ج/ 14 ص -41-قال شيخ الإسلام رَحِمهُ اللَّه:
فصل
وقد ذكرت فى مواضع ما اشتملت عليه سورة "البقرة" من تقرير أصول العلم وقواعد الدين: أن الله تعالى افتتحها بذكر كتابه الهادى للمتقين، فوصف حال أهل الهدى، ثم الكافرين، ثم المنافقين. فهذه "جمل خبرية" ثم ذكر "الجمل الطلبية" فدعا الناس إلى عبادته وحده، ثم ذكر الدلائل على ذلك من فرش الأرض وبناء السماء وإنزال الماء، وإخراج الثمار رزقا للعباد، ثم قرر "الرسالة" وذكر "الوعد، والوعيد" ثم ذكر مبدأ "النبوة والهدى" وما بثه فى العالم من الخلق والأمر، ثم ذكر تعلم آدم الأسماء، وإسجاد الملائكة له لما شرفه من العلم؛ فإن هذا تقرير لجنس ما بعث به محمد ﷺ من الهدى ودين الحق، فقص جنس دعوة الأنبياء.
ثم انتقل إلى خطاب بنى إسرائيل وقصة موسى معهم، وضمن ذلك تقرير نبوته، إذ هو قرين محمد، فذكر آدم الذى هو أول،
ج/ 14 ص -42-وموسى الذى هو نظيره، وهما اللذان احتجا، وموسى قتل نفساً فغفر له، وآدم أكل من الشجرة فتاب علىه، وكان فى قصة موسى رد على الصابئة ونحوهم ممن يقر بجنس النبوات ولا يوجب اتباع ما جاؤوا به، وقد يتأولون أخبار الأنبياء، وفيها رد على أهل الكتاب بما تضمنه ذلك من الأمر بالإيمان بما جاء به محمد ﷺ، وتقرير نبوته، وذكر حال من عَدَل عن النبوة إلى السِّحْر، وذكر النسخ الذى ينكره بعضهم، وذكر النصارى وأن الأمتين لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم .كل هذا فى تقرير أصول الدين من الوحدانية والرسالة .
ثم أخذ سبحانه فى بيان شرائع الإسلام التى على ملة إبراهيم، فذكر إبراهيم، الذى هو إمام، وبناء البيت الذى بتعظيمه يتميز أهل الإسلام عما سواهم، وذكر استقباله، وقرر ذلك؛ فإنه شعار الملة بين أهلها وغيرهم؛ ولهذا يقال: أهل القبلة، كما يقال: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم".
وذكر من "المناسك" ما يختص بالمكان، وذلك أن الحج له مكان وزمان، و"العمرة" لها مكان فقط، والعكوف والركوع والسجود شرع فيه، ولا يتقيد به، ولا بمكان، ولا بزمان، لكن الصلاة تتقيد باستقباله، فذكر سبحانه هذه الأنواع الخمسة: من العكوف،
ج/ 14 ص -43-والصلاة، والطواف، والعمرة، والحج، والطواف يختص بالمكان، ثم أتبع ذلك ما يتعلق بالبيت من الطواف بالجبلين، وأنه لا جُنَاح فيه؛ جوابا لما كان عليه الأنصار فى الجاهلية من كراهة الطواف بهما لأجل إهلالهم لمناة، وجوابا لقوم توقفوا عن الطواف بهما.
وجاء ذكر الطواف بعد العبادات المتعلقة بالبيت بل وبالقلوب والأبدان والأموال بعد ما أمروا به من الاستعانة بالصبر والصلاة اللذين لا يقوم الدين إلا بهما، وكان ذلك مفتاح الجهاد المؤسس على الصبر؛ لأن ذلك من تمام أمر البيت؛ لأن أهل الملل لا يخالفون فيه، فلا يقوم أمر البيت إلا بالجهاد عنه، وذكر الصبر على المشروع والمقدور، وبين ما أنعم به على هذه الأمة من البشرى للصابرين؛ فإنها أعطيت ما لم تعط الأمم قبلها، فكان ذلك من خصائصها وشعائرها كالعبادات المتعلقة بالبيت؛ ولهذا يقرن بين الحج والجهاد لدخول كل منهما فى سبيل الله، فأما الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنص والإجماع، وكذلك الحج فى الأصح، كما قال: الحج من سبيل الله.
وبين أن هذا معروف عند أهل الكتاب بذمه لكاتم العلم، ثم ذكر أنه لا يقبل ديناً غير ذلك. ففى أولها: "فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً" [البقرة: 22]، وفى أثنائها: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا" [البقرة: 165]، فالأول نهي عام، والثانى نهي خاص، وذكرها بعد البيت لينتهى عن قصد
ج/ 14 ص -44-الأنداد المضاهية له ولبيته من الأصنام والمقابر ونحو ذلك، ووحد نفسه قبل ذلك، وأنه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، ثم ذكر ما يتعلق بتوحيده من الآيات.
ثم ذكر الحلال والحرام، وأطلق الأمر فى المطاعم؛ لأن الرسول بعث بالحنيفية وشعارها وهو البيت، وذكر سماحتها في الأحوال المباحة، وفي الدماء بما شرعه من القصاص، ومن أخذ الدية، ثم ذكر العبادات المتعلقة بالزمان، فذكر الوصية المتعلقة بالموت، ثم الصيام المتعلق برمضان، وما يتصل به من الاعتكاف ذكره في عبادات المكان وعبادات الزمان، فإنه يختص بالمسجد وبالزمان استحباباً أو وجوبا بوقت الصيام، ووسطه أولاً بين الطواف والصلاة؛ لأن الطواف يختص بالمسجد الحرام، والصلاة تشرع فى جميع الأرض، والعكوف بينهما .
ثم أتبع ذلك بالنهى عن أكل الأموال بالباطل، وأخبر أن المحرم نوعان: نوع لعينه كالميتة، ونوع لكسبه كالربا والمغصوب. فاتبع المعنى الثابت بالمحرم الثابت تحريمه لعينه، وذكر فى أثناء عبادات الزمان المنتقل الحرام المنتقل؛ ولهذا أتبعه بقوله: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ" الآية [البقرة: 189]، وهى أعلام العبادات الزمنية، وأخبر أنه جعلها مواقيت للناس فى أمر دينهم ودنياهم وللحج؛ لأن البيت تحجه الملائكة والجن، فكان هذا أيضا
ج/ 14 ص -45-فى أن الحج موقت بالزمان كأنه موقت بالبيت المكانى؛ ولهذا ذكر بعد هذا من أحكام الحج ما يختص بالزمان، مع أن المكان من تمام الحج والعمرة .
وذكر المُحْصَر، وذكر تقديم الإحلال المتعلق بالمال وهو الهدى عن الإحلال المتعلق بالنفس وهو الحلق، وإن المتحلل يخرج من إحرامه فيحل بالأسهل فالأسهل؛ ولهذا كان آخر ما يحل عين الوطء [فى المطبوعة: الوطئ والصواب ما أثبتناه]، فإنه أعظم المحظورات ولا يفسد النسك بمحظور سواه .
وذكر "التمتع بالعمرة إلى الحج" لتعلقه بالزمان مع المكان؛ فإنه لا يكون متمتعاً حتى يحرم بالعمرة فى أشهر الحج، وحتى لا يكون أهله حاضرى المسجد الحرام وهو الأفقى فإنه الذى يظهر التمتع فى حقه لترفهه بسقوط أحد السفرين عنه، أما الذي هو حاضر فسيان عنده تمتع أو اعتمر قبل أشهر الحج، ثم ذكر وقت الحج، وأنه أشهر معلومات، وذكر الإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة؛ فإنه هذا مختص بزمان ومكان؛ ولهذا قال: "فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ" [البقرة: 197]، ولم يقل: "والعمرة" لأنها تفرض فى كل وقت، ولا ريب أن السنة فرض الحج فى أشهره، ومن فرض قبله خالف السنة، فإما أن يلزمه ما التزمه كالنذر إذ ليس فيه نقد للمشروع، وليس كمن صلى قبل الوقت وإما أن يلزم
ج/ 14 ص -46-لإحرام ويسقط الحج ويكون معتمراً، وهذان قولان مشهوران .
ثم أمر عند قضاء المناسك بذكره، وقضائها والله أعلم قضاء التَّفَث [التَّفَث: قيل: الشَّعَث وما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحلق العانة وغير ذلك. انظر: القاموس المحيط، مادة: تفث]، والإحلال؛ ولهذا قال بعد ذلك: "وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ" [البقرة: 203]، وهذا أيضاً من العبادات الزمانية المكانية . وهو ذكر الله تعالى مع رمى الجمار ومع الصلوات، ودل على أنه مكانى قوله: "فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ" الآية [البقرة: 203]، وإنما يكون التعجيل والتأخير فى الخروج من المكان؛ ولهذا تضاف هذه الأيام إلى مكانها فيقال: أيام مِنى، وإلى عملها فيقال: أيام التشريق، كما يقال: ليلة جَمْع [أى مِنى]، وليلة مزدلفة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر، ويوم العيد، ويوم الجمعة، فتضاف إلى الأعمال وأماكن الأعمال؛ إذ الزمان تابع للحركة، والحركة تابعة للمكان .
فتدبر تناسب القرآن وارتباط بعضه ببعض، وكيف ذكر أحكام الحج فيها فى موضعين، مع ذكر بيته وما يتعلق بمكانه، وموضع ذكر فيه الأهلة فذكر ما يتعلق بزمانه، وذكر أيضاً القتال فى المسجد الحرام والمقاصة فى الشهر الحرام؛ لأن ذلك مما يتعلق بالزمان المتعلق بالمكان؛ ولهذا قرن سبحانه ذكر كون الأهلة مواقيت للناس والحج .
وذكر أن "البر" ليس أن يشقى الرجل نفسه، ويفعل ما لا فائدة
ج/ 14 ص -47-ا فيه، من كونه يبرز للسماء، فلا يستظل بسقف بيته، حتى إذا أراد دخول بيته لا يأتيه إلا من ظهره، فأخبر أن الهلال الذى جعل ميقاتاً للحج شرع مثل هذا، وإنما تضمن شرع التقوى، ثم ذكر بعد ذلك ما يتعلق بأحكام النكاح والوالدات، وما يتعلق بالأموال والصدقات والربا والديون وغير ذلك، ثم ختمها بالدعاء العظيم المتضمن وضع الآصار والأغلال والعفو والمغفرة والرحمة وطلب النصر على القوم الكافرين الذين هم أعداء ما شرعه من الدين فى كتابه المبين .
والحمد لله رب العالمين .
ج/ 14 ص -48-قال شيخ الإِسَلام:
هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من "كتب التفسير" إلا ما هو خطأ:
منها قوله: "بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ" الآية [البقرة: 81]، ذكر أن المشهور أن "السيئة" الشرك، وقيل: الكبيرة يموت عليها، قاله عكرمة. قال مجاهد: هي الذنوب تحيط بالقلب .
قلت: الصواب ذكر أقوال السلف، وإن كان فيها ضعيف فالحجة تبين ضعفه، فلا يعدل عن ذكر أقوالهم لموافقتها قول طائفة من المبتدعة، وهم ينقلون عن بعض السلف أن هذه الآية أخطأ فيها الكاتب كما قيل فى غيرها، ومن أنكر شيئا من القرآن بعد تواتره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وأما قبل تواتره عنده فلا يستتاب، لكن يبين له، وكذلك الأقوال التى جاءت الأحاديث بخلافها؛ فقها، وتصوفا، واعتقاداً، وغير ذلك .
وقول مجاهد صحيح، كما في الحديث الصحيح: "إذا أذنب العبد
ج/ 14 ص -49-نكتَ فى قلبه نكتة سوداء" إلخ..، والذي يغشى القلب يسمى "رَيْناً" و"طَبْعاً" و"خَتْماً" و "قُفْلا" ونحو ذلك، فهذا ما أصر عليه. و"إحاطة الخطيئة": إحداقها به فلا يمكنه الخروج، وهذا هو البَسْل بما كسبت نفسه، أي: تحبس عما فيه نجاتها فى الدارين؛ فإن المعاصي قيد وحبس لصاحبها عن الجَوَلان فى فضاء التوحيد، وعن جَنْى ثمار الأعمال الصالحة.
ومن المنتسبين إلى السنة من يقول: إن صاحب الكبيرة يعذب مطلقاً، والأكثرون على خلافه، وأن الله سبحانه يزن الحسنات والسيئات، وعلى هذا دل الكتاب والسنة وهو معنى الوزن، لكن تفسير السيئة بالشرك هو الأظهر؛ لأنه سبحانه غاير بين المكسوب والمحيط، فلو كان واحداً لم يغاير، والمشرك له خطايا غير الشرك أحاطت به لأنه لم يتب منها.
وأيضا، قوله: "سَيِّئَةً" نكرة، وليس المراد جنس السيئات بالاتفاق .
وأيضا، لفظ "السيئة" قد جاء فى غير موضع مرادا به الشرك وقوله: "سَيِّئَةً" أي: حال سيئة أو مكان سيئة ونحو ذلك، كما في قوله: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً" [البقرة: 201]، أي حالاً حسنة تعم الخير كله، وهذا اللفظ يكون صفة، وقد ينقل من الوصفية إلى الاسمية؛ ويستعمل لازما أو
ج/ 14 ص -50-متعديا يقال: ساء هذا الأمر، أي: قَبُح، ويقال: ساءنى هذا، قال ابن عباس فى قوله: "وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا" [يونس: 27]: عملوا الشرك؛ لأنه وصفهم بهذا فقط، ولو آمنوا لكان لهم حسنات، وكذا لما قال: "كَسَبَ سَيِّئَةً" لم يذكر حسنة، كقوله تعالى: "لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى" [يونس: 26] أي: فعلوا الحسنى، وهو ما أمروا به، كذلك "السيئة" تتناول المحظور فيدخل فيها الشرك .
ج/ 14 ص -51-وقال شيخ الإِسَلام قدَّسَ اللَّه روحهُ :
فصل
قال الله تعالى: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ" [المؤمنون: 17]، وقال تعالى: "فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ" [الأعراف: 6، 7]، وقد قال تعالى: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" [البقرة: 3]، قال طائفة من السلف: الغيب هو الله، أو من الإيمان بالغيب الإيمان بالله. ففي موضع نفى عن نفسه أن يكون غائباً، وفى موضع جعله نفسه غيباً.
ولهذا اختلف الناس في هذه المسألة، فطائفة من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم كالقاضي وابن عقيل [هو أبو الوفاء على بن عقيل البغدادى، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد فى وقته، اشتغل بمذهب المعتزلة فى حداثته، وقال عنه ابن حجر: نعم كان معتزليا، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك وصحت توبته، له تصانيف كثيرة، منها كتاب الفنون الذى يزيد على أربعمائة مجلد، توفى سنة 315ه] وابن الزاغونى [هو أبو الحسن على بن عبيد الله بن نصر بن الزاغونى، مؤرخ فقيه، من أعيان الحنابلة، له تصانيف كثيرة فى الفقه والأصول والحديث، منها: الإقناع والواضح وغيرهما . ولد سنة 455 ه، وتوفى سنة 527 ه] يقولون بقياس الغائب على الشاهد، ويريدون بالغائب الله، ويقولون: قياس الغائب على الشاهد ثابت بالحد والعلة والدليل والشرط. كما يقولون
ج/ 14 ص -52-فى مسائل الصفات في إثبات العلم والخبرة والإرادة وغير ذلك. وأنكر ذلك عليهم طائفة منهم الشيخ أبو محمد فى رسالته إلى أهل رأس العين، وقال: لا يسمى الله غائباً، واستدل بما ذكر .
وفصل الخطاب بين الطائفتين: أن اسم "الغيب والغائب" من الأمور الإضافية يراد به ما غاب عنا فلم ندركه، ويراد به ما غاب عنا فلم يدركنا؛وذلك لأن الواحد منا إذا غاب عن الآخر مغيبا مطلقاً لم يدرك هذا هذا ولا هذا هذا، والله سبحانه شهيد على العباد، رقيب عليهم، مهيمن عليهم، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء، فليس هو غائباً، وإنما لما لم يره العباد كان غيبا؛ولهذا يدخل فى الغيب الذى يؤمن به وليس هو بغائب؛ فإن "الغائب" اسم فاعل من قولك: غاب يغيب فهو غائب والله شاهد غير غائب، وأما "الغيب" فهو مصدر غاب يغيب غيباً، وكثيراً ما يوضع المصدر موضع الفاعل كالعدل والصوم والزور، وموضع المفعول كالخلق والرزق ودرهم ضرب الأمير.
ولهذا يقرن الغيب بالشهادة، وهى أيضاً مصدر، فالشهادة هى المشهود أو الشاهد، والغيب هو إما المغيب عنه فهو الذى لا يشهد نقيض الشهادة، وإما بمعنى الغائب الذي غاب عنا فلم نشهده فتسميته باسم المصدر فيه تنبيه
ج/ 14 ص -53-على النسبة إلى الغير، أى: ليس هو بنفسه غائبا، وإنما غاب عن الغير أو غاب الغير عنه.
وقد يقال: اسم "الشهادة، والغيب" يجمع النسبتين، فالشهادة ما شهدنا وشهدناه، والغيب ما غاب عنا وغبنا عنه فلم نشهده، وعلى كل تقدير فالمعنى فى كونه غيبا هو انتفاء شهود ناله، وهذه تسمية قرآنية صحيحة، فلو قالوا: قياس الغيب على الشهادة لكانت العبارة موافقة، وأما قياس الغائب ففيه مخالفة فى ظاهر اللفظ ولكن موافقة فى المعنى؛ فلهذا حصل فى إطلاقه التنازع.
ج/ 14 ص -54-وقال شيخ الإِسَلام قدَّسَ اللَّه روحهُ :
فصل
المثل فى الأصل: هو الشبيه وهو نوعان؛ لأن القضية المعينة إما أن تكون شبهاً معيناً أو عاما كليا؛ فإن القضايا الكلية التى تعلم وتقال هى مطابقة مماثلة لكل ما يندرج فيها، وهذا يسمى قياساً في لغة السلف واصطلاح المنطقيين.
وتمثيل الشىء المعين بشىء معين هو أيضاً يسمى قياساً فى لغة السلف واصطلاح الفقهاء، وهو الذى يسمى قياس التمثيل.
ثم من متأخرى العلماء كالغزالى وغيره من ادعى أن حقيقة القياس إنما يقال على هذا، وما يسميه تأليف القضايا الكلية قياساً فمجاز من جهة أنه لم يشبه فيه شىء بشىء، وإنما يلزم من عموم الحكم تساوى أفراده فيه، ومنهم من عكس كأبى محمد ابن حزم، فإنه زعم
ج/ 14 ص -55-أن لفظ القياس إنما ينبغى أن يكون فى تلك الأمور العامة وهو القياس الصحيح.
والصواب ما عليه السلف من اللغة الموافقة لما فى القرآن كما سأذكره أن كليهما قياس وتمثيل واعتبار، وهو فى قياس التمثيل ظاهر، وأما قياس التكليل والشمول فلأنه يقاس كل واحد من الأفراد بذلك المقياس العام الثابت فى العلم والقول، وهو الأصل، كما يقاس الواحد بالأصل الذى يشبهه، فالأصل فيهما هو المثل، والقياس هو ضرب المثل، وأصله والله أعلم تقديره، فضرب المثل للشىء تقديره له، كما أن القياس أصله تقدير الشىء بالشىء، ومنه ضرب الدرهم وهو تقديره، وضرب الجزية والخراج وهو تقديرهما، والضريبة المقدرة والضرب فى الأرض، لأنه يقدر أثر الماشى بقدره، وكذلك الضرب بالعِصِىّ لأنه تقدير الألم بالآلة، وهو جمعه وتأليفه وتقديره، كما أن الضريبة هى المال المجموع والضريبة الخلق، وضرب الدرهم جمع فضة مؤلفة مقدرة، وضرب الجزية والخراج إذا فرضه وقدره على مر السنين، والضرب فى الأرض الحركات المقدرة المجموعة إلى غاية محدودة، ومنه تضريب الثوب المحشو وهو تأليف خلله طرائق طرائق.
ولهذا يسمون الصورة القياسية الضرب، كما يقال للنوع الواحد: ضرب؛ لتألفه واتفاقه، وضرب المثل لما كان جمعاً بين علمين يطلب منهما علم
ج/ 14 ص -56-ثالث، كان بمنزلة ضراب الفحل الذى يتولد عنه الولد؛ ولهذا يقسمون الضرب إلى ناتج وعقيم، كما ينقسم ضرب الفحل للأنثى إلى ناتج وعقيم، وكل واحد من نوعى ضرب المثل وهو القياس تارة يراد به التصوير وتفهيم المعنى، وتارة يراد به الدلالة على ثبوته والتصديق به، فقياس تصور وقياس تصديق، فتدبر هذا.
وكثيراً ما يقصد كلاهما، فإن ضرب المثل يوضح صورة المقصود وحكمه. وضرب الأمثال فى المعانى نوعان، هما نوعا القياس:
أحدهما: الأمثال المعينة التى يقاس فيها الفرع بأصل معين موجود أو مقدر، وهى فى القرآن بضع وأربعون مثلا، كقوله: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا"إلى آخره [البقرة: 71]، وقوله: "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّة" [البقرة: 261]، وقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ" [البقرة: 265] .
فإن التمثيل بين الموصوفين الذين يذكرهم من المنافقين، والمنفقين والمخلصين منهم والمرائين، وبين ما يذكره سبحانه من تلك الأمثال
ج/ 14 ص -57-هو من جنس قياس التمثيل، الذى يقال فيه: مثل الذى يقتل بكودتى القَصَّار [كودتا القَصّار: هما خشبتا القصار. والقصار: هو المحور والمهذب للثياب؛ لأنه يدقها بالقصرة. انظر: لسان العرب، مادة: قصر] كمثل الذى يقتل بالسيف، ومثل الهرة تقع فى الزيت كمثل الفأرة تقع فى السمن ونحو ذلك، ومبناه على الجمع بينهما، والفرق فى الصفات المعتبرة فى الحكم المقصود إثباته أو نفيه، وقوله: مثله كمثل كذا، تشبيه للمثل العلمى بالمثل العلمى؛ لأنه هو الذى بتوسطه يحصل القياس، فإن المعتبر ينظر فى أحدهما فيتمثل فى علمه، وينظر فى الآخر فيتمثل فى علمه ثم يعتبر أحد المثلين بالآخر فيجدهما سواء، فيعلم أنهما سواء فى أنفسهما لاستوائهما فى العلم، ولا يمكن اعتبار أحدهما بالآخر فى نفسه حتى يتمثل كل منهما فى العلم، فإن الحكم على الشىء فرع على تصوره؛ ولهذا والله أعلم يقال: مثل هذا كمثل ... [بياض بالأصل].
وبعض المواضع يذكر سبحانه الأصل المعتبر به ليستفاد حكم الفرع منه من غير تصريح بذكر الفرع، كقوله: "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ" إلى قوله: "كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" [البقرة: 266]، فإن هذا يحتاج إلى تفكر؛ ولهذا سأل عمر عنها من حضره من الصحابة فأجابه ابن عباس بالجواب الذى أرضاه.
ونظير ذلك ذكر القصص، فإنها كلها أمثال هى أصول قياس
ج/ 14 ص -58-واعتبار، ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها، لأن كل إنسان له فى حالة منها نصيب، فيقال فيها: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ" [يوسف: 111]، ويقال عقب حكايتها: "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" [الحشر: 2]، ويقال: "قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا" إلى قوله: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ" [آل عمران: 13]، والاعتبار هو القياس بعينه، كما قال ابن عباس لما سئل عن دية الأصابع فقال: هى سواء، واعتبروا ذلك بالأسنان، أى: قيسوها بها، فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع، فكذلك الأصابع، ويقال: اعتبرت الدراهم بالصَّنْجَة إذا قدرتها بها.
النوع الثانى: الأمثال الكلية، وهذه التى أشكل تسميتها أمثالا، كما أشكل تسميتها قياساً، حتى اعترض بعضهم قوله: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ" [الحج: 73]، فقال: أين المثل المضروب؟ وكذلك إذا سمعوا قوله: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ" [الروم: 58]، يبقون حيارى لا يدرون ما هذه الأمثال، وقد رأوا عدد ما فيه من تلك الأمثال المعينة بضعاً وأربعين مثلا.
وهذه الأمثال تارة تكون صفات، وتارة تكون أقيسة، فإذا كانت أقيسة فلابد فيها من خبرين هما قضيتان وحكمان، وأنه لابد أن يكون أحدهما كلياً؛ لأن الأخبار التى هى القضايا لما انقسمت إلى معينة ومطلقة وكلية وجزئية، وكل من ذلك انقسم إلى خبر عن إثبات
ج/ 14 ص -59-وخبر عن نفى، فضرب المثل الذى هو القياس لابد أن يشتمل على خبر عام وقضية كلية، وذلك هو المثل الثابت فى العقل الذى تقاس به الأعيان المقصود حكمها، فلولا عمومه لما أمكن الاعتبار لجواز أن يكون المقصود حكمه خارجاً عن العموم؛ ولهذا يقال: لا قياس عن قضيتين جزئيتين، بل لابد أن تكون إحداهما كلية، ولا قياس أيضا عن سالبتين، بل لابد أن تكون إحداهما موجبة، وإلا السلبان لا يدخل أحدهما فى الآخر، لابد فيه من خبر يعم.
وجملة ما يضرب من الأمثال ستة عشر؛ لأن الأولى إما جزئية وإما كلية، مثبتة أو نافية، فهذه أربعة إذا ضربتها فى أربعة صارت ستة عشر، تحذف منهما الجزئيتين سواء كانتا موجبتين أو سالبتين، أو إحداهما سالبة والأخرى موجبة، فهذه ست من ستة عشر، والسالبتين سواء كانتا جزئيتين أو كليتين، أو إحداهما دون الأخرى، لكن إذا كانتا جزئيتين سالبتين فقد دخلت فى الأول، يبقى ضربان محذوفين من ستة عشر. ويحذف منهما السالبة الكلية الصغرى مع الكبرى الموجبة الجزئية؛ لأن الكبرى إذا كانت جزئية لم يجب أن يلاقيها السلب، بخلاف الإيجاب، فإن الإيجابين الجزئيين يلتقيان، وكذلك الإيجاب، الجزئى مع السلب الكلى يلتقيان لاندراج ذلك الموجب تحت السلب العام.
ج/ 14 ص -60-يبقى من الستة عشر ستة أضرب، فإذا كانت إحداهما موجبة كلية جاز فى الأخرى الأقسام الأربعة، وإذا كانت سالبة كلية جاز أن تقارنها الموجبتان، لكن تقدم مقارنة الكلية لها، ولابد فى الجزئية أن تكون صغرى، وإذا كانت موجبة جزئية جاز أن تقارنها الكليتان، وقد تقدمتا، وإذا كانت سالبة جزئية لم يجز أن يقارنها إلا موجبة كلية، وقد تقدمت، فيقر الناتج ستة، والملغى عشرة، وبالاعتبارين تصير ثمانية.
فهذه الضروب العشرة مدار ثمانية منها على الإيجاب العام، ولابد فى جميع ضروبه من أحد أمرين، إما إيجاب وعموم، وإما سلب وخصوص، فنقيضان لا يفيد اجتماعهما فائدة، بل إذا اجتمع النقيضان من نوعين كسالبة كلية وموجبة جزئية فتفيد بشرط كون الكبري هي العامة، فظهر أنه لابد في كل قياس من ثبوت وعموم، إما مجتمعين في مقدمة وإما مفترقين في المقدمتين.
وأيضاً، مما يجب أن يعلم أن غالب الأمثال المضروبة والأقيسة، إنما يكون الخفى فيها إحدى القضيتين، وأما الأخرى فجلية معلومة، فضارب المثل وناصب القياس إنما يحتاج أن يبين تلك القضية الخفية، فيعلم بذلك المقصود لما قاربها فى الفعل من القضية السلبية والجلية هى الكبرى التى هى أعم.
ج/ 14 ص -61-فإن الشىء كلما كان أعم كان أعرف فى العقل لكثرة مرور مفرداته فى العقل، وخير الكلام ما قل ودل؛ فلهذا كانت الأمثال المضروبة فى القرآن تحذف منها القضية الجلية لأن فى ذكرها تطويلاً وعِيّا، وكذلك ذكر النتيجة المقصودة بعد ذكر المقدمتين يعد تطويلا.
واعتبر ذلك بقوله: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22]، ما أحسن هذا البرهان! فلو قيل بعده: وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله لكان هذا من الكلام الغث الذى لا يناسب بلاغة التنزيل، وإنما ذلك من تأليف المعانى فى العقل مثل تأليف الأسماء من الحروف فى الهجاء والخط إذا علمنا الصبى الخط نقول: "با" "سين" "ميم" صارت "بسم"، فإذا عقل لم يصلح له بعد ذلك أن يقرأه تهجياً فيذهب ببهجة الكلام؛ بل قد صار التأليف مستقراً، وكذلك النحوى إذا عرف أن "محمد رسول الله" مبتدأ وخبر لم يلف كلما رفع مثل ذلك أن يقول لأنه مبتدأ وخبر. فتأليف الأسماء من الحروف لفظاً ومعنى، وتأليف الكلم من الأسماء، وتأليف الأمثال من الكلم جنس واحد.
ولهذا كان المؤلفون للأقيسة يتكلمون أولاً فى مفردات الألفاظ والمعانى التى هى الأسماء، ثم يتكلمون فى تأليف الكلمات من الأسماء الذى هو الخبر والقضية والحكم، ثم يتكلمون فى تأليف الأمثال المضروبة الذى هو "القياس" و "البرهان" و "الدليل" و"الآية"
ج/ 14 ص -62-"العلامة". فهذا مما ينبغى أن يتفطن له، فإن من أعظم كمال القرآن تركه فى أمثاله المضروبة وأقيسته المنصوبة لذكر المقدمة الجلية الواضحة المعلومة، ثم اتباع ذلك بالأخبار عن النتيجة التى قد علم من أول الكلام أنها هى المقصود؛ بل إنما يكون ضرب المثل بذكر ما يستفاد ذكره وينتفع بمعرفته، فذلك هو البيان، وهو البرهان، وأما ما لا حاجة إلى ذكره فذكره عىٌّ.
وبهذا يظهر لك خطأ قوم من البيانيين الجهال والمنطقيين الضُّلال حيث قال بعض أولئك: الطريقة الكلامية البرهانية فى أساليب البيان ليست فى القرآن إلا قليلا، وقال الثانى: إنه ليس فى القرآن برهان تام، فهؤلاء من أجهل الخلق باللفظ والمعنى، فإنه ليس فى القرآن إلا الطريقة البرهانية المستقيمة لمن عَقَل وتدبر.
وأيضاً، فينبغى أن يعرف أن مضار ضرب المثل ونصب القياس على العموم والخصوص والسلب والإيجاب؛ فإنه ما من خبر إلا وهو إما عام أو خاص؛ سالب أو موجب، فالمعين خاص محصور، والجزئى أيضاً خاص غير محصور، والمطلق إما عام وإما فى معنى الخاص.
فينبغى لمن أراد معرفة هذا الباب أن يعرف صيغ النفى والعموم؛ فإن ذلك يجىء فى القرآن على أبلغ نظام.
ج/ 14 ص -63-مثال ذلك: أن "صيغة الاستفهام" يحسب من أخذ ببادئ الرأى أنها لا تدخل فى القياس المضروب؛ لأنه لا يدخل فيه إلا القضايا الخبرية، وهذه طلبية، فإذا تأمل وعلم أن أكثر استفهامات القرآن أو كثيراً منها إنما هى استفهام إنكار معناه الذم والنهى إن كان إنكاراً شرعياً، أو معناه النفى والسلب إن كان إنكار وجود ووقوع، كما فى قوله: "وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" [يس: 78]، "ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ"الآية [الروم: 28]، وكذلك قوله: "آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ" [النمل: 59]، وقوله فى تعديد الآيات: "أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ" [النمل: 6064]، أى: أفعل هذه إله مع الله؟! والمعنى: ما فعلها إلا الله، وقوله: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" [الطور: 35] وما معها.
وهذا الذى ذكرناه الذى جاء به القرآن هو ضرب الأمثال من جهة المعنى، وقد يعبر فى اللغة بضرب المثل أو بالمثل المضروب عن نوع من الألفاظ، فيستفاد منه التعبير كما يستفاد من اللغة، لكن لايستفاد منه الدليل على الحكم كأمثال القرآن، وهو أن يكون الرجل قد قال كلمة منظومة أو منثورة لسبب اقتضاه فشاعت فى الاستعمال، حتى يصار يعبر بها عن كل ما أشبه ذلك المعنى الأول، وإن كان اللفظ فى الأصل غير موضوع لها، فكأن تلك الجملة المثلية نقلت بالعرف من المعنى الخاص إلى
ج/ 14 ص -64-العام كما تنقل الألفاظ المفردة، فهذا نقل فى الجملة مثل قولهم: "يداك أوْكتََا، وفُوكَ نَفَخ" هو مواز لقولهم: "أنت جنيت هذا"؛ لأن هذا المثل قيل ابتداء لمن كانت جنايته بالإيكاء والنفخ، ثم صار مثلا عاماً، وكذلك قولهم: "الصَّيْف ضَيَّعْتِ اللبن" [هذا المثل فى الأصل خوطبت به امرأة، وهى دختنوس بنت لقيط بن زرارة، كانت تحب عمرو بن عمرو بن عدس، وكان شيخا كبيرا، ففركته فطلقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه، وأجدبت، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة، فقال عمرو: "فى الصيف ضيعتِ اللبن". وإنما خص الصيف لأن سؤالها الطلاق كان في الصيف، وهذا المثل يضرب لمن يطلب شيئا قد فوته على نفسه] مثل قولك: "فرطت وتركت الحزم، وتركت ما يحتاج إليه وقت القدرة عليه حتى فات"، وأصل الكلمة قيلت للمعنى الخاص.
وكذلك "عَسَى الغُوَيْرُ أبْؤُسَا" أى: أتخاف أن يكون لهذا الظاهر الحسن باطن ردىء؟ فهذا نوع من البيان يدخل فى اللغة والخطاب، فالمتكلم به حكمه حكم المبين بالعبارة الدالة، سواء كان المعنى فى نفسه حقاً أو باطلا؛ إذ قد يتمثل به فى حق من ليس كذلك، فهذا تطلبه فى القرآن من جنس تطلب الألفاظ العرفية، فهو نظر فى دلالة اللفظ على المعنى لا نظر فى صحة المعنى ودلالته على الحكم، وليس هو المراد بقوله: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ" [الروم: 58]، فتدبر هذا فإنه يجلو عنك شبهة لفظية ومعنوية.
وهذه الأمثال اللغوية أنواع، موجود فى القرآن منها أجناسها، وهى مُعْلِنة ببلاغة لفظه ونظمه وبراعة بيانه اللفظى، والذين يتكلمون فى علم البيان وإعجاز القرآن يتكلمون فى مثل هذا، ومن الناس من يكون أول ما يتكلم بالكلمة صارت مثلا، ومنهم من لا تصير الكلمة مثلا
ج/ 14 ص -65-حتى يتمثل بها الضارب فيكون هذا أول من تمثل بها، كقوله ﷺ: "الآن حَمِىَ الوَطِيسُ" [الوطيس: شبه التَّنُّور، عبر عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق]، وكقوله: "مِسْعَرُ حَرْب" ونحو ذلك، لكن النفى بصيغة الاستفهام المضمن معنى الإنكار هو نفى مضمن دليل النفى، فلا يمكن مقابلته بمنع، وذلك أنه لا ينفى باستفهام الإنكار إلا ما ظهر بيانه أو ادعى ظهور بيانه، فيكون ضاربه إما كاملا فى استدلاله وقياسه وإما جاهلاً، كالذى قال: "مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" [يس: 78].
إذا تبين ذلك، فالأمثال المضروبة فى القرآن منها ما يصرح فيه بتسميته مثلا، ومنها ما لا يسمى بذلك...[بياض بالأصل] "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ" [البقرة: 17]، والذى يليه: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا" [البقرة: 26]، "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ" [البقرة: 171]، "وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم" [البقرة: 214]، "مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" [البقرة: 261]، "لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ" الآية [البقرة: 264]، "وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ" [البقرة: 265]، والذى بعده ليس فيه لفظ"مثل": "كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ" [آل عمران: 11]، فى الثلاثة: "قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ" [آل عمران: 13]، "مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" [آل عمران: 117]، وقوله: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ" [الأنعام: 64]
ج/ 14 ص -66-ومن هذا الباب قوله: "لاَّ أَقُولُ لَكُمْ" الآية [هود: 31]، ويسمى جدالا "فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ" إلى قوله: "ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا" [الأعراف: 176]، "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء" الآية [يونس: 24]، "مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ" [هود: 24]، "إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء" [الرعد: 14]، وقول يوسف: "أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ" [يوسف: 39]، "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ" الآية[الرعد: 61]، "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء" إلى قوله: "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ" [الرعد: 17]، "مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ" [الرعد: 35]، "مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ" [إبراهيم: 18]، "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً" إلى آخر "وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ" [إبراهيم: 24 45]، "لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ" [النحل: 60]، "فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ" [النحل: 74]، "ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا" [النحل: 75]، والذى بعده: "وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً" [النحل: 112]، "انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ" [الإسراء: 48] في موضعين، "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا" [الإسراء: 89]، بعد أدله التوحيد والنبوة والتحدي بالقرآن "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ" [الكهف: 32] القصة، "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" [الكهف: 45]، "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" [الكهف: 54]، ينبه على أنها براهين وحجج تفيد تصوراً أو تصديقاً "وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء" [الحج: 31]، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ" [الحج: 73]، "وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ"[النور: 34]، "مّثّلٍ نٍورٌهٌ "
ج/ 14 ص -67-إلى قوله: "وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ" [النور: 35]، "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ" [النور: 39] المثلين، مثل نور المؤمنين فى المساجد وأولئك فى الظلمات "وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا" [الفرقان: 33]، فالتفسير يعم التصوير، ويعم التحقيق بالدليل، كما فى تفسير الكلام المشروح "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء" الآية[العنكبوت: 41]، "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ" [العنكبوت: 43]، "وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [الروم: 27]، "ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ"[الروم: 28]، "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ" الآية[الروم: 58]، "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ" [يس: 13]، "فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ" [يس: 77، 78]، وقوله: "ِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً" [ص: 23]، "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ" إلى قوله: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا" [الزمر: 2729]، "وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا" [الزخرف: 57]، إلى آخره لما أوردوه نقضا على قوله: "إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ" [الأنبياء: 98]، فهم الذين ضربوه جدلا، "الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا" إلى قوله: "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ" [محمد: 1-3]، "كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا" [الحشر: 15]، "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ" [الحشر: 16]، "لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ" [الحشر: 21]، "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا"الآية [الجمعة: 5]، "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا" [التحريم: 10]، و"لِّلَّذِينَ آمَنُوا" [التحريم: 11]، "وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا" [المدثر: 31]، "كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ"[المعارج: 43]، "كَالْفَرَاشِ" [القارعة: 4]، و"كَالْعِهْنِ" [القارعة: 5].
ج/ 14 ص -68-وقال شيخ الإِسَلام رَحِمهُ الله تعالى :
هذه تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد فى طائفة من "كتب التفسير" إلا ما هو خطأ فيها.
منها قوله: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ...." الآيتان [البقرة: 62، 63]، فهو سبحانه وصف أهل السعادة من الأولين والآخرين، وهو الذى يدل عليه اللفظ ويعرف به معناه من غير تناقض، ومناسبة لما قبلها ولما بعدها، وهو المعروف عند السلف، ويدل عليه ما ذكروه من سبب نزولها بالأسانيد الثابتة عن سفيان، عن ابن أبى نَجِيح، عن مجاهد، قال سلمان: سألت النبى ﷺ عن أهل دِينٍ كنتُ معهم. فذكر من عبادتهم، فنزلت الآية. ولم يذكر فيه أنهم من أهل النار، كما روى بأسانيد ضعيفة، وهذا هو الصحيح كما فى مسلم: "إلا بقايا من أهل الكتاب".
والنبى ﷺ لم يكن يجيب بما لا علم عنده، وقد
ج/ 14 ص -69-ثبت أنه أثنى على من مات فى الفَتْرَة [الفًتْرَة: ما بين كل نَبِيًّن]، كزيد بن عمرو وغيره، ولم يذكر ابن أبى حاتم خلافا عن السلف، لكن ذكر عن ابن عباس ثم أنزل اللّه: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا" الآية [آل عمران: 85]، ومراده: أن اللّه يبين أنه لا يقبل إلا الإسلام من الأولين والآخرين، وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يظن أن الآية دالة عليه؛ فإن من المعلوم أن من كذب رسولا واحداً فهو كافر، فلا يتناوله قوله: "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ" إلخ [البقرة: 62].
وظن بعض الناس أن الآية فيمن بعث إليهم محمد ﷺ خاصة، فغلطوا، ثم افترقوا على أقوال متناقضة.
ج/ 14 ص -70-وقال شيخ الإسلام قدَّسَ اللَّه روحهُ:
فصل
قسم اللّه من ذمه من أهل الكتاب إلى مُحَرِّفين وأمِّييّن، حيث يقول: "أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ" [البقرة: 75-79].
وفى هذا عبرة لمن ركب سُنَّتَهم من أمتنا؛ فإن المنحرفين فى
ج/ 14 ص -71-نصوص الكتاب والسنة كالصفات ونحوها من الأخبار والأوامر قوم يحرفونه إما لفظاً وإما معنى، وهم النافون لما أثبته الرسول ﷺ جحوداً وتعطيلا، ويدعون أن هذا موجب العقل الصريح القاضى على السمع.
وقوم لا يزيدون على تلاوة النصوص لا يفقهون معناها، ويدعون أن هذا موجب السمع الذى كان عليه السلف، وأن اللّه لم يرد من عباده فهم هذه النصوص، فهم "لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ" [البقرة: 78]، أى تلاوة "وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ" [البقرة: 78].
ثم يصنف أقوام علوما يقولون: إنها دينية، وإن النصوص دلت عليها والعقل، وهى دين الله مع مخالفتها لكتاب الله، فهؤلاء الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هو من عند اللّه بوجه من الوجوه.
فتدبر كيف اشتملت هذه الآيات على الأصناف الثلاثة، وقوله فى صفة أولئك: "أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ" [البقرة: 76]، حال من يكتم النصوص التى يحتج بها منازعه، حتى إن منهم من يمنع من رواية الأحاديث المأثورة عن الرسول ﷺ، ولو أمكنهم كتمان القرآن لكتموه، لكنهم يكتمون منه وجوه دلالته من العلوم المستنبطة منه، ويعوضون الناس عن ذلك بما يكتبونه بأيديهم ويضيفونه إلى أنه من عند اللّه.
ج/ 14 ص -72-َسُئِلَ عن معنى قوله: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا" [البقرة: 106] واللّه سبحانه لا يدخل عليه النسيان.
فأجاب:
أما قوله: "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا" [البقرة: 106]، ففيها قراءتان، أشهرهما: "أَوْ نُنسِهَا" أى: ننسيكم إياها، أى: نسخنا ما أنزلناه، أو اخترنا تنزيل ما نريد أن ننزله نأتكم بخير منه أو مثله، والثانية: "أو ننسأها" بالهمز، أى نؤخرها، ولم يقرأ أحد: "ننساها"، فمن ظن أن معنى ننسأها بمعنى: ننساها، فهو جاهل بالعربية والتفسير، قال موسى عليه السلام: "عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى" [طه: 52]، و النسيان مضاف إلى العبد كما فى قوله: "سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ" [الأعلى: 6، 7]؛ ولهذا قرأها بعض الصحابة: "أو تنساها" أى: تنساها يا محمد، وهذا واضح لا يخفى إلا على جاهل، لا يفرق بين ننسأها بالهمز وبين ننساها بلا همز، واللّه أعلم.
ج/ 14 ص -73-قَال أبو العبَّاس أحْمَد بن تيمية رَحِمهُ اللَّه تعالى :
فى قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى" الآية [البقرة: 178]، وفيها قولان:
أحدهما: أن القصاص هو القَوَد، وهو أخذ الدية بدل القتل، كما جاء عن ابن عباس أنه كان فى بنى إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فجعل اللّه فى هذه الأمة الدية فقال: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ" [البقرة: 178]، والعفو هو أن يقبل الدية فى العَمْد "ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" [البقرة: 178] مما كان على بنى إسرائيل، والمراد على هذا القول أن يقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنِثى بالأنثى. قال قتادة: إن أهل الجاهلية كان فيهم بَغِىٌّ، وكان الحى إذا كان فيهم عدد وعُدَّة فقتل عبدَهم عبدُ قوم آخرين، لن يقتل به إلا حراً تعززاً على غيرهم، وإن قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا: لن يقتل بها إلا رجلا، فنزلت هذه الآية.وهذا قول أكثر الفقهاء، وقد ذكر ذلك الشافعى وغيره.
ج/ 14 ص -74-ويحتج بها طائفة من أصحاب مالك والشافعى وأحمد على أن الحر لا يقتل بالعبد؛ لقوله: "وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ" [البقرة: 178] فينقض ذلك عليه بالمرأة؛ فإنه قال: "وَالأُنثَى بِالأُنثَى" [البقرة: 178]، وطائفة من المفسرين لم يذكروا هذا القول.
القول الثانى: أن القصاص فى القتلى يكون بين الطائفتين المقتتلتين قتال عَصَبِيَّة وجاهلية، فيقتل من هؤلاء ومن هؤلاء أحرار وعبيد ونساء، فأمر الله تعالى بالعدل بين الطائفتين، بأن يقاص دية حر بدية حر، ودية امرأة بدية امرأة، وعبد بعبد، فإن فضل لإحدى الطائفتين شىء بعد المقاصة فلتتبع الأخرى بمعروف، ولتؤد الأخرى إليها بإحسان، وهذا قول الشَّعْبِى وغيره، وقد ذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره، وعلى هذا القول فإنه إذا جعل ظاهر الآية لزمته إشكالات، لكن المعنى الثانى هو مدلول الآية ومقتضاه ولا إشكال عليه، بخلاف القول الأول يستفاد من دلالة الآية، كما سننبه عليه إن شاء [في المطبوعة: إنشاد وهو خطأ] الله تعالى، وما ذكرناه يظهر من وجوه:
أحدها: أنه قال: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى" [البقرة: 178] و"القصاص" مصدر قاصه يقاصه مقاصة وقصاصاً، ومنه مقاصة الدينين أحدهما بالآخر و"بًقٌصّاصٍ فٌي بًقّتًلّى"إنما يكون إذا كان الجميع قتلى، كما ذكر الشعبى فيقاص هؤلاء القتلى بهؤلاء القتلى، أما إذا قتل
ج/ 14 ص -75-رجل رجلا فالمقتول ميت، فهنا المقتول لا مقاصة فيه، ولكن القصاص أن يمكن من قتل القاتل لا غيره، وفى اعتبار المكافآت فيه قولان للفقهاء: قيل: تعتبر المكافآت فلا يقتل مسلم بذمى ولا حر بعبد، وهو قول الأكثرين مالك والشافعى وأحمد. وقيل: لا تعتبر المكآفات كقول أبى حنيفة، والمكافآت لا تسمى قصاصاً.
وأيضاً فإنه قال: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ" وإن أريد بالقصاص المكافآت فتلك لم تكتب، وإن أريد به استيفاء القَوَد فذلك مباح للولى، إن شاء اقتص وإن شاء لم يقتص فلم يكتب عليه الاقتصاص، وقد أورد هذا السؤال بعضهم وقال: هو مكتوب على القاتل أن يمكن من نفسه، فيقال له: هو تعالى قال: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى" وليس هذا خطاباً للقاتل وحده بل هو خطاب لأولياء المقتول، بدليل قوله تعالى: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" ثم لا يقال للقاتل: كتب عليك القصاص فى المقتول فإن المقتول لا قصاص فيه.
وأيضا، فنفس انقياد القاتل للولى ليس هو قصاصا، بل الولي له أن يقتص وله ألا يقتص، وإنما سمى هذا قوداً لأن الولى يقوده، وهو بمنزلة تسليم السلعة إلى المشترى، ثم قال تعالى: "الْحُرُّ بِالْحُرِّ" فكيف يقال: مثل هذا قصده القاتل، بل هذا الخطاب للأمة
ج/ 14 ص -76-بالمقاصة والمعادلة فى القتل. والنبى ﷺ إنما قال: "كتاب اللّه القصاص" لما كَسَرَتِ الرُّبَيِّع سِنّ جارية وامتنعوا من أخذ الأرْش، فقال أنس بن النضر: لا والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، فقال النبى ﷺ: "يا أنس، كتاب اللّه القصاص" فرضى القوم بالأرش، فقال النبى ﷺ: "إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبَرَّه"، كقوله تعالى: "ّالًجٍرٍوحّ قٌصّاصِ " [المائدة: 54]، يعنى "كتاب اللّّه" أن يؤخذ العضو بنظيره، فهذا قصاص لأنه مساواة؛ ولهذا كانت المكافآت فى الأعضاء والجروح معتبرة باتفاق العلماء، وإن قيل: القصاص هو أن يقتل قاتله لا غيره فهو خلاف الاعتداء، قيل: نعم! وهذا قصاص فى الأحياء لا فى القتلى.
الثانى: أنه قال: "فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى" ومعلوم باتفاق المسلمين أن العبد يقتل بالعبد وبالحر، والأنثى تقتل بالأنثى وبالذكر، والحر يقتل بالحر وبالأنثى أيضا عند عامة العلماء . وقيل: يشترط أن تؤدى تمام ديته، وإذا كان كذلك فقوله: "الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى" [البقرة: 178] إنما يدل على مقاصة الحر بالحر ومعادلته به ومقابلته به، وكذلك العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وهذا إنما يكون إذا كانوا مقتولين فيقابل كل واحد بالآخر، وينظر: أيتعادلان أم يفضل لأحدهما على الآخر فضل، أما فى القتلى فلا يختص هذا بهذا باتفاق المسلمين.
الثالث: أنه قال: "فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ" لفظ "عُفِيَ"
ج/ 14 ص -77-هنا قد استعمل متعديا؛ فإنه قال: "عُفِيَ"، "شَيْءٌ" ولم يقل: "عفا" "شيئا" وهذا إنما يستعمل فى الفعل، كما قال تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ" [البقرة: 219]، وأما العفو عن القتل فذاك يقال فيه: عفوت عن القاتل، فَوَلِىُّ المقتول بين خيرتين: بين أن يعفو عن القتل ويأخذ الدية فلم يعف له شىء، بل هو عفا عن القتل وإذا عفا فإما أن يستحق الدية بنفسه أو بغير رضا القاتل على قولين.
وقد قال بعضهم: "مِنْ أَخِيهِ" أى: من دم أخيه، أى: ترك له القتل ورضى بالدية، والمراد القاتل، يعنى: إن القاتل عفى له من دم أخيه المقتول، أى: ترك له القتل، فيكون التقدير: أن الولى عفى للقاتل من دم المقتول شيئاً، وهذا كلام لا يعرف، لا يقال: عفوت لك شيئاً، ولا يقال: عفوت من دم القاتل، وإنما الذى يقال: إنه عفا عن القاتل، فأين هذا من هذا؟
وأما على القول الأول، فالمتقاصان إذا تعادى القتلى فمن عفى له، أى: فضل له من مقاصة أخيه مقاصة أخرى، أى: هذا الذى فضل له فضل كما يقال: أبقى له من جهة أخيه بقية"فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ" فهذا المستحق للفضل يتبع المقاص الآخر بالمعروف، وذلك يؤدى إلى هذا بإحسان "ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" أى: من أن كل طائفة تؤدى قتلى الأخرى، فإن فى هذا تثقيلا عظيما له "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ" [البقرة: 179]، فإنهم
ج/ 14 ص -78-إذا تعادوا القتلى وتقاصوا وتعادلوا لم يبق واحدة تطلب الأخرى بشىء فحَيِىَ هؤلاء وَحيِىَ هؤلاء، بخلاف ما إذا لم يتقاصوا فإنهم يتقاتلون، وتقوم بينهم الفتن التى يموت فيها خلائق، كما هو معروف فى فتن الجاهلية والإسلام، وإنما تقع الفتن لعدم المعادلة والتناصف بين الطائفتين، وإلا فمع التعادل والتناصف الذى يرضى به أولو الألباب لا تبقى فتنة.
وقوله: "فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ" فطلب من الطائفة الأخرى مالا أو قوما أو أذاهم بسبب ما بينهم من الدم "فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" وهذا كقوله: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" [الحجرات: 9، 10]، و"الأخوة" هنا كالأخوة هناك وهذا فى قتلى الفتن.
وأما إذا قتل رجل رجلا من غير فتنة فهم كانوا يعرفون أن القاتل يقتل، لكن كانت الطائفة القوية تطلب أن تقتل غير القاتل، أو من هو أكثر من القاتل، أو اثنين بواحد، وإذا كان القاتل منها لم تقتل به من هو دونه، كما قيل: إنه كان بين قريظة والنضير، لكن هذا لم تُثَر به الفتن، بل فيه ظلم الطائفة القوية للضعيفة، ولم
ج/ 14 ص -79-يكن فى الأمم من يقول: إن القاتل الظالم المتعدى مطلقاً لا يقتل، فهذا لم يكن عليه أحد من بنى آدم، بل كل بنى آدم مطبقون على أن القاتل فى الجملة يقتل، لكن الظلمة الأقوياء يفرقون بين قتيل وقتيل.
وقول من قال: إن قوله: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ" [البقرة: 179]، معناه: أن القاتل إذا عرف أنه يقتل كف فكان فى ذلك حياة له وللمقتول، يقال له: هذا معنى صحيح، ولكن هذا مما يعرفه جميع الناس، وهو مغروز فى جِبِلَّتِهم، وليس فى الآدميين من يبيح قتل أحد من غير أن يقتل قاتله، بل كلهم مع التساوى يجوزون قتل القاتل ولا يتصور أن الناس... [بياض بالأصل] إذا كان كل من قَدَر على غيره قتله وهو لا يقتل يرضى بمال، وإذا كان هذا المعنى من أوائل ما يعرفه الآدميون ويعلمون أنهم لا يعيشون بدونه صار هذا مثل حاجتهم إلى الطعام والشراب والسكنى، فالقرآن أجل من أن يكون مقصوده التعريف بهذه الأمور البديهية، بل هذا مما يدخل فى معناه، وهو أنه إذا كتب عليهم القصاص فى المقتولين أنه يسقط حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى، فجعل دية هذا كدية هذا، ودم هذا كدم هذا متضمن لمساواتهم فى الدماء والديات، وكان بهذه المقاصة لهم حياة من الفتن التى توجب هلاكهم، كما هو معروف، وهذا المعنى مما يستفاد من هذه الآية، فعلم أن دم الحر وديته كدم الحر وديته فيقتل به، وإذا علم أن التقاص يقع للتساوى فى الديات علم أن للمقتول دية.
ج/ 14 ص -80-ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة، فيدل على أن اللّه أوجب العدل والإنصاف فى أمر القتلى، فمن قتل غير قاتله فهو ظالم، والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون، هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل، وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل .
وقد ذكر سبحانه هذا المعنى فى قوله: "وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا" [الإسراء: 33]، وإذا دلت على العدل فى القَوَد بطريق اللزوم والتنبيه ذهب الإشكال، ولم يقل: فلم لا قال: والعبد بالعبد والحر؟ فإنه لم يكن المقصود أنه يقاص به فى القتلى، ومعلوم أنه إنما يقاص الحر بالحر لا بالمرأة، والمرأة بالمرأة لا بالحر، والعبد بالعبد. فظهرت فائدة التخصيص به والمقابلة فى الآية.
ودلت الآية حينئذ على أن الحر يقتل بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى؛ إذا كانا متساويين فى الدم، وبدله هو الدية، ولم ينتف أن يقتل عبد بحر وأنثى بذكر، ولا لها مفهوم ينفى ذلك، بل كما دلت على ذلك بطريق التنبيه والفحوى والأولى، كذلك تدل على هذا أيضاً؛ فإنه إذا قتل العبد بالعبد فقتله بالحر أولى، وإذا قتلت المرأة بالمرأة فقتلها بالرجل أولى.
ج/ 14 ص -81-وأما قتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى فالآية لم تتعرض له لا بنفى ولا إثبات، ولا لها مفهوم يدل عليه، لا مفهوم موافقة ولا مخالفة؛ فإنه إذا كان فى المقاصة يقاس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لتساوى الديات، دل ذلك على قتل النظير بالنظير، والأدنى بالأعلى.
يبقى قتل الأعلى الكثير الدية بالأدنى القليل الدية، ليس فى الآية تعرض له؛ فإنه لم يقصد بها ابتداء القود، وإنما قصد المقاصة فى القتلى لتساوى دياتهم.
فإن قيل: دية الحر كدية الحر، ودية الأنثى كدية الأنثى، ويبقى العبيد قيمتهم متفاضلة؟
قيل: عبيدهم كانوا متقاربين القيمة، وقوله: "وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ" [البقرة: 178] قد يراد به بالعبد المماثل به، كما يقال: ثوب بثوب وإن كان أحدهما أغلى قيمة، فذاك مما عفى له، وقد يعفى إذا لم تعرف قيمتهم وهو الغالب، فإن المقتولين فى الفتن عبيدهم الذين يقاتلون معهم، وهم يكونون تربيتهم عندهم لم يشتروهم، فهذا يكون مع العلم بتساوى القيمة ومع الجهل بتفاضلها؛ فإن المجهول كالمعدوم، ولو أتلف كل من الرجلين ثوب الآخر ولا يعلم واحد منهما قيمة واحد من الثوبين، قيل: ثوب بثوب، وهذا لأن الزيادة محتملة من الطرفين؛ يحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى،
ج/ 14 ص -82-ويحتمل أن يكون ثوب هذا أغلى، وليس ترجيح أحدهما أولى من الآخر، والأصل براءة ذمة كل واحد من الزيادة، فلا تشتغل الذمة بأمر مشكوك فيه لو كان الشك فى أحدهما، فكيف إذا كان من الطرفين؟
فظهر حكمة قوله: "وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ"، وظهر بهذا أن القرآن دل على ما يحتاج الخلق إلى معرفته والعمل به، ويُحقن به دماؤهم ويحيون به، ودخل فى ذلك ما ذكره الآخرون من العدل فى القود.
ودلت الآية على أن القتلى يؤخذ لهم ديات، فدل على ثبوت الدية على القاتل، وأنها مختلفة باختلاف المقتولين، وهذا مما مَنَّ الله به على أمة محمد ﷺ، حيث أثبت القصاص والدية.
وأما كون العفو هو قبول الدية فى العمد، وأنه يستحق العافى بمجرد عفوه فالآية لم تتعرض لهذا.
ودلت هذه الآية على أن الطوائف المقتتلة تضمن كل منهما ما أتلفته الأخرى؛ من دم ومال بطريق الظلم؛ لقوله: "مِنْ أَخِيهِ" [البقرة: 178] بخلاف ما أتلفه المسلمون للكفار، والكفار للمسلمين.
وأما القتال بتأويل "كقتال أهل الجمل وصِفِّين" فلا ضمان فيه أيضا بطريق الأولى عند الجمهور، فإنه إذا كان الكفار المتأولون
ج/ 14 ص -83-لا يضمنون، فالمسلمون المتأولون أولى ألا يضمنوا.
ودلت الآية على أن هذا الضمان على مجموع الطائفة يستوى فيه الرِّدْء [الرًّدْءُ: المعين. انظر: المصباح المنير، مادة: ردؤ] والمباشر، لا يقال: انظروا من قتل صاحبكم هذا فطالبوه بديته بل يقال: ديته عليكم كلكم، فإنكم جميعاً قتلتموه؛ لأن المباشر إنما تمكن بمعاونة الردء له، وعلى هذا دل قوله: "وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا" [الممتحنة: 11]، فإن أولئك الكفار كان عليهم مثل صداق هذه المرأة التى ذهبت إليهم، فإذا لم يؤدوه أخذ من أموالهم التى يقدر المسلمون عليها، مثل امرأة جاءت منهم يستحقون صداقها، فيعطى المسلم زوج تلك المرتدة صداقها من صداق هذه المسلمة المهاجرة التى يستحقه الكفار؛ لكونها أسلمت وهاجرت وفوتت زوجها بُضْعَها كما فوتت المرتدة بضعها لزوجها وإن كان زوج المهاجرة ليس هو الذى تزوج بالمرتدة؛ لأن الطائفة لما كانت ممتنعة يمنع بعضها بعضا، صارت كالشخص الواحد.
ولهذا لما قتل خالد من قتل من بنى جذيمة وَدَاهُم النبى ﷺ من عنده؛ لأن خالداً نائبه وهو لا يمكنهم من مطالبته وحبسه لأنه متأول، وكذلك عَمرو بن أمية وقاتله خالد بن الوليد؛ لأنه قتل هذا على سبيل الجهاد لا لعداوة تخصه، وقد تنازع الفقهاء فى خطأ ولى الأمر؛ هل هو فى بيت المال أو على ذمته؟ على قولين.
ج/ 14 ص -84-ولهذا كان ما غنمته السَّرِيَّة يشاركها فيه الجيش، وما غنمه الجيش شاركته فيه السرية؛ لأنه إنما يغنم بعضهم بظهر بعض، فإذا اشتركوا فى المغرم اشتركوا فى المغنم، وكذلك فى العقوبة يقتل الرِّدْء والمباشر من المحاربين عند جماهير الفقهاء، كما قتل عمر رضى اللّه عنه ربيئة [أى طليعة. انظر: المصباح، مادة: ربأ] المحاربين، وهو قول مالك وأبى حنيفة وأحمد، وهو مذهب مالك فى القتل قوداً، وفى السراق أيضاً.
وبيان دلالة الآية على ذلك: أن المقتولين إذا حبس حر بحر وعبد بعبد وأنثى بأنثى، فالحر من هؤلاء ليس قاتله هو ولى الحر من هؤلاء، بل قد يكون غيره، وكذلك العبد من هؤلاء ليس قاتله هو سيد العبد من هؤلاء بل قد يكون غيره، لكن لما كانوا مجتمعين متناصرين على قتال أولئك ومحاربتهم كان من قتله بعضهم فكلهم قتله، وكلهم يضمنونه؛ ولهذا ما فضل لأحد الطائفتين يؤخذ من مال الأخرى.
فإن قيل: إذا كان مستقراً فى فِطَر بنى آدم أن القاتل الظالم لنظيره يستحق أن يقتل، وليس فى الآدميين من يقول: إنه لا يقتل، فما الفائدة فى قوله تعالى: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا" أى: فى التوراة "أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ"الآية [المائدة: 45]، إذا كان مثل هذا الشرع يعرفه العقلاء كلهم؟
قيل لهم: فائدته: بيان تساوى دماء بنى إسرائيل، وأن دماءهم
ج/ 14 ص -85-متكافئة ليس لشريفهم مزية على ضعيفهم، وهذه الفائدة الجليلة التى جاءت بها شرائع الأنبياء، فأما الطوائف الخارجون عن شرائع الأنبياء فلا يحكمون بذلك مطلقاً، بل قد لا يقتلون الشريف، وإذا كان الملك عادلا فقد يفعل بعض ذلك، فهذا الذى كتبه الله فى التوراة من تكافؤ دمائهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فحكم أيضاً فى المؤمنين به من جميع الأجناس بتكافؤ دمائهم، فالمسلم الحر يقتل بالمسلم الحر من جميع الأجناس باتفاق العلماء.
وبهذا ظهر الجواب عن احتجاج من احتج بآية التوراة على أن المسلم يقتل بالذمى؛ لقوله: "وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ" و"شَرْعُ من قَبْلنا شَرْعٌ لنا"، فإنه يقال: الذى كتب عليهم أن النفس منهم بالنفس منهم، وهم كلهم كانوا مؤمنين، لم يكن فيهم كافر، ولم يكن فى شريعتهم إبقاء كافر بينهم لا بجزية ولا غيرها، وهذا مثل شرع محمد ﷺ؛ أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، وليس فى الشريعتين أن دم الكافر يكافئ دم المسلم، بل جعل الإيمان هو الواجب للمكافآت دليل على انتفاء ذلك فى الكافر سواء كان ذمياً أو مستأمناً لانتفاء الإيمان الواجب للمكافأة فيه، نعم يحتج بعمومه على العبد.
وليس فى العبد نصوص صريحة صحيحة كما فى الذمى، بل ما روى: "من قتل عبده قتلناه به"، وهذا لأنه إذا قتله ظالماً كان الإمام ولى
ج/ 14 ص -86-دمه؛ لأن القاتل كما لا يرث المقتولَ إذا كان حراً، فكذلك لا يكون ولى دمه إذا كان عبداً، بل هذا أولى، كيف يكون دمه وهو القاتل؟ بل لا يكون ولى دمه، بل ورثة القاتل السيد، لأنهم ورثته وهو بالحياة ولم يثبت له ولاية حتى تنتقل إليهم فيكون وليه الإمام. وحينئذ فللإمام قتله، فكل من قتل عبده كان للإمام أن يقتله.
و أيضا، فقد ثبت بالسنة والآثار أنه إذا مَثّل بعبده عتق عليه، وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقتله أشد أنواع المثْل، فلا يموت إلا حراً، لكن حريته لم تثبت فى حال الحياة حتى يرثه عصبته، بل حريته ثبتت حكما، وهو إذا كان عتق كان ولاؤه للمسلمين، فيكون الإمام هو وليه، فله قتل قاتل عبده.
وقد يحتج بهذا من يقول: إن قاتل عبد غيره لسيده قتله، وإذا دل الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح، والقول الآخر ليس معه نص صريح ولا قياس صحيح، وقد قال الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم: من قتل ولا ولى له كان الإمام ولى دمه، فله أن يقتل، وله أن يعفو على الدية، لا مجاناً.
يؤيد هذا أن من قال: لا يقتل حر بعبد يقول: إنه لا يقتل الذمى الحر بالعبد المسلم، قال اللّه تعالى فى كتابه: "وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ" [البقرة: 221]،
ج/ 14 ص -87-فالعبد المؤمن خير من الذمى المشرك، فكيف لا يقتل به؟! والعبد المؤمن مثل الحرائر المؤمنات، كما دلت عليه هذه الآية، وهو قول جماهير السلف والخلف، وهذا قوى على قول أحمد؛ فإنه يجوز شهادة العبد كالحر، بخلاف الذمى، فلماذا لا يقتل الحر بالعبد وكلهم مؤمنون، وقد قال النبى ﷺ: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" ؟!.
ج/ 14 ص -88-قال شيخ الإِسلاَم رَحِمهُ اللَّه :
قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ" [البقرة: 217] من باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه، فلم قدّم الشهر وقد قلتم: إنهم يقدمون ما بيانه أهم وهم به أعنى؟
قيل: السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال فى الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم انتهاكه وانتهاك حرمته، وكان اهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال، فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر، فلذلك قدم فى الذِّكْر، وكان تقديمه مطابقا لما ذكرنا من القاعدة.
فإن قيل: فما الفائدة فى إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر، وهلا اكتفى بضميره فقال: هو كبير؟ وأنت إذا قلت: سألته عن زيد هو فى الدار كان أوجز من أن تقول: أزيد فى الدار؟
قيل: فى إعادته بلفظ الظاهر بلاغة بديعة، وهو تعليق الحكم الخبرى باسم القتال فيه عموماً، ولو أتى بالمضمر فقال: هو كبير، لتَوَهَّم اختصاص الحكم بذلك القتال المسؤول عنه. وليس الأمر كذلك؛
ج/ 14 ص -89-وإنما هو عام فى كل قتال وقع فى شهر حرام.
ونظير هذه القاعدة قوله ﷺ وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال: "هو الطَّهُور ماؤه"، فأعاد لفظ الماء ولم يقتصر على قوله: "نعم توضؤوا به"؛ لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص فعدل عن قوله: "نعم توضؤوا"إلى جواب عام يقتضى تعليق الحكم والطهور به بنفس مائه من حيث هو، فأفاد استمرار الحكم على الدوام، وتعلقه بعموم الأمة، وبطل توهم قصره على السبب، فتأمله فإنه بديع.
فكذلك فى الآية لما قال: "قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ"، فجعل الخبر ب "كَبِيرٌ" واقعا عن "قِتَالٌ فِيهِ" فيتعلق الحكم به على العموم، ولفظ "المضمر" لا يقتضى ذلك.
وقريب من هذا قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين" [الأعراف: 170] ولم يقل: أجرهم، تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين، وليس فى الضمير ما يدل على الوصف المذكور.
وقريب منه وهو ألطف منه قوله تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ" [البقرة: 222]،
ج/ 14 ص -90-ولم يقل فيه تعليقاً بحكم الاعتزال بنفس الحيض، وأنه هو سبب الاعتزال، وقال: "قُلْ هُوَ أَذًى" ولم يقل: "المحيض أذى" لأنه جاء به على الأصل، ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات، وكان ذكره بلفظ الظاهر فى الأمر بالاعتزال أحسن من ذكره مضمرا ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضا، بخلاف قوله: "قُلْ هُوَ أَذًى" فإنه إخبار بالواقع، والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضاً، بخلاف تعليق الحكم به، فإنه إنما يعلم بالشرع، فتأمله.
ج/ 14 ص -91-سُئِلَ شيخ الإسلام، عن قوله تعالى: "وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ" [البقرة: 221]، وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية واليهودية، فهل هما من المشركين أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، نكاح الكتابية جائز بالآية التى فى المائدة قال تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ" [المائدة: 5]، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد روى عن ابن عمر؛ أنه كره نكاح النصرانية، وقال: لا أعلم شركا أعظم ممن تقول: إن ربها عيسى ابن مريم.
وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع، وقد احتجوا بالآية التى فى سورة البقرة وبقوله: "وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ" [الممتحنة: 10]، والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أهل الكتاب لم يدخلوا فى المشركين، فجعل أهل الكتاب غير المشركين، بدليل قوله: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا" [الحج: 17].
ج/ 14 ص -92-فإن قيل: فقد وصفهم بالشرك بقوله: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة: 31]، قيل: أهل الكتاب ليس فى أصل دينهم شرك؛ فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد، فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن فى أصل دينهم شرك، ولكن النصارى ابتدعوا الشرك، كما قال: "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" [ يونس: 18، والروم: 40، والزمر: 67]، فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذى لم يأمر الله به، وحيث ميزهم عن المشركين، فلأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التى جاءت بالتوحيد لا بالشرك.
فإذا قيل: أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين؛ فإن الكتاب الذى أضيفوا إليه لا شرك فيه، كما إذا قيل: المسلمون وأمة محمد لم يكن فيهم من هذه الجهة لا اتحاد، ولا رفض، ولا تكذيب بالقدر، ولا غير ذلك من البدع، وإن كان بعض الداخلين فى الأمة قد ابتدع هذه البدع، لكن أمة محمد ﷺ لا تجتمع على ضلالة. فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد، بخلاف أهل الكتاب، ولم يخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم، بل قال: "عَمَّا يُشْرِكُونَ" بالفعل، وآية البقرة قال فيها:
ج/ 14 ص -93-"المشركين" و "المشركات" بالاسم، والاسم أوكد من الفعل.
الوجه الثانى: أن يقال: إن شملهم لفظ "المشركين" فى سورة البقرة كما وصفهم بالشرك، فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفرداً ومقروناً، فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب، وإذا قرنوا بأهل الكتاب لم يدخلوا فيهم، كما قيل مثل هذا فى اسم الفقير والمسكين ونحو ذلك، فعلى هذا يقال: آية البقرة عامة، وتلك خاصة، والخاص يقدم على العام.
الوجه الثالث: أن يقال: آية المائدة ناسخة لآية البقرة؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء، وقد جاء فى الحديث المائدة من [آخر ما وجد من الأصل].
ج/ 14 ص -94-وقال شيخ الإِسَلام رَحِمهُ الله:
فصل
لما ذكر سبحانه ما يبطل الصدقة من المن والأذى ومن الرياء، ومثله بالتراب على الصَّفْوان [أى الحجارة الملس. انظر: المصباح المنير، مادة: صفو] إذا أصابه المطر؛ ولهذا قال: "وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" [البقرة: 264]، لأن الإيمان بأحدهما لا ينفع هنا، بخلاف قوله فى النساء: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا" إلى قوله: "وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ" [النساء: 36-38].
فإنه فى معرض الذم، فذكر غايته وذكر ما يقابله وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم.
فالأول الإخلاص.
والتثبيت: هو التثبت كقوله: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا" [النساء: 66]، كقوله: "وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا" [المزمل: 8]، ويشبه والله أعلم أن يكون هذا من باب قدم وتقدم كقوله: "لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [الحجرات: 1]
ج/ 14 ص -95-فتبتل وتثبت لازم بمعنى ثبت...[هنا كلمات غير متضحة] لأن التثبت هو القوة والمكنة، وضده الزلزلة والرَّجْفَة، فإن الصدقة من جنس القتال، فالجبان يرجف، والشجاع يثبت؛ ولهذا قال النبى ﷺ: "وأما الخيلاء التى يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند الحرب، واختياله بنفسه عند الصدقة" لأنه مقام ثبات وقوة، فالخيلاء تناسبه، وإنما الذى لا يحبه الله المختال الفخور البخيل الآمر بالبخل، فأما المختال مع العطاء أو القتال فيحبه.
وقوله: "من أنفسهم" أى: ليس المقوى له من خارج كالذى يثبت وقت الحرب لإمساك أصحابه له، وهذا كقوله: "وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ" [الشورى: 37]، بل تثبته ومغفرته من جهة نفسه.
وقد ذكر الله سبحانه فى البقرة والنساء الأقسام الأربعة فى العطاء.
إما ألا يعطى فهو البخيل المذموم فى النساء، أو يعطى مع الكراهة والمن والأذى، فلا يكون بتثبيت وهو المذموم فى البقرة، أو مع الرياء فهو المذموم فى السورتين، فبقى القسم الرابع: ابتغاء رضوان اللّه وتثبيتاً من أنفسهم.
ج/ 14 ص -96-ونظيره الصلاة؛ إما ألا يصلى، أو يصلى رياء أو كسلان، أو يصلى مخلصاً، والأقسام الثلاثة الأُول مذمومة. وكذلك الزكاة، ونظير ذلك الهجرة والجهاد؛ فإن الناس فيهما أربعة أقسام، وكذلك "إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً" [الأنفال: 45] فى الثبات والذكر، وكذلك "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" [البلد: 17] فى الصبر والمرحمة أربعة أقسام، وكذلك "وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ" [البقرة: 45] فهم...[هنا كلمات غير متضحة] فى الصبر والصلاة.
فعامة هذه الأشفاع التى فى القرآن: إما عملان، و إما وصفان فى عمل؛ انقسم الناس فيها قسمة رباعية، ثم إن كانا عملين منفصلين كالصلاة والصبر، والصلاة والزكاة ونحو ذلك نفع أحدهما ولو ترك الآخر، وإن كانا شرطين فى عمل كالإخلاص والتثبت لم ينفع أحدهما، فإن المن والأذى محبط، كما أن الرياء محبط، كما دل عليه القرآن، ومن هذا تقوى اللّه وحسن الخلق؛ فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والبر والتقوى والحق والصبر، وأفضل الإيمان السماحة والصبر.
بخلاف الأشفاع فى الذم كالإفك والإثم، والاختيال والفخر، والشح والجبن، والإثم والعدوان؛ فإن الذم ينال أحدهما مفرداً
ج/ 14 ص -97-ومقروناً، لأن الخير من باب المطلوب وجوده لمنفعته، فقد لا تحصل المنفعة إلا بتمامه، والشر يطلب عدمه لمضرته وبعض المضار يضر فى الجملة غالباً؛ ولهذا فرق فى الأسماء بين الأمر والنهى، والإثبات والنفى، فإذا أمر بالشىء اقتضى كماله، وإذا نهى عنه اقتضى النهى عن جميع أجزائه؛ ولهذا حيث أمر الله بالنكاح كما في المطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، وكما في الإحصان - فلابد من الكمال بالعقد والدخول، وحيث نهى عنه كما فى ذوات المحارم فالنهى عن كل منهما على انفراده، وهذا مذهب مالك وأحمد المنصوص عنه أنه إذا حلف ليتزوجن لم يَبَرَّ إلا بالعُقْدَة والدخول، بخلاف ما إذا حلف لا يتزوج فإنه يحنث بالعقدة، وكذلك إذا حلف لا يفعل شيئاً حنث بفعل بعضه، بخلاف ما إذا حلف ليفعلنه، فإن دلالة الاسم على كل وبعض تختلف باختلاف النفى والإثبات.
ولهذا لما أمر الله بالطهارة والصلاة والزكاة والحج كان الواجب الإتمام، كما قال تعالى: "بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ" [البقرة: 124] وقال: "وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى" [النجم: 37].
ولما نهى عن القتل والزنا والسرقة والشرب كان ناهياً عن أبعاض ذلك، بل وعن مقدماته أيضاً، وإن كان الاسم لا يتناوله فى الإثبات؛ ولهذا فرق فى الأسماء النكرات بين النفى والإثبات، والأفعال كلها
ج/ 14 ص -98-نكرات، وفرق بين الأمر والنهى بين التكرار وغيره، وقال ﷺ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه".
وإنما اختلف فى المعارف المنفية على روايتين، كما فى قوله: لا تأخذ الدراهم، ولا تكلم الناس.
ج/ 14 ص -99-وَقَالَ شيخ الإِسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه:
فصل
فى قوله تعالى: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [البقرة: 284]، قد ثبت فى صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة، قال: لما أنزل اللّه: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" اشتد ذلك على أصحاب النبى ﷺ، فأتوا رسول الله ﷺ ثم بَرَكُوا على الركب، وقالوا: أى رسول الله ! كُلِّفْنَا من العمل ما نُطِيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة؛ وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله ﷺ: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، فلما قرأها القوم وذَلَّتْ بها ألسنتهم أنزل الله فى أثرها:
ج/ 14 ص -100-"آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [ البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل اللّه: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" قال: "نعم"، "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" قال: "نعم"، "رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ" قال: "نعم"، "وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" [البقرة: 286]، قال: "نعم".
وروى سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس معناه، وقال: "قد فَعَلْتُ، قد فَعَلْتُ"، بدل "نعم".
ولهذا قال كثير من السلف والخلف: إنها منسوخة بقوله: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"، كما نقل ذلك عن ابن مسعود، وأبى هريرة، وابن عمر، وابن عباس فى رواية عنه، والحسن، والشَّعْبِى، وابن سِيرِين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراسانى، والسُّدِّىّ، ومحمد بن كعب، ومقاتل، والكلبى، وابن زيد، ونقل عن آخرين أنها ليست منسوخة، بل هى ثابتة فى المحاسبة على العموم، فيأخذ من يشاء ويغفر لمن يشاء، كما نقل ذلك عن ابن عمر، والحسن،
ج/ 14 ص -101-واختاره أبو سليمان الدمشقى والقاضى أبو يعلى، وقالوا: هذا خبر، والأخبار لا تنسخ.
وفصل الخطاب: أن لفظ "النسخ" مجمل، فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه، من عموم أو إطلاق أو غير ذلك، كما قال من قال: إن قوله: "اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ" [آل عمران: 102]، "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ" [الحج: 78]، نسخ بقوله: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]، وليس بين الآيتين تناقض، لكن قد يفهم بعض الناس من قوله: "حَقَّ تُقَاتِهِ" و "حَقَّ جِهَادِهِ" الأمر بما لا يستطيعه العبد فينسخ ما فهمه هذا، كما ينسخ اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم اللّه آياته. وإن لم يكن نسخ ذلك نسخ ما أنزله، بل نسخ ما ألقاه الشيطان، إما من الأنفس أو من الأسماع أو من اللسان.
وكذلك ينسخ اللّه ما يقع فى النفوس من فهم معنى، وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل وهذه الآية من هذا الباب؛ فإن قوله: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ" الآية إنما تدل على أن اللّه يحاسب بما فى النفوس لا على أنه يعاقب على كل ما فى النفوس، وقوله: "لِمَن يَشَاء" يقتضى أن الأمر إليه فى المغفرة والعذاب لا إلى غيره .
ولا يقتضى أنه يغفر ويعذب بلا حكمة ولا عدل، كما قد يظنه من يظنه من
ج/ 14 ص -102-الناس، حتى يجوزوا أنه يعذب على الأمر اليسير من السيئات مع كثرة الحسنات وعظمها، وأن الرجلين اللذين لهما حسنات وسيئات يغفر لأحدهما مع كثرة سيئاته وقلة حسناته، ويعاقب الآخر على السيئة الواحدة مع كثرة حسناته، ويجعل درجة ذاك فى الجنة فوق درجة الثانى.
وهؤلاء يجوزون أن يعذب اللّه الناس بلا ذنب، وأن يكلفهم ما لا يطيقون ويعذبهم على تركه، والصحابة إنما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس، فقالوا: لا طاقة لنا بهذا؛ فإنه إن كلفنا ما لا نطيق عذبنا، فنسخ اللّه هذا الظن، وبين أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون: إنه يكلف العبد ما لا يطيقه، ويعذبه عليه، وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف والأئمة، بل أقوالهم تناقض ذلك، حتى إن سفيان بن عيينة سئل عن قوله: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [البقرة: 286]، قال: إلا يسرها، ولم يكلفها طاقتها. قال البغوى: وهذا قول حسن؛لأن الوسع ما دون الطاقة، وإنما قاله طائفة من المتأخرين لما ناظروا المعتزلة فى "مسائل القدر" وسلك هؤلاء مسلك الجبر، جَهْم وأتباعه، فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب، وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع.
قال ابن الأنبارى فى قوله: "وَلاَتُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ" [البقرة: 286] أى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تَجشُّم وتحمل
ج/ 14 ص -103-مكروه، قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإن الرجل منهم يقول للرجل: ما أطيق النظر إليك، وهومطيق لذلك، لكنه ثقيل عليه النظر إليه قال: ومثله قوله: "مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ" [هود: 20].
قلت: ليست هذه لغة العرب وحدهم، بل هذا مما اتفق عليه العقلاء. والاستطاعة فى الشرع هى ما لا يحصل معه للمكلف ضرر راجح، كاستطاعة الصيام والقيام، فمتى كان يزيد فى المرض أو يؤخر البرء لم يكن مستطيعاً؛ لأن فى ذلك مضرة راجحة، بخلاف هؤلاء فإنهم كانوا لا يستطيعون السمع لبغض الحق وثقله عليهم؛إما حسداً لقائله، وإما اتباعاً للهوى ورين الكفر والمعاصى على القلوب، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.
والمقصود أن السلف لم يكن فيهم من يقول: إن العبد لا يكون مستطيعاً إلا فى حال فعله، وأنه قبل الفعل لم يكن مستطيعاً، فهذا لم يأت الشرع به قط، ولا اللغة، ولا دل عليه عقل، بل العقل يدل على نقيضه، كما قد بسط فى غير هذا الموضع.
والرب تعالى يعلم أن العبد لا يفعل الفعل مع أنه مستطيع له، والمعلوم أنه لا يفعله، ولا يريده لا أنه لا يقدر عليه، والعلم يطابق
ج/ 14 ص -104-المعلوم، فاللّه يعلم ممن استطاع الحج والقيام والصيام أنه مستطيع، ويعلم أن هذا مستطيع يفعل مستطاعه، فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد، لا لعدم استطاعته، كالمقدورات له التى يعلم أنه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها، والعبد قادر على أن يفعل، وقد علم اللّه أنه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذبه لأنه إنما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع، ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.
وإذا قيل: فيلزم أن يكون قادراً على تغيير علم اللّه؛ لأن اللّه علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم اللّه.
قيل: هذه مغلطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا يلزم فيها تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه، لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم اللّه بعدم وقوعه، بل إن وقع كان اللّه قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان اللّه قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعرف علم اللّه إلا بما يظهر، و علم اللّه مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شىء يستلزم تغيير العلم، بل أى شىء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذى لم يفعل لم يأت بشىء يغير العلم، بل هو قادر على فعل ما لم يقع،
ج/ 14 ص -105-ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع.
وإذا قيل: فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم.
قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه، وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فإذا وقع كان اللّه عالماً أنه سيقع، وإذا لم يقع كان اللّه عالماً بأنه لا يقع البَتةَ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هى محال.
ومما يلزم هؤلاء ألاّ يبقى أحد قادراً على شىء إلا الرب؛ فإن الأمور نوعان: نوع علم اللّه أنه سيكون، ونوع علم الله أنه لا يكون.
فالأول لابد من وقوعه، والثانى لا يقع البتة. فما علم الله أنه سيقع يعلم أنه يقع بمشيئته وقدرته، وما علم أنه لا يقع يعلم أنه لا يشاؤه، وهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ج/ 14 ص -106-وأما "المعتزلة" فعندهم أنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأولئك "المجبرة" فى جانب، وهؤلاء فى جانب، وأهل السنة وَسَط.
وما يفعله العباد باختيارهم يعلم سبحانه أنهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وهو سبحانه الخالق للعباد ولقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، وكل ذلك مقدور للرب، وليس هذا مقدوراً بين قادرين، بل القادر المخلوق هو وقدرته ومقدوره مقدور للخالق مخلوق له.
والمقصود هنا أن قوله تعالى: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" [البقرة: 284] حق، والنسخ فيها هو رَفْع فَهْم من فَهِم من الآية ما لم تدل عليه، فمن فهم أن الله يكلف نفساً ما لا تسعه فقد نسخ فهمه وظنه، ومن فهم منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه، فقوله: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [البقرة: 286] رد للأول، وقوله: "لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" رد للثانى، وقوله: "فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء" كقوله فى آل عمران: "وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [آل عمران: 129]، وقوله: "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [المائدة: 40]، ونحو ذلك.
ج/ 14 ص -107-وقد علمنا أنه لا يغفر أن يشرك به، وأنه لا يعذب المؤمنين، وأنه يغفر لمن تاب، كذلك قوله: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ" الآية.
ودلت هذه الآية على أنه سبحانه يحاسب بما فى النفوس، وقد قال عمر: زِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. والمحاسبة تقتضى أن ذلك يحسب ويحصى.
وأما المغفرة والعذاب، فقد دل الكتاب والسنة على أن من فى قلبه الكفر وبغض الرسول وبغض ما جاء به أنه كافر بالله ورسوله، وقد عفى الله لهذه الأمة وهم المؤمنون حقاً، الذين لم يرتابوا عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل، كما هو فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وابن عباس، وروى عن النبى ﷺ: أن الذى يهم بالحسنة تكتب له، والذى يهم بالسيئة لا تكتب عليه حتى يعملها إذا كان مؤمناً من عادته عمل الحسنات وترك السيئات، فإن ترك السيئة للّه كتبت له حسنة، فإذا أبدى العبد ما فى نفسه من الشر بقول أو فعل صار من الأعمال التى يستحق عليها الذم والعقاب،
ج/ 14 ص -108-وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمناً لترك الإيمان بالله والرسول مثل الشك فيما جاء به الرسول أو بغضه كان معاقباً على ما أخفاه فى نفسه من ذلك؛ لأنه ترك الإيمان الذى لا نجاة ولا سعادة إلا به، وأما إن كان وسواسا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان، كما هو مصرح به فى الصحيح.
وهذه "الوسوسة" هى مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان، وقد خاف من خاف من الصحابة من العقوبة على ذلك، فقال تعالى: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [البقرة: 286].
و"الوُسْع" فعل بمعنى المفعول، أى: ما يسعه، لا يكلفها ما تضيق عنه فلا تسعه، وهو المقدور عليه المستطاع، وقال بعض الناس: إن "الوسع" اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه.وليس كذلك، بل ما يسع الإنسان هو مباح له، وما لم يسعه ليس مأموراً به فما يسعه قد يؤمر به وأما ما لا يسعه فهو المباح يقال: يسعنى أن أفعل كذا، ولا يسعنى أن أفعل كذا، والمباح هو الواسع، ومنه باحة الدار، فالمباح لك أن تفعله هو يسعك ولا تخرج عنه، ومنه يقال: رحم الله من وسعته السُّنَّة فلم يتعدها إلى البدعة، أى: فيما أمر اللّه به وما
ج/ 14 ص -109-أباحه ما يكفى المؤمن المتبع فى دينه ودنياه لا يحتاج أن يخرج عنه إلى ما نهى عنه.
وأما ما كلفت به فهو ما أمرت بفعله، وذلك يكون مما تسعه أنت لا مما يسعك هو، وقد يقال: لا يسعنى تركه، بل تركه محرم، وقد قال تعالى: "تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا" [البقرة: 187]، وهو أول الحرام، وقال: "تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا" [البقرة: 229]، وهى آخر الحلال، وقال: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ" [الأنفال: 53]. وهذا التغيير نوعان:
أحدهما: أن يبدو ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب.
والثانى: أن يغيروا الإيمان الذى فى قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر اللّه به ورسوله، فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور.
وكذلك ما فى النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة. فإذا خلى القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات.
ج/ 14 ص -110-وبهذا التفصيل تزول شبه كثيرة، ويحصل الجمع بين النصوص، فإنها كلها متفقة على ذلك، فالمنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يعاقبون على أنهم لم تؤمن قلوبهم، بل أضمرت الكفر، قال تعالى: "يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" [الفتح: 11]، وقال: "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ" [البقرة: 10]، وقال: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ" [المائدة: 41]، فالمنافق لابد أن يظهر فى قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره، كما قال عثمان بن عفان: ما أسَرّ أحد سريرة إلا أظهرها اللّه على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه، وقد قال تعالى عن المنافقين: "وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ" ثم قال: "وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ" [محمد: 30]، وهو جواب قسم محذوف، أي: واللّه لتعرفهم فى لحن القول، فمعرفة المنافق في لحن القول لابد منها، وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة.
ولما كانت هذه الآية: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ" خبرا من اللّه؛ ليس فيها إثبات إيمان للعبد، بخلاف الآيتين بعدها، كما قال النبى ﷺ: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما فى ليلة كفتاه" متفق عليه، وهما قوله: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ" إلى آخرها [البقرة: 285].
وكلام السلف يوافق ما ذكرناه، قال ابن عباس: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يقول: إنى أخبركم بما أخفيتم فى أنفسكم
ج/ 14 ص -111-مما لم تطلع عليه ملائكتى، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: "يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" يقول: يخبركم به اللّه، وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب، وهو قوله: "فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء" [البقرة: 284].
وقد روى عن ابن عباس: أنها نزلت فى كتمان الشهادة، وروى ذلك عن عكرمة والشعبى، وكتمان الشهادة من باب ترك الواجب، وذلك ككتمان العيب الذى يجب إظهاره، وكتمان العلم الذى يحب إظهاره، وعن مجاهد: أنه الشك واليقين، وهذا أيضاً من باب ترك الواجب؛ لأن اليقين واجب. وروى عن عائشة: ما أعلنت فإن الله يحاسبك به، وأما ما أخفيتَ فما عجلتْ لك به العقوبة فى الدنيا. وهذا قد يكون مما يعاقب فيه العبد بالغم، كما سئل سفيان بن عيينة عن غم لا يعرف سببه قال: هو ذنب هممت به فى سرك ولم تفعله، فجزيت هَمًّا به.
فالذنوب لها عقوبات؛ السر بالسر، والعلانية بالعلانية، وروى عنها مرفوعا قالت: سألت رسول اللّه ﷺ عن هذه الآية: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" فقال: "يا عائشة، هذه معاتبة الله العبد مما يصيبه من النَّكْبَةِ والحمى، حتى الشوكة والبِضَاعَة يضعها فى كمِّه فيفقدها فَيُرَوعُ لها فيجدها فى جيبه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير".
ج/ 14 ص -112-قلت: هذا المرفوع هو والله أعلم بيان ما يعاقب به المؤمن فى الدنيا؛ وليس فيه أن كل ما أخفاه يعاقب به، بل فيه أنه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك، وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة.
وقد روى الرويانى [أبو بكر محمد بن هارون الرويانى، من حفاظ الحديث، له مسند، وتصانيف فى الفقه. نسبته إلى رويان بنواحى طبرستان، وتوفى سنة 703ه] فى مسنده من طريق الليث عن يزيد بن أبى حبيب، عن سعيد ابن سِنان، عن أنس، عن رسول اللّه ﷺ أنه قال: "إذا أراد اللّه بعبده الخير عَجَّل له العقوبة فى الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه العقوبة بذنبه حتى يوافيه بها يوم القيامة"، وقد قال تعالى: "فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [آل عمران: 153، 154].
فهؤلاء كانوا فى ظنهم ظن الجاهلية ظنا ينافى اليقين بالقدر، وظنا ينافى بأن اللّه ينصر رسوله، فكان عقابهم على ترك اليقين ووجود الشك، وظن الجاهلية، ومثل هذا كثير.
ج/ 14 ص -113-ومما يدخل فى ذلك نيات الأعمال، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. والنية: هى مما يخفيه الإنسان فى نفسه، فإن كان قصده ابتغاء وجه ربه الأعلى استحق الثواب، وإن كان قصده رياء الناس استحق العقاب، كما قال تعالى: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ" [الماعون: 4 6] وقال: "وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ" [النساء: 142].
وفى حديث أبى هريرة الصحيح فى الثلاثة الذين أول من تُسَعَّر بهم النار: فى الذى تَعَلَّم وعَلَّم ليقال: عالم وقارئ، والذى قاتل ليقال: جرىء وشجاع، والذى تصدق ليقال: جواد وكريم. فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم، وتعظيمهم لهم وطلب الجاه عندهم، لم يقصدوا بذلك وجه اللّه، وإن كانت صور أعمالهم صوراً حسنة، فهؤلاء إذا حوسبوا كانوا ممن يستحق العذاب، كما فى الحديث: "من طلب العلم ليُبَاهِى به العلماء، أو ليُمَارِى به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار"، وفى الحديث الآخر: "من طلب علما مما يبتغى به وجه اللّه لا يطلبه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يُرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام".
وفى الجملة، القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا
ج/ 14 ص -114-خبث خبثت جنوده، وهذا كما فى حديث النعمان بن بشير المتفق عليه أن النبى ﷺ قال: "إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهى القلب فصلاحه وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده، فيكون هذا مما أبداه لا مما أخفاه.
وكل ما أوجبه اللّه على العباد لابد أن يجب على القلب فإنه الأصل، وإن وجب على غيره تبعا، فالعبد المأمور المنهى إنما يعلم بالأمر والنهى قلبه، وإنما يقصد الطاعة والامتثال القلب، والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به، كالصلاة، والزكاة، والصيام. وإذا كان العبد قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال، كان أول المعصية منه، بل كان هو العاصى وغيره تبع له فى ذلك؛ ولهذا قال فى حق الشقى: "فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى" [القيامة: 31، 32] الآيات، وقال فى حق السعداء: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"[الكهف: 30] فى غير موضع.والمأمور نوعان:
نوع هو عمل ظاهر على الجوارح، وهذا لا يكون إلا بعلم القلب وإرادته. فالقلب هو الأصل فيه، كالوضوء والاغتسال، وكأفعال الصلاة؛ من القيام، والركوع، والسجود، وأفعال الحج؛ من الوقوف، والطواف،
ج/ 14 ص -115-وإن كانت أقوالا فالقلب أخص بها، فلابد أن يعلم القلب وجود ما يقوله، أو بما يقول ويقصده.
ولهذا كانت الأقوال فى الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده، فأما المجنون والطفل الذى لا يميز فأقواله كلها لغو فى الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود، ولاشىء من الأقوال باتفاق المسلمين، وكذلك النائم إذا تكلم فى منامه، فأقواله كلها لغو، سواء تكلم المجنون والنائم بطلاق أو كفر أوغيره، وهذا بخلاف الطفل؛ فإن المجنون والنائم إذا أتلف مالا ضمنه، ولو قتل نفساً وجبت ديتها كما تجب دية الخطأ.
وتنازع العلماء فى السكران، مع اتفاقهم أنه لا تصح صلاته؛لقوله ﷺ: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفَرِّقوا بينهم فى المضاجع" وهو معروف فى السنن.
وتنازعوا فى عقود السكران كطلاقه، و فى أفعاله المحرمة، كالقتل والزنا، هل يجرى مجرى العاقل، أو مجرى المجنون، أو يفرق بين أقواله وأفعاله وبين بعض ذلك وبعض؟ على عدة أقوال معروفة.
والذى تدل عليه النصوص والأصول وأقوال الصحابة: أن أقواله هدر كالمجنون لا يقع بها طلاق ولا غيره؛ فإن الله تعالى قد قال:
ج/ 14 ص -116-"حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ" [النساء: 43]، فدل على أنه لا يعلم ما يقول، والقلب هو الملك الذى تصدر الأقوال والأفعال عنه، فإذا لم يعلم ما يقول لم يكن ذلك صادراً عن القلب، بل يجرى مجرى اللغو، والشارع لم يرتب المؤاخذة إلا على ما يكسبه القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة، كما قال: "وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" [البقرة: 225]، ولم يؤاخذ على أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب ولم يتعمدها، وكذلك ما يحدث به المرء نفسه لم يؤاخذ منه إلا بما قاله أو فعله، وقال قوم: إن اللّه قد أثبت للقلب كسباً فقال: "بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" فليس للّه عبد أسَرّ عملاً أو أعلنه من حركة فى جوارحه، أو هَمٍّ فى قلبه، إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه، ثم يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء.
واحتجوا بقوله تعالى: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" [الإسراء: 36]، وهذا القول ضعيف شاذ؛فإن قوله: "يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" إنما ذكره لبيان أنه يؤاخذ فى الأعمال بما كسب القلب، لا يؤاخذ بلغو الأيمان، كما قال: "بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ" [المائدة: 89]، فالمؤاخذة لم تقع إلا بما اجتمع فيه كسب القلب مع عمل الجوارح، فأما ما وقع فى النفس، فإن الله تجاوز عنه ما لم يتكلم به أو يعمل، وما وقع من لفظ أو حركة بغير قصد القلب وعلمه فإنه لا يؤاخذ به.
وأيضا، فإذا كان السكران لا يصح طلاقه والصبى المميز تصح
ج/ 14 ص -117-صلاته، ثم الصبى لا يقع طلاقه، فالسكران أولى، وقد قال النبى ﷺ لماعز لما اعترف بالحد: "أبك جنون؟" قال: لا، ثم أمر باستنكاهه لئلا يكون سكران، فدل على أن إقرار السكران باطل، وقضية ماعز متأخرة بعد تحريم الخمر؛ فإن الخمر حرمت سنة ثلاث بعد أُحُد باتفاق الناس، وقد ثبت عن عثمان وغيره من الصحابة كعبد اللّه بن عباس أن طلاق السكران لا يقع، ولم يثبت عن صحابى خلافه.
والذين أوقعوا طلاقه لم يذكروا إلا مأخذاً ضعيفا، وعمدتهم أنه عاص بإزالة عقله، وهذا صحيح يوجب عقوبته على المعصية التى هى الشرب فيحد على ذلك، وأما الطلاق فلا يعاقب به مسلم على المعصية، ولو كان كذلك لكان كل من شرب الخمر أو سكر طلقت امرأته، وإنما قال من قال: إذا تكلم به طلقت، فهم اعتبروا كلامه لا معصيته، ثم إنه فى حال سكره قد يعتق، والعتق قربة، فإن صححوا عتقه بطل الفرق، وإن ألغوه فإلغاء الطلاق أولى؛ فإن الله يحب العتق ولا يحب الطلاق.
ثم من علل ذلك بالمعصية، لزمه طرد ذلك فيمن زال عقله بغير مسكر كالبنج، وهو قول من يسوى بين البنج والسكران من أصحاب الشافعى وموافقيه كأبى الخطاب، والأكثرون على الفرق، وهو منصوص
ج/ 14 ص -118-أحمد وأبى حنيفة وغيرهما؛ لأن الخمر تشتهيها النفس وفيها الحد، بخلاف البنج فإنه لا حد فيه، بل فيه التعزير؛ لأنه لا يشتهى كالميتة، والدم ولحم الخنزير فيها التعزير، وعامة العلماء على أنه لا حد فيها إلا قولاً نقل عن الحسن، فهذا فيمن زال عقله.
وأما إذا كان يعلم ما يقول، فإن كان مختاراً قاصداً لما يقوله، فهذا هو الذى يعتبر قوله، وإن كان مكرها، فإن أكره على ذلك بغير حق فهذا عند جمهور العلماء أقواله كلها لَغْو، مثل كفره، وإيمانه، وطلاقه وغيره، وهذا مذهب مالك والشافعى وأحمد وغيرهم.
وأبو حنيفة وطائفة يفرقون بين ما يقبل الفسخ وما لا يقبله، قالوا: فما يقبل الفسخ لا يلزم من المكره كالبيع، بل يقف على إجازته له، وما لا يقبل الفسخ كالنكاح والطلاق واليمين فإنه يلزم من المكره.
والجمهور ينازعون فى هذا الفرق؛ فى ثبوت الوصف، وفى تعلق الحكم به؛ فإنهم يقولون: النكاح ونحوه يقبل الفسخ، وكذلك العتق يقبل الفسخ عند الشافعى وأحد القولين فى مذهب أحمد، حتى إن المكاتب قد يحكمون بعتقه ثم يفسخون العتق ويعيدونه عبداً، والأيمان المنعقدة تقبل التحلة، كما قال تعالى: "قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ" [التحريم: 2]،
ج/ 14 ص -119-وبسط الكلام على هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن القلب هو الأصل فى جميع الأفعال والأقوال، فما أمر اللّه به من الأفعال الظاهرة فلابد فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم، والمنهى عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب، وأما ثبوت بعض الأحكام، كضمان النفوس والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطئ أو ناس، فهذا من باب العدل فى حقوق العباد، ليس هو من باب العقوبة.
فالمأمور به كما ذكرنا نوعان: نوع ظاهر على الجوارح، ونوع باطن فى القلب.
النوع الثانى: ما يكون باطنا فى القلب كالإخلاص وحب اللّه ورسوله والتوكل عليه والخوف منه، وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول، فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر فإنه محله، وهذا النوع هو أصل النوع الأول، وهو أبلغ فى الخير والشر من الأول، فنفس إيمان القلب وحبه وتعظيمه للّه وخوفه ورجائه والتوكل عليه وإخلاص الدين له لا يتم شىء من المأمور به ظاهراً إلا بها، وإلا فلو عمل أعمالا ظاهرة بدون هذه كان منافقاً، وهى فى أنفسها توجب لصاحبها أعمالا ظاهرة توافقها، وهى أشرف من فروعها، كما قال تعالى:
ج/ 14 ص -120-"لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ" [الحج: 37].
وكذلك تكذيب الرسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته، أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل والزنا والشرب والسرقة، وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة؛ كالسجود للأوثان، وسب الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن، وإلا فلو قدر أنه سجد قُدّام وَثَنٍ ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود للّّه بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم فى الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود للّه، كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين، حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه، ولم يظهر منافرتهم فى أول الأمر.
وهنا أصول تنازع الناس فيها، منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شىء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر من غير خوف؟ فالذى عليه السلف والأئمة وجمهور الناس: أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف، فهذا لا يكون مؤمناً فى الباطن، وإنما هو كافر.
ج/ 14 ص -121-وزعم جَهْم ومن وافقه أنه يكون مؤمناً فى الباطن...[بياض الأصل] وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيماناً يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر، وهذا باطل شرعا وعقلا كما قد بسط فى غير هذا الموضع .وقد كَفَّر السلف كوَكِيع وأحمد وغيرهما من يقول بهذا القول، وقد قال النبى ﷺ: "إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلُحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب"، فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد . فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً، حتى إن المكره إذا كان فى إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه وفى السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه، كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله ولا بفعله قط فإنه يدل على أنه ليس فى القلب إيمان.
وذلك أن الجسد تابع للقلب، فلا يستقر شىء فى القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه، وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض فالمقتضى لظهور موجبه قائم؛ والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له، وإنما يكون فى بعض الأحوال متعذراً إذا
ج/ 14 ص -122- كتم ما فى قلبه كمؤمن آل فرعون، مع أنه قد دعى إلى الايمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا فى معرفة القلب وتصديقه.
ومنها قصد القلب وعزمه إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده، هل يمكن ألا يوجد شىء مما قصده وعزم عليه؟ فيه قولان، أصحهما أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور، وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم، وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدمات المقدور، وقيل: بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر.
وهذا نظير قول من قال ذلك فى المعرفة والتصديق، وهما من أقوال أتباع جَهْم الذين نصروا قوله فى الإيمان، كالقاضى أبى بكر وأمثاله، فإنهم نصروا قوله، وخالفوا السلف والأئمة وعامة طوائف المسلمين.
وبهذا ينفصل النزاع فى مؤاخذة العبد بالْهَمَّة، فمن الناس من قال: يؤاخذ بها إذا كانت عَزْما، ومنهم من قال: لا يؤاخذ بها. والتحقيق: أن الهمة إذا صارت عزما فلابد أن يقترن بها قول أو
ج/ 14 ص -123-فعل؛ فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور.
والذين قالوا: يؤاخذ بها احتجوا بقوله: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار" الحديث، وهذا لا حجة فيه؛ فإنه ذكر ذلك فى رجلين اقتتلا، كل منهما يريد قتل الآخر، وهذا ليس عزماً مجرداً، بل هو عزم مع فعل المقدور، لكنه عاجز عن إتمام مراده، وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين، فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى فى ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين، وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب، وكذلك من اجتهد على الزنا والسرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثم عجز فهو آثم كالفاعل، ومثل ذلك فى قتل النفس وغيره، كما جعل الداعى إلى الخير له مثل أجر المدعو ووزره لأنه أراد فعل المدعو، وفعل ما يقدر عليه، فالإرادة الجازمة، مع فعل المقدور من ذلك، فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره، وقد قال تعالى: "لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ" الآية [النساء: 95].
وفصل الخطاب فى الآية: أن "أٍوًلٌي بضَّرّر" نوعان:
نوع لهم عزم تام على الجهاد ولو تمكنوا لما قعدوا ولا تخلفوا، وإنما أقعدهم العذر، فهم كما قال النبى ﷺ: "إن
ج/ 14 ص -124-بالمدينة رجالا ما سِرْتُم مَسِيٍرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم" قالوا: وهم بالمدينة؟! قال: "وهم بالمدينة، حَبَسَهُمُ العُذْرُ" وهم أيضاً كما قال فى حديث أبى كَبْشَة الأنمارى: "هما فى الأجر سواء"، وكما فى حديث أبى موسى: "إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له من العمل ما كان يعمل صحيحاً مقيما"، فأثبت له مثل ذلك العمل؛ لأن عزمه تام، وإنما منعه العذر.
والنوع الثانى من "أُوْلِي الضَّرَرِ": الذين ليس لهم عزم على الخروج، فهؤلاء يفضل عليهم الخارجون المجاهدون وأولو الضرر العازمون عزما جازماً على الخروج. وقوله تعالى: "غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ" سواء كان استثناء أو صفة دل على أنهم لا يدخلون مع القاعدين فى نفى الاستواء، فإذا فصل الأمر فيهم بين العازم وغير العازم بقيت الآية على ظاهرها. ولو جعل قوله: "فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً" [ النساء: 95] عاما فى أهل الضرر وغيرهم لكان ذلك مناقضاً لقوله: "غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ"؛ فإن قوله: "لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ"، "وَالْمُجَاهِدُونَ" إنما فيها نفى الاستواء، فإن كان أهل الضرر كلهم كذلك لزم بطلان قوله: "غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ"، ولزم أنه لا يساوى المجاهدين قاعد ولو كان من أولى الضرر، وهذا خلاف مقصود الآية.
وأيضاً، فالقاعدون إذا كانوا من غير أولى الضرر، والجهاد
ج/ 14 ص -125-ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنه لا حرج عليهم فى القعود، بل هم موعودون بالحسنى كأولى الضرر، وهذا مثل قوله: "لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ" الآية [الحديد: 10]، فالوعد بالحسنى شامل لأولى الضرر وغيرهم.
فإن قيل: قد قال فى الأولى فى فضلهم: "دَرَجَةً" ثم قال فى فضلهم: "دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً" [النساء: 96]، كما قال: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ" [التوبة: 19 21].
فقوله: "أَعْظَمُ دَرَجَةً" كما قال فى السابقين: "أَعْظَمُ دَرَجَةً" وهذا نصب على التمييز؛ أى: درجتهم أعظم درجة، وهذا يقتضى تفضيلا مجملا، يقال: منزلة هذا أعظم وأكبر، كذلك قوله: "وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 95] الآيات. ليس المراد به أنهم لم يفضلوا عليهم إلا بدرجة؛ فإن فى الحديث الصحيح الذى يرويه أبو سعيد وأبو هريرة: "إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" الحديث، وفى
ج/ 14 ص -126-حديث أبى سعيد: "من رَضِىَ بالله ربا وبالإسلام دِينا، وبمحمد نبياً، وَجَبَتْ له الجنة" .فعجب لها أبو سعيد، فقال رسول الله ﷺ: "وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة فى الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض"، فقال: وما هى يا رسول الله؟ قال: "الجهاد فى سبيل الله"، فهذا الحديث الصحيح بين أن المجاهد يفضل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولى الضرر مائة درجة، وهو يبطل قول من يقول: إن الوعد بالحسنى والتفضيل بالدرجة مختص بأولى الضرر، فهذا القول مخالف للكتاب والسنة.
وقد يقال: إن "دَرَجَةً" منصوب على التمييز، كما قال: "أَعْظَمُ دَرَجَةً" أى فضل درجتهم على درجتهم أفضل، كما يقال: فضل هذا على هذا منزلا ومقاماً، وقد يراد بالدرجة جنس الدرج، وهى المنزلة والمستقر، ولا يراد به درجة واحدة من العدد، وقوله: "وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ"، منصوب ب"فَضَّلَ"؛ لأن التفضيل زيادة للمفضل، فالتقدير: زادهم عليهم أجراً عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة، فهذا النزاع فى العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل فى الأجر والوزر أم لا؟ وأما فى استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع فى ذلك، وقوله: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" فيه حرص كل واحد منهما على قتل صاحبه وفعل مقدوره، فكلاهما مستحق للنار،
ج/ 14 ص -127-ويبقى الكلام فى تساوى القعودين بشىء آخر.
وهكذا حال المقتتلين من المسلمين فى الفتن الواقعة بينهم، فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء، الغالب والمغلوب، فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة، كما قال الشعبى: أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أشقياء، وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه فى الآخرة، وقد يعجل الله له الانتقام فى الدنيا، كما جرى لعامة الغالبين فى الفتن. فإنهم أصيبوا فى الدنيا، كالغالبين فى الحرة، وفتنة أبى مسلم الخراسانى ونحو ذلك.
وأما من قال: إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبى، فاحتجوا بقوله ﷺ: "إن الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها"، وهذا ليس فيه أنه عافٍ لهم عن العزم، بل فيه أنه عَفَى عن حديث النَّفْس إلى أن يتكلم أو يعمل، فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ، ولكن ظن من ظن أن ذلك عزم وليس كذلك، بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزماً؛ فإن العزم لابد أن يقترن به المقدور وإن لم يصل العازم إلى المقصود، فالذى يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لابد أن يتحرك ولو برأسه، أو يمشى، أو يأخذ آلة، أو يتكلم كلمة، أو يقول أو يفعل شيئا، فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرِّجل فإن هذا يؤاخذ به، وهو من مقدمات الزنا التام
ج/ 14 ص -128-بالفرج، وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط، فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به، سواء كان المأمور به فى القلب وموجبه فى الجسد، أوكان المأمور به ظاهراً فى الجسد وفى القلب معرفته وقصده، فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشىء كان عفواً مثل هَمّ ثابت بلا فعل، ومثل الوسواس الذى يكرهونه وهم يثابون على كراهته، وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه للّه تعالى وخوفاً منه.
ج/ 14 ص -129-وَقال الشيخ رَحمه اللَّه تعالى:
اعلم أن الله سبحانه وتعالى أعطى نبيه محمدا ﷺ وبارك، خواتيم "سورة البقرة" من كنز تحت العرش لم يؤت منه نبى قبله. ومن تدبر هذه الآيات وفهم ما تضمنته من حقائق الدين، وقواعد الإيمان الخمس، والرد على كل مبطل، وما تضمنته من كمال نعم اللّه تعالى على هذا النبى ﷺ وأمته، ومحبة الله سبحانه لهم، وتفضيله إياهم على من سواهم، فَلْيَهْنَهُ [فى المطبوعة: فاليهنه والصواب ما أثبتناه] العلم، ولو ذهبنا نستوعب الكلام فيها لخرجنا عن مقصود الكتاب، ولكن لابد من كليمات يسيرة تشير إلى بعض ذلك فنقول:
لما كانت "سورة البقرة" سِنام القرآن، وأكثر سوره أحكاما، وأجمعها لقواعد الدين؛ أصوله وفروعه، وهى مشتملة على ذكر أقسام الخلق؛ المؤمنين، والكفار، والمنافقين، وذكر أوصافهم و أعمالهم.
وذكر الأدلة الدالة على إثبات الخالق سبحانه وتعالى وعلى وحدانيته، وذكر نعمه، وإثبات نبوة رسوله ﷺ،
ج/ 14 ص -130-وتقرير المعاد، وذكر الجنة والنار، وما فيهما من النعيم والعذاب.
ثم ذكر تخليق العالم العلوى والسفلى.
ثم ذكر خلق آدم عليه السلام وإنعامه عليه بالتعليم وإسجاد ملائكته له، وإدخاله الجنة، ثم ذكر محنته مع إبليس، وذكر حسن عاقبة آدم عليه السلام.
ثم ذكر المناظرة مع أهل الكتاب من اليهود، وتوبيخهم على كفرهم وعنادهم، ثم ذكر النصارى والرد عليهم، وتقرير عبودية المسيح، ثم تقرير النسخ، والحكمة فى وقوعه.
ثم بناء البيت الحرام وتقرير تعظيمه، وذكر بانيه والثناء عليه، ثم تقرير الحنيفية ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتسفيه من رغب عنها، ووصية بنيه بها وهكذا شيئاً فشيئاً إلى آخر السورة، فختمها اللّه تعالى بآيات جوامع مقررة لجميع مضمون السورة، فقال تعالى: "لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [البقرة: 284].
فأخبر تعالى أن ما فى السموات وما فى الأرض ملكه وحده لا
ج/ 14 ص -131-يشاركه فيه مشارك، وهذا يتضمن انفراده بالملك الحق، والملك العام لكل موجود، وذلك يتضمن توحيد ربوبيته وتوحيد إلهيته، فتضمن نفى الولد والصاحبة والشريك؛ لأن ما فى السموات وما فى الأرض إذا كان ملكه وخلقه لم يكن له فيهم ولد ولا صاحبة ولا شريك.
وقد استدل ـ سبحانه ـ بعين هذا الدليل فى سورة الأنعام، وسورة مريم، فقال تعالى: "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ" [الأنعام: 101]، وقال تعالى ـ فى سورة مريم: "وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا" [مريم: 92، 93]، ويتضمن ذلك أن الرغبة والسؤال والطلب والافتقار لا يكون إلا إليه وحده؛ إذ هو المالك لما فى السموات والأرض.
ولما كان تصرفه ـ سبحانه ـ فى خلقه لا يخرج عن العدل والإحسان وهو تصرف بخلقه وأمره، وأخبر أن ما فى السموات وما فى الأرض ملكه، فما تصرف خلقاً وأمراً إلا فى ملكه الحقيقى، وكانت سورة البقرة مشتملة من الأمر والخلق على ما لم يشتمل عليه سورة غيرها أخبر ـ تعالى ـ أن ذلك صدر منه فى ملكه، قال تعالى: "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" [البقرة: 284]، فهذا متضمن لكمال علمه
ج/ 14 ص -132-سبحانه وتعالى ـ بسرائر عباده وظواهرهم، وأنه لا يخرج شىء من ذلك عن علمه، كما لم يخرج شىء ممن فى السموات والأرض عن ملكه، فعلمه عام وملكه عام.
ثم أخبر ـ تعالى ـ عن محاسبته لهم بذلك، وهى تعريفهم ما أبدوه أو أخفوه، فتضمن ذلك علمه بهم وتعريفهم إياه، ثم قال: "فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء" فتضمن ذلك قيامه عليهم بالعدل والفضل، فيغفر لمن يشاء فضلا، ويعذب من يشاء عدلا، وذلك يتضمن الثواب والعقاب المستلزم للأمر والنهى، المستلزم للرسالة والنبوة.
ثم قال تعالى: "وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، فتضمن ذلك أنه لا يخرج شىء عن قدرته الْبَتّةَ، وأن كل مقدور واقع بقدره، ففى ذلك رد على المجوس الثنوية، والفلاسفة، والقدرية المجوسية، وعلى كل من أخرج شيئا من المقدورات عن خلقه وقدرته ـ وهم طوائف كثيرون.
فتضمنت الآية إثبات التوحيد، وإثبات العلم بالجزئيات والكليات، وإثبات الشرائع والنبوات، وإثبات المعاد والثواب والعقاب، وقيام الرب على خلقه بالعدل والفضل، وإثبات كمال القدرة وعمومها، وذلك يتضمن حدوث العالم بأسره؛ لأن القديم لا يكون مقدوراً ولا مفعولا.
ثم إن إثبات كمال علمه وقدرته يستلزم إثبات سائر صفاته العلى،
ج/ 14 ص -133-ـوله من كل صفة اسم حسن، فيتضمن إثبات أسمائه الحسنى، وكمال القدرة يستلزم أن يكون فعالا لما يريد، وذلك يتضمن تنزيهه عن كل ما يضاد كماله، فيتضمن تنزيهه عن الظلم المنافى لكمال غناه وكمال علمه؛ إذ الظلم إنما يصدر عن محتاج أو جاهل، وأما الغنى عن كل شىء العالم بكل شىء ـ سبحانه ـ فإنه يستحيل منه الظلم، كما يستحيل عليه العجز المنافى لكمال قدرته، والجهل المنافى لكمال علمه.
فتضمنت الآية هذه المعارف كلها بأوجز عبارة، وأفصح لفظ، وأوضح معنى.
وقد عَرفتَ بهذا أن الآية لا تقتضى العقاب على خواطر النفوس المجردة، بل إنما تقتضى محاسبة الرب عبده بها، وهى أعم من العقاب، والأعم لا يستلزم الأخص، وبعد محاسبته بها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وعلى هذا فالآية محكمة لا نسخ فيها، ومن قال من السلف: نسخها ما بعدها فمراده بيان معناها والمراد منها، وذلك يسمى نسخاً فى لسان السلف، كما يسمون الاستثناء نسخاً.
ثم قال تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ" [البقرة: 285]، فهذه شهادة الله ـ تعالى ـ لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بإيمانه بما أنزل إليه من ربه، وذلك يتضمن إعطاءه
ج/ 14 ص -134-ثواب أكمل أهل الإيمان ـ زيادة على ثواب الرسالة والنبوة ـ لأنه شارك المؤمنين فى الإيمان، ونال منه أعلى مراتبه، وامتاز عنهم بالرسالة والنبوة، وقوله: "أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ" يتضمن أنه كلامه الذى تكلم به، ومنه نزل لا من غيره، كما قال تعالى: "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ" [النحل: 102]، وقال: "تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ" [الواقعة: 80، والحاقة: 43].
وهذا أحد ما احتج به أهل السنة على المعتزلة القائلين بأن الله لم يتكلم بالقرآن، قالوا: فلو كان كلاما لغير الله لكان منزلا من ذلك المحل لا من الله؛ فإن القرآن صفة لا تقوم بنفسها، بخلاف قوله: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" [الجاثية: 31]، فإن تلك أعيان قائمة بنفسها، فهى منه خلقا، وأما "الكلام" فوصف قائم بالمتكلم، فلما كان منه فهو كلامه؛ إذ يستحيل أن يكون منه ولم يتكلم به.
ثم شهد ـ تعالى ـ للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولهم، ثم شهد لهم جميعا بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فتضمنت هذه الشهادة إيمانهم بقواعد الإيمان الخمسة التى لا يكون أحد مؤمناً إلا بها، وهى: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
وقد ذكر ـ تعالى ـ هذه الأصول الخمسة فى أول السورة ووسطها
ج/ 14 ص -135-وآخرها، فقال فى أولها: "والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" [البقرة: 4]، فالإيمان بما أنزل إليه وما أنزل من قبله يتضمن الإيمان بالكتب والرسل والملائكة، ثم قال: "وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ"، والإيمان بالله يدخل فى الإيمان بالغيب وفى الإيمان بالكتب والرسل، فتضمنت الإيمان بالقواعد الخمس.
وقال فى وسطها: "وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ" [البقرة: 177]، ثم حكى عن أهل الإيمان أنهم قالوا: "لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ" [البقرة: 285]، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض، فلا ينفعنا إيماننا بمن آمنا به منهم كما لم ينفع أهل الكتاب ذلك، بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم ولا نفرق بينهم، وقد جمعتهم رسالة ربهم فنفرق بين من جمع الله بينهم، ونعادى رسله، ونكون معادين له، فباينوا بهذا الإيمان جميع طوائف الكفار المكذبين لجنس الرسل، والمصدقين لبعضهم المكذبين لبعضهم.
وتضمن إيمانهم بالله إيمانهم بربوبيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وأسمائه الحسنى، وعموم قدرته ومشيئته، وكمال علمه وحكمته، فباينوا بذلك جميع طوائف أهل البدع والمنكرين لذلك أو لشىء منه؛ فإن كمال الإيمان بالله يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه، وتنزيهه عما نزه نفسه
ج/ 14 ص -136-عنه، فباينوا بهذين الأمرين جميع طوائف الكفر، وفِرَق أهل الضلال الملحدين فى أسماء الله وصفاته.
ثم قالوا: "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا"، فهذا إقرار منهم بركنى الإيمان الذى لا يقوم إلا بهما، وهما السمع المتضمن للقبول، لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار، بل سمع الفهم والقبول، والثانى: الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر، وهذا عكس قول الأمة الغضبية: "سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا" [البقرة: 93].
فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم، وكمال قبولهم، وكمال انقيادهم، ثـم قالـوا "غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة: 285] لما علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان حقه مع الطاعـة والانقيـاد الذى يقتضيه منهـم، وأنهم لابد أن تميل بهم غلبات الطبـاع ودواعـى البشرية إلى بعض التقصير فى واجبات الإيمان، وأنه لا يلم شَعْْثَ ذلك إلا مغفرة اللّه ـ تعالى ـ لهم، سألوه غفرانه الذى هو غاية سعادتهم، ونهاية كمالهم؛ فإن غاية كل مؤمن المغفرة من اللّه ـ تعالى ـ فقالوا: "غُفْرَانَكَ رَبَّنَا" ثم اعترفوا أن مصيرهم ومردهم إلى مولاهم الحق لابد لهم من الرجوع إليه فقالوا: "وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ".
فتضمنت هذه الكلمات إيمانهم به، ودخولهم تحت طاعته وعبوديته،
ج/ 14 ص -137-واعترافهم بربوبيته، واضطرارهم إلى مغفرته، واعترافهم بالتقصير فى حقه، وإقرارهم برجوعهم إليه.
ثم قال تعالى: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [البقرة: 286]، فنفى بذلك ما توهموه من أنه يعذبهم بالخطرات التى لا يملكون دفعها، وأنها داخلة تحت تكليفه، فأخبرهم أنه لا يكلفهم إلا وسعهم، فهذا هو البيان الذى قال فيه ابن عباس وغيره: فنسخها اللّه عنهم بقوله: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"، وقد تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمراً ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه، وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وفى ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك.
والله ـ تعالى ـ أمرهم بعبادته، وضمن أرزاقهم، فكلفهم من الأعمال ما يسعونه، وأعطاهم من الرزق ما يسعهم، فتكليفهم يسعونه، وأرزاقهم تسعهم، فهم في الوُسْع فى رزقه وأمره؛ وسعوا أمره ووسعهم رزقه، ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد، وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه، لا قول من يقول: إنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه البتة ولا يطيقونه، ثم يعذبهم على ما لا يعملونه.
وتأمل قوله ـ عز وجل: "إِلاَّ وُسْعَهَا" كيف تجد تحته أنهم فى سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع
ج/ 14 ص -138-يقتضى ذلك، فاقتضت الآية أنّ ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج، بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدوراً له ولكن فيه ضيق وحرج عليه، وأما وسعه الذى هو منه فى سعة فهو دون مدى للطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع، وذلك منافٍ للضيق والحرج "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الحج: 78]، بل يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. قال سفيان بن ـ عيينة ـ في قوله: "إِلاَّ وُسْعَهَا": إلا يسرها لا عسرها، ولم يكلفها طاقتها، ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود.
فهذا فَهْم أئمة الإسلام، وأين هذا من قول من قال: إنه كلفهم ما لا يطيقونه البتة، ولا قدرة لهم عليه؟ ثم أخبر ـ تعالى ـ أن ثمرة هذا التكليف وغايته عائدة عليهم، وأنه ـ تعالى ـ يتعالى عن انتفاعه بكسبهم وتضرره باكتسابهم، بل لهم كسبهم ونفعه، وعليهم اكتسابهم وضرره، فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم، بل رحمة وإحساناً وتكرماً، ولم ينههم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم، بل حمية وحفظاً وصيانة وعافية.
وفيه ـ أيضاً ـ أن نفساً لا تعذب باكتساب غيرها، ولا تثاب بكسبه، ففيه معنى قـولـه: "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" [ النـجـم: 39]، "وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18] .
ج/ 14 ص -139-وفيه ـ أيضاً ـ إثبات كسب النفس المنافى للجبر.
وفيه ـ أيضاً اجتماع الحكمة فيه، فإما كسب خيراً أو اكتسب شراً، لم يبطل اكتسابه كسبه، كما يقوله أهل الإحباط والتخليد، فإنهم يقولون: إن عليه ما اكتسب وليس له ما كسب، فالآية رد على جميع هذه الطوائف، فتأمل كيف أتى فيما لها بالكسب الحاصل ولو لأدنى ملابسة، وفيما عليها بالاكتساب الدال على الاهتمام والحرص والعمل؛ فإن "اكتسب" أبلغ من "كسب"، ففى ذلك تنبيه على غلبة الفضل للعدل، والرحمة للغضب.
ثم لما كان ما كلفهم به عهوداً منه ووصايا، وأوامر تجب مراعاتها والمحافظة عليها، وألا يخل بشىء منها؛ ولكن غلبات الطباع البشرية تأبى إلا النسيان والخطأ والضعف والتقصير أرشدهم الله ـ تعالى ـ إلى أن يسألوه مسامحته إياهم فى ذلك كله، ورفع موجبه عنهم بقولهم: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" [البقرة: 286]، أى: لا تكلفنا من الآصار التى يثقل حملها ما كلفته من قبلنا؛ فإنا أضعف أجساداً وأقل احتمالا.
ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم، كما أنهم غير منفكين عما يأمرهم به وينهاهم عنه، سألوه التخفيف فى قضائه وقدره،
ج/ 14 ص -140-كما سألوه التخفيف فى أمره ونهيه، فقالوا: "رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ" فهذا فى القضاء والقدر والمصائب، وقولهم: "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" في الأمر والنهى والتكليف، فسألوه التخفيف فى النوعين.
ثم سألوه العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء؛ فإن بهذه الأربعة تتم لهم النعمة المطلقة، ولا يصفو عيش فى الدنيا والآخرة إلا بها، وعليها مدار السعادة والفلاح، فالعفو متضمن لإسقاط حقه قبلهم ومسامحتهم به، والمغفرة متضمنة لوقايتهم شر ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم، بخلاف العفو المجرد؛ فإن العافى قد يعفو ولا يقبل على من عفا عنه ولا يرضى عنه، فالعفو ترك محض، والمغفرة إحسان وفضل وجود، والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر، فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير، والنصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه، وإعلاء كلمته، وقهر أعدائه، وشفاء صدورهم منهم، وإذهاب غيظ قلوبهم، وحزازات نفوسهم، وتوسلوا فى خلال هذا الدعاء إليه باعترافهم أنه مولاهم الحق الذى لا مولى لهم سواه، فهو ناصرهم، وهاديهم، وكافيهم، ومعينهم، ومجيب دعواتهم، ومعبودهم.
فلما تحققت قلوبهم بهذه المعارف وانقادت وذَلَّتْ لعزة ربها ومولاها وأجابتها جوارحهم، أعطوا كل ما سألوه من ذلك، فلم يسألوا
ج/ 14 ص -141-شيئاً منه إلا قال اللّه ـ تعالى: "قد فعلتُ"، كما ثبت فى الصحيح عن النبى ﷺ ذلك.
فهذه كلمات قصيرة مختصرة فى معرفة مقدار هذه الآيات العظيمة الشأن، الجليلة المقدار، التى خص الله بها رسوله محمداً ﷺ وأمته من كنز تحت العرش.
وبعد، ففيها من المعارف وحقائق العلوم ما تعجز عقول البشر عن الإحاطة به، واللّه المرغوب إليه ألاّ يحرمنا الفهم فى كتابه، إنه رحيم ودود.
والحمد للّه وحده، وصلى اللّه وسلم على من لا نبى بعده وآله وصحبه أجمعين.
ج/ 14 ص -142-وَقالَ ـ رحمه اللَّه:
فصــل
فى الدعاء المذكور في آخر "سورة البقرة" وهو قوله: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا" إلى آخرها [البقرة: 682].
وقد ثبت فى صحيح مسلم: أنه قال "قَدْ فَعَلْتُ" ، وكذلك فى صحيحه من حديث ابن عباس عن النبى ﷺ أنه قال: "أعطيتُ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من كَنْزٍ تحت العرش لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته" وفى صحيحه أيضاً عن ابن مسعود قال: لما أسرى برسول الله ﷺ انتهى به إلى سِدْرة ينتهى، وهى فى السماء السابعة، وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها يتنهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها، قال: "إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى" [ النجم: 16]، قال: فراش من ذهب، قال: فأعطى رسول الله ﷺ ثلاثاً: أعطى الصلوات الخمس، وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئاً المقْحِمَات.
ج/ 14 ص -143-قال بعض الناس: إذا كان هذا الدعاء قد أجيب، فطلب ما فيه من باب تحصيل الحاصل، وهذا لا فائدة فيه، فيكون هذا الدعاء عبادة محضة ليس المقصود به السؤال، وهذا القول قد قاله طائفة فى جميع الدعاء أنه إن كان المطلوب مقدرا فلا حاجة إلى سؤاله وطلبه، وإن كان غير مقدر لم ينفع الدعاء ـ دعوت أو لم تدع ـ فجعلوا الدعاء تعبداً محضاً، كما قال ذلك طائفة أخرى فى التوكل.
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء فى غير هذا الموضع، وذكرنا قول من جعل ذلك أمارة أو علامة بناء على أنه ليس فى الوجود سبب يفعل به؛ بل يقترن أحد الحادثين بالآخر، قاله طائفة من القدرية النظار، وأول من عرف عنه ذلك الجَهْم بن صَفْوان ومن وافقه، وذكرنا أن "القول الثالث" هو الصواب، وهو أن الدعاء والتوكل والعمل الصالح سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب، وأن الحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع، فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب.
والمقصود هنا الكلام في الدعاء الذى قد علم أنه أجيب، فقال بعض الناس: هذا تعبد محض لحصول المطلوب بدون دعائنا، فلا يبقى سببا ولا علامة، وهذا ضعيف.
ج/ 14 ص -144-أما أولاً: فإن العمل الذى لا مصلحة للعبد فيه لا يأمر الله به، وهذا بناء على قول السلف: إن اللّه لم يخلق ولم يأمر إلا لحكمة، كما لم يخلق ولم يأمر إلا لسبب. والذين ينكرون الأسباب والحكم يقولون: بل يأمر بما لا منفعة فيه للعباد البتة، وإن أطاعوه وفعلوا ما أمرهم به، كما بسط الكلام على ذلك فى غير هذا الموضع.
والمقصود أن كل ما أمر الله به، أمر به لحكمة، وما نهى عنه نهى لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقهاء قاطبة وسلف الأمة وأئمتها وعامتها، فالتعبد المحض ـ بحيث لا يكون فيه حكمة ـ لم يقع. نعم، قد تكون الحكمة فى المأمور به وقد تكون في الأمر، وقد تكون في كليهما، فمن المأمور به ما لو فعله العبد بدون الأمر حصل له منفعة؛ كالعدل، والإحسان إلى الخلق، وصلة الرحم، وغير ذلك. فهذا إذ أمر به صار فيه حكمتان حكمة فى نفسه، وحكمة في الأمر، فيبقى له حسن من جهة نفسه ومن جهة أمر الشارع، وهذا هو الغالب على الشريعة، وما أمر الشرع به بعد أن لم يكن إنما كانت حكمته لما أمر به.
وكذلك ما نسخ زالت حكمته وصارت فى بدله كالِقبلة.
وإذا قدر أن الفعل ليست فيه حكمة أصلاً فهل يصير بنفس الأمر فيه حكمة الطاعة؟ وهذا جائز عند من يقول بالتعبد المحض وإن لم يقل
ج/ 14 ص -145-بجواز الأمر لكل شىء، لكن يجعل من باب الابتلاء والامتحان، فإذا فعل صار العبد به مطيعا، كنهيهم عن الشرب إلا من اغترف غرفة بيده.
والتحقيق أن الأمر الذى هو ابتلاء وامتحان يحض عليه من غير منفعة فى الفعل متى اعتقده العبد وعزم على الامتثال حصل المقصود، وإن لم يفعله، كإبراهيم لما أمر بذبح ابنه، وكحديث أقرع وأبرص وأعمى لما طلب منهم إعطاء ابن السبيل، فامتنع الأبرص والأقرع فسُلِبَا النعمة. وأما الأعمى فبذل المطلوب، فقيل له: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضى عنك وسخط على صاحبيك. وهذا هو الحكمة الناشئة من نفس الأمر والنهى لا من نفس الفعل، فقد يؤمر العبد وينهى وتكون الحكمة طاعته للأمر وانقياده له وبذله للمطلوب، كما كان المطلوب من إبراهيم تقديم حب الله على حبه لابنه، حتى تتم خُلَّته به قبل ذبح هذا المحبوب للّه، فلما أقدم عليه وقوى عزمه بإرادته لذلك، تحقق بأن الله أحب إليه من الولد وغيره، ولم يبق فى قلبه محبوب يزاحم محبة اللّه.
وكذلك أصحاب طالوت، ابْتُلُوا بالامتناع من الشرب ليحصل من إيمانهم وطاعتهم ما تحصل به الموافقة، والابتلاء هاهنا كان بنهى لا بأمر، وأما رمى الجمار والسعى بين الصفا والمروة، فالفعل فى نفسه مقصود لما تضمنه من ذكر الله.
ج/ 14 ص -146-وقد بين النبى ﷺ هذا بقوله فى الحديث الذى فى السنن: "إنما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله" رواه أبو داود والترمذى وغيرهما. فبين النبى ﷺ أن هذا له حكمة، فكيف يقال: لا حكمة، بل هو تعبد وابتلاء محض.
وأما فعل مأمور فى الشرع ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا حكمة إلا مجرد الطاعة، والمؤمنون يفعلونه، فهذا لا أعرفه، بل ما كان من هذا القبيل نسخ بعد العزم، كما نسخ إيجاب الخمسين صلاة إلى خمس.
والمعتزلة تنكر الحكمة الناشئة من نفس الأمر؛ ولهذا لم يجوزوا النسخ قبل التمكن، وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبى الحسن التميمى [هو أبو الحسن عبد العزيز بن الحارث بن آسد بن الليث التميمى، فقيه حنبلى، له إطلاع على مسائل الخلاف . صنف كتبا فى الآصول والفرائع، ولد سنة 317هـ، وتوفى سنة 371هـ]، وبنوه على أصلهم، وهو أن الأمر عندهم كاشف عن حسن الفعل الثابت فى نفسه لا مثبت لحسن الفعل، وأن الأمر لا يكون إلا بحسن، وغلطوا فى المقدمتين، فإن الأمر وإن كان كاشفا عن حسن الفعل فالفعل بالأمر يصير له حسن آخر غير الحسن الأول، وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة فقد يأمر بما ليس بحسن فى نفسه وينسخه قبل التمكن إذا حصل المقصود من طاعة المأمور وعزمه وانقياده، وهذا موجود فى أمر الله وأمر الناس بعضهم بعضا.
والجهمية تنكر أن يكون فى الفعل حكمة أصلا فى نفسه ولا فى نفس
ج/ 14 ص -147-الأمر بناء على أصلهم: أنه لا يأمر لحكمة، وعلى أن الأفعال بالنسبة إليه سواء، ليس بعضها حسنا وبعضها قبيحا، وكـلا الأصلين قد وافقتهم عليه الأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء، كأصحاب الشافعى ومالك وأحمد وغيرهم، وهما أصلان مبتدعان؛ فإن مذهب السلف والأئمة أن الله يخلق لحكمة ويأمر لحكمة، ومذهب السلف والأئمة أن اللّه يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى ذلك، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان قد شاء وجود ذلك، وقد بسط هذا فى موضع آخر.
وقد قال تعالى: "وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ" [البقرة: 58]، فإن نفس السجود خضوع للّه، ولو فعله الإنسان للّّه مع عدم علمه أنه أمر به انتفع، كالسحرة الذين سجدوا قبل الأمر بالسجود.
وكذلك قول العبد: حُطَّ عنا خطايانا، دعاء للّه وخضوع، وقد قال تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" [البقرة: 186]، وهذه الأفعال المدعو بها فى آخر البقرة أمور مطلوبة للعباد.
وقد أجيب بجواب آخر وهو: أن اللّه تعالى إذا قدر أمراً فإنه يقدر أسبابه، والدعاء من جملة أسبابه، كما أنه لما قدر النصر يوم بَدْر، وأخبر النبى ﷺ قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم، كان من أسباب ذلك استغاثة النبى ﷺ ودعاؤه، وكذلك
ج/ 14 ص -148-ما وعده به ربه من الوسيلة، وقد قضى بها له، وقد أمر أمته بطلبها له، وهو ـ سبحانه ـ قدرها بأسباب، منها ما سيكون من الدعاء.
وعلى هذا، فالداخل فى السبب هو ما وقع من الدعاء المأمور به واللّه أعلم بذلك، فيثيب هذا الداعى على ما فعله من الدعاء بجعله تمام السبب، ولا يكون على هذا الدعاء سبباً فى اختصاصه بشىء من ذلك، بل فى حصوله لمجموع الأمة، لكن هو يثاب على الدعاء لكونه من جملة الأسباب؛ وهذا لأن النبى ﷺ قال: "ما من عبد يدعو اللّه بدعوة ليس فيها إثم ولا قَطِعيةُ رَحِمٍ إلا أعطاه الله بها إحدى خِصال ثلاث: إما أن يُعجِّل له دعوته، وإما أن يَدَّخِر له من الخير مثلها، وإمـا أن يدفـع عنه مـن البلاء مثلها". قـالوا: يا رسول اللّه، إذا نُكْثِر. قال: "الله أكثر". فالداعى بهذا كالداعى بالوسيلة يحصل له من الأجر ما يخصه كالداعي للأمة ولأخيه الغائب، ودعاؤه من أسباب الخير التى بها رحمة الأمة، كما يثاب على سؤاله الوسيلة للنبى ﷺ بأن تحل عليه الشفاعة يوم القيامة.
وهنا جواب ثالث وهو: أن كل من دعا بهذا الدعاء حصل له من المدعو المطلوب ما لا يحصل بدون المطلوب من الدعاء، فيكون الدعاء به كدعائه بسائر مطالبه من المغفرة والرحمة، وليس هو كدعاء
ج/ 14 ص -149-الغائب للغائب، فإن الملك يقول هناك: "ولك بمثله"، فيدعو له الملك بمثل ما دعا به للغائب، وهنا هو داع لنفسه وللمؤمنين.
وبيان هذا أن الشرع، وإن كان قد استقر بموت النبى ﷺ، وقد أخبر أن اللّه تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان، وقد أخبر أن الرسول يضع عن أمته إصْرَهم والأغلال التى كانت عليهم، وسأل ربه لأمته ألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم فأعطاه ذلك، لكن ثبوت هذا الحكم فى حق آحاد الأمة قد لا يحصل إلا بطاعة اللّه ورسوله، فإذا عصى اللّه ذلك الشخص العاصى عوقب عن ذلك بسلب هذه النعمة، وإن كانت الشريعة لم تنسخ.
يبين هذا أن فى هذا الدعاء سؤال الله بالعفو والمغفرة والرحمة والنصر على الكفار، ومعلوم أن هذا ليس حاصلا لكل واحد من أفراد الأمة، بل منهم من يدخل النار، ومنهم من ينصر عليه الكفار، ومنهم من يسلب الرزق، لكونهم فرطوا فى طاعة الله ورسوله، فيسلبون ذلك بقدر ما فرطوا أو قصروا.
وقول الله: "قَدْ فَعَلْتُ" يقال فيه شيئان:
أحدهما: أنه قد فعل ذلك بالمؤمنين المذكورين فى الآية، والإيمان المطلق يتضمن طاعة اللّه ورسوله. فمن لم يكن كذلك نقص
ج/ 14 ص -150-يمانه الواجب فيستحق من سلب هذه النعم بقدر النقص، ويعوق اللّه عليه ملاذ ذلك، ولم يستحق من الجزاء ما يستحقه من قام بالإيمان الواجب.
الثانى: أن يقال: هذا الدعاء استجيب له فى جملة الأمة، ولا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد، وكلا الأمرين صحيح؛ فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل، ولولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم، وقد قال النبى ﷺ فى الحديث الصحيح: "سألت ربى لأمتى ثلاثا فأعطانى اثنتين، ومنعنى واحدة: سألته ألا يهلك أمتى بسَنَة عامة فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم، فيجتاحهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بَأْسَهم بينهم فمنعنيها، وقال: يا محمد، إنى إذا قضيتُ قضاء لم يُرَدَّ".
وكذلك فى الصحيحين: لما نزل قوله تعالى: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ" قال النبى ﷺ: "أعوذ بوجهك". "أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ" قال: "أعوذ بوجهك" "أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ" [الأنعام: 65] قال: "هاتان أهْوَن". وهذا لأنه لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة، ولابد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشرى، ولا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك؛
ج/ 14 ص -151-إولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلا على نقصها، بل هي أفضل الأمم، وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية، وهو فى غيرها أكثر وأعظم، وخير غيرها أقل والخير فيها أكثر، والشر فيها أقل، فكل خير فى غيرها فهو فيها أعظم، وكل شر فيها فهو فى غيرها أعظم.
وأما حصول المطلوب للآحاد منها فلا يلزم حصوله لكل عاص؛ لأنه لم يقم بالواجب، ولكن قد يحصل للعاصى من ذلك بحسب ما معه من طاعة اللّه تعالى، وأما حصول المغفرة والعفو والرحمة بحسب الإيمان والطاعة فظاهر؛ لأن هذا من الأحكام القدرية الخلقية من جنس الوعد والوعيد، وهذا يتنوع بتنوع الإيمان والعمل الصالح.
وأما دفع المؤاخذة بالخطأ والنسيان، ودفع الآصار، فإن هذا قد يشكل لأنه من باب الأحكام الشرعية أحكام الأمر والنهى.
فيقال: الخطأ والنسيان المرفوع عن الأمة مرفوع عن عصاة الأمة؛فإن العاصى لا يأثم بالخطأ والنسيان؛ فإنه إذا أكل ناسياً أتم صومه، سواء كان مطيعاً فى غير ذلك أو عاصياً، فهذا هو الذى يشكل، وعنه جوابان:
أحدهما: أن الذنوب والمعاصى قد تكون سبباً لعدم العلم بالحنيفية
ج/ 14 ص -152-السَّمْحَة؛فإن الإنسان قد يفعل شيئاً ناسيًا أو مخطئاً ويكون لتقصيره فى طاعة الله علماً وعملا، ولا يعلم أن ذلك مرفوع عنه؛إما لجهله، وإما لكونه ليس هناك من يفتيه بالرخصة فى الحنيفية السمحة.
والعلماء قد تنازعوا فى كثير من مسائل الخطأ والنسيان، واعتقد كثير منهم بطلان العبادات أو بعضها به، كمن يبطل الصوم بالنسيان، وآخرون بالخطأ، وكذلك الإحرام، وكذلك الكلام فى الصلاة، وكذلك إذا فعل المحلوف عليه ناسياً أو مخطئاً، فإذا كان اللّه ـ سبحانه ـ قد نفى المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وخفى ذلك فى مواضع كثيرة على كثير من علماء المسلمين، كان هذا عقوبة لمن لم يجد فى نفسه ثقة إلا هؤلاء فيفتونه بما يقتضى مؤاخذته بالخطأ والنسيان، فلا يكون مقتضى هذا الدعاء حاصلا فى حقه لعدم العلم، لالنسخ الشريعة.
واللّه ـ سبحانه ـ جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع، كقوله: "وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ" [النساء: 155]، وقال: "وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ" [البقرة: 88]، وقال: "وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ" [الأنعام: 109، 110] وقال: "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً" [البقرة: 10]، وقال: "فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" [الصف: 5].
ج/ 14 ص -153-وهذا كما أنه حرم على بنى إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم، فشريعة محمد لا تنسخ ولا تعاقب أمته كلها بهذا، ولكن قد تعاقب ظلمتهم بهذا، بأن يحرموا الطيبات، أو بتحريم الطيبات؛ إما تحريماً كونياً بألا يوجد غيثهم، وتهلك ثمارهم، وتقطع المِيرَة عنهم، أو أنهم لا يجدون لذة مأكل ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ونحوه كما كانوا يجدونها قبل ذلك، وتسلط عليهم الغُصَص [جمع غُصَّة، وهى ما اعترض فى الحلق ـ من طعام وشراب وغيرهما ـ فأشرق. انظر: القاموس، مادة: غصص] وما ينغص ذلك ويعوقه. ويجرعون غصص المال والولد والأهل، كما قال تعالى: "فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" [التوبة: 55] وقـال: "أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ" [ المؤمنون: 55، 56]، وقال: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ" [التغابن: 15]، فيكون هذا كابتلاء أهل السبت بالحيتان.
وإما أن يعاقبوا باعتقاد تحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل اللّه ورسوله عندهم، كما قد فعل ذلك كثير من الأمة، اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيمان والطلاق، وإن كان الله ورسوله لم يحرم ذلك؛ لكن لما ظنوا أنها محرمة عليهم عوقبوا بحرمان العلم الذى يعلمون به الحل، فصارت محرمة عليهم تحريماً كونياً، وتحريماً شرعياً فى ظاهر الأمر؛ فإن المجتهد عليه أن يقول ما أدى إليه اجتهاده، فإذا لم يؤد اجتهاده إلا إلى تحريم هذه الطيبات لعجزه عن معرفة
ج/ 14 ص -154-الأدلة الدالة على الحل، كان عجزه سبباً للتحريم فى حق المقصرين فى طاعة الله.
وكذلك اعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التى يحتاجون إليها كضمان البساتين، والمشاركات وغيرها؛ وذلك لخفاء أدلة الشرع، فثبت التحريم فى حقهم بما ظنوه من الأدلة، وهذا كما أن الإنسان يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب والشراب الطيب ما هو موجود وهو مقدور عليه لو علمه، لكن لا يعرف بذلك عقوبة له، وإن العبد ليحَرم الرزق بالذنب يُصيبه، وقد قـال تعالى: "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" [الطلاق: 2، 3] فهـو سبحانه إنمـا ضمن الأشياء على وجهها واستقامتها للمتقين، كما ضمن هذا للمتقين.
فتبين أن المقصرين فى طاعته من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان، ومن غير نسخ بعد الرسول، لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير، ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك؛ ولهذا يوجد كثير ممن لا يصلى فى السفر قصراً يرى الفطر فى السفر حراما فيصوم فى السفر مع المشقة العظيمة عليه، وهذا عقوبة له لتقصيره فى الطاعة، لكنه مما يكفر اللّه به من خطاياه ما يكفره، كما يكفر خطايا المؤمنين بسائر مصائب الدنيا.
ج/ 14 ص -155-وكذلك منهم من يعتقد التربيع فى السفر واجباً فيربع فيبتلى بذلك لتقصيره فى الطاعة، ومنهم من يعتقد تحريم أمور كثيرة من المباحات التى بعضها مباح بالاتفاق، وبعضها متنازع فيه، لكن الرسول لم يحرمه؛ فهؤلاء الذين اعتقدوا وجوب ما لم يوجبه الله ورسوله، وتحريم ما لم يحرمه حمل عليهم إصراً، ولم توضع عنهم جميع الآصار والأغلال وإن كان الرسول قد وضعها، لكنهم لم يعلموها.
وقد يبتلون بمطاع يلزمهم ذلك فيكون آصاراً وأغلالا من جهة مطاعهم؛ مثل حاكم، ومفت، وناظر وقف، وأمير ينسب ذلك إلى الشرع؛ لاعتقاده الفاسد أن ذلك من الشرع ويكون عدم علم مطاعهم تيسير اللّه عليهم عقوبة فى حقهم لذنوبهم، كما لو قدر أنه سار بهم فى طريق يضرهم، وعدل بهم عن طريق فيه الماء والمرعى لجهله، لا لتعمده مضرتهم، أو أقام بهم فى بلد غالى الأسعار مع إمكان المقام ببلد آخر.
وهذا لأن الناس كما قد يبتلون بمطاع يظلمهم ويقصد ظلمهم، يبتلون أيضا بمطاع يجهل مصلحتهم الشرعية والكونية، فيكون جهل هذا من أسباب عقوبتهم، كما أن ظلم ذلك من أسباب مضرتهم، فهؤلاء لم ترفع عنهم الآصار والأغلال لذنوبهم ومعاصيهم، وإن كان الرسول ليس فى شرعه آصار وأغلال؛ فلهذا تَسلَّط عليهم حكام الجور والظلم، وتساق
ج/ 14 ص -156-إليهم الأعداء، وتقاد بسلاسل القهر والقدر، وذلك من الآصار والأغلال التى لم ترفع عنهم مع عقوبات لا تحصى؛ وذلك لضعف الطاعة فى قلوبهم، وتمكن المعاصى وحب الشهوات فيها، فإذا قالوا: "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا " [البقرة: 286] دخل فيه هذا.
وأما قوله: "رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ" [البقرة: 286]، فعلى قولين:
قيل: هو من باب التحميل القدرى، لا من باب التكليف الشرعى، أى: لا تبتلينا بمصائب لا نطيق حملها، كما يبتلى الإنسان بفقر لا يطيقه، أو مرض لا يطيقه، أو حدث، أو خوف، أو حب أو عشق لا يطيقه، ويكون سبب ذلك ذنوبه.
وهذا مما يبين أن الذنوب عواقبها مذمومة مطلقاً.
وقوله: "مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ" [النساء: 123]، و "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" [الزلزلة: 7، 8] قول حق، وقال تعالى فى قصة قوم لوط: "وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ" [الذاريات: 37].
فما من أحد يبتلى بجنس عملهم إلا ناله شىء من العذاب الأليم، حتى تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غرامًا وعشقاً زاد العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على
ج/ 14 ص -157-المحبوب أو عاجز عنه؛ فإن كان عاجزاً فهو فى عذاب أليم من الحزن والهَمّ والغَمّ، وإن كان قادراً فهو فى عذاب أليم من خوف فراقه، ومن السعى فى تأليفه وأسباب رضاه؛ فإن نزل به الموت أو افتقر تضاعف علىه العذاب، وإن صار إلى غيره استبدالاً به أو مشاركة قوى عذابه، فإن هذا الجنس يحصل فيه من العذاب ما لا يحصل فى عشق البغايا وما يحصل مثله فى الحلال، وإن حصل في الحلال نوع عذاب كان أخف من نظيره، وكان ذلك سبب ذنوب أخرى.
فإذا دعا الإنسان بهذا الدعاء ـ يخص نفسه ويعم المسلمين ـ فله من ذلك أعظم نصيب، كيف لا وقد قال النبى ﷺ: "الآيتان من آخر سورة البقرة ما قرأ بهما أحد فى ليلة إلا كفَتَاهُ" وكيف لا تكفيانه وما دعا به من ذلك لم يحصل له إلا ما حصل لسائر المؤمنين الذين لم يقرؤوهما، فإن الداعى بهذا الدعاء له منه نصيب يخصه كسائر الأدعية.
ومما يبين ذلك أن الصحابة إنما استجيب لهم هذا الدعاء لما التزموا الطاعة للّه مطلقاً بقولهم: "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا" [البقرة: 285]، ثم أنزل هذا الدعاء، فدعوا به فاستجيب لهم.
ولهذا كانوا فى الحنيفية السمحة على عهد رسول اللّه صلى الله
ج/ 14 ص -158-عليه وسلم، وكانوا فيها على عهد أبى بكر خيراً مما كانوا فيها على عهد عمر، فلما كانوا فى زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام فى نوع من التشديد عليهم، كمنعهم من مُتْعَة الحج، وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة، وكتغليظ العقوبة فى الخمر، وكان أطوعهم للّه وأزهدهم ـ مثل أبى عبيدة ـ ينقاد له عمر ما لا ينقاد لغيره، وخفى عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها، حتى تنازعوا فيها، وهم مؤتلفون متحابون، كل منهم يقر الآخر على اجتهاده.
فلما كان فى آخر خلافة عثمان زاد التغير والتوسع فى الدنيا، وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر، فحصل بين بعض القلوب تنافر حتى قتل عثمان، فصاروا فى فتنة عظيمة قد قال تعالى: "وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً" [الأنفال: 25]، أى هذه الفتنة لا تصيب الظالم فقط، بل تصيب الظالم والساكت عن نهيه عن الظلم، كما قال النبى ﷺ: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يَعُمَّهم اللّه بعقاب منه".
وصار ذلك سبباً لمنعهم كثيراً من الطيبات، وصاروا يختصمون فى متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر، فطائفة تمنع المتعة مطلقاً كابن الزبير، وطائفة تمنع الفسخ كبنى أمية وأكثر الناس، وصاروا يعاقبون مَنْ تمتع، وطائفة أخرى توجب المتعة، وكل منهم لا
ج/ 14 ص -159-يقصد مخالفة الرسول، بل خفي عليهم العلم، وكان ذلك سببه ما حدث من الذنوب، كما قال ﷺ: "خرجتُ لأخبركم بليلة القَدْر فَتَلاَحا رجلان، فُرفِعَتْ، لعل ذلك أن يكون خيراً لكم". أى قد يكون إخفاؤها خيراً لكم لتجتهدوا فى ليالى العشر كلها؛ فإنه قد يكون إخفاء بعض الأمور رحمة لبعض الناس.
والنزاع فى الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم؛ ولهذا صنف رجل كتابا سماه "كتاب الاختلاف" فقال أحمد: سَمِّه "كتاب السعة" وإن الحق فى نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة اللّه ببعض الناس خفاؤه لما فى ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى: "لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" [المائدة: 101].
وهكذا ما يوجد فى الأسواق من الطعام والثياب قد يكون فى نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله له حلالا لا إثم عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة، وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة وقد يكون مكروه النفس أنفع كما فى الجهاد:
ج/ 14 ص -160-"وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ" [البقرة: 216].
والمقصود هنا أن من الذنوب ما يكون سبباً لخفاء العلم النافع أو بعضه؛ بل يكون سبباً لنسيان ما علم، ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن بسبب ذلك.
واللّه ـ سبحانه ـ كان أسكن آدم وزوجه الجنة، وقال لهما: "وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ" [البقرة: 35 ، 36]، فكل عداوة كانت فى ذريتهما وبلاء ومكروه وتكون إلى قيام الساعة وفى النار يوم القيامة سببها الذنوب ومعصية الرب تعالى.
فالإنسان إذا كان مقيما على طاعة اللّه باطنا وظاهراً كان فى نعيم الإيمان والعلم وارد عليه من جهاته، وهو فى جنة الدنيا، كما فى الحديث: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". قيل: وما رياض الجنة؟ قال: "مجالس الذكر"، وقال: "ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة"، فإنه كان يكون هنا فى رياض العلم والإيمان.
وكلما كان قلبه فى محبة اللّه وذكره وطاعته كان معلقاً بالمحل الأعلى،
ج/ 14 ص -161-فلا يزال فى علو ما دام كذلك، فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل، فلا يزال فى هبوط ما دام كذلك، ووقعت بينه وبين أمثاله عداوة، فإن أراد الله به خيراً ثاب وعمل فى حال هبوط قلبه إلى أن يستقيم فيصعد قلبه، قال تعالى: "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ" [الحج: 37] فتقوى القلوب هى التى تنال اللّه، كما قال: "إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" [فاطر: 10]، فأما الأمور المنفصلة عنا من اللحوم والدماء فإنها لا تنال اللّه.
والباطنية ـ المنكرون لخلق العالم فى ستة أيام، ومعاد الأبدان ـ الذين يجعلون للقرآن تأويلا يوافق قولهم، عندهم ما ثَمَّ "جَنَّة" إلا لذة ما تتصف بها النفس من العلم والأخلاق الحميدة، وما ثَمَّ "نار" إلا ألم ما تتصف به النفس من الجهل والأخلاق الذميمة السيئة، فنار النفوس ألمها القائم بها كحسراتها لفوات العلم، أو لفوات الدنيا المحبوبة لها، وحجبها إنما هى ذنوبها.
وهذا الكلام مما يذكره أبو حامد فى "المضنون به على غير أهله"، لكن قد يقول هذا: ليس هو عذاب القبر المذكور فى الأجسام، بل ذاك أمر آخر مما بينه أهل السنة، ولا نعيم عندهم إلا ما يقوم بالنفس من هذا؛ولهذا ليس عندهم نعيم منفصل عن النفس ولا عذاب.
ج/ 14 ص -162-وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلا؛ فإن الناس فى الدنيا يثابون ويعاقبون بأمور منفصلة عنهم، فكيف فى دار الجزاء؟ ولكن الذى أثبتوه من هذا وهذا منه ما هو حق، ولكن الباطل جحدهم ما جحدوه مما أخبر الله به ورسوله، فهؤلاء عندهم أن آدم لم يكن إلا فى جنة العلم، وهبوطه انخفاض درجته فى العلم، وهذا كذب، ولكن ما أثبتوه من الحق حق، وقصة آدم تدل عليه بطريق الاعتبار الذي تسميه الصوفية الإشارة، لا أنه هو المراد بالآية، لكن قد دل عليه آيات أخر تدل على أن من كذب بالحق عوقب بأن يطبع على قلبه فلا يفهم العلم، أو لا يفهم المراد منه، وأنه يسلط عليه عدوه ويجد ذلاً، كما قال تعالى عن اليهود: "وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ" [البقرة: 61]، "ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ" [البقرة: 61].
ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات، واللذة التى تبقى بعد الموت وتنفع فى الآخرة هى لذة العلم بالّله والعمل له، وهو الإيمان به، وهم يجعلون ذلك الوجود المطلق.
وأيضا، فنفس العلم به إن لم يكن معه حب له وعبادة له، بل كان مع حب لغيره كائنا من كان، فإن عذاب هذا قد يكون من أعظم العذاب فى الدنيا والآخرة، وهم لا يجعلون كمال اللذة إلا فى نفس العلم.
ج/ 14 ص -163-وأيضاً فاقتصارهم على اللذة العقلية خطأ، والنصارى زادوا عليهم السمع والشم، فقالوا: يتمتعون بالأرواح المتعشقة والنغمات المطربة، ولم يثبتوا هم ولا اليهود الأكل والشرب ولا النكاح ـ وهى لذة اللمس ـ والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات؛ سمعاً، وبصراً، وشماً، وذوقا، ولمسا، للروح والبدن جميعاً، وكان هذا هو الكمال، لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية، وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى اللّه ـ سبحانه ـ كما فى الحديث الصحيح: "فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه"، وهو ثمرة معرفته وعبادته فى الدنيا، فأطيب ما فى الدنيا معرفته، وأطيب ما فى الآخرة النظر إليه ـ سبحانه ـ ولهذا كان التجلى يوم الجمعة فى الآخرة على مقدار صلاة الجمعة فى الدنيا.
وأبو حامد يذكر فى كتبه هو وأمثاله "الرؤية"، وأنها أفضل أنواع النعيم، ويذكر كشف الحجُب، وأنهم يرون وجه الله، ولكن هذا كله يريد به ما تقوله الجهمية والفلاسفة؛ فإن الرؤية عندهم ليست إلا العلم، لكن كمـا أن الإنسان قد يرى الشىء بعينيه، وقد يمثل له خياله إذا غاب عنه فهكذا العلم. ففى الدنيا ليس عندهم من العلم إلا مثال كالخيال في الحساب، وفى الآخرة يعلمونه بلا مثال، وهو عندهم"وجود لا داخل العالم ولا خارجه"، و"كشف الحجاب"
ج/ 14 ص -164- عندهم رفع المانع الذى فى الإنسان من الرؤية، وهو أمر عدمي، فحقيقته جعل العبد عالماً، وهذا كله مما تقول به الفلاسفة والباطنية.
وهؤلاء إنما يأمرون بالزهد فى الدنيا لينقطع تعلق النفس بها وقت فراق النفس، فلا تبقى النفس مفارقة لشىء يحبه، لكن أبو حامد لا يبيح محظورات الشرع قط، بل يقول: قتل واحد من هؤلاء خير من قتل عدد كثير من الكفار.
وأما هؤلاء فالواصل عندهم إلى العلم المطلوب قد يبيحون له محظورات الشرائع، حتى الفواحش والخمر وغيرها، إذا كانوا ممن يعتقد تحريم الخمر، وإلا فغالب هؤلاء لا يوجبون شريعة الإسلام، بل يجوزون التهود والتنصر، وكل من كان من هؤلاء واصلا إلى علمهم فهو سعيد.
وهكذا تقول الاتحادية منهم؛ كابن سبعين، وابن هود، والتلمسانى، ونحوهم، ويدخلون مع النصارى بِيَعَهُم [جمع بيعة، وهى متعبد النصارى]، ويصلون معهم إلى الشرق، ويشربون معهم ومع اليهود الخمر، ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات؛ ولأنهم أقرب إلى الاتحاد والحلول؛ ولأنهم أجهل فيقبلون ما يقولونه أعظم من قبولهم لقول المسلمين، وعلماء النصارى جهال إذا كان فيهم متفلسف
ج/ 14 ص -165-عظموه، وهؤلاء يتفلسفون.
والواحد من هؤلاء يفرح إذا قيل له: لست بمسلم، ويحكى عن نفسه كما كان أحمد الماردينى وهو من أصحاب ابن عربى يحكى عن نفسه أنه دخل إلى بعض ديارات النصارى ليأخذ منهم ما يأكله هو ورفيقه، فأخذ بعضهم يتكلم فى المسلمين، ويقول: يقولون: كذا وكذا، فقال له آخر: لا تتكلم فى المسلمين فهذا واحد منهم، فقال ذلك المتكلم: هذا وجهه وجه مسلم؟ أى ليس هذا بمسلم، فصار يحكيها الماردينى أن النصرانى قال عنه: ليس هذا بمسلم، ويفرح بقول النصرانى ويصدقه فيما يقول، أى ليس هو بمسلم.
والمتفلسفة يصرحون بهذا. يقولون: قلنا: كذا وكذا، وقال المسلمون: كذا وكذا، وربما قالوا: قلنا: كذا، وقال المِلِّيُّون: كذا أى: أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وكتبهم مشحونة بهذا، ولا بد لأحدهم عند أهل الملل أن يكون على دينهم.
لكن دخولهم فى هذا كدخولهم فى سياسة الملوك، كما كانوا مع الترك الكفار، وكانوا مع هولاكو ملك المغول الكفار، ومع القان الذى هو أكبر منه خليفة جنكزخان ببلاد الخطا، وانتساب الواحد منهم هناك إلى الإسلام انتساب إلى إسلام يرضاه ذلك
ج/ 14 ص -166-لملك بحسب غرضه، كما كان النصير الطوسى [هو محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسى، فيلسوف، كان رأسا فى العلوم العقلية، ذا منزلة من هولاكو، فكان يطيعه فيما يشير به عليه، اتخذ خزانة ملأها من الكتب التى نهبت من بغداد والشام والجزيرة، اجتمع فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، ولد بطوس سنة 597 هـ، وتوفى سنة 672 هـ] وأمثاله مع هولاكو ملك الكفار، وهو الذى أشار عليهم بقتل الخليفة ببغداد لما استولى عليها وأخذ كتب الناس، ملكها ووقفها، وأخذ منها ما يتعلق بغرضه، وأفسد الباقى، وبنى الرصد ووضعها فيه، وكان يعطى من وقف المسلمين لعلماء المشركين البخشية والطوينية، ويعطى فى رصده الفيلسوف والمنجم والطبيب أضعاف ما يعطى الفقيه، ويشرب هو وأصحابه الخمر فى شهر رمضان، ولا يصلون.
وكذلك كان بالشام ومصر طائفة مع تصوفهم وتألههم وتزهدهم يشرب أحدهم الخمر فى نهار رمضان، وتارة يصلون وتارة لا يصلون. فإنهم لا يدينون بإيجاب واجبات الإسلام وتحريم محرماته عليهم، بل يقولون: هذا للعامة والأنبياء، وأما مثلنا فلا يحتاج إلى الأنبياء. ويحكون عن بعض الفلاسفة أنه قيل له: قد بعث نبى، فقال: لو كان الناس كلهم مثلى ما احتاجوا إلى نبى. ومثل هذه الحكاية يحكيها من يكون رئيس الأطباء ولا يعرف الزندقة ولا يدرى مضمون هذه الكلمة ما هو؛ لجهله بالنبوات. وقيل لرئيسهم الأكبر فى زمن موسى ـ عليه السلام: ألا تأتيه فتأخذ عنه؟ فقال: نحن قوم مهديون فلا نحتاج إلى من يهدينا.
وأما ما ذكروه من حصول اللذة فى القلب والنعيم بالإيمان بالله
ج/ 14 ص -167-والمعرفة به فهو حق، وهو سبب دخول الجنة، وقد قال ﷺ: "إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصُفِّدَت الشياطين". وما ذاك إلا لأنه فى شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التى بها وبسببها تفتح أبواب الجنة، ويمتنع من الشرور التى بها تفتح أبواب النار، وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه فى الإفطار؛ فإن المصفد هو المقيد، لأنهم إنما يتمكنون من بنى آدم بسبب الشهوات، فإذا كُفّوا عن الشهوات صفدت الشياطين.
والجنة والنار التى تفتح وتغلق غير ما فى القلوب، ولكن ما فى القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره، وقد قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا" [النساء: 10]، وقال ﷺ: "الذى يشرب فى آنية الذهب والفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم". فقيل: يأكلون ويشربون ما سيصير ناراً. وقيل: هو سبب النار . واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.