ج/ 12 ص -560-وسئل رحمه الله:
ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن يقول: الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى؟ بينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا؛ ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد، أثابكم الله بمنه؟.
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله، من قال: إن الكلام غير المتكلم، والقول غير القائل، وأراد أنه مباين له ومنفصل عنه فهذا خطأ وضلال، وهو قول من يقول: إن القرآن مخلوق؛ فإنهم يزعمون أن الله لا يقوم به صفة من الصفات، لا القرآن ولا غيره، ويوهمون الناس بقولهم: العلم غير العالم والقدرة غير القادر، والكلام غير المتكلم، ثم يقولون: وما كان غير الله فهو مخلوق، وهذا تلبيس منهم.
فإن لفظ [الغير] يراد به ما يجوز مباينته للآخر ومفارقته له، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال: علم الله غيره، ولا يقال: إن الواحد
ج/ 12 ص -561- من العشرة غيرها، وأمثال ذلك، وقد يراد بلفظ [الغير] ما ليس هو الآخر، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف، لكن على هذا المعنى لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته مخلوقًا؛ لأن صفاته ليست هي الذات، لكن قائمة بالذات، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله، وليس الاسم اسمًا لذات لا صفات لها، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها.
والصواب في مثل هذا أن يقال: الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس باينا منه، بل أسمعه لجبريل، ونزل به على محمد ﷺ، كما قال تعالى "أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ" [الأنعام:114]، ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره، بل يقال كما قال السلف: إنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. فقولهم:[منه بدأ] رد على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ. فبينوا أن الله هو المتكلم به[ منه بدأ] لا من بعض المخلوقات [وإليه يعود] أي: فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف، وأما القرآن فهو كلام الله.
فمن قال: إن القرآن الذي هو كلام الله غير الله فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال: إن الكلام غير المتكلم. وكذلك من قال: إن كلام
ج/ 12 ص -562-الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به فخطؤه ظاهر، وكذلك من قال: إن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون، فقد أخطأ.
وإن أراد ب [القرآن] مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنًا، وقال: أردت أن القراءة غير المقروء،، فلفظ القراءة مجمل، قد يراد بالقراءة القرآن، وقد يراد بالقراءة المصدر، فمن جعل [القراءة] التي هي المصدر غير المقروء، كما يجعل التكلم الذي هو فعله غير الكلام الذي هو يقوله، وأراد بالغير أنه ليس هو إياه، فقد صدق، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني؛ ولهذا يجعل القول قسيمًا للفعل تارة، وقسما منه أخرى.
فالأول كما يقول: الإيمان قول وعمل، ومنه قوله ﷺ:"إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به"، ومنه قوله تعالى:"إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ"[فاطر:10]، ومنه قوله تعالى:"وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ"[يونس:61]، وأمثال ذلك مما يفرق بين القول والعمل. وأما دخول القول في العمل، ففي مثل قوله تعالى:"فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الحجر:92، 93]. وقد فسروه بقول: لا إله إلا الله، ولما
ج/ 12 ص -563-سئل ﷺ: أي الأعمال أفضل؟ قال: [الإيمان بالله" مع قوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" ونظائر ذلك متعددة.
وقد تنوزع فيمن حلف لا يعمل عملا، إذا قال قولا كالقراءة ونحوها، هل يحنث؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، بناء على هذا.
فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب، والله سبحانه وتعالى أعلم.