أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

تفسير سورة المائدة

    ج/ 14 ص -448-سُورَة المَائِدة
    وَقَال شيخ الإسلام قدسَ اللَّه روحه‏
    :
    فصل

    سورة المائدة أجمعُ سورة فى القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم، والأمر والنهي؛ ولهذا روى عن النبى ﷺ أنه قال‏:
    ‏"‏هي آخر القرآن نزولاً فأحِلّوا حلالها، وحرموا حرامها‏"‏؛ ولهذا افتتحت بقوله‏: ‏"أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏: ‏1‏]‏، والعقود هي العهود، وذكر فيها من التحليل والتحريم والإيجاب ما لم يذكر فى غيرها، والآيات فيها متناسبة مثل قوله‏: ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين‏"‏ ‏[‏المائدة‏: ‏87‏]‏‏.‏
    وقد اشتهر فى التفسير أن هذه الآية نزلت بسبب الذين أرادوا

    ج/ 14 ص -449-التبتل من الصحابة، مثل عثمان بن مظعون والذين اجتمعوا معه‏.‏ وفى الصحيحين حديث أنس فى الأربعة الذين قال أحدهم‏: أما أنا فأصوم لا أفْطِر، وقال الآخر‏: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر‏: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبى ﷺ‏: ‏‏"‏لكني أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سُنّتي فليس مني‏"‏، فيشبه والله أعلم أن يكون قوله‏: ‏"‏لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ‏"‏ فيمن حرم الحلال على نفسه بقول أو عزم على تركه، مثل الذي قال‏: لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم، وهي الرهبانية المبتدعة؛ فإن الراهب لا ينكح ولا يذبح‏.‏
    وقوله‏:
    ‏"‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏"‏ فيمن قال‏: أقوم لا أنام، وقال‏: أصوم لا أفطر؛ لأن الاعتداء مجاوزة الحد، فهذا مجاوز للحد في العبادة المشروعة، كالعدوان فى الدعاء فى قوله‏:"‏ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏"‏[‏الأعراف‏: ‏55‏]‏، وقال النبى ﷺ‏: ‏"‏سيكون قوم يعتدون فى الدعاء والطهور‏"‏، فالاعتداء فى العبادات، وفى الورع كالذين تحرجوا من أشياء ترخص فيها النبى ﷺ، وفى الزهد كالذين حرموا الطيبات، وهذان القسمان ترك، فقوله‏: ‏"‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏"‏ إما أن يكون مختصاً بجانب الأفعال العبادية، وإما أن

    ج/ 14 ص -450-يكون العدوان يشمل العدوان فى العبادة والتحريم، وهذان النوعان هما اللذان ذم الله المشركين بهما فى غير موضع، حيث عبدوا عبادة لم يأذن الله بها، وحرموا ما لم يأذن اللّه به، فقوله‏: ‏"‏لاَ تُحَرِّمُواْ‏"‏، ‏"‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏"‏ يتناول القسمين‏.‏
    والعدوان هنا كالعدوان فى قوله‏: ‏
    "‏وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏: ‏2‏]‏، إما أن يكون أعم من الإثم، وإما أن يكون نوعا آخر، وإما أن يكون العدوان فى مجاوزة حدود المأمورات واجبها ومستحبها، ومجاوزة حد المباح، وإما أن يكون فى ذلك مجاوزة حد التحريم أيضاً؛ فإنها ثلاثة أمور‏: مأمور به ومنهى عنه ومباح‏.‏
    ثم ذكر بعد هذا، قوله‏: ‏
    "‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ‏"‏الآية ‏[‏المائدة‏: ‏89‏]‏، ذكر هذا بعد النهي عن التحريم، ليبين المخرج من تحريم الحلال إذا عقد عليه يميناً باللّه أو يميناً أخرى، وبهذا يستدل على أن تحريم الحلال يمين‏.‏
    ثم ذكر بعد ذلك ما حرمه من الخمر والميسر، والأنصاب والأزلام، فبين به ما حرمه؛ فإن نفي التحريم الشرعي يقع فيه طائفة من الإباحية، كما يقع فى تحريم الحلال طائفة من هؤلاء، يكونون فى حال اجتهادهم ورياضتهم تحريمية، ثم إذا وصلوا بزعمهم صاروا إباحية، وهاتان

    ج/ 14 ص -451-آفتان تقع فى المتعبدة والمتصوفة كثيراً، وقرن بينهما حكم الأيمان؛ فإن كلاهما يتعلق بالفم داخلا وخارجا، كما يقرن الفقهاء بين كتاب الأيمان والأطعمة، وفيه رخصة فى كفارة الأيمان مطلقاً، خلافا لما شدد فيه طائفة من الفقهاء، من جعل بعض الأيمان لا كفارة فيها؛ فإن هذا التشديد مضاه للتحريم، فيكون الرجل ممنوعا من فعل الواجب أو المباح بذلك التشديد، وهذا كله رحمة من اللّه بنا دون غيرنا من الأمم التى حرم عليهم أشياء عقوبة لهم ولا كفارة في أيمانهم، ولم يطهرهم من الرجس كما طهرنا، فتدبر هذا فإنه نافع‏.‏

    ج/ 14 ص -452-وقال شيخ الإِسلاَم رَحِمه اللَّه‏:
    فصل

    قوله‏: ‏
    "‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ‏"‏[‏المائدة‏: ‏41‏]‏، قيل‏: اللام لام كي، أي يسمعون ليكذبوا ويسمعون لينقلوا إلى قوم آخرين لم يأتوك، فيكونون كذابين ونمامين جواسيس، والصواب أنها لام التعدية، مثل قوله‏: ‏‏"‏سمع الله لمن حمده‏"‏، فالسماع مضمن معنى القبول، أي قابلون للكذب ويسمعون من قوم آخرين لم يأتوك ويطيعونهم، فيكون ذما لهم على قبول الخبر الكاذب، وعلى طاعة غيره من الكفار والمنافقين، مثل قوله‏: ‏‏"‏ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏"‏[‏التوبة‏: 47‏]‏، أي هم يطلبون أن يفتنوكم وفيكم من يسمع منهم، فيكون قد ذمهم على اتباع الباطل فى نوعي الكلام؛ خبره وإنشائه، فإن باطل الخبر الكذب، وباطل الإنشاء طاعة غير الرسل، وهذا بعيد‏.‏
    ثم قال‏:
    ‏"‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏"‏[‏المائدة‏: ‏24‏]‏، فذكر أنهم فى

    ج/ 14 ص -453-غذائي الجسد والقلب يغتذون الحرام، بخلاف من يأكل الحلال ولا يقبل إلا الصدق، وفيه ذم لمن يروج عليه الكذب ويقبله، أو يؤثره لموافقته هواه ويدخل فيه قبول المذاهب الفاسدة؛ لأنها كذب، لاسيما إذا اقترن بذلك قبولها لأجل العوض عليها، سواء كان العوض من ذي سلطان أو وقف أو فتوح أو هدية أو أجرة أو غير ذلك، وهو شبيه بقوله‏: ‏"‏إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ٌ‏"‏‏[‏التوبة‏: ‏34‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ أهل البدع وأهل الفجور الذين يصدقون بما كذب به على اللّه ورسوله وأحكامه، والذين يطيعون الخلق فى معصية الخالق‏.‏
    ومثله‏: ‏‏
    "‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ‏"‏[‏الشعراء‏: ‏221 - 223‏]‏، فإنما تنزلت بالسمع الذي يخلط فيه بكلمة الصدق ألف كلمة من الكذب على من هو كذاب فاجر، فيكون سماعا للكذب من مسترقة السمع‏.‏
    ثم قال فى السورة‏:
    ‏"‏لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ‏"‏[‏المائدة‏: 63‏]‏، فقول الإثم وسماع الكذب وأكل السحت أعمال متلازمة فى العادة، وللحكام منها خصوص، فإن الحاكم إذا

    ج/ 14 ص -454-ارتشى سمع الشهادة المزورة، والدعوى الفاجرة، فصار سماعا للكذب أكالا للسحت، قائلا للإثم‏.‏
    ولهذا خير نبيه ﷺ بين الحكم بينهم وبين تركه؛ لأنه ليس قصدهم قبول الحق وسماعه مطلقاً؛ بل يسمعون ما وافق أهواءهم وإن كان كذبا، وكذلك العلماء الذين يتقولون الروايات المكذوبة

    ج/ 14 ص -455-وَقَال شَيْخ الإسْلاَم رَحمه اللّه تَعالى‏:
    هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ‏.‏
    منها قوله‏: ‏
    "‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏"‏[‏المائدة‏: ‏60‏]‏، والصواب عطفه على قوله‏: ‏"‏مَن لَّعَنَهُ اللّهُ‏"‏[‏المائدة‏: 60‏]‏، فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية، لكن المتقدمة الفاعل الله، مظهراً أو مضمراً، وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير فى عبد، ولم يعد حرف ‏"‏من‏"‏ لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود‏.‏

    ج/ 14 ص -456-وَقَال شَيْخ الإسْلاَم رَحمه اللّه ‏:
    فصل
    قال تعالى‏: ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا‏"‏الآية ‏[‏المائدة‏: 87، 88‏]‏‏.‏
    ومن المشهور فى التفسير أنها نزلت بسبب جماعة من الصحابة، كانوا قد عزموا على الترهب، وفى الصحيحين عن أنس‏: أن رجالا سألوا أزواج النبى ﷺ، عن عبادته فى السر، فَتَقَالُّوا ذلك، وذكر الحديث‏.‏
    وفي الصحيحين عن سعد قال‏: رد النبى ﷺ على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاخْتَصَيْنَا‏.‏ وعن عكرمة أن علي بن أبى طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد وسالما

    ج/ 14 ص -457-مولى أبي حذيفة فى أصحاب لهم تبتلوا، فجلسوا فى البيوت‏.‏ واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا الطيبات من الطعام واللباس، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية‏.‏ وكذلك ذكر سائر المفسرين ما يشبه هذا المعنى‏.‏
    وقد ذم اللّه الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وذم الذين يتبعون الشهوات، والذين يريدون أن يميلوا ميلا عظيما، ويريدون ميل المؤمنين ميلا عظيما، وذم الذين اتبعوا ما أتْرِفُوا فيه، والذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام‏.‏
    وأكثر الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات شربة الخمر، كما قال تعالى‏:
    ‏"‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏: ‏91‏]‏، فجمعوا بين الشهوة المحرمة، وترك ذكر اللّه، وإضاعة الصلاة، وكذلك غيرهم من أهل الشهوات‏.‏
    ثم نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات، وعن الاعتداء فى تناولها، وهو مجاوزة الحد، وقد فسر الاعتداء فى الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم، فيكونوا قد تجاوزوا

    ج/ 14 ص -458-الحد وأسرفوا‏.‏ وقيل‏: لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس، فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدى فيها لابد أن يقع فى الحرام؛ لأجل الإسراف فى ذلك‏.‏
    والمقصود بالزهد‏: ترك ما يضر العبد فى الآخرة، وبالعبادة‏: فعل ما ينفع فى الآخرة فإذا ترك الإنسان ما ينفعه فى دينه وينفعه فى آخرته وفعل من العبادة ما يضر فقد اعتدى وأسرف، وإن ظن ذلك زهداً نافعاً وعبادة نافعة‏.‏
    قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والنَّخَعِي‏: ‏
    "‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏"‏ أي‏: لا تَجُبُّوا ‏[‏أى‏: لاتقطعوا‏.‏ نهى عن الاختصاء‏.‏ انظر‏: لسان العرب، مادة‏: جبب‏]‏ أنفسكم‏.‏ وقال عكرمة‏: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين؛ من ترك النساء، ودوام الصيام والقيام‏.‏ وقال مقاتل‏: لا تحرموا الحلال، وعن الحسن لا تأتوا ما نهى الله عنه، وهذا ما أريد به لا تحرموا الحلال ولا تفعلوا الحرام، فيكون قد نهى عن النوعين، لكن سبب نزول الآية وسياقها يدل على قول الجمهور، وقد يقال‏: هذا مثل قوله‏: ‏"‏وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏"‏ [‏الأعراف‏: ‏31‏]‏، وقوله فى تمام الآية‏: ‏"‏وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا‏"‏ الآية ‏[‏ المائدة‏: 88‏]‏‏.‏
    وكذلك الأحاديث الصحيحة، كقول أحدهم‏: لا أتزوج النساء

    ج/ 14 ص -459-وقول الآخر‏: لا آكل اللحم كما في حديث أنس المتقدم وهذا مما يدل على أن صوم الدهر مكروه، وكذلك مداومة قيام الليل‏.‏
    فصل
    وهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم، وهو الذي يصلح به دين الإنسان، كما قال النبى ﷺ‏:
    ‏"‏أعدل الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً‏"‏، وفي رواية صحيحة‏: ‏"‏أفضل‏"‏ والأفضل هو الأعدل الأقوم ‏.‏ وهذا القرآن يهدي للتى هي أقوم، وهي وسط بين هذين الصنفين؛ أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد‏.‏
    ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين‏.‏ قال الحسن‏: هو المبتدع في دينه والفاجر فى دنياه، وكانوا يقولون‏: احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه، وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور‏.‏
    فالقسم الأول‏: أهل الفجور، وهم المترفون المنعمون، أوقعهم فى الفجور ما هم فيه‏.‏

    ج/ 14 ص -460-والقسم الثانى‏: المترهبون، أوقعهم فى البدع غلوهم وتشديدهم، هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم، وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهى عنها أو يسرفون فى المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم اللّه والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيراً منهم‏.‏
    والذين يحرمون ما أحل اللّه من الطيبات وإن كانوا يقولون‏: إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون ألا يفعلوه، إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء يقول أحدهم‏: للّه على ألا آكل طعاماً بالنهار أبداً، ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر، فهذا يلتزم ألا يشرب الماء، وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز، وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع، وهذا يلتزم ألا يتكلم قط، وهذا يجب نفسه، وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح‏.‏ وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التى ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة‏.‏
    ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبى ﷺ أنه قال‏: ‏"‏المجاهد من جاهد نفسه فى ذات الله، والكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد

    ج/ 14 ص -461-الموت، والعاجز من أتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنى على اللّه‏"‏، لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه اللّه ورسوله، فلا يحرم الحلال ولا يسرف فى تناوله، بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد فى ذلك، ويقتصد فى العبادة، فلا يحمل نفسه ما لا تطيق‏.‏
    فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة، التى غالب من سلكها ارتد على حافره، ونقض عهده، ولم يرعها حق رعايتها‏.‏ وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق، وتزكو به نفسه، وتسير به إلى ربه، ويجد بذلك من المزيد فى إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق؛ فإنهم لابد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بنى آدم إلا من أخطأ أو هَمَّ بخطيئة إلا يحيى بن زكريا، وقد قال تعالى‏:
    ‏"‏وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا‏"‏[‏النساء‏: 28‏]‏‏.‏
    قال طاوس فى أمر النساء وقلة صبره عنهن كما تقدم‏.‏ فميل النفس إلى النساء عام فى طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران، كما هو المذكور عنهم، فيبتلى بالميل إلى المردان، وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلى بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة، ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة، إما فى سره وإما

    ج/ 14 ص -462-بينه وبين الأمرد، ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس‏.‏
    وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه فى الله، وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمراً أوجبه وحرمه هو على نفسه، فيكون فى طاعة نفسه وهواه، بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فيصير بالمجاهدة في طاعة اللّه ورسوله‏.‏
    وفى حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد، عن ابن عباس مرفرعًا ‏: ‏‏"‏من عَشِق فَعفَّ وكَتَم وصبر ثم مات فهو شهيد‏"‏، وأبو يحيى فى حديثه نظر؛ لكن المعنى الذى ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد ورجل، ومن الصبر أن يصبر عن شكوي ما به إلى غير الله عز وجل؛ فإن هذا هو الصبر الجميل‏.‏
    وأما الكتمان فيراد به شيئان‏:
    أحدهما‏: أن يكتم بَثَّه ‏[‏أى‏: حزنه الشديد‏.‏ انظر‏: القاموس، مادة‏: بثث‏]‏ وألمه، فلا يشكو إلى غير الله، فمتى شكا إلى غير اللّه نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على

    ج/ 14 ص -463-وجهين‏:
    فإن شكا ذلك إلى طبيب، يعرف طب الأديان، ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان، فهذا بمنزلة المستفتى، وهذا حسن‏.‏ وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام‏.‏
    وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة، كما يشكو من الراحة، كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد، تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً، إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذى يتسخط‏.‏
    والثانى‏: أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتَشَهَّتْ وتَمَنَّتْ وتَتَيَّمَتْ ‏[‏أى‏: عشقت وأحبّتْ‏.‏ انظر‏: القاموس، مادة‏: تيم‏]‏‏.‏والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً له إلى الفعل والتشبه به، والنساء متى رأين البهائم تَنْزُو ‏[‏أى‏: تثب وتعلو‏.‏ انظر‏: القاموس، مادة‏: نزا‏]‏ الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله فى نفسه دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّّ إليه، وكل ما فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت

    ج/ 14 ص -464-المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه، وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر فى بعض الأمور المتعلقة به، فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة‏.‏
    ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، أو كان أوان الحج، أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه، أو أصحابه أو غيرهم، ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك، فتتحرك بذكر الأبْرَق والأجْرَع والعُلىَ ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهباً إلى محبوبه، فصار ذكرها يذكره بالمحبوب‏.‏
    وكذلك أصحاب المتاجر والأموال، إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك، وكذلك أهل الفرج والتنزه، إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه، وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بنى آدم، والإنسان ظلوم جهول‏.‏
    وكذلك ذِكْر آثار رسول الله ﷺ تُذَكٍّر به وتحرك محبته، فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة؛

    ج/ 14 ص -465-فإذا تصورت جنساً تحرك إليها المحبوب‏.‏
    ولهذا نهي الله تعالى عن إشاعة الفاحشة، وكذلك أمر بستر الفواحش، كما قال النبى ﷺ‏:
    ‏‏"‏من ابتلى من هذه القاذورات بشيء فليستتر ‏[‏فى المطبوعة‏: فاليستتر وهو خطأ‏]‏ بستر اللّه؛ فإنه من يُبَدِ لنا صَفْحَتَه نُقِمْ عليه كتاب الله‏"‏، وقال‏: ‏‏"‏كل أمتى مُعَافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به‏"‏، فما دام الذنب مستوراً فعقوبته على صاحبه خاصة، وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاماً، فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه‏.‏
    ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار الغزل الرقيق لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر، فيكون حينئذ ممن قال الله فيه‏:
    ‏"‏إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏: ‏90‏]‏‏.‏
    والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة، والمجاهد من جاهد نفسه في اللّه، وأما المبتدعون فى الزهد والعبادة، السالكون طريق الرهبان، فإنهم قد يزهدون فى النكاح، وفضول الطعام، والمال ونحو ذلك‏.‏ وهذا محمود، لكن عامة هؤلاء لابد أن يقعوا فى ذنوب من هذا الجنس، كما نجد كثيراً منهم يبتلى بصحبة الأحداث، وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل

    ج/ 14 ص -466-إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية‏.‏
    وحكايتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها فى كتاب، وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم، وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس، ولو اتبعوا السُّنَّة لاستراحوا من ذلك‏.‏
    قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان فى المنام‏: لي فيكم لطيفتان‏: السماع وصحبة الأحداث‏.‏ قال أبو سعيد‏: قَلَّ من ينجو منها من أصحابنا، حتى لقوة محبة نفوسهم صار ذلك ممتزجاً بطريقهم إلى الله؛ فإن أحدهم يجد فى نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده من العبادة والزهادة ما لا يجدها بدون ذلك، وعنده في نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن، فصاروا في شبهة وشهوة، لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم فى الأمور المحرمة، التى تفتنهم، حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة، كالذين قال الله فيهم‏: ‏
    "‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا‏"‏الآية ‏[‏الأعراف‏: 28‏]‏، وهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة واتَّبَعُوا الشهوات‏.‏
    وإذا وقعوا فى السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية، ومحبة تامة،

    ج/ 14 ص -467-وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم، فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم، ويدخلون في الدياثة لأغراضهم، فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به، ويسمونه حواراً، وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم، ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ، ويرتفع الحياء بين أم الصبى وأبيه وبين الفقراء‏.‏
    وإذا صَلُّوا صَلُّوا صلاة المنافقين، يقومون إليها وهم كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، فقد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، ومع هذا فهم قد يزهدون فى بعض الطيبات التى أحلها الله لهم، ويجتهدون فى عبادات وأذكار، لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز، مما تقدم ذكره، فتلك البدعة هي التى أوقعتهم فى اتباع الشهوات، وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم، ويتوب اللّه على من تاب‏.‏
    والسالكون للشريعة المحمدية، إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال، بل من الحنيفية السمحة، وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصاراً وأغلالا، كما كانت على من قبلنا من الرهبان؛ فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد، من أجل خروجه عن السنة‏.‏

    ج/ 14 ص -468-وهؤلاء قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه السلوك إلى اللّه تعالى إلا ببدعة‏.‏
    وكذلك أهل الفجور المترفين، قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه فعل الواجبات إلا بما يفعله من الذنوب، ولا يمكنه ترك المحرمات إلا بذلك، وهذا يقع لبشر كثير من الناس‏.‏
    منهم من يقول‏: ‏إنه لا يمكن أداء الصلوات واجتناب الكلام المحرم من الغيبة وغيرها إلا بأكل الحشيشة‏.‏
    ويقول الآخر‏: إنّ أكْلَها يعينه على استنباط العلوم وتصفية الذهن، حتى يسميها بعضهم معدن الفكر والذكر، ومحركة العزم الساكن، وكل هذا من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء وغيرهم، وإنها لعمى الذهن، ويصير آكلها أبكم مجنوناً لا يَعِي ما يقول‏.‏
    وكذلك في هؤلاء من يقول‏: ‏إن محبته لله ورغبته فى العبادة، وحركته ووجده وشوقه وغير ذلك لا يتم إلا بسماع القصائد، ومعاشرة الشاهد من الصبيان وغيرهم، وسماع الأصوات والنغمات، ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات ورؤية الصور المحركات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ما لا تتحرك بدون ذلك، وأنهم بدون ذلك قد يتركون

    ج/ 14 ص -469-الصلوات، ويفعلون المحرمات الكبار، كقطع الطريق، وقتل النفوس، ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم، وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم والكبائر، وتحملها على الصلاة والصوم والحج‏.‏
    وهذا مستند كثير من الشيوخ الذين يدعون الناس إلى طريقهم بالسماع المبتدع على اختلاف ألوانه وأنواعه، منهم من يدعو إليه بالدف والرقص، ومنهم من يضيف إلى ذلك الشبابات، ومنهم من يعمله بالنساء والصبيان، ومنهم من يعمله بالدف والكف، ومنهم من يعمله بأذكار واجتماع، وتسبيحات وقيام، وإنشاد أشعار، وغير ذلك من سائر أنواعه وألوانه‏.‏
    وربما ضموا إليه من معاشرة النساء والمردان ونحو ذلك، ويقولون‏: هؤلاء الذين تَوَّبْنَاهم وقد كانوا لا يصلون، ولا يحجون، ولا يصومون، بل كانوا يقطعون الطريق، ويقتلون النفس، ويزنون، فتوبناهم عن ذلك بهذا السماع‏.‏ وما أمكن أحدهم استتابتهم بغير هذا‏.‏
    وقد يعترفون أن ما فعلوه بدعة منهي عنها أو محرمة، ولكن يقولون‏: ما أمكننا إلا هذا، وإن لم نفعل هذا القليل من المحرم حصل الوقوع فيما هو أشد منه تحريماً، وفى ترك الواجبات ما يزيد إثمه على إثم هذا المحرم القليل فى جنب ما كانوا فيه من المحرم الكثير‏.‏

    ج/ 14 ص -470-ويقولون‏: إن الإنسان يجد في نفسه نشاطاً وقوة في كثير من الطاعات إذا حصل له ما يحبه، وإن كان مكروهاً حراماً، وأما بدون ذلك فلا يجد شيئاً، ولا يفعله‏.‏ وهو أيضاً يمتنع عن المحرمات، إذا عوض بما يحبه وإن كان مكروهاً، وإلا لم يمتنع، وهذه الشبهة واقعة لكثير من الناس، وجوابها مبنى على ثلاث مقامات‏:
    أحدها‏: أن المحرمات قسمان‏:
    أحدهما‏: ‏ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئاً لا لضرورة ولا لغير ضرورة؛ كالشرك، والفواحش، والقول على اللّه بغير علم، والظلم المحض، وهى الأربعة المذكورة فى قوله تعالى‏: ‏"
    ‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏"‏[‏الأعراف‏: ‏33‏]‏‏.‏
    فهذه الأشياء محرمة فى جميع الشرائع، وبتحريمها بعث الله جميع الرسل، ولم يبح منها شيئاً قط، ولا فى حال من الأحوال؛ ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية، ونفى التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير، حرمه فى حال دون حال، وليس تحريمه مطلقاً‏.‏

    ج/ 14 ص -471-وكذلك الخمر، يباح لدفع الغُصَّة بالاتفاق، ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء، ومن لم يبحها قال‏: إنها لا تدفع العطش، وهذا مأخذ أحمد‏.‏ فحينئذ، فالأمر موقوف على دفع العطش بها؛ فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب، كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة، وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع؛ فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة فى شيء من ذلك‏.‏
    وكذلك الميسر، فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة فى مصلحة الجهاد‏.‏ وقد قيل‏: إنه ليس منه، وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقاً إلا المحلل‏.‏ ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر، وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى‏.‏ والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء، فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة، وعلى الجهاد الذي فيه تعاون، وتتألف به القلوب على الجهاد، زالت هذه المفسدة‏.‏
    وكذلك بيع الغرر، هو من جنس الميسر، ويباح منه أنواع عند الحاجة ورجحان المصلحة‏.‏

    ج/ 14 ص -472-وكذلك الربا، حرم لما فيه من الظلم، وأوجب ألا يباع الشيء إلا بمثله، ثم أبيح بيعه بجنسه خرصاً عند الحاجة، بخلاف غيرها من المحرمات؛ فإنها تحرم فى حال دون حال؛ ولهذا - والله أعلم - نفي التحريم عما سواها، وهو التحريم المطلق العام؛ فإن المنفي من جنس المثبت، فلما أثبت فيها التحريم العام المطلق نفاه عما سواها‏.‏
    المقام الثاني‏: أن يفرق بين ما يفعل فى الإنسان، ويأمر به ويبيحه، وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريماً منه لم ينه عنه، ولم يبحه أيضاً‏.‏
    ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب، وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه‏.‏
    بخلاف ما أمر اللّه به الأنبياء وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها، كدعوة موسى

    ج/ 14 ص -473-لفرعون، ونوح لقومه، فإنه حصل لموسى من الجهاد وطاعة الله، وحصل لقومه من الصبر والاستعانة باللّه ما كانت عاقبتهم به حميدة، وحصل أيضاً من تفريق فرعون وقومه ما كانت مصلحته عظيمة‏.‏
    وكذلك نوح حصل له ما أوجب أن يكون ذريته هم الباقين، وأهلك اللّه قومه أجمعين، فكان هلاكهم مصلحة‏.‏
    فالنهي عنه إذا زاد شره بالنهي، وكان النهي مصلحة راجحة كان حسناً، وأما إذا زاد شره وعظم وليس فى مقابلته خير يفوته لم يشرع، إلا أن يكون فى مقابلته مصلحة زائدة؛ فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع، مثل أن يكون الآمر لا صبر له، فيؤذى فيجزع جزعا شديداً يصير به مذنباً، وينتقص به إيمانه ودينه‏.‏
    فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك، بخلاف ما إذا صبر واتقى اللّه وجاهد، ولم يتعد حدود اللّه، بل استعمل التقوى والصبر؛ فإن هذا تكون عاقبته حميدة‏.‏
    وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته، وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة، كما قال تعالى‏:
    ‏‏"‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏: 54‏]‏‏.‏

    ج/ 14 ص -474-وأما الإنسان فى نفسه فلا يحل له أن يفعل، الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله؛ فإن هذا لا يكون إلا مفسدة، أو مفسدته راجحة على مصلحته، وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم، فلو علم أن فى ذلك مصلحة لم يحرمه، لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب، وتكون مصلحته أنه يتوب منه، ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة، وإنابة إلى اللّه تعالى فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها، فإن الإنسان قد يحصل له ‏[‏بعدم‏]‏ الذنوب كبر وعجب وقسوة، فإذا وقع فى ذنب أذله ذلك وكسر قلبه، ولين قلبه بما يحصل له من التوبة‏.‏
    ولهذا قال سعيد بن جبير‏: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة‏.‏ وهذا هو الحكمة فى ابتلاء من ابتلى بالذنوب من الأنبياء والصالحين، وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة، فليس للإنسان أن يعتقد حل ما يعلم أن اللّه حرمه قطعاً، وليس له أن يفعله قطعاً، فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه، فإن تاب فصار بالتوبة خيراً مما كان قبله، فهذا من رحمة اللّه به حين تاب عليه، وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب، وليس له أن يقول‏: أنا أفعل ثم أتوب، ولا يبيح الشارع له ذلك، لأنه بمنزلة من يقول‏: أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى، أو آكل السم ثم أشرب التِّرْيَاق ‏[‏هو دواء مركب ‏.‏ انظر‏: القاموس، مادة‏: ترق‏]‏‏.‏

    ج/ 14 ص -475-والشارع حكيم؛ فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا‏؟‏ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا‏؟‏ وهل يتمكن من الشرب أم لا‏؟‏ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة، وبالعفو عما سلف من ذنوبه، وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا فى أن يذنب ويتوب، ولو لم يفعل ذلك كان شراً منه لو لم يذنب ويتوب؛ لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته، لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان؛ لأنه لا يدري أن ذلك خير له، وليس ما يفعله خلقاً لعلمه وحكمته يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه، ويأمروا به‏.‏
    وقصة الخِضْر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع اللّه وأمره، ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدراً كما يظنه بعض الناس، بل ما فعله الخضر هو مأمور به فى الشرع، بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرماً مطلقاً، ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار؛ فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما، وكذلك قتل الإنسان الصائل ‏[‏هو الذى يقتل الناس، ويعدو عليهم‏.‏ انظر‏: القاموس، مادة‏: صؤل‏]‏ لحفظ دين غيره أمر مشروع، وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع‏.‏
    فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد، فيحرمه من لم يعرف الحكمة التى لأجلها فعل، وهو مباح فى الشرع

    ج/ 14 ص -476-باطناً وظاهراً لمن علم ما فيه من الحكمة التى توجب حسنه وإباحته‏.‏
    وهذا لا يجىء فى الأنواع الأربعة؛ فإن الشرك والقول على الله بلا علم، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والظلم، لا يكون فيها شىء من المصلحة، وقتل النفس، أبيح فى حال دون حال، فليس من الأربعة‏.‏ كذلك إتلاف المال يباح فى حال دون حال، وكذلك الصبر على المجاعة؛ ولذلك قال‏: ‏
    "‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏29‏]‏‏.‏
    فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقاً فى كل حال، وفى كل شرع، فعلى العبد أن يعبد اللّه مخلصاً له الدين، ويدعوه مخلصاً له، لا يسقط هذا عنه بحال، ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد، وهم أهل ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏‏.‏
    فهذا حق الله على كل عبد من عباده، كما فى الصحيحين من حديث معاذ أن النبى ﷺ قال له‏:
    ‏"‏يا معاذ، أتدرى ما حق الله على عباده‏؟‏‏"‏ قلت‏: الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏: ‏"‏حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا‏"‏ الحديث‏.‏
    فلا ينجون من عذاب اللّه إلا من أخلص للّه دينه وعبادته، ودعاه

    ج/ 14 ص -477-مخلصًا له الدين، ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره؛ كفرعون وأمثاله، فهو أسوأ حالا من المشرك، فلابد من عبادة الله وحده، وهذا واجب على كل أحد، فلا يسقط عن أحد البتة، وهو الإسلام العام الذى لا يقبل الله دينا غيره‏.‏
    ولكن لا يعذب الله أحداً حتى يبعث إليه رسولا، وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة، ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه، فمن لم تبلغه الدعوة فى الدنيا امتحن فى الآخرة، ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان، فمن لا ذنب له لا يدخل النار، ولا يعذب اللّه بالنار أحداً إلا بعد أن يبعث إليه رسولا، فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون، والميت في الفترة المحضة، فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار‏.‏
    فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال، وهو العدل فى حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصا له الدين، ولا يظلم الناس شيئاً، وما هو محرم على كل أحد فى كل حال لا يباح منه شىء، وهو الفواحش والظلم والشرك، والقول على الله بلا علم وبين ما سوى ذلك‏.‏
    قال تعالى‏: ‏
    "‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا‏"‏[‏الأنعام‏: 151‏]‏،

    ج/ 14 ص -478-فهذا محرم مطلقاً لا يجوز منه شىء، ‏"‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏"‏، فهذا فيه تقييد؛ فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه، وهذا الأمر والنهى للوالد هو من الإحسان إليه، وإذا كان مشركا جاز للولد قتله، وفي كراهته نزاع بين العلماء‏.‏
    قوله‏: ‏
    "‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ‏"‏ فهذا تحريم خاص،"‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏"‏[‏الأنعا م‏: 151‏]‏، هذا مطلق، ‏"‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏"‏[‏الأنعام‏: ‏152‏]‏ هذا مقيد؛ فإن يتامى المشركين أهل الحرب يجوز غنيمة أموالهم، لكن قد يقال‏: هذا أخذ وقربان بالتى هى أحسن، إذا فسر الأحسن بأمر الله ورسوله، ‏"‏وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏152‏]‏، هذا مقيد بمن يستحق ذلك ‏"‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ‏"‏[‏الأنعام‏: ‏152‏]‏، هذا مطلق‏.‏
    ‏"‏وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏152‏]‏، فالوفاء واجب، لكن يميز بين عهد الله وغيره، ويفرق بين ما يسكت عنه الإنسان وبين ما يلفظ به، ويفعله ويأمر به، ويفرق بين ما قدره اللّه، فحصل بسببه خير، وبين ما يؤمر به العبد، فيحصل بسببه خير‏.‏

    ج/ 14 ص -479-وقَال شَيخ الإسْلام رَحمه اللّه ‏:
    فصل

    قوله تعالى علواً كبيراً‏: ‏
    "‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏"‏ [‏المائدة‏: 105‏]‏، لا يقتضى ترك الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، لا نهياً ولا إذناً، كما في الحديث المشهور فى السنن عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه أنه خطب على منبر رسول اللّه ﷺ، فقال‏: ‏أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها فى غير موضعها، وإني سمعت رسول اللّه ﷺ يقول‏: ‏"‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يَعُمَّهُم اللّه بعقاب منه‏"‏‏.‏
    وكذلك فى حديث أبى ثعلبة الخشنى مرفوعا في تأويلها‏: ‏"‏إذا رأيت شُحّا مُطاعا، وهَوًى متبعًا، وإعجاب كل ذى رأى برأيه، فعليك بخويْصة نفسك‏"‏‏.‏ وهذا يفسره حديث أبى سعيد فى مسلم‏: ‏"‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏ فإذا قوى أهل الفجور حتى لا يبقي لهم إصغاء إلى

    ج/ 14 ص -480-البر، بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان فى هذه الحال، وبقى بالقلب‏.‏
    والشح هو شدة الحرص التى توجب البخل والظلم، وهو منع الخير وكراهته، و‏"‏الهوى المتبع‏"‏ فى إرادة الشر ومحبته و‏"‏الإعجاب بالرأى‏"‏ فى العقل والعلم، فذكر فساد القوى الثلاث التى هي العلم والحب والبغض، كما فى الحديث الآخر‏: ‏‏"‏ثلاث مهلكات، شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه‏"‏، وبإزائها الثلاث المنجيات‏: ‏"‏خشية اللّه فى السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق فى الغضب والرضا‏"‏، وهي التى سألها في الحديث الآخر‏: ‏‏
    "‏اللهم إني أسألك خشيتك فى السر والعلانية، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى‏"‏‏.‏
    فخشية اللّه بإزاء اتباع الهوى؛ فإن الخشية تمنع ذلك، كما قال‏: ‏"‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى‏"‏ ‏[‏النازعات‏: ‏40‏]‏، والقصد في الفقر والغنى بإزاء الشح المطاع، وكلمة الحق فى الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه، وما ذكره الصديق ظاهر؛ فإن اللّه تعالى قال‏: ‏"‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏"‏ أي‏: الزموها وأقبلوا عليها، ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي، وقال‏: ‏"‏لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏"‏ وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدى الواجب من الأمر النهي وغيرهما، ولكن فى الآية فوائد عظيمة‏:

    ج/ 14 ص -481-أحدها‏: ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا‏.‏
    الثاني‏: ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم؛ فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزن على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران فى قوله‏:
    ‏"‏وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ‏"‏[‏النحل‏: 127‏]‏‏.‏
    الثالث‏: ألا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله‏: ‏
    "‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏"‏ [‏الحجر‏: ‏88‏]‏، فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم فى آية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم فى آية، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم، إما راغبا وإما راهباً‏.‏
    الرابع‏: ألا يعتدى على أهل المعاصي بزيادة على المشروع فى بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم‏: عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال‏: ‏
    "‏وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ‏"‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏8‏]‏، وقال‏: ‏"‏وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ‏"‏[‏البقرة‏: ‏190‏]‏، وقال‏: ‏"‏فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏: ‏193‏]‏، فإن كثيراً من الآمرين الناهين قد يتعدى ‏[‏فى المطبوعة‏: ‏يعتدى‏: والصواب ما أثبتناه‏]

    ج/ 14 ص -482-حدود اللّه، إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين‏.‏
    الخامس‏: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصبر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد؛ فإن ذلك داخل في قوله‏:
    ‏"‏عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ‏"‏ وفى قوله‏: ‏"‏إِذَا اهْتَدَيْتُمْ‏"‏‏.‏
    فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها المعنى الآخر، وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا، وإعراضه عما لا يعنيه، كما قال صاحب الشريعة‏: ‏"‏من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏"‏، ولاسيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه، لاسيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة‏.‏
    وكذلك العمل، فصاحبه إما معتد ظالم، وإما سفيه عابث، وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللّه، ويكون من باب الظلم والعدوان‏.‏
    فَتَأمُّل الآية فى هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء، وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها

    ج/ 14 ص -483-ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة فى محنة الصفات والقرآن؛ محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة عَلَى عِليّ وأهل بيته، وكما قد تبغى المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغى بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة، بزيادة على ما أمر اللّه به، وهو الإسراف المذكور فى قولهم‏: ‏"‏ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏: 147‏]‏‏.‏
    وبإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق، أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فى هذه الأمور كلها، فما أحسن ما قال بعض السلف‏: ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر غلو أو تقصير‏.‏
    فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تارك الإعانة على البر والتقوى، وفاعل المأمور به وزيادة منهى عنها بإزائه تارك المنهى عنه وبعض المأمور به، واللّه يهدينا الصراط المستقيم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه‏.‏

    ج/ 14 ص -484-قال شيخ الإِسلام رَحِمهُ اللَّه‏:
    فصل

    الذي يدل عليه القرآن فى سورة المائدة فى آية الشهادة فى قوله‏: ‏
    "‏فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا‏"‏ ‏[‏المائدة‏: ‏106‏]‏ أي‏: بقولنا‏: ‏"‏وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏"‏، حذف ضمير كان لظهوره، أي‏: ولو كان المشهود له، كما فى قوله‏: ‏"‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏"‏‏[‏ الأنعام‏: ‏152‏]‏، وكما فى قوله‏: ‏"‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ‏"‏ إلى قوله‏: ‏"‏إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا‏"‏[‏النساء‏: ‏135‏]‏، أي‏: المشهود عليه ونحو ذلك؛ لأن العادة أن الشهادة المزورة يعتاض عليها، وإلا فليس أحد يشهد شهادة مزورة بلا عوض ولو مدح أو اتخاذ يد‏.‏ وآفة الشهادة‏: إما اللَّيُّ، وإما الإعراض؛ الكذب والكتمان، فيحلفان‏: لا نشتري بقولنا ثمناً، أي‏: لا نكذب ولا نكتم شهادة اللّه، أو‏: لا نشتري بعهد اللّه ثمناً؛ لأنهما كانا مؤتمنين، فعليهما عهد بتسليم المال إلى مستحقه؛ فإن الوصية عهد من العهود‏.‏
    وقوله بعد ذلك‏: ‏
    "‏فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا‏"‏[‏المائدة‏: ‏107‏]‏، أعم من أن يكون

    ج/ 14 ص -485-في الشهادة أو الأمانة‏.‏ وسبب نزول الآية يقتضي أنه كان في الأمانة؛ فإنهما استشهدا وائتمنا؛ لكن ائتمانهما ليس خارجا عن القياس، بل حكمه ظاهر، فلم يحتج فيه إلى تنزيل، بخلاف استشهادهما، والمعثور على استحقاق الإثم ظهور بعض الوصية عند من اشتراها منهما بعد أن وجد ذكرها في الوصية، وسئلا عنها فأنكراها‏.‏
    وقوله‏: ‏
    "‏مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ‏"‏ يحتمل أن يكون مضمناً معنى بغى عليهم، وعدى ‏"‏عَلَيْهِمُ‏"‏ كما يقال في الغصب‏: غصبت علي مالي؛ ولهذا قيل‏: ‏"‏لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا‏"‏ أي‏: كما اعتدوا، ثم قوله‏: ‏"‏ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ‏"‏ ‏[‏المائدة‏: 108‏]‏‏.‏
    وحديث ابن عباس فى البخاري صريح فى أن النبى ﷺ حكم بمعنى ما فى القرآن، فرد اليمين على المدعيين بعد أن استحلف المدعى عليهم لما عثر على أنهما استحقا إثما، وهو إخبار المشترين أنهم اشتروا ‏"‏الجام‏"‏ ‏[‏هو إناء من فضة‏.‏ انظر‏: القاموس، مادة‏: جوم‏]‏ منهما بعد قولهما ما رأيناه، فحلف النبى ﷺ اثنين من المدعيين الأوليان، وأخذ ‏"‏الجام‏"‏ من المشتري، وسلم إلى المدعي، وبطل البيع، وهذا لا يكون مع إقرارهما بأنهما باعا الجام؛ فإنه لم يكن يحتاج إلى يمين المدعيين لو اعترفا بأنه جام الموصى، وأنهما

    ج/ 14 ص -486-غصباه وباعاه، بل بقوا على إنكار قبضه مع بيعه، أو ادعوا مع ذلك أنه أوصى لهما به وهذا بعيد‏.‏
    فظاهر الآية أن المدعى عليه المتهم بخيانة ونحوها كما اتهم هؤلاء إذا ظهر كذبه وخيانته كان ذلك لوثا يوجب رجحان جانب المدعي، فيحلف ويأخذ، كما قلنا فى الدماء سواء، والحكمة فيهما واحدة، وذلك أنه لما كانت العادة أن القتل لا يفعل علانية بل سراً، فيتعذر إقامة البينة، ولا يمكن أن يؤخذ بقول المدعي مطلقا، أخذ بقول من يترجح جانبه، فمع عدم اللوث جانب المنكر راجح، أما إذا كان قتل ولوث قوي جانب المدعي فيحلف‏.‏
    وكذلك الخيانة والسرقة يتعذر إقامة البينة عليهما فى العادة، ومن يستحل أن يسرق فقد لا يتورع عن الكذب، فإذا لم يكن لوث فالأصل براءة الذمة، أما إذا ظهر لوث بأن يوجد بعض المسروق عنده فيحلف المدعي ويأخذ، وكذلك لو حلف المدعى عليه ابتداء ثم ظهر بعض المسروق عند من اشتراه أو انتهبه أو أخذه منه؛ فإن هذا اللوث في تغليب الظن أقوى، لكن فى الدم قد يتيقن القتل ويشك فى عين القاتل، فالدعوى إنما هي بالتعيين‏.‏
    وأما فى الأموال، فتارة يتيقن ذهاب المال وقدره، مثل أن يكون

    ج/ 14 ص -487-معلوما في مكان معروف، وتارة يتيقن ذهاب مال لا قدره، بأن يعلم أنه كان هناك مال وذهب، وتارة يتيقن هتك الحرز ولا يدرى أذهب بشيء أم لا‏؟‏ هذا فى دعوى السرقة، وأما فى دعوى الخيانة فلا تعلم الخيانة، فإذا ظهر بعض المال المتهم به عند المدعي عليه أو من قبضه منه ظهر اللوث بترجيح جانب المدعى، فإن تحليف المدعى عليه حينئذ بعيد‏.‏ وقول النبى ﷺ‏: ‏‏"‏لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعَى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه‏"‏‏.‏ جمع فيه الدماء والأموال، فكما أن الدماء إذا كان مع المدعى لوث حلف فكذلك الأموال، كما حلفناه مع شاهده، فكل ما يغلب على الظن صدقه فهو بمنزلة شاهده، كما جعلنا فى الدماء الشهادة المزورة لنقص نصابها أو صفاتها لوثا، وكذلك فى الأموال جعل الشاهد مع اليمين، فالشاهد المزور مع لوث وهو ‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ لكن ينبغي أن تعتبر فى هذا حال المدعى والمدعى عليه فى الصدق والكذب؛ فإن باب السرقة والخيانة لا يفعله إلا فاسق، فإن كان من أهل ذلك لم يكن‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏خرم بالأصل‏]‏ إذا لم يكن إلا عدلا، وكذلك المدعى قد يكذب، فاعتبار العدالة والفسق فى هذا يدل عليه قول الأنصاري‏: كيف نرضى بأيمان قوم كفار‏؟‏ فعلم أن المتهم إذا كان فاجرا فللمدعى ألا يرضى بيمينه؛ لأنه من يستحل أن يسرق، يستحل أن يحلف‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML