أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

تفسير سورة هود

    ج/ 15 ص -62- سورة هود
    وقال‏:
    فصل
    وقوله تعالى:
    "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏" [‏هود‏: ‏17‏]‏، وهذا يعم جميع من هو على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه‏‏ فالبينة‏: العلم النافع، والشاهد الذي يتلوه‏: العمل الصالح، وذلك يتناول الرسول ومن اتبعه إلى يوم القيامة، فإن الرسول على بينة من ربه، ومتبعيه على بينة من ربه‏‏
    وقال في حق الرسول‏:
    "‏‏قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي‏‏"[‏الأنعام‏: ‏57‏]‏، وقال في حق المؤمنين‏: "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ‏‏"[‏محمد‏: ‏14‏]‏، فذكر هذا بعد أن ذكر الصنفين في أول السورة، فقال‏: ‏‏"الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ‏‏" الآيات، إلى قوله: "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏"[‏محمد‏: 1 - 14‏]‏‏‏

    ج/ 15 ص -63- وقال أبو الدرْدَاء‏: لا تهلك أمة حتي يتبعوا أهواءهم، ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهدي، وقال تعالى: "‏‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏‏" [‏يوسف‏: ‏108‏]‏،فمن اتبعه يدعو إلى الله على بصيرة،والبصيرة هي البينة‏‏ وقال‏: "‏‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ‏‏ الآية"[‏الأنعام‏: ‏122‏]‏‏‏ فالنور الذي يمشي به في الناس هو البينة والبصيرة، وقال‏: "‏‏‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏‏ الآية"[‏النور‏: 35‏]‏‏‏ قال أُبَي بن كعب وغيره‏: هو مثل نور المؤمن، وهو نوره الذي في قلب عبده المؤمن الناشئ عن العلم النافع، والعمل الصالح، وذلك بينة من ربه‏‏ وقال‏: "‏‏أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏"[‏الزمر‏: 22‏]‏، فهذا النور الذي هو عليه وشرح الصدر للإسلام هو البينة من ربه، وهو الهدي المذكور في قوله: "‏‏أُوْلَئِكَ على هُدًي مِّن رَّبِّهِمْ‏‏"[‏البقرة‏: 5‏]‏ واستعمل في هذا حرف الاستعلاء؛ لأن القلب لا يستقر ولا يثبت إلا إذا كان عالمًا موقنًا بالحق، فيكون العلم والإيمان صبغة له ينصبغ بها، كما قال: "‏‏"صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً‏‏"[‏البقرة‏: 138‏]‏، ويصير مكانة له، كما قال: "‏‏‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏‏"[‏الأنعام‏: 135‏]‏، والمكان والمكانة‏: قد يراد به ما يستقر الشيء علىه، وإن لم يكن محيطًا به كالسقف مثلا وقد يراد به ما يحيط به‏‏
    فالمهتدون لما كانوا على هدي من ربهم ونور وبينة وبصيرة، صار

    ج/ 15 ص -64- مكانة لهم استقروا علىها، وقد تحيط بهم، بخلاف الذين قال فيهم‏: "‏‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ على وَجْهِه‏‏"[‏الحج‏: 11‏]‏، فإن هذا ليس ثابتًا مستقرًا مطمئنًا، بل هو كالواقف على حرف الوادي وهو جانبه، فقد يطمئن إذا أصابه خير، وقد ينقلب على وجهه ساقطًا في الوادي‏‏
    وكذلك فرق بين من أسس بنيانه على تقوي من الله ورضوان، وبين من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، وكذلك الذين كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها، وشواهد هذا كثير‏‏
    فقد تبين أن الرسول ومن اتبعه على بينة من ربهم وبصيرة، وهدي ونور، وهو الإيمان الذي في قلوبهم، والعلم والعمل الصالح، ثم قال‏: ‏‏
    "وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏"[‏هود‏: 17‏]‏، والضمير في ‏‏مِّنْهُ‏‏ عائد إلى الله تعالى أي‏: ويتلو هذا الذي هو على بينة من ربه شاهد من الله،والشاهد من الله، كما أن البينة التي هو علىها المذكورة من الله أيضًا‏‏
    وأما قول من قال‏: "‏الشاهد‏"‏ من نفس المذكور وفسره بلسانه، أو بعلى بن أبي طالب، فهذا ضعيف؛ لأن كون شاهد الإنسان منه لا يقتضي أن يكون الشاهد صادقًا، فإنه مثل شهادة

    ج/ 15 ص -65- الإنسان لنفسه، بخلاف ما إذا كان الشاهد من الله، فإن الله يكون هو الشاهد، وهذا كما قيل في قوله: "‏‏قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏‏"[‏الرعد‏: ‏43‏]‏، إنه على فهذا ضعيف؛ لأن شهادة قريب له قد اتبعه على دينه ولم يهتد إلا به لا تكون برهانًا للصدق، ولا حجة على الكفر، بخلاف شهادة من عنده علم الكتاب الأول فإن هؤلاء شهادتهم برهان ورحمة، كما قال في هذه السورة‏: ‏‏"وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَامًا وَرَحْمَةً‏‏"[‏هود‏: ‏17‏]‏، وقال‏: "‏‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ‏‏"[‏الأحقاف‏: 10‏]‏، وقال‏: "‏‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إليكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏‏"[‏يونس‏: ‏94‏]‏ وقال‏: "‏‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏‏"[‏الأنعام‏: ‏114‏]‏، وهذا الشاهد من الله هو القرآن‏‏
    ومن قال‏: إنه جبريل، فجبريل لم يقل شيئًا من تلقاء نفسه، بل هو الذي بلغ القرآن عن الله، وجبريل يشهد أن القرآن منزل من الله، وأنه حق، كما قال:
    "‏‏‏لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إليكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا‏‏"[‏النساء‏: 166‏]‏، والذي قال هو جبريل‏‏ قال‏: يتلوه، أي‏: يقرؤه، كما قال: "‏‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏‏"[‏القيامة‏: ‏18‏]‏، أي ‏: إذا قرأه جبريل فاتبع ما قرأه‏‏ وقال‏: "‏‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى‏‏"[‏النجم‏: 5‏]‏‏‏
    ومن قال‏: الشاهد لسانه، وجعل الضمير المذكور عائدًا على القرآن ولم يذكر؛ لأنه جعل البينة هي القرآن، ولو كانت البينة هي القرآن

    ج/ 15 ص -66- لما احتاج إلى ذلك، وقد قال‏: على بينة من ربه، فقد ذكر أن القرآن من الله، وقد علم أنه نزل به جبريل على محمد، وكلاهما بلغه وقرأه، فقوله: "‏‏وَيَتْلُوهُ‏‏" جبريل أو محمد، تكرير لافائدة فيه؛ ولهذا لم يذكر مثل ذلك في القرآن‏‏
    وأيضًا، فكونه على القرآن لم نجد لذلك نظيرًا في القرآن؛ فإن القرآن كلام الله واحد لا يكون علىه، وإذا كان المراد على الإيمان بالقرآن والعمل به، فهذا الذي ذكرناه‏: إن البينة هي الإيمان بما جاء به الرسول، وهو إخباره أنه رسول الله‏‏ وأن الله أنزل القرآن علىه‏‏ ولما أنزلت هذه السورة وهي مكية، لم يكن قد نزل من القرآن قبلها إلا بعضه، وكان المأمور به حينئذ هو الإيمان بما نزل منه، فمن آمن حينئذٍ بذلك ومات على ذلك كان من أهل الجنة‏‏
    وأيضًا، فتسمية جبريل شاهدًا، لا نظير له في القرآن، وكذلك تسمية لسان الرسول شاهدًا، وتسمية على شاهدًا، لا يوجد مثل ذلك في الكتاب والسنة، بخلاف شهادة الله؛ فإن الله أخبر بشهادته لرسوله في غير موضع، وسمي ما أنزله شهادة منه في قوله:
    "‏‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ‏‏"[‏البقرة‏: ‏140‏]‏، فدل على أن كلام الله الذي أنزله وأخبر فيه بما أخبر شهادة منه‏‏

    ج/ 15 ص -67- وهو سبحانه يحكم ويشهد، ويفتي ويقص، ويبشر ويهدي بكلامه، ويصف كلامه بأنه يحكم ويفتي، ويقص ويهدي، ويبشر وينذر، كما قال: "‏‏قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ‏‏"[‏النساء‏: ‏127‏]‏، ‏‏ "قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ‏‏"[‏النساء‏: 176‏]‏، وقال‏: "‏‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ على بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏‏"[‏النمل‏: ‏76‏]‏، وقال‏: ‏"‏نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏‏"[‏يوسف‏: 3‏]‏، وقال‏: "‏‏قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصلينَ‏‏"[‏الأنعام‏: ‏57‏]‏، وقال‏:" ‏‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏‏"[‏الإسراء‏: 9‏]‏‏‏
    وكذلك سمي الرسول هاديًا فقال‏:
    "‏‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏‏‏"[‏الشوري‏: 52‏]‏، كما سماه بشيرًا ونذيرًا، وسمي القرآن بشيرًا ونذيرًا، فكذلك لما كان هو يشهد للرسول والمؤمنين بكلامه الذي أنزله، وكان كلامه شهادة منه، كان كلامه شاهدًا منه، كما كان يحكم ويفتي، ويقص ويبشر وينذر‏‏
    ولما قيل لعلى بن أبي طالب‏: حَكَّمتَ مخلوقًا‏‏ قال‏: ما حكَّمتُ مخلوقًا، وإنما حكمتُ القرآن‏‏ فإن الذي يحكم به القرآن هو حكم الله، والذي يشهد به القرآن هو شهادة الله عز وجل قال عبد الرحمن بن زيد بن أَسْلَم وقد كان إمامًا، وأخذ التفسير عن أبيه زيد، وكان زيد إمامًا فيه، ومالك وغيره أخذوا عنه التفسير، وأخذه عنه عبد الله

    ج/ 15 ص -68- بن وَهْب [‏هو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري، أحد الأثبات والأئمة الأعلام، وصاحب التصانيف، طلب العلم وله سبع عشرة سنة، صحب مالكًا عشرين سنة وصنف الموطأ الكبير والصغير وحدث بمائة ألف حديث، ولد سنة 521ه، وتوفي في شعبان سنة 791ه‏]‏ صاحب مالك، وأصْبَغ بن الفرج [‏هو أبو عبد الله أَصْبَغ بن الفرج بن سعيد بن نافع، الأموي، مفتي الديار المصرية وعالمها، المالكي، وثقه أحمد ابن عبد الله، وقال ابن معين‏: "‏كان من أعلم خلق الله برأي مالك، يعرفها مسألة مسألة، متي قالها مالك، ومن خالفه فيها‏"‏، وله مصنفات، ولد بعد سنة 051ه، وتوفي في سنة 522ه‏]‏ الفقيه، قال‏: في قوله تعالى: "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏"[‏هود‏: ‏17‏]‏ قال رسول الله‏: "‏كان على بينة من ربه‏"‏ والقرآن يتلوه شاهد أيضًا لأنه من الله‏‏
    وقد ذكر الزَجَّاج فيما ذكره من الأقوال‏: ويتلو رسول الله القرآن، وهو شاهد من الله‏‏ وقال أبو العإلىة‏: ‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏‏: هو محمد، ‏‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏‏: القرآن، قال ابن أبي حاتم‏: وروي عن ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، ومجاهد، وأبي صالح، وإبراهيم، وعِكْرِمَة، والضحاك، وقتادة، والسدِّي، وخَصِيف، وابن عُيينَةَ نحو ذلك‏‏ وهذا الذي قالوه صحيح، ولكن لا يقتضي ذلك أن المتبعين له ليسوا على بينة من ربهم، بل هم على بينة من ربهم‏‏
    وقد قال الحسن البصري‏:
    "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏" قال‏: المؤمن على بينة من ربه، ورواه ابن أبي حاتم، وروي عن الحسين بن على "‏‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏" يعني‏: محمدًا شاهد من الله، وهي تقتضي أن يكون الذي على البينة من شهد له‏‏
    وقول القائل‏: من قال‏: هو محمد، كقول من قال‏: هو جبريل، فإن كلاهما بلَّغ القرآن، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس،

    ج/ 15 ص -69- فاصطفي جبريل من الملائكة، واصطفي محمدًا من الناس‏‏ وقال في جبريل‏: "‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏‏"[‏التكوير‏: ‏19‏]‏، وقال في محمد‏: ‏"إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏‏"[‏الحاقة‏: ‏40‏]‏ وكلاهما رسول من الله، كما قال: ‏‏"حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏‏"[‏البينة‏: 1 3‏]‏ فكلاهما رسول من الله بلغ ما أرسل به، وهو يشهد أن ما جاء به هو كلام الله، وأما شهادتهم بما شهد به القرآن فهذا قدر مشترك بين كل من آمن بالقرآن، فإنه يشهد بكل ما شهد به القرآن؛ لكونه آمن به، سواء كان قد بلغه أو لم يبلغه‏‏
    ولهذا كان إيمان الرسول بما جاء به غير تبليغه له، وهو مأمور بهذا وبهذا وله أجر على هذا وهذا، كما قال:‏‏
    "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ‏‏"[‏البقرة‏: 285‏]‏، ولهذا كان يقول‏: أشهد أني عبد الله ورسوله، فشهادة جبريل ومحمد بما شهد به القرآن من جهة إيمانهما به، لا من جهة كونهما مرسلين به، فإن الإرسال به يتضمن شهادتهما أن الله قاله، وقد يرسل غير رسول بشيء، فيشهد الرسول أن هذا كلام المرسل وإن لم يكن المرسل صادقًا ولا حكيمًا، ولكن علم أن جبريل ومحمدًا يعلمان أن الله صادق حكيم، فهما يشهدان بما شهد الله به‏‏
    وكذلك الملائكة والمؤمنون، يشهدون بأن ما قاله الله فهو حق

    ج/ 15 ص -70- ،وأن الله صادق حكيم، لا يخبر إلا بصدق،ولا يأمر إلا بعدل"‏‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً‏‏"[‏الأنعام‏: ‏115‏]‏‏‏
    فقد تبين أن شهادة جبريل ومحمد هي شهادة القرآن، وشهادة القرآن هي شهادة الله تعالى والقرآن شاهد من الله، وهذا الشاهد يوافق ويتبع ذلك الذي على بينة من ربه، فإن البينة والبصيرة والنور والهدي الذي عليه النبي ﷺ والمؤمنون، قد شهد القرآن المنزل من الله بأن ذلك حق‏‏
    و‏‏وَيَتْلُوهُ‏‏ معناه‏: يتبعه، كما قال:
    "‏‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏‏"[‏البقرة‏: ‏121‏]‏، أي‏: يتبعونه حق اتباعه، وقال‏: ‏‏"وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا‏‏"[‏الشمس‏: 2‏]‏، أي‏: تبعها، وهذا قَفَاه إذا تبعه‏‏ وقد قال‏: "‏‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏‏"[‏الإسراء‏: 36‏]‏، فهذا الشاهد يتبع الذي على بينة من ربه، فيصدقه ويزكيه، ويؤيده ويثبته، كما قال: "‏‏"قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ‏‏" [‏النحل‏: 102‏]‏، وقال‏: "‏‏‏وَكُلاًّ نَّقُصُّ عليكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏‏" [‏هود‏: ‏120‏]‏، وقال‏: "‏‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏‏"[‏المجادلة‏: 22‏]‏‏‏
    وقد سمي الله القرآن سلطانًا في غير موضع، فإذا كان السلطان المنزل من الله يتبع هذا المؤمن، كان ذلك مما يوجب قوته وتسلطه علمًا وعملاً، وقال‏: ‏‏
    "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏‏‏"[‏الإسراء‏: ‏82‏]‏،

    ج/ 15 ص -71- ‏‏"وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏‏ الآية"[‏التوبة‏: 124‏]‏‏‏
    وقال جُنْدُب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر‏: تعلَّمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا، فهم كانوا يتعلمون الإيمان، ثم يتعلمون القرآن‏‏ وقال بعضهم في قوله:
    "‏‏نُّورٌ على نُورٍ‏‏"[‏النور‏: ‏35‏]‏، قال‏: نور القرآن على نور الإيمان، كما قال: "‏‏وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏‏"[‏الشوري‏: ‏52‏]‏، وقال السُّدِّي في قوله: "‏‏نُّورٌ على نُورٍ‏‏" نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه‏‏
    فتبين أن قوله:
    "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏"[‏هود‏: ‏17‏]‏، يعني هدي الإيمان، ‏‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏ أي من الله، يعني‏: القرآن شاهد من الله يوافق الإيمان ويتبعه، وقال‏: ‏‏وَيَتْلُوه‏‏ لأن الإيمان هو المقصود؛ لأنه إنما يراد بإنزال القرآن الإيمان وزيادته‏‏
    ولهذا كان الإيمان بدون قراءة القرآن ينفع صاحبه ويدخل به الجنة، والقرآن بلا إيمان لا ينفع في الآخرة؛ بل صاحبه منافق؛ كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    "‏مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُتْرجَّة، طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر

    ج/ 15 ص -72- ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها‏"‏‏‏
    ولهذا جعل الإيمان بينة، وجعل القرآن شاهدًا؛ لأن البينة من البيان،و‏"‏البينة‏"‏‏: ‏هي السبيل البينة،وهي الطريق البينة الواضحة، وهي أيضًا ما يبين بها الحق،فهي بينة في نفسها مبينة لغيرها،وقد تفسر بالبيان وهي الدلالة والإرشاد، فتكون كالهدي،كما يقال‏: فلان على هدي وعلى علم،فيفسر بمعنى المصدر والصفة والفاعل‏‏ومنه قوله: "‏‏‏أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى‏‏"[‏طه‏: ‏133‏]‏،أي‏: بيان ما فيها أو يبين ما فيها،أو الأمر البين فيها‏‏ وقد سُمِّي الرسول بينة كما قال: "‏‏‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ‏‏"[‏البينة‏: ‏1، 2‏]‏، فإنه يبين الحق، والمؤمن على سبيل بينة ونور من ربه،والشاهد المقصود به شهادته للمشهود له، فهو يشهد للمؤمن بما هو علىه،وجعل الإيمان من الله كما جعل الشاهد من الله؛لأن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال،كما في الصحيحين عن حُذَيْفَة، عن النبي ﷺ قال‏: "‏إن الله أنزل الإيمان في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة‏"‏‏‏
    وأيضًا، فالإيمان ما قد أمر الله به‏‏
    وأيضًا، فالإيمان إنما هو ما أخبر به الرسول، وهذا أخبر به الرسول لكن الرسول له وحيان‏: وحي تكلم الله به يتلي، ووحي لا يتلي فقال‏: ‏

    ج/ 15 ص -73- "‏‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إليكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا‏‏ الآية"[‏الشوري‏: 52‏]‏، وهو يتناول القرآن والإيمان‏‏ وقيل ‏: الضمير في قوله: "‏‏جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏‏"[‏الشوري‏: ‏52‏]‏، يعود إلى الإيمان، ذكر ذلك عن ابن عباس‏‏ وقيل‏: إلى القرآن‏‏ وهو قول السُدِّي، وهو يتناولهما، وهو في اللفظ يعود إلى الروح الذي أوحاه، وهو الوحي الذي جاء بالإيمان والقرآن‏‏
    فقد تبين أن كلاهما من الله نور وهدي منه، هذا يعقل بالقلب، لما قد يشاهد من دلائل الإيمان، مثل دلائل الربوبية والنبوة، وهذا يسمع بالآذان، والإيمان الذي جعل للمؤمن هو مثل ما وعد الله به في قوله:
    "‏‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏‏"[‏فصلت‏: 53‏]‏، أي‏: أن القرآن حق، فهذه الآيات متأخرة عن نزول القرآن، وهو مثل ما فعل من نصر رسوله والمؤمنين يوم بدر، وغير يوم بدر‏‏ فإنه آيات مشاهدة، صدقت ما أخبر به القرآن ولكن المؤمنون كانوا قد آمنوا قبل هذا‏‏
    وقيل‏: نزول أكثر القرآن الذي ثبت الله به لنبيه وللمؤمنين؛ ولهذا قال‏:
    "‏‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏‏"[‏فصلت‏: ‏53‏]‏ فهو يشهد لرسوله بأنه صادق بالآيات الدالة على نبوته، وتلك آمن بها المؤمنون ثم أنزل من القرآن شاهدًا له، ثم أظهر آيات معاينة تبين لهم أن القرآن حق‏‏

    ج/ 15 ص -74- فالقرآن وافق الإيمان، والآيات المستقبلة وافقت القرآن والإيمان؛ ولهذا قال‏: ‏"‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إِمَامًا وَرَحْمَةً‏‏"[‏هود‏: 17‏]‏ فقوله: "‏‏وَمِن قَبْلِهِ": يعود الضمير إلى الشاهد الذي هو القرآن، كما قال تعالى: "‏‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ‏‏ الآية"[‏الأحقاف‏: 10‏]‏، ثم قال‏: ‏‏"وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً"‏‏ الآية‏‏ فقوله: "‏‏وَمِن قَبْلِهِ‏‏" الضمير يعود إلى القرآن‏‏ أي‏: من قبل القرآن، كما قاله ابن زيد‏‏ وقيل‏: يعود إلى الرسول، كما قاله مجاهد، وهما متلازمان‏‏
    وقوله:
    "‏‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى"‏‏ فيه وجهان‏: قيل‏: هو عطف مفرد، وقيل‏: عطف جملة‏‏ قيل‏: المعنى‏: ‏‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏، ويتلوه أيضًا من قبله كتاب موسى، فإنه شاهد بمثل ما شهد به القرآن، وهو شاهد من الله، وقيل‏: ‏‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى‏‏ جملة، ولكن مضمون الجملة فيها تصديق القرآن، كما قال في الأحقاف‏‏
    وقوله تعالى:
    "‏‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏‏" يدل على أن قوله: "‏‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ"‏‏ تتناول المؤمنين،فإنهم آمنوا بالكتاب الأول والآخر،كما تتناول النبي ﷺ، وأولئك يعود إليهم الضمير، فإنهم مؤمنون به بالشاهد من الله، فالإيمان به إيمان بالرسول والكتاب الذي قبله‏‏

    ج/ 15 ص -75- ثم قال‏:"‏‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏‏"[‏هود‏: 17‏]‏، وروي الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، وغيرهما عن أيوب عن سعيد بن جبير قال‏: ما بلغني حديث عن رسول الله ﷺ على وجه إلا وجدت تصديقه في كتاب الله، حتي بلغني أنه قال‏: "‏لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار‏"‏، قال سعيد‏: فقلت‏: أين هذا في كتاب الله‏؟‏ حتي أتيت على هذه الآية‏: ‏‏"وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏‏" قال‏: الأحزاب‏: هي الملل كلها‏‏
    وقوله تعالى:
    "‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ"‏‏ أي كل من كان على بينة من ربه، فإنه يؤمن بالشاهد من الله، والإيمان به إيمان بما جاء به موسى، قال‏: ‏‏‏"أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ"‏‏ وهم المتبعون لمحمد ﷺ من أصحابه وغيرهم إلى قيام الساعة، ثم قال‏: "‏‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏‏"، والأحزاب هم‏: أصناف الأمم، الذين تحزبوا وصاروا أحزابًا، كما قال تعالى: "‏‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ‏‏"[‏غافر‏: ‏5‏]‏‏‏
    وقد ذكر الله طوائف الأحزاب في مثل هذه السورة وغيرها، وقد قال تعالى عن مكذبي محمد ﷺ ‏:
    ‏"‏‏جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ‏‏"[‏ص‏: ‏11‏]‏،وهم الذين قال فيهم‏:

    ج/ 15 ص -76- ‏‏"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ علىهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إليه وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏‏"[‏الروم‏: ‏30 - 32‏]‏، وقال عن أحزاب النصارى‏: "‏‏‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏‏ الآيات" [‏ مريم‏: 37‏]‏‏‏
    وأما من قال‏: الضمير في قوله:
    "‏‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏‏" يعود على أهل الحق قال‏: إنه موسى وعيسى ومحمد‏‏ فإنه إن أراد بهم من كان مؤمنًا بالكتابين قبل نزول القرآن، فلم يتقدم لهم ذكر، والضمير في قوله: ‏‏بِهِ‏‏ مفرد، ولو آمن مؤمن بكتاب موسى دون الإنجيل بعد نزوله وقيام الحجة عليه به لم يكن مؤمنًا‏‏
    وهذان القولان حكاهما أبو الفرج ولم يسم قائلهما، والبغوي وغيره لم يذكروا نزاعًا في أنهم من آمن بمحمد، ولكن ذكروا قولاً أنهم من آمن به من أهل الكتاب، وهذا قريب‏‏ ولعل الذي حكي قولهم أبو الفرج أرادوا هذا، وإلا فلا وجه لقولهم‏‏
    ومن العجب، أن أبا الفرج ذكر بعد هذا في الأحزاب أربعة أقوال ‏:
    أحدها‏: أنهم جميع الملل، قاله سعيد بن جبير‏‏

    ج/ 15 ص -77- والثاني‏: اليهود والنصارى، قاله قتادة‏‏
    والث
    bالث‏: قريش، قاله السدي‏‏
    والرابع‏: بنو أمية وبنو المغيرة، قال‏: أي‏: أبي طلحة بن عبد العزي قاله مقاتل‏‏
    وهذه الآية تقتضي أن الضمير يعود إلى القرآن في قوله:
    "‏‏‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ‏‏"، وكذلك‏: "‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏‏" أنه القرآن، ودليله قوله تعالى: "‏‏فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ‏‏"[‏هود‏: 17‏]‏، وهذا هو القرآن بلا ريب، وقد قيل‏: هو الخبر المذكور، وهو أنه من يكفر به من الأحزاب، وهذا أيضًا هو القرآن، فعلم أن المراد هو الإيمان بالقرآن، والكفر به باتفاقهم، وأنه من قال في أولئك أنهم غير من آمن بمحمد لم يتصور ما قال‏‏
    وقد تقدم في قوله:
    "‏‏وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى"‏‏ وجهان‏: هل هو عطف جملة أو مفرد‏؟‏ لَكنْ الأكثرون على أنه مفرد‏‏ وقال الزجاج‏: المعنى‏: وكان من قبل هذا كتاب موسى‏‏ دليل على أمر محمد، فيتلون كتاب موسى عطفًا على قوله: "‏‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏" أي‏: ويتلو كتاب موسى؛ لأن موسى وعيسى بُشِّرا بمحمد في التوراة والإنجيل، ونُصِّبَ إماما على الحال‏‏

    ج/ 15 ص -78- قلت‏: قد تقدم أن الشاهد يتلو على من كان على بينة من ربه، أي‏: يتبعه شاهدًا له بما هو عليه من البينة‏‏ وقوله: "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ"‏‏ كمن لم يكن، قال الزجاج‏: وترك المعادلة؛ لأن فيما بعده دليلاً علىه، وهو قوله: "‏‏مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ‏‏"[‏هود‏: 24‏]‏، قال ابن قتيبة‏: لما ذكر قبل هذه الآية قومًا ركنوا إلى الدنيا وأرادوها، جاء بهذه الآية، وتقدير الكلام‏: أفمن كانت هذه حاله كمن يريد الدنيا‏؟‏ فاكتفي من الجواب بما تقدم إذ كان دليلاً علىه، وقال ابن الأنباري‏: إنما حذف لانكشاف المعنى، وهذا كثير في القرآن‏‏
    قلت‏: نظير هذه الآية من المحذوف‏:
    "‏‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا‏‏"[‏فاطر‏: 8‏]‏، كمن ليس كذلك، وقد قال بعد هذا‏: "‏‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ‏‏"، وهذا هو القسم الآخر المعادل لهذا الذي هو على بينة من ربه، وعلى هذا يكون معناها أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم، ويكون أيضًا معناها‏: "‏‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ"‏‏ أي‏: بصيرة في دينه، كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وهذا كقوله:

    ج/ 15 ص -79- ‏"‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ‏‏ الآية"[‏الأنعام‏: 122‏]‏‏‏ وكقوله: "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏‏"[‏محمد‏: ‏14‏]‏ وقوله: "‏‏‏أَفَمَن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي‏‏ الآية"[‏يونس‏: ‏35‏]‏‏‏
    والمحذوف في مثل هذا النظم قد يكون غير ذلك، كقوله:
    "‏‏أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ‏‏"[‏الزخرف‏: ‏18‏]‏ أي‏: تجعلون له من ينشأ في الحلية، ولابد من دليل على المحذوف، وقد يكون المحذوف مثل أن يقال‏: أفمن هذه حاله يذم أو يطعن عليه أو يعرض عن متابعته، أو يفتن أو يعذب، كما قال: "‏‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء‏‏"[‏فاطر‏: 8‏]‏‏‏
    وقد قيل في هذه الآية‏: أن المحذوف‏: ‏‏ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏‏ فرأى الباطل حقًا، والقبيح حسنًا، كمن هداه الله فرأي الحق حقًا والباطل باطلاً والقبيح قبيحًا والحسن حسنًا، وقيل‏: جوابه تحت قوله:
    "‏‏فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليهِمْ حَسَرَاتٍ‏‏"[‏فاطر‏: 8‏]‏، لكن يرد عليه أن يقال‏: الاستفهام ما معناه إلا أن تقدر‏‏ أي‏: هذا تقدر أن تهديه، أو ربك‏؟‏ أو تقدر أن تجزيه كما قال: "‏‏أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عليه وَكِيلًا‏‏"[‏الفرقان‏: ‏43‏]‏‏‏ ولهذا قال‏: "‏‏فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء‏‏"[‏فاطر‏: 8‏]‏‏‏ وكما قال: "‏‏"أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على عِلْمٍ‏‏ الآية"[‏الجاثية‏: ‏23‏]‏‏‏ وعلى هذا يكون معناها كمعنى قوله: "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏‏"[‏محمد‏: 14‏]‏‏‏
    وعلى هذا، فالمعنى هنا‏:
    "‏‏أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى"‏‏ يذم ويخالف ويكذب ونحو ذلك، كقوله: "‏‏قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ‏‏"[‏الأنعام‏: 57‏]‏، وحذف جواب

    ج/ 15 ص -80- الشرط، وكقوله: "‏‏أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏‏"[‏العلق‏: 11 13‏]‏‏‏
    فقد تبين أن معنى الآية من أشرف المعاني وهذا هو الذي ينتفع به كل أحد، وأن الآية ذكرت من كان على بينة من ربه، من الإيمان الذي شهد له القرآن، فصار على نور من ربه وبرهان من ربه على مادلت عليه البراهين العقلية والسمعية، كما قال:
    "‏‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا‏‏"[‏النساء‏: 174‏]‏، فالنور المبين المنزل يتناول القرآن‏‏ قال قتادة‏: بينة من ربكم، وقال الثَّوْرِي‏: هو النبي صلي الله عليه وسلم، وقال البغوي‏: هذا قول المفسرين ولم أجده منقولاً عن غير الثاني، ولا ذكره ابن الجوزي عن غيره‏‏
    وذكر في البرهان ثلاثة أقوال‏: أحدها‏: أنه الحجة‏‏ والثاني‏: أنه الرسول‏‏ وذكر أنه القرآن عن قتادة‏‏ والذي رواه ابن أبي حاتم عن قتادة بالإسناد الثابت أنه بينة من الله، والبينة والحجة تتناول آيات الأنبياء التي بعثوا بها، فكل ما دل على نبوة محمد صلي الله عليه وسلم فهو برهان‏‏ قال تعالى:
    "‏‏"فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ‏‏"[‏القصص‏: 32‏]‏، وقال لمن قال‏: لا يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصاري، قل‏: هاتوا برهانكم‏‏
    ومحمد هو الصادق المصدوق، قد أقام الله على صدقه براهين كثيرة

    ج/ 15 ص -81- وصار محمد نفسه برهانًا‏‏ فأقام من البراهين على صدقه؛ فدليل الدليل دليل، وبرهان البرهان برهان، وكل آية له برهان، والبرهان اسم جنس لا يراد به واحد،كما في قوله: "‏‏قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏‏‏"[‏البقرة‏: 111، والنمل‏: 46‏]‏، ولو جاؤوا بعده ببراهين كانوا ممتثلين‏‏
    والمقصود أن ذلك البرهان يعلم بالعقل أنه دال على صدقه، وهو بينة من الله، كما قال قتادة، وحجة من الله، كما قال مجاهد والسُّدي‏: المؤمن على تلك البينة، ويتلوه شاهد من الله وهو النور الذي أنزله مع البرهان‏‏ والله أعلم‏
    فصل
    وأما من قال‏:
    "‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏"[‏محمد‏: 14‏]‏‏: إنه محمد صلي الله عليه وسلم، كما قاله طائفة من السلف، فقد يريدون بذلك التمثيل لا التخصيص، فإن المفسرين كثيرًا ما يريدون ذلك، ومحمد هو أول من كان على بينة من ربه، وتلاه شاهد منه، وكذلك الأنبياء، وهو أفضلهم وإمامهم، والمؤمنون تبع له، وبه صاروا على بينة من ربهم‏‏
    والخطاب قد يكون لفظه له ومعناه عام، كقوله:

    ج/ 15 ص -82- "‏‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏‏"[‏الزمر‏: 65‏]‏،"‏‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ‏‏"[‏الشرح‏: 7‏]‏، "‏‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي‏‏"[‏سبأ‏: 50‏]‏، ونحو ذلك، وذلك أن الأصل فيما خوطب به النبي صلي الله عليه وسلم في كل ما أمر به ونهي عنه وأبيح له سار في حق أمته كمشاركة أمته له في الأحكام وغيرها، حتي يقوم دليل التخصيص، فما ثبت في حقه من الأحكام ثبت في حق الأمة إذا لم يخصص، هذا مذهب السلف والفقهاء، ودلائل ذلك كثيرة كقوله: "‏‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا‏‏ الآية"[‏الأحزاب‏: ‏37‏]‏، ولما أباح له الموهوبة قال‏: ‏‏‏خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏‏ الآية" [‏الأحزاب‏: 50‏]‏‏‏ فإذا كان هذا مع كون الصيغة خاصة فكيف تجعل الصيغة العامة له وللمؤمنين مختصة به‏؟‏ ولفظ ‏‏ّمّن‏‏‏: أبلغ صيغ العموم، لاسيما إذا كانت شرطًا أو استفهامًا، كقوله: "‏‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه‏‏" [‏الزلزلة‏: 7، 8‏]‏، وقوله: "‏‏‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا‏‏"[‏فاطر‏: 8‏]‏،وقوله "‏‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ‏‏"[‏الأنعام‏: ‏122‏]‏،وقوله: "‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏‏"[‏محمد‏: ‏14‏]‏‏‏ وأيضًا، فقد ذكر بعد ذلك قوله: "‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏‏"[‏هود‏: 17‏]‏، وذكر بعد هذا‏: ‏‏"مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ‏‏"[‏هود‏: ‏24‏]‏، وقد تقدم قبل هذا ذكر الفريقين، وقوله: "‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏‏"

    ج/ 15 ص -83- ‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ"‏‏ إشارة إلى جماعة، ولم يقدم قبل هذا ما يصلح أن يكون مشارًا إليه إلا ‏‏من‏‏، والضمير يعود تارة إلى لفظ‏: ‏‏من‏‏، وتارة إلى معناها، كقوله: "‏‏‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏‏"[‏الأنعام‏: ‏25‏]‏، "‏‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏‏"[‏يونس‏: 42‏]‏"،‏‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى‏‏"[‏النساء‏: 124‏]‏،" ‏‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏‏ الآية"[‏النحل‏: 97‏]‏‏‏
    وأما الإشارة إلى معناها فهو أظهر من الضمير، فقوله:
    "‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏‏"[‏هود‏: ‏17‏]‏‏: دليل على أن الذي على بينة من ربه كثيرون لا واحد، قال ابن أبي حاتم‏: ثنا عامر بن صالح عن أبيه عن الحسن البصري‏: ‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏‏‏ قال‏: المؤمن على بينة من ربه، وهذا الذي قاله الحسن البصري هو الصواب، والرسول هو أول المؤمنين، كما قال: "‏‏‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏‏"[‏يونس‏: 104‏]‏‏‏
    ومن قال‏: إن الشاهد من الله هو محمد كما رواه ابن أبي حاتم، ثنا الأشَجُّ، ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان الفلاني، عن الحسين بن علي‏: ‏‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ‏‏ يعني‏: محمدًا شاهدًا من الله، فهنا معنى كونه شاهدًا من الله هو معنى كونه رسول الله، وهو يشهد المؤمنين بأنهم على حق، وإن كان يشهد لنفسه بأنه رسول الله فشهادته لنفسه معلومة، قد علم أنه صادق فيها بالبراهين الدالة على نبوته،وأما شهادته للمؤمنين فهو أنها إنما تعلم من جهته بما بَلَغَه من القرآن،ويخبر به عن

    ج/ 15 ص -84- ربه،فهو إذا شهد كان شاهدًا من الله‏‏
    وأما شهادته عليهم بالإيمان والتصديق وغير ذلك، فكما في قوله:
    "‏‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا‏‏"[‏النساء‏: 41‏]‏، "‏‏وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏‏"[‏البقرة‏: 143‏]‏، لكن من قال هذا فقد يريد بالبينة القرآن، فإن المؤمن متبع للقرآن، ومحمد شاهد من الله يتلوه كما تلاه جبريل‏‏
    ومن قال‏: ‏إن الشاهد لسان محمد فهو إنما أراد بهذا القول التلاوة أي‏: ‏أن لسان محمد يقرأ القرآن،وهو شاهد منه أي من نفسه فإن لسانه جزء منه،وهذا القول ونحوه ضعيف، والله أعلم‏‏هذا إن ثبت ذلك عمن نقل عنه،فإن هذا وضده ينقلان عن على بن أبي طالب‏‏
    وذلك أن طائفة من جُهَّال الشيعة ظنوا أن عليا هو الشاهد منه، أي من النبي صلي الله عليه وسلم، كما قال له‏:
    "‏أنت مني وأنا منك‏"‏‏‏
    وهذا قاله لغيره أيضًا فقد ثبت في الصحيحين أنه قال‏: "‏الأشعريون هم مني وأنا منهم‏"‏، وقال عن جُلَيبِيبِ‏: "‏هذا مني وأنا منه‏"‏، وكل

    ج/ 15 ص -85- مؤمن هو من النبي صلي الله عليه وسلم، كما قال الخليل‏: "‏‏فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي‏‏"[‏إبراهيم‏: 36‏]‏، وقال‏: ‏‏"وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي‏‏"[‏البقرة‏: 249‏]‏، ورووا هذا القول عن على نفسه، وروي عنه بإسناد أجود منه أنه قال‏: كذب من قال هذا، قال ابن أبي حاتم‏: ذكر عن حسين بن زيد الطَّحَّان، ثنا إسحاق ابن منصور، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَالِ، عن عبَّاد بن عبد الله قال‏: قال علي‏: ما من قريش أحد إلا نزلت فيه آية، قيل‏: فما أنزل فيك‏؟‏ قال‏: ‏‏وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ‏‏ وهذا كذب على على قطعًا‏‏ وإن ثبت النقل عن عباد هذا، فإن له منكرات عنه، كقوله: "أنا الصديق الأكبر، أسلمت قبل الناس بسبع سنين‏‏
    وقد رووا عن على ما يعارض ذلك، قال ابن أبي حاتم، ثنا أبي، ثنا عمرو بن على البَاهِلِي، ثنا محمد بن شِوَاص، ثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن عُرْوَة، عن محمد ابن على يعني ابن الحنفية قال‏: قلت لأبي‏: ‏يا أبة ‏‏
    "وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ"‏‏‏: إن الناس يقولون‏: إنك أنت هو، قال‏: وددت لو أني أنا هو‏‏ ولكنه لسانه‏‏ قال ابن أبي حاتم‏: وروي عن الحسن وقتادة نحو ذلك‏‏
    قلت‏: وقد تقدم عن الحسين ابنه أن ‏"‏الشاهد منه‏"‏‏: هو محمد صلي الله عليه وسلم، وإنما تكلم علماء أهل البيت في أنه محمد ردًا على من قال من الجهلة‏: إنه علي؛ فإن هذه السورة نزلت بمكة، وعلي كان

    ج/ 15 ص -86- إذ ذاك صغيرًا لم يبلغ‏‏ وكان ممن اتبع الرسول ولو كان ابن رسول الله ليس ابن عمه لم تكن شهادته تنفع‏‏ لا عند المسلمين ولا عند الكفار، بل مثل هذه الشهادة فيها تهمة القرابة‏‏
    ولهذا كان أكثر العلماء على أن شهادة الوالد وشهادة الولد لوالده لا تقبل، فكيف يجعل مثل هذا حجة لنبوة محمد صلي الله عليه وسلم مؤكدًا لها‏؟‏ ولذلك قالوا في قوله تعالي‏:
    "‏‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏‏"[‏الرعد‏: ‏43‏]‏، أنه علي، وهم مع كذبهم هم أجهل الناس، فإنهم نسبوا الله والرسول إلى الاحتجاج بما لا يحتج به إلا جاهل، فأرادوا تعظيم علي، فنسبوا الله والرسول إلى الجهل، وعلى إنما فضيلته باتباعه للرسول، فإذا قدح في الأصل بطل الفرع‏‏
    وأما قول من قال من المفسرين‏: إن ‏"‏الشاهد‏"‏‏: جبريل عليه السلام فقد روي ذلك عكرمة عن ابن عباس، ذكره ابن أبي حاتم عنه، وعن أبي العالية، وأبي صالح، ومجاهد في إحدي الروايات عنه، وإبراهيم، وعِكْرِمَة، والضَّحَّاك، وعطاء الخُرَاسَاِني نحو ذلك‏‏ وهؤلاء جعلوا
    "‏‏وَيَتْلُوهُ‏‏" ‏: بمعني‏: يقرأه، أي‏: ويتلو القرآن الذي هو البينة، شاهد من الله هو، وقيل‏: بل معنى قولهم‏: إن القرآن يتلوه جبريل هو شاهد محمد صلي الله عليه وسلم، أي‏: الذي يتلوه جاء من عند الله‏‏ وقد تقدم بيان ضعف هذا القول، فإن كل من فسر يتلوه

    ج/ 15 ص -87- بمعنى يقرؤه، جعل الضمير فيه عائدًا إلى القرآن، وجعل الشاهد غير القرآن‏‏
    والقرآن لم يتقدم له ذكر،إنما قال‏
    : "‏‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏"[‏محمد‏: ‏14‏]‏ والبينة لا يجوز أن يكون تفسيرها بحفظ القرآن، فإن المؤمنين كلهم على بينة من ربهم وإن لم يحفظوا القرآن،بخلاف البصيرة في الدين،فإنه من لم يكن على بصيرة من ربه لم يكن مؤمنًا حقًا،بل من القائلين لمنكر ونكير ‏: آه آه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته‏‏
    والقرآن إنما مدح من كان على بينة من ربه، فهو على هدي ونور وبصيرة، سواء حفظ القرآن أو لم يحفظه، وإن أريد اتباع القرآن فهو الإيمان، وأكثر القرآن لم يكن نزل حين نزول هذه الآية، وقد تقدم إنما يختص به جبريل ومحمد، فهو تبليغ الرسالة عن الله وصدقهما في ذلك‏‏
    وأما كون رسالة الله حقًا فهذا هو المشهود به من كل رسول، وهما لا يختصان بذلك بل يؤمنان به كما يؤمن بذلك كل ملك وكل مؤمن، وشهادتهما بأن النبي والمؤمنين على حق من هذا الوجه الثاني المشترك، ولو قال‏: ويبلغه وينزل به رسول من الله لكان ما قالوه متوجهًا، كما قال:
    "‏‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ‏‏"[‏النحل‏: ‏102‏]‏، "‏‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏‏"[‏الشعراء‏: ‏139‏]‏،

    ج/ 15 ص -88- "‏‏فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ‏‏"[‏البقرة‏: 97‏]‏‏‏ أما كونه شاهدًا يقرؤه فهذا لا نظير له في القرآن‏‏
    وأيضًا، فالشاهد الذي هو من الله هو الكلام، فإن الكلام نزل منه كما يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، ويقال في الرسول‏: إنه منه، كما قال: رسول من الله، ويقَال في الشخص‏: الشاهد، فيقال فيه‏: هو من شهداء الله، وإما كونه يقال فيه‏: شاهد من الله إنها برهان من الله، وآيات من الله في الآيات التي يخلقها الله تصديقًا لرسوله‏: فهذا يحتاج استعماله إلى شاهد‏‏
    والقرآن نزل بلغة قريش الموجودة في القرآن، فإنها تُفَسَّر بلغته المعروفة فيه، إذا وجدت لا يعدل عن لغته المعروفة مع وجودها، وإنما يحتاج إلى غير لغته في لفظ لم يوجد له نظير في القرآن، كقوله:
    "‏‏وَيْكَأَنَّ اللَّهَ‏‏"[‏القصص‏: 82‏]‏، "‏‏وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ‏‏"[‏ص‏: 3‏]‏، ‏"‏وَكَأْسًا دِهَاقًا‏‏"[‏النبأ‏: ‏34‏]‏،"‏‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا‏‏"[‏عبس‏: ‏31‏]‏، و ‏‏"قِسْمَةٌ ضِيزَى‏‏"[‏النجم‏: 22‏]‏، ونحو ذلك من الألفاظ الغريبة في القرآن‏‏ والذين قالوا هذه الأقوال، إنما أتوا من جهة قوله: "‏‏وَيَتْلُوهُ"‏‏ فظنوا أن تلاوته هي قراءته، ولم يتقدم للقرآن ذكر، ثم جعل هذا يقول‏: جبريل تلاه، وهذا يقول‏: محمد، وهذا يقول‏: لسانه‏‏ والتلاوة قد وجدت في القرآن واللغة المشهورة بمعنى الاتباع‏‏ وكثير من المفسرين لا يذكر في هذه الآية القول الصحيح، فيبقي الناظر الفطن حائرًا،

    ج/ 15 ص -89- ولم يذكر في الذي على بَينةِ من ربه إلا أنه الرسول، ويذكر في الشاهد عدة أقوال‏‏
    ثم من العجب أنه يقول‏:
    "‏‏أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ"‏‏ أولئك أصحاب محمد‏‏
    وقيل‏: المراد الذين أسلموا من أهل الكتاب،وهو على ما فسره لم يتقدم لهم ذكر، فكيف يشار إليهم بقوله:
    "‏‏‏يُؤْمِنُونَ بِهِ"‏‏ وأبو الفرج ذكر قولا‏: ‏أنهم المسلمون،ولم يذكر أن الآية تعم النبي والمؤمنين،ولما ذكر قول من قال‏: إنهم المسلمون قال‏: وهذا يخرج على قول الضحاك في البينة أنها رسول الله‏‏
    وقد ذكر في ‏"‏البينة‏"‏ أربعة أقوال‏: أنها الدين، ذكره أبو صالح عن ابن عباس‏‏ وأنها رسول الله، قاله الضحاك‏‏ وأنها القرآن، قاله ابن زيد‏‏ وأنها البيان، قاله مُقَاتِل‏‏
    ثم قال‏: فإن قلنا‏: المراد‏: من كان على بينة من ربه‏: المسلمون، فالمعني‏: أنهم يتبعون الرسول وهو البينة، ويتبع هذا النبي شاهد منه يصدقه، والمسلمون إذا كانوا على بينة فهي الإيمان بالرسول، ليست البينة ذات الرسول، والرسول ليس هو مذكورًا في كلامه، فقوله:
    "‏‏وَيَتْلُوهُ‏‏" لابد أن يعود إلي ‏‏مٌَنًه ‏‏ لكن إعادته إلى البينة أولى‏‏

    ج/ 15 ص -90- وفسر البينة بالرسول، وجعل الشاهد يشهد له بصدقه‏‏ ثم الشاهد جبريل أو غيره، فلو قال‏: الشاهد هو القرآن يشهد للمؤمنين، فإنه يتبعهم كما يتبعونه كان قد ذكر الصواب‏‏
    وهو قد ذكر أقوالاً كثيرة لم يذكرها غيره، وذكر في يتْلُوه قولين‏: أحدهما‏: يتبعه‏‏ والثاني‏: يقرؤه، وهما قولان مشهوران‏‏
    وذكر في ‏"‏ه‏"‏ يتلوه قولين‏: أنها ترجع إلى النبي‏‏ والثاني‏: أنها ترجع إلى القرآن‏‏
    والتحقيق، أنها ترجع إلى ‏"‏من‏"‏، أو ترجع إلى البينة، والبينة يراد بها القرآن، فيكون المعنى أن الشاهد من القرآن، وإذا رجع الضمير إلى ‏"‏من‏"‏، فإن جعل مختصًا بالنبي صلي الله عليه وسلم وهو القول الذي تقدم بيان فساده عاد الضمير إلى البينة، وإن كانت ‏"‏من‏"‏ تتناول كل من كان على بينة من ربه من المؤمنين ورسول الله أولي المؤمنين تناول الجميع‏‏
    ومما يوضح ذلك، أن رسول الله جاء بالرسالة من الله، وهذا يختص به، وتصديق هذه الرسالة والإيمان بها واجب على الثقلين، والرسول هو أول من يجب عليه الإيمان بهذه الرسالة التي أرسله الله

    ج/ 15 ص -91- بها؛ ولهذا قال في سورة يونس‏: "‏‏‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏‏"[‏يونس‏: ‏104‏]‏، وقال‏: ‏‏"قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏‏"[‏الأنعام‏: ‏14‏]‏، إلى غير ذلك من الآيات‏‏
    فهو ﷺ يتعلق به أمران عظيمان‏:
    أحدهما‏: إثبات نبوته وصدقه فيما بلغه عن الله، وهذا مختص به‏‏
    والثاني‏: تصديقه فيما جاء به، وأن ما جاء به من عند الله حق يجب اتباعه، وهذا يجب عليه وعلى كل أحد، فإنه قد يوجد فيمن يرسله المخلوق من يصدق في رسالته، لكنه لا يتبعها، إما لطعنه في المرسل، وإما لكونه يعصه، وإن كان قد أُرْسِل بحق، فالملوك كثيرًا ما يرسلون رسولاً بكتب وغيرها يبلغ الرسل رسالتهم، فيصدقون بها‏‏ثم قد يكون الرسول أكثر مخالفة لمرسله من غيره من المرسل إليهم؛ ولهذا ظن طائفة منهم القاضي أبو بكر أن مجرد كونه رسولاً لله لا يستلزم المدح، ثم قال‏: ‏إن هذا قد يقال فيمن قبل الرسالة وبلغها، وفيمن لم يقبل،لكن هذا غلط، فإن الله لا يرسل رسولاً إلا وقد اصطفاه، فَيبَلِّغ رسالات ربه‏‏ ورسل الله

    ج/ 15 ص -92- هم أطوع الخلق لله وأعظم إيمانًا بما بعثوا به،بخلاف المخلوق فإنه يرسل من يكذب عليه، ومن يعصيه، ومن لا يعتقد وجوب طاعته والخالق منزه عن ذلك‏‏
    لكن هؤلاء الذين قالوا هذا، يجوزون على الرب أن يرسل كل أحد بكل شيء، ليس في العقل عندهم ما يمنع ذلك، وإنما ينزهون الرسل عما أجمع المسلمون على تنزيههم عنه عندهم، مما ثبت بالسمع لا من جهة كونه رسولاً، كما قد بُسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن هذا الأصل خطأ‏‏
    ولما كان هو صلي الله عليه وسلم يتعلق به الأمران‏: في الأول‏: يقال‏: آمنت له، كما قال تعالى:
    "‏‏فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ‏‏"[‏يونس‏: 83‏]‏، وقوله: "‏‏يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏‏"[‏التوبة‏: ‏61‏]‏، ‏‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا‏‏" [‏يوسف‏: 17‏]‏‏‏
    وفي الثاني‏: يقال‏: آمنت بالله، فعلينا أن نؤمن له ونؤمن بما جاء به، والله تعإلى ذكر هذين‏‏ فذكر أولاً‏: ما يثبت نبوته وصدقه بقوله:
    "‏‏‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ‏‏"[‏هود‏: ‏13، 14‏]‏، كما تقدم التنبيه على ذلك‏‏

    ج/ 15 ص -93- ولما كان الذي يمنع الإنسان من اتباع الرسول شيئان‏: إما الجهل، وإما فساد القصد، ذَكَرَ ما يزيل الجهل، وهو الآيات الدالة على صدقه، ثم ذَكَرَ أهل فساد القصد بقوله: "‏‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏‏"[‏هود‏: 15، 16‏]‏، فهؤلاء أهل فساد القصد‏‏
    فهذان الأمران هما المانعان للخلق من اتباع هذا الرسول، كما أنه في البقرة ذكر ما يوجب العلم وحسن القصد، فقال‏:
    ‏‏"وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏‏، ثم قال‏: ‏‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏‏"[‏البقرة‏: 23، 24‏]‏‏‏
    فلما أثبت هذين الأصلين،أخذ بعد هذا في بيان الإيمان به،وحال من آمن ومن كفر، فقال‏:
    "‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏ الآية"[‏هود‏: ‏17‏]‏‏‏ ثم قال‏: ‏‏‏"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ‏‏"[‏هود‏: ‏18‏]‏،وهذا يتناول كل كافر ممن كَذَبَ على الله بادعاء الرسالة كاذبًا،ويتناول كل من كَذَّبَ رسولاً صادقًا،فقال‏: ‏إن الله لم يرسل هذا،ولم يأمر بهذا،فكَذَبَ على الله، وهذا إنما يقع ممن فسد

    ج/ 15 ص -94- قصده بحب الدنيا وإرادتها،وممن أحب الرئاسة وأراد العلو في الأرض من أهل الجهل‏‏
    وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال‏:
    "‏إن الله يدني المؤمن منه يوم القيامة حتي يلقي عليه كنفه، ويقول‏: فعلت يوم كذا كذا وكذا، ويوم كذا كذا وكذا، فيقول‏: نعم، فيقول‏: إني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته بيمينه‏"‏‏‏
    وأما الكفار والمنافقون،
    "‏‏وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏‏"[‏هود‏: 18‏]‏، ثم ذكر تعإلى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم ذكر مثل الفريقين، فمن تدبر القرآن، وتدبر ما قبل الآية وما بعدها، وعرف مقصود القرآن؛ تبين له المراد، وعرف الهدي والرسالة، وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج‏‏
    وأما تفسيره بمجرد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه، فهذا منشأ الغلط من الغالطين؛ لا سيما كثير ممن يتكلم فيه بالاحتمالات اللغوية‏‏ فإن هؤلاء أكثر غلطًا من المفسرين المشهورين، فإنهم لا يقصدون معرفة معناه، كما يقصد ذلك المفسرون‏‏
    وأعظم غلطًا من هؤلاء وهؤلاء من لا يكون قصده معرفة مراد الله،

    ج/ 15 ص -95- بل قصده تأويل الآية بما يدفع خصمه عن الاحتجاج بها، وهؤلاء يقعون في أنواع من التحريف، ولهذا جوز من جوَّز منهم أن تتأول الآية بخلاف تأويل السلف، وقالوا‏: إذا اختلف الناس في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين، وهذا خطأ، فإنهم إذا أجمعوا على أن المراد بالآية إما هذا، وإما هذا، كان القول بأن المراد غير هذين القولين خلافًا لإجماعهم، ولكن هذه طريق من يقصد الدفع لا يقصد معرفة المراد، وإلا فكيف يجوز أن تضل الأمة عن فهم القرآن، ويفهمون منه كلهم غير المراد، [‏ويأتي‏]‏ متأخرون يفهمون المراد، فهذا هذا‏‏ والله أعلم‏‏
    فصل
    وقوله:
    "‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏‏" كما تقدم هو كقوله: "‏‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي‏‏"[‏الأنعام‏: 57‏]‏، وقوله: "‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ‏‏"[‏محمد‏: ‏14‏]‏،وقوله: "‏‏أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه‏‏"[‏الزمر‏: 22‏]‏، وقوله: "‏‏‏أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ‏‏"[‏البقرة‏: 5‏]‏‏‏

    ج/ 15 ص -96- فإن هذا النوع يبين أن المؤمن على أمر من الله، فاجتمع في هذا اللفظ حرف الاستعلاء، وحرف ‏"‏من‏"‏ لابتداء الغاية، وما يستعمل فيه حرف ابتداء الغاية فيقال‏: هو من الله على نوعين، فإنه إما أن يكون من الصفات التي لا تقوم بنفسها، ولا بمخلوق، فهذا يكون صفة له، وما كان عينًا قائمة بنفسها، أو بمخلوق فهي مخلوقة‏‏
    فالأول‏: كقوله:
    "‏‏وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي‏‏"[‏السجدة‏: ‏13‏]‏، وقوله: "‏‏‏يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ‏‏"[‏الأنعام‏: ‏114‏]‏،كما قال السلف‏: ‏القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود‏‏
    والنوع الثاني‏: كقوله: "
    ‏‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏‏"[‏الجاثية‏: 13‏]‏، وقوله: "‏‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏‏"[‏النحل‏: 53‏]‏، "و ‏‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏‏"[‏النساء‏: 79‏]‏، وكما يقال‏: إلهام الخير وإيحاؤه من الله، وإلهام الشر وإيحاؤه من الشيطان، والوسوسة من الشيطان، فهذا نوعان‏:
    تارة يضاف باعتبار السبب، وتارة باعتبار العاقبة والغاية‏‏ فالحسنات‏: هي النعم، والسيئات‏: هي المصائب كلها من عند الله، لكن تلك الحسنات أنعم الله بها على العبد، فهي منه، إحسانًا وتفضلاً، وهذه عقوبة ذنب من نفس العبد، فهي من نفسه باعتبار أن عمله السيئ كان

    ج/ 15 ص -97- سببها، وهي عقوبة له؛ لأن النفس أرادت تلك الذنوب ووسوست بها‏‏
    وتارة يقال باعتبار حسنات العمل وسيئاته،وما يلقي في القلب من التصورات والإرادات، فيقال للحق‏: هو من الله ألهمه العبد‏‏ ويقال للباطل‏: إنه من الشيطان وسوس به، ومن النفس أيضًا؛ لأنها إرادته، كما قال عمر وابن عمر وابن مسعود فيما قالوه باجتهادهم ‏: إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنا ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه‏‏
    وهذا لفظ ابن مسعود في حديث بروع بنت واشق، قال ‏: إن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ؛ لأنه حكم بحكم‏‏ فإن كان موافقًا لحكم الله فهو من الله؛ لأنه موافق لعلمه وحكمه، فهو منه باعتبار أنه سبحانه ألهمه عبده لم يحصل بتوسط الشيطان والنفس، وإن كان خطأ فالشيطان وسوس به، والنفس أرادته ووسوست به، وإن كان ذلك مخلوقًا فيه، والله خلقه فيه، لكن الله لم يحكم به، وإن لم يكن ما وقع لي من إلهام الملَك كما قال ابن مسعود ‏: إن للملك بقلب ابن آدم لمة، وللشيطان لمة؛ فلَمَّة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق فالتصديق من باب الخبر والإيعاد بالخبر، والشر من باب الطلب والإرادة ‏‏ قال تعالى: "
    ‏‏"الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏‏"[‏البقرة‏: 268‏]‏‏‏

    ج/ 15 ص -98-فهذه حسنات العمل من الله عز وجل بهذين الاعتبارين‏:
    أحدهما‏: أنه يأمر بها ويحبها، وإذا كانت خيرًا فهو يصدقها ويخبر بها، فهي من علمه وحكمه، وهي أيضًا من إلهامه لعبده وإنعامه عليه، لم تكن بواسطة النفس والشيطان؛ فاختصت بإضافتها إلى الله من جهة أنها من علمه وحكمه، وإن النازل بها إلى العبد ملك، كما اختص القرآن بأنه منه كلام، وقرآن مسيلمة بأنه من الشيطان، فإن ما يلقيه الله في قلوب المؤمنين من الإلهامات الصادقة العادلة، هي من وحي الله، وكذلك ما يريهم إياه في المنام، قال عُبَادة بن الصامت‏: رُؤْيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في منامه، وقال عمر‏: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم يتجلي لهم أمور صادقة، وقد قال تعالى:
    "‏‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي‏‏"[‏المائدة‏: ‏111‏]‏، "‏‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى‏‏"[‏القصص‏: ‏7‏]‏، ‏"‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا‏‏"[‏يوسف‏: ‏15‏]‏، وقال‏: ‏‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏‏" [‏الشمس‏: 8‏]‏، على قول الأكثرين، وهو أن المراد‏: أنه ألهم الفاجرة فجورها، والتقية تقواها، فالإلهام عنده هو البيان بالأدلة السمعية والعقلية‏‏
    وأهل السنة يقولون‏: كلا النوعين من الله، هذا الهدي المشترك

    ج/ 15 ص -99- وذاك الهدي المختص، وإن كان قد سماه إلهامًا كما سماه هدي، كما في قوله: "‏‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏‏"[‏فصلت‏: ‏17‏]‏، وكذلك قد قيل في قوله: "‏‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏‏"[‏البلد‏: ‏10‏]‏ أي‏: بينا له طريق الخير والشر، وهو هدي البيان العام المشترك، وقيل‏: هدينا المؤمن لطريق الخير، والكافر لطريق الشر؛ فعلى هذا يكون قد جعل الفجور هدي، كما جعل أولئك البيان إلهامًا‏‏
    وكذلك قوله:
    "‏‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا‏‏"[‏الإنسان‏: 3‏]‏، قيل‏: ‏هو الهدي المشترك، وهو أنه بين له الطريق التي يجب سلوكها،والطريق التي لا يجب سلوكها، وقيل‏: بل هدي كلا من الطائفتين إلى ما سلكه من السبيل ‏‏إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا‏‏‏‏
    لكن تسمية هذا هدي قد يعتذر عنه بأنه هدي مقيد لا مطلق، كما قال:
    "‏‏فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏‏"[‏آل عمران‏: ‏21‏]‏، وكما قال: "‏‏يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏‏"[‏النساء‏: ‏51‏]‏، "وأنه ‏‏يَقُولُ الْحَقَّ‏‏"[‏الأحزاب‏: 4‏]‏ و ‏‏يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ‏‏" [‏النحل‏: ‏90‏]‏ فهو موافق لقوله وأمره لعلمه وحكمه، كما أن القرآن وسائر كلامه كذلك، وباعتبار أنه أنعم على العبد بواسطة جنده بالملائكة‏‏
    ويقال لضد هذا وهو الخطأ ‏: هذا من الشيطان والنفس؛ لأن الله لا يقوله ولا يأمر به؛ ولأنه إنما يَنْكُتُه في قلب الإنسان

    ج/ 15 ص -100- الشيطان، ونفسه تقبله من الشيطان، فإنه يزين لها الشيء فتطيعه فيه، وليس كل ما كان من الشيطان يعاقب عليه العبد، ولكن يفوته به نوع من الحسنات كالنسيان، فإنه من الشيطان، والاحتلام من الشيطان، والنعاس عند الذكر والصلاة من الشيطان، والصعق عند الذكر من الشيطان، ولا إثم على العبد فيما غلب عليه، إذا لم يكن ذلك بقصد منه أو بذنب‏‏
    فقوله:
    "‏‏ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي‏‏" [‏الأنعام‏: ‏57‏]‏ وشبهها مما تقدم ذكره من هذا الباب، وكذلك قوله: "‏‏ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ‏‏" [‏محمد‏: 3‏]‏،فإن المؤمنين على تصديق ما أخبر الله به،وفعل ما أمر الله ابتداء وتبليغًا كالقرآن، وقد قال‏: "‏إن الله أنزل الأمانة في جَذْرِ قلوب الرجال‏"‏ فهي تنزل في قلوب المؤمنين من نوره وهداه، وهذه حسنات دينية وعلوم دينية حق نافعة في الدنيا والآخرة، وهو الإيمان الذي هو إفضال المنعم، وهو أفضل النعم‏‏
    وأما قوله: "‏‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏‏"[‏النساء‏: ‏79‏]‏، فقد دخل في ذلك نعم الدنيا كلها، كالعافية والرزق، والنصر، وتلك حسنات يبتلي الله العبد بها، كما يبتليه بالمصائب، هل يشكر أم لا‏؟‏ وهل يصبر أم لا‏؟‏ كما قال تعالى: "‏‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ‏‏"[‏الأعراف‏: 168‏]‏، و"قال‏: ‏‏وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏‏"[‏الأنبياء‏: ‏35‏]‏، "‏‏فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ"‏‏ الآيات [‏الفجر‏: ‏15‏]‏‏‏

    ج/ 15 ص -101- وقد يقال في الشيء‏: إنه من الله وإن كان مخلوقًا إذا كان مختصًا بالله، كآيات الأنبياء، كما قال لموسي‏: "‏‏فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ‏‏"[‏القصص‏: 32‏]‏، وقلب العصا حية، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء مخلوق لله، لكنه منه لأنه دل به وأرشد إلى صدق نبيه موسي، وهو تصديق منه وشهادة منه له بالرسالة والصدق، فصار ذلك من الله بمنزلة البينة من الله، والشهادة من الله، وليست هذه الآيات مما تفعله الشياطين والكهان، كما يقال‏: هذه علامة من فلان، وهذا دليل من فلان، وإن لم يكن ذلك كلامًا منه‏‏
    وقد سمي موسي ذلك بينة من الله فقال‏:
    "‏‏‏قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ‏‏"[‏الأعراف‏: ‏105‏]‏، فقوله: "‏‏‏بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ‏‏"، كقوله: "‏‏فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ"‏‏‏‏
    وهذه البينة هنا حجة وآية، ودلالة مخلوقة تجري مجري شهادة الله وإخباره بكلامه، كالعلامة التي يرسل بها الرجل إلى أهله وكيله، قال سعيد بن جبير في الآية‏: هي كالخاتم تبعث به، فيكون هذا بمنزلة قوله: صدقوه فيما قال، أو أعطوه ما طلب‏‏
    فالقرآن والهدي منه، وهو من كلامه وعلمه وحكمه الذي هو قائم به غير مخلوق، وهذه الآيات دليل على ذلك، كما يكتب كلامه في

    ج/ 15 ص -102- المصاحف، فيكون المراد المكتوب به الكلام يعرف به الكلام، قال تعالى: "‏‏قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا‏‏"[‏الكهف‏: 109‏]‏‏‏
    ولهذا يكون لهذه الآيات المعجزات حرمة، كالناقة وكالماء النابع بين أصابع النبي صلي الله عليه وسلم ونحو ذلك‏‏ والله سبحانه أعلم‏

    ج/ 15 ص -103-فصل
    فى قوله تعالى:
    "‏‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏" الآية،وما بعدها إلى قوله: "‏‏‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏‏"[‏هود‏: ‏1724‏]‏، ذكر سبحانه الفرق بين أهل الحق والباطل،وما بينهما من التباين والاختلاف مرة بعد مرة،ترغيبًا فى السعادة وترهيبًا من الشقاوة‏‏
    وقد افتتح السورة بذلك فقال‏:
    "‏‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ‏‏"[‏هود‏: 1، 2‏]‏، فذكر أنه نذير وبشير، نذير ينذر بالعذاب لأهل النار، وبشير يبشر بالسعادة لأهل الحق‏‏
    ثم ذكر حال الفريقين فى السراء والضراء، فقال‏: ‏‏‏"
    وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏‏"[‏هود‏: 9 11‏]
    ثم ذكر بعد هذا قصص الأنبياء، وحال من اتبعهم ومن كذبهم،

    ج/ 15 ص -104- كيف سعد هؤلاء فى الدنيا والآخرة، وشقى هؤلاء فى الدنيا والآخرة، فذكر ما جرى لهم، إلى قوله: "‏‏ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ‏‏" إلى قوله: "‏‏وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏‏"[‏هود‏: 100103‏]‏ ‏‏
    ثم ذكر حال الذين سعدوا، والذين شقوا، ثم قال‏:
    "‏‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ‏‏"[‏هود‏: 103‏]‏، فإنه قد يقال‏: غاية ما أصاب هؤلاء أنهم ماتوا والناس كلهم يموتون، وإما كونهم أُهْلِكُوا كلهم وصارت بيوتهم خاوية، وصاروا عِبْرَةَ يذكرون بالشر ويلعنون، إنما يخاف ذلك من آمن بالآخرة، فإن لعنة المؤمنين لهم بالآخرة، وبغضهم لهم كما جرى لآل فرعون هو مما يزيدهم عذابًا، كما أن لسان الصدق وثناء الناس ودعاءهم للأنبياء، واتباعهم لهم هو مما يزيدهم ثوابًا‏‏
    فمن استدل بما أصاب هؤلاء على صدق الأنبياء فآمن بالآخرة خاف عذاب الآخرة،وكان ذلك له آية،وأما من لم يؤمن بالآخرة ويظن أن من مات لم يبعث،فقد لا يبالى بمثل هذا، وإن كان يخاف هذا من لا يخاف الآخرة، لكن كل من خاف الآخرة كان هذا حاله وذلك له آية‏‏
    وقد ختم السورة بقوله:
    "‏‏وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ‏‏ إلى آخرها"[‏هود‏: 121 -123‏]‏، كما افتتحها بقوله "‏‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ‏‏"[‏هود‏: 2‏]‏، فذكر التوحيد والإيمان بالرسل، فهذا دين الله فى الأولين

    ج/ 15 ص -105- والآخرين، قال أبو العالية‏: كلمتان يُسْأَلُ عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون، وماذا أَجَبْتُم المرسلين‏؟‏
    ولهذا قال‏:
    "‏‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏‏"[‏القصص‏: 65‏]‏، و" ‏‏أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏‏"[‏القصص‏: ‏62‏]‏، هو الشرك فى العبادة، وهذان هما الإيمان والإسلام، وكان النبى ﷺ يقرأ تارة فى ركعتى الفجر سورتى الإخلاص، وتارة بآيتى الإيمان والإسلام،فيقرأ قوله: "‏‏‏آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا‏‏ الآية"[‏البقرة‏: ‏136‏]‏، فأولها الإيمان، وآخرها الإسلام، ويقرأ فى الثانية‏: "‏‏‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ‏‏"[‏آل عمران‏: ‏64‏]‏، فأولها إخلاص العبادة لله وآخرها الإسلام له‏‏
    وقال‏: ‏‏
    "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏‏"[‏العنكبوت‏: ‏46‏]‏، ففيها الإيمان والإسلام فى آخرها، وقال‏: ‏"‏الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ‏‏"[‏الزخرف‏: 69،70‏]‏‏‏

    ج/ 15 ص -106-فصل
    وقوله تعالى:
    "‏‏‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ‏‏"[‏هود‏: ‏1‏]‏،فقد فصله بعد إحكامه،بخلاف من تكلم بكلام لم يحكمه،وقد يكون فى الكلام المحكم ما لم يبينه لغيره،فهو سبحانه أحكم كتابه ثم فصله وبينه لعباده،كما قال: "‏‏‏وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ‏‏" [‏الأنعام‏: ‏55‏]‏، وقال‏: "‏‏‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏‏"[‏الأعراف‏: ‏52‏]‏، فهو سبحانه بينه وأنزله على عباده بعلم ليس كمن يتكلم بلا علم‏‏
    وقد ذكر براهين التوحيد والنبوة قبل ذكر الفرق بين أهل الحق والباطل، فقال‏:
    "‏‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ‏‏ إلى قوله ‏: ‏‏فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏‏"[‏هود‏: ‏13، 14‏]‏، فلما تحداهم بالإتيان بعشر سور مثله مفتريات هم وجميع من يستطيعون من دونه، كان فى مضمون تحديه أن هذا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله من دون الله، كما قال: "‏‏قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏‏"[‏الإسراء‏: 88‏]‏‏‏
    وحينئذ، فعلم أن ذلك من خصائص من أرسله الله، وما كان

    ج/ 15 ص -107- مختصا بنوع فهو دليل عليه؛ فإنه مستلزم له، وكل ملزوم دليل على لازمه كآيات الأنبياء كلها، فإنها مختصة بجنسهم‏‏
    وهذا القرآن مختص بجنسهم ومن بين الجنس خاتمهم لا يمكن أن يأتى به غيره، وكان ذلك برهانًا بينًا على أن الله أنزله، وأنه نزل بعلم الله هو الذى أخبر بخبره، وأمر بما أمر به، كما قال:
    "‏‏لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏‏ الآية"[‏النساء‏: ‏166‏]‏، وثبوت الرسالة ملزوم لثبوت التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، من جهة أن الرسول أخبر بذلك، ومن جهة أنه لا يقدر أحد على الإتيان بهذا القرآن إلا الله، فإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله، إلى غير ذلك من وجوه البيان فيه، كما قد بسط ونبه عليه فى غير هذا الموضع، ولا سيما هذه السورة، فإن فيها من البيان والتعجيز ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من المواعظ والحكم والترغيب والترهيب ما لا يُقَدِّر قدره إلا الله‏‏
    والمقصود هنا هو الكلام على قوله:
    "‏‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ‏‏"[‏هود‏: ‏17‏]‏ حيث سأل السائل عن تفسيرها، وذكر ما فى التفاسير من كثرة الاختلاف فيها، وأن ذلك الاختلاف يزيد الطالب عَمَى عن معرفة المراد الذى يحصل به الهدى والرشاد، فإن الله تعالى إنما نزل القرآن ليهتدى به لا ليختلف فيه، والهدى إنما يكون إذا عرفت معانيه، فإذا حصل الاختلاف المضاد لتلك المعانى التى لا يمكن الجمع بينه

    ج/ 15 ص -108- وبينها لم يعرف الحق،ولم تفهم الآية ومعناها، ولم يحصل به الهدى والعلم الذى هو المراد بإنزال الكتاب‏‏
    قال أبو عبد الرحمن السُلَمِى‏: ‏حدثنا الذين كانوا يُقْرِئُونَنَا القرآن عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبى ﷺ عشر آيات،لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا‏‏
    وقال الحسن البصرى‏: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فى ماذا نزلت، وماذا عنى بها‏‏ وقد قال تعالى:
    "‏‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏‏‏"[‏النساء‏: 82‏]‏، وتدبر الكلام إنما ينتفع به إذا فهم، وقال‏: "‏‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏‏"[‏الزخرف‏: ‏3‏]‏‏‏
    فالرسل تبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وعليهم أن يبلغوا الناس البلاغ المبين، والمطلوب من الناس أن يعقلوا ما بلغه الرسل، والعقل يتضمن العلم والعمل، فمن عرف الخير والشر، فلم يتبع الخير ويحذر الشر لم يكن عاقلا؛ ولهذا لا يُعَدُّ عاقلا إلا من فعل ما ينفعه، واجتنب ما يضره، فالمجنون الذى لا يفرق بين هذا وهذا قد يُلْقِى نفسه فى المهالك، وقد يفر مما ينفعه‏‏

    ج/ 15 ص -109- وسُئلَ رَحِمُه الله عن قوله تعالى: "‏‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
    السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ‏‏"
    [‏هود‏: ‏108‏]‏، وقوله تعالى: "‏‏يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ‏‏" [‏الأنبياء‏: 104‏]‏‏‏
    فأجاب‏:
    الحمد لله، قال طوائف من العلماء أن قوله: "‏‏مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ‏‏" أراد بها سماء الجنة وأرض الجنة، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى ﷺ أنه قال‏: "‏إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسَقْفُه عرش الرحمن‏"‏، وقال بعض العلماء فى قوله تعالى: "‏‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ‏‏" [‏الأنبياء‏: ‏105‏]‏، هى أرض الجنة‏‏
    وعلى هذا، فلا منافاة بين انطواء هذه السماء وبقاء السماء التى هى سقف الجنة، إذ كل ما علا فإنه يسمى فى اللغة سماء، كما يسمى السحاب سماء، والسقف سماء‏‏

    ج/ 15 ص -110- وأيضًا، فإن السموات وإن طُوِيَت وكانت كالمُهْلِ، واستحالت عن صورتها، فإن ذلك لا يوجب عدمها وفسادها، بل أصلها باق، بتحويلها من حال إلى حال، كما قال تعالى: "‏‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ‏‏"[‏إبراهيم‏: 48‏]‏، وإذا بدلت فإنه لا يزال سماء دائمة، وأرض دائمة‏‏ والله أعلم‏‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML