ج/ 15 ص -37- سورة الأنفال
وقال شيخ الإسلام:
فصل
قال سبحانه فى قصة بدر: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ"[الأنفال: 9، 10]، فوعدهم بالإمداد بألف وعدًا مطلقًا، وأخبر أنه جعل إمداد الألف بُشْرى ولم يقيده، وقال فى قصة أحد:" إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ"[آل عمران: 124، 125]، فإن هذا أظن فيه قولين:
أحدهما: أنه متعلق بأُحُد؛ لقوله بعد ذلك "لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ الآية"[آل عمران: 127]؛ ولأنه وعد مقيد، وقوله فيه:
ج/ 15 ص -38- "وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ"[آل عمران: 126]، يقتضى خصوص البشرى بهم
وأما قصة بدر، فإن البشرى بها عامة، فيكون هذا كالدليل على ما روى من أن ألف بدر باقية فى الأمة، فإنه أطلق الإمداد والبشرى وقدم بِهِ على لَكُمْ عناية بالألف، وفى أحد كانت العناية بهم لو صبروا فلم يوجد الشرط
ج/ 15 ص -39- وَقَالَ رَحِمَهُ الله:
فصل
فى قوله: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الآية"[الأنفال: 17] ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه مبنى على أن الفعل المتولد ليس من فعل الآدمى، بل من فعل الله، والقتل هو الإزهاق، وذاك متولد، وهذا قد يقوله من ينفى التولد وهو ضعيف؛ لأنه نفى الرمى أيضًا، وهو فعل مباشر؛ ولأنه قال: "فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ"[التوبة: 5]، وقال: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا"[النساء: 93]، فأثبت القتل؛ ولأن القتل هو الفعل الصالح للإزهاق، ليس هو الزهوق، بخلاف الإماتة
الثانى: أنه مبنى على خلق الأفعال، وهذا قد يقوله كثير من الصوفية، وأظنه مأثورًا عن الجنيد سلب العبد الفعل، نظرًا إلى الحقيقة؛ لأن الله هو خالق كل صانع وصنعته، وهذا ضعيف لوجهين:
أحدهما: إنا وإن قلنا بخلق الفعل فالعبد لا يسلبه، بل يضاف
ج/ 15 ص -40- الفعل إليه أيضًا فلا يقال: ما آمنت ولا صليت، ولا صمت، ولا صدقت، ولا علمت، فإن هذا مكابرة؛ إذ أقل أحواله الاتصاف وهو ثابت
وأيضًا، فإن هذا لم يأت فى شىء من الأفعال المأمور بها إلا فى القتل والرمى ببدر، ولو كان هذا لعموم خلق الله أفعال العباد لم يختص ببدر
الثالث: أن الله سبحانه خرق العادة فى ذلك، فصارت رؤوس المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة، وصارت الجريدة تصير سيفًا يُقْتَل به
وكذلك رمية رسول الله ﷺ أصابت من لم يكن فى قدرته أن يصيبه، فكان ما وجد من القتل وإصابة الرمية خارجًا عن قدرتهم المعهودة، فسلبوه لانتفاء قدرتهم عليه، وهذا أصح، وبه يصح الجمع بين النفى والإثبات"وَمَا رَمَيْتَ أى ما أصبت إِذْ رَمَيْتَ إذ طرحت وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى"[الأنفال: 17]، أصاب
وهكذا، كل ما فعله الله من الأفعال الخارجة عن القدرة المعتادة، بسبب ضعيف، كإنباع الماء وغيره من خوارق العادات، أو الأمور الخارجة عن قدرة الفاعل، وهذا ظاهر، فلا حجة فيه لا على الجبر ولا على نفى التولد
ج/ 15 ص -41- وَقَالَ رَحِمَهُ الله:
فصل
فى قوله تعالى: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ"[الأنفال: 33]، والكلام عليها من وجهين:
أحدهما: فى الاستغفار الدافع للعذاب
والثانى: فى العذاب المدفوع بالاستغفار
أما الأول، فإن العذاب إنما يكون على الذنوب، والاستغفار يوجب مغفرة الذنوب التى هى سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما قال تعالى: "الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ"[هود: 1 3]، فبين سبحانه أنهم إذا فعلوا ذلك متعوا متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى،ثم إن كان لهم فضل أُوتوا الفضل
ج/ 15 ص -42- وقال تعالى: "عن نوح: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى"إلى قوله: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا الآية"[نوح: 2 11]، وقال تعالى: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ"[هود: 52]، وذلك أنه قد قال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ"[الشورى: 30]، وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ" [آل عمران: 155]، وقال تعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ"[آل عمران: 165]، وقال تعالى: "وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ"[الروم: 36]، وقال تعالى: "مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ"[النساء: 79 ]
وأما العذاب المدفوع، فهو يعم العذاب السماوى، ويعم ما يكون من العباد، وذلك أن الجميع قد سماه الله عذابًا، كما قال تعالى فى النوع الثانى: "وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ"[البقرة: 49]، وقال تعالى: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ"[التوبة: 14]، وكذلك: "قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا"[التوبة: 52]، إذ التقدير بعذاب من عنده أو بعذاب بأيدينا، كما قال تعالى: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ"
ج/ 15 ص -43- وعلى هذا، فيكون العذاب بفعل العباد، وقد يقال: التقدير: "وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ، أو يصيبكم بأيدينا"، لكن الأول هو الأوجه؛ لأن الإصابة بأيدى المؤمنين لا تدل على أنها إصابة بسوء، إذ قد يقال: أصابه بخير، وأصابه بشر قال تعالى: "وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ"[يونس: 107]، وقال تعالى: "فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ"[الروم: 48]، وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء"[يوسف: 56]؛ ولأنه لو كان لفظ الإصابة يدل على الإصابة بالشر، لاكتفى بذلك فى قوله: "أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ"
وقد قال تعالى أيضًا : "وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ"[النساء: 78، 79]
ومن ذلك قوله تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ" إلى قوله: "وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ"[النور: 2]، وقوله تعالى: "فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ"[النساء: 25]
ج/ 15 ص -44-ومن ذلك أنه يقال فى بلال ونحوه: كانوا من المعذبين فى الله، ويقال: إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين فى الله وقال ﷺ: "السفر قطعة من العذاب"
وإذا كان كذلك، فقوله تعالى: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ"[الأنعام: 65]، مع ما قد ثبت فى الصحيحين عن جابر عن النبى ﷺ: أنه لما نزل قوله: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ،" قال: "أعوذ بوجهك"، أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، قال: "أعوذ بوجهك"، "أّوً يّلًبٌسّكٍمً شٌيّعْا ّيٍذٌيقّ بّعًضّكٍم بّأًسّ بّعًضُ" ، قال: "هاتان أهون" يقتضى أن لبسنا شيعًا وإذاقة بعضنا بأس بعض هو من العذاب الذى يندفع بالاستغفار، كما قال: ""وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً"[الأنفال: 25]، وإنما تنفى الفتنة بالاستغفار من الذنوب والعمل الصالح
وقوله تعالى: "إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ"[التوبة: 39]، قد يكون العذاب من عنده، وقد يكون بأيدى العباد، فإذا ترك الناس الجهاد فى سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة، حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد فى سبيل الله جمع الله قلوبهم وأَلَّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم،
ج/ 15 ص -45- وإذا لم ينفروا فى سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض
وكذلك قوله: "وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"[السجدة: 21]، يدخل فى العذاب الأدنى ما يكون بأيدى العباد، كما قد فسر بوقعة بدر بعض ما وعد الله به المشركين من العذاب