ج/ 2 ص -286-
ج/ 2 ص -287-ثم بعد مدة غير البيت بقوله:
لقد حق لي عشق الوجود وأهله
فسألته عن ذلك فقال: مقام البداية أن يرى الأكوان حجبًا فيرفضها، ثم يراها مظاهر ومجالى فيحق له العشق لها، كما قال بعضهم:
أقبل أرضًا سار فيها جِمالها فكيف بدار دار فيها جَمالها
قال: وقال ابن عربي عقيب إنشاد بيتي أبي نواس:
رق الزجاج وراقت الخمر وتشاكلا فتشابه الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر
لبس صورة العالم، فظاهره خلقه، وباطنه حقه.
وقال بعض السلف: عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى، الله فقط والكثرة وهم.
قال الشيخ قطب الدين ابن سبعين: رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك. الله فقط والكثرة وهم.
وقال الشيخ محيى الدين ابن عربي:
يا صورة أُنس سرها معنائي ما خلقك للأمر ترى لولائي
شئناك فأنشأناك خلقا بشرا لتشهدنا في أكمل الأشياء
ج/ 2 ص -288-وفيه: طلب بعض أولاد المشايخ من والده الحج، فقال له الشيخ: يا بني، طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين.
قال: وقيل عن رابعة العدوية: إنها حجت فقالت: هذا الصنم المعبود في الأرض، والله ما ولجه الله ولا خلا منه.
وفيه للحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا مستترا ظاهرا في صورة الآكل والشارب
قال: وله:
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
وله أيضا:
بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني فارفع بحقك إنيي من البين
قال: وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول: وبهذه الإنيةِ التي طلب الحلاج رفعها تصرفت الأغيار في دمه، ولذلك قال السلف: الحلاج نصف رجل وذلك أنه لم ترفع له الإنيةُ بالمعنى فرفعت له صورة.
وفيه لمحيى الدين ابن عربي:
والله ما هي إلا حيرة ظهرت وبي حلفت وإن المقسم الله
وقال فيه: المنقول عن عيسى عليه السلام أنه قال: "إن الله تبارك
ج/ 2 ص -289-وتعالى اشتاق بأن يرى ذاته المقدسة، فخلق من نوره آدم عليه السلام وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور، وآدم المرآة. قال ابن الفارض في قصيدته السلوك:
وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر إليك بها عند انعكاس الأشعة
قال: وقال ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة، وأمر بغير واسطة، فالأمر الذي بالوسائط رده من شاء الله وقبله من شاء الله، والأمر الذي بغير واسطة لا يمكن رده، وهو قوله تعالى: "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [النحل: 40].
فقال له فقير: إن الله قال لآدم بلا واسطة: لا تقرب الشجرة، فقرب وأكل. فقال: صدقت، وذلك أن آدم إنسان كامل، ولذلك قال شيخنا على الحريري: آدم صفي الله تعالى، كان توحيده ظاهرًا وباطنًا، فكان قوله لآدم: "لا تقرب الشجرة" ظاهرًا، وكان أمره [كل] باطنا، فأكل فكذلك قوله تعالى. وإبليس كان توحيده ظاهرًا، فأمر بالسجود لآدم، فرآه غيرًا فلم يسجد، فغير الله عليه وقال: "اخْرُجْ مِنْهَا" [الأعراف: 18]
وقال شخص لسيدي: يا سيدي حسن، إذا كان الله يقول لنبيه: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ" [آل عمران: 128]، إيش نكون نحن؟ فقال سيدي له: ليس الأمر كما تقول أو تظن، فقوله له: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ" عين الإثبات للنبي
ج/ 2 ص -290-ﷺ كقوله تعالى: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى" [الأنفال: 71]، "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" [الفتح: 10]
وفيه لأوحد الدين الكرماني:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني ما بينكم وبيننا من بين
وقال غيره:
لا تحسب بالصلاة والصوم تنال قربا ودنوا من جمال وجلال
فارق ظلم الطبع وكن متحدًا بالله وإلا كُلُّ دعواك محال
وغيره للحلاج:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
يشاهد حقًا حين يشهده الهوى بأن صلاة العارفين من الكفر
وللشيخ نجم الدين ابن إسرائيل:
الكون يناديك ألا تسمعني من ألف أشتاتي ومن فرقني
انظر لتراني منظرًا معتبرًا ما فيَّ سوى وجود من أوجدني
وله أيضا:
ذرات وجود الكون للحق شهود أن ليس لموجود سوى الحق وجود
والكون وإن تكثرت عدته منه وإلى علاه يبدو ويعود
ج/ 2 ص -291-وله أيضا:
برئت إليك من قولي وفعلى ومن ذاتي براءة مستقيل
وما أنا في طراز الكون شيء لأني مثل ظل مستحيل
وللعفيف التلمساني:
أحن إليه وهو قلبي وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه؟
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري وما بُعده إلا لإفراط قربه
وقال بعض السلف: التوحيد لا لسان له، والألسنة كلها لسانه.
ومن ذلك أيضا: التوحيد لا يعرفه إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن الواحد، وذلك أنه لا يعبر عنه إلا بغيره ومن أثبت غيرا فلا توحيد له.
قال: وسمعت الشيخ محمد بن بشر النواوي يقول: ورد سيدنا الشيخ على الحريري إلى جامع نوى، قال الشيخ محمد: فجئت إليه، فقبلت الأرض بين يديه، وجلست، فقال: يا بني، وقفت مع المحبة مدة فوجدتها غير المقصود، لأن المحبة لا تكون إلا من غير لغير، وغير ما ثم، ثم وقفت مع التوحيد مدة فوجدته كذلك، لأن التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، ولو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا.
وفيه: سمعت من الشيخ نجم الدين ابن إسرائيل مما أسر إلى أنه سمع من
ج/ 2 ص -292-شيخنا، الشيخ على الحريري، في العام الذي توفى فيه، قال: يا نجم، رأيت لهاتي الفوقانية فوق السموات، وحنكي تحت الأرضين، ونطق لساني بلفظة لو سمعت مني ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة.
فلما كان بعد ذلك بمدة، قال شخص في حضرة سيدي الشيخ حسن بن على الحريري: يا سيدي حسن، ما خلق الله أقل عقلا ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمروذ وأمثالهما، فقال: إن هذه المقالة لا يقولها إلا أجهل خلق الله أو أعرف خلق الله، فقلت له: صدقت، وذلك أنه قد سمعت جدك يقول: رأيت كذا وكذا، فذكر ما ذكره الشيخ نجم الدين عن الشيخ.
وفيه قال بعض السلف: من كان عين الحجاب على نفسه فلا حجاب ولا محجوب.
فالمطلوب من السادة العلماء:
أن يبينوا هذه الأقوال، وهل هي حق أو باطل؟ وما يعرف به معناها؟ وما يبين أنها حق أو باطل؟ وهل الواجب إنكارها، أو إقرارها، أو التسليم لمن قالها؟ وهل لها وجه سائغ؟ وما الحكم فيمن اعتقد معناها، إما مع المعرفة بحقيقتها؟ وإما مع التسليم المجمل لمن قالها؟
ج/ 2 ص -293-والمتكلمون بها، هل أرادوا معنى صحيحا يوافق العقل والنقل؟ وهل يمكن تأويل ما يشكل منها وحمله على ذلك المعنى؟ وهل الواجب بيان معناها، وكشف مغزاها، إذا كان هناك ناس يؤمنون بها، ولا يعرفون حقيقتها؟ أم ينبغي السكوت عن ذلك وترك الناس يعظمونها، ويؤمنون بها. مع عدم العلم بمعناها؟ بينوا ذلك مأجورين.
ج/ 2 ص -294-فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين، مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى، مع مخالفتهما للمنقول والمعقول.
أحدهما: الحلول والاتحاد، وما يقارب ذلك، كالقول بوحدة الوجود، كالذين يقولون: إن الوجود واحد، فالوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك أهل الوحدة، كابن عربي، وصاحبه القونوي، وابن سبعين، وابن الفارض صاحب القصيدة التائية نظم السلوك وعامر البصري السيواسي، الذي له قصيدة تناظر قصيدة ابن الفارض. والتلمساني الذي شرح [مواقف النفري] وله شرح الأسماء الحسنى، على طريقة هؤلاء، وسعيد الفرغاني، الذي شرح قصيدة ابن الفارض، والششتري صاحب الأزجال، الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلياني، وابن أبي المنصور المتصوف المصري، صاحب [فك الأزرار عن أعناق الأسرار]وأمثالهم.
ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت كما يقوله ابن عربي ويزعمض
ج/ 2 ص -295-أن الأعيان ثابتة في العدم، غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق مفتقر إلى الأعيان، في ظهور وجوده بها، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها، الذي هو نفس وجوده. وقوله مركب من قول من قال: المعدوم شيء، وقول من يقول: وجود الخالق هو وجود المخلوق، ويقول: فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق، والوجود الخالق هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في موضع آخر.
ومنهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين، كما يقول القونوي ونحوه، فيقولون: إن الواجب هو الوجود المطلق لا بشرط، وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فما هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينا، وإن قيل: إن المطلق جزء من المعين لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوق، والجزء لا يبدع الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا.
ومنهم من قال: إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، كما يقول ابن سينا وأتباعه، فقوله أشد فسادًا، فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان؛ فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء الذين يلزمهم التعطيل شر من قول الذين يشبهون أهل الحلول والاتحاد.
وآخرون يجعلون الوجود الواجب، والوجود الممكن بمنزلة المادة
ج/ 2 ص -296-والصورة، التي تقولها المتفلسفة، أو قريب من ذلك، كما يقوله ابن سبعين وأمثاله.
وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود، والحلول أو الاتحاد، وهم يقولون بالحلول المطلق، والوحدة المطلقة، والاتحاد المطلق، بخلاف من يقول بالمعين، كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون بإلهية علىّ، أو الحاكم، أو الحلاج، أو يونس القنيني، أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية.
فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم.
ولهذا يقولون: إن النصارى إنما كان خطؤهم في التخصيص، وكذلك يقولون في المشركين عباد الأصنام، إنما كان خطؤهم لأنهم اقتصروا على بعض المظاهر دون بعض، وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقا، على وجه الإطلاق والعموم.
ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال، ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى.
وهذا المذهب شائع في كثير من المتأخرىن، وكان طوائف من الجهمية يقولون به، وكلام ابن عربي، في فصوص الحكم وغيره، وكلام ابن سعبين
ج/ 2 ص -297-وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض نظم السلوك وقصيدة عامر البصري، وكلام العفيف التلمساني، وعبد الله البلياني، والصدر القونوي وكثير من شعر ابن إسرائيل، وما ينقل من ذلك عن شيخه الحريري، وكذلك نحو منه يوجد في كلام كثير من الناس غير هؤلاء هو مبني على هذا المذهب مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
وكثير من أهل السلوك، الذين لا يعتقدون هذا المذهب، يسمعون شعر ابن الفارض وغيره، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال.
وأصل ضلال هؤلاء: أنهم لم يعرفوا مباينة الله لمخلوقاته، وعلوه عليها، وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أنه الشمس نفسها.
ولما ظهرت الجهمية المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال:
فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سمواته، مستو على عرشه، بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح، الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه، من إقرارهم به، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى.
ج/ 2 ص -298-والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين، اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من غيرهم.
والقول الثالث: قول حلولية الجهمية، الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية، وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل: متكملة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء.
وذلك لأن العبادة تتضمن الطلب والقصد، والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يطلب موجودًا، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه.
وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي التي لا يوصف بها إلا المعدوم لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعبود المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة، فإنه ينافي عدم المعبود.
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء عند نظره وبحثه يميل إلى النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول، وإذا قيل له: هذا ينافي ذلك، قال: هذا مقتضى
ج/ 2 ص -299-عقلي ونظري، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجد إن لم يكن موافقا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما.
والقول الرابع: قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف، كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف، ويوجد في كلام السالمية كأبي طالب المكي وأتباعه، كأبي الحكم بن برجان وأمثاله ما يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا.
وفي الجملة، فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخرى الصوفية؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد لما سئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث.
وقد أنكر ذلك عليه ابن عربي صاحب الفصوص وادعى أن الجنيد وأمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين الرب والعبد، بناء على دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم والمحدث إلا من ليس بقديم ولا محدث وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس ذاك، والتمييز بين هذا وذاك لا يفتقر إلى أن يكون العارف المميز بين الشيئين ليس هو أحد الشيئين، بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذلك الإنسان الآخر، مع أنه أحدهما، فكيف لا يعلم أنه غير ربه، وإن كان هو أحدهما؟
ج/ 2 ص -300- الأصل الثاني: الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وعلى ترك المأمور وفعل المحظور، فإن القدر يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده.
والناس الذين ضلوا في القدر على ثلاثةأصناف:
قوم آمنوا بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر، وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة ونحوهم.
وقوم آمنوا بالقضاء والقدر، ووافقوا أهل السنة والجماعة، على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وربه ومليكه، لكن عارضوا هذا بالأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضا للشريعة.
وفيهم من يقول: إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وإن العارف يستوى عنده هذا وهذا.
وهم في ذلك متناقضون، مخالفون للشرع والعقل، والذوق والوجد، فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم، وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل، والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث، ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون بينهما، ويفرقون أيضا بموجب أهوائهم وأغراضهم، لا بموجب الأمر والنهي، ولا يقفون لا مع القدر، ولا مع الأمر، بل كما
ج/ 2 ص -301-قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب يوافق هواك تمذهبت به.
ولا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض، لا يجعله حجة في مخالفة هواه، بل يعادي من آذاه وإن كان محقا، ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده لا بحسب أمر الله ونهيه، ومحبته وبغضه، وولايته وعداوته.
إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن هذا مستلزم للفساد، الذي لا صلاح معه، والشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد، ولا اقتص من ظالم باغ، ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارضه فيه، وهذا فيه من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد.
فمن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد، وإلى ما يضرهم، والله قد بعث رسوله ﷺ يأمر المؤمنين بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه تبع ضده من الأهواء والبدع، وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد عليه، ولزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير.
ج/ 2 ص -302-وإن قال: أنا أعذر بالقدر من شهده، وعلم أن الله خالق فعله ومحركه، لا من غاب عن هذا الشهود، أو كان من أهل الجحود. قيل له: فيقال لك: وشهود هذا، وجحود هذا من القدر؟ فالقدر متناول لشهود هذا، وجحود هذا؟ فإن كان هذا موجبا للفرق مع شمول القدر لهما، فقد جعلت بعض الناس محمودا، وبعضهم مذموما مع شمول القدر لهما؟ وهذا رجوع إلى الفرق واعتصام بالأمر والنهي، وحينئذ فقد نقضت أصلك، وتناقضت فيه، وهذا لازم لكل من دخل معك فيه.
ثم مع فساد هذا الأصل وتناقضه، فهو قول باطل وبدعة مضلة.
فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات، وفعل المحظورات، بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات، فلو أشرك مشرك بالله، وكذب رسوله ناظرًا إلى أن ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، سواء كان المشرك مقرًا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلًا عنه، فقد قال إبليس: "بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" [الحجر: 39]، فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببا لمزيد عذابه.
وأما آدم عليه السلام فإنه قال: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الأعراف: 23]، قال تعالى: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عليه إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [البقرة: 37].
ج/ 2 ص -303-فمن استغفر وتاب كان آدميا سعيدا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا شقيا، وقد قال تعالى لإبليس: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" [ص: 85]. وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق، فإنهم يسلكون أنواعا من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها، ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر، فيضاهئون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينا لم يشرعه الله، ويحتجون بالقدر على مخالفة أمر الله.
والصنف الثالث: من الضالين في القدر: من خاصم الرب في جمعه بين القضاء والقدر، والأمر والنهي كما يذكرون ذلك على لسان إبليس وهؤلاء خصماء الله وأعداؤه.
وأما أهل الإيمان: فيؤمنون بالقضاء والقدر، والأمر والنهي، ويفعلون المأمور، ويتركون المحظور، ويصبرون على المقدور، كما قال تعالى: "إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 90]، فالتقوى تتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور.
وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم علموا أن ذلك في كتاب، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فسلموا الأمر لله وصبروا على ما ابتلاهم به.
وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى
ج/ 2 ص -304-الطاعات، ويدعون ربهم رغبا ورهبا، ويجتنبون محارمه ويحفظون حدوده، ويستغفرون الله ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علما منهم بأن التوبة فرض على العباد دائما، واقتداء بنبيهم، حيث يقول في الحديث الصحيح: "أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة"، وفي رواية: "أكثر من سبعين مرة"، وآخر سورة نزلت عليه: "إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا" [سورة النصر]. وإذا عرف هذان الأصلان، فعليهما ينبني جواب ما في هذا السؤال من الكلمات، ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات.
فقول القائل: إن الله لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا، هو من أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد، وهو باطل؛ فإن اللطيف إن كان هو الكثيف فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف، وإن كان اللطيف غير الكثيف فقد ثبت الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق، وحينئذ فالحق لا يكون خلقا، فلا يتصور أن ذات الحق تكون خلقا بوجه من الوجوه، كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات الخالق بوجه من الوجوه.
وكذلك قول الآخر: [ظهر فيها حقيقة، واحتجب عنها مجازًا] فإنه إن كان الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير الآخر، فلا يتصور ظهور ولا احتجاب.
ج/ 2 ص -305-ثم قوله: [فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل الفرق شهدها ستورًا وحجبا] كلام ينقض بعضه بعضا، فإنه إن كان الوجود واحدًا لم يكن أحد الشاهدين غير الآخر، ولم يكن الشاهد غير المشهود. ولهذا قال بعض شيوخ هؤلاء: من قال: إن في الكون سوى الله فقد كذب. فقال له آخر: فمن الذي كذب؟ فأفحمه. وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه، كان هو الذي يكذب ويظلم، ويأكل ويشرب، وهذا يصرح به أئمة هؤلاء، كما يقول صاحب الفصوص وغيره: إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض ويضرب وتصيبه الآفات، ويوصف بالمعايب والنقائص، كما أنه هو الذي يوصف بنعوت المدح والذم.
قال: فالعلى بنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات الثبوتية والسلبية، سواء كانت محمودة عقلا وشرعًا وعرفا، أو مذمومة عقلا وشرعًا وعرفًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة.
وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وقد أخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق وكلها حق له، كما أن صفات المخلوق حق للخالق.
وقول القائل:
لقد حق لي عشق الوجود وأهله
يقتضي أنه يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب
ج/ 2 ص -306-والخنازير، والبول والعذرة، وكل خبيث، مع أنه باطل عقلا وشرعًا، فهو كاذب في ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذ وآلمه ألما شديدًا لأبغضه وعاداه، بل اعتدى في أذاه، فعشق الرجل لكل موجود محال عقلا، محرم شرعا.
وما ذكر عن بعضهم من قوله: [عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى] هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الشرك والإلحاد، والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة.
وقول ابن عربي: [ظاهره خلقه، وباطنه حقه] هو قول أهل الحلول، وهو متناقض في ذلك، فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان، أحدهما باطن والآخر ظاهر، والتفريق بين الوجود والعين تفريق لا حقيقة له، بل هو من أقوال أهل الكذب والمين.
وقول ابن سبعين: [رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط، والكثرة وهم] هو موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال: وأنتم ذلك. فإنه جعل العبد هالكا أي: لا وجود له، فلم يبق إلا وجود الرب، فقال: وأنتم ذلك، وكذلك قال: الله فقط، والكثرة وهم، فإنه على قوله لا موجود إلا الله.
ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم: ليس إلا الله، بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله.
ج/ 2 ص -307-وكان الشيخ قطب الدين ابن القسطلاني يسميهم [الليسية] ويقول: احذروا هؤلاء الليسية، ولهذا قال: والكثرة وهم وهذا تناقض، فإن قوله: [وهم] يقتضي متوهما، فإن كان المتوهم هو الوهم فيكون الله هو الوهم، وإن كان المتوهم هو غير الوهم فقد تعدد الوجود، وكذلك إن كان المتوهم هو الله فقد وصف الله بالوهم الباطل، وهذا مع أنه كفر فهو يناقض قوله: الوجود واحد، وإن كان المتوهم غيره، فقد أثبت غير الله، وهذا يناقض أصله، ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة وهمًا، بل تكون حقا.
والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما مبنيان على هذا الأصل، فإن قوله:
يا صورة أنس سرها معنائي
خطاب على لسان الحق، يقول لصورة الإنسان: يا صورة أنس سرها معنائي، أي هي الصورة وأنا معناها، وهذا يقتضي أن المعنى غير الصورة، وهو يقتضي التعدد، والتفريق بين المعنى والصورة، فإن كان وجود المعنى هو وجود الصورة كما يصرح به فلا تعدد، وإن كان وجود هذا غير وجود هذا فهو متناقض في قوله.
وقوله:
ما خلقك للأمر ترى لولائي
ج/ 2 ص -308-كلام مجمل يمكن أن يريد به معنى صحيحا، أي لولا الخالق لما وجد المكلفون ولا خلق لأمر الله، لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا، وأن مراده الوحدة والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال:
شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا كي تشهدنا في أكمل الأشياء
فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية، وهذا يشير إلى الحلول وهو حلول الحق في الخلق لكنه متناقض في كلامه، فإنه لا يرضي بالحلول، ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل، لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده، وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا، لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه.
وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب فقال: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره.
وقوله: [ما فارقه الله طرفة عين قط] إن أراد به الحلول المطلق العام فهو مع بطلانه متناقض، فإنه لا فرق حينئذ بين الطائف والمطوف به، فلم يكن طواف
ج/ 2 ص -309-هذا بهذا أولى من العكس، بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب، والخنازير، والكفار، والنجاسات، والأقذار، وكل خبيث وكل ملعون، لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا كله.
وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني، وقد مر بكلب أجرب ميت: هذا أيضًا من ذات الله؟ فقال: وثمَّ خارج عنه؟ ومر التلمساني ومعه شخص بكلب، فركضه الآخر برجله، فقال: لا تركضه فإنه منه، وهذا مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين فإنه متناقض، فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد، وإذا قيل: مظاهر ومجالى، قيل: إن كان لها وجود غير وجود الظاهر والمتجلى، فقد ثبت التعدد وبطلت الوحدة، وإن كان وجود هذا هو وجود هذا لم يبق بين الظاهر، والمظهر، والمتجلي فيه فرق.
وإن أراد بقوله: [ما فارقه الله طرفة عين] الحلول الخاص كما تقوله النصارى في المسيح لزم أن يكون هذا الحلول ثابتا له من حين خلق كما تقوله النصارى في المسيح فلا يكون ذلك حاصلا له بمعرفته وعبادته وتحقيقه وعرفانه.
وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين، فلماذا يكون الحلول ثابتا له دون غيره؟ وهذا شر من قول النصارى، فإن النصارى ادعوا ذلك في المسيح لكونه خلق من غير أب، وهؤلاء الشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق، وإنما فضلوا بالعبادة والمعرفة، والتحقيق والتوحيد.
ج/ 2 ص -310-وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن لهم، فإذا كان هذا هو سبب الحلول، وجب أن يكون الحلول فيهم حادثا لا مقارنا لخلقهم، وحينئذ فقولهم: إن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط، كلام باطل كيفما قدر.
وأما ما ذكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت: إنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو كذب، فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به، والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها: والله ما ولجه الله ولا خلا منه، كلام باطل عليها.
وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا المعني، فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت؟
وقول القائل: ما ولج الله فيه كلام صحيح. وأما قوله: ما خلا منه فإن أراد أن ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى، فهو باطل وهو مناقض لقوله: ما ولج فيه، وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له لم يتجدد له ولوج ولم يزل غير حال فيه، فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب ألا يكون للبيت مزية على غيره من البيوت إذ الموجودات كلها عندهم كذلك.
ج/ 2 ص -311-وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج:
سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب
حتى بدا فى خلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب
فهذه قد بين بها الحلول الخاص كما تقول النصارى في المسيح وكان أبو عبد الله ابن خفيف الشيرازي قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج يذب عنه، فلما أنشد هذين البيتين قال: لعن الله من قال هذا.
وقوله: وله:
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
فهذا البيت يعرف لابن عربي، فإن كان قد سبقه إليه الحلاج وقد تمثل هو به، فإضافته إلى الحلاج صحيحة، وهو كلام متناقض باطل.
فإن الجمع بين النقيضين في الاعتقاد في غاية الفساد. والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما.
وهؤلاء يزعمون أنه يثبت عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل، وإنهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين، وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول، ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة.
ج/ 2 ص -312-ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام أعظم من الأولىاء، والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيؤوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وأن الجمع بين النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح.
ولا ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام، يتخيلون في نفوسهم أمورًا يتخيلونها ويتوهمونها، فيظنونها ثابتة في الخارج، وإنما هي من خيالاتهم، والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له.
ولهذا يقولون: أرض الحقيقة هي أرض الخيال، كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض، وكان من شيوخهم.
وأما قوله:
بيني وبينك إني تزاحمني فارفع بحقك إنيي من البين
فإن هذا الكلام يفسر بمعانٍ ثلاثة، يقوله الملحد، ويقوله الزنديق، ويقوله الصديق.
فالأول: مراده به طلب رفع ثبوت إنيته حتى يقال: إن وجوده هو وجود الحق، وإنيته هي إنية الحق، فلا يقال: إنه غير الله ولا سواه.
ج/ 2 ص -313-ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة: إن الحلاج نصف رجل، وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى، فرفعت له صورة. يقولون: إنه لما لم ترفع إنيته في الثبوت في حقيقة شهوده رفعت صورة فقتل، وهذا القول مع ما فيه من الكفر والإلحاد، فهو متناقض ينقض بعضه بعضا فإن قوله:
بيني وبينك إني تزاحمني
خطاب لغيره، وإثبات إنية بينه وبين ربه، وهذا إثبات أمور ثلاثة ولذلك يقول:
فارفع بحقك إنيي من البين
طلب من غيره أن يرفع إنيته، وهذا إثبات لأمور ثلاثة.
وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد، وهو الفناء عن وجود السوى، فإن هذا فيه طلب رفع الإنية وهو طلب الفناء والفناءثلاثةأقسام:
فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن عبادة السوى.
فالأول: هو فناء أهل الوحدة الملاحدة، كما فسروا به كلام الحلاج وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا.
وأماالثاني وهو الفناء عن شهود السوى: فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين، كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله وهو مقام الاصطلام، وهو أن يغيب بموجوده عن وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن
ج/ 2 ص -314-رجلا كان يحب آخر، فألقى المحبوب نفسه في الماء، فألقى المحب نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني. فهذا حال من عجز عن شهود شىء من المخلوقات إذا شهد قلبه وجود الخالق، وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين.
ومن الناس من يجعل هذا من السلوك، ومنهم من يجعله غاية السلوك، حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه.
وهذا غلط عظيم، غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع والأمر والنهي، وعبادة الله وحده وطاعة رسوله، فمن طلب رفع إنيته بهذا الاعتبار، لم يكن محمودًا على هذا ولكن قد يكون معذورًا.
وأما النوع الثالث وهو الفناء عن عبادة السوى: فهذا حال النبيين وأتباعهم، وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له، وهو الحنيفية ملة إبراهيم.
ويدخل في هذا: أن يفنى عن اتباع هواه بطاعة الله، فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
ج/ 2 ص -315-ومن قال:
فارفع بحقك إنيي من البين
بمعنى أن يرفع هو نفسه فلا يتبع هواه، ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته، بل يكون عمله لله لا لهواه، وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته، كما قال تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة: 5] فهذا حق محمود.
وهذا كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقلت: خدايي كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك فيكون عملك لله واستعانتك بالله، كما قال تعالى: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه" [هود: 123]
والقول المحكي عن ابن عربي:
وبي حلفت وإن المقسم الله
هو أيضا من إلحادهم وإفكهم جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله، فهو الحالف والمحلوف به، كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه، فهو المرسِل والمرسَل إليه والرسول. وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك:
لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
ج/ 2 ص -316- وما كان بي صلى سواي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادى أجابت من دعاني ولبت
إلى رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي على استدلت
وأما المنقول عن عيسى ابن مريم صلوات الله عليه فهو كذب عليه، وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح، وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني، فإنه لا يوافق قول النصارى، فإن قوله: إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم، وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة، فهذا الكلام مع ما فيه من الكفر والإلحاد متناقض، وذلك أن الله سبحانه يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله ﷺ وهو عبد مخلوق لله قال لأصحابه: "إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من بين يدي". فإذا كان المخلوق قد يرى ما خلفه وهو أبلغ من رؤية نفسه فالخالق تعالى كيف لا يرى نفسه؟ وأيضا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم، يقتضي أنه لم يكن في الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم.
ج/ 2 ص -317-ثم ذلك الشوق إن كان قديما، كان ينبغي أن يفعل ذلك في الأزل، وإن كان محدثا فلابد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال: الشوق أيضا صفة نقص، ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى، وقد روى: "طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق" وهو حديث ضعيف.
وقوله: "فخلق من نوره آدم وجعله كالمرآة، وأنا ذلك النور وآدم هو المرآة" يقتضي أن يكون آدم مخلوقا من المسيح، وهذا نقيض الواقع، فإن آدم خلق قبل المسيح، والمسيح خلق من مريم، ومريم من ذرية آدم فكيف يكون آدم مخلوقاً من ذريته؟.
وإن قيل: المسيح هو نور الله فهذا القول وإن كان من جنس قول النصارى فهو شر من قول النصارى، فإن النصارى يقولون: إن المسيح؛ هو الناسوت، واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر الابن. وهم يقولون: اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن المسيح، لا يقولون: إن آدم خلق من المسيح، إذ المسيح عندهم اسم اللاهوت والناسوت جميعا، وذلك يمتنع أن يخلق منه آدم، وأيضا فهم لا يقولون: إن آدم خلق من لاهوت المسيح.
وأيضا، فقول القائل: إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح: إن أراد به نوره الذي هو صفة لله، فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه، إذ يمتنع أن يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه، فمعلوم أن المسيح لم يكن شيئا موجودا منفصلا قبل خلق آدم، فامتنع على كل تقدير أن يكون آدم مخلوقا من نور الله الذي هو المسيح.
ج/ 2 ص -318-وأيضا فإذا كان آدم كالمرآة، وهو ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته، لا أن آدم هو ذاته، ولا مثال ذاته، ولا كذاته.
وحينئذ، فإن كان المراد بذلك أن آدم يعرف الله تعالى، فيرى مثال ذاته العلمي في آدم، فالرب تعالى يعرف نفسه، فكان المثال العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدم نفسه مثال لله، فلا يكون آدم هو المرآة، بل يكون هو كالمثال الذي في المرآة.
وأيضا، فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور، هو قول النصارى الذين يخصونه بأنه الله أو ابن الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد، حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح.
وأما قول ابن الفارض:
وشاهدْ إذا استجليت ذاتك من ترى بغير مراء في المرآة الصقيلة
أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر إليك بها عند انعكاس الأشعة؟
فهذا تمثيل فاسد، وذلك أن الناظر في المرآة يرى مثال نفسه، فيرى نفسه بواسطة المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة، فقولهم بوحدة الوجود باطل، وبتقدير صحته ليس هذا مطابقا له.
ج/ 2 ص -319-وأيضا،فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شىء،فتخصيصهم بعد هذا آدم أو نحو المسيح يناقض قولهم بالعموم، وإنما يخص المسيح ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص، كالنصارى والغالية من الشيعة، وجهال النساك ونحوهم.
وأيضا، فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة، فالمرآة خارجة عن نفسه، فيرى نفسه أو مثال نفسه في غيره، والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى، فليس هناك مظهر مغاير للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرائي.
وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق، فإن قالوا: المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا: المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شىء في شىء، ولا تجلى شىء في شىء، ولا ظهر شىء لشىء، ولا تجلى شىء لشىء، وكان قوله:
وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى
كلاما متناقضا؛ لأن هنا مخاطِبا ومخاطَبا ومرآة تستجلى فيها الذات، فهذه ثلاثة أعيان، فإن كان الوجود واحداً بالعين بطل هذا الكلام، وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم.
ج/ 2 ص -320-فصل
وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة وأمر بغير واسطة، إلى آخره فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني، والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني، وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل، فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة، فإن اللّه كلم موسى وأمره بلا واسطة، وكذلك كلم محمداً ﷺ، وأمره ليلة المعراج، وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة وهي أوامر دينية شرعية.
وأما الأمر الكوني: فقول القائل: إنه بلا واسطة خطأ، بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها ببعض، وأمر التكوين ليس هو خطابا يسمعه المكون المخلوق، فإن هذا ممتنع؛ ولهذا قيل: إن كان هذا خطابا له بعد وجوده لم يكن قد كون بكن؛ بل كان قد كون قبل الخطاب، وإن كان خطابا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع. وقد قيل في جواب هذا: إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم، وإن كان معدوما في العين.
وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب.
ج/ 2 ص -321-وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا فكان قوله: لا تقرب ظاهراً، وكان أمره [بكل] باطنا.
فيقال: إن أريد بكونه قال: [كل] باطنا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع ودين، فهذا كذب وكفر. وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه، فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وإن قيل: إن آدم شهد الأمر الكوني القدري وكان مطيعاً لله بامتثاله له، كما يقول هؤلاء: إن العارف الشاهد للقدر يسقط عنه الملام، فهذا مع أنه معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام فهو كفر باتفاق المسلمين.
فيقال: الأمر الكوني يكون موجودًا قبل وجود المكون، لا يسمعه العبد، وليس امتثاله مقدورًا له، بل الرب هو الذي يخلق ما كونه بمشيئته وقدرته، والله تعالى ليس له شريك في الخلق والتكوين.والعبد وإن كان فاعلاً بمشيئته وقدرته، والله خالق كل ذلك، فتكوين الله للعبد ليس هو أمرًا لعبد موجود في الخارج يمكنه الامتثال، وكذلك ما خلقه من أحواله وأعماله خلقه بمشيئته وقدرته و"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٍ"[يس: 82]، فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر
ج/ 2 ص -322-وأكل آدم من الشجرة، وغير ذلك من الحوادث، داخل تحت هذا كدخول آدم، فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم.
فقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن: [كل]مثل قوله: إنه قال للكافر: اكفر، وللفاسق: افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يوجد منه خطاب باطن، ولا ظاهر للكفار والفساق، والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعا بمشيئته، وقدرته وخلقه وأمره الكوني، فالأمر الكوني ليس هو أمراً للعبد أن يفعل ذلك الأمر، بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد، أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال.فهو سبحانه الذي خلق الإنسان هلوعا"إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا" [المعارج: 20، 21]، وهو الذي جعل المسلمين مسلمين، كما قال الخليل: "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ" [البقرة: 128] فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها، وأمره لهم بذلك أمر تكوين، بمعنى أنه قال لهم: كونوا كذلك فيكونون كذلك، كما قال للجماد: كن فيكون.
فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان، وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته، لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله، كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن، بخلاف ما أمره في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنا
ج/ 2 ص -323-وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنا وظاهراً، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع أعماله باطنا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله: كن باطنا وظاهرًا.
وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر، بل القدر يؤمن به ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين، متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم ألا يلام أحد، ولا يعاقب ولا يقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته ألا ينتصر من الظالم، ولا يغضب عليه، ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة، لا يمكن أحد أن يفعله، فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.
ولو كان القدر حجة وعذرًا، لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزاً، ولا إقامة الحدود جائزاً، ولا قطع السارق، ولا جلد الزاني ولا رجمه، ولا قتل القاتل ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه.
ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلا في فطر الخلق وعقولهم، لم تذهب إليه أمة من الأمم، ولا هو مذهب أحد من العقلاء، الذين يطردون قولهم، فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد، لا في دنياه ولا آخرته، ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة، إن لم يكن أحدهما ملتزما مع الآخر نوعاً من الشرع، فالشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده.
ج/ 2 ص -324-لكن الشرائع تتنوع: فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل، وتارة لا تكون كذلك، ثم المنزلة: تارة تبدل وتغير كما غير أهل الكتاب شرائعهم وتارة لا تغير ولا تبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها وتارة لا يدخل.وأما القدر،فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه، فإذا فعل فعلا محرما بمجرد هواه وذوقه ووجده، من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته استند إلى القدر، كما قال المشركون: "لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ" [الأنعام: 148]، قال الله تعالى: "كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ . قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" [الأنعام: 148، 149]. فبين أنهم ليس عندهم علم بما كانوا عليه من الدين، وإنما يتبعون الظن.
والقوم لم يكونوا ممن يسوغ لكل أحد الاحتجاج بالقدر، فإنه لو خرب أحد الكعبة، أو شتم إبراهيم الخليل، أو طعن في دينهم لعادوه وآذوه، كيف وقد عادوا النبي ﷺ على ما جاء به من الدين، وما فعله هو أيضا من المقدور.
فلو كان الاحتجاج بالقدر حجة لكان للنبي ﷺ وأصحابه. فإن كان كل ما يحدث في الوجود فهو مقدر، فالمحق والمبطل يشتركان في الاحتجاج بالقدر، إن كان الاحتجاج به صحيحاً، ولكن كانوا يعتمدون
ج/ 2 ص -325-على ما يعتقدونه من جنس دينهم وهم في ذلك يتبعون الظن ليس لهم به علم بل هم يخرصون.
وموسى لما قال لآدم: "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟" فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى: "لم تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين عاماً ؟ فحج آدم موسى"،لم يكن آدم عليه السلام محتجا على فعل ما نهى عنه بالقدر، ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله، بل آحاد المؤمنين لا يفعلون مثل هذا، فكيف آدم وموسى؟
وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى، وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه، فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى التوبة، ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك، ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره، وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق، ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها، كيف وقد قال موسى: "رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي"[القصص: 16]، وقال: "أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ" [الأعراف: 155]، وهذا باب واسع.
وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقتهم بآدم من أكل الشجرة؛ ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر،
ج/ 2 ص -326-فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه، فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر، لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب.والعبد مأمور أن يصبر على المقدور، ويطيع المأمور، وإذا أذنب استغفر، كما قال تعالى: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ"[غافر: 55]، وقال تعالى: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [التغابن: 11]. قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر.
فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عَظُمَ جَزَعُه وقَلَّ صَبْرُه، فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له، وإذا أذنب ذنباً أخذ يحتج بالقدر، فلا يفعل المأمور، ولا يترك المحظور، ولا يصبر على المقدور، ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين، وأئمة المحققين الموحدين، وإنما هو من أعداء الله الملحدين، وحزب الشيطان اللعين.
وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان، تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر، وأعظمهم ظلما وعدوانا، وأذل الناس إذا قهر، وأعظمهم جزعا ووهنا، كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب،والمقاتلة من أصناف الناس.
ج/ 2 ص -327-والمؤمن إن قدر عدل وأحسن،وإن قهر وغلب صبر واحتسب،كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي ﷺ التي أولها: بانت سعاد...إلخ في صفة المؤمنين:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي ﷺ فقال: رأيته يغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر.
وقد قال تعالى: "أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 90]، وقال تعالى: "وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا" [آل عمران: 120]، وقال تعالى: "بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ" [آل عمران: 125]، وقال تعالى: "وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ" [آل عمران: 168]،فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة، فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور.
فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير، بخلاف من عكس فلا يتقى الله بل يترك طاعته متبعا لهواه ويحتج بالقدر،ولا يصبر إذا ابتلى ولا ينظر حينئذ إلى القدر، فإن هذا حال الأشقياء، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
ج/ 2 ص -328-يقول: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقا لطاعتك، فتنسى نعمة الله عليك أن جعلك مطيعا له، وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب،بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده،أو المحرك الذي لا إرادة له ولا قدرة ولا علم، وكلاهما خطأ.
وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل العبد حسنة فقال: أي رب، أنا فعلت هذه الحسنة، قال له ربه: أنا يسرتك لها وأنا أعنتك عليها. فإن قال: أي رب، أنت أعنتني عليها ويسرتني لها، قال له ربه: أنت عملتها وأجرها لك، وإذا فعل سيئة فقال: أي رب، أنت قدرت على هذه السيئة. قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها،فإن قال: أي رب،إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه، قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك. وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع.
وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط، من غير شهود الأمر والنهي، والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور، وهذا أعظم الضلال
ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه، كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين، لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله
وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكل باطنا فأكل، وإبليس كان توحيده ظاهراً فأمر بالسجود لآدم فرآه غيراً فلم يسجد
ج/ 2 ص -329-فغير الله عليه وقال: "اخْرُجْ مِنْهَا"الآية [الأعراف: 18]، فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس فإن آدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة،وأنه هو الظالم لنفسه وتاب من ذلك، ولم يقل: إن الله ظلمني، ولا إن الله أمرني في الباطن بالأكل،قال تعالى: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [البقرة: 37]،وقال تعالى: "قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الأعراف: 23]، وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال: "قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ"[الحجر: 39].
وأما قوله: [رآه غيراً فلم يسجد]، فهذا شر من الاحتجاج بالقدر، فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين، وهو كذب على إبليس، فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيراً بل قال: "أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" [الأعراف: 12]، ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيراً، بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة، والله تعالى: "ّوَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ .قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ"[البقرة: 31، 32]
وكانت الملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم، وهم مغايرون له، ولهذا دعوه دعاء العبد ربه، فآدم يقول: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا"[الأعراف: 23]، والملائكة تقول: "لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا"[البقرة: 32]، وتقول: "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ"الآية [غافر: 7]، وقد قال تعالى: "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ" [الزمر: 64]، وقال تعالى: "أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ" [الأنعام: 14]،
ج/ 2 ص -330-وقال: "أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً" [الأنعام: 114]
فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروه بعبادة غير الله، ولا اتخاذ غير الله ولياً ولا حكماً، فلم يكونوا يستحقون الإنكار، فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غيرٍ يمكن عبادته واتخاذه ولياً وحكماً، وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى: "فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ" [الشعراء: 213]، وقال: "لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً" [الإسراء: 22]،وأمثال ذلك.
وأما قول القائل: إن قوله: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ"[آل عمران: 128] عين الإثبات للنبي صلى الله عيله وسلم كقوله: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى" [الأنفال: 17]، "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" [الفتح: 10] فهذا بناء على قول أهل الوحدة والاتحاد، وجعل معنى قوله: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ" أن فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة، وهذا ضلال عظيم من وجوه:
أحدها: أن قوله: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ" نزل في سياق قوله: "لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" [آل عمران: 127، 128]./
ج/ 2 ص -331-وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت، فلما أنزل الله هذه الآية ترك ذلك، فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر، وأنه ليس لغيره أمر، بل إن شاء الله تعالى قطع طرفاً من الكفار، وإن شاء كَبَتَهُم فانقلبوا بالخسارة، وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم.
وهذا كما قال في الآية الأخرى: "قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ" [الأعراف: 188]، ونحو ذلك قوله تعالى: " يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا" "قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لله" [آل عمران: 154].
الوجه الثاني: أن قوله: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى" [الأنفال: 17] لم يرد به أن فِعلَ العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من الغالطين فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد، حتى يقال للماشي: ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى، ويقال للراكب: وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، ويقال للمتكلم: ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم، ويقال مثل ذلك للآكل والشارب، والصائم والمصلي ونحو ذلك.
وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكفار: ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر، ويقال للكاذب: ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب.
ومن قال مثل هذا فهو كافر ملحد، خارج عن العقل والدين.
ج/ 2 ص -332-ولكن معنى الآية أن النبي ﷺ يوم بدر رماهم، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذ رماهم بالتراب وقال: "شاهت الوجوه" لم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم كلهم بقدرته. يقول: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل، فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه، فإن هذا مستلزم للجمع بين النقيضين، بل نفى عنه الإيصال والتبليغ، وأثبت له الحذف والإلقاء، وكذلك إذا رمى سهما فأوصله الله إلى العدو إيصالا خارقاً للعادة، كان الله هو الذي أوصله بقدرته.
الوجه الثالث: أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية: أن الله خالق أفعال العباد فهذا المعنى حق، وقد قال الخليل: "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ" [البقرة: 128]، فالله هو الذي جعل المسلم مسلما، وقال تعالى: "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا" [المعارج: 19، 21]، فالله هو الذي خلقه هلوعا، لكن ليس في هذا أن الله هو العبد، ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق، ولا أن الله حال في العبد.
فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق، والقول بأن الخالق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل.
وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد، وهذا عين الضلال والإلحاد.
ج/ 2 ص -333-الوجه الرابع: أن قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ" [الفتح: 10] لم يرد به: أنك أنت الله، وإنما أراد: أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه، فمن بايعك فقد بايع الله، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله، ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله، ولكن الرسول أمر بما أمر الله به.
فمن أطاعه فقد أطاع الله، كما قال النبي ﷺ: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني" ومعلوم أن أميره ليس هو إياه.
ومن ظن في قوله: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ" أن المراد به: أن فعلك هو فعل الله، أو المراد: أن الله حال فيك ونحو ذلك، فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره.
وذلك أنه لو كان المراد به: كون الله فاعلا لفعلك، لكان هذا قدراً مشتركا بينه وبين سائر الخلق، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله، ومن بايع مسيلمة الكذاب فقد بايع الله، ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضا، فيكون الله قد بايع الله، إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد، فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله.
وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية، حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو يقول: أقاتل الله ؟ ما أقدر أن أقاتل الله، ونحو هذا
ج/ 2 ص -334-الكلام الذي سمعناه من شيوخهم، وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة.
وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء، بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضا، فإن الله سبحانه قال له: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ" [آل عمران: 128]، وقال: "وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ"[الجن: 19]، وقال: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً" [الإسراء: 1]، وقال: "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا" [البقرة: 23]، وقال: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [الفتح: 18، 19].
فقوله: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" بيَّن قوله: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ"؛ ولهذا قال: "يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ"[الفتح: 10]. ومعلوم أن يد النبي ﷺ كانت مع أيديهم، كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة، فعلم أن يد الله فوق أيديهم ليست هي يد النبي ﷺ، ولكن الرسول عبد الله ورسوله، فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله، فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم.
ألا ترى أن كل من وكل شخصا يعقد مع الوكيل، كان ذلك عقداً مع الموكل ؟ ومن وكل نائبا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه، كانوا معاهدين لمستنيبه؟ ومن وكل رجلا في إنكاح أو تزويج، كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد؟ وقد قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ"الآية [التوبة: 111]،
ج/ 2 ص -335-ولهذا قال في تمام الآية: "وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"[الفتح: 10].
فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح، وأن الله إذا كان قد قال لنبيه: "لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ" فإيش نكون نحن؟ وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"
وأما قول القائل:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني ما بينكم وبيننا من بين
فهذا قول مبنى على قول هؤلاء، وهو باطل متناقض، فإن مبناه على أنه يرى الله بعينه، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت"
وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي ﷺ خاصة، مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله علسه وسلم، والصحابة وأئمة المسلمين.
ولم يثبت عن ابن عباس، ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما، أنهم قالوا: إن محمداً رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد،
ج/ 2 ص -336-وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه، وقوله: "أتاني البارحة ربي في أحسن صورة" الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، إنما كان بالمدينة في المنام، هكذا جاء مفسراً.
وكذلك حديث أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث، والمعراج كان بمكة كما قال تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى" [الإسراء: 1]، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له: "لن رآني" [الأعراف: 143]، وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء، كما قال تعالى: "يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً" [النساء: 153]، فمن قال: إن أحدًا من الناس يراه، فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران،ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتاباً من السماء.
والناس في رؤية الله على ثلاثةأقوال:
فالصحابة والتابعونَ وأئمة المسلمين على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار عيانًا، وأن أحداً لا يراه في الدنيا بعينه، لكن يرى في المنام ويحصل للقلوب من المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها.
ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه، حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه،
ج/ 2 ص -337-وهو غالط، ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد، ومعرفته في صورة مثالية، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والقول الثاني: قول نفاة الجهمية: أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.
والثالث: قول من يزعم أنه يرى في الدنيا والآخرة.
وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات، فيقولون: إنه لا يري في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه يرى في الدنيا والآخرة، وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى، وهو وجود الحق عندهم.
ثم من أثبت الذات قال: يرى متجلياً فيها، ومن فرق بين المطلق والمعين قال: لا يرى إلا مقيداً بصورة.
وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله، وإثبات رؤية المخلوقات، ويجعلون المخلوق هو الخالق، أو يجعلون الخالق حالا في المخلوق، وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول: بأن المعدوم شيء في الخارج، وهو قول باطل، وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق.
وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقاً فيقتضي أن يكون الرب معدوما، وهذا هو جحود الرب وتعطيله،/
ج/ 2 ص -338-وإن جعلوه ثابتا في الخارج جعلوه جزءا من الموجودات،فيكون الخالق جزءا من المخلوق أو عرضا قائما بالمخلوق، وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وأما تناقضه فقوله:
ما غبت عن القلب ولا عن عيني ما بينكم وبيننا من بين
يقتضى المغايرة، وأن المخاطَب غير المخاطِب، وأن المخاطَب له عين وقلب لا يغيب عنهما المخاطب، بل يشهده القلب والعين، و الشاهد غير المشهود.
وقوله:
ما بينكم وبيننا من بين
فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب، وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا: هذه مظاهر ومجالٍ، قيل: فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر والمتجلي، فقد ثبتت التثنية وبطلت الوحدة، وإن كان هو إياها فقد بطل التعدد، فالجمع بينهما تناقض.
وقول القائل:
فارق ظلم الطبع وكن متحدا بالله وإلا فكل دعواك محال
إن أراد الاتحاد المطلق، فالمفارق هو المفارق، وهو الطبع وظلم الطبع، وهو المخاطب بقوله: وكن متحداً بالله وهو المخاطب بقوله: كل دعواك محال وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى.
ج/ 2 ص -339-وإن أراد الاتحاد المقيد، فهو ممتنع، لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد.
وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد، ونحو ذلك مما يثبته النصارى بقولهم في الاتحاد لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته، كسائر ما يتحد مع غيره، فإنه لابد أن يستحيل.
وهذا ممتنع على الله تعالى ينزه عنه؛ لأن الاستحالة تقتضى عدم ما كان موجوداً، والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له، يمتنع العدم على شيء من ذلك؛ ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال، فعدم شيء منها نقص يتعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب، وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق، فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل.
والرب تعالى يلازمه القدم والغنى والعزة، وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه، يستحيل عليه نقيض ذلك، فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضى أن يكون الرب متصفا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفاً بنقيض صفاته من القدم، والغنى الذاتي، والعز الذاتي، وكل ذلك ممتنع، وبسط هذا يطول.
ج/ 2 ص -340-ولهذا سئل الجنيد عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أنه لابد من تمييز المحدث عن القديم.
ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل الرب رب، والعبد عبد: "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا"[مريم: 93: 95]
وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي وهو أن يحب العبد ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويرضى بما يرضى الله،ويغضب لما يغضب الله،ويأمر بما يأمر الله به،،وينهى عما ينهى الله عنه،ويوالي من يواليه الله،ويعادي من يعاديه الله، ويحب لله ويبغض لله، ويعطي لله ويمنع لله، بحيث يكون موافقا لربه تعالى فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله،كما في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء
ج/ 2 ص -341-أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه".
وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة:
منها: أنه قال: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه، وهؤلاء ثلاثة، ثم قال: "وما تقرب إلىّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه" فأثبت عبداً يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل، وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه، فإذا أحبه كان العبد يسمع به، ويبصر به، ويبطش به، ويمشي به.
وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل، وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات فهو بطنه وفخذه، لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة في الحديث، فالحديث مخصوص بحال مقيد، وهم يقولون بالإطلاق والتعميم، فأين هذا من هذا؟
وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح: "إن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه. ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا" فيجعلون هذا حجة لقولهم: إنه يرى في الدنيا في كل صورة بل هو كل صورة.
ج/ 2 ص -342-وهذا الحديث حجة عليهم في هذا أيضا، فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة المنكرون الذين قالوا: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا.
وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن العارف يعرفه في كل صورة، فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم. وهذا جهل منهم، فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون، وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه، فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه؛ فلهذا قال في الحديث: "وهو يسألهم ويثبتهم وقد نادى المنادي: ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون"
ثم يقال لهؤلاء الملاحدة: إذا كان عندكم هو الظاهر في كل صورة، فهو المنكر وهو المنكر، كما قال بعض هؤلاء لآخر: من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب؟
وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة وقد جاءه الغائط فقال: ما أبصر غيره أبول عليه؟ فقال له شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو؟ قال: فرجت عني.
ومر شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت، فقال الشيرازي للتلمساني: هذا أيضا من ذاته؟ فقال التلمساني: هل ثم شيء خارج عنها؟
ج/ 2 ص -343-وكان التلمساني قد أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له: أبو يعقوب المغربي المبتلى، حتى كان يقول: الوجود واحد، وهو الله ولا أرى الواحد، ولا أرى الله، ويقول: نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه، ويجعل هذا الكلام له تسبيحا، يتلوه كما يتلو التسبيح
وأما قول الشاعر:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
فشاهد حقا حين يشهده الهوى أن صلاة العارفين من الكفر
فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب: هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة، حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان.
وأما النوع الثالث من الفناء وهو الفناء عن وجود السوي بحيث يرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة.
ج/ 2 ص -344-والمقصود هنا أن قوله: يغيب عن المذكور، كلام جاهل، فإن هذا لا يحمد أصلا، بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر، لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر، اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور فشهد المخلوق، وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحدًا، ونحو ذلك من المشاهد الفاسدة، فهذا شهود أهل الإلحاد لا شهود الموحدين، ولعمري إن من شهد هذا الشهود الإلحادي فإنه يرى صلاة العارفين من الكفر.
وأما قول القائل:
الكون يناديك أما تسمعني من ألف أشتاتي ومن فرقني
انظر لتراني منظرًا معتبرًا ما فيَّ سوى وجود من أوجدني
فهو من أقوال هؤلاء الملاحدة، وأقوالهم كفر متناقض باطل في العقل والدين، فإنه إذا لم يكن فيه إلا وجود من أوجده، كان ذلك الوجود هو الكون المنادي، وهو المخاطب المنادي، وهو الأشتات المؤلفة المفرقة، وهو المخاطب الذي قيل له: انظر.
وحينئذ يكون الوجود الواجب القديم الأزلي، قد أوجد نفسه وفرقها وألفها. فهذا جمع بين النقيضين، فإن الواجب بنفسه لا يكون مفعولا مصنوعا، والشيء الواحد لا يكون خالقا مخلوقا، قديما محدثا، واجبا بنفسه واجبا بغيره، فإن هذا جمع بين النقيضين.
ج/ 2 ص -345-فالواجب هو الذي لا تقبل ذاته العدم، والممكن هو الذي تقبل ذاته العدم، فيمتنع أن يكون الشيء الواحد قابلا للعدم غير قابل للعدم، والقديم هو الذي لا أول لوجوده، والمحدث هو الذي له أول، فيمتنع كون الشيء الواحد قديما محدثا.
ولولا أنه قد علم مرادهم بهذا القول، لأمكن أن يراد بذلك ما في سوى الوجود الذي خلقه من أوجدني، وتكون إضافة الوجود إلى الله إضافة الملك، لكن قد علم أنه لم يرد هذا؛ ولأن هذه العبارة لا تستعمل في هذا المعنى، وإنما يراد بوجود الله وجود ذاته لا وجود مخلوقاته، وهكذا قول القائل:
ذات وجود ال كون للخلق شهود
أن ليس لموجو د سوى الحق وجود
مراده به أن وجود الكون هو نفس وجود الحق، وهذا هو قول أهل الوحدة، وإلا فلو أراد أن وجود كل موجود من المخلوقات هو من الحق تعالى فليس لشيء وجود من نفسه، وإنما وجوده من ربه، والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم، وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها، فهي دائمة الافتقار إليه لا تستغني عنه لحظة، لا في الدنيا ولا في الآخرة لكان قد أراد معنى صحيحا وهو الذي عليه أهل العقل والدين، من الأولىن والأخرىن.
وهؤلاء القائلون بالوحدة قولهم متناقض؛ ولهذا يقولون: الشيء
ج/ 2 ص -346-ونقيضه، وإلا فقوله: منه وإلا علاه يبدي ويعيد، يناقض الوحدة، فمن هو البادي والعائد منه وإليه إذا لم يكن إلا واحدًا. وقوله:
وما أنا في طراز الكون شيء لأني مثل ظل مستحيل
يناقض الوحدة؛ لأن الظل مغاير لصاحب الظل، فإذا شبه المخلوق بالظل لزم إثبات اثنين، كما إذا شبهه بالشعاع، فإن شعاع الشمس ليس هو نفس قرص الشمس، وكذلك إذا شبهه بضوء السراج وغيره.
والنصارى تشبه الحلول والاتحاد بهذا.
وقلت لمن حضرني منهم وتكلم بشيء من هذا: فإذا كنتم تشبهون المخلوق بالشعاع الذي للشمس والنار، والخالق بالنار والشمس، فلا فرق في هذا بين المسيح وغيره، فإن كل ما سوى الله على هذا هو بمنزلة الشعاع والضوء، فما الفرق بين المسيح وبين إبراهيم وموسى؟ بل ما الفرق بينه وبين سائر المخلوقات على هذا ؟
وجعلت أردد عليه هذا الكلام، وكان في المجلس جماعة حتى فهمه فهما جيدًا، وتبين له وللحاضرين أن قولهم باطل لا حقيقة له، وأن ما أثبتوه للمسيح إما ممتنع في حق كل أحد وإما مشترك بين المسيح وغيره، وعلى التقديرين فتخصيص المسيح بذلك باطل.
وذكرت له: أنه ما من آية جاء بها المسيح إلا وقد جاء موسى بأعظم
ج/ 2 ص -347-منها، فإن المسيح عليه السلام وإن كان جاء بإحياء الموتى فالموتى الذين أحياهم الله على يد موسى أكثر، كالذين قالوا: "لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ" ثم بعثهم الله بعد موتهم. كما قال: "ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ"[البقرة: 55، 65]، وكالذي ضرب ببعض البقرة، وغير ذلك.
وقد جاء بإحياء الموتى غير واحد من الأنبياء والنصارى يصدقون بذلك.
وأما جعل العصا حَيّة، فهذا أعظم من إحياء الميت، فإن الميت كانت فيه حياة فردت الحياة إلى محل كانت فيه الحياة، وأما جعل خشبة يابسة حيوانا تبتلع العِصِيّ والحبال، فهذا أبلغ في القدرة، وأنذر، فإن الله يحيي الموتي، ولا يجعل الخشب حيات.
وأما إنزال المائدة من السماء، فقد كان ينزل على قوم موسى كل يوم من المن والسلوى، وينبع لهم من الحجر من الماء ما هو أعظم من ذلك، فإن الحلوى أو اللحم دائما هو أجل في نوعه وأعظم في قدره مما كان على المائدة، من الزيتون والسمك وغيرهما.
وذكرت له نحوا من ذلك، مما يبين أن تخصيص المسيح بالاتحاد ودعوى الإلهية ليس له وجه، وأن سائر ما يذكر فيه إما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من المخلوقات، وإما أن يكون مشتركا بينه وبين غيره من الأنبياء والرسل، مع أن بعض الرسل كإبراهيم وموسى، قد يكون أكمل في ذلك منه، وأما
ج/ 2 ص -348-خلقه من امرأة بلا رجل، فخلق حواء من رجل بلا امرأة أعجب من ذلك، فإنه خلق من بطن امرأة، وهذا معتاد، بخلاف الخلق من ضلع رجل، فإن هذا ليس بمعتاد.
فما من أمر يذكر في المسيح عليه السلام إلا وقد شركه فيه أو فيما هو أعظم منه غيره من بني آدم، فعلم قطعا أن تخصيص المسيح باطل، وأن ما يدعونه له إن كان ممكنا فلا اختصاص له به، وإن كان ممتنعا فلا وجود له فيه ولا في غيره.
ولهذا قال هؤلاء الاتحادية: إن النصارى إنما كفروا بالتخصيص، وهذا أيضا باطل، فإن في الاتحاد عمومًا وخصوصا.
والمقصود هنا: أن تشبيه الاتحادية أحدهم بالظل المستحيل يناقض قولهم بالوحدة، وكذلك قول الآخر:
أحن إليه وهو قلبي وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه؟
ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري وما بعده إلا لإفراط قربه
هو مع ما قصده به من الكفر والاتحاد كلام متناقض، فإن حنين الشيء إلى ذاته متناقض؛ ولهذا قال: وهل يرى سواي أخو وجد يحن لقلبه؟
وقوله: وما بعده إلا لإفراط قربه. متناقض، فإنه لا قرب ولا بعد عند
ج/ 2 ص -349-أهل الوحدة، فإنها تقتضي اثنين يقرب أحدهما من الآخر، والواحد لا يقرب من ذاته ولا يبعد من ذاته.
وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه، فهذا أيضًا من قول أهل الوحدة، وهو مع كفره قول متناقض؛ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد، وأن أقوال المشركين الذين قالوا: "لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" [نوح: 23]، والذين قالوا: "مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى"[الزمر: 3]، والذين قالوا: "وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ" [هود: 53، 54]، والذين قالوا: "حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ" [الأنبياء: 68]، ونحو هؤلاء ليس هذا هو لسان التوحيد.
وأما تناقض هذا القول على أصلهم، فإن الوجود إن كان واحدًا كان إثبات التعدد تناقضا، فإذا قال القائل: الوجود واحد، وقال الآخر: ليس بواحد، بل متعدد، كان هذان القولان متناقضين، فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر.
وإذا قال قائل: الألسنة كلها لسانه، فقد صرح، بالتعدد، في قوله: الألسنة كلها، وذلك يقتضي ألا يكون هذا اللسان هو هذا اللسان، فثبت التعدد وبطلت الوحدة.
ج/ 2 ص -350-وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم فإنه ينقض أصلهم، فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد.
فإن قالوا: الوجود واحد، بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود فهذا صحيح، لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا عين وجود هذا، بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي، كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسمها المنطقيون إلى جنس، ونوع، وفصل، وخاصة، وعرض عام.
فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان، وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر. وهذا مما يعلم به أن وجود الحق مباين لوجود المخلوقات، فإنه أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود، فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا لوجود الذرة والبعوضة، فوجود الحق تعالى أعظم مباينة لوجود كل مخلوق من مباينة وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر.
وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال: لا يعرف التوحيد إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن التوحيد، وذلك أنه لا يعبر عنه إلا بغير، ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له.
فإن هذا الكلام مع كفره متناقض، فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا واحد يقتضي أن هناك واحدًا يعرفه وأن غيره لا يعرفه، هذا تفريق بين من يعرفه ومن لا يعرفه، وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه،
ج/ 2 ص -351-وإثبات للمغايرة بين من يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا: ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له يناقض هذا.
وقوله : إنه لا تصح العبارة عن التوحيد كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر عن توحيده، ورسوله عبر عن توحيده، والقرآن مملوء من ذكر التوحيد، بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد
وقد قال تعالى: "وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" [الزخرف: 45]، وقال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 25]، ولو لم يكن يصح عنه عبارة لما نطق به أحد.
وأفضل ما نطق به الناطقون هو التوحيد، كما قال النبي ﷺ : "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"، وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة"
لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة الوجود أمر ممتنع في نفسه، لا يتصور تحققه في الخارج، فإن الوحدة العينية الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين، ولكن الوجود واحد في نوع الوجود، بمعنى: أن اسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد، كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما يتناول كل جسم وكل إنسان، وهذا الجسم ليس هو ذاك، وهذا الإنسان ليس هو ذاك، وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك.
ج/ 2 ص -352-وقوله: لا يعبر عنه إلا بغير، يقال له: أولا: التعبير عن التوحيد يكون بالكلام، والله يعبر عن توحيده بكلامه، فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته، لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله، ولا يطلق عليه بأنه غير الله؛ لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره، وصفات الله لا تباينه، ويراد به ما لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه، ففي أحد الاصطلاحين يقال: إنه غيره، وفي الاصطلاح الآخر لا يقال: إنه غير.
فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونًا ببيان المراد؛ لئلا يقول المبتدع: إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق، فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به، بل مخلوقة في غيره، فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد، وهو قول الجهمية الذين كفرهم السلف والأئمة تكفيرا مطلقًا، وإن كان الواحد المعين لا يكفر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها.
وأيضا، فيقال لهؤلاء الملاحدة: إن لم يكن في الوجود غيره بوجه من الوجوه لزم أن يكون كلام الخلق، وأكلهم وشربهم، ونكاحهم وزناهم، وكفرهم وشركهم وكل ما يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله.
ومعلوم أن من جعل هذا صفة لله كان من أعظم الناس كفرًا وضلالا، فمن قال: إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل، فإن الصفات والأعراض لا تكون عين الموجود القائم بنفسه، وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن عربي يقول:
ج/ 2 ص -353-وكل كلام في الوجود كلامه سواء علىنا نثره ونظامه
فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلامًا لله، وأما هذا الملحد فزاد على هؤلاء، فجعل كلام الخلق وعبادتهم نفس وجوده، لم يجعل ذلك كلامًا له، بل نفى أن يكون هذا كلامًا له لئلا يثبت غيرًا له.
وقد علم بالكتاب والسنة والإجماع، وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله تعالى، وأن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى، ليس هو الله ولا صفة من صفات الله.
ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح الإنكار قال تعالى: "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ"[الزمر: 64]، وقال تعالى: "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ"[الأنعام: 14]، وقال تعالى : "هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ" [فاطر: 3]، وقال تعالى: "أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا" [الأنعام: 114].
وكذلك قول القائل: وجدت المحبة غير المقصود؛ لأنها لا تكون إلا من غير لغير، وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود؛ لأن التوحيد ما يكون إلا من عبد لرب، ولو أنصف الناس ما رأوا عبدا ولا معبودًا هو كلام فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يخفى.
ج/ 2 ص -354-فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين، ومحبتهم له، كقوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" [البقرة: 165]، وقوله: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" [المائدة: 54]، وقوله: "أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ" [التوبة: 24]، وقوله: "إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [التوبة: 4]، "يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [البقرة: 195]، "يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" [البقرة: 222]، "يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [المائدة: 24].
وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "ثلاث مَنْ كُنَّ فيه وجد بِهِنَّ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار".
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام.
وأول من أظهر ذلك في الإسلام الْجَعْد بن درْهم، فَضَحَّى به خالد بن عبد الله القَسْرِى يوم الأضحى بواسط، وقال: أيها الناس، ضَحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ! ثم نزل فذبحه.
وقوله : المحبة ما تكون إلا من غير لغير، وغير ما ثم كلام باطل من كل وجه، فإن قوله : لا تكون إلا من غير، ليس بصحيح، فإن الإنسان يحب نفسه وليس غيرًا لنفسه، والله يحب نفسه، وقوله: ما ثم غير، باطل؛ فإن المخلوق
ج/ 2 ص -355-غير الخالق، والمؤمنون غير الله وهم يحبونه، فالدعوى باطلة، فكل واحدة من مقدمتي الحجة باطلة قوله: لا تكون إلا من غير لغير وقوله: غير ما ثم فإن الغير موجود، والمحبة تكون من المحب لنفسه ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في هذا القول ويقول كما قال ابن الفارض.
وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، ولو أنصف الناس ما رأوا عابدًا ولا معبودًا كلا المقدمتين باطل، فإن التوحيد يكون من الله لنفسه، فإنه يوحد نفسه بنفسه كما قال تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ" [آل عمران: 18]، والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه، فقد وحد نفسه بنفسه، كقوله: "وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة: 163] وقوله: "وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ" [النحل : 51]، وقوله: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُِ" [محمد: 19] وأمثال ذلك.
وأما المقدمة الثانية: فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدًا ولا معبودًا مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض، فإنه إذا لم يكن ثم عابد ولا معبود بل الكل واحد، فمن هم الذين لا ينصفون إن كانوا هم الله؟ فيكون الله هو الذي لا ينصف، وإن كانوا غير الله فقد ثبت الغير، ثم إذا فسروه على كفرهم وقالوا: إن الله هو الذي لا ينصف، وهو الذي يأكل، ويشرب ويكفر، كما يقول ذلك كثير منهم، مثل ما قال بعضهم لشيخه: الفقير إذا صح أكل بالله، فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله.
وقد صرح ابن عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش،
ج/ 2 ص -356-ويمرض ويبول، ويَنْكَح ويُنكِح، وأنه موصوف بكل نقص وعيب؛ لأن ذلك هو الكمال عندهم.
كما قال في الفصوص: فالعلى بنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصى به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق؟ فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد، كما أن صفات العبد من أولها إلى آخرها صفات الله تعالى.
وهذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه، فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك، الذي لا ترى عابدًا ولا معبودًا نعاملك بموجب مذهبك فتضرب وتوجع، وتهان وتُصْفَع، وإذا تَظَلَّم ممن فعل به ذلك واشتكى وصاح منه وبكى، قيل له: ما ثم غير، ولا عابد ولا معبود، فلم يفعل بك هذا غيرك، بل الضارب هو المضروب والشاتم هو المشتوم، والعابد هو المعبود. فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه، قيل له أيضا: فقل: عبد نفسه، فإذا أثبت ظالما ومظلوما وهما واحد، قيل له: فأثبت عابدًا ومعبودًا وهما واحد.
ثم يقال له: هذا الذي يضحك ويضرب، هو نفس الذي يبكي ويصيح؟ وهذا الذي شبع وروى، هو نفس هذا الذي جاع وعطش؟ فإن اعترف بأنه
ج/ 2 ص -357-غيره أثبت المغايرة، وإذا أثبت المغايرة بين هذا وهذا، فبين العابد والمعبود أولى وأحرى.
وإن قال: بل هو هو، عومل معاملة السوفسطائية، فإن هذا القول من أقبح السفسطة. فيقال: فإذا كان هو هو، فنحن نضربك ونقتلك، والشيء قتل نفسه وأهلك نفسه.
والإنسان قد يظلم نفسه بالذنوب فيقول: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا" [الأعراف: 23] لكون نفسه أمرته بالسوء، والنفس أمارة بالسوء، لكن جهة أمرها ليست جهة فعلها، بل لابد من نوع تعدد، إما في الذات وإما في الصفات، وكل أحد يعلم بالحس والاضطرار أن هذا الرجل الذي ظلم ذاك ليس هو إياه، وليس هو بمنزلة الرجل الذي ظلم نفسه. وإذا كان هذا في المخلوقين، فالخالق أعظم مباينة للمخلوقين من هذا لهذا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا وظهروا وانتشروا، وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين، وأكابر مشايخ الدين لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال.
ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق بين نوع الإنسان، فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء
ج/ 2 ص -358-والأولياء، كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولى الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين.
والمقصود هنا: رد هذه الأقوال، وبيان الهدى من الضلال.
وأما توبة من قالها وموته على الإسلام، فهذا يرجع إلى الملك العلام، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ومن الممكنات أنه قد تاب على أصحاب هذه المقالات، والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم، والكفر وإن غلظ وجسم، فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين، كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر: 53]، وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين.
وأما قوله: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" [النساء: 48] فإنها مقيدة خاصة، لأنها في حق غير التائبين، لا يغفر لهم الشرك، وما دون الشرك معلق بمشيئة الله تعالى
وأما الحكاية المذكورة عن الذي قال: إنه التقم العالم كله، وأراد أن يقول: أنا الحق وأختها التي قيل فيها: إن الإلهية لا يدعيها إلا أجهل خلق الله أو أعرف خلق الله هو من هذا الباب.
ج/ 2 ص -359-والفقير الذي قال: ما خلق الله أقل عقلا ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمروذ وأمثالهما هو الذي أصاب ونطق بالصواب، وسدد في الخطاب.
ولكن هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله، ويدعون أنهم خير من موسى وأمثاله، حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلم وحسن إسلامه رحمه الله وكان قد اجتمع بالشيرازي أحد شيوخ هؤلاء، ودعاه إلى هذا القول، وزينه له فحدثني بذلك، فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم، وأن قولهم من جنس قول فرعون، فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي إلى هذا القول قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون، فقال: نعم، ونحن على قول فرعون، وكان عبد السيد إذ ذاك لم يسلم بعد، فقال: أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولم؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون. فانقطع، فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله به موسى لا بكونه كان رسولا صادقا. قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة، أنا كنت أريد أن أبين لك أن قولهم هو قول فرعون، فإذا كان قد أقر بهذا فقد حصل المقصود.
فهذه المقالات وأمثالها من أعظم الباطل، وقد نبهنا على بعض ما به يعرف معناها وأنه باطل، والواجب إنكارها، فإن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون، لاسيما وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى وفرعون، ومن عرف
ج/ 2 ص -360-معناها واعتقدها كان من المنافقين، الذين أمر الله بجهادهم بقوله تعالى: "جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عليهمْ" [التوبة73] والنفاق إذا عظم كان صاحبه شرًا من كفار أهل الكتاب، وكان في الدرك الأسفل من النار.
وليس لهذه المقالات وجه سائغ، ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحًا فإنما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها، وهؤلاء قد عرف مقصودهم، كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة، ولهم في ذلك كتب مصنفة، وأشعار مؤلفة، وكلام يفسر بعضه بعضا.
وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلفت إليه، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها، وخيف عليه أن يحسن الظن بها أو أن يضل، فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم، وأعظم من ضرر السُّرَّاق والخونة، الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة.
فإن هؤلاء غاية ضررهم موت الإنسان أو ذهاب ماله، وهذه مصيبة في دنياه قد تكون سببا لرحمته في الآخرة، وأما هؤلاء فيسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأولىائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهم في الباطن من المحاربين لله ورسوله، ويظهرون كلام الكفار والمنافقين، في قوالب ألفاظ أولياء الله المحققين، فيدخل الرجل معهم على أن يصير مؤمنا وليا لله، فيصير منافقا عدوا لله.
ج/ 2 ص -361-ولقد ضربت لهم مرة مثلا بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم، فذهبوا بهم إلى قبرص لينصروهم، فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم: لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى، وهؤلاء كانوا يجعلوننا شرًا من النصارى، والأمر كما قاله هذا القائل
وقد رأيت وسمعت عمن ظن هؤلاء من أولياء الله، وأن كلامهم كلام العارفين المحققين من هو من أهل الخير والدين ما لا أحصيهم، فمنهم من دخل في إلحادهم وفهمه وصار منهم، ومنهم من كان يؤمن بما لا يعلم، ويعظم ما لا يفهم، ويصدق بالمجهولات.
وهؤلاء هم أصلح الطوائف الضالين، وهم بمنزلة من يعظم أعداء الله ورسوله، ولا يعلم أنهم أعداء الله ورسوله، ويوالى المشركين وأهل الكتاب، ظانا أنهم من أهل الإيمان وأولى الألباب، وقد دخل بسبب هؤلاء الجهال المعظمين لهم من الشر على المسلمين، ما لا يحصيه إلا رب العالمين.
وهذا الجواب لم يتسع لأكثر من هذا الخطاب، والله أعلم بالصواب.