أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

تفسير سورة التوبة

    ج/ 15 ص -46-سورة التوبة
    وقال‏:
    قد يستدل بقوله:
    "‏‏لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ‏‏"[‏التوبة‏: ‏23‏]‏، على أن الولد يكون مؤمنًا بإيمان والده؛ لأنه لم يذكر الولد فى استحبابه الكفر على الإيمان، مع أنه أولى بالذكر، وما ذاك إلا أن حكمه مخالف لحكم الأب والأخ‏‏ وهو الفرق بين المحجور عليه لصغره وجنونه، وبين المستقل، كما استدل سفيان بن عُيَيْنَةَ وغيره بقوله: "‏‏وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ‏‏"[‏النور‏: ‏61‏]‏، أن بيت الولد مندرج فى بيوتكم؛ لأنه وماله لأبيه‏‏
    ويستدل بقوله:
    "‏‏وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا‏‏"[‏النساء‏: ‏75‏]‏، على أن إسلام الوليد صحيح؛ لأنه جعله من جملة القائلين قول من يطلب الهجرة، وطلب الهجرة لا يصح إلا بعد الإيمان، وإذا كان له قول فى ذلك معتبر كان أصلا فى ذلك، ولم يكن تابعًا، بخلاف الطفل الذى لا تمييز له؛ فإنه تابع لا قول له‏‏

    ج/ 15 ص -47- سُئِلَ رَحِمَهُ الله عن قوله تعالى: "‏‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ‏‏"[‏التوبة‏: ‏30‏]‏، كلهم قالوا ذلك أم بعضهم‏؟‏ وقول النبى ﷺ‏: "‏يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم‏: ما كنتم تعبدون‏؟‏ فيقولون‏: العزير‏"‏ الحديث‏‏ هل الخطاب عام أم لا‏؟‏‏‏
    فأجاب‏:
    الحمد لله، المراد باليهود جنس اليهود، كقوله تعالى:
    "‏‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ‏‏"[‏آل عمران‏: 173‏]‏، لم يقل جميع الناس، ولا قال‏: إن جميع الناس قد جمعوا لكم، بل المراد به الجنس‏‏
    وهذا كما يقال‏: الطائفة الفلانية تفعل كذا، وأهل الفلانى يفعلون كذا، وإذا قال بعضهم فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك، فيشتركون فى إثم القول‏‏ والله أعلم ‏‏

    ج/ 15 ص -48- وَقَالَ‏:
    فى الكلام على قوله:
    "‏‏قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ‏‏"[‏التوبة‏: ‏65‏]‏، تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وبالرسول كفر، من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر بالضرورة، فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطًا، فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر، وإلا لم يكن لذكره فائدة، وكذلك الآيات‏‏
    وأيضًا، فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم، والضالون مستخفون بتوحيد الله تعالى يعظمون دعاء غيره من الأموات، وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما قال تعالى:
    "‏‏وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا‏‏ الآية"[‏الفرقان‏: ‏41‏]‏، فاستهزؤوا بالرسول ﷺ لما نهاهم عن الشرك، وما زال المشركون يسبون الأنبياء، ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد، لما فى أنفسهم من عظيم الشرك‏‏
    وهكذا، تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك، قال الله تعالى:

    ج/ 15 ص -49- "‏‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ‏‏"[‏البقرة‏: 165‏]‏، فمن أحب مخلوقًا مثل ما يحب الله فهو مشرك، ويجب الفرق بين الحب فى الله والحب مع الله‏‏
    فهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانًا تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء، ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبًا، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبًا‏‏
    وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره، أو غير قبره، أنفع له من أن يدعو الله فى المسجد عند السحر، ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، وكثير منهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله وتعظيمهم للشرك‏؟‏
    وإذا كان لهذا وقف،ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركى العرب،الذين ذكرهم الله فى قوله:
    "‏‏‏وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا‏‏ الآية"[‏الأنعام‏: ‏136‏]‏، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله،ويقولون ‏: الله غنى وآلهتنا فقيرة‏‏
    وهؤلاء، إذا قصد أحدهم القبر الذى يعظمه يبكى عنده، ويخشع

    ج/ 15 ص -50- ويتضرع ما لا يحصل له مثله فى الجمعة، والصلوات الخمس، وقيام الليل، فهل هذا إلا من حال المشركين لا الموحدين، ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات، حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات، بل يستثقلونها ويستهزئون بها، وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله: "‏‏قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون‏‏"[‏التوبة‏: ‏65‏]‏‏‏
    والذين يجعلون دعاء الموتى أفضل من دعاء الله‏: منهم من يحكى أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وأن بعض المأسورين دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض الموتى، فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام‏‏ وآخر قال‏: قبر فلان التِرْيَاق المُجَرِّب‏‏
    ومنهم من إذا نزل به شدة لا يدعو إلا شيخه قد لهج به كما يلهج الصبى بذكر أمه‏‏ وقد قال تعالى للموحدين‏:
    "‏‏فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏‏"[‏البقرة‏: 200‏]‏، وقد قال شعيب‏: "‏‏يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ‏‏"[‏هود‏: ‏92‏]‏، وقال تعالى: "‏‏لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ‏‏"[‏الحشر‏: 13‏]‏‏

    ج/ 15 ص -51-سئل شيخ الإسلام عن معنى قوله تعالى: "‏‏لَقَد تَّابَ الله على النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ‏‏ الآية" [‏التوبة‏: ‏117‏]‏‏‏ والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد، والنبي ﷺ معصوم من الكبائر والصغائر‏‏
    فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية‏:
    الحمد لله، الأنبياء صلوات الله وسلامه علىهم معصومون من الإقرار على الذنوب، كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم، ويعظم حسناتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وليست التوبة نقصًا، بل هي من أفضل الكمالات، وهي واجبة على جميع الخلق، كما قال تعالى:
    "‏‏وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ على الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏‏"[‏الأحزاب‏: ‏72، 73‏]‏ فغاية كل مؤمن هي التوبة، ثم التوبة تتنوع كما يقال‏: حسنات الأبرار سيئات المقربين‏‏
    والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار‏: عن آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وغيرهم‏‏ فقال آدم‏:

    ج/ 15 ص -52- "‏‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏‏"[‏الأعراف‏: ‏23‏]‏، وقال نوح‏: "‏‏رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ‏‏"[‏هود‏: 47‏]‏، وقال الخليل‏: "‏‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ‏‏"[‏إبراهيم‏: ‏41‏]‏، وقال هو وإسماعيل‏: "‏‏رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ علىنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏‏"[‏البقرة‏: ‏128‏]‏، وقال موسى‏: ‏‏"أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إليكَ‏‏"[‏الأعراف‏: ‏155، 156‏]‏، وقال تعالى: "‏‏َلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ‏‏‏"[‏الأعراف‏: 143‏]‏‏‏
    وقد ذكر الله سبحانه توبة داود وسليمان، وغيرهما من الأنبياء والله تعالى:
    "‏‏يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏‏"[‏البقرة‏: ‏222‏]‏، وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه‏: "‏‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏‏‏" [‏ سورة النصر‏]‏‏‏
    وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه كان يقول في افتتاح الصلاة‏:
    "‏اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبَرَد والماء البارد‏"‏، وفي الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح‏: "‏اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت،

    ج/ 15 ص -53- أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏، وفي الصحيح أيضًا عن النبي ﷺ أنه كان يقول‏: "‏اللهم اغفر لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، علانيته وسره، أوله وآخره‏"‏، وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه كان يقول‏: "‏اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هَزْلي وجِدِّي، وخطئي وعَمْدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت‏"‏‏‏ ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة‏‏
    وقد قال الله تعالى:
    "‏‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏‏"[‏محمد‏: ‏19‏]‏، فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب‏‏
    فإذا قال القائل‏: ‏أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات‏؟‏كان جاهلا؛لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم،فكيف يقال‏: ‏إنهم لا يحتاجون إليها،فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم‏‏
    وإذا قال القائل‏: ‏فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب،والاستغفار كذلك،

    ج/ 15 ص -54- قيل له‏: ‏الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة،فأما ما حصل منه توبة،فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة،كما قال بعض السلف‏: ‏كان داود بعد التوبة أحسن منه حالاً قبل الخطيئة،ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر،فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء،وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصاً ولا عيباً،بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانا، وأقوي عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم،فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها‏‏
    ولهذا قال عمر بن الخطاب‏: إنما تُنْقَض عُرَي الإسلام عُرْوَة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية‏‏ وقد قال اللّه تعالى:
    "‏‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏‏" [‏الفرقان‏: 68 70‏]‏‏‏
    وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ‏: أن اللّه يحاسب عبده يوم القيامة، فيعرض عليه صغار الذنوب ويخبئ عنه كبارها فيقول‏: فعلت يوم كذا كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏: نعم يارب، وهو مشفق

    ج/ 15 ص -55- من كبارها أن تظهر، فيقول‏: إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة، فهنالك يقول‏: رب، إن لي سيئات ما أراها بَعْدُ‏‏
    فالعبد المؤمن إذا تاب وبدَّل اللّه سيئاته حسنات، انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه اللّه بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن ثم حَفِظَه خير من حِفْظِه الأول لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي لم يضره المرض العارض‏‏
    واللّه تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع، والخشوع للّه والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش، والمرض والفقر والخوف، ثم ذاق الشِّبَع والرِّي والعافية والغني والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته، والرغبة فيه وشكر نعمة اللّه علىه، والحذر أن يقع فيما حصل أولا ما لم يحصل بدون ذلك‏‏ وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏‏
    وينبغي أن يعرف أن التوبة لابد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من اللّه، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها‏‏

    ج/ 15 ص -56- ومحمد ﷺ أكمل الخلق وأكرمهم على اللّه، وهو المقدم على جميع الخلق في أنواع الطاعات، فهو أفضل المحبين للّه، وأفضل المتوكلين على اللّه، وأفضل العابدين له، وأفضل العارفين به، وأفضل التائبين إليه، وتوبته أكمل من توبة غيره؛ ولهذا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏‏
    وبهذه المغفرة نال الشفاعة يوم القيامة، كما ثبت في الصحيح‏: "‏أن الناس يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم، فيقول‏: إني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها، نفسي، نفسي، نفسي‏‏ ويطلبونها من نوح فيقول‏: إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها، نفسي، نفسي، نفسي‏‏ ويطلبونها من الخليل، ثم من موسى، ثم من المسيح فيقول‏: اذهبوا إلى محمد، عَبْد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‏"‏‏‏ قال‏: "‏فيأتوني، فأنطلق، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقول‏: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تُسْمَع، وسل تُعْطَ، واشفع تشفع، فأقول‏: أي رب، أمتي، فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة‏"‏‏‏
    فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه دلهم على محمد ﷺ، وأخبر بكمال عبوديته للّه، وكمال مغفرة اللّه له؛ إذ ليس بين المخلوقين والخالق نسب إلا محض العبودية والافتقار من العبد،

    ج/ 15 ص -57- ومحض الجود والإحسان من الرب عز وجل‏‏
    وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏: "‏لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله‏"‏ قالوا‏: ولا أنت يارسول اللّه‏؟‏ قال‏: "‏
    ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي اللّه برحمة منه وفضل ‏"‏‏‏
    وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول‏: "‏يأيها الناس، توبوا إلى ربكم، فو الذي نفسي بيده، إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في إلىوم أكثر من سبعين مرة ‏"‏، وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏: "‏إنه لَيُغَانُ على قلبي، وإني لأستغفر اللّه في إلىوم مائة مرة‏"‏، فهو ﷺ لكمال عبوديته للّه، وكمال محبته له، وافتقاره إليه، وكمال توبته واستغفاره، صار أفضل الخلق عند اللهّ، فإن الخير كله من اللّه، وليس للمخلوق من نفسه شيء، بل هو فقير من كل وجه، واللّه غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه، فكلما ازداد العبد تواضعاً وعبودية ازداد إلى اللّه قرباً ورفعة، ومن ذلك توبته واستغفاره‏‏
    وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال‏: "‏كل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون‏"‏ رواه ابن ماجه والترمذي


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML