ج/ 14 ص -1-مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد الرابع عشر
"التفسير"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده.
قَالَ شيخ الإِسلام قدّس الله رُوحه وَنوّر ضريحه:
فصل
أسْمَاء القُرآن
القرآن، الفرقان، الكتاب، الهدى، النور، الشفاء، البيان، الموعظة، الرحمة، بصائر، البلاغ، الكريم، المجيد، العزيز، المبارك، التنزيل، المنزل، الصراط المستقيم، حبل اللّه، الذكر، الذكرى، تذكرة: "وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ" [ الحاقة: 48]، "إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ" [المدثر: 54، 55]، "مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ" [البقرة: 79، وآل عمران: 3] و"تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ"[يونس: 37، يوسف: 111]، المهيمن علىه، "تَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ" [ يوسف: 111]، "تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ" [النحل: 89]، المتشابه، المثاني، الحكيم: "تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ" [لقمان: 2]،
ج/ 14 ص -2- محكم، المفصل: "وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً" [الأنعام: 114]، البرهان: "قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا" [النساء: 174]، على أحد القولين، الحق: "قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ" [يونس: 108]، عربي مبين، أحسن الحديث، أحسن القصص على قول، كلام اللّه: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ" [التوبة: 6]، العلم: "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ" [آل عمران: 61]، العلي الحكيم: "وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ"[الزخرف: 4]، القيم: "يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ"[البينة: 2، 3]، "أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا" [الكهف: 1، 2]، وَحْي فى قوله: "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 4]، حكمة فى قوله: "وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ" [القمر: 4، 5]، وحُكْما فى قوله: "أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا" [الرعد: 37]، ونبأ على قول فى قوله: "عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ"[النبأ: 2]، ونذير على قول: "هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى"[النجم: 56] فى حديث أبى موسى شافعا مشفعا وشاهداً مصدقا، وسماه النبى ﷺ: "حُجَّة لك أو عليك" وفى حديث الحارث عن على: "عِصْمَة لمن استمسك به".
وأما وصفه بأنه يقص وينطق ويحكم ويفتى ويبشر ويهدي فقال: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ" [النمل: 76]، "هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ" [الجاثية: 29]، "قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ" [ النساء: 127] أي: يفتيكم أيضا: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ" [الإسراء: 9].
ج/ 14 ص -3-فصل
فى الآيات الدالة على اتباع القرآن
قوله: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ" [ الفاتحة: 6]، فإنه فى التفسير المرفوع عن النبى ﷺ كتاب اللّه ....[بياض بالأصل].
ج/ 14 ص -4-وَسُئِلَ رحمه اللَّه عن أحاديث، هل هي صحيحة وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح؟ إلخ .
فقال:
فصل
وأما حديث فاتحة الكتاب، فقد ثبت فى الصحيح عن النبى ﷺ أنه قال: "يقول اللّه تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"قال اللّه: حمدني عبدي، وإذا قال: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ"قال اللّه: أثْنَى علي عبدي، وإذا قال: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"قال اللّه: مَجَّدَنى عبدي . وإذا قال: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" قال: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: "اهدِنَاالصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل".
ج/ 14 ص -5-وثبت فى صحيح مسلم عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبى ﷺ سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه، فقال: "هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، ولم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته"، وفى بعض الأحاديث: "إن فاتحة الكتاب أعطيها من كَنْز تحت العرش".
فصل
قال الله تعالى في أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة: 5]، وهذه السورة هى أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي الشافية، وهي الواجبة فى الصلوات، لا صلاة إلا بها، وهى الكافية تكفي من غيرها ولا يكفي غيرها عنها .
والصلاة أفضل الأعمال، وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح، أفضل كلمها الطيب وأوجبه القرآن، وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود، كما جمع بين الأمرين في أول سورة أنزلها على رسوله، حيث افتتحها
ج/ 14 ص -6- بقوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"[العلق: 1] وختمها بقوله: "وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ" [العلق: 19]، فوضعت الصلاة على ذلك أولها القراءة وآخرها السجود .
ولهذا قال سبحانه فى صلاة الخوف: "فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ" [النساء: 102]، والمراد بالسجود الركعة التى يفعلونها وحدهم بعد مفارقتهم للإمام، وما قبل القراءة من تكبير واستفتاح، واستعاذة، هي تحريم للصلاة، ومقدمة لما بعده، أول ما يبتدئ به كالتقدمة، وما يفعل بعد السجود من قعود، وتشهد فيه التحية للّه، والسلام على عباده الصالحين والدعاء والسلام على الحاضرين، فهو تحليل للصلاة ومعقبة لما قبله، قال النبى ﷺ: "مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".
ولهذا لما تنازع العلماء أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام أو هما سواء على ثلاثة أقوال عن أحمد وغيره، كان الصحيح أنهما سواء، القيام فيه أفضل الأذكار، والسجود أفضل الأعمال فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاة رسول اللّه ﷺ معتدلة، يجعل الأركان قريباً من السواء، وإذا أطال القيام طولاً كثيراً - كما كان يفعل فى قيام الليل وصلاة الكسوف - أطال معه الركوع والسجود، وإذا اقتصد فيه اقتصد فى الركوع والسجود، وأم الكتاب، كما أنها القراءة الواجبة فهي أفضل سورة فى القرآن . قال النبى ﷺ
ج/ 14 ص -7- فى الحديث الصحيح: "لم ينزل فى التوراة ولا الإنجيل ولا الزَّبُور ولا القرآن مثلها، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته"، وفضائلها كثيرة جداً .
وقد جاء مأثوراً عن الحسن البصري رواه ابن ماجه وغيره أن اللّه أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها فى الأربعة، وجمع علم الأربعة فى القرآن، وجمع علم القرآن فى المفصَّل، وجمع علم المفصل فى أم القرآن، وجمع علم أم القرآن فى هاتين الكلمتين الجامعتين: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة: 5] وإن علم الكتب المنزلة من السماء اجتمع فى هاتين الكلمتين الجامعتين .
ولهذا ثبت في الحديث الصحيح حديث: إن اللّه تعالى يقول: "قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" قال اللّه: حمدني عبدي، وإذا قال: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" قال اللّه: أثْنَى علي عبدي، وإذا قال: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" قال اللّه عز وجل: مَجَّدَنى عبدي - وفى رواية: فَوَّض إلى عبدى - وإذا قال: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل".
ج/ 14 ص -8- فقد ثبت بهذا النص أن هذه السورة منقسمة بين اللّه وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة، ف "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" مع ما قبله للّه، و"وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" مع ما بعده للعبد وله ما سأل؛ ولهذا قال من قال من السلف: نصفها ثناء ونصفها مسألة، وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء وإذا كان اللّه قد فرض علىنا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين فى كل صلاة، فمعلوم أن ذلك يقتضى أنه فرض علىنا أن نعبده وأن نستعينه؛ إذ إيجاب القول الذى هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ليس إيجابا لمجرد لفظ لا معنى له، فإن هذا لا يجوز أن يقع؛ بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة؛ فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب، أو القلب والبدن، بل أوجب دعاء اللّه عز وجل ومناجاته، وتكليمه ومخاطبته بذلك ليكون الواجب من ذلك كاملا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد .
وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجاباً وغير إيجاب فى مواضع، كقوله فى آخر سورة هود: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود: 123]، وقول العبد الصالح شعيب: "وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود: 88]، وقول إبراهيم والذين معه: "رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [الممتحنة: 4]، وقوله سبحانه إذ أمر رسوله أن يقول: "كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ" [الرعد: 30].
ج/ 14 ص -9- فأمر نبيه بأن يقول: على الرحمن توكلت وإليه متاب، كما أمره بهما فى قوله: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود: 123] والأمر له أمر لأمته، وأمره بذلك فى أم القرآن وفى غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة للّه وامتثالا لأمره، ولا يتقدموا بين يدى اللّه ورسوله؛ ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا ﷺ والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من اللّه؛ بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسناً أو عفواً، وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم، وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره، كالمنحرفين عن الصراط المستقيم .
وإلى هذين الأصلين كان النبى ﷺ يقصد فى عباداته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله فى الأضحية: "اللهم هذا منك ولك"، فإن قوله: "منك" هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله: "لك" هو معنى العبادة، ومثل قوله في قيامه من الليل: "لك أسلمت، وبك آمنت، وعلىك توكلت، وإليك أنَبْت ، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذى لا يموت، والجن والإنس يموتون" إلى أمثال ذلك .
ج/ 14 ص -10-إذا تقرر هذا الأصل، فالإنسان فى هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة، إما أن يأتي بهما، وإما أن يأتى بالعبادة فقط، وإما أن يأتى بالاستعانة فقط، وإما أن يتركهما جميعاً.
ولهذا كان الناس فى هذه الأقسام الأربعة، بل أهل الديانات هم أهل هذه الأقسام، وهم المقصودون هنا بالكلام.
قسم يغلب عليه قصد التأله لله ومتابعة الأمر والنهى والإخلاص لله تعالى، واتباع الشريعة فى الخضوع لأوامره وزواجره وكلماته الكونيات، لكن يكون منقوصا من جانب الاستعانة والتوكل، فيكون إما عاجزاً وإما مفرطا، وهو مغلوب إما مع عدوه الباطن وإما مع عدوه الظاهر، وربما يكثر منه الجزع مما يصيبه، والحزن لما يفوته، وهذا حال كثير ممن يعرف شريعة الله وأمره، ويرى أنه متبع للشريعة وللعبادة الشرعية، ولا يعرف قضاءه وقدره، وهو حسن القصد، طالب للحق، لكنه غير عارف بالسبيل الموصلة، والطريق المفضية.
وقسم يغلب عليه قصد الاستعانة بالله والتوكل علىه، وإظهار الفقر والفاقة بين يديه، والخضوع لقضائه وقدره وكلماته الكونيات، لكن يكون منقوصا من جانب العبادة وإخلاص الدين للّه، فلا يكون مقصوده
ج/ 14 ص -11-أن يكون الدين كله للّه، وإن كان مقصوده ذلك فلا يكون متبعاً لشريعة اللّه عز وجل ومنهاجه، بل قصده نوع سلطان فى العالم، إما سلطان قدرة وتأثير، وإما سلطان كشف وإخبار، أو قصده طلب ما يريده ودفع ما يكرهه بأي طريق كان، أو مقصوده نوع عبادة وتأله بأي وجه كان همته فى الاستعانة والتوكل المعينة له على مقصوده، فيكون إما جاهلا وإما ظالما تاركا لبعض ما أمره اللّه به، راكبا لبعض ما نهى اللّه عنه، وهذه حال كثير ممن يتأله ويتصوف ويتفقر، ويشهد قدر اللّه وقضاءه، ولا يشهد أمر اللّه ونهيه، ويشهد قيام الأكوان باللّه وفقرها إليه، وإقامته لها ولا يشهد ما أمر به وما نهى عنه، وما الذي يحبه اللّه منه ويرضاه، وما الذي يكرهه منه ويسخطه .
ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة، ومخالفة لبعض الأمر، وإذا أوغل الرجل منهم دخل فى الإباحية والانحلال، وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد، كما قد وقع لكثير من الشيوخ، ويوجد فى كلام صاحب "منازل السائرين" وغيره ما يفضي إلى ذلك .
وقد يدخل بعضهم فى "الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود" فيعتقد أن اللّه هو الوجود المطلق، كما يقول صاحب "الفتوحات المكية" في أولها:
ج/ 14 ص -12- الرب حق والعبد حق ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف
وقسم ثالث مُعْرِضون عن عبادة اللّه وعن الاستعانة به جميعا .
وهم فريقان: أهل دنيا وأهل دين، فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير اللّه، ويستعينون غير اللّه بظنهم وهوَاهم: "إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى" [ النجم: 23 ]، وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب .
واعلم أنه يجب التفريق بين من قد يعرض عن عبادة اللّه والاستعانة به، وبين من يعبد غيره ويستعين بسواه .
فصل
قال الله عز وجل فى أول السورة: "الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين" [الفاتحة: 2] فبدأ بهذين الاسمين: الله، والرب.
و"الله" هو الإله المعبود، فهذا الاسم أحق بالعبادة؛ ولهذا يقال: الله أكبر، الحمد لله، سبحان الله
ج/ 14 ص -13-لا إله إلا الله.
و"الرب" هو المربى الخالق الرازق الناصر الهادى. وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة؛ ولهذا يقال: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ"[نوح: 28]، "قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"[ الأعراف: 23]، "رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" [القصص: 16]، "ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا" [آل عمران: 147]، "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا"[البقرة: 286]، فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الرب.
فالاسم الأول يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه، وما خلق له، وما فيه صلاحه وكماله، وهو عبادة الله، والاسم الثانى يتضمن خلق العبد ومبتداه، وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثانى يدخل فى الأول دخول الربوبية فى الإلهية، والربوبية تستلزم الألوهية أيضاً، والاسم "الرحمن" يتضمن كمال التعلقين، وبوصف الحالين فيه تتم سعادته فى دنياه وأخراه.
ولهذا قال تعالى: "وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ" [الرعد: 30]، فذكر هنا الأسماء الثلاثة: "الرحمن" و "ربى" و "الإله"، وقال: "عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ" كما ذكر الأسماء الثلاثة فى أم القرآن، لكن بدأ هناك باسم اللّه؛ ولهذا بدأ فى السورة ب "إيَّاكّ نّعًبٍد " فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة؛ لأن
ج/ 14 ص -14-تلك السورة فاتحة الكتاب وأم القرآن، فقدم فيها المقصود الذي هو العلة الغائية، فإنها علة فاعلىة للعلة الغائية . وقد بسطت هذا المعنى فى مواضع؛ فى أول "التفسير" وفى "قاعدة المحبة والإرادة" وفي غير ذلك .
فصل
ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود، وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة، كان إقرارهم باللّه من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته، وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له، والإنابة إليه .
ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية، وقد أخبر عنهم أنهم "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" [الزخرف: 87]، وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال: "وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [لقمان: 32]، فأخبر أنهم مقرون بربوبيته، وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم
ج/ 14 ص -15-الضر في دعائهم واستعانتهم، ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم .
وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية، وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية، وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى اللّه من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به فى الباطن من الأحوال التى بها يتصرفون، وهؤلاء من جنس الملوك، وقد ذم اللّه عز وجل فى القرآن هذا الصنف كثيراً، فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون فى الحقائق، ويعملون عليها، وهم لعمري فى نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية، وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة، وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به، واللّه سبحانه أعلم .
فصل
وذلك أن الإنسان، بل وجميع المخلوقات، عباد للّه تعالى، فقراء إليه، مماليك له، وهو ربهم ومليكهم وإلههم، لا إله إلا هو، فالمخلوق ليس له من نفسه شىء أصلاً، بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه وغير ذلك إنما هو من خلق اللّه، واللّه عز وجل رب
ج/ 14 ص -16-ذلك كله ومليكه، وبارئه وخالقه ومصوره .
وإذا قلنا: ليس له من نفسه إلا العدم، فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود، بل العدم ليس بشىء، وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل، لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود، بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة، وبينهما فرق، وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقه وأبدعه الفاعل، وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل، فإنه يفضى إلى التسلسل والدور؛ ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس؛ فإنه ليس أحد العدمين مميزاً لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلاً، وإن كان يعقل أن عدم المقتضى أولى بعدم الأثر من العكس، فهذا لأنه لما كان وجود المقتضى هو المفيد لوجود المقتضى صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية؛ لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضى أو لوجود المانع. وبعد قيام المقتضى لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين، فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه ويمنعه المانع المنافى وهو أمر موجود، وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه، وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه.
وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ
ج/ 14 ص -17-مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها، فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته، لا يكون شيء بدونها بحال، فليس لنا سبب يقتضى وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده، بل مشيئته هي السبب الكامل، فمع وجودها لا مانع، ومع عدمها لا مقتضى "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ" [فاطر: 2]، "وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ" [يونس: 7]، "قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون" [الزمر: 38].
وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلاً، بل ما بنا من نعمة فمن اللّه، وإذا مسنا الضر فإليه نجأر، والخير كله بيديه، كما قال: "مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ" [النساء: 79]، وقال: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران: 165]، وقال النبى ﷺ فى سيد الاستغفار الذى فى صحيح البخارى: "اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووَعْدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك علىّ، وأبوءُ بذنبى، فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، وقال فى دعاء الاستفتاح الذى فى صحيح مسلم:
ج/ 14 ص -18-"لبيك وسعديك، والخير بيديك، والشر ليس إليك، تباركت ربنا وتعاليت".
وذلك أن الشر إما أن يكون موجوداً أو معدوماً .فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها، مثل عدم الحياة، أو العلم، أو السمع أو البصر، أو الكلام، أو العقل، أو العمل الصالح على تنوع أصنافه، مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل علىه، والإنابة إليه، ورجائه وخشيته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة، من الأقوال والأفعال. فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات، لكن هذا العدم ليس بشىء أصلاً، حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى اللّه، وإنما هو من لوازم النفس التى هى حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت، فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم، وبعد أن خلقت وقد خلقت ضعيفة ناقصة فيها النقص والضعف والعجز، فإن هذه الأمور عدمية، فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته، وعدم مقتضيه، وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء اللّه تعالى.
ونكتة الأمر: أن هذا الشر والسيئات العدمية، ليست موجودة حتى يكون اللّه خالقها، فإن اللّه خالق كل شىء.
ج/ 14 ص -19-والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها، وتارة إلى وجود مانعها، فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين:
أما الأول، فلأنه الحق المبين، فلا يقال: عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها .
وأما الثانى وهو وجود المانع فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضى، ولو شاء فعلها لما منعه مانع، وهو سبحانه لا يمنع نفسه ما شاء فعله، بل هو فعال لما يشاء، ولكن اللّه قد يخلق هذا سبباً ومقتضياً ومانعاً، فإن جعل السبب تاماً لم يمنعه شيء، وإن لم يجعله تاماً منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له، فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه، كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه، وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة، ولوجود المانع منه أخرى .
أما عدم السبب فظاهر؛ فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة، ولو كان منه شيء لكان سبباً فأضيف إليه لعدم السبب، ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة اللّه له، فما لم يصدر منه كان لعدم السبب .
ج/ 14 ص -20-وأما وجود المانع المضاد له المنافى، فلأن نفسه قد تضيق وتضعف، وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة فى نفسها، متنافية في حقه، فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره، أو الكلام فى شيء أو النظر فيه أو إرادته، أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر، وإن كان ذلك خيراً لضيقه وعجزه، فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعاً وصاداً عن آخر .
والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته، فعاد إلى العدم الذي هو منه، والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى اللّه تعالى، وأما إن كان الشيء موجوداً كالألم وسبب الألم، فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شراً على الإطلاق، ولا شراً محضاً، وإنما هو شر فى حق من تألم به، وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد .
ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلاً: "آمنت بالقَدَر خيره وشره، وحلوه ومُرِّه"، وفى الحديث الذى رواه أبو داود: "لو أنفقت ملء الأرض ذَهَبا لما قَبِله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"، فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء، وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شراً، ومن تنعم به فهو في حقه خير، كما كان النبى ﷺ يُعَلِّم من قصَّ عليه أخوه رؤيا أن
ج/ 14 ص -21-يقول: "خيراً تلقاه وشراً توقاه، خيراً لنا وشراً لأعدائنا"، فإنه إذا أصاب العبد شر سُرَّ قلب عدوه، فهو خير لهذا وشر لهذا، ومن لم يكن له ولياً ولا عدواً فليس في حقه لا خيراً ولا شراً، وليس فى مخلوقات اللّه ما يؤلم الخلق كلهم دائماً، ولا ما يؤلم جمهورهم دائماً، بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم فى أغلب الأوقات، كالشمس والعافية، فلم يكن في الموجودات التى خلقها اللّه ما هو شر مطلقاً عاماً.
فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص، وفيه وجه آخر هو به خير وحسن، وهو أغلب وجهيه، كما قال تعالى: "أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" [السجدة: 7]، وقال تعالى: "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" [النمل: 88]، وقال تعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ" [الحجر: 85]، وقال: "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً" [ آل عمران: 191]
وقد علم المسلمون أن اللّه لم يخلق شيئاً ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره، ولا يكون فى المخلوقات شر محض لا خير فيه، ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه؛ وبهذا يظهر معنى قوله: "والشر ليس إليك"، وكون الشر لم يُضَف إلى اللّه وحده، بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله
ج/ 14 ص -22-فهذا الشر الموجود الخاص المقيد سببه، إما عدم وإما وجود، فالعدم مثل عدم شرط أو جزء سبب؛ إذ لا يكون سببه عدماً محضاً؛ فإن العدم المحض لا يكون سبباً تاماً لوجود، ولكن يكون سبب الخير واللذة قد انعقد، ولا يحصل الشرط فيقع الألم، وذلك مثل عدم فعل الواجبات الذي هو سبب الذم والعقاب، ومثل عدم العلم الذي هو سبب ألم الجهل وعدم السمع والبصر والنطق الذي هو سبب الألم بالعمى والصمم والبكم، وعدم الصحة والقوة، الذي هو سبب الألم والمرض والضعف .
فهذه المواضع ونحوها يكون الشر أيضاً مضافاً إلى العدم المضاف إلى العبد، حتى يتحقق قول الخليل: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" [الشعراء: 80]، فإن المرض وإن كان ألماً موجوداً فسببه ضعف القوة، وانتفاء الصحة الموجودة، وذلك عدم هو من الإنسان المعدوم بنفسه، ولا يتحقق قول الحق: "وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ" [النساء: 79]، وقوله: "قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ"[آل عمران: 165] ونحو ذلك فيما كان سببه عدم فعل الواجب، وكذلك قول الصحابى: وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان.
يببن ذلك أن المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته، فإنه إذا كان عالما بمضرتها وهو غنى عنها امتنع أن يفعلها، والجهل أصله عدم، والحاجة أصلها العدم.
ج/ 14 ص -23-فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم والغنى؛ ولهذا يقول فى القرآن: "مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ" [هود: 20]، "أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ"؟[يس: 62]، "إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ" [الصافات: 69، 70]، إلى نحو هذه المعانى .
وأما الموجود الذى هو سبب الشر الموجود الذى هو خاص كالآلام، مثل الأفعال المحرمة من الكفر الذى هو تكذيب أو استكبار، والفسوق الذى هو فعل المحرمات ونحو ذلك، فإن ذلك سبب الذم والعقاب، وكذلك تناول الأغذية الضارة، وكذلك الحركات الشديدة المورثة للألم، فهذا الوجود لا يكون وجوداً تاماً محضاً؛ إذ الوجود التام المحض لا يورث إلا خيراً، كما قلنا: إن العدم المحض لا يقتضى وجوداً، بل يكون وجوداً ناقصاً، إما فى السبب وإما فى المحل، كما يكون سبب التكذيب عدم معرفة الحق والإقرار به، وسبب عدم هذا العلم والقول عدم أسبابه، من النظر التام، والاستماع التام لآيات الحق وأعلامه.
وسبب عدم النظر والاستماع، إما عدم المقتضى فيكون عدماً محضاً، وإما وجود مانع من الكبر أو الحسد فى النفس "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" [الحديد: 23]، وهو تصور باطل، وسببه عدم غنى النفس بالحق فتعتاض عنه بالخيال الباطل .
ج/ 14 ص -24-والحسد أيضاً سببه عدم النعمة التى يصير بها مثل المحسود أو أفضل منه، فإن ذلك يوجب كراهة الحاسد لأن يكافئه المحسود، أو يتفضل عليه .
وكذلك الفسوق كالقتل والزنا وسائر القبائح إنما سببها حاجة النفس إلى الاشتفاء بالقتل والالتذاذ بالزنا، وإلا فمن حصل غرضه بلا قتل أو نال اللذة بلا زنا لا يفعل ذلك، والحاجة مصدرها العدم، وهذا يبين إذا تدبره الإنسان أن الشر الموجود إذا أضيف إلى عدم أو وجود فلابد أن يكون وجوداً ناقصاً، فتارة يضاف إلى عدم كمال السبب أو فوات الشرط، وتارة يضاف إلى وجود، ويعبر عنه تارة بالسبب الناقص والمحل الناقص، وسبب ذلك إما عدم شرط أو وجود مانع، والمانع لا يكون مانعاً إلا لضعف المقتضى، وكل ما ذكرته واضح بين، إلا هذا الموضع ففيه غموض يتبين عند التأمل وله طرفان:
أحدهما: أن الموجود لا يكون سببه عدماً محضاً .
والثانى: أن الموجود لا يكون سبباً للعدم المحض، وهذا معلوم بالبديهة أن الكائنات الموجودة لا تصدر إلا عن حق موجود
ج/ 14 ص -25-ولهذا كان معلوماً بالفطرة أنه لابد لكل مصنوع من صانع، كما قال تعالى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" [الطور: 35]، يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم، أم هم خلقوا أنفسهم؟
ومن المتكلمين من استدل على هذا المطلوب بالقياس، وضرب المثال، والاستدلال عليه ممكن ودلائله كثيرة، والفطرة عند صحتها أشد إقراراً به، وهو لها أبْدَه، وهى إليه أشد اضطرارا من المثال الذى يقاس به .
وقد اختلف أهل الأصول فى العلة الشرعية، هل يجوز تعلىل الحكم الوجودى بالوصف العدمى فيها مع قولهم: إن العدمى يعلل بالعدمى؟ فمنهم من قال: يعلل به، ومنهم من أنكر ذلك، ومنهم من فصل بين ما لا يجوز أن يكون علة للوجود فى قياس العلة، ويجوز أن تكون علته له فى قياس الدلالة فلا يضاف إليه فى قياس الدلالة، وهذا فصل الخطاب، وهو أن قياس الدلالة يجوز أن يكون العدم فيه علة وجزءاً من علة؛ لأن عدم الوصف قد يكون دليلا على وصف وجودى يقتضى الحكم .
وأما قياس العلة، فلا يكون العدم فيه علة تامة، لكن يكون جزءاً من العلة التامة وشرطا للعلة المقتضية التى ليست بتامة، وقلنا: جزء من العلة التامة، وهو معنى كونه شرطاً في اقتضاء العلة الوجودية،
ج/ 14 ص -26- وهذا نزاع لفظى، فإذا حققت المعانى ارتفع. فهذا فى بيان أحد الطرفين وهو أن الموجود لا يكون سببه عدماً محضاً.
وأما الطرف الثانى: وهو أن الموجود لا يكون سبباً لوجود يستلزم عدماً، فلأن العدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود، بل يكفى فيه عدم السبب الموجود؛ ولأن السبب الموجود إذا أثر فلابد أن يؤثر شيئاً، والعدم المحض ليس بشىء، فالأثر الذي هو عدم محض بمنزلة عدم الأثر، بل إذا أثر الإعدام فالإعدام أمر وجودي فيه عدم، فإن جعل الموجود معدوماً والمعدوم موجوداً أمر معقول، أما جعل المعدوم معدوماً فلا يعقل إلا بمعنى الإبقاء على العدم، والإبقاء على العدم يكفي فيه عدم الفاعل، والفرق معلوم بين عدم الفاعل وعدم الموجب فى عدم العلة، وبين فاعل العدم، وموجب العدم، وعلة العدم . والعدم لا يفتقر إلى الثاني، يل يكفى فيه الأول .
فتبين بذلك الطرفان، وهو أن العدم المحض الذي ليس فيه شوب وجود لا يكون وجودا ما؛ لا سبباً ولا مسبباً، ولا فاعلا ولا مفعولا أصلا، فالوجود المحض التام الذي ليس فيه شوب عدم لا يكون سبباً لعدم أصلا، ولا مسبباً عنه، ولا فاعلاً له ولا مفعولاً، أما كونه ليس مسبباً عنه ولا مفعولاً له فظاهر، وأما كونه ليس سبباً له، فإن كان سبباً لعدم محض فالعدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود، وإن كان لعدم
ج/ 14 ص -27-فيه وجود فذاك الوجود لابد له من سبب، ولو كان سببه تاماً وهو قابل لما دخل فيه عدم؛ فإنه إذا كان السبب تاماً والمحل قابلا، وجب وجود المسبب، فحيث كان فيه عدم فلعدم ما فى السبب أو فى المحل فلا يكون وجوداً محضاً .
فظهر أن السبب حيث تخلف حكمه إن كان لفوات شرط فهو عدم، وإن كان لوجود مانع فإنما صار مانعاً لضعف السبب، وهو أيضاً عدم قوته وكماله، فظهر أن الوجود ليس سبب العدم المحض، وظهر بذلك القسمة الرباعية، وهى أن الوجود المحض لا يكون إلا خيراً .
يبين ذلك أن كل شرٍّ فى العالم لا يخرج عن قسمين: إما ألم وإما سبب الألم، وسبب الألم مثل الأفعال السيئة المقتضية للعذاب، والألم الموجود لا يكون إلا لنوع عدم، فكما يكون سببه تفرق الاتصال؛ وتفرق الاتصال هو عدم التأليف والاتصال الذى بينهما، وهو الشر والفساد .
وأما سبب الألم، فقد قررت فى قاعدة كبيرة: أن أصل الذنوب هو عدم الواجبات لا فعل المحرمات، وإن فعل المحرمات إنما وقع لعدم الواجبات، فصار أصل الذنوب عدم الواجبات، وأصل الألم
ج/ 14 ص -28-عدم الصحة؛ ولهذا كان النبى ﷺ يعلمهم فى خطبة الحاجة أن يقولوا: "ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا"، فيستعيذ من شر النفس الذى نشأ عنها من ذنوبها وخطاياها، ويستعيذ من سيئات الأعمال التى هى عقوباتها وآلامها؛ فإن قوله: "ومن سيئات أعمالنا" قد يراد به السيئات فى الأعمال، وقد يراد به العقوبات، فإن لفظ السيئات فى كتاب اللّه يراد به ما يسوء الإنسان من الشر، وقد يراد به الأعمال السيئة، قال تعالى: "إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا" [آل عمران: 120]، وقال تعالى: "وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ" [الشورى: 48].
ومعلوم أن شر النفس هو الأعمال السيئة، فتكون سيئات الأعمال هى الشر والعقوبات الحاصلة بها فيكون مستعيذاً من نوعى السيئات؛ الأعمال السيئة وعقوباتها، كما فى الاستعاذة المأمور بها فى الصلاة: "أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"، فأمرنا بالاستعاذة من العذاب عذاب الآخرة وعذاب البرزخ ومن سبب العذاب، ومن فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال. وذكر الفتنة الخاصة بعد الفتنة العامة فتنة المسيح الدجال فإنها أعظم الفتن، كما فى الحديث الصحيح: "ما من خَلْق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال".
ج/ 14 ص -29-فصل
إذا ظهر أن العبد وكل مخلوق فقير إلى الله محتاج إليه ليس فقيراً إلى سواه، فليس هو مستغنياً بنفسه ولا بغير ربه، فإن ذلك الغير فقير أيضاً محتاج إلى الله، ومن المأثور عن أبى يزيد رحمه الله أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق. وعن الشيخ أبى عبد الله القرشى [هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم، الأندلسى الصوفى، أحد العارفين وصاحب الكرامات والأحوال، له كلمات وجمل فى آداب المعاملات وطرائق أهل الرياضات جمعها بعض تلاميذه فى كتاب الفصول أقام بمصر مدة، وسكن القدس وتوفى بها سنة 995ه عن خمس وخمسين سنة] أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون . وهذا تقريب وإلا فهو كاستغاثة العدم بالعدم؛ فإن المستغاث به إن لم يخلق الحق فيه قوة وحولا وإلا فليس له من نفسه شىء، قال سبحانه: "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" [البقرة: 255]، وقال تعالى: "وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى" [الأنبياء: 28]، وقال تعالى: "وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ"[البقرة: 102] واسم العبد يتناول معنيين:
أحدهما: بمعنى العابد كرهاً، كما قال: "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا" [مريم: 93]، وقال: "وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا"[آل عمران: 83] وقال: "بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ"[البقرة: 117، والأنعام: 101]،
ج/ 14 ص -30-"كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ" [البقرة: 116، والروم: 26 ]، وقال: "وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا" [الرعد: 15]. والثانى: بمعنى العابد طوعاً وهو الذى يعبده ويستعينه، وهذا هو المذكور فى قوله: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا" [الفرقان: 63]، وقوله: "عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا"[الإنسان: 6]، وقوله: "نَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ"[الحجر: 42]، وقوله: "إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" [الحجر: 40]، وقوله: "يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ" [الزخرف: 68]، وقوله: "وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ" [ص: 45]، وقوله: "فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى" [النجم: 10]، وقوله: "نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [ص: 30، 44]، وقوله: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً" [الإسراء: 1]، وقوله: "وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ" [الجن: 19] .
وهذه العبودية قد يخلو الإنسان منها تارة، وأما الأولى فوصف لازم، إذا أريد بها جريان القدر عليه وتصريف الخالق له، قال تعالى: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ" [آل عمران: 83]، وعامة السلف على أن المراد بالاستسلام: استسلامهم له بالخضوع والذل، لا مجرد تصريف الرب لهم، كما فى قوله: "وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا" [الرعد: 15]، وهذا الخضوع والذل هو أيضاً لازم لكل عبد لابد له من ذلك، وإن
ج/ 14 ص -31-كان قد يعرض له أحياناً الإعراض عن ربه والاستكبار، فلابد له عند التحقيق من الخضوع والذل له، لكن المؤمن يسلم له طوعاً فيحبه ويطيع أمره، والكافر إنما يخضع له عند رغبة ورهبة، فإذا زال عنه ذلك أعرض عن ربه، كما قال: "وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ"[يونس: 12]، وقال: "وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا"[الإسراء: 67].
وفقر المخلوق وعبوديته أمر ذاتي له لا وجود له بدون ذلك، والحاجة ضرورية لكل المصنوعات المخلوقات، وبذلك هي أنها لخالقها وفاطرها؛ إذ لا قيام لها بدونه، وإنما يفترق الناس فى شهود هذا الفقر والاضطرار وعزوبه عن قلوبهم .
وأيضاً، فالعبد يفتقر إلى اللّه من جهة أنه معبوده الذي يحبه حب إجلال وتعظيم، فهو غاية مطلوبه ومراده ومنتهى همته، ولا صلاح له إلا بهذا، وأصل الحركات الحب، والذي يستحق المحبة لذاته هو اللّه، فكل من أحب مع اللّه شيئاً فهو مشرك، وحبه فساد؛ وإنما الحب الصالح النافع حب اللّه والحب للّه، والإنسان فقير إلى اللّه من جهة عبادته له ومن جهة استعانته به للاستسلام والانقياد لمن أنت إليه فقير وهو ربك وإلهك .
ج/ 14 ص -32-وهذا العلم والعمل أمر فطري ضروري؛ فإن النفوس تعلم فقرها إلى خالقها، وتذل لمن افتقرت إليه، وغناه من الصمدية التى انفرد بها، فإنه "يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [الرحمن: 29]، وهو شهود الربوبية بالاستعانة والتوكل والدعاء والسؤال، ثم هذا لا يكفيها حتى تعلم ما يصلحها من العلم والعمل، وذلك هو عبادته والإنابة إليه؛ فإن العبد إنما خلق لعبادة ربه، فصلاحه وكماله ولذته وفرحه وسروره فى أن يعبد ربه وينيب إليه، وذلك قدر زائد على مسألته والافتقار إليه؛ فإن جميع الكائنات حادثة بمشيئته، قائمة بقدرته وكلمته، محتاجة إليه، فقيرة إليه، مسلمة له طوعاً وكرهاً، فإذا شهد العبد ذلك وأسلم له وخضع، فقد آمن بربوبيته، ورأى حاجته وفقره إليه صار سائلا له متوكلا عليه مستعيناً به، إما بحاله أو بِقَالِه، بخلاف المستكبر عنه المعرض عن مسألته.
ثم هذا المستعين به السائل له، إما أن يسأل ما هو مأمور به، أو ما هو منهى عنه، أو ما هو مباح له، فالأول حال المؤمنين السعداء الذين حالهم: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة: 5]، والثانى حال الكفار والفساق والعصاة الذين فيهم إيمان به وإن كانوا كفاراً، كما قال: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ" [يوسف: 106] فهم مؤمنون بربوبيته، مشركون فى عبادته، كما قال النبى ﷺ لحُصَيْن الخزاعى:
ج/ 14 ص -33-"يا حصين، كم تعبد؟" قال: سبعة آلهة؛ ستة فى الأرض وواحدا فى السماء، قال: "فمن الذي تدع لرَغْبَتك ورَهْبَتك؟"، قال: الذي فى السماء، قال: "أسلم حتى أعلمك كلمة ينفعك اللّه تعالى بها"، فأسلم، فقال: "قل: اللهم ألهمني رشدي، وقِنِي شر نفسي" رواه أحمد وغيره.
ولهذا قال سبحانه وتعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" [البقرة: 186]، أخبر سبحانه أنه قريب من عباده، يجيب دعوة الداعى إذا دعاه، فهذا إخبار عن ربوبيته لهم، وإعطائه سؤلهم، وإجابة دعائهم؛ فإنهم إذا دعوه فقد آمنوا بربوبيته لهم، وإن كانوا مع ذلك كفاراً من وجه آخر، وفساقاً أو عصاة، قال تعالى: "وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا" [ الإسراء: 67]، وقال تعالى: "وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون" [يونس: 12]، ونظائره في القرآن كثيرة، ثم أمرهم بأمرين فقال: "فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ"[البقرة: 186].فالأول أن يطيعوه فيما أمرهم به من العبادة والاستعانة، والثانى الإيمان بربوبيته وألوهيته، وأنه ربهم وإلههم.
ولهذا قيل: إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد، وعن كمال
ج/ 14 ص -34-الطاعة؛ لأنه عقب آية الدعاء بقوله: "فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي" والطاعة والعبادة هى مصلحة العبد التى فيها سعادته ونجاته، وأما إجابة دعائه وإعطاء سؤاله، فقد يكون منفعة وقد يكون مضرة، قال تعالى: "وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً" [الإسراء: 11]، وقال تعالى: "وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ" [يونس: 11]، وقال تعالى عن المشركين: "وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ"[الأنفال: 32]، وقال: "إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" [الأنفال: 19]، وقال: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [الأعراف: 55]، وقال: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ"الآية [الأعراف: 175، 176]، وقال: "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" [آل عمران: 61]، وقال النبى ﷺ لما دخل على أهل جابر فقال: "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون".
ج/ 14 ص -35-فصل
فالعبد كما أنه فقير إلى اللّه دائماً فى إعانته وإجابة دعوته وإعطاء سؤاله وقضاء حوائجه فهو فقير إليه فى أن يعلم ما يصلحه وما هو الذي يقصده ويريده، وهذا هو الأمر والنهي والشريعة، وإلا فإذا قضيت حاجته التى طلبها وأرادها ولم تكن مصلحة له كان ذلك ضرراً علىه، وإن كان في الحال له فيه لذة ومنفعة فالاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة، وهذا قد عَرَّفه اللّه عباده برسله وكتبه. علموهم، وزكوهم، وأمروهم بما ينفعهم، ونهوهم عما يضرهم، وبينوا لهم أن مطلوبهم ومقصودهم ومعبودهم يجب أن يكون هو الله وحده لا شريك له، كما أنه هو ربهم وخالقهم، وأنهم إن تركوا عبادته أو أشركوا به غيره خسروا خسراناً مبيناً، وضلوا ضلالا بعيداً، وكان ما أوتوه من قوة ومعرفة وجاه ومال وغير ذلك وإن كانوا فيه فقراء إلى الله مستعينين به علىه، مقرين بربوبيته فإنه ضرر علىهم، ولهم بئس المصير وسوء الدار.
وهذا هو الذي تعلق به الأمر الديني الشرعى والإرادة الدينية
ج/ 14 ص -36-الشرعية، كما تعلق بالأول الأمر الكونى القدري والإرادة الكونية القدرية .
والله سبحانه قد أنعم على المؤمنين بالإعانة والهداية؛ فإنه بين لهم هُدَاهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأعانهم على اتباع ذلك علماً وعملا، كما مَنَّ علىهم وعلى سائر الخلق بأن خلقهم ورزقهم وعافاهم، ومَنَّ على أكثر الخلق بأن عرفهم ربوبيته لهم وحاجتهم إليه، وأعطاهم سؤلهم، وأجاب دعاءهم، قال تعالى: "يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" [الرحمن: 29]، فكل أهل السموات والأرض يسألونه، فصارت الدرجات أربعة:
قوم لم يعبدوه ولم يستعينوه، وقد خلقهم ورزقهم وعافاهم .
وقوم استعانوه فأعانهم ولم يعبدوه .
وقوم طلبوا عبادته وطاعته، ولم يستعينوه ولم يتوكلوا عليه .
والصنف الرابع: الذين عبدوه واستعانوه فأعانهم على عبادته وطاعته، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد بين سبحانه ما خص به المؤمنين فى قوله: "حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ" [الحجرات: 7] والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على أفضل المرسلين محمد وآله وصحبه أجمعين .
ج/ 14 ص -37-قَالَ شيخ الإِسلام أبو العباس أَحمد بن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ تعَالى:
فصل
والعبد مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم، فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء؛ فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية، فمن فاته فهو إما من المغضوب علىهم، وإما من الضالين، وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدى الله، وهذه الآية مما يبين فساد مذهب القَدَرِيّة .
وأما سؤال من يقول: فقد هداهم فلا حاجة بهم إلى السؤال، وجواب من أجابه: بأن المطلوب دوامها كلام من لم يعرف حقيقة الأسباب، وما أمر الله به؛ فإن "الصراط المستقيم" أن يفعل العبد فى كل وقت ما أمر به فى ذلك الوقت من علم وعمل، ولا يفعل ما نهى عنه، وهذا يحتاج فى كل وقت
ج/ 14 ص -38-إلى أن يعلم ويعمل ما أمر به في ذلك الوقت وما نهى عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة جازمة لترك المحظور، فهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد فى وقت واحد، بل كل وقت يحتاج إلى أن يجعل الله فى قلبه من العلوم والإرادات ما يهتدى به فى ذلك الصراط المستقيم .
نعم، حصل له هدى مجمل بأن القرآن حق، والرسول حق، ودين الإسلام حق، وذلك حق، ولكن هذا المجمل لا يغنيه إن لم يحصل له هدى مفصل فى كل ما يأتيه ويذره من الجزئيات التى يحار فيها أكثر عقول الخلق، ويغلب الهوى والشهوات أكثر عقولهم لغلبة الشهوات والشبهات عليهم .
والإنسان خلق ظلوما جهولا، فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله، وعدل فى محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته، فكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافى جهله، وعدل ينافى ظلمه، فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم، وقد قال تعالى لنبيه ﷺ - بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوانِ: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا" إلى قوله تعالى: "وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا" [الفتح: 1، 2]،
ج/ 14 ص -39-فإذا كان هذا حاله فى آخر حياته أو قريباً منها فكيف حال غيره؟
و "الصراط المستقيم" قد فسر بالقرآن، وبالإسلام، وطريق العبودية، وكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره، فالقرآن مشتمل على مهمات وأمور دقيقة، ونواهٍ وأخبار وقصص وغير ذلك، إن لم يهد الله العبد إليها فهو جاهل بها ضال عنها، وكذلك الإسلام وما اشتمل عليه من المكارم والطاعات والخصال المحمودة، وكذلك العبادة وما اشتملت علىه.
فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية فى سعادته ونجاته وفلاحه، بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر، فإن الله يرزقه، فإذا انقطع رزقه مات، والموت لابد منه، فإذا كان من أهل الهدى به كان سعيداً قبل الموت وبعده، وكان الموت موصلا إلى السعادة الأبدية، وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيداً، وكان القتل من تمام النعمة، فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق، بل لا نسبة بينهما؛ لأنه إذا هدي كان من المتقين "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" [الطلاق: 2، 3]، وكان ممن ينصر الله ورسوله، ومن نصر الله نصره الله، وكان من جند الله، وهم الغالبون؛ ولهذا كان هذا الدعاء هو المفروض .
ج/ 14 ص -40-وأيضاً، فإنه يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدى، ثم أمر وهدى غيره بقوله وفعله ورؤيته، فالهدى التام أعظم ما يحصل به الرزق والنصر، فتبين أن هذا الدعاء جامع لكل مطلوب، وهذا مما يبين لك أن غير الفاتحة لا يقوم مقامها وأن فضلها على غيرها من الكلام أعظم من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع، فإذا تعينت الأفعال فهذا القول أولى، والله أعلم .
وصلى الله على نبيه محمد وسلم تسليما كثيراً .