا أو اتحادًا وهو ما عليه أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة واليقين من جميع الطوائف بدلالة الكتاب والسنة.
أما الحلول: فلا ريب أن من علم شيئا فلابد أن يبقى في قلبه منه أثر ونعت، وليس حاله بعد العلم به كحاله قبل العلم به، حتى يكون العلم نسبة محضة بمنزلة العلو والسفول. فإن المستعلى إذا نزل زال علوه، والسافل إذا اعتلى زال سفوله، والعلم لا يزول، بل يبقى أثره بكل حال، فإذا كان مع العلم به يحبه أو يرجوه أو يخافه، كان لهذه الأحوال أثر ونعت آخر وراء العلم والشعور، وإن كانا قد يتلازمان.
فإذا ذكره بلسانه، كانت هذه الآثار أعظم، وإذا خضع له بسائر جوارحه، كان ذلك أعظم وأعظم.
وهذه المعاني هي في الأصل مشتركة في كل مدرِك ومُدرَك، ومحب ومحبوب، وذاكر ومذكور، وسواء كان على وجه العبادة، كعبادة الله
ج/ 2 ص -382-وحده لا شريك له، أو عبادة الأنداد من الذين اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، أو على غير وجه العبادة، كمحب الإخوان والولدان، والنسوان والأوطان، وغير ذلك من الأكوان.
فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه وحال قلبه: تصديق القلب وخضوع القلب، ويجمع قول لسانه وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب أو ما في القلب واللسان، فلابد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله.
والعلم قبل العمل، والإدراك قبل الحركة، والتصديق قبل الإسلام، والمعرفة قبل المحبة، وإن كانا يتلازمان، لكن علم القلب موجب لعمله، ما لم يوجد معارض راجح، وعمله يستلزم تصديقه؛ إذ لا تكون حركة إرادية ولا محبة إلا عن شعور، لكن قد تكون الحركة والمحبة فيها فساد إذا لم يكن الشعور والإدراك صحيحا.
قال عمر بن عبد العزيز: [من عَبَدَ اللهَ بغير علم كان ما يُفْسِد أكثر مما يُصْلح]، فأما العمل الصالح بالباطن والظاهر فلا يكون إلا عن علم؛ ولهذا أمر الله ورسوله بعبادة الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء تنتظم العلم والعمل جميعا: علم القلب وحاله، وإن دخل في ذلك قول اللسان وعمل الجوارح أيضا، فإن وجود الفروع الصحيحة مستلزم لوجود الأصول، وهذا ظاهر، ليس الغرض هنا بسطه، وإنما الغرض.
ج/ 2 ص -383- فصل
وهو أن المؤمن لابد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له، ما يوجب أن يكون للمعروف المحبوب في قلبه من الآثار ما يشبه الحلول من بعض الوجوه، لا أنه حلول ذات المعروف المحبوب، لكن هو الإيمان به ومعرفة أسمائه وصفاته.
قال الله تعالى: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ"الآية [النور: 35]، قال أُبَيّ بن كعب: مثل نوره في قلب المؤمن فهذه هي الأنوار التي تحصل في قلوب المؤمنين.
وقد قيل في قوله تعالى: "وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُ" [المائدة: 5] إنه الكفر بذلك، فإن من كفر بالإقرار الذي هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله والإسلام له، المتضمن للاعتقاد والانقياد لإيجاب الواجبات، وتحريم المحرمات، وإباحة المباحات، فهو كافر، إذ المقصود لنا من إنزال الكتب وإرسال الرسل هو حصول الإيمان لنا، فمن كفر بهذا فهو كافر بذاك، وهذا قد يسمى المثل والمثال؛ لأنه قد يقال: إن العلم مثال المعلوم في العالم، وكذلك الحب يكون فيه تمثيل المحبوب في المحب.
ثم من الناس من يدعي أن كل علم وكل حب ففيه هذا المثال، كما يقوله قوم من المتفلسفة، ومنهم من ينكر حصول شيء من هذا المثال في شيء من العلم والحب.
والتحقيق: أنه قد يحصل تمثل وتخيل لبعض العالمين والمحبين، حتى
ج/ 2 ص -384- يتخيل صورة المحبوب، وقد لا يحصل تخيل حسي، وليس هذا المثل من جنس الحقيقة أصلا، وإنما لما كان العلم مطابقا للمعلوم وموافقا له، غير مخالف له، كان بين المطابِق والمطَابَق، والموافِق والموافَق نوع تناسب وتشابه، ونوع ما من أنواع التمثيل، فإن المثل يضرب للشيء لمشاركته إياه من بعض الوجوه، وهنا قطعا اشتراك ما واشتباه ما.
وقد قيل في قوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" [الشورى: 11]، وقوله: "وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [الروم: 27] أنه هذا، وفي حديث مأثور: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن النقي التقي الوادع اللين"، ويقال: القلب بيت الرب، وهذا هو نصيب العباد من ربهم، وحظهم من الإيمان به، كما جاء عن بعض السلف أنه قال: إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله، فلينظر كيف منزلة الله من قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه.
وروى مرفوعا من حديث أيوب بن عبد الله بن خالد بن صفوان، عن جابر بن عبد الله، رواه أبو يعلى الموصلي، وابن أبي الدنيا في كتاب الذكر، ولهذا قال أبناء يعقوب: "نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ"[البقرة: 133]، فإن ألوهية الله متفاوتة في قلوبهم على درجات عظيمة تزيد وتنقص، ويتفاوتون فيها تفاوتًا لا ينضبط طرفاه، حتى قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ في حق شخصين: "هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا". فصار واحد
ج/ 2 ص -385-من الآدميين خيرًا من ملء الأرض من بني جنسه، وهذا تباين عظيم لا يحصل مثله في سائر الحيوان.
وإلى هذا المعنى أشار من قال: "ما سبقكم أبو بكر بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وَقَرَ في قلبه"، وهو اليقين والإيمان ومنه قوله ﷺ: "وزنتُ بالأمة فرجَحْتُ، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان"، وقال ﷺ، فيما رواه عنه الصديق: "أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فلم يعط أحد بعد اليقين خيرًا من العافية" رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه. وقال رقبة بن مصقلة للشعبي: رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعتمد في الدين إلا عليه.
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن [سيار، وحدثنا جعفر عن عمران القصير] قال: قال موسى: "يارب، أين أجدك؟ قال: يا موسي، عند المُنْكَسِرةِ قلوبُهُم من أجلي، أقترب إليها كل يوم شبرًا، ولولا ذلك لاحترقت قلوبهم"
وقد يتوسع في العبارة عن هذا المعنى، حتى يقال: ما في قلبي إلا الله، ما عندي إلا الله، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عن الله عز وجل: "أما علمت أن عبدي فلانا مرض؟ فلو عُدْتَه لوجدتني عنده" ويقال:
ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره
ويقال:
ج/ 2 ص -386-سئل الشيخ الإمام الرباني شيخ الإسلام بحر العلوم إمام الأئمة ناصر السنة، علامة الورى، وارث الأنبياء أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية عن كلمات وجدت بخط من يوثق به، ذكرها عنه جماعة من الناس، فيهم من انتسب إلى الدين.
فمن ذلك: قال بعض السلف: إن الله لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا.
وقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إن الله ظهر في الأشياء حقيقة، واحتجب بها مجازًا، فمن كان من أهل الحق والجمع، شهدها مظاهر ومجالى، ومن كان من أهل المجاز والفرق، شهدها ستورًا وحجبًا. قال: وقال في قصيدة له:
لقد حق لي رفض الوجود وأهله وقد علقت كفاي جمعا بموجدي
مثالك في عيني، وذكراك في فمي ومثواك في قلبي، فأين تغيب؟
وهذا القدر يقوى قوة عظيمة، حتى يعبر عنه بالتجلي والكشف ونحو ذلك باتفاق العقلاء، ويحصل معه القرب منه، كما قال النبي ﷺ: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: "من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعا"
لكن هل في تقرب العبد إلى الله حركة إلى اللّه أو إلى بعض الأماكن؟ اتفقوا على أنه قد تحصل حركة بدن العبد إلى بعض الأمكنة المشرفة، التي يظهر فيها الإيمان بالله من معرفته وذكره وعبادته، كالحج إلى بيته، والقصد إلى مساجده، ومنه قول إبراهيم: "وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ"[الصافات: 99].
وأما حركة روحه إلى مثل السموات وغيرها من الأمكنة، فأقر به جمهور أهل الإسلام، وأنكره الصابئة الفلاسفة المشاؤون ومن وافقهم، وحركة روحه أو بدنه إلى الله أقرَّ بها أهل الفطرة، وأهل السنة والجماعة، وأنكرها كثير من أهل الكلام.
وأما القرب من الله إلى عبده: هل هو تابع لتقرب العبد وتقريبه الذي هو علمه أو عمله، أو هناك قرب آخر من الرب؟
هذا فيه كلام ليس هذا موضعه.
ج/ 2 ص -387-ومن لم يثبت إلا الأول، فهم في قرب الرب على قولين:
أحدهما: أنه تجليه وظهوره له.
والثاني: أنه مع ذلك دنو العبد منه، واقترابه الذي هو بعمله وحركته. وللقرب معنى آخر: وهو التقارب بمعنى المناسبة، كما يقال: هذا يقارب هذا، وليس هذا موضعه.
فصل:
وأما ما يشبه الاتحاد، فإن الذاتين المتميزتين لا تتحد عين إحداهما بعين الأخرى، ولا عين صفتها بعين صفتها، إلا إذا استحالتا بعد الاتحاد إلى ذات ثالثة، كاتحاد الماء واللبن، فإنهما بعد الاتحاد شيء ثالث، وليس ماء محضًا ولا لبنا محضا.
وأما اتحادهما وبقاؤهما بعد الاتحاد على ما كانا عليه فمحال، ومن هنا يعلم أن الله لا يمكن أن يتحد بخلقه، فإن استحالته محال، وإنما تتحد الأسباب والأحكام في العين، وتتحد الأسماء والصفات في النوع، مثل المتحابين المتخالين اللذين صار أحدهما يحب عين ما يحبه الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويتنعم بما يتنعم به ويتألم بما يتألم به، وهذا فيه مراتب ودرجات لا تنضبط، فأسماؤهما وصفاتهما صارتا من نوع واحد
ج/ 2 ص -388- وعين الأحكام والأسباب المتعلقة بهما، التي هي مثلا المحبوب والمكروه هو واحد بالعين، كالرسول الذي يحبه كل المؤمنين، فهم متحدون في محبته، بمعنى أن محبوبهم واحد، ومحبة هذا من نوع محبته هذا، لا أنها عينها.
فهذا في اتحاد الناس بعضهم ببعض، وهي الأخوة والخلة الإيمانية، التي قال فيها النبي ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" أخرجاه في الصحيحين، فجعل المؤمن مع المؤمن بمنزلة العضو مع العضو اللذين تجمعهما نفس واحدة.
ولهذا سمى الله الأخ المؤمن نفسا لأخيه في غير موضع من الكتاب والسنة قال تعالى: "فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ" [النجم: 32]، وقال: "لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ" [التوبة: 128]، وقال: "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ" [آل عمران: 164]، وقال: "فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ"[النور: 61]، وقال: "فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ"[البقرة: 54]
فالعبد المؤمن إذا أناب إلى ربه، وعبده ووافقه، حتى صار يحب ما يحب ربه، ويكره ما يكره ربه، ويأمر بما يأمر به ربه، وينهى عما ينهى عنه ربه، ويرضي بما يرضي ربه، ويغضب لما يغضب له ربه، ويعطي من أعطاه ربه، ويمنع من منع ربه، فهو العبد الذي قال فيه النبي ﷺ فيما رواه أبو داود من حديث القاسم عن أبي أمامة: "من أحب لله، وأبغض
ج/ 2 ص -389- لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان" وصار هذا العبد دينه كله لله، وأتى بما خلق له من العبادة.
فقد اتحدت أحكام هذه الصفات التي له وأسبابها بأحكام صفات الرب وأسبابها.
وهم في ذلك على درجات، فإن كان نبيا كان له من الموافقة لله ما ليس لغيره، والمرسلون فوق ذلك، وأولو العزم أعظم، ونبينا محمد ﷺ له الوسيلة العظمى في كل مقام.
فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ، سواء كان واجبا أو مستحبا، وفي مثل هذا جاءت نصوص الكتاب والسنة. قال الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" [الفتح: 10]، وقال: "وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ" [التوبة: 62]، وقال تعالى: "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ"[النساء: 80]، وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" [الأحزاب: 57]، وقال تعالى: "أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ" [التوبة: 24]، وقال تعالى: "قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ" [الأنفال: 1].
ومن هذا الباب قول المسيح إن ثبت هذا اللفظ عنه: "أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي" ونحو ذلك، فإنه مثل قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّه"، وقوله: "مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ" ونحو ذلك من اللفظ الذي فيه تشابه.
ج/ 2 ص -390-فصل:
وجاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا: فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه".
فأول ما في الحديث قوله: "من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة" فجعل معاداة عبده الولي معاداة له، فعين عدوه عين عدو عبده، وعين معاداة وليه عين معاداته، ليسا هما شيئين متميزين، ولكن ليس الله هو عين عبده، ولا جهة عداوة عبده عين جهة عداوة نفسه، وإنما اتفقا في النوع.
ثم قال: "فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله" وفي رواية في غير الصحيح: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي" فقوله:
ج/ 2 ص -391- "بي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي" بين معنى قوله: "كنت سمعه وبصره ويده ورجله" لا أنه يكون نفس الحَدَقَة والشحْمَة والعَصَب والقدم، وإنما يبقى هو المقصود بهذه الأعضاء والقوى وهو بمنزلتها في ذلك، فإن العبد بحسب أعضائه وقواه يكون إدراكه وحركته، فإذا كان إدراكه وحركته بالحق، ليس بمعنى خلق الإدراك والحركة، فإن هذا قدر مشترك فيمن يحبه وفيمن لا يحبه، وإنما للمحبوب الحق من الحق من هذه الإعانة بقدر ما له من المعية والربوبية والإلهية، فإن كل واحدة من هذه الأمور عامة وخاصة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: "يقول الله تعالى: عبدي، مرضت فلم تَعُدْنِي، فيقول: رب، كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض؟ فلو عدته لوجدتني عنده، عبدي، جُعْتُ فلم تُطْعِمْنِي. فيقول: رب، كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع؟ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي" ففي هذا الحديث ذكر المعنيين الحقين، ونفى المعنيين الباطلين، وفسرهما.
فقوله: "جعت ومرضت" لفظ اتحاد يثبت الحق.
وقوله: "لوجدتني عنده، ووجدت ذلك عندي" نفى للاتحاد العيني بنفي الباطل، وإثبات لتمييز الرب عن العبد.
ج/ 2 ص -392- وقوله: "لوجدتني عنده" لفظ ظرف، وبكل يثبت المعنى الحق من الحلول الحق، الذي هو بالإيمان لا بالذات.
ويفسر قوله: "مرضت فلم تعدني" فلو كان الرب عين المريض والجائع، لكان إذا عاده وإذا أطعمه يكون قد وجده إياه، وقد وجده قد أكله.
وفي قوله في المريض: "وجدتني عنده" وفي الجائع: "لوجدت ذلك عندي" فُرْقَان حسن، فإن المريض الذي تستحب عيادته ويجد الله عنده هو المؤمن بربه، الموافق لإلهه الذي هو وليه، وأما الطاعم فقد يكون فيه عموم لكل جائع يستحب إطعامه، فإن الله يقول: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً"[البقرة: 245]. فَمَن تصدق بصدقة واجبة أو مستحبة، فقد أقرض الله سبحانه بما أعطاه لعبده.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يأخذها بيمينه فيُرَبِّيها كما يُرَبِّي أحدكم فَلُوَّه، أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل العظيم"، وقال: "إن الصدقة لتقع بيد الحق قبل أن تقع بيد السائل"
لكن الأشبه: أن هذا العبد المذكور في الجوع هو المذكور في المرض، وهو العبد الولي الذي فيه نوع اتحاد، وإن كان الله يثيب على طعام الفاسق والذمي.
ونظير القرض النصر، في مثل قوله تعالى: "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" [الحديد: 25]،
ج/ 2 ص -393- وقوله: "آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ"[محمد: 7] ونحو ذلك، لكن النصر فيه معنى، لكن لا يقال في مثله: جعت.
فقد ذكر الله في القرآن القرض والنصر وجعله له، هذا في الرزق، وهذا في النصر، وجاء في الحديث العيادة، وهذه الثلاثة هي المذكورة في قوله تعالى: "وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ" [البقرة: 177]، وقوله: "مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ" [البقرة: 214]، وإنما في الحديث أمر البأساء والضراء فقط، لأن ذلك ينفرد به الواحد المخاطب بقوله: "عبدي، مرضت وجعت" فلذلك عاتبه.
وأما النصر، فيحتاج في العادة إلى عدد، فلا يعتب فيه على أحد معين غالبًا، أو المقصود بالحديث التنبيه، وفي القرآن النصر والرزق، وليس فيه العيادة؛ لأن النصر والقرض فيه عموم لا يختص بشخص دون شخص.
وأما العيادة، فإنما تكون لمن يجد الحق عنده.
ج/ 2 ص -394-فصل:
فهذان المعنيان صحيحان ثابتان، بل هما حقيقة الدين واليقين والإيمان.
أما الأول وهو كون الله في قلبه بالمعرفة والمحبة: فهذا فرض على كل أحد ولابد لكل مؤمن منه، فإن أدى واجبه فهو مقتصد، وإن ترك بعض واجبه فهو ظالم لنفسه، وإن تركه كله فهو كافر بربه.
وأما الثاني وهو موافقة ربه فيما يحبه ويكرهه، ويرضاه ويسخطه: فهذا على الإطلاق إنما هو للسابقين المقربين، الذين تقربوا إلى الله بالنوافل، التي يحبها ولم يفرضها، بعد الفرائض التي يحبها ويفرضها ويعذب تاركها.
ولهذا كان هؤلاء لما أتوا بمحبوب الحق من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة المنتظمة للمعارف والأحوال والأعمال، أحبهم الله تعالى. فقال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه". فعلوا محبوبه فأحبهم، فإن الجزاء من جنس العمل، مناسب له مناسبة المعلول لعلته.
ولا يتوهم أن المراد بذلك: أن يأتي العبد بعين كل حركة يحبها الله، فإن هذا ممتنع. وإنما المقصود أن يأتي بما يقدر عليه من الأعمال الباطنة والظاهرة
ج/ 2 ص -395- والباطنة يمكنه أن يأتي منها بأكثر مما يأتي به من الظاهرة، كما قال بعض السلف: قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه؛ ولهذا قال ﷺ: "المرء مع من أحب"، وقال: "إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر"، وقال: "فهما في الأجر سواء" في حديث القادر على الإنفاق والعاجز عنه، الذي قال: "لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما عمل" فإنهما لما استويا في عمل القلب وكان أحدهما معذور الجسم استويا في الجزاء، كما قال النبي ﷺ: "إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم".
ج/ 2 ص -396-فصل:
وقد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد، فإن الاتحاد فيه حق وباطل، لكن لما ورد عليه ما غيب عقله أو أفناه عما سوى محبوبه، ولم يكن ذلك بذنب منه، كان معذورًا غير معاقب عليه ما دام غير عاقل، فإن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وإن كان مخطئا في ذلك كان داخلا في قوله: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" [البقرة: 286]، وقال: "وَلَيْسَ عليكم جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ" [الأحزاب: 5].
وهذا كما يحكى أن رجلين كان أحدهما يحب الآخر فوقع المحبوب في اليم، فألقى الآخر نفسه خلفه. فقال: أنا وقعت، فما الذي أوقعك؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أنِّي.
فهذه الحال تعتري كثيرا من أهل المحبة والإرادة في جانب الحق، وفي غير جانبه، وإن كان فيها نقص وخطأ فإنه يغيب بمحبوبه عن حبه وعن نفسه، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه، وبمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، فلا يشعر حينئذ بالتمييز ولا بوجوده، فقد يقول في هذه الحال: أنا الحق أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله ونحو ذلك، وهو سكران بوجد المحبة الذي هو لذة وسرور بلا تمييز.
ج/ 2 ص -397- وذلك السكران، يطوى ولا يروى إذا لم يكن سكره بسبب محظور.
فأما إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورا.
وأما أهل الحلول، فمنهم من يغلب عليه شهود القلب وتجليه، حتى يتوهم أنه رأى الله بعيني رأسه.
ولهذا ذكر ذلك طائفة من العباد الأصحاء، غلطًا منهم.
وقد ثبت في صحيح مسلم: عن النواس بن سمعان: أن النبي ﷺ لما ذكر الدجال، ودعواه الربوبية، قال: "واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت"، وروى هذا المعنى عن النبي ﷺ من وجوه أخرى متعددة حسنة في حديث الدجال.
فإنه لما ادعى الربوبية، ذكر النبي ﷺ فرقانين ظاهرين لكل أحد:
أحدهما: أنه أعور، والله ليس بأعور.
الثاني: أن أحدًا منا لن يرى ربه حتى يموت، وهذا إنما ذكره في الدجال مع كونه كافرًا؛ لأنه يظهر عليه من الخوارق التي تُقَوِّى الشبهة في قلوب العامة.
ج/ 2 ص -398-فصل:
فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد الذي فيه نوع حق تبين أيضا ما في المطلق من ذلك.
فنقول: لا ريب أن الله رب العالمين، رب السموات والأرضين وما بينهما ورب العرش العظيم، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا، ربكم ورب آبائكم الأولىن، رب الناس ملك الناس إله الناس، وهو خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى.
وهو رب كل شيء ومليكه، وهو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، الرحمن على العرش استوى، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير "مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"[هود: 56]
قلوب العباد ونواصيهم بيده، وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه. وهو الذي
ج/ 2 ص -399- أضحك وأبكى، وأغنى وأقنى. وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، ويبث فيها من كل دابة.
وهو الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. "فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ" [الأنعام: 125]، وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القائم بالقسط القائم على كل نفس بما كسبت، الخالق البارئ المصور، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، وما شاء الله لا قوة إلا بالله فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ منه إلا إليه.
فهذه المعاني وما أشبهها من معاني ربوبيته وملكه، وخلقه ورزقه، وهدايته ونصره، وإحسانه وبره، وتدبيره وصنعه، ثم ما يتصل بذلك من أنه بكل شيء علىم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، يبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء.
فهذا كله حق، وهو محض توحيد الربوبية، وهو مع هذا قد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين.
ج/ 2 ص -400- وهذا صنع الله الذي أتقن كل شيء والخير كله بيديه، وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، كما أقسم على ذلك النبي ﷺ فقال: "والله، لله أرحم بعباده من هذه الوالدة بولدها"، إلى نحو هذه المعاني التي تقتضي شمول حكمته وإتقانه، وإحسانه خلق كل شيء، وسعة رحمته وعظمتها، وأنها سبقت غضبه، كل هذا حق.
فهذان الأصلان عموم خلقه وربوبيته، وعموم إحسانه وحكمته أصلان عظيمان، وإن كان من الناس من يكفر ببعض الأول، كالقدرية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلقه، ويضيفونها إلى محض فعل ذي الاختيار، أو الطبيعة الذين يقطعون إضافة الفعل إلى الله سبحانه ويضيفونه إما إلى الطبع، أو إلى جسم فيه طبع، أو إلى فلك، أو إلى نفس أو غير ذلك مما هو من مخلوقاته العاجزة عن إقامة نفسها، فهي عن إقامة غيرها أعجز.
ومن الناس من يجحد بعض الثاني، أو يعرض عنه، متوهما خلو شيء من مخلوقاته عن إحسان خلقه وإتقانه، وعن حكمته، ويظن قصور رحمته، وعجزها، من القدرية الإبليسية، أو المجوسية وغيرهم.
وإذا كان كذلك، فجميع الكائنات آيات له، شاهدة دالة مظهرة لما هو مستحق له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وعن مقتضي أسمائه وصفاته خلق الكائنات.
فإن الرحم شُجْنَة من الرحمن، خلق الرحم وشق لها من اسمه، وهو الرزاق
ج/ 2 ص -401-ذو القوة المتين، يرزق من يشاء بغير حساب، وهو الهادي النصير، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهو الحكيم العلىم الرحيم، الذي أظهر من آثار علمه وحكمته ورحمته ما لا يحصيه إلا هو.
فهو رب العالمين، والعالمون ممتلئون بما فيهم من آثار أسمائه وصفاته، وكل شيء يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، من الناس من يدرك ما فيها من الدلالة والشهادة بالعلم والمعرفة، ومن خرق الله سمعه سمع تأويب الجبال والطير، وعلم منطق الطير.
فإذا فسر ظهوره وتجليه بهذا المعنى، فهذا صحيح، ولكن لفظ الظهور والتجلي فيه إجمال، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وإذا قال القائل: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله؛ لأنه ربه، والرب متقدم على العبد، أو رأيت الله بعده، لأنه آيته ودليله وشاهده، والعلم بالمدلول بعد الدليل، أو رأيت الله فيه، بمعنى ظهور آثار الصانع في صنعته، فهذا صحيح. بل القرآن كله يبين هذا ويدل عليه، وهو دين المرسلين، وسبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو اعتقاد المسلمين أهل السنة والجماعة، ومن يدخل فيهم من أهل العلم والإيمان، ذوي المعرفة واليقين أولياء الله المتقين.
ج/ 2 ص -402-فصل:
في الغلط في ذلك
ثم إن كثيرًا من أهل التوجه إلى الله إذا أقبلوا على ذكره وعبادته والإنابة إليه، شهدوا بقلوبهم هذه الربوبية الجامعة، وهذه الإحاطة العامة، فإنه بكل شيء محيط، وهو سبحانه الحق الذي خلق السموات والأرض، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وهو سبحانه نور السموات والأرض "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ" الآية[النور: 35]
وهو سبحانه ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه. هكذا قال عبدالله بن مسعود: "لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، أو النار، لو كشفها لأحرقت سبُحَات وجهه ما أدركه بصره من خلقه"، هكذا قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى.
ج/ 2 ص -403- فقد يشهد العبد القدر المشترك بين المصنوعات، وهو الحق الموجود فيها، الذي هو شامل لها، فيظن أنه الخالق، لمطابقته له في نوع من العموم، وإنما هو صنعه وخلقه، ثم قد يرتقي إلى حجاب من حجبه النورية أو النارية، فيظن أنه هو، ثم يرتقي إلى نوره، وما يظهر من أثر صفاته، فقد يقع بعض هؤلاء في نحو من مذهب أهل الاتحاد المطلق العام، فإن تداركهم الله برحمته فاعتصموا بحبل الله واتبعوا هدى الله، علموا أن هذا كله مخلوق لله، وأن الخالق ليس هو المخلوق، وأن جميعهم عباد لله، وربما قد يقع هذا في نوع من الفناء أو السكر، فيكون مخطئا غالطا، وإن كان ذلك مغفورا له، إذا كان بسبب غير محظور، كما ذكرنا نظيره في الاتحاد المعين.
ج/ 2 ص -404-فصل:
وهو كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته، فكذلك يشهد إلهيته العامة، فإنه الذي في السماء إله وفي الأرض إله، إله في السماء، وإله في الأرض"يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ"[الرحمن: 29]، وكذلك قوله: "وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ"الآية [الأنعام: 3] على أحد القولين، على وقف من يقف عند قوله "وَفِي الأَرْضِ" فإن المعنى: هو في السموات الله، و في الأرض الله، ليس فيهما من هو الله غيره.
وهذا وإن كان مشابها لقوله: "وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ"[الزخرف: 84] فهو أبلغ منه. ونظيره قوله: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22]، وقد قال: "وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"[الروم: 27]، وقال تعالى: "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ"[الإسراء: 44]، وقال: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" [آل عمران: 83]، وقوله تعالى: "وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ" [الرعد: 15]،
ج/ 2 ص -405- وقوله: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ"[الحج: 18]، وقوله تعالى: "وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [الروم: 26، 27]، وقوله: "سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [الحشر: 1]، "يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" [الجمعة: 1] ونحو ذلك من معاني ألوهيته، وخضوع الكائنات وإسلامها له، وافتقارها إليه وسؤالها إياه، ودعاء الخلق إياه، إما دعاء عبادة، وإما دعاء مسألة، وإما دعاؤهما جميعا. ومن أعرض عنه وقت الاختيار: "وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ"[الإسراء: 67]، "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ"[النمل: 62] ونشهد أن كل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه، فإنه باطل، إلا وجهه الكريم، كما نشهد أنها كلها مفتقرة إليه في مبدئها، نشهد أنها مفتقرة إليه في منتهاها، وإلا كانت باطلة.
فهذه المعاني التي فيها تأله الكائنات إياه، وتعلقها به، والمعاني الأول التي فيها ربوبيته إياهم، وخلقه لهم، يوجب أن يعلم أنه رب الناس ملك الناس إله الناس، وأنه رب العالمين، لا إله إلا هو، والكائنات ليس لها من نفسها شيء، بل هي عدم محض ونفى صرف، وما بها من وجود فمنه وبه.
ج/ 2 ص -406- ثُم إنه إليه مصيرها ومرجعها، وهو معبودها وإلهها، لا يصلح أن يعبد إلا هو كما لم يخلقها إلا هو، لما هو مستحقه بنفسه ومتفرد به من نعوت الإلهية التي لا شريك له فيها، ولا سمى له، وليس كمثله شيء.
فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، وهو معنا أينما كنا، ونعلم أن معيته مع عباده على أنواع، وهم فيها درجات.
وكذلك ربوبيته لهم وعبوديتهم التي هم بها معبدون له، وكذلك ألوهيتهم إياه، وألوهيته لهم، وعبادتهم التي هم بها عابدون، وكذلك قربه منهم وقربهم منه.
ج/ 2 ص -407-فصل:
فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين، كنبي أو رجل صالح، ونحو ذلك.
قد بينا ما فيه من الحق المحض، وما فيه من الحق الملبوس بباطل، وسنبين إن شاء الله ما فيه من الباطل المحض.
وهذا القسم إنما يقع فيمن يعبد الله سبحانه ويتولاه، أو يظن به ذلك، فإنه بذلك تظهر ألوهية الله في عبده، وتظهر إنابة العبد إلى ربه، وموافقته له في محبته ورضاه، وأمره ونهيه.
وقد يشتبه بهذا قسم آخر، وهو ما يظهره الرب من آثار ربوبيته في بعض عباده وإن كان ذلك ليس مأمورا به، ولا هو عبادة له، مثل ما يعطيه من ملكه وسلطانه بعض الملوك المسلطين، ممن قد يكون مسلمًا، وقد لا يكون، كفرعون وجنكسخان ونحوهما، وما يهبه من الرزق والمال لبعض عباده، وما يقسمه من الجمال لبعض عباده من الرجال والنساء.
وكذلك ما يهبه من العلوم والمعارف، أو يهبه من الأحوال، أو يعطيه من
ج/ 2 ص -408- خوارق العادات من أنواع المكاشفات والتأثيرات، سواء كان هؤلاء مؤمنين، أو كفارًا مثل الأعور الدجال ونحوه.
فإنه في هذا القسم يقوم في العبد المعين من آثار الربوبية وأحكام القدرة أكثر مما يقوم بغيره، كما يقوم بالقسم الأول من آثار الألوهية وأحكام الشرع أكثر مما يقوم بغيره، وقد يجتمع القسمان في عبد، كما يجتمع في الملائكة والأنبياء والأولياء مثل نبينا ﷺ، والمسيح ابن مريم وغيرهما.
فهذا القسم وحده كاف في أحكام الكلمات الكونية، كالقسم الأول في أحكام الكلمات الدينية، فإن الحوادث إنما تكون بمشيئة الله وقدرته، وقد كان النبي ﷺ يستعيذ ويعوذ، ويأمر بالاستعاذة بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بَرٌّ ولا فاجر.
فالكلمات التي بها كوَّن الله الكائنات لا يخرج عنها بر ولا فاجر، فما من ملك ولا سلطان، ولا مال ولا جمال، ولا علم ولا حال، ولا كشف ولا تصرف إلا وهو بمشيئته وقدرته، وكلماته التامات، ولكن من ذلك ما هو محبوب لله مأمور به، ومنه ما هو مكروه لله منهي عنه بل مباح أو عفو. وإذا كان واقعًا بمشيئة الله وقدرته وكلمته، ولا يقدر على ذلك غيره وهو مضاف إلى الله من جهة ربوبيته وملكه، فبينه وبين القسم الأول من الاشتراك والمشابهة ما أوجب أن أقوامًا غلطوا في أمر الله، فجعلوه في القسمين واحدًا.
ج/ 2 ص -409- بل غلطوا أيضا في نفس الرب، فألحقوا بعض العباد المعبدين من القسم الثاني ببعض العباد العابدين من القسم الأول، ودخلوا في الاتحاد والحلول من هذا الوجه، حتى عبد من عبد فرعون والدجال، وعبد آخرون الصور الجميلة ونحو ذلك، ويزعمون أن هذا مظاهر الجمال، وكفر هؤلاء بالعبادات والإيمان تارة، وبالمعبود أخرى.
ولما كان المقصود هنا بيان الحق من ذلك، أو ما فيه حق، ذكرنا هذا.
أما الأول: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني. فإن الله سبحانه خالق كل شيء، و رب كل شيء ومليكه، سواء في ذلك الذوات وصفاتها وأفعالها، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته.
وقد كذب ببعض ذلك القدرية المجوسية من هذه الأمة وغيرها، وهم الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال عباده من الملائكة والجن والإنس والبهائم، ولا يقدر على أن يفعل بعباده من الخير أكثر مما فعله بهم، بل ولا على أفعالهم، فليس هو على كل شيء قدير، أو أن ما كان من السيئات فهو واقع على خلاف مشيئته وإرادته. وهم ضلال مبتدعة، مخالفون للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق.
ثم إنه قابلهم قوم شر منهم، وهم القدرية المشركية، الذين رأوا الأفعال
ج/ 2 ص -410- واقعة بمشيئته وقدرته. فقالوا: "لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ" [الأنعام: 148]، ولو كره الله شيئا لأزاله، وما في العالم إلا ما يحبه الله ويرضاه، وما ثم عاص، وأنا كافر برب يعصى، وإن كان هذا قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وربما استدلوا بالجبر، وجعلوا العبد مجبورًًا، و المجبور معذور، والفعل لله فيه لا له، فلا لوم عليه.
فهؤلاء كافرون بكتب الله ورسله، وبأمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه، كفرًا لا ريب فيه، وهم أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من الصابئة والبراهمة الذين يقولون بالسياسات العقلية.
فإن هؤلاء كافرون بالديانات والشرائع الإلهية، وبالآيات والسياسات العقلية.
وأما الأولون: ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه.
وهؤلاء أعداء الله وأعداء جميع رسله، بل أعداء جميع عقلاء بني آدم، بل أعداء أنفسهم، فإن هذا القول لا يمكن أحدًا أن يطرده، ولا يعمل به ساعة من زمان، إذ لازمه: ألا يدفع ظلم ظالم، ولا يعاقب معتد، ولا يعاقب مسيء لا بمثل إساءته، ولا بأكثر منها.
وأكثر هؤلاء إنما يشيرون إلى ذلك عند أهواء أنفسهم لرفع الملام عنهم، وإلا فإذا كان لهم هذا مع أحد قابلوه وقاتلوه واعتدوا عليه أيضا، ولا يقفون
ج/ 2 ص -411- عند حد، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذِمَّة، بل هم كما قال الله: "وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" [الأحزاب: 72]، ظلمة جهال، مثل السبع العادي، يفعلون بحكم الأهواء المحضة، ويدفعون عن أنفسهم الملام والعذل، أو ما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالجبر الباطل، وبملاحظة القدر النافذ، معرضين عن الأمر والنهي، ولا يفعلون مثل ذلك بمن اعتدى عليهم وظلمهم وآذاهم، بل ولا بمن قصر في حقوقهم، بل ولا بمن أطاع الله، فأمر بما أمر الله به، ونهى عما نهى الله عنه، وقد بسطت الكلام في هؤلاء القدرية والقسم الأول، وذكرت القدرية الإبليسية في غير هذا الموضع، وإنما الغرض هنا التنبيه على معاقد الأقوال.
وقد فرق الله في كتابه بين القسمين بين من قام بكلماته الكونيات، وبين من اتبع كلماته الدينيات وذلك في أمره وإرادته وقضائه، وحكمه وإذنه وبعثه وإرساله، فقال في الأمر الديني الشرعي: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى" [النحل: 90]، "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" [النساء: 58]، "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً" [البقرة: 67]. وقال في الأمر الكوني القدري: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"[يس: 82]، "أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ" [النحل: 1]، وكذلك قوله: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا" [الإسراء: 16] على أحد الأقوال.
وقال في الإرادة الدينية الشرعية: "يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة: 185]،
ج/ 2 ص -412- "يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عليكم وَاللّهُ" [النساء: 26]، "مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عليكم مِّنْ حَرَجٍ" [المائدة: 6] وقال في الإرادة الكونية القدرية: "فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا" [الأنعام: 125]، "وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ" [هود: 34]، "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ" [المائدة: 41].
وبهذا الجمع والتفريق تزول الشبهة في مسألة الأمر الشرعي: هل هو مستلزم للإرادة الكونية أم لا؟ فإن التحقيق أنه غير مستلزم للإرادة الكونية القدرية، وإن كان مستلزمًا للإرادة الدينية الشرعية.
وقال في الإذن الديني: "مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ" [الحشر: 5] وقال في الإذن الكوني: "وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ" [البقرة: 102]. وقال في القضاء الديني: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ" [الإسراء: 23] أي: أمر ربك بذلك. وقال في القضاء الكوني: "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" [فصلت: 12]
وقال في الحكم الديني: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عليكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ" [المائدة: 1]،
ج/ 2 ص -413-وقال: "ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ" [الممتحنة: 10]، وقال: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة: 50]. وقال في الحكم الكوني: "فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" [يوسف: 80]
وقد يجمع الحكمين مثل ما في قوله: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ" [يوسف: 67]، وكذلك فعله: "وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ" [غافر: 20]وقال في البعثين والإرسالين: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ" [الجمعة: 2]، "بَعَثْنَا عليكم عِبَادًا لَّنَا أولى بَأْسٍ شَدِيدٍ" [الإسراء: 5]، وقوله: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا"[الأحزاب: 45]، "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ" [الحديد: 25]، وقد قال: "أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا"[مريم: 38]، وقال: "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ" [الحجر: 22].
ج/ 2 ص -414-فصل:
وأما كفرهم بالمعبود، فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى فقد يعبدونه بشبهة الحلول أو الاتحاد الفاسد، مثل من يعبد الصور الجميلة، ويقول: هذا مظهر الجمال، أو الملك المطاع الجبار، ويقول: هو مظهر الجلال، أو مظهر رباني ونحو ذلك، وليس في هذه المخلوقات نوع من الاتحاد أو الحلول الحق، لكن يشبه ما فيه الحق من جهة، إذ كلاهما بالله ومن الله، وأنه لله، ولهذا يسوى بينهما أهل الحلول والاتحاد المطلق، كما سنبينه إن شاء الله.
فهؤلاء الاتحادية والحلولية الذين يخصونه ببعض المصنوعات التي ليس فيها عبادة وإثابة هم فرع على أولئك، ليس معهم من الحق شيء ولا شبهة حق، كما مع أولئك ألفاظ متشابهة عن بعض الأنبياء والصالحين، ولكن مع هؤلاء قول فرعون: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" [النازعات: 42]، و "مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي" [القصص: 38]، وقول الدجال: [أنا ربكم] ونحو ذلك.
فهذه الألفاظ التي معهم من ألفاظ الكفار والمنافقين، ومعهم تشبيه الكونيات بالدينيات، والكونيات عامة لا اختصاص فيها، فلهذا كان هؤلاء أدخل في الاتحاد والحلول المطلق منهم في المعين، اعتقادا وقولا، وإن كانوا من
ج/ 2 ص -415- جهة الحال والهوى يخصون بعض الأعيان كما هو الواقع لشبهة اختصاصه ببعض الأحكام الكونية، وسنتكلم عليهم إن شاء الله في الحلول الفاسد.
وإنما ذكرتهم هنا لما أردت أن أذكر كل ما فيه شَوْبُ اتحاد أو حلول بحق، فنبهت على ذلك ليفطن لموضع ضلالهم، فإذا علم حقيقة هذه الأمور علم حقيقة قول النبي ﷺ: "أصدق كلمة قالها الشاعر: كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
فإن الباطل ضد الحق، والله هو الحق المبين.
والحق له معنيان، أحدهما: الوجود الثابت، والثاني: المقصود النافع، كقول النبي ﷺ: "الوتر حق"
والباطل نوعان أيضا:
أحدهما: المعدوم. وإذا كان معدوما كان اعتقاد وجوده والخبر عن وجوده باطلا، لأن الاعتقاد والخبر تابع للمعتقد المخبر عنه، يصح بصحته، ويبطل ببطلانه، فإذا كان المعتقد المخبر عنه باطلا كان الاعتقاد والخبر كذلك، وهو الكذب.
الثاني: ما ليس بنافع ولا مفيد، كقوله تعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا" [ص: 27]، وكقول النبي ﷺ: "كل لهو يلهو
ج/ 2 ص -416- به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته فإنهن من الحق"، وقوله عن عمر: "إن هذا رجل لا يحب الباطل". وما لا منفعة فيه: فالأمر به باطل، وقصده وعمله باطل، إذ العمل به والقصد إليه والأمر به باطل.
ومن هذا قول العلماء: العبادات والعقود تنقسم إلى صحيح وباطل.
فالصحيح: ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده.
والباطل: ما لم يترتب عليه أثره، ولم يحصل به مقصوده؛ ولهذا كانت أعمال الكفار باطلا.
فإن الكافر من جهة كونه كافرًا يعتقد ما لا وجود له، ويخبر عنه فيكون ذلك باطلا، ويعبد ما لا تنفعه عبادته، ويعمل له ويأمر به فيكون ذلك أيضا باطلا.
ولكن لما كان لهم أعمال وأقوال صاروا يشبهون أهل الحق، فلذلك قال تعالى: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [النور: 39]، وقال تعالى: "الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ"
ج/ 2 ص -417- إلى قوله: "وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ" [محمد: 133]، وقال: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا" [الفرقان: 23]، وقال تعالى: "تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عليه تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ" [البقرة: 264]. فبين أن المن والأذى يبطل الصدقة، فيجعلها باطلا، لا حقا، كما يبطل الرياء وعدم الإيمان الإنفاق أيضا. وقد عمم بقوله: "وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ" [محمد: 33] أي: لا تَجعلوها باطِلة، لا منفعة فيها ولا ثواب، ولا فائدة.
وقد غلط طائفة من الناس من الاتحادية وغيرهم، كابن عربي، فرأوا أن الحق هو الموجود، فكل موجود حق. فقالوا: ما في العالم باطل، إذ ليس في العالم عدم.
قالوا: والكفر إنما هو عدم وجود الشريك مثلا.
وإنما أتوا من جهة اللفظ المجمل.
فإن الشيء له مرتبتان: مرتبة باعتبار ذاته، فهو إما موجود، فيكون حقا، وإما معدوم، فيكون باطلا. ومرتبة باعتبار وجوده في الأذهان واللسان والبنان، وهو العلم والقول
ج/ 2 ص -418- والكتاب، فالاعتقاد والخبر والكتابة أمور تابعة للشيء، فإن كانت مطابقة موافقة كانت حقا، وإلا كانت باطلا، فإذا أخبرنا عن الحق الموجود أنه حق موجود، وعن الباطل المعدوم أنه باطل معدوم، كان الخبر والاعتقاد حقا، وإن كان بالعكس كان باطلا، وإن كان الخبر والاعتقاد أمرًا موجودًا. فكونه حقًا أو باطلا باعتبار حقيقته المخبر عنها، لا باعتبار نفسه.
ولا يجوز إطلاق القول بأنه حق لمجرد كونه موجودًا إلا بقرينة تبين المراد.
وهكذا العمل والقصد والأمر إنما هو حق باعتبار حقيقته المقصودة، فإن حصلت وكانت نافعة، كان حقًا، وإن لم تحصل، أو حصل ما لا منفعة فيه كان باطلا.
وبهذين الاعتبارين يصير في الوجود ما هو من الباطل، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، مع ما يوافق ذلك من عقل وذوق وكشف، خلاف زعم هذه الطائفة الضالة المضلة. قال الله تعالى: "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عليه فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ " [الرعد: 17].
ج/ 2 ص -419-شبه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان والقرآن، فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد، وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار، فاحتمل الزبد فقذفه بعيدًا عن القلب، وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه، وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع، فيستقر ويبقى في القلب.
وقد تقدم قوله تعالى: "الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ" [محمد: 1: 3].
فأخبر سبحانه أن سبب إضلال أعمال هؤلاء الذين كفروا حتى لم تنفعهم، وأن أعمال هؤلاء الذين آمَنوا نفعتهم، فكفرت سيئاتِهم وأصلح اللّه بالهم أن هؤلاء اتبعوا الباطل قولا وعملا، اعتقادًا واقتصادًا، خبرًا وأمرًا، وهؤلاء اتبعوا الحق من ربهم، ولم يتبعوا ما هو من غير ربهم، وإن كان حقا من وجه.
وهذا تحقيق ما قلناه، فإن الخبر والعمل تابع للمخبر عنه، وللمقصود بالعمل، فإذا كان ذلك باطلا لاحقيقة له كان التابع كذلك، وإن كان موجودًا.
وكذلك ما تقدم من قوله: "لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم" [البقرة: 264]، وقوله: "وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ" [محمد: 33] ونحو ذلك من إبطال ما قد مضى ووجد، إنما هو عدم لعدم فائدته لا عدم ذاته، فإن ذاته انقضت كما انقضى ما لم يبطل من الأعمال، فكيف
ج/ 2 ص -420-يقال: لا باطل في الوجود؟ ثم يجعل هذا ذريعة إلى أن ذلك الموجود الذي فيه الحق والباطل هو عين الله؛ لأنه هو الحق، ولا يميز بين الحق الخالق والحق المخلوق؟فتدبر، كيف اشتمل مثل هذا الكلام على هاتين المقدمتين الباطلتين؟ وكيف استزلوا عقول الضعفاء بهذه الشبهة؟
وقالوا: قوله: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" والباطل هو المعدوم، فكل ما سوى الله معدوم، والموجود ليس بمعدوم، فالموجود ليس فيه سوى، وإنما السوى هو العدم.
فإن هذا مبني على المقدمتين الباطلتين:
إحداهما: قولهم: إن الباطل هو المعدوم، فإنه ليس كذلك، بل المعدوم باطل، وليس كل موجود باطلا، بل في الموجود ما هو حق، وفيه ما هو باطل، كما تقدم، وهو الأعمال التي لا تنفع، والأخبار التي ليست بصدق، وما يندرج في هذين من المقاصد والعقائد.
الثانية: لوكان لا باطل إلا المعدوم، لكان الموجود حقًا، وكل موجود فقد يسمى حقا مع القرينة المفسرة باعتبار وجوده، وإن كان باطلا، لانتفاء حقيقته التي بها جاز إطلاق الحق عليه، لكان الحق حقان: حق خالق، وحق مخلوق.
ج/ 2 ص -421-وقد كان النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه، الذي رواه ابن عباس يقول إذا قام من الليل: "اللهم لك الحمد، أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت"
وإذا ظهر أن في الوجود ما هو باطل في الحقيقة، ومنه ما هو حق من مخلوقات الله، ليس هو الله، ظهر تمويههم بقولهم: إن الباطل هو السوى، وهو العدم، وأما الموجود فهو هو.
وأيضا، فنفس الحديث حجة عليهم. فإن قوله: [ألا كُل شيء ما خلا الله باطل] لفظ عام يدخل فيه كل موجود سوى الله، فإن لفظ: [الشيء] يعم كل الموجود بالاتفاق، ويدخل فيه ما له وجود ذهني، أو لفظي أو رسمي كتابي وإن لم يكن له وجود حقيقي من المعدومات والممتنعات، فهذا نص في أن كثيرًا من الموجودات باطل، ولا يجوز أن يراد به كل معدوم ما خلا الله، فهو باطل لخمسة أوجه:
أحدها: أنه قد استثنى الله تعالى وهو الحق المبين، من لفظ إثبات، ومثل هذا الاستثناء يدل على التناول، بخلاف الاستثناء من غير موجب
ج/ 2 ص -422-كقوله: "مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ" [النساء: 157] فإن ذلك لا يدل على التناول، فلو كان التقدير: كل معدوم ما خلا الله باطل، للزم أن يكون الحق تعالى معدومًا وهذا أبطل الباطل.
الثاني: أن [كل شيء] نص في الوجود، لا يجوز قصرها على المعدومات بالاتفاق.
الثالث: أن المعدوم لا يدخل في لفظ [كل شيء] عند أهل السنة وعامة العقلاء، فضلا عن كونه يختص به.
الرابع: أنه لو كان المعنى: كل معدوم فهو باطل، لكان هذا من باب تحصيل الحاصل، بل لفظ [العدم] أدل على النفي من لفظ الباطل. فكيف يبين الجلي بالخفي؟
الخامس: أنه لو أراد هذا لقال: [كل ما سوى الله باطل] فإنه هذه العبارة أقرب إلى احتمال مراد هؤلاء الملاحدة من هذا اللفظ، وإن كانت تلك العبارة لا تدل أيضا على مرادهم.
وإذا لم يكن معنى الحديث ما ادعوه، فقد عرف أن كل ما سوى الله فهو باطل بوجهي الباطل اللذين تقدم تفسيرهما:
أحدهما: وهو المقصود النافع. والباطل ما لا منفعة في قصده، وكل شيء ما خلا الله إذا كان له القصد والعمل كان ذلك باطلا، والأمر به
ج/ 2 ص -423-باطل وهذا يشبه حال المشركين، الذين كانوا يعبدون غير الله أو يعبدون الله بغير أمر الله ولا شرعه.
فإن قيل: فالباطل هو نفس القصد والعمل لا نفس العين المقصودة.
قلت: بل نفس العين المقصودة باطل بالاعتبار الذي قصدت له، كما جاء في الحديث: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم"وذلك أنه إذا كان الباطل في الأصل هو العدم، والعدم هو المنفي، فالشيء ينفى لانتفاء وجوده في الجملة، كقوله تعالى: "لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ" [الإخلاص: 3، 4] و"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" [الشورى: 11]، وقوله: "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ" [المؤمنون: 91]، وقوله: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" [الصافات: 35]، وقول النبي ﷺ: "لا نبي بعدي".
وقد ينفى لانتفاء فائدته ومقصوده وخاصته التي هو بها هو، كما ذكرناه، فإن ما لا فائدة فيه فهو باطل، والباطل معدوم، وهذا كقوله ﷺ لما سئل عن الكهان: "ليسوا بشيء"، ومنه قوله تعالى: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ" [المائدة: 68].
وقد ينفى الشيء لانتفاء كماله وتمامه، إما مطلقًا، وإما بالنسبة إلى غيره، كقول النبي ﷺ: "ليس المسكين بهذا الطَّوَّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا
ج/ 2 ص -424-يتفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافًا". ونحو ذلك قوله في المفلس والرقوب، ونظائر كل من هذه الأقسام الثلاثة كثيرة.
فالشيء المقصود لأمر هو باطل منتف إذا انتفت فائدته ومقصوده، فكل ما سوى الله لا يجوز أن يكون معبودا ولا مستعانا، فقد انتفى مما سوى الله هذا المعنى المقصود، فهو باطل، وكل ما سوى الله لا يجوز أن يكون صمدًا مقصودا ولا معبودا، ولا فائدة في قصده، ولا منفعة في عبادته واستعانته، فهو باطل وهذا واضح، وهذا عموم محفوظ لا يستثنى منه شيء.
وبيان ذلك: أن كل ما سوى الله فإما أن يقصد لنفسه، وإما أن يقصد لغيره.
فالمقصود لغيره: مثل ما يقصد الخبز للأكل، والثوب للبس، والسلاح للدفع، ونحو ذلك، وهو ما خلقه الله لنفع بني آدم من الأعيان، فإن هذه إنما تقصد لغيرها لا لذاتها، وكذلك المال الذي يقصد به جلب منفعة أو دفع مضرة إنما يقصد لغيره، لا لنفسه، وكل ما قصد لغيره فإنما المقصود في الحقيقة ذلك الغير.
وهذا مراد له بحيث إن حصل ذلك الغير المقصود لنفسه وإلا كان هذا مما لا فائدة فيه ولا منفعة، فيكون من باب الباطل الذي ينفى، ويقال فيه: ليس بشيء، وهو باطل، ويلحق بالمعدوم.
ج/ 2 ص -425-فثبت أنه إن لم يحصل في كل قصد مقصود لنفسه، وإلا كان باطلا، والمقصود لنفسه إن لم يكن هو الله كان باطلا، فإن المقصود لنفسه هو المعبود. ومن عَبَدَ غير الله كان باطلا، وعبادته باطلة، لأنه لا منفعة فيه ولا في عبادته، بل ذلك ضرر محض، قال الله تعالى: "يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ" [الحج: 13] وهذا عام في كل معبود، وهذا حقيقة الدين.
فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض ليستعينوا به على عبادته، فمن لم يستعن بهذه الأشياء على عبادته فعمله كله وقصده باطل، ولا منفعة فيه، بل فيه الضرر.
فثبت أن كل قصد ومقصود سوى الله باطل، سواء كان مقصودًا لنفسه أو لغيره سوى الله، وإنما الحق أن يقصد الله، أو يقصد ما يستعان به على قصد الله. وهذا تحقيق قوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
بأحد وجهي الحق والباطل، وهو كونه مقصودًا ومطلوبا، وهو أظهر وجهيه.
الثاني: أن كل ما خلا الله فهو معدوم بنفسه، ليس له من نفسه وجود، ولا حركة ولا عمل، ولا نفع لغيره منه، إذ ذلك جميعه خلق الله وإبداعه وبرؤه وتصويره، فكل الأشياء إذا تخلى عنها الله فهي باطل، يكفي في عدمها وبطلانها نفس تخليه عنها، وألا يقيمها هو بخلقه ورزقه، وإذا كانت باطلة في أنفسها والحق إنما هو لله وبالله ومن الله صدق قول القائل: ألا كل شيء ما خلا الله باطل باعتبارين:
ج/ 2 ص -426-أحدهما: أن صنعه على هذا التقدير ليس مستغنيا عنه، ولا قائما بسواه، ولا خارجا عنه، فأدخل في اسمه على سبيل التبع، لا لأنه جزء من المسمى، وكثيرًا ما يدخل في الاسم الجامع والأسماء العامة أشياء على سبيل التبع، لا لأنها جزء من المسمى، كما لو قال: بعتك هذا الفرس، دخل فيه نعله، ولو قال القائل: دخل زيد إلى داري، كانت ثيابه داخلة في حكم اسمه، وكذلك إذا قيل: حملت زيدًا، وركب زيد على الدابة، وإذا قيل: بنو هاشم، دخل فيهم مواليهم؛ لقوله ﷺ: "مولى القوم منهم" وقد يدخل فيهم الحليف وابن الأخت، وهذا مشهور في كلام العرب وأهل المغازي.
الاعتبار الثاني: أن القائل إذا قال: جاء القوم ما خلا زيدًا، فإن [خل] هنا فعل ناقص من أخوات [كان] وزيدا منصوب به، وفيه ضمير مرفوع، وذلك الضمير عائد على [ما] أخت الذي، وهي الموصولة، وهذه الجملة صلة [ما] وكان تقدير الكلام: قام القوم الذين هم خلا زيدًا، لكن [ما] يحتمل الواحد والاثنين والجميع، والضمير يعود إلى لفظها أكثر من معناها، فقوله: رأيت ما رأيته من الرجال، أحسن من قولك: ما رأيتهم من الرجال. وباب: "وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ" [الأنعام: 25] أكثر وأفصح من قوله: [من يستمعون]؛ ولهذا قوي، فصار ما خلا زيدًا، يقوم مقام الذي خلا، والذين خلوا، واللاتي خلون، ونحو ذلك. تقول: قامت النسوة ما خلا هندا.
ولفظ [ما] إما أن يكون له موضع من الإعراب، وهو الوصف لما/
ج/ 2 ص -427-قبله، أو النصب على الحال، أو لا موضع له. وإذا كان التقدير: كل شيء في حال خلوه عن الله باطل، أو كل شيء خلا الله فهو باطل، أو كل الأشياء حال كونها خلت الله، أو التي خلت الله باطل، فخلوها الله قد يتضمن معنى خلوها منه.
ومعلوم أنها متى خلته، أي خلت منه كان باطلا، وإنما قيامها بألا تتخلى منه، بل تتقوم به. وهذا. . . في الأصل دون غيره من أدوات الاستثناء.
وأصل هذا المعنى مقصود من هذا. . . في قول النبي صلىالله عليه وسلم.
وهذا التوحيد وتفسيره المذكور في قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل هو نحو مما ذكر في قوله تعالى: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" بعد قوله "فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [القصص: 86: 88]. فإن ذكره ذلك بعد نهيه عن الإشراك، وأن يدعو معه إلها آخر، وقوله: "لا إله إلا هو" يقتضي أظهر الوجهين، وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الأعيان والأعمال وغيرهما.
روى عن أبي العالية قال: إلا ما أريد به وجهه. وعن جعفر الصادق: إلا دينه. ومعناهما واحد.
ج/ 2 ص -428-وقد روى عن عبادة بن الصامت قال: يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال: ميِّزوا ما كان لله منها. قال: فيماز ما كان لله منها، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار.
وقد روى عن على ما يعم. ففي تفسير الثعلبي عن صالح بن محمد، عن سليمان ابن عمرو، عن سالم الأفطس، عن الحسن وسعيد بن جبير، عن علي بن أبي طالب: أن رجلا سأله، فلم يعطه شيئا. فقال: أسألك بوجه الله. فقال له على: كذبت ليس بوجه الله سألتني، إنما وجه الله الحق، ألا ترى إلى قوله: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" يعني الحق ولكن سألتني بوجهك الخلق. وعن مجاهد: إلا هو. وعن الضحاك كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار، والعرش. وعن ابن كيسان: إلا ملكه.
وذلك أن لفظ [الوجه] يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، والوسم والسمة، لكن فعله حذفت فاؤها وهي أخص من الفعل، كالأكل والأكلة. فيكون مصدرًا بمعنى التوجه والقصد، كما قال الشاعر:
أستغفر الله ذنبًا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
ثم إنه يسمى به المفعول، وهو المقصود المتوجه إليه، كما في اسم الخلق، ودرهم ضرب الأمير ونظائره، ويسمى به الفاعل المتوجه، كوجه الحيوان، يقال: أردت هذا الوجه، أي هذه الجهة والناحية.
ج/ 2 ص -429-ومنه قوله: "وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ" [البقرة: 115] أي: قبلة الله ووجهة الله، هكذا قال جمهور السلف، وإن عدها بعضهم في الصفات، وقد يدل على الصفة بوجه فيه نظر، وذلك أن معنى قوله: "فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ" أي: تتولوا، أي تتوجهوا وتستقبلوا يتعدى إلى مفعول واحد، بمعني يتولاها، ونظير: "ولى وتولى": قدم وتقدم، وبين وتبين، كما قال: "لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [الحجرات: 1]، وقال: "بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ" [النساء: 19] وهو الوجه الذي لله، والذي أمر الله أن نستقبل. فإن قوله: "وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ" يدل على أن وجه الله هناك من المشرق والمغرب الذي هو لله، كما في آية القبلة: "سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عليها قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [البقرة: 142].
فلما سألوا عن سبب التولي عن القبلة أخبر أن له المشرق والمغرب.
وأما لفظ [وجهة] مثل قوله: "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا" [البقرة: 148]، فقد يظن أيضا أنه مصدر كالوجه، كالوعدة مع الوعد، وأنها تركت صحيحة فلم تحذف فاؤها، وليس كذلك.
لأنه لو كان مصدرا لحذفت واوه، وهو الجهة. وكان يقال: ولكل جهة أو وجه، وإنما الفعلة هنا بمعنى المفعول، كالقبلة والبدعة، والذبحة ونحو ذلك. فالقبلة: ما استقبل، والوجهة: ما توجه إليه، والبدعة: ما ابتدع، والذبحة: ما ذبح، ولهذا صح ولم تحذف فاؤه؛ لأن الحذف إنما هو من المصدر لا من
ج/ 2 ص -430-بقية الأسماء، كالصفات وما يشبهها، مثل أسماء الأمكنة والأزمنة، والآلات والمفاعيل وغير ذلك.
وأما قول بعض الفقهاء: إن الوجه مشتق من المواجهة: فلا دليل عليه، بل قد عارضه من قال: هو مشتق من الوجاهة، وكلاهما ضعيف. وإنما المواجهة مشتق من الوجه، كما أن المشافهة مشتق من الشفة، والمناظرة بمعنى المقابلة مشتق من النظر، والمعاينة من العين.
وأما اشتقاق الوجه الذي هو المتوجه، من الوجه الذي هو التوجه، فهذا أشبه؛ لأن توجهه: هو فعله المختص به الذي لا يفتقر فيه إلى غيره، بخلاف المواجهة، فإنها تستدعي اثنين، والإنسان هو حارث همام، وهمه هو توجهه، وإنما يتوجه بهذا العضو إلى أي شيء أراده وتوجه إليه.
ومن هذا الباب قوله تعالى: "بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ" [البقرة: 112]، وقوله تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا" [النساء: 125]، وقول الخليل ونبينا والمؤمنين في الصلاة: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [الأنعام: 79]، وقوله تعالى: "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ"الآية [الأعراف: 29]، وقوله: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عليها" [الروم: 30]، وقوله: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ" [الروم: 43]، وقوله: "وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يونس: 105]، وقول النبي ﷺ
ج/ 2 ص -431-للذي علمه دعاء النوم: "اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك"، وقال زيد ابن عمرو بن نفيل:
أسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
فهذه ثلاثة ألفاظ: أسلم وجهه، ووجَّه وجهه، وأقام وجهه.
قال قدماء المفسرين في قوله تعالى: "أَسْلَمَ وَجْهَهُ" [البقرة: 112] أي: أخلص في دينه وعمله لله، وقال بعضهم: فوَّض أمره إلى الله، وقد قيل: خضع وتواضع لله.
وهذا الثالث يليق بالإسلام اللازم، فإن وجهه هو قصده، وتوجهه الذي هو أصل عمله، وهو عمل قلبه الذي هو ملك بدنه، فإذا توجه قلبه تبعه أيضا توجه وجهه، فاستتبع القصد الذي هو الأصل من القلب، الذي هو الأصل للعمل، الذي هو تبع من الوجه وسائر البدن الذي هو تبع، فيكون قد أسلم عمله الباطن والظاهر، وأعضاءه الباطنة والظاهرة لله، أي سلمه له، وأخلصه لله، كما في الإسلام اللازم، وهو قوله: "أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" [البقرة: 131]، وقوله عن بلقيس "إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [النمل: 44]، وقوله عن إبراهيم وإسماعيل: "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ" [البقرة: 128] أي: منقادة مخلصة. وكذلك توجيه الوجه للذي فطر السموات والأرض: توجيه قصده، وإرادته وعبادته، وذلك يستتبع الوجه وغيره، وإلا فمجرد توجيه العضو من غير عمل القلب لا يفيد شيئا.
ج/ 2 ص -432-قال الزجاج في قوله: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ" [الأنعام: 79]، أي جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين، وكذلك قوله "وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ" [الأعراف: 29]، فإن الوجوه التي هي المقاصد، والنيات التي هي عمل القلب، وهي أصل الدين: تارة تقام وتارة تزاغ، كما قال النبي ﷺ: "ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه". فإقامة الوجه ضد إزاغته وإمالته، وهو الصراط المستقيم.
فإذا قوم قصده وسدده ولم ينحرف يمينا ولا شمالا كان قصده لله رب العالمين، كما قال: "لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ" [النور: 35]، وكذلك قال الربيع بن أنس: اجعلوا سجودكم خالصا لله، فلا تسجدوا إلا لله.
وروى عن الضحاك وابن قتيبة: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي. كأنه أراد: صلوا لله عند كل مسجد، لا تخصوا مسجدًا دون مسجد.
وعلى هذين القولين يتوجه ما ذكرناه.
وروي عن مجاهد والسدي وابن زيد: توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة.
وعلى هذا، فإقامة الوجه استقبال الكعبة وهذا فيه نظر، فإن هذه الآية مكية، والكعبة إنما فرضت في المدينة، إلا أن يراد بإقامة الوجه الاستقبال المأمور به.
ج/ 2 ص -433-وإنما وقع النزاع هنا لقوله تعالى: "عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ" [الأعراف: 29]، بخلاف قوله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا" [الروم: 30].
فقوله: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" [القصص: 88] أي: دينه وإرادته وعبادته، والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى، وهو قولهم: ما أريد به وجهه، وهو نظير قوله: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا"[الأنبياء: 22]. فكُلُّ معبود دون الله باطل، وكل ما لا يكون لوجهه فهو هالك فاسد باطل، وسياق الآية يدل عليه وفيه المعنى الآخر.
فإن الإلهية تستلزم الربوبية، ولهذا قال: "لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [القصص: 88]
وفي هذا قول آخر، يقوله كثير من أهل العلم: أن الوجه في مثل قوله: "أَسْلَمَ وَجْهَهُ" [البقرة: 112] و"أَقِمْ وَجْهَكَ" [يونس: 105] و"وَجَّهْتُ وَجْهِيَ" [الأنعام: 79]: هو الوجه الظاهر، كما أنه كذلك بالاتفاق في قوله: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء"، وفي قوله: "فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ" [البقرة: 144]، وفي قوله: "فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ" [المائدة: 6].
وقد جاء الوجه في صفات الله في مواضع من الكتاب والسنة، ليس هذا موضعها.
قالوا: لكن الوجه إذا وجه تبعه سائر الإنسان، وإذا أسلم فقد أسلم سائر الإنسان، وإذا أقيم فقد أقيم سائره؛ لأنه هو المتوجه أولا من الأعضاء الظاهرة للقاصد الطالب؛ ولهذا يذكر كثيرًا على وجه الاستلزام لسائر صاحبه،
ج/ 2 ص -434-ويعبر به عنه، لكن هل هذا من باب الحقيقة العرفية التي تقلب الاسم من الخصوص إلى العموم، أو الحقيقة اللغوية باقية، وهو من باب الدلالة اللزومية؟ فيه قولان.
وكذلك في سائر الأعضاء، حتى لو قال لعبده: يدك، أو رجلك حر، أو قال لزوجته: يدك أو رجلك طالق إن أعطيتني ألفًا، ثم قطع العضو قبل الإعطاء، فمن قال: إن اللفظ عبارة عن الجميع أوقع الطلاق والعتق. ومن قال: إن الاسم للعضو فقط، لم يسر العتق عنده إلى سائر الجملة؛ لعدم تبعيضه. وقال: إنه لا يقع شيء في هذه الصورة.
وإلى هذا الأصل يعود معني قول من قال: كل شيء هالك إلا وجهه، كما قد قيل في قوله: "كُلُّ مَنْ عليها فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" [الرحمن: 26، 27]، فإن بقاء وجهه المذوى بالجلال والإكرام، هو بقاء ذاته.
ج/ 2 ص -435-فصل:
وأما اتحاد ذات العبد بذات الرب، بل اتحاد ذات عبد بذات عبد، أو حلول حقيقة في حقيقة كحلول الماء في الوعاء فهذا باطل قطعًا، بل ذلك باطل في العبد مع العبد، فإنه لا تتحد ذاته بذاته، ولا تحل ذات أحدهما في ذات الآخر.
وهذا هو الذي وقعت فيه الاتحادية والحلولية من النصارى وغيرهم، من غالية هذه الأمة وغيرها، وهو اتحاد متجدد بين ذاتين كانتا متميزتين، فصارتا متحدتين، أو حلول إحداهما في الأخرى، فهذا بيِّن البطلان.
وأبطل منه قول من يقول: ما زال واحدا وما ثم تعدد أصلا، وإنما التعدد في الحجاب، فلما انكشف الأمر رأيت أني أنا، وكل شيء هو الله، سواء قال بالوحدة مطلقًا، أو بوحدة الوجود المطلق، دون المعين، أو بوحدة الوجود دون الأعيان الثابتة في العدم.
فهذه وما قبلها مذاهب أهل الكفر والضلال، كما أن الأولى مذهب أهل الإيمان والعلم، والهدى.
ومن كفر بالحق من ذلك أو آمن بالباطل،
ج/ 2 ص -436-فهما في طرفي نقيض، كاليهود والنصارى.
وأما المؤمنون، فيؤمنون بحق ذلك دون باطله، وكتاب الله وسنة رسوله فيهما الهدى والنور، وفيهما بيان الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فأما إثبات الحق من ذلك، وهو ما يحصل لأنبياء الله وأولىائه، الذين هم المتقون من السابقين والمقتصدين، وما قد يحصل من ذلك لكل مؤمن، مثل محبتهم لله تعالى، ومحبته لهم، ورضوانهم عنه، ورضوانه عنهم، فقد قال الله تعالى: "فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ" [المائدة: 54]، وقال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ"[البقرة: 165]، وقال تعالى "وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[البقرة: 195]، وقال تعالى: "بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"[آل عمران: 76]، وقال تعالى: "فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"[التوبة: 7]، وقال: "فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ"[التوبة: 4]، وقال: "فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"[البقرة: 222]، وقال: "فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" [التوبة: 108]، وقال: "فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الحجرات: 9]، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ" [الصف: 4]، وَقال: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ"[آل عمران: 31]، وقال: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ"
ج/ 2 ص -437-إلى قوله: "أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ" [التوبة: 24]، وقال: "وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ْ"[النساء: 125]، وقال: "وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ" [التوبة: 100]، وقال: "أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ" [المجادلة: 22]، وقال: "الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ"[البينة: 7، 8].
وقال النبي ﷺ: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي"، "إن الله جميل يحب الجمال"، "إن الله نظيف يحب النظافة" "إن الله وتر يحب الوتر"، "إن الله يحب معالى الأخلاق ويكره سَفْسَافَها"، وقال: "إن الله يرضي لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أموركم"
وفي القرآن من ذكر الاصطفاء والاجتباء والتقريب والمناجاة والمناداة والخلة ونحو ذلك، ما هو كثير، وكذلك في السنة.
وهذا مما اتفق عليه قدماء أهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة والعبادة والعلم والإيمان.
وخالف في حقيقته قوم من الملحدة المنافقين، المضارعين للصابئين ومن وافقهم، والمضارعين لليهود والنصارى، من الجهمية أو من فيه تجهم، وإن كان الغالب عليه السنة.
ج/ 2 ص -438-فتارة ينكرون أن الله يخالل أحدا، أو يحب أحدًا، أو يواد أحدا، أو يكلم أحدا، أو يتكلم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيفسرون ذلك تارة بإحسانه إلى عباده، وتارة بإرادته الإحسان إليهم، وتارة ينكرون أن الله يحب أو يخالل.
ويحرفون الكلم عن مواضعه في محبة العبد له، بأنه إرادة طاعته، أو محبته على إحسانه.
وأما إنكار الباطل، فقد نزه الله نفسه عن الوالد والولد، وكفر من جعل له ولدًا أو والدا أو شريكا، فقال تعالى في السورة التي تعدل ثلث القرآن التي هي صفة الرحمن، ولم يصح عن النبي ﷺ في فضل سورة من القرآن ما صح في فضلها، حتى أفرد الحفاظ مصنفات في فضلها، كالدارقطني، وأبي نعيم، وأبي محمد الخلال، وأخرج أصحاب الصحيح فيها أحاديث متعددة قال فيها: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ" [سورة الإخلاص] وعلى هذه السورة اعتماد الأئمة في التوحيد، كالإمام أحمد، والفضيل بن عياض، وغيرهما من الأئمة قبلهم وبعدهم.
فنفى عن نفسه الأصول والفروع والنظراء، وهي جماع ما ينسب إليه المخلوق من الآدميين والبهائم والملائكة والجن، بل والنبات ونحو ذلك، فإنه
ج/ 2 ص -439-ما من شيء من المخلوقات إلا ولابد أن يكون له شيء يناسبه، إما أصل، وإما فرع، وإما نظير، أو اثنان من ذلك، أو ثلاثة.
وهذا في الآدميين والجن والبهائم ظاهر.
وأما الملائكة، فإنهم وإن لم يتوالدوا بالتناسل فلهم الأمثال والأشباه، ولهذا قال سبحانه: "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ" [الذاريات: 49، 50] قال بعض السلف: لعلكم تتذكرون، فتعلمون أن خالق الأزْواجِ واحد.
ولهذا كان في هذه السورة الرد على من كفر من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين.
فإن قوله: "لَمْ يَلِدْ"رد لقول من يقول: إن له بنين وبنات من الملائكة أو البشر، مثل من يقول: الملائكة بنات الله، أو يقول: المسيح، أو عزير ابن الله، كما قال تعالى عنهم: "وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ"[الأنعام: 100]، وقال تعالى: "فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ" [الصافات: 149: 158]، وقال تعالى: "وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أنى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ" [التوبة: 30، 31]،
ج/ 2 ص -440-وقد أخبر أن هذا مضاهاة لقول الذين كفروا من قبل.
وقد قيل: إنهم قدماؤهم. وقيل: مشركو العرب، وفيهما نظر. فإن مشركي العرب الذين قالوا هذا ليسوا قبل اليهود والنصارى وقدمائهم منهم، فلعله الصابئون المشركون، الذين كانوا قبل موسى والمسيح بأرض الشام ومصر وغيرها، الذين يجعلون الملائكة أولادا له، كما سنبينه.
وقال تعالى: "وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى" [النحل: 62]، وَهو قول من قال من العرب: إن الملائكة بنات الله.
وقال تعالى: "وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [النحل: 56: 60]، وقال تعالى: "وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ"[الزخرف: 15: 19].
ج/ 2 ص -441-وهذا القدر الذي عابه الله على من جعل الملائكة بناته من العرب، مع كراهتهم أن يكون لهم بنات، فنظيره في النصارى، فإنهم يجعلون لله ولدًا، وينزهون أكابر أهل دينهم عن أن يكون لأحدهم صاحبة أو ولدا، فيجعلون لله ما يكرهونه لأكابر دينهم.
وقال تعالى: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا"[مريم: 88: 95].
وقال تعالى: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلًا لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا" [النساء: 171: 173].
فنهى أهل الكتاب عن الغلو في الدين، وعن أن يقولوا على اللّه إلا الحق،
ج/ 2 ص -442-وذكر القول الحق في المسيح، ثم قال لهم: "آمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ"؛ لأنهم كفروا بالله بتثليثهم، وكفروا برسله بالاتحاد والحلول. فكفروا بأصلي الإسلام العام، التي هي الشهادة لله بالوحدانية في الألوهية، والشهادة للرسل بالرسالة، وذكر أن المسيح والملائكة لا يستنكفون عن عبادته؛ لأن من الناس من جعل الملائكة أولاده كالمسيح، وعبدوا الملائكة والمسيح.
ولهذا قال: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ"[آل عمران: 79، 80]، فَذَكَرَ الملائِكَةَ وَالنَّبِيينَ جَمِيعًا.
وقد نفى في كتابه عن نفسه الولادة، ونفى اتخاذ الولد جميعًا. فقال: "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ"[الإسراء: 111]، وقال تعالى: "مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ"الآية[المؤمنون: 91]، وقال: "الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ"[الفرقان: 2]، وقال: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعلينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ"[الأنبياء 16: 22]،
ج/ 2 ص -443-وقال: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ" [الأنبياء: 26: 28].
ومعلوم أن الذين خرقوا له بنين وبنات بغيرعلم، والذين قالوا: ولد الله، وإنهم لكاذبون، والذين قالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، لم يرد عقلاؤهم ولادة حسية، من جنس ولادة الحيوان بانفصال جزء من ذكره في أنثاه، يكون منه الولد، فإن النصارى والصابئين متفقون على نفي ذلك وكذلك مشركو العرب، ما أظن عقلاءهم كانوا يعتقدون ذلك، وإنما وصفوا الولادة العقلية الروحانية، مثل ما يقوله النصارى: إن الجوهر الذي هو الله من وجه، وهو الكلمة من وجه، تدرعت بإنسان مخلوق من مريم، فيقولون: تدرع اللاهوت بالناسوت، فظاهره وهو الدرع والقميص بشر، وباطنه وهو المتدرع لاهوت، هو الابن الذي هو الكلمة لتولد هذا من الأب الذي هو جوهر الوجود.
فهذه البنوة مركبة عندهم من أصلين:
أحدهما: أن الجوهر الذي هو الكلمة تولد من الجوهر الذي هو الأب، كتولد العلم والقول من العالم القائل.
ج/ 2 ص -444-والثاني: أن هذا الجوهر اتحد بالمسيح وتدرع به، وذلك الجوهر هو الأب من وجه، وهو الابن من وجه، فلهذا حكى الله عنهم، تارة أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وتارة أنهم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم.
وأما حكايته عنهم أنهم قالوا: "إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ"[المائدة: 73]، فالمفسرون يقولون: الله والمسيح وأمه، كما قال: "يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ" [المائدة: 116]، ولهذا قال في سياق الكلام: "مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ" [المائدة: 75] أي غاية المسيح: الرسالة، وغاية أمه: الصديقية، لا يبلغان إلى اللاهوتية، فهذا حجة هذا، وهو ظاهر.
ومن الناس من يزعم أن المراد بذلك الأقانيم الثلاثة، وهي الآب والابن وروح القدس، وهذا فيه نظر.
فأما قوله: "وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إني يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ" [الأنعام: 100، 101] فإن قوله: "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" أي مبدعهما، كما ذكر مثل ذلك في البقرة، وليس المراد أنهما بديعة سمواته وأرضه، كما تحتمله العربية لولا السياق؛ لأن المقصود نفى ما زعموه من خرق البنين والبنات له، ومن كونه اتخذ ولدًا.
ج/ 2 ص -445-وهذا ينتفي بضده كونه أبدع السموات، ثم قال: "إني يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ" وذكر ثلاثة أدلة على نفي ذلك:
أحدها: كونه ليس له صاحبة، فهذا نفي الولادة المعهودة: وقوله: "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ" نفى للولادة العقلية، وهي التولد؛ لأن خلق كل شيء ينافى تولدها عنه. وقوله: "وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ" يشبه والله أعلم أن يكونَ لِمَا ادَّعَت النَّصَارَى أن المتحد به هو الكلمة التي يفسرونها بالعلم، والصابئة القائلون بالتولد والعلة، لا يجعلونه عالما بكل شيء ذكر أنه بكل شيء عليم، لإثبات هذه الصفة له، ردًا على الصابئة، ونفيها عن غيره ردًا على النصارى.
وإذا كان كذلك فقول من قال بتولد العقول والنفوس التي يزعمون أنها الملائكة أظهر في كونهم يقولون: إنه ولد الملائكة، وإنهم بنوه وبناته فالعقول بنوه، والنفوس بناته من قول النصارى.
ودخل في هذا من تفلسف من المنتسبة إلى الإسلام، حتى إني أعرف كبيرًا لهم سئل عن العقل والنفس فقال: بمنزلة الذكر والأنثى، فقد جعلهم كالابن والبنت، وهم يجعلونهم متولدين عنه تولد المعلول عن العلة، فلا يمكنه أن يفك ذاته عن معلوله ولا معلوله عنه، كما لا يمكنه أن يفصل نفسه عن نفسه، بمنزلة شعاع الشمس مع الشمس وأبلغ.
ج/ 2 ص -446-وهؤلاء يقولون: إن هذه الأرواح التي ولدها متصلة بالأفلاك الشمس والقمر والكواكب كاتصال اللاهوت بجسد المسيح، فيعبدونها كما عبدت النصارى المسيح، إلا أنهم أكفر من وجوه كثيرة، وهم أحق بالشرك من النصارى، فإنهم يعبدون ما يعلمون أنه منفصل عن الله وليس هو إياه، ولا صفة من صفاته، والنصارى يزعمون أنهم ما يعبدون إلا ما اتحد بالله، لا لما ولده من المعلولات.
ثم من عَبَدَ الملائكة والكواكب وأرواح البشر وأجسادهم، اتخذ الأصنام على صورهم وطبائعهم، فكان ذلك أعظم أسباب عبادة الأصنام.
ولهذا كان الخليل إمام الحنفاء مخاطبًا لهؤلاء الذين عبدوا الكواكب والشمس والقمر، والذين عبدوا الأصنام مع إشراكهم واعترافهم بأصل الجميع.
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير موضع، وأولئك هم الصابئون المشركون الذين ملكهم نمروذ. وعلماؤهم الفلاسفة من اليونانيين وغيرهم، الذين كانوا بأرض الشام والجزيرة والعراق وغيرها، وجزائر البحر قبل النصارى، وكانوا بهذه البلاد في أيام بني إسرائيل، وهم الذين كانوا يقاتلون بني إسرائيل، فيغلبون تارة ويُغلبون تارة، وسنحاريب وبختنصر ونحوهما: هم ملوك الصابئة بعد الخليل، والنمروذ الذي كان في زمانه.
ج/ 2 ص -447- فتبين بذلك ما في القرآن من الرد لمقالات المتقدمين قبل هذه الأمة والكفار والمنافقين فيها، من إثبات الولادة لله، وإن كان كثير من الناس لا يفهم دلالة القرآن على هذه المقالات؛ لأن ذلك يحتاج إلى شيئين: إلى تصور مقالتهم بالمعنى لا بمجرد اللفظ، وإلى تصور معنى القرآن، والجمع بينهما. فتجد المعنى الذي عنوه قد دل القرآن على ذكره وإبطاله.
وأما اتحاد الولد فيفسر بعين الولادة. وهو من باب الأفعال، لا من باب الصفات، كما يقوله طائفة من النصارى في المسيح.
ج/ 2 ص -448-فصل:
فهذا نفي كونه سبحانه والدًا لشيء، أو متخذا لشيء ولدًا، بأي وجه من وجوه الولادة، أو اتخاذ الولد أيا كان.
وأما نفي كونه مولودًا، فيتضمن نفي كونه متولدًا بأي نوع من التوالد من أحد من البشر وسائر ما تولد من غيره، فهو رد على من قال: المسيح هو الله، ورد على الدجال الذي يقول: إنه الله، ورد على من قال في بشر: إنه الله، من غالية هذه الأمة في علىٍّ وبعض أهل البيت، أو بعض المشايخ، كما قال قوم ذلك في على وطائفة من أهل البيت، وقالوه في الأنبياء أيضا، وقاله قوم في الحلاج، وقوم في الحاكم بمصر، وقوم في الشيخ عدي، وقوم في يونس العنيني، وقوم يعمونه في المشايخ، ويصوبون هذا كله.
فقوله سبحانه: "لم يولد" نفي لهذا كله، فإن هؤلاء كلهم مولودون، والله لم يولد ولهذا لما ذكر الله المسيح في القرآن قال: "ابن مريم" بخلاف سائر الأنبياء، كقوله: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ" [المائدة: 72]، وقوله: "مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ"[المائدة: 75]، وقوله:
ج/ 2 ص -449-"إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عليك وَعَلَى وَالِدَتِكَ"[المائدة: 110]، وقوله: "يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ [المائدة: 116]، وَقوله: "وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً" [المؤمنون: 50]، وقوله: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ" [النساء: 157].
وفي ذلك فائدتان:
إحداهما: بيان أنه مولود، والله لم يولد.
والثbانية: نسبته إلى مريم، بأنه ابنها ليس هو ابن الله.
وأما قوله: "لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ"الآية[النساء: 172]، وقوله: "وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ" [التوبة: 30]: فإنه حكى قولهم الذي قالوه، وهم قد نسبوه إلى الله أنه ابنه، فلم يضمِّنوا ذلك قولهم المسيح ابن مريم. وقوله: "وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ" [الإخلاص: 4] نفى للشركاء والأنداد، يدخل فيه كل من جعل شيئا كفوًا لله في شيء من خواص الربوبية، مثل خلق الخلق، والإلهية، كالعبادة له، ودعائه ونحو ذلك.
فهذه نكت، تبين اشتمال كتاب الله على إبطال قول من يعتقد في أحد من البشر الإلهية، باتحاد أو حلول أو غير ذلك.
ج/ 2 ص -450-فصل:
وأما هؤلاء الملاحدة: فإنهم لا يقتصرون في كفرهم على أنه ولد شيئا أو اتخذ ولدا، أو أنه بشر مولود ؛ لاتحاد الرب به.
فإن هذا جميعه يقتضي إثبات شيئين متميزين، اتحد أحدهما بالآخر أو حل فيه، وهذا إنما يقوله من يقول بالاتحاد الخاص المقيد، أو الحلول الخاص المقيد.
وهؤلاء عندهم ما ثم غيره، ولا سواه، ولم يخلق شيئا، ولا هو رب شيء ولا مالك شيء، ولا له عبد ولا عابد، ولا داع يدعوه فيجيبه، ولا مضطر يضطر إليه فيجيبه، ولا سائل يسأله فيجيبه، وإنما يشهد العبد هذه المعاني، إذا كان محجوبا عن شهود الوحدة المطلقة في خياله.
فإذا انكشف حجاب قلبه عندهم، رأى ما ثم اثنين بوجه من الوجوه، حتى يكون أحدهما خالقا والآخر مخلوقا، أو أحدهما عابدًا والآخر ربا، أو أحدهما والدًا والآخر مولودًا، أو أحدهما شريكا للآخر أو شفيعا عنده، حتى يتقرب بعبادته إليه.
ج/ 2 ص -451- وهذا قول الحذاق منهم، كالتلمساني، وابن الفارض. والتلمساني أعرف بحقائق قولهم.
وأما ابن عربي فيقول: هذا كله في الذوات الثابتة في العدم، لا في شيء موجود، فأما الوجود فلا يتصور أن يكون فيه رب وعبد، وخالق ومخلوق، وداع ومجيب، وإنما الوجود لما فاض على الأعيان فظهر فيها، حصل التفرق من جهة الأعيان، كتفرق النور في الزجاج، لاختلاف ألوانه.
فهؤلاء يرد عليهم القرآن في مواضع لا تحصى، وقصص الله التي قصها عن فرعون الذي هو رئيسهم: يتضمن الرد عليهم، فإن فرعون أنكر رب العالمين، وأن يكون لموسى إله يطلع إليه، ولم ينكر هذا الوجود الذي هو العالم.
وكذلك هؤلاء إنما يقرون بهذا الوجود الذي هو هذا العالم، فما ثم غيره عندهم، ويقولون: هو الله، وهو الإنسان الكبير.