ج/ 15 ص -111- سورة يوسف
وقال شيخ الإسلام رَحِمهُ الله :
فَصْل
قول يوسف ﷺ لما قالت له امرأة العزيز: "هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"[يوسف: 23]، المراد بربه فى أصح القولين هنا: سيده، وهو زوجها الذى اشتراه من مصر، الذى قال لامرأته: "أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا"[يوسف: 21]، قال الله تعالى: "وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"[يوسف: 21]
فلما وصى به امرأته فقال لها: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، قال يوسف: "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ"؛ ولهذا قال: إنَّهٍ لا يٍفًلٌحٍ بظَّالٌمٍون والضمير فى: إِنَّهُ معلوم بينهما، وهو سيدها
ج/ 15 ص -112- وأما قوله تعالى:"لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ"[يوسف: 24]، فهذا خبر من الله تعالى أنه رأى برهان ربه، وربه هو الله كما قال لصاحبى السجن: "ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ"[يوسف: 37]، وقوله: "رَبِّي" مثل قوله لصاحب الرؤيا: \ذًكٍرًنٌي عٌندّ رّبٌَك ، قال تعالى: "فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ"[يوسف: 24]، قيل: أنْسِىَ يوسف ذكر ربه، لَمَّا قال: "اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ"
وقيل: بل الشيطان أَنْسَى الذى نجا منهما ذكر ربه، وهذا هو الصواب،فإنه مطابق لقوله: "اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ"، قال تعالى: "فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ" والضمير يعود إلى القريب، إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك؛ ولأن يوسف لم ينس ذكر ربه، بل كان ذاكرًا لربه
وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه، وقال لهما: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"[يوسف: 39، 40]
وقال لهما قبل ذلك: "لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ" أى: فى الرؤيا
ج/ 15 ص -113- "إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا"، يعنى: التأويل "ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ"[يوسف: 37، 38]، فبذا يذكر ربه عز وجل فإن هذا مما علمه ربه؛ لأنه ترك ملة قوم مشركين لا يؤمنون بالله،وإن كانوا مقرين بالصانع ولا يؤمنون بالآخرة،واتبع ملة آبائه أئمة المؤمنين الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره إبراهيم وإسحاق ويعقوب،فذكر ربه ثم دعاهما إلى الإيمان بربه
ثم بعد هذا عبر الرؤيا فقال: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا الآية"[يوسف: 41]، ثم لما قضى تأويل الرؤيا قال للذى نجا منهما: "اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ"[يوسف: 42]، فكيف يكون قد أَنْسَى الشيطان يوسف ذكر ربه؟ وإنما أنسى الشيطان الناجى ذكر ربه، أى: الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه، وهو أن يذكر عنده يوسف والذين قالوا ذلك القول، قالوا: كان الأولى أن يتوكل على الله، ولا يقول: اذكرنى عند ربك، فلما نسى أن يتوكل على ربه جوزى بِلُبْثِه فى السجن بِضْعَ سنين
فيقال: ليس فى قوله: "اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ" ما يناقض التوكل، بل قد قال يوسف: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ"[يوسف: 40]، كما أن قول أبيه: "لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ"[يوسف: 67]، لم يناقض توكله، بل قال:
ج/ 15 ص -114- "وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ"[يوسف: 67]
وأيضًا، فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين، والمخلص لا يكون مخلصًا مع توكله على غير الله، فإن ذلك شرك، ويوسف لم يكن مشركًا لا فى عبادته ولا توكله، بل قد توكل على ربه فى فعل نفسه بقوله: "وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ" [يوسف: 33]، فكيف لا يتوكل عليه فى أفعال عباده
وقوله: "اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ، مثل قوله لربه: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ"[يوسف: 55]، فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هذا مناقضًا للتوكل، ولا هو من سؤال الإمارة المنهى عنه،فكيف يكون قوله للفتى: اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ مناقضًا لِلتَّوَكُّل وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به؛ ليعلم حاله ليتبين الحق، ويوسف كان من أثبت الناس
ولهذا بعد أن طلب: "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ"[يوسف: 50]، فيوسف يذكر ربه فى هذه الحال، كما ذكره فى تلك، ويقول: "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ" فلم يكن فى قوله له:
ج/ 15 ص -115- "اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ" ترك لواجب، ولا فعل لمحرم، حتى يعاقبه الله على ذلك بلبثه فى السجن بضع سنين، وكان القوم قد عزموا على حبسه إلى حين قبل هذا ظلمًا له، مع علمهم ببراءته من الذنب
قال الله تعالى: "ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ"[يوسف: 35]، ولبثه فى السجن كان كرامة من الله فى حقه؛ ليتم بذلك صبره وتقواه، فإنه بالصبر والتقوى نال ما نال؛ ولهذا قال: "أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"[يوسف: 90]، ولو لم يصبر ويتق، بل أطاعهم فيما طلبوا منه جزعًا من السجن، لم يحصل له هذا الصبر والتقوى، وفاته الأفضل باتفاق الناس
لكن تنازع العلماء، هل يمكن الإكراه على الفاحشة؟ على قولين:
قيل: لا يمكن، كقول أحمد بن حنبل وأبى حنيفة وغيرهما، قالوا: لأن الإكراه يمنع الانتشار
والثانى: يمكن، وهو قول مالك والشافعى، وابن عقيل، وغيره من أصحاب أحمد؛ لأن الإكراه لا ينافى الانتشار، فإن الإكراه لا ينافى كون الفعل اختيارًا، بل المكره يختار دفع أعظم الشَرَّيْنِ بالتزام
ج/ 15 ص -116- أدناهما وأيضًا، فالانتشار بلا فعل منه، بل قد يُقَيَّد ويُضْجَع فتباشره المرأة فتنتشر شهوته فتستدخل ذَكَرَهَ
فعلى قول الأولين: لم يكن يحل له ما طلبت منه بحال، وعلى القول الثانى: فقد يقال: الحبس ليس بإكراه يبيح الزنا، بخلاف ما لو غلب على ظنه أنهم يقتلونه أو يَتْلِفُون بعض أعضائه، فالنزاع إنما هو فى هذا، وهم لم يبلغوا به إلى هذا الحد، وإن قيل: كان يجوز له ذلك لأجل الإكراه لكن يفوته الأفضل
وأيضًا، فالإكراه إنما يحصل أول مرة ثم يباشر، وتبقى له شهوة وإرادة فى الفاحشة
ومن قال: الزنا لا يتصور فيه الإكراه، يقول: فرق بين ما لا فعل له كالمقيد وبين من له فعل، كما أن المرأة إذا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حتى فُعِلَ بها الفاحشة لم تأثم بالاتفاق، وإن أُكْرِهَتْ حتى زنت ففيه قولان: هما روايتان عن أحمد، لكن الجمهور يقولون : لا تأثم، وقد دل على ذلك قوله تعالى: "وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[النور: 33]، وهؤلاء يقولون: فعل المرأة لا يحتاج إلى انتشار، فإنما هو كالإكراه على شرب الخمر، بخلاف فعل الرجل، وبسط هذا له موضع آخر
ج/ 15 ص -117- والمقصود أن يوسف لم يفعل ذنبًا ذكره الله عنه، وهو سبحانه لا يذكر عن أحد من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر استغفاره منه، ولم يذكر عن يوسف استغفارًا من هذه الكلمة، كما لم يذكر عنه استغفارًا من مقدمات الفاحشة، فعلم أنه لم يفعل ذنبًا فى هذا ولا هذا، بل هَمَّ هما تركه لله، فَأُثِيْبَ عليه حسنة، كما قد بُسِطَ هذا فى موضعه
وأما ما يكفره الابتلاء من السيئات، فذلك جُوْزِىَ به صاحبه بالمصائب المكفرة، كما فى قوله ﷺ: " ما يُصيِبُ المؤمن من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حزن، ولا غَمٍّ ولا أذى، إلا كَفَّر الله به خطاياه"، ولما أنزل الله تعالى هذه الآية: "مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ"[النساء: 123]، قال أبو بكر: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، وَأَىُّنَا لم يعمل سوءًا؟ فقال: "ألست تحزن؟ ألست تنصب؟ ألست تُصِيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به" [واللأواء: الشدة وضيق المعيشة]
فتبين أن قوله: "فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ"، أى: نسى الفتى ذكر ربه أن يذكر هذا لربه، ونسى ذكر يوسف ربه، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، ويوسف قد ذكر ربه، ونسى الفتى ذكر يوسف ربه، وأنساه الشيطان أن يذكر ربه هذا الذكر الخاص، فإنه وإن كان يسقى ربه خمرًا، فقد لا يخطر هذا الذكر بقلبه، وأنساه
ج/ 15 ص -118- الشيطان تذكير ربه، وإذكار ربه لما قال: اذْكُرْنِي، أمره بإذكار ربه، فأنساه الشيطان إذكار ربه، فإذكار ربه أن يجعله ذاكرًا،فأنساه الشيطان أن يجعل ربه ذاكرا ليوسف، والذكر هو مصدر، وهو اسم، فقد يضاف من جهة كونه اسمًا،فيعم هذا كله،أى: أنساه الذكر المتعلق بربه، والمضاف إليه
ومما يبين أن الذى نسى ربه هو الفتى لا يوسف قوله بعد ذلك: "وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ"[يوسف: 45]،وقوله : "وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ"، دليل على أنه كان قد نسى فادكر
فإن قيل: لا رَيْب أن يوسف سَمَّى السيد رَبا فى قوله: "اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ وارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ" ونحو ذلك، وهذا كان جائزًا فى شرعه،كما جاز فى شرعه أن يسجد له أبواه وإخوته، وكما جاز فى شرعه أن يؤخذ السارق عبدًا، وإن كان هذا منسوخًا فى شرع محمد ﷺ
وقوله: "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ"[يوسف: 23]، إن أراد به السيد فلا جناح عليه، لكن معلوم أن ترك الفاحشة خوفًا لله واجب ولو رضى سيدها، ويوسف عليه السلام تركها خوفًا من الله "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ"،
ج/ 15 ص -119-قال تعالى: "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ"[يوسف: 24]، وقال يوسف أيضًا "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"[يوسف: 33، 34]، فدل على أنه كان معه من خوف الله ما يزعه عن الفاحشة، ولو رضى بها الناس، وقد دعا ربه عز وجل أن يصرف عنه كَيْدَهُنَّ
وقوله: "السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ" بصيغة جمع التذكير، وقوله: "كَيْدَهُنَّ" بصيغة جمع التأنيث، ولم يقل: مما يدعيننى إليه، دليل على الفرق بين هذا وهذا، وأنه كان من الذكور من يدعوه مع النساء إلى الفاحشة بالمرأة، وليس هناك إلا زوجها، وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة، أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها؛ ولهذا لما اطَّلَعَ على مراودتها قال: "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ"[يوسف: 29]، فلم يعاقبها، ولم يفرق بينها وبين يوسف، حتى لا تتمكن من مراودته، وأمر يوسف ألا يذكر ما جرى لأحد محبة منه لامرأته، ولو كان فيه غِيْرَة لعاقب المرأة
ومع هذا، فشاعت القصة واطَّلَعَ عليها الناس من غير جهة يوسف، حتى تحدثت بها النسوة فى المدينة، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه، ومع هذا: ف "أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا"[يوسف: 31]،
ج/ 15 ص -120-وأمرت يوسف أن يخرج عليهن؛ ليقمن عذرها على مراودته، وهى تقول لهن: "فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ"[يوسف: 23]
وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته، والخلوة به، مع علم الزوج بما جرى، وهذا من أعظم الدِّياثة" [الدياثة: الرجل الذى لا غيرة له على أهله]، ثم إنه لما حُبِسَ فإنما حبس بأمرها، والمرأة لا تتمكن من حبسه إلا بأمر الزوج، فالزوج هو الذى حبسه وقد روى أنها قالت: هذا القِبْطِىُّ هتك عرضى فحبسه، وحبسه لأجل المرأة معاونة لها على مطلبها لِديَاثَتِهِ، وقلة غيرته، فدخل هو فى من دعا يوسف إلى الفاحشة
فعلم أن يوسف لم يترك الفاحشة لأجله، ولا لخوفه منه، بل قد علم يقينًا أنه لم يكن يخاف منه، وأن يوسف لو أعطاها ما طلبت،لم يكن الزوج يدرى،ولو درى فلعله لم يكن ينكر؛ فإنه قد درى بالمراودة والخُلْوَةَ التى هى مقتضية لذلك فى الغالب فلم ينكر، ولو قدر أنه هَمَّ بعقوبة يوسف فكانت هى الحاكمة على الزوج القاهرة له وقد قال النبى ﷺ: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"، ولما راجعنه فى إمامة الصديق قال: "إنكن لأنتن صواحب يوسف"، ولما أنشده الأعشى:
ج/ 15 ص -121- وهن شر غالب لمن غلب
استعاد ذلك منه وقال: وهن شَرُّ غالب لمن غلب فكيف لا تغلب مثل هذا الزوج وتمنعه من عقوبة يوسف؟ وقد عهد الناس خلقًا من الناس تغلبهم نساؤهم، من نساء التتر وغيرهم، يكون لامرأته غرض فاسد فى فتاه، أو فتاها، وتفعل معه ما تريد، وإن أراد الزوج أن يكشف أو يُعَاقِب منعته ودفعته، بل وأهانته وفتحت عليه أبوابًا من الشر بنفسها، وأهلها وحَشَمِهَا، والمطالبة بصداقها وغير ذلك، حتى يتمنى الرجل الخلاص منها رأسًا برأس، مع كون الرجل فيه غيرة فكيف مع ضعف الغيرة؟!
فهذا كله يبين أن الداعى ليوسف إلى ترك الفاحشة كان خوف الله لا خوفًا من السيد؛ فلهذا قال: "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"[يوسف: 23]، قيل: هذا مما يبين محاسن يوسف، ورعايته لحق الله وحق المخلوقين، ودفعه الشر بالتى هى أحسن، فإن الزنا بامرأة الغير فيه حقان مانعان، كل منهما مستقل بالتحريم
فالفاحشة حرام لحق الله ولو رضى الزوج، وظلم الزوج فى امرأته حرام لحقه، بحيث لو سقط حق الله بالتوبة منه فحق هذا فى امرأته لا يسقط، كما لو ظلمه وأخذ ماله وتاب من حق الله، لم يسقط
ج/ 15 ص -122- حق المظلوم بذلك؛ ولهذا جاز للرجل إذا زنت امرأته أن يقذفها ويلاعنها، ويسعى فى عقوبتها بالرجم، بخلاف الأجنبى، فإنه لا يجوز له قذفها ولا يلاعن، بل يُحَدُ إذا لم يأت بأربعة شهداء، فإفساد المرأة على زوجها من أعظم الظلم لزوجها، وهو عنده أعظم من أخذ ماله
ولهذا يجوز له قتله دفعًا عنها باتفاق العلماء، إذا لم يندفع إلا بالقتل بالاتفاق، ويجوز فى أظهر القولين قتله وإن اندفع بدونه، كما فى قصة عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما أتاه رجل بيده سيف فيه دم، وذكر أنه وجد رجلا تفخذ امرأته فضربه بالسيف، فأقره عمر على ذلك وشكره، وقَبِلَ قوله أنه قتله لذلك إذ ظهرت دلائل ذلك
وهذا كما لو اطلع رجل فى بيته، فإنه يجوز له أن يَفْقأ عينه ابتداء، وليس عليه أن ينذره، هذا أصح القولين، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى ﷺ أنه قال: "لو اطلع رجل فى بيتك ففقأت عينه ما كان عليك شىء"، وكذلك قال فى الذى عض يد غيره فنزع يده فانقلعت أسنان العاض
وهذا مذهب فقهاء الحديث، وأكثر السلف، وفى المسألتين نزاع ليس هذا موضعه، إذ المقصود أن الزانى بامرأة غيره ظالم للزوج، وللزوج حق عنده؛ ولهذا ذكر النبى ﷺ أن من
ج/ 15 ص -123- زنى بامرأة المجاهد؛ فإنه يُمَكَّن يوم القيامة من حسناته يأخذ منها ما شاء
وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل الله ندًا وهو خلقك"، قلت: ثم أى؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يُطْعَمَ معك"، قلت: ثم أى؟ قال: "أن تزانى بحَليلَة جَارِكَ" فذكر الزنا بحليلة الجار، فعلم أن للزوج حقًا فى ذلك، وكان ظلم الجار أعظم؛ للحاجة إلى المجاورة
وإن قيل: هذا قد لا يُمَكِّن زوج المرأة أن يحترز منه،والجار عليه حق زائد على حق الأجنبى، فكيف إذا ظلم فى أهله والجيران يأمن بعضهم بعضًا، ففى هذا من الظلم أكثر مما فى غيره، وجاره يجب عليه أن يحفظ امرأته من غيره، فكيف يفسدها هو
فلما كان الزنا بالمرأة المزوجة له علتان كل منهما تستقل بالتحريم، مثل لحم الخنزير الميت، عَلَّلَ يوسف ذلك بحق الزوج، وإن كان كل من الأمرين مانعًا له، وكان فى تعليله بحق الزوج فوائد:
منها: أن هذا مانع تعرفه المرأة وتعذره به، بخلاف حق الله تعالى فإنها لا تعرف عقوبة الله فى ذلك
ومنها: أن المرأة قد ترتدع بذلك، فترعى حق زوجها، إما
ج/ 15 ص -124- خوفًا وإما رعاية لحقه، فإنه إذا كان المملوك يمتنع عن هذا رعاية لحق سيده؛ فالمرأة أولى بذلك؛ لأنها خائنة فى نفس المقصود منها، بخلاف المملوك، فإن المطلوب منه الخدمة، وفاحشته بمنزلة سرقة المرأة من ماله
ومنها: أن هذا مانع مُؤْْيس لها فلا تطمع فيه لا بنكاح ولا بِسِفَاح، بخلاف الخَلِىَّة من الزوج، فإنها تطمع فيه بنكاح حلال
ومنها : أنه لو علل بالزنا فقد تسعى هى فى فراق الزوج، والتزوج به، فإن هذا إنما يحرم لحق الزوج خاصة ؛ ولهذا إذا طلقت امرأته باختياره جاز لغيره أن يتزوجها، ولو طلقها ليتزوج بها كما قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عَوْف ٍ: إن لى امرأتين فاختر أيتهما شئت حتى أطلقها وتتزوجها لكنه بدون رضاه لا يحل، كما فى المسند عن النبى ﷺ أنه قال: " ليس مِنَّا من خَبَّبَ امرأة على زوجها، ولا عبدًا على مواليه" [قوله: خَبَّب: أى خدع وأفسد]، وقد حَرَّمَ النبي ﷺ أن يَخْطِب الرجل على خِطْبَة أخيه، ويَسْتَام على سَوْمِ أخيه، فإذا كان بعد الخِطْبَةِ وقبل العقد لا يحل له أن يطلب التزوج بامرأته فكيف بعد العقد، والدخول والصحبة ؟ !
فلو علل بأن هذا زنا مَحَرَّم ربما طمعت فى أن تفارق الزوج وتتزوجه، فإن كَيْدَهُنَّ عظيم، وقد جرى مثل هذا فلما علل بحق
ج/ 15 ص -125- سيده وقال: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، يئست من ذلك، وعلمت أنه يراعى حق الزوج، فلا يزاحمه فى امرأته البتة، ثم لو قدر مع هذا أن الزوج رضى بالفاحشة وأباح امرأته، لم يكن هذا مما يبيحها لحق الله ولحقه أيضًا فإنه ليس كل حق للإنسان له أن يسقطه، ولا يسقط بإسقاطه، وإنما ذاك فيما يباح له بذله، وهو ما لا ضرر عليه فى بذله، مثل ما يعطيه من فضل مال ونفع
وأما ما ليس له بذله فلا يباح بإباحته، كما لو قال له: علمنى السحر والكفر والكهانة، وأنت فى حل من إضلالى، أو قال له: بِعْنى رقيقًا وخذ ثمنى، وأنت فى حل من ذلك
وكذلك إذا قال: افعل بى أو بابنتى أو بامرأتى أو بإمائى الفاحشة، لم يكن هذا مما يسقط حقه فىه بإباحته، فإنه ليس له بذل ذلك، ومعلوم أن الله يعاقبها على الفاحشة وإن تراضيا بها، لكن المقصود أن فى ذلك أيضًا ظلمًا لهذا الشخص لا يرتفع بإباحته، كظلمه إذا جعله كافرًا أو رقيقًا، فإن كونه يفعل به الفاحشة أو بأهله، فيه ضرر عليه لا يملك إباحته؛ كالضرر عليه فى كونه كافرًا، وهو كما لو قال له: أَزِلْ عقلى وأنت فى حل من ذلك؛ فإن الإنسان لا يملك بذل ذلك، بل هو ممنوع من ذلك، كما يمنع السفيه من التصرف فى ماله، أو إسقاط حقوقه، وكذلك المجنون والصغير؛ فإن هؤلاء محجور عليهم لحقهم
ج/ 15 ص -126- ولهذا لو أذن له الصبى أو السفيه فى أخذ ماله لم يكن له ذلك، ومن أذن لغيره فى تَكْفِيرهِ أو تَجْنِيِنه أو تَخْنِيثِهِ والإفحاش به وبأهله،فهو من أَسْفه السفهاء، وهذا مثل الربا،فإنه وإن رضى به المرابى وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك؛لما فيه من ظلمه؛ ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة، ولا يعطيه إلا رأس ماله، وإن كان قد بذله باختياره،ولو كان التحريم لمجرد حق الله تعالى لسقط برضاه، ولو كان حقه إذا أسقطه سقط لما كان له الرجوع فى الزيادة، والإنسان يحرم عليه قتل نفسه أعظم مما يحرم عليه قتل غيره، فلو قال لغيره: اقتلنى لم يملك منه أعظم مما يملك هو من نفسه
ولهذا يوم القيامة يتظلم من الأكابر، وهم لم يكرهوهم على الكفر، بل باختيارهم كفروا قال تعالى: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا"[الأحزاب: 66 68]، وقال: "حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ"[الأعراف: 38]، وقال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ"[فصلت: 29]
وكذلك الناس يلعنون الشيطان، وإن كان لم يكرههم على الذنوب،
ج/ 15 ص -127- بل هم باختيارهم أذنبوا
فإن قيل: هؤلاء يقولون لشياطين الإنس والجن: نحن لم نكن نعلم أن فى هذا علينا ضررًا، ولكن أنتم زينتم لنا هذا وحَسَّنْتُمُوهُ حتى فعلناه، ونحن كنا جاهلين بالأمر قيل: كما نعلم أن الجاهل بما عليه فى الفعل من الضرر لا عبرة برضاه وإذنه، وإنما يصح الرضاء والإذن ممن يعلم ما يأذن فيه ويرضى به، وما كان على الإنسان فيه ضرر راجع لا يرضى به إلا لعدم علمه، وإلا فالنفس تمتنع بذاتها من الضرر الراجع
ولهذا كان من اشترى المعيب والمدلس والمجهول السعر ولم يعلم بحاله غير راض به، بل له الفسخ بعد ذلك؛ كذلك الكفر والجنون والفاحشة بالأهل، لا يرضى بها إلا من لم يعلم بما فيها من الضرر عليه، فإذا أذن فيها لم يسقط حقه،بل يكون مظلومًا، ولو قال: أنا أعلم ما فيها من العقاب وأرضى به كان كذبًا، بل هو من أجهل الناس بما يقوله
ولهذا لو تكلم بكلام لا يفهم معناه، وقال: نويت موجبه عند الله، لم يصح ذلك فى أظهر القولين؛ مثل أن يقول: "بهشم" ولا يعرف معناها، أو يقول: أنت طالق إن دخلت الدار وينوى موجبها
ج/ 15 ص -128- من العربية، وهو لا يعرف ذلك؛ فإن النية والقصد والرضا مشروط بالعلم، فما لم يعلمه لا يرضى به، إلا إذا كان راضيًا به مع العلم، ومن كان يرضى بأن يُكَفَّر ويُجَنَّ وتُفْعَل الفاحشة به وبأهله، فهو لا يعلم ما عليه فى ذلك من الضرر، بل هو سفيه، فلا عبرة برضاه وإذنه، بل له حق عند من ظلمه وفعل به ذلك غير ما لله من الحق، وإن كان حق هذا دون حق المنكر المانع
ولهذا قال يوسف عليه السلام : "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"[يوسف: 23]، يقول: متى أفسدت امرأته كنت ظالمًا بكل حال، وليس هذا جزاء إحسانه إلى
والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضًا، وإن كانوا فعلوه بتراضيهم، قال طاوس: ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلا تفرقا عن تقال، وقال الخليل عليه السلام: "إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ"[العنكبوت: 25]، وهؤلاء لا يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضًا لمجرد كونه عصى الله، بل لما حصل له بمشاركته ومعاونته من الضرر وقال تعالى عن أهل الجنة التى أصبحت كالصَّرِيم: "فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ"[القلم: 30]، أى: يلوم بعضهم بعضًا، وقال: "الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ"[الزخرف: 67]
ج/ 15 ص -129-فالمُخَالّة [أى: الصداقة، بالفتح، والضم لغة] إذا كانت على غير مصلحة الاثنين؛ كانت عاقبتها عدواة، وإنما تكون على مصلحتهما إذا كانت فى ذات الله، فكل منهما وإن بذل للآخر إعانة على ما يطلبه واستعان به بإذنه فيما يطلبه، فهذا التراضى لا اعتبار به، بل يعود تباغضًا وتعاديا وتلاعنًا، وكل منهما يقول للآخر: لولا أنت ما فعلت أنا وحدى هذا، فَهَلاكِى كان منى ومنك
والرب لا يمنعهما من التباغض والتعادى والتلاعن، فلو كان أحدهما ظالمًا للآخر فيه لنهى عن ذلك، ويقول كل منهما للآخر: أنت لأجل غرضك أوقعتنى فى هذا، كالزانيين كل منهما يقول للآخر: لأجل غرضك فعلتَ معى هذا، ولو امتنعتَ لم أفعل أنا هذا، لكن كل منهما له على الآخر مثل ما للآخر عليه؛ فتعادلا
ولهذا إذا كان الطلب والمراودة من أحدهما أكثر، كان الآخر يتظلمه ويلعنه أكثر، وإن تساويا فى الطلب تقاوما، فإذا رضى الزوج بالدياثة فإنما هو لإرضاء الرجل أو المرأة لغرض له آخر، مثل أن يكون محبًا لها، ولا تقيم معه إلا على هذا الوجه، فهو يقول للزانى بها: أنت لغرضك أفسدت على امرأتى، وأنا إنما رضيت لأجل غرضها، فأنت لما أفسدت على امرأتى وظلمتنى فعلت معى ما فعلت
ج/ 15 ص -130- ومن ذلك أنه لو قال: إنى أخاف الله أن يعاقبنى ونحو ذلك؛ لقالت: أنت إنما تترك غرضى لغرضك فى النجاة، وأنا سيدتك، فينبغى أن تقدم غرضى على غرضك، فلما قال: "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" علل بحق سيده الذى يجب عليه وعليها رعاية حقه
فَصْل
وفى قول يوسف: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"[يوسف: 33] عبرتان:
إحداهما: اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصى
والثانىة: طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه، ويصرفه إلى طاعته، وإلا فإذا لم يثبت القلب، وإلا صَبَا إلى الآمرين بالذنوب، وصار من الجاهلين
ففى هذا توكل على الله، واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان والطاعة، وفيه صبر على المحنة والبلاء والأذى الحاصل إذا ثبت على الإيمان والطاعة
ج/ 15 ص -131- إذا كقول موسى عليه السلام لقومه: "اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ؛ لما قال فرعون: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"[الأعراف: 127، 128]
وكذلك قوله: "وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"[النحل: 41، 42]
ومنه قول يوسف عليه السلام : "فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"[يوسف: 90]، وهو نظير قوله: "وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا"[آل عمران: 120]، وقوله: "وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ"[آل عمران: 186]، وقوله: "بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ"[آل عمران: 125]
فلابد من التقوى بفعل المأمور والصبر على المقدور، كما فعل يوسف عليه السلام : اتقى الله بالعفة عن الفاحشة، وصبر على أذاهم له بالمراودة والحبس، واستعان الله ودعاه، حتى يثبته على العفة فتوكل عليه أن يصرف عنه كيدهن، وصبر على الحبس
ج/ 15 ص -132- وهذا كما قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ"[العنكبوت: 10]،وكما قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ"[الحج: 10 13]، فإنه لابد من أذى لكل من كان فى الدنيا،فإن لم يصبر على الأذى فى طاعة الله، بل اختار المعصية،كان ما يحصل له من الشر أعظم مما فر منه بكثير "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ"[التوبة: 49]
ومن احتمل الهوان والأذى فى طاعة الله على الكرامة والعز فى معصية الله، كما فعل يوسف عليه السلام وغيره من الأنبياء والصالحين، كانت العاقبة له فى الدنيا والآخرة، وكان ما حصل له من الأذى قد انقلب نعيمًا وسرورًا، كما أن ما يحصل لأرباب الذنوب من التنعم بالذنوب ينقلب حزنًا وثبورًا
فيوسف ﷺ خاف الله من الذنوب، ولم يخف من أذى الخلق وحَبْسِهِم إذ أطاع الله، بل آثر الحبس والأذى مع الطاعة على الكرامة والعز وقضاء الشهوات، ونيل الرياسة والمال مع المعصية، فإنه لو وافق امرأة العزيز نال الشهوة، وأكرمته المرأة بالمال والرياسة،
ج/ 15 ص -133- وزوجها فى طاعتها، فاختار يوسف الذل والحبس، وترك الشهوة والخروج عن المال والرياسة، مع الطاعة على العز والرياسة والمال وقضاء الشهوة مع المعصية
بل قدم الخوف من الخالق على الخوف من المخلوق، وإن آذاه بالحبس والكذب فإنها كذبت عليه؛ فزعمت أنه راودها ثم حبسته بعد ذلك
وقد قيل: إنها قالت لزوجها: إنه هتك عرضى لم يمكنها أن تقول له: راودنى، فإن زوجها قد عرف القصة، بل كذبت عليه كذبة تروج على زوجها، وهو أنه قد هتك عرضها بإشاعة فعلها، وكانت كاذبة على يوسف لم يذكر عنها شىئًا، بل كذبت أولاً وآخرًا، كذبت عليه بأنه طلب الفاحشة، وكذبت عليه بأنه أشاعها، وهى التى طالبت وأشاعت، فإنها قالت للنسوة: "فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ"[يوسف: 32]، فهذا غاية الإشاعة لفاحشتها لم تستر نفسها
والنساء أعظم الناس إخبارًا بمثل ذلك، وهن قبل أن يَسْمَعْنَ قولها قد قُلْنَ فى المدينة: "امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ"[يوسف: 30]، فكيف إذا اعترفت بذلك وطلبت رفع الملام عنها؟
ج/ 15 ص -134- وقد قيل: إنهن أعنَّها فى المراودة، وعذلنه على الامتناع، ويدل على ذلك قوله: "وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ"[يوسف: 33]، وقوله "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ"[يوسف: 50]، فدل على أن هناك كيدًا مَنْهُنَّ، وقد قال لَهُنَّ الملك: "مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ"[يوسف: 51]، فهن لم يراودنه لأنفسهن، إذ كان ذلك غير ممكن، وهو عند المرأة فى بيتها وتحت حجرها، لكن قد يكنَّ أعنَّ المرأة على مطلوبها
وإذا كان هذا فى فعل الفاحشة؛ فغيرها من الذنوب أعظم، مثل الظلم العظيم للخلق، كقتل النفس المعصومة، ومثل الإشراك بالله، ومثل القول على الله بلا علم قال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"[الأعراف: 33]، فهذه أجناس المحرمات التى لا تباح بحال، ولا فى شريعة، وما سواها وإن حرم فى حال فقد يباح فى حال
ج/ 15 ص -135-فصل
واختيار النبي ﷺ له ولأهله الاحتباس في شعب بني هاشم بضع سنين، لا يبَايعُون ولا يشَارون؛ وصبيانهم يتَضَاغُون من الجوع، قد هجرهم وقَلاهُم قومهم، وغير قومهم هذا أكمل من حال يوسف عليه السلام
فإن هؤلاء كانوا يدعون الرسول إلى الشرك، وأن يقول على اللّه غير الحق يقول: ما أرسلني ولا نهي عن الشرك، وقد قال تعالى: "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً"[الإسراء: 73 77]
وكان كذب هؤلاء على النبي ﷺ أعظم من الكذب على يوسف؛ فإنهم قالوا: إنه ساحر، وإنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه
ج/ 15 ص -136- مُفْتَر وكل واحدة من هؤلاء أعظم من الزنا والقذف؛ لا سيما الزنا المستور الذي لا يدري به أحد فإن يوسف كذب عليه في أنه زني، وأنه قذفها وأشاع عنها الفاحشة؛ فكان الكذب على النبي ﷺ أعظم من الكذب على يوسف
وكذلك الكذب على أولي العزم، مثل نوح وموسي، حيث يقال عن الواحد منهم: إنه مجنون، وإنه كَذَّاب، يكذب على اللّه، وما لقي النبي ﷺ وأصحابه من أذى المشركين أعظم من مجرد الحبس، فإن يوسف حُبِسَ وسُكِت عنه، والنبي ﷺ وأصحابه كانوا يؤذون بالأقوال والأفعال مع منعهم من تصرفاتهم المعتادة
وهذا معنى الحبس، فإنه ليس المقصود بالحبس سكناه في السجن، بل المراد منعه من التصرف المعتاد والنبي ﷺ لم يكن له حبس، ولا لأبي بكر، بل أول من اتخذ السجن عمر، وكان النبي ﷺ يسَلِّمُ الغريم إلى غريمه، ويقول: "ما فعل أسيرك؟"، فيجعله أسيراً معه، حتى يقضيه حقه، وهذا هو المطلوب من الحبس
والصحابة رضي اللّه عنهم منعوهم من التصرف بمكة أذى لهم، حتى خرج كثير منهم إلى أرض الحبشة، فاختاروا السكنى بين أولئك النصارى عند ملك عادل على السكنى بين قومهم، والباقون
ج/ 15 ص -137- أُخرجوا من ديارهم وأموالهم أيضاً مع ما آذوهم به، حتى قتلوا بعضهم، وكانوا يضربون بعضهم ويمنعون بعضهم ما يحتاج إليه، ويضعون الصخرة على بطن أحدهم في رَمْضَاء [الرَّمْضَاء: الحجارة الحامية من حر الشمس] مكة، إلى غير ذلك من أنواع الأذي
وكذلك المؤمن من أمة محمد ﷺ يختار الأذى في طاعة اللّه على الإكرام مع معصيته، كأحمد بن حنبل اختار القيد والحبس والضرب على موافقة السلطان وجنده، على أن يقول على اللّه غير الحق في كلامه، وعلى أن يقول ما لا يعلم أيضاً فإنهم كانوا يأتون بكلام يعرف أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو باطل، وبكلام مجمل يحتاج إلى تفسير، فيقول لهم الإمام أحمد: ما أدري ما هذا؟ فلم يوافقهم على أن يقول على اللّه غير الحق، ولا على أن يقول على اللّه ما لا يعلم
ج/ 15 ص -138- "وقال شيخ الإسلام رحمه الله بعد كلام" [هكذا بالأصل]" [ما بين المعقوفتين مستفاد من محقق التفسير الكبير لابن تيمية ؛ الدكتور عبد الرحمن عميرة 583، وفي النسخة التي حققها الدكتور محمد الجليند جاء النص هكذا: "قال شيخ الإسلام رحمه الله: ثم إن يوسف" انظر: 3274وقول ابن تيمية بعد ذلك بقليل: " الوجه السادس " ينبئ بوجود سقط من الأصل] [يهم أحدهم] بالذنب فيذكر مقامه بين يدي اللّه فيدعه، فكان يوسف ممن خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى
ثم إن يوسف عليه الصلاة والسلام كان شابا عزبًا أسيرا في بلاد العدو، حيث لم يكن هناك أقارب أو أصدقاء، فيستحي منهم إذا فعل فاحشة، فإن كثيراً من الناس يمنعه من مواقعة القبائح حياؤه ممن يعرفه، فإذا تغرب فعل ما يشتهيه، وكان أيضاً خاليا لا يخاف مخلوقا، فحكم النفس الأمارة لو كانت نفسه كذلك أن يكون هو المتعرض لها، بل يكون هو المتحيل عليها، كما جرت به عادة كثير ممن له غرض في نساء الأكابر إن لم يتمكن من الدعوة ابتداء فأما إذا دعي ولو كانت الداعية خدامة؛ لكان أسرع مجيب، فكيف إذا كانت الداعية سيدته الحاكمة عليه، التي يخاف الضرر بمخالفتها ؟!
ثم إن زوجها الذي عادته أن يزجر المرأة لم يعاقبها، بل أمر
ج/ 15 ص -139- يوسف بالإعراض، كما ينْعَرُ الديوث، ثم إنها استعانت بالنساء وحبسته، وهو يقول: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ"[يوسف: 33]
فليتدبر اللبيب هذه الدواعي التي دعت يوسف إلى ما دعته، وأنه مع توفرها وقوتها، ليس له عن ذلك صارف إذا فعل ذلك، ولا من ينجيه من المخلوقين؛ ليتبين له أن الذي ابتلي به يوسف كان من أعظم الأمور، وأن تقواه وصبره عن المعصية حتى لا يفعلها مع ظلم الظالمين له، حتى لا يجيبهم كان من أعظم الحسنات وأكبر الطاعات، وإن نفس يوسف عليه الصلاة والسلام كانت من أزكى الأنفس، فكيف أن يقول: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ"[يوسف: 53] واللّه يعلم أن نفسه بريئة ليست أمَّارة بالسوء، بل نفس زكية من أعظم النفوس زكاء، والهَمُّ الذي وقع كان زيادة في زكاء نفسه وتقواها، وبحصوله مع تركه للّه لتثبت له به حسنة من أعظم الحسنات التي تزكي نفسه
الوجه السادس: أن قوله: "ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ"[يوسف: 52]، إذا كان معناه على ما زعموه: أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته على قول أكثرهم، أو ليعلم الملك أو ليعلم اللّه لم يكن هنا ما يشار إليه، فإنه لم يتقدم من يوسف كلام يشير به إليه،ولا تقدم
ج/ 15 ص -140- أيضاً ذكر عفافه واعتصامه؛ فإن الذي ذكره النسوة قولهن: "مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ"[يوسف: 51]، وقول امرأة العزيز: "أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ"[يوسف: 51]، وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أولا، ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو
فقول القائل: إن قوله: ذلك من قول يوسف مع أنه لم يتقدم منه هنا قول ولا عمل لا يصح بحال
الوجه السابع: أن المعنى على هذا التقدير لو كان هنا ما يشار إليه من قول يوسف أو عمله : إن عفتي عن الفاحشة كان ليعلم العزيز أني لم أخنه، ويوسف عليه الصلاة والسلام إنما تركها خوفا من اللّه، ورجاء لثوابه، ولعلمه بأن اللّه يراه؛ لا لأجل مجرد علم مخلوق قال اللّه تعالى: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ"[يوسف: 24]، فأخبر أنه رأي برهان ربه، وأنه من عباده المخلصين
ومن ترك المحرمات ليعلم المخلوق بذلك لم يكن هذا لأجل برهان من ربه، ولم يكن بذلك مخلصاً؛ فهذا الذي أضافوه إلى يوسف إذا فعله آحاد الناس لم يكن له ثواب من اللّه، بل يكون ثوابه على من عمل لأجله
ج/ 15 ص -141- فإن قيل: فقد قال يوسف أولا: "إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ"[يوسف: 23]
قيل: إن كان مراده بذلك سيده، فالمعنى: أنه أحسن إلي، وأكرمني، فلا يحل لي أن أخونه في أهله، فإني أكون ظالما ولا يفلح الظالم، فترك خيانته في أهله خوفا من اللّه لا ليعلم هو بذلك
فإن قيل: مراده تأتي إظهار براءتي ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب، فالمعلل إظهار براءته لا نفس عفافه
قيل: لم يكن مراده بإظهار براءته مجرد علم واحد، بل مراده علم الملك وغيره؛ ولهذا قال للرسول: "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ"[يوسف: 50]، ولو كان هذا من قول يوسف لقال: ذلك ليعلموا أني بريء وأني مظلوم
ثم هذا لا يليق أن يذكر عن يوسف؛ لأنه قد ظهرت براءته، وحصل مطلوبه، فلا يحتاج أن يقول ذلك لتحصيل ذلك، وهم قد علموا أنه إنما تأخر لتظهر براءته، فلا يحتاج مثل هذا أن ينطق به
ج/ 15 ص -142- الوجه الثامن: أن الناس عادتهم في مثل هذا يعرفون بما عملوه من لذلك عنده قدر، وهذا يناسب لو كان العزيز غيوراً، وللعفة عنده جزاء كثير، والعزيز قد ظهر عنه من قلة الغيرة وتمكين امرأته من حبسه مع الظالمين مع ظهور براءته؛ ما يقتضي أن مثل هذا ينبغي في عادة الطباع أن يقابل على ذلك بمواقعة أهله، فإن النفس الأمارة تقول في مثل هذا: هذا لم يعرف قدر إحساني إليه، وصوني لأهله،وكف نفسي عن ذلك، بل سلِّطها ومكِّنها
فكثير من النفوس لو لم يكن في نفسها الفاحشة إذا رأت من حاله هذا تفعل الفاحشة، إما نكاية فيه ومجازاة له على ظلمه، وإما إهمالا له لعدم غيرته وظهور دياثته، ولا يصبر في مثل هذا المقام عن الفاحشة إلا من يعمل للّه خائفاً منه، وراجياً لثوابه، لا من يريد تعريف الخلق بعمله
الوجه التاسع: أن الخيانة ضد الأمانة، وهما من جنس الصدق والكذب؛ ولهذا يقال: الصادق الأمين، ويقال: الكاذب الخائن وهذا حال امرأة العزيز؛ فإنها لو كذبت على يوسف في مغيبه وقالت: راودني؛ لكانت كاذبة وخائنة، فلما اعترفت بأنها هي المراودة،كانت صادقة في هذا الخبر أمينة فيه؛ ولهذا قالت: "وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ" فأخبرت بأنه صادق في تبرئته نفسه دونها
ج/ 15 ص -143- فأما فعل الفاحشة فليس من باب الخيانة والأمانة، ولكن هو باب الظلم والسوء والفحشاء، كما وصفها اللّه بذلك في قوله تعإلى عن يوسف: "مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" ولم يقل هنا: الخائنين، ثم قال تعالى: "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ،" ولم يقل: لنصرف عنه الخيانة؛ فليتدبر اللبيب هذه الدقائق في كتاب اللّه تعإلى
الوجه العاشر: أن في الكلام المحكي الذي أقره اللّه تعالى: "إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي"[يوسف: 53]، وهذا يدل على أنه ليس كل نفس أمارة بالسوء، بل ما رحم ربي ليس فيه النفس الأمارة بالسوء
وقد ذكر طائفة من الناس أن النفس لها ثلاثة أحوال: تكون أمارة بالسوء، ثم تكون لوامة، أي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، أو تتلوم فتتردد بين الذنب والتوبة، ثم تصير مطمئنة
والمقصود هنا أن ما رحم ربي من النفوس ليست بأمارة، وإذا كانت النفوس منقسمة إلى مرحومة وأمارة، فقد علمنا قطعاً أن نفس امرأة العزيز من النفوس الأمارة بالسوء ؛ لأنها أمرت بذلك مرة بعد مرة، وراودت وافترت، واستعانت بالنسوة وسجنت، وهذا من
ج/ 15 ص -144- أعظم ما يكون من الأمر بالسوء
وأما يوسف عليه الصلاة والسلام فإن لم تكن نفسه من النفوس المرحومة عن أن تكون أمَّارَة فما في الأنفس مرحوم؛ فإن من تدبر قصة يوسف علم أن الذي رحم به وصرف عنه من السوء والفحشاء من أعظم ما يكون، ولولا ذلك لما ذكره الله في القرآن وجعله عبرة، وما من أحد من الصالحين الكبار والصغار إلا ونفسه إذا ابتليت بمثل هذه الدواعي، أبعد عن أن تكون مرحومة من نفس يوسف وعلى هذا التقدير: فإن لم تكن نفس يوسف مرحومة، فما في النفوس مرحومة، فإذاً كل النفوس أمارة بالسوء، وهو خلاف ما في القرآن
ولا يلتفت إلى الحكاية المذكورة عن مسلم بن يسار [هو أبو عبد الله مسلم بن يسار البصري مولي بني أمية، فقيه ناسك من رجال الحديث، لا يفضل عليه أحد في زمانه، قال ابن سعد: "كان ثقة فاضلاً عابدًا ورعًا"، توفي سنة 100 ه]: أن أعرابية دعته إلى نفسها، وهما في البادية؛ فامتنع وبكي، وجاء أخوه وهو يبكي فبكي وبكت المرأة، وذهبت فنام فرأي يوسف في منامه، وقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم، فقد يظن من يسمع هذه الحكاية أن حال مسلم كان أكمل وهذا جهل لوجهين:
أحدهما: أن مسلما لم يكن تحت حكم المرأة المراودة ولا لها عليه حكم، ولا لها عليه قدرة أن تكذب عليه، وتستعين بالنسوة
ج/ 15 ص -145- وتحبسه، وزوجها لا يعينه ولا أحد غير زوجها يعينه على العصمة، بل مسلم لما بكى ذهبت تلك المرأة، ولو استعصمت لكان صراخه منها أو خوفها من الناس يصرفها عنه وأين هذا مما ابتلي به يوسف عليه الصلاة والسلام ؟!
الثاني: أن الهم من يوسف لما تركه للّه كان له به حسنة، ولا نقص عليه وثبت في الصحيحين من حديث السبعة الذين يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف اللّه رب العالمين" وهذا لمجرد الدعوة، فكيف بالمراودة والاستعانة والحبس؟
ومعلوم أنها كانت ذات منصب، وقد ذُكِرَ أنها كانت ذات جمال وهذا هو الظاهر، فإن امرأة عزيز مصر يشبه أن تكون جميلة، وأما البدوية الداعية لمسلم فلا ريب أنها دون ذلك، ورؤياه في المنام وقوله: أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم؛ غايته أن يكون بمنزلة أن يقول ذلك له يوسف في اليقظة، وإذا قال هذا، كان هذا خيراً له ومدحاً وثناء، وتواضعا من يوسف، وإذا تواضع الكبير مع من دونه لم تسقط منزلته
الوجه الحادي عشر: أن هذا الكلام فيه مع الاعتراف
ج/ 15 ص -146-بالذنب الاعتذار بذكر سببه، فإن قولها: "أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ"[يوسف: 51]، فيه اعتراف بالذنب، وقولها: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ"[يوسف: 53]، إشارة تطابق لقولها: "أَنَاْ رَاوَدتُّهُ" أي: أنا مقرة بالذنب ما أنا مبرئة لنفسي ثم بينت السبب فقالت: "إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ" فنفسي من هذا الباب، فلا ينكر صدور هذا مني ثم ذكرت ما يقتضي طلب المغفرة والرحمة، فقالت: "إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
فإن قيل: فهذا كلام من يقر بأن الزنا ذنب، وأن اللّه قد يغفر لصاحبه
قلت: نعم والقرآن قد دل على ذلك، حيث قال زوجها: "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ"[يوسف: 29]، فأمره لها بالاستغفار لذنبها دليل أنهم كانوا يرون ذلك ذنباً ويستغفرون منه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، فقد كانت العرب مشركين وهم يحرمون الفواحش، ويستغفرون اللّه منها، حتى إن النبي ﷺ لما بايع هند بنت عتبة بن ربيعة بيعة النساء على ألا تشرك باللّه شيئًا، ولا تسرق ولا تزني قالت: أو تزني الحرة؟ وكان الزنا معروفًا عندهم في الإماء
ولهذا غلب على لغتهم أن يجعلوا الحرية في مقابلة الرق، وأصل
ج/ 15 ص -147- اللفظ هو العفة، ولكن العفة عادة من ليست أمة، بل قد ذكر البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي، أنه رأى في الجاهلية قرداً يزنى بقردة، فاجتمعت القرود عليه حتى رجمته
وقد حدثني بعض الشيوخ الصادقين، أنه رأي في جامع نوعًا من الطير قد باض، فأخذ الناس بيضه، وجاء ببيض جنس آخر من الطير، فلما انفقس البيض خرجت الفراخ من غير الجنس، فجعل الذكر يطلب جنسه، حتى اجتمع منهن عدد فما زالوا بالأنثي حتى قتلوها، ومثل هذا معروف في عادة البهائم
والفواحش مما اتفق أهل الأرض على استقباحها وكراهتها، وأولئك القوم كانوا يقرون بالصانع مع شركهم؛ ولهذا قال لهم يوسف: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ"[يوسف: 39، 40]
الوجه الثاني عشر: أن يقال: إن اللّه سبحانه وتعإلى لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنباً إلا ذكر توبته منه، ولهذا كان الناس في عصمة الأنبياء على قولين: إما أن يقولوا بالعصمة من فعلها، وإما
ج/ 15 ص -148- أن يقولوا بالعصمة من الإقرار عليها؛ لا سيما فيما يتعلق بتبليغ الرسالة، فإن الأمة متفقة على أن ذلك معصوم أن يقر فيه على خطأ، فإن ذلك يناقض مقصود الرسالة، ومدلول المعجزة
وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك، ولكن المقصود هنا أن اللّه لم يذكر في كتابه عن نبي من الأنبياء ذنباً إلا ذكر توبته منه، كما ذكر في قصة آدم وموسي، وداود وغيرهم من الأنبياء
وبهذا يجيب من ينصر قول الجمهور الذين يقولون بالعصمة من الإقرار على من ينفي الذنوب مطلقاً، فإن هؤلاء من أعظم حججهم ما اعتمده القاضي عياض وغيره، حيث قالوا: نحن مأمورون بالتأسي بهم في الأفعال، وتجويز ذلك يقدح في التأسي؛ فأجيبوا بأن التأسي إنما هو فيما أقروا عليه، كما أن النسخ جائز فيما يبلغونه من الأمر والنهي، وليس تجويز ذلك مانعاً من وجوب الطاعة؛ لأن الطاعة تجب فيما لم ينسخ، فعدم النسخ يقرر الحكم، وعدم الإنكار يقرر الفعل، والأصل عدم كل منهما
ويوسف عليه الصلاة والسلام لم يذكر اللّه تعإلى عنه في القرآن أنه فعل مع المرأة ما يتوب منه،أو يستغفر منه أصلاوقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة، ولكن بعض الناس يذكر أنه وقع
ج/ 15 ص -149- منه بعض مقدماتها،مثل ما يذكرون أنه حل السراويل، وقعد منها مقعد الخاتن ونحو هذا، وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي ﷺ،ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب، وقد عُرِفَ كلام اليهود في الأنبياء وغَضِّهِم منهم،كما قالوا في سليمان ما قالوا، وفي داود ما قالوا، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه
والقرآن قد أخبر عن يوسف من الاستعصام والتقوي والصبر في هذه القضية؛ ما لم يذكر عن أحد نظيره، فلو كان يوسف قد أذنب؛ لكان إما مُصِرا وإما تائباً، والإصرار ممتنع، فتعين أن يكون تائباً واللّه لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفاراً، كما ذُكِرَ عن غيره من الأنبياء، فدل ذلك على أن ما فعله يوسف كان من الحسنات المبرورة، والمساعي المشكورة،كما أخبر اللّه عنه بقوله تعالى: "إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"[يوسف: 90] واذا كان الأمر في يوسف كذلك، كان ما ذكر من قوله: "إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ"، إنما يناسب حال امرأة العزيز لا يناسب حال يوسف، فإضافة الذنوب إلى يوسف في هذه القضية فِرْيةُ على الكتاب والرسول، وفيه تحريف للكلم عن مواضعه، وفيه
ج/ 15 ص -150- الاغتياب لنبي كريم، وقول الباطل فيه بلا دليل، ونسبته إلى ما نزهه اللّه منه، وغير مستبعد أن يكون أصل هذا من اليهود أهل البُهْتِ [البُهْتُ: الكذب والافتراء]، الذين كانوا يرمون موسي بما برأه اللّه منه، فكيف بغيره من الأنبياء؟ وقد تلقي نقلهم من أحسن به الظن، وجعل تفسير القرآن تابعاً لهذا الاعتقاد
واعلم أن المنحرفين في مسألة العصمة على طرفي نقيض، كلاهما مخالف لكتاب اللّه من بعض الوجوه: قوم أفرطوا في دعوي امتناع الذنوب، حتى حَرَّفُوا نصوص القرآن المخبرة بما وقع منهم من التوبة من الذنوب،ومغفرة اللّه لهم، ورفع درجاتهم بذلك، وقوم أفرطوا في أن ذكروا عنهم ما دل القرآن على براءتهم منه، وأضافوا إليهم ذنوباً وعيوباً نزههم اللّه عنها وهؤلاء مخالفون للقرآن، وهؤلاء مخالفون للقرآن، ومن اتبع القرآن على ما هو عليه من غير تحريف، كان من الأمة الوسط، مهتديا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
قال النبي ﷺ: "اليهود مغضوب عليهم، والنصاري ضالون"، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حَذْو القَذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضَبٍّ لدخلتموه"، قالوا: يا رسول اللّه، اليهود والنصارى ؟
ج/ 15 ص -151- قال: "فمن؟"، وفي الحديث الآخر الذي في الصحيح: "لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبراً بشبر، وذراعًا بذراع" قالوا: يا رسول اللّه، فارس والروم؟ قال: "ومن الناس إلا هؤلاء ؟"
ولا ريب أنه صار عند كثير من الناس من علم أهل الكتاب ومن فارس والروم، ما أدخلوه في علم المسلمين ودينهم وهم لا يشعرون، كما دخل كثير من أقوال المشركين من أهل الهند واليونان وغيرهم، والمجوس والفرس والصابئين من اليونان وغيرهم في كثير من المتأخرين؛ لا سيما في جنس المتفلسفة والمتكلمة
ودخل كثير من أقوال أهل الكتاب اليهود والنصاري في طائفة هم أمثل من هؤلاء، إذ أهل الكتاب كانوا خيراً من غيرهم
ولما فتح المسلمون البلاد كانت الشام ومصر ونحوهما مملوءة من أهل الكتاب، النصاري واليهود، فكانوا يحدثونهم عن أهل الكتاب بما بعضه حق وبعضه باطل؛ فكان من أكثرهم حديثا عن أهل الكتاب كعب الأحبار وقد قال معاوية رضي اللّه عنه: ما رأينا في هؤلاء الذين يحدثونا عن أهل الكتاب أصدق من كعب، وإن كنا لنبلو عليه الكذب أحياناً
ومعلوم أن عامة ما عند كعب أن ينقل ما وجده في كتبهم، ولو
ج/ 15 ص -152- نقل ناقل ما وجده في الكتب عن نبينا ﷺ لكان فيه كذب كثير، فكيف بما في كتب أهل الكتاب مع طول المدة، وتبديل الدين، وتفرق أهله، وكثرة أهل الباطل فيه
وهذا باب ينبغي للمسلم أن يعتني به، وينظر ما كان عليه أصحاب رسول اللّه ﷺ، الذين هم أعلم الناس بما جاء به، وأعلم الناس بما يخالف ذلك من دين أهل الكتاب والمشركين والمجوس والصابئين فإن هذا أصل عظيم
ولهذا قال الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره: أصول السنة هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول اللّه ﷺ
ومن تأمل هذا الباب وجد كثيراً من البدع أحدثت بآثار أصلها عنهم، مثل ما يروي في فضائل بقاع في الشام، من الجبال والغيران، ومقامات الأنبياء ونحو ذلك مثل ما يذكر في جبل قاسيون، ومقامات الأنبياء التي فيه، وما في إتيان ذلك من الفضيلة حتى إن بعض المفترين من الشيوخ جعل زيارة مغارة فيه ثلاث مرات تعدل حجة، ويسمونها مقامات الأنبياء
والآثار التي تروي في ذلك لا تصل إلى الصحابة، وإنما هي عمن
ج/ 15 ص -153- دونهم ممن أخذها عن أهل الكتاب، وإلا فلو كان لهذا أصل؛ لكان هذا عند أكابر الصحابة الذين قدموا الشام،مثل بلال بن رباح، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، بل ومثل أبي عبيدة بن الجراح أمين الأمة وأمثالهم فقد دخل الشام من أكابر الصحابة أفضل ممن دخل بقية الأمصار غير الحجاز، فلم ينقل عن أحد منهم اتباع شيء من آثار الأنبياء، لا مقابرهم ولا مقاماتهم، فلم يتخذوها مساجد، ولا كانوا يتحرون الصلاة فيها، والدعاء عندها، بل قد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه كان في سفر، فرأي قوماً ينتابون مكاناً يصلون فيه،فقال: ما هذا ؟ قالوا: هذا مكان صلى فيه رسول اللّه ﷺ، فقال: ومكان صلى فيه رسول اللّه ﷺ؟! أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته الصلاة فيه فليصل، وإلا فليمض
ولما دخل بيت المقدس وأراد أن يبني مصلى المسلمين، قال لكعب: أين أبنيه؟ قال: ابنه خلف الصخرة، قال: خالطتك يهودية يابن اليهودية، بل أبنيه أمامها؛ ولهذا كان عبد اللّه ابن عمر إذا دخل بيت المقدس صلى في قِبْلَيهِ، ولم يذهب إلى الصخرة
وكانوا يكذبون ما ينقله كعب: إن اللّه قال لها: أنت عرشي الأدني،ويقولون: من وسع كرسيه السموات والأرض كيف تكون
ج/ 15 ص -154- الصخرة عرشه الأدنى؟!ولم تكن الصحابة يعظمونها، وقالوا: إنما بني القُبَّة عليها عبد الملك بن مروان لما كان محاربا لابن الزبير،وكان الناس يذهبون إلى الحج فيجتمعون به عظم الصخرة؛ ليشتغلوا بزيارتها عن جهة ابن الزبير، وإلا فلا موجب في شريعتنا لتعظيم الصخرة،وبناء القُبَّة عليها وسترها بالأنطاع والجوخولو كان هذا من شريعتنا؛لكان عمر وعثمان ومعاوية رضي اللّه عنهم أحق بذلك ممن بعدهم؛فإن هؤلاء أصحاب رسول اللّه ﷺ،وأعلم بسنته،وأتبع لها ممن بعدهم
وكذلك الصحابة لم يكونوا ينتابون قبر الخليل ﷺ، بل ولا فتحوه، بل ولا بنوا على قبر أحد من الأنبياء مسجداً؛ فإنهم كانوا يعلمون أن النبي ﷺ قال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"
ولما ظهر قبر دانيال بتُسْتَر كتب فيه أبو موسي إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فكتب إليه عمر، إذا كان بالنهار فاحفر ثلاثة عشر قبراً،ثم ادفنه بالليل في واحد منها، وعفِّر قبره لئلا يفتتن به الناس،وقد تأملت الآثار التي تروي في قصد هذه المقامات، والدعاء
ج/ 15 ص -155- عندها أو الصلاة،فلم أجد لها عن الصحابة أصلا، بل أصلها عمن أخذَ عن أهل الكتاب
فمن أصول الإسلام أن تميز ما بعث اللّه به محمداً ﷺ من الكتاب والحكمة، ولا تخلطه بغيره، ولا تلبس الحق بالباطل، كفعل أهل الكتاب فإن اللّه سبحانه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا
وقد قال النبي ﷺ: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"، وقال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: خط لنا رسول اللّه ﷺ خطا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: "هذا سبيل اللّه، وهذه السبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ قوله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنسَبِيلِهِ"[الأنعام: 153]
وجماع ذلك بحفظ أصلين:
أحدهما: تحقيق ما جاء به الرسول ﷺ، فلا يخلط بما ليس منه من المنقولات الضعيفة، والتفسيرات الباطلة، بل يعطي حقه من معرفة نقله، ودلالته
ج/ 15 ص -156- والثاني: ألا يعارض ذلك بالشبهات لا رأياً ولا رواية قال اللّه تعإلى فيما يأمر به بني إسرائيل، وهو عبرة لنا: "وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"[البقرة: 41، 42]، فلا يكتم الحق الذي جاء به الرسول ﷺ، ولا يلبس بغيره من الباطل، ولا يعارض بغيره
قال اللّه تعالى: "اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ"[الأعراف: 3]، وقال تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ"[الأنعام: 93]
وهؤلاء الأقسام الثلاثة هم أعداء الرسل، فإن أحدهم إذا أتي بما يخالفه، إما أن يقول: إن اللّه أنزله على فيكون قد افتري على اللّه، أو يقول: أوحي إليه ولم يسم من أوحاه، أو يقول: أنا أنشأته، وأنا أنزل مثل ما أنزل اللّه، فإما أن يضيفه إلى اللّه أو إلى نفسه، أو لا يضيفه إلى أحد
وهذه الأقسام الثلاثة هم من شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً قال اللّه تعالى: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا" [الفرقان: 30، 31]، واللّه أعلم، والحمد للّه
ج/ 15 ص -157-سُئِلَ رَضي اللّه عَنهُ عن قوله تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي"[يوسف: 108]، وهل الدعوة عامة تتعين في حق كل مسلم ومسلمة أم لا؟ وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في هذه الدعوة أم لا؟ وإذا كانا داخلين أو لم يكونا، فهل هما من الواجبات على كل فرد من أفراد المسلمين كما تقدم أم لا؟ وإذا كانا واجبين، فهل يجبان مطلقاً مع وجود المشقة بسببهما أم لا ؟ وهل للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقتص من الجاني عليه إذا آذاه في ذلك لئلا يؤدي إلى طمع منه في جانب الحق أم لا؟ وإذا كان له ذلك فهل تركه أولي مطلقاً أم لا ؟
فأجاب رضي اللّه عنه وأرضاه :
الحمد لله رب العالمين، الدعوة إلى اللّه هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله،
ج/ 15 ص -158- والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه
فإن هذه الدرجات الثلاث التي هي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، داخلة في الدين، كما قال في الحديث الصحيح: "هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم"، بعد أن أجابه عن هذه الثلاث، فبين أنها كلها من ديننا
و"الدين": مصدر، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، يقال: دان فلان فلانًا إذا عبده وأطاعه، كما يقال: دانه إذا أذله فالعبد يدين الله، أي: يعبده ويطيعه، فإذا أضيف الدين إلى العبد فلأنه العابد المطيع، وإذا أضيف إلى الله فلأنه المعبود المطاع، كما قال تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه"[الأنفال: 39]
فالدعوة إلى الله تكون بدعوة العبد إلى دينه، وأصل ذلك عبادته وحده لا شريك له، كما بعث الله بذلك رسله،وأنزل به كتبهقال تعالى: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ"[الشوري: 13]، وقال تعالى: "وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ"[الزخرف: 45]، وقال تعالى:
ج/ 15 ص -159- "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ"[النحل: 36]، وقال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ"[الأنبياء: 25]
وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعَلاتٍ، وإن أولي الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي" [والإخوة لعلات: هم الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد، والمراد هنا: أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة]، فالدين واحد وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم، كما قال تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"[المائدة: 48]
فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية، فالاعتقادية كالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، والعملية كالأعمال العامة المذكورة في الأنعام والأعراف، وسورة بني إسرائيل، كقوله تعالى: "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ" إلى آخر الآيات الثلاث [الأنعام: 151 - 153]، وقوله: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ إلى آخر الوصايا"[الإسراء: 23- 39]، وقوله: "قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ"[الأعراف: 29]، وقوله: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"[الأعراف: 33]
ج/ 15 ص -160- فهذه الأمور هي من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع، كعامة ما في السور المكية، فإن السور المكية تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله، إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن لا يقر بأصل الرسالة، وأما السور المدنية ففيها الخطاب لمن يقر بأصل الرسالة، كأهل الكتاب الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وكالمؤمنين الذين آمنوا بكتب الله ورسله؛ ولهذا قرر فيها الشرائع التي أكمل الله بها الدين؛ كالقبلة، والحج، والصيام، والاعتكاف، والجهاد، وأحكام المناكح ونحوها، وأحكام الأموال بالعدل كالبيع، والإحسان كالصدقة، والظلم كالربا، وغير ذلك مما هو من تمام الدين
ولهذا كان الخطاب في السور المكية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لعموم الدعوة إلى الأصول؛ إذ لا يدعي إلى الفرع من لا يقر بالأصل، فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة وعز بها أهل الإيمان، وكان بها أهل الكتاب، خُوطِبَ هؤلاء وهؤلاء؛ فهؤلاء: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ"، وهؤلاء: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ"، أو يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ولم ينزل بمكة شيء من هذا، ولكن في السور المدنية خطاب: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ"، كما في سورة النساء، وسورة الحج وهما مدنيتان، وكذا في البقرة
وهذا يعَكِّر على قول الحَبْرِ ابن عباس؛لأن الحكم المذكور يشمل جنس الناس،والدعوة بالاسم الخاص لا تنافي الدعوة بالاسم العام،
ج/ 15 ص -161- فالمؤمنون داخلون في الخطاب ب يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وفي الخطاب ب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ، فالدعوة إلى الله تتضمن الأمر بكل ما أمر الله به،والنهي عن كل ما نهي الله عنه،وهذا هو الأمر بكل معروف،والنهي عن كل منكر
والرسول ﷺ قام بهذه الدعوة، فإنه أمر الخلق بكل ما أمر الله به، ونهاهم عن كل ما نهي الله عنه، أمر بكل معروف، ونهي عن كل منكر قال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ"[الأعراف: 156، 157]
ودعوته إلى الله هي بإذنه لم يشرع دينًا لم يأذن به الله، كما قال تعالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا"[الأحزاب: 45، 46]، خلاف الذين ذمهم في قوله: "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ"[الشوري: 21]، وقد قال تعالى: "قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ"[يونس: 59]
ج/ 15 ص -162- ومما يبين ما ذكرناه: أنه سبحانه يذكر أنه أمره بالدعوة إلى الله تارة، وتارة بالدعوة إلى سبيله، كما قال تعالى: "ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"[النحل: 125]، وذلك أنه قد علم أن الداعي الذي يدعو غيره إلى أمر لابد فيما يدعو إليه من أمرين:
أحدهما: المقصود المراد
والثاني : الوسيلة والطريق الموصل إلى المقصود؛ فلهذا يذكر الدعوة تارة إلى الله وتارة إلى سبيله؛ فإنه سبحانه هو المعبود المراد المقصود بالدعوة
والعبادة: اسم يجمع غاية الحب له، وغاية الذل له، فمن ذل لغيره مع بغضه لم يكن عابدًا، ومن أحبه من غير ذل له لم يكن عابدًا، والله سبحانه يستحق أن يحَب غاية المحبة، بل يكون هو المحبوب المطلق، الذي لا يحب شيء إلا له، وأن يعظم ويذل له غاية الذل، بل لا يذل لشيء إلا من أجله، ومن أشرك غيره في هذا وهذا لم يحصل له حقيقة الحب والتعظيم، فإن الشرك يوجب نقص المحبة
قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ"[البقرة: 165] أي: أشد حبًا لله من هؤلاء
ج/ 15 ص -163- لأندادهم، وقال تعالى: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا"[الزمر: 29]، وكذلك الاستكبار يمنع حقيقة الذل لله، بل يمنع حقيقة المحبة لله، فإن الحب التام يوجب الذل والطاعة، فإن المحب لمن يحب مطيع
ولهذا كان الحب درجات أعلاها: "التتيم"، وهو: التعبد، وتيم الله أي: عبد الله؛ فالقلب المتيم هو المعبد لمحبوبه، وهذا لا يستحقه إلا الله وحده
والإسلام: أن يستسلم العبد لله لا لغيره، كما ينبئ عنه قول: "لا إله إلا الله"، فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر، وكلاهما ضد الإسلام والشرك غالب على النصاري ومن ضاهاهم من الضلال والمنتسبين إلى الأمة
وقد بسطنا الكلام على ما يتعلق بهذا الموضع في مواضع متعددة
وذلك يتعلق بتحقيق الألوهية لله وتوحيده، وامتناع الشرك، وفساد السموات والأرض بتقدير إله غيره، والفرق بين الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية، وبيان أن العباد فطروا على الإقرار به ومحبته وتعظيمه، وأن القلوب لا تصلح إلا بأن تعبد الله وحده، ولا
ج/ 15 ص -164- كمال لها ولا صلاح ولا لذة ولا سرور ولا فرح ولا سعادة بدون ذلك، وتحقيق الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وغير ذلك مما يتعلق بهذا الموضع الذي في تحقيقه تحقيق مقصود الدعوة النبوية، والرسالة الإلهية، وهو لُبُّ القرآن وزبدته، وبيان التوحيد العلمي القولي، المذكور في قوله: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ"[الإخلاص: 1، 2]، والتوحيد القصدي العملي المذكور في قوله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"[الكافرون: 1]، وما يتصل بذلك، فإن هذا بيان لأصل الدعوة إلى الله وحقيقتها ومقصودها
لكن المقصود في الجواب ذكر ذلك على طريق الإجمال؛ إذ لا يتسع الجواب لتفضيل ذلك، وكل ما أحبه الله ورسوله من واجب ومستحب، من باطن وظاهر فمن الدعوة إلى الله الأمر به،وكل ما أبغضه الله ورسوله من باطن وظاهر، فمن الدعوة إلى الله النهي عنه لا تتم الدعوة إلى الله إلا بالدعوة إلى أن يفعل ما أحبه الله، ويترك ما أبغضه الله، سواء كان من الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة، كالتصديق بما أخبر به الرسول ﷺ من أسماء الله وصفاته، والمعاد وتفصيل ذلك، وما أخبر به عن سائر المخلوقات: كالعرش، والكرسي، والملائكة، والأنبياء، وأممهم، وأعدائهم؛ وكإخلاص الدين لله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وكالتوكل عليه، والرجاء لرحمته،
ج/ 15 ص -165- وخشية عذابه، والصبر لحكمه، وأمثال ذلك، وكصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، وكالجهاد في سبيله بالقلب واليد واللسان
إذا تبين ذلك، فالدعوة إلى الله واجبة على من اتبعه، وهم أمته يدعون إلى الله، كما دعا إلى الله
وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به، ونهيهم عما ينهي عنه، وإخبارهم بما أخبر به؛ إذ الدعوة تتضمن الأمر، وذلك يتناول الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر
وقد وصف أمته بذلك في غير موضع، كما وصفه بذلك فقال تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ"[آل عمران: 110]، وقال تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ الآية"[التوبة: 71]، وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة، وهو الذي يسميه العلماء: فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين؛ فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين قال تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران: 104]
فمجموع أمته تقوم مقامه في الدعوة إلى الله؛ ولهذا كان إجماعهم
ج/ 15 ص -166- حجة قاطعة، فأمته لا تجتمع على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى رسوله، وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجز لم يطالب به وأما ما لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به؛ ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على هذا، وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة، وبحسب غيره أخري؛ فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب، وهذا إلى عمل ظاهر واجب، وهذا إلى عمل باطن واجب؛ فتنوع الدعوة يكون في الوجوب تارة، وفي الوقوع أخري
وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم، لكنها فرض على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ ما جاء به الرسول، والجهاد في سبيل الله، وتعليم الإيمان والقرآن
وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، فإن الداعي طالب مستدع مقتض لما دعي إليه، وذلك هو الأمر به؛ إذ الأمر هو طلب الفعل المأمور به، واستدعاء له ودعاء إليه، فالدعاء
ج/ 15 ص -167- إلى الله الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر
وقد تبين أنهما واجبان على كل فرد من أفراد المسلمين، وجوب فرض الكفاية، لا وجوب فرض الأعيان، كالصلوات الخمس، بل كوجوب الجهاد
والقيام بالواجبات، من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يقام بها،كما جاء في الحديث: ينبغي لمن أمر بالمعروف،ونهي عن المنكر،أن يكون فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهي عنه،رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهي عنه،حليمًا فيما يأمر به،حليما فيما ينهي عنه،فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر، والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود،والحلم بعد الأمر ليصبر على أذي المأمور المنهي، فإنه كثيرًا ما يحصل له الأذى بذلك ولهذا قال تعالى: "وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ"[لقمان: 17]، وقد أمر نبينا بالصبر في مواضع كثيرة، كما قال تعإلى في أول المدثر : "قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ"[المدثر: 2 - 7]، وقال تعالى: "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا"[الطور: 48]، وقال: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ"[المزمل: 10]، وقال تعالى:
ج/ 15 ص -168- "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا"[الأنعام: 34]، وقال: "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ"[القلم: 48]
وقد جمع سبحانه بين التقوي والصبر في مثل قوله: "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ"[آل عمران: 186]، والمؤمنون كانوا يدعون إلى الإيمان بالله وما أمر به من المعروف، وينهون عما نهي الله عنه من المنكر، فيؤذيهم المشركون وأهل الكتاب، وقد أخبرهم بذلك قبل وقوعه، وقال لهم: "وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ"، وقد قال يوسف عليه السلام : "أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَالْمُحْسِنِينَ"[يوسف: 90]
فالتقوي تتضمن طاعة الله، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر يتناول الصبر على المصائب التي منها أذى المأمور المنهي للآمر الناهي
لكن للآمر الناهي أن يدفع عن نفسه ما يضره، كما يدفع الإنسان عن نفسه الصائل، فإذا أراد المأمور المنهي ضربه، أو أخذ ماله ونحو ذلك وهو قادر على دفعه فله دفعه عنه؛ بخلاف ما إذا وقع الأذى
ج/ 15 ص -169- وتاب منه؛ فإن هذا مقام الصبر والحلم، والكمال في هذا الباب حال نبينا ﷺ، كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادما له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، فقد تضمن خلقه العظيم أنه لا ينتقم لنفسه إذا نيل منه، وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، ومعلوم أن أذي الرسول من أعظم المحرمات، فإن من آذاه فقد آذي الله، وقتل سَابِّه واجب باتفاق الأمة، سواء قيل: إنه قتل لكونه ردة، أو لكونه ردة مغلظة أوجبت أن صار قتل الساب حدًا من الحدود
والمنقول عن النبي ﷺ في احتماله وعفوه عمن كان يؤذيه كثير، كما قال تعالى: "وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ"[البقرة: 109]، فالآمر الناهي إذا أوذي وكان أذاه تعديا لحدود الله وفيه حق لله، يجب على كل أحد النهي عنه، وصاحبه مستحق للعقوبة، لكن لما دخل فيه حق الآدمي كان له العفو عنه، كما له أن يعفو عن القاذف والقاتل وغير ذلك، وعفوه عنه لا
ج/ 15 ص -170- يسقط عن ذلك العقوبة التي وجبت عليه لحق الله، لكن يكمل لهذا الآمر الناهي مقام الصبر والعفو الذي شرع الله لمثله، حتى يدخل في قوله تعالى: "وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ"[آل عمران: 186]، وفي قوله: "فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ"
ثم هنا فرق لطيف، أما الصبر فإنه مأمور به مطلقًا، فلا ينسخ، وأما العفو والصفح فإنه جعل إلى غاية، وهو: أن يأتي الله بأمره، فلما أتي بأمره بتمكين الرسول ونصره صار قادرًا على الجهاد لأولئك، وإلزامهم بالمعروف، ومنعهم عن المنكر صار يجب عليه العمل باليد في ذلك ما كان عاجزًا عنه، وهو مأمور بالصبر في ذلك،كما كان مأمورًا بالصبر أولا
والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه؛ ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، بأن لهم الجنة، حتى إن الكفار إذا أسلموا أو عاهدوا لم يضمنوا ما أتلفوه للمسلمين من الدماء والأموال، بل لو أسلموا وبأيديهم ما غنموه من أموال المسلمين، كان ملكا لهم عند جمهور العلماء: كمالك وأبي حنيفة وأحمد، وهو الذي مضت به سنة رسول الله ﷺ، وسنة خلفائه الراشدين
ج/ 15 ص -171- فالآمر الناهي إذا نيل منه وأوذي، ثم إن ذلك المأمور المنهي تاب وقَبِلَ الحق منه: فلا ينبغي له أن يقتص منه، ويعاقبه على أذاه،فإنه قد سقط عنه بالتوبة حق الله كما يسقط عن الكافر إذا أسلم حقوق الله تعإلى كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "الإسلام يهدم ما كان قبله،والتوبة تهدم ما كان قبلها"، والكافر إذا أسلم هدم الإسلام ما كان قبله،دخل في ذلك ما اعتدي به على المسلمين في نفوسهم وأموالهم؛لأنه ما كان يعتقد ذلك حراما، بل كان يستحله، فلما تاب من ذلك غفر له هذا الاستحلال،وغفرت له توابعه
فالمأمور المنهي إن كان مستحلاً لأذي الآمر الناهي كأهل البدع والأهواء، الذين يعتقدون أنهم على حق، وأن الآمر الناهي لهم معتد عليهم، فإذا تابوا لم يعاقبوا بما اعتدوا به على الآمر الناهي من أهل السنة، كالرافضي الذي يعتقد كفر الصحابة أو فسقهم وسبهم على ذلك، فإن تاب من هذا الاعتقاد، وصار يحبهم ويتولاهم لم يبق لهم عليه حق، بل دخل حقهم في حق الله ثبوتًا وسقوطًا؛ لأنه تابع لاعتقاده
ولهذا كان جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أصح الروايتين، والشافعي في أحد القولين على أن أهل البغي المتأولين لا يضمنون ما أتلفوه على أهل العدل بالتأويل، كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه على أهل البغي بالتأويل باتفاق العلماء
ج/ 15 ص -172- وكذلك أصح قولي العلماء في المرتدين، فإن المرتد والباغي المتأول والمبتدع كل هؤلاء يعتقد أحدهم أنه على حق، فيفعل ما يفعله متأولا، فإذا تاب من ذلك كان كتوبة الكافر من كفره؛ فيغفر له ما سلف مما فعله متأولا، وهذا بخلاف من يعتقد أن ما يفعله بغي وعدوان كالمسلم إذا ظلم المسلم، والذمي إذا ظلم المسلم، والمرتد الذي أتلف مال غيره، وليس بمحارب بل هو في الظاهر مسلم أو معاهد، فإن هؤلاء يضمنون ما أتلفوه بالاتفاق
فالمأمور المنهي إن كان يعتقد أن أذي الآمر الناهي جائز له، فهو من المتأولين وحق الآمر الناهي داخل في حق الله تعإلى فإذا تاب سقط الحقان، وإن لم يتب كان مطلوبا بحق الله المتضمن حق الآدمي، فإما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون فاسقًا، وإما أن يكون عاصيا، فهؤلاء كل يستحق العقوبة الشرعية بحسبه، وإن كان مجتهدًا مخطئًا فهذا قد عفي الله عنه خطأه، فإذا كان قد حصل بسبب اجتهاده الخطأ أذي للآمر الناهي بغير حق فهو كالحاكم إذا اجتهد فأخطأ، وكان في ذلك ما هو أذي للمسلم، أو كالشاهد، أو كالمفتي
فإذا كان الخطأ لم يتبين لذلك المجتهد المخطئ، كان هذا مما ابتلي الله به هذا الآمر الناهيقال تعالى: "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا"[الفرقان: 20]، فهذا مما يرتفع عنه الإثم في نفس الأمر، وكذلك
ج/ 15 ص -173- الجزاء على وجه العقوبة، ولكن قد يقال: قد يسقط الجزاء على وجه القصاص الذي يجب في العمد، ويثبت الضمان الذي يجب في الخطأ، كما تجب الدية في الخطأ، وكما يجب ضمان الأموال التي يتلفها الصبي والمجنون في ماله، وإن وجبت الدية على عاقلة القاتل خطأ، معاونة له فلابد من استيفاء حق المظلوم خطأ، فكذلك هذا الذي ظلم خطأ، لكن يقال: يفرق بين ما كان الحق فيه لله، وحق الآدمي تبع له، وما كان حقًا لآدمي محضًا أو غالبًا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد من هذا الباب موافق لقول الجمهور الذين لا يوجبون على أهل البغي ضمان ما أتلفوه لأهل العدل بالتأويل، وإن كان ذلك خطأ منهم ليس كفرًا ولا فِسْقًا
وإذا قدر عليهم أهل العدل لم يتبعوا مدبرهم، ولم يجهزوا على جريحهم، ولم يسبوا حريمهم، ولم يغنموا أموالهم، فلا يقاتلونهم على ما أتلفوه من النفوس والأموال إذا أتلفوا مثل ذلك، أو تملكوا عليهم
فتبين أن القصاص ساقط في هذا الموضع؛ لأن هذا من باب الجهاد الذي يجب فيه الأجر على الله، وهذا مما يتعلق بحق العبد الآمر الناهي
وأما قول السائل: هل يقتص منه لئلا يؤدي إلى طمع منه في
ج/ 15 ص -174- جانب الحق؟ فيقال: متي كان فيما فعله إفساد لجانب الحق كان الحق في ذلك لله ورسوله، فيفعل فيه ما يفعل في نظيره، وإن لم يكن فيه أذي للآمر الناهي
والمصلحة في ذلك تتنوع؛ فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال، وتارة تكون المصلحة المهادنة، وتارة تكون المصلحة الإمساك والاستعداد بلا مهادنة، وهذا يشبه ذلك، لكن الإنسان تزين له نفسه أن عفوه عن ظالمه يجريه عليه، وليس كذلك، بل قد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح أنه قال: "ثلاث إن كنت حالفاً عليهن: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"
فالذي ينبغي في هذا الباب أن يعفو الإنسان عن حقه، ويستوفي حقوق الله بحسب الإمكان قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ"[الشوري: 39]، قال إبراهيم النَّخْعِي [هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة النخعي اليماني ثم الكوفي، وهو ابن مليكة أخت الأسود بن يزيد، كان كبير الشأن، كثير المحاسن، توفي وله تسع وأربعون سنة، مات سنة 96ه] : كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا قال تعالى: "هُمْ يَنتَصِرُونَ" يمدحهم، بأن فيهم همة الانتصار للحق والحمية له؛ ليسوا بمنزلة الذين يعفون عجزًا وذلا بل هذا مما يذم به الرجل، والممدوح العفو مع القدرة، والقيام لما يجب من نصر الحق، لا مع إهمال حق الله وحق العباد والله تعالى أعلم
ج/ 15 ص -175-وقال شيخ الإسلام قدسََ الله رُوحَهُ :
فصْل
في قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا الآية"[يوسف: 110] قراءتان في هذه الآية: بالتخفيف والتثقيل وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بالتثقيل وتنكر التخفيف، كما في الصحيح عن الزهري قال: أخبرني عروة عن عائشة، قالت له وهو يسألها عن قوله: "وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ" مخففة قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها قلت: فما هذا النصر حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ بمن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك، لعمري لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن
وفي الصحيح أيضًا عن ابن جُرَيجٍ سمعت ابن أبي مُلَيكَةَ يقول : قال ابن عباس: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ"، خفيفة ذهب بها هنالك، وتلا: "حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّه أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" [البقرة: 214]،
ج/ 15 ص -176-فلقيت عروة فذكرت ذلك له، فقال: قالت عائشة: معاذ الله، والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يكون، ولكن لم يزل البلاء بالرسل، حتى ظنوا خافوا أن يكون من معهم يكذبهم فكانت تقرؤها: "وظنوا أنهم قد كذِّبوا" مثقلة
فعائشة جعلت استيأس الرسل من الكفار للمكذبين، وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم، ولكن القراءة الأخري ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد تأولها ابن عباس، وظاهر الكلام معه، والآية التي تليها إنما فيها استبطاء النصر، وهو قولهم: مَتَى نَصْرُ اللّهِ، فإن هذه كلمة تبطيء لطلب التعجيل
وقوله: "وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ" قد يكون مثل قوله: "إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ" [الحج: 52]، والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح، كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم، ويسمون الاعتقاد المرجوح وهمًا، بل قد قال النبي ﷺ: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"، وقد قال تعالى: "إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا"[يونس: 36]
ج/ 15 ص -177- فالاعتقاد المرجوح هو ظن، وهو وهم، وهذا الباب قد يكون من حديث النفس المعفو عنه، كما قال النبي ﷺ: "إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل"، وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان، كما ثبت في الصحيح أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحَّرق حتى يصير حُمَمَة، أو يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به قال: "أو قد وجدتموه؟" قالوا: نعم قال: "ذلك صريح الإيمان"، وفي حديث آخر: إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة"
فهذه الأمور التي هي تُعْرض ثلاثة أقسام: منها ما هو ذنب يضعف به الإيمان، وإن كان لا يزيله، واليقين في القلب له مراتب، ومنه ما هو عفو يعفي عن صاحبه، ومنه ما يكون يقترن به صريح الإيمان
ونظير هذا: ما في الصحيح عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: "يرحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لَبِثْتُ في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي، ونحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال له ربه: "أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"[البقرة: 260]،
ج/ 15 ص -178-وقد ترك البخاري ذكر قوله: "بالشك" لما خاف فيها من توهم بعض الناس [ذكر الإمام ابن تيمية أن البخاري ترك لفظة "بالشك"، ولكن بالرجوع إلى صحيح البخاري وجد في أكثر من موضع إثبات لفظة بالشك]
ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنًا كما أخبر الله عنه بقوله: "أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى" ولكن طلب طمأنينة قلبه كما قال: "وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"، فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبي ﷺ شكا لذلك بإحياء الموتي، كذلك الوعد بالنصر في الدنيا يكون الشخص مؤمنًا بذلك، ولكن قد يضطرب قلبه فلا يطمئن، فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه قد كذب، فالشك مظنة أنه يكون من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب، وإن كان فيها ما هو ذنب فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك، كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث
وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم، فإنهم لابد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتوب المذنب ويقوي إيمان المؤمنين فبها يصح الاتساء بالأنبياء كما في قوله: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ"[الأحزاب: 21]
ج/ 15 ص -179- وفي القرآن من قصص المرسلين التي فيها تسلية وتثبيت؛ ليتأسي بهم في الصبر على ما كذبوا وأوذوا، كما قال تعالى: "وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا"[الأنعام: 43] [بياض بالأصل] ولنا؛ لأنه أسوة في ذلك ما هو كثير في القرآن؛ ولهذا قال: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ"[يوسف: 111]، وقال: "مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ"[فصلت: 34] وقال: "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ" [الأحقاف: 35]، "وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ"[هود: 120]
وإذا كان الاتساء بهم مشروعا في هذا وفي هذا فمن المشروع التوبة من الذنب، والثقة بوعد الله،وإن وقع في القلب ظن من الظنون وطلب مزيد الآيات لطمأنينة القلوب، كما هو المناسب للاتساء والاقتداء دون ما كان المتبوع معصومًا مطلقًا فيقول التابع: أنا لست من جنسه، فإنه لا يذكر الذنب، فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء، لما أتي به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة، بخلاف ما إذا قيل: إن ذلك مجبور بالتوبة، فإنه تصح معه المتابعة، كما قيل: أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم آدم أبو البشر، ومن أشبه أباه ما ظلم
ج/ 15 ص -180- والله تعالى قص علينا قصص توبة الأنبياء لنقتدي بهم في المتاب، وأما ما ذكره سبحانه أن الاقتداء بهم في الأفعال التي أقروا عليها فلم ينهوا عنها، ولم يتوبوا منها، فهذا هو المشروع فأما ما نهوا عنه وتابوا منه فليس بدون المنسوخ من أفعالهم، وإن كان ما أمروا به أبيح لهم، ثم نسخ، تنقطع فيه المتابعة، فما لم يؤمروا به أحري وأولي
وأيضًا، فقوله: "وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ" قد يكونوا ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم، فتبين الأمر بخلافه، فهذا جائز عليهم كما سنبينه، فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه، ثم تبين الأمر بخلافه ظن أن ذلك كذب، وكان كذبا من جهة ظن في الخبر ما لا يجب أن يكون فيه
فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به فهذا لا يكون، وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالي
ومما ينبغي أن يعلم أنه سبحانه ذكر هنا شيئين: أحدهما: استيئاس الرسل والثاني: ظن أنهم كذبوا وقد ذكرنا لفظ: "الظن"،فأما لفظ: "استيأسوا "، فإنه قال سبحانه: " حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ " ولم يقل: يئس الرسل، ولا ذكر ما استيأسوا منه، وهذا اللفظ قد ذكره في هذه السورة:
ج/ 15 ص -181- "فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" [يوسف: 80]
وقد يقال: الاستيئاس ليس هو الإياس؛ لوجوه:
أحدها: أن إخوة يوسف لم ييأسوا منه بالكلية، فإن قول كبيرهم: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ دليل على أنه يرجو أن يحكم الله له وحكمه هنا لابد أن يتضمن تخليصنا ليوسف منهم، وإلا فحكمه له بغير ذلك لا يناسب قعوده في مصر لأجل ذلك
وأيضا، ف "اليأس": يكون في الشيء الذي لا يكون، ولم يجئ ما يقتضي ذلك، فإنهم قالوا: "يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ"[يوسف: 78، 79] فامتنع من تسليمه إليهم ومن المعلوم أن هذا لا يوجب القطع بأنه لا يسلم إليهم، فإنه يتغير عزمه ونيته، وما أكثر تقليب القلوب، وقد يتبدل الأمر بغيره حتى يصير الحكم إلى غيره، وقد يتخلص بغير اختياره، والعادات قد جرت بهذا على مثل من عنده من قال لا يعطيه، فقد
ج/ 15 ص -182- يعطيه، وقد يخرج من يده بغير اختياره، وقد يموت عنه فيخرج، والعالم مملوء من هذا
الوجه الثاني : قال لهم يعقوب: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"[يوسف: 87] فنهاهم عن اليأس من روح الله، ولم ينههم عن الاستيئاس، وهو الذي كان منهم وأخبر أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون
ومن المعلوم أنهم لم يكونوا كافرين فهذا هو الوجه الثالث أيضًا: وهو أنه أخبر أنه: "لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" فيمتنع أن يكون للأنبياء يأس من روح الله، وأن يقعوا في الاستيئاس بل المؤمنون ما داموا مؤمنين لا ييأسون من روح الله،وهذه السورة تضمنت ذكر المستيئسين،وأن الفرح جاءهم بعد ذلك؛ لئلا ييأس المؤمن؛ولهذا فيها: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ"[يوسف: 111] فذكر استيئاس الإخوة من أخي يوسف،وذكر استيئاس الرسل،يصلح أن يدخل فيه ما ذكره ابن عباس، وما ذكرته عائشة جميعًا
الوجه الرابع: أن الاستيئاس استفعال من اليأس، والاستفعال
ج/ 15 ص -183- يقع على وجوه: يكون لطلب الفعل من الغير، فالاستخراج والاستفهام والاستعلام يكون في الأفعال المتعدية، يقال: استخرجت المال من غيري، وكذلك استفهمت، ولا يصلح هذا أن يكون معنى الاستيئاس، فإن أحدا لا يطلب اليأس ويستدعيه؛ ولأن استيأس: فعل لازم لا متعد
ويكون الاستفعال لصيرورة المستفعل على صفة غيره، وهذا يكون في الأفعال اللازمة كقولهم : استحجر الطين، أي : صار كالحجرواستنوق الفحل، أي : صار كالناقة وأما النظر فيما استيأسوا منه، فإن الله تعإلى ذكر ذلك في قصة إخوة يوسف حيث قال: "فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ"
وأما الرسل فلم يذكر ما استيأسوا منه، بل أطلق وصفهم بالاستيئاس، فليس لأحد أن يقيده بأنهم استيأسوا مما وعدوا به، وأخبروا بكونه، ولا ذكر ابن عباس ذلك
وثبت أن قوله: "وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ" لا يدل على ظاهره، فضلا عن باطنه: أنه حصل في قلوبهم مثل تساوي الطرفين فيما أخبروا به، فإن لفظ الظن في اللغة لايقتضي ذلك، بل يسمي ظنًا ما هو من أكذب الحديث عن الظان؛ لكونه أمرا مرجوحا في نفسه واسم
ج/ 15 ص -184- اليقين والريب والشك ونحوها يتناول علم القلب وعمله وتصديقه، وعدم تصديقه وسكينته وعدم سكينته، ليست هذه الأمور بمجرد العلم فقط، كما يحسب ذلك بعض الناس، كما نبهنا عليه في غير هذا الموضع؛إذ المقصود هنا الكلام على قوله: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ"فإذا كان الخبر عن استيئاسهم مطلقًا، فمن المعلوم أن الله إذا وعد الرسل والمؤمنين بنصر مطلق كما هو غالب إخباراته لم يقيد زمانه ولا مكانه، ولا سنته، ولا صفته، فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخري لم ينزل عليها خطاب الحق، بل اعتقدوها بأسباب أخري، كما اعتقد طائفة من الصحابة إخبار النبي ﷺ لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام، ويطوفون به، أن ذلك يكون عام الحديبية؛ لأن النبي ﷺ خرج معتمرا، ورجا أن يدخل مكة ذلك العام، ويطوف ويسعي فلما استيأسوا من دخوله مكة ذلك العام لما صدهم المشركون، حتى قاضاهم النبي ﷺ على الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء، حتى قال عمر للنبي ﷺ: ألم تخبرنا أنا ندخل البيت ونطوف؟ قال: "بلي فأخبرتك أنك تدخله هذا العام؟" قال: لا قال: "فإنك داخله ومطوف" وكذلك قال له أبو بكر
وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر علمًا وإيمانًا من عمر، حتى تاب
ج/ 15 ص -185- عمر مما صدر منه، وإن كان عمر رضي الله عنه محدثًا كما جاء في الحديث الصحيح، أنه قال ﷺ: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتى أحد فعمر" فهو رضي الله عنه المحدث الملهم، الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولكن مزية التصديق الذي هو أكمل متابعة للرسول، وعلمًا وإيمانًا بما جاء به، درجته فوق درجته؛ فلهذا كان الصديق أفضل الأمة، صاحب المتابعة للآثار النبوية، فهو مُعَلِّمٌ لعمر، ومُؤَدِّبٌ للمحدث منهم الذي يكون له من ربه إلهام وخطاب، كما كان أبو بكر مُعَلِّمًا لعمر ومؤدبًا له حيث قال له: فأخبرك أنك تدخله هذا العام؟ قال: لا، قال: إنك آتيه ومطوف
فبين له الصديق أن وعد النبي ﷺ مطلق غير مقيد بوقت، وكونه سعي في ذلك العام وقصده لا يوجب أن يعني ما أخبر به؛ فإنه قد يقصد الشيء ولا يكون، بل يكون غيره، إذ ليس من شرط النبي ﷺ أن يكون كما قصده، بل من تمام نعمة ربه عليه أن يقيده عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده، كما كان صلح الحديبية أنفع للمؤمنين من دخولهم ذلك العام، بخلاف خبر النبي ﷺ، فإنه صادق لابد أن يقع ما أخبر به ويتحقق
ج/ 15 ص -186- وكذلك ظن النبي كما قال في تأبير النخل: "إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله"، فاستيئاس عمر وغيره من دخول ذلك هو استيئاس مما ظنوه موعودًا به، ولم يكن موعودًا به
ومثل هذا لا يمتنع على الأنبياء أن يظنوا شيئًا فيكون الأمر بخلاف ما ظنوه فقد يظنون فيما وعدوه تعيينًا وصفات ولا يكون كما ظنوه، فييأسون مما ظنوه في الوعد، لا من تعيين الوعد، كما قال النبي ﷺ: "رأيت أن أبا جهل قد أسلم، فلما أسلم خالد ظنوه هو، فلما أسلم عكرمة علم أنه هو"
وروي مسلم في صحيحه؛ أن النبي ﷺ مر بقوم يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا هذا لصلح" قال: فخرج شيصًا [في المطبوعة: "سبتا"، والمثبت من مسلم] فمر بهم فقال: "ما لنخلكم [في المطبوعة: "لفحلكم"، والمثبت من مسلم]؟" قالوا: قلت: كذا وكذا قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" [والشيصُ: التمر الذي لايشتد نواه ويقوي، وقد لا يكون له نوي أصلا] وروي أيضا عن موسي بن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله، قال: مررت مع رسول الله ﷺ بقوم على رؤوس النخل، فقال: "ما يصنع هؤلاء ؟" فقال: يلَقِّحُونه يجعلون الذكر في الأنثي فَتَلْقَحُ، فقال رسول الله ﷺ: "ما أظن يغني ذلك شيئًا" فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله ﷺ، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنني
ج/ 15 ص -187- ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حَدَّثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله"
فإذا كان النبي ﷺ يأمرنا إذا حدثنا بشيء عن الله أن نأخذ به فإنه لن يكذب على الله، فهو أتقانا للّه، وأعلمنا بما يتقي، وهو أحق أن يكون آخذًا بما يحدثنا عن اللّه، فإذا أخبره اللّه بوعد كان علينا أن نصدق به، وتصديقه هو به أعظم من تصديقنا، ولم يكن لنا أن نشك فيه، وهو بأبي أولي وأحري ألا يشك فيه، لكن قد يظن ظنًَا، كقوله: "إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن"، وإن كان أخبره به مطلقًا فمستنده ظنون، كقوله في حديث ذي اليدين : "ما قصرت الصلاة ولا نسيت"
وقد يظن الشيء ثم يبين الله الأمر على جليته، كما وقع مثل ذلك في أمور، كقوله تعالى: "إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا"[الحجرات: 6]، نزلت في الوليد بن عقبة لما استعمله النبي ﷺ وهم أن يغزوهم لما ظن صدقه، حتى أنزل الله هذه الآية
وكذلك في قصة بني أبيرق التي أنزل الله فيها: "إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا"[النساء: 105] وذلك لما جاء قوم تركوا السارق الذي كان يسرق، وأخرجوا البريء ؛
ج/ 15 ص -188- فظن النبي ﷺ صدقهم،حتى تبين الأمر بعد ذلك وقال في حديث قصر الصلاة : "لم أنس ولم تقصر"، فقالوا: بلي قد نسيت وكان قد نسي، فأخبر عن موجب ظنه واعتقاده، حتى تبين الأمر بعد ذلك وروي عنه أنه قال: "إني لأنسي [في المطبوعة: "لا أنسي"، والمثبت من مالك] لأَسُنَّ"، وأيضًا،فقوله في القرآن: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا"[البقرة: 286] شامل للنبي ﷺ وأمته،حيث قال في صدر الآيات: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ الآيتين"[البقرة: 285، 286] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عيسي الأنصاري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: بينا جبريل قاعد عند النبي ﷺ سمع نَقِيضًا من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فَسَلَّمَ وقال: أبشر بنورين أُوتِيتَهُما لم يؤْتَهُما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته
وفي صحيح مسلم عن آدم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ"، دخل في قلوبهم منها شيء لم يدخل مثله، فقال النبي
ج/ 15 ص -189- ﷺ: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا"، قال: فألقي الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَااكْتَسَبَتْ" الآيات إلى قوله: "أَوْ أَخْطَأْنَا"، قال: قد فعلت، إلى آخر السورة [البقرة: 286]، قال: قد فعلت
وفي صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله ﷺ: "لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ"[البقرة: 284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله ﷺ: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير"، فلما اقتراها القوم وذلت بها ألسنتهم؛ أنزل الله عز وجل في أثرها: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ" إلى قوله: "وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها سبحانه فأنزل الله: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" إلى قوله: "قَبْلِنَا" [البقرة: 286] قال: "نعم: رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ" قال: نعم إلى آخر السورة قال: نعم
والذي عليه جمهور أهل الحديث والفقه أنه يجوز عليهم الخطأ في
ج/ 15 ص -190- الاجتهاد، لكن لا يقرون عليه، وإذا كان في الأمر والنهي فكيف في الخبر؟ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "إنكم تختصمون إلي،ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع،فأحسب أنه صادق،فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" فنفس ما يعد الله به الأنبياء والمؤمنين حقًا لا يمترون فيه،كما قال تعالى في قصة نوح: "وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ إلى آخر الآية"[هود: 45]ومثل هذا الظن قد يكون من إلقاء الشيطان المذكور في قوله: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ" إلى قوله: "صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"[الحج: 52 54] وقد تكلمنا على هذه الآية في غير هذا الموضع
وللناس فيها قولان مشهوران؛ بعد اتفاقهم على أن التمني هو التلاوة والقرآن، كما عليه المفسرون من السلف كما في قوله: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ"[البقرة: 78] وأما من أَوَّل النهي على تمني القلب، فذاك فيه كلام آخر، وإن قيل: إن الآية تَعُمُّ النوعين لكن الأول هو المعروف المشهور في التفسير، وهو ظاهر القرآن ومراد الآية قطعًا؛ لقوله بعد ذلك: "فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ" [الحج: 52، 53]وهذا كله لا يكون في مجرد القلب إذا
ج/ 15 ص -191- لم يتكلم به النبي، لكن قد يكون في ظنه الذي يتكلم به بعضه النخل ونحوها، وهو يوافق ما ذكرناه
وإذا كان التمني لا بد أن يدخل فيه القول ففيه قولان:
الأول: أن الإلقاء هو في سمع المستمعين ولم يتكلم به الرسول، وهذا قول من تأول الآية بمنع جواز الإلقاء في كلامه والثاني وهو الذي عليه عامة السلف ومن اتبعهم : أن الإلقاء في نفس التلاوة، كما دلت عليه الآية وسياقها من غير وجه، كما وردت به الآثار المتعددة، ولا محذور في ذلك إلا إذا أقر عليه، فأما إذا نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته فلا محذور في ذلك، وليس هو خطأ وغلط في تبليغ الرسالة، إلا إذا أقر عليه
ولا ريب أنه معصوم في تبليغ الرسالة أن يقر على خطأ، كما قال: "فإذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به، فإني لن أكذب على الله"، ولولا ذلك لما قامت الحجة به،فإن كونه رسول الله يقتضي أنه صادق فيما يخبر به عن الله،والصدق يتضمن نفي الكذب ونفي الخطأ فيه فلو جاز عليه الخطأ فيما يخبر به عن الله وأقر عليه لم يكن كل ما يخبر به عن الله
والذين منعوا أن يقع الإلقاء في تبليغه فروا من هذا، وقصدوا
ج/ 15 ص -192- خيرًا، وأحسنوا في ذلك، لكن يقال لهم: ألقي ثم أحكم، فلا محذور في ذلك فإن هذا يشبه النسخ لمن بلغه الأمر والنهي من بعض الوجوه، فإنه إذًا موقن مصدق برفع قول سبق لسانه به ليس أعظم من إخباره برفعه
ولهذا قال في النسخ: "وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ"[البقرة: 143]، فظنهم أنهم قد كذبوا هو يتبع ما يظنونه من معنى الوعد، وهذا جائز لا محذور فيه، إذا لم يقروا عليه وهذا وجه حسن،وهو موافق لظاهر الآية ولسائر الأصول من الآيات والأحاديث، والذي يحقق ذلك أن باب الوعد والوعيد ليس بأعظم من باب الأمر والنهي
فإذا كان من الجائز في باب الأمر والنهي أن يظنوا شيئًا، ثم يتبين الأمر لهم بخلافه، فلأن يجوز ذلك في باب الوعد والوعيد بطريق الأولي والأحري، حتى إن باب الأمر والنهي إذا تمسكوا فيه بالاستصحاب، لم يقع في ذلك ظن خلاف ما هو عليه الأمر في نفسه، فإن الوجوب والتحريم الذي لا يثبت إلا بخطاب إذا نفوه قبل الخطاب، كان ذلك اعتقادًا مطابقًا للأمر في نفسه، وباب الوعد إذا لم يخبروا به قد يظنون انتفاءه، كما ظن الخليل جواز المغفرة لأبيه حتى استغفر له، ونهينا عن الاقتداء كما قال النبي ﷺ لأبي طالب: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، وحتى استأذن ربه في الاستغفار لأمه فلم يؤذن له
ج/ 15 ص -193- في ذلك،وحتى صلى على المنافقين قبل أن ينهي عن ذلك وكان يرجو لهم المغفرة، حتى أنزل الله عز وجل : "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ" إلى قوله: "لأوَّاهٌ حَلِيمٌ"[التوبة: 113،114]، وقال عن المنافقين: "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا الآية"[التوبة: 84]، وقال: "سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ"[المنافقون: 6] فإذا كان صلى على المنافقين واستغفر لهم راجيا أن يغفر لهم قبل أن يعلم ذلك
ولهذا سوغ العلماء أن يروي في باب الوعد والوعيد من الأحاديث ما لم يعلم أنه كذب، وإن كان ضعيف الإسناد، بخلاف باب الأمر والنهي فإنه لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت أنه صدق؛ لأن باب الوعد والوعيد إذا أمكن أن يكون الخبر صدقا وأمكن أن يوجد الخبر كذبا لم يجز نفيه، لا سيما بلا علم، كما لم يجز الجزم بثبوته بلا علم، إذ لا محذور فيه منابت الناس اللفظ تعيين الوعد والوعيد، فلا يجوز منع ذلك بمنع الحديث إذا أمكن أن يكون صدقا؛ لأن في ذلك إبطال لما هو حق، وذلك لا يجوز
ولهذا قال النبي ﷺ: "حدثوا عن بني إسرائيل
ج/ 15 ص -194-ولا حرج"، وهذا الباب وهو: "باب الوعد والوعيد"، هو في الكتاب بأسماء مطلقة للمؤمنين، والصابرين، والمجاهدين، والمحسنين، فما أكثر من يظن من الناس أنه من أهل الوعد، ويكون اللفظ في ظنه أنه متصف بما يدخل في الوعد لا في اعتقاد صدق الوعد في نفسه
وهذا كقوله: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ"[غافر: 51]، وقوله: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَالآيتين"[الصافات: 171،172]، فقد يظن الإنسان في نفسه أو غيره كمال الإيمان المستحق للنصر، وإن جند الله الغالبون، ويكون الأمر بخلاف ذلك
وقد يقع من النصر الموعود به ما لا يظن أنه من الموعود به، فالظن المخطئ، فهم ذلك كثير جدا أكثر من باب الأمر والنهي مع كثرة ما وقع من الغلط في ذلك، وهذا مما لا يحصر الغلط فيه إلا الله تعإلى وهذا عام لجميع الآدميين، لكن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يقرون، بل يتبين لهم، وغير الأنبياء قد لا يتبين له ذلك في الدنيا
ولهذا كثر في القرآن ما يأمر نبيه ﷺ بتصديق الوعد
ج/ 15 ص -195- والإيمان، وما يحتاج إليه ذلك من الصبر إلى أن يجيء الوقت، ومن الاستغفار لزوال الذنوب التي بها تحقيق اتصافه بصفة الوعد، كما قال تعالى: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ"[الروم: 60] وقال تعالى: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ الآية"[غافر: 77] والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة والله تعالى أعلم