ج/ 12 ص -534-ما تقول السادة الأعلام أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين:
هل هذا القرآن الذي نتلوه القائم بنا حين التلاوة هو كلام الله الذي قام به حين تكلم به وكان صفة له أم لا؟ وإذا كان كلامه، فهل إذا تلوناه وقام بنا يطلق عليه كلام الله وصفته؟ أم يطلق عليه كلام الله دون صفته؟ أم في ذلك تفصيل يجب بيانه؟ وهل إذا قام بنا كان منتقلا عن الله بعد أن قام به؟ أم يكون قائمًا بنا وبه معًا؟ أم الذي قام بنا يكون عبارة عن كلام الله، أو حكاية عنه، ويكون إطلاق كلام الله عليه مجازًا؟ وهل يكون صفة لنا محدثة قامت بمحدث؛ إذ القديم لا يقوم بمحدث، والمحدث لا يكون قديمًا، وهل [التلاوة] هي نفس المتلو أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه:
الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة جوابها يحتمل البسط، ويمكن فيه الاختصار، ثم بسط الجواب بعض البسط، فأما الجواب المختصر فإنه يقال: جواب
ج/ 12 ص -535-هذه المسألة مبني على [مقدمة]، وهي أن يعرف الإنسان معنى قول القائل لما بلغه عن غيره: هذا كلام ذلك الغير؛ فإن المحدث إذا حدث عن النبي ﷺ بقوله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، أو قوله: "الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس"، أو قوله:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" ونحو ذلك.
فإنه من المعلوم أن هذا كلام النبي ﷺ، تكلم به بلفظه ومعناه، فهو الذي أخبر بمعناه، وهو الذي ألف حروفه وتكلم بها بصوته. ثم المبلغ بذلك عنه بلّغ كلامه، كما قال النبي ﷺ: "نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا، فبلغه كما سمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، فدعى بالنضرة لمن سمع منه حديثًا فبلغه كما سمعه. فبين أن الحديث المسموع منه هو الحديث المبلغ عنه، مع العلم بأن المبلغ عنه بلغه بأفعاله وأصواته، وأن الصوت المسموع منه هو صوته لا صوت النبي ﷺ، وإن كان النبي ﷺ تكلم بذلك الحديث بصوته المختص به، فالمبلغ عنه هو حديثه الذي سمع منه، وليس الصوت المسموع صوته.
فإذا قال القائل: هل هذا الحديث الذي قرأه المحدث القائم به
ج/ 12 ص -536-حين القراءة هو كلام النبي ﷺ، الذي قام به حين تكلم به وكان صفة له أم لا؟ قيل له: إن كنت تريد: أن نفس الحديث من حيث هو هو كلام النبي ﷺ، الذي قام به حين تكلم به كان صفة له، فنعم. هذا الحديث من حيث هو هو كلام النبي ﷺ، وإن كنت تريد: أن ما اختص بالقارئ من حركاته وأصواته هو القائم بالرسول، فليس كذلك.
وكذلك إن أردت: أن نفس ما اختص به الرسول من حركاته وأصواته، والصفات القائمة بنفسه هي بعينها انتقلت عن الرسول. وقامت بالقارئ، فليس كذلك.
وقول القائل: هذا هو هذا وليس هو إياه، وهذا هو عين هذا وليس هو عينه، لفظ فيه إجمال؛ فإن من نقل لفظ غيره، كما سمعه وكتبه في كتاب، فإنه يقول: هذا كلام فلان بعينه، وهذا نفس كلامه، وهذا عين كلامه. ومراده أن نفس ما قاله هو الذي بلغه عنه، وهو المكتوب في الكتاب، لم يزد فيه ولم ينقص منه.
فإذا قال القائل لما سمع من القارئ: هذا عين كلام الله، أو هذا كلام الله بعينه، أو هذا نفس كلام الله، أو قال لما بين لوحي المصحف: هذا كلام الله بعينه، وهذا عين كلام الله كان صادقًا،
ج/ 12 ص -537-ومن أنكر ذلك بهذا الاعتبار كان مقتضى قوله: أن القرآن زيد فيه ونقص؛ ولهذا كان الناس مطبقين على أن ما بين اللوحين كلام الله، والإنكار على من نفي ذلك.
وقد يقال لكلام المتكلم المسموع منه: هذا كلام زيد بعينه، وهذا عين كلام زيد، وهذا نفس كلام زيد، بمعنى أنه مسموع منه بلا واسطة، بحيث يسمع صفة ذلك المتكلم المختص به بذلك، كما قال أيوب السختياني: كان الحسن يتكلم بكلام فيأتي مثل الدر، فتكلم به بعده قوم فجاء مثل البَعْر. والمتكلم بالكلام من البشر له صوت يخصه، ونغمة تخصه،كما له سجية تخصه، كما قال تعالى: "وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ" [الروم: 22]. وله أيضًا إن كان أمرًا أو نهيًا أو خبرًا من الحال والصفة والكيفية ما يختص به، فإذا سمع كلامه بالصفة المختصة به، وقيل: هذا كلامه بعينه، وهذا عين كلامه، ونفس كلامه، وأدخلت الصفة المختصة به في مسمى العين والنفس، لم يصدق هذا عليه، إذا كان مرويا.
لكن لما كان الناس في زماننا يعلمون أن أحدًا لا يسمع كلام النبي ﷺ، لم يسبق هذا المعنى إلى ذهن أحد، بل كل أحد يعلم أنا إذا قلنا: سمعنا كلام النبي ﷺ، وهذا كلام النبي ﷺ بعينه، وهذا عين كلامه، فإنما المراد به
ج/ 12 ص -538-المعنى الأول، وهو كونه مسموعًا من المبلغ عنه، لا أنه مسموع منه، ولا أن تكلمه الذي يختص بالكلام وجد.
وإذا كان هذا في كلام النبي ﷺ، فكلام الله سبحانه أولى بذلك، فإن الناس يعلمون أن أحدًا منهم لم يسمعه من الله،، كما سمع موسى كلام الله من الله، بل يعلمون أن كلام الله إنما سمع من المبلغين له، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ"[المائدة:67]، وقال تعالى: "لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ" [الجن:28]، وقال نوح: "وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي" [الأعراف:61، 62] وفي سنن أبي داود عن جابر: أن النبي ﷺ كان يقول بالموقف: "ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشًا منعوني أن أبلغ كلام ربي".
فلما كان هذا مستقرًا في قلوب المستمعين علموا أن قوله تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ"[التوبة:6]، إنما هو سماعه من المبلغين له، لا سماعه منه، وأن هذا السماع ليس كسماع موسى كلام الله من الله؛ فإن موسى سمعه منه بلا واسطة، ونحن إذا سمعنا كلام النبي ﷺ من الصحابة لم يكن كسمع الصحابة
ج/ 12 ص -539-من النبي ﷺ، مع أنهم يبلغون حديثه كما سمعوه، مع العلم بأنهم لم يحكوا صوت النبي ﷺ، فلا هي أصواتهم صوته، ولا مثل صوته، مع أنهم بلغوا حديثه كما سمعوه. فالقرآن أولى أن يكون جبريل بلغه كما سمعه، والرسول بلغه كما سمعه، والأمة بلغته كما سمعته، وأن يكون ما بلغته هو ما سمعته، وهو كلام الله عز وجل في الحالين، مع أن الرسول بشر من جنس البشر، والله تعالى:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"[الشورى:11].
والتفاوت الذي بين صفات الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت بين أدنى المخلوقات وأعلاها، فإذا كان سَمْع التابعين لكلام النبي ﷺ من الصحابة ليس كسمع الصحابة من النبي ﷺ، فسماع كلام الله من الله أبعد من مماثلة سماع شيء لشيء من المخلوقات.
والقائل إذا قال لما سمعه من المبلغ عن الرسول: هذا كلام الرسول أو هذا كلام صواب، أو حق أو صحيح، أو هذا حديث رسول الله أداه كما سمعه، أو هذا نفس كلام الرسول أو عينه فإنما قصد إلى مجرد الكلام، وهو ما يوجد حال سماعه من المبلغ، والمبلغ عنه لم يشر إلى ما يختص بأحدهما، فلم يشر إلى مجرد صوت المبلغ،ولا مجرد صوت المبلغ عنه، ولا إلى حركة أحد منهما، بل هناك أمر يتحد في الحالين،
ج/ 12 ص -540-وهذا أمر يتعدد يختص كل منهما منه بما يخصه.
فإذا قيل: هذا هو كلامه، كانت الإشارة إلى المتحد المتفق عليه بينهما. وإذا قيل: هذا صوته كانت الإشارة إلى المختص المتعدد، فيقال: هذا صوت غليظ، أو رقيق، أو حسن، أو ليس حسنًا، كما في الحديث الذي في سنن ابن ماجه عن النبي ﷺ أنه قال: "لَلَّهُ أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب الْقَيْنَة إلى قينته"، وفي الحديث المشهور: "زيِّنُوا القرآن بأصواتكم". قال أحمد: يحسنه بصوته ما استطاع. فبين الإمام أحمد أن الصوت صوت القارئ، مع أن الكلام كلام البارئ. وهذا كما أنه معلوم من تبليغ كلام الله ورسوله، فكذلك في تبليغ كلام كل أحد، فإذا سمع الناس منشدًا ينشد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قالوا: هذا شعر لَبيد، لفظه ومعناه، وهذا كلام لبيد، كما قال النبي ﷺ:"أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
ولو قال المنشد: هذا شعري أو كلامي لكذبه الناس، كما يكذبونه لو قال: هذا صوت لبيد، وإذا قال: هذا لفظ لبيد بالمعنى المعروف
ج/ 12 ص -541-وهو أن هذا الكلام الملفوظ هو كلامه بنظمه وتأليفه لصدقه الناس. وإن قال:هذا لفظه بمعنى أن هذا بلفظه، كذبه الناس؛ فإن [اللفظ] يراد به المصدر، ويراد به الملفوظ، وكذلك [التلاوة] و[القراءة] يراد بذلك المصدر، ويراد به الكلام نفسه الذي يقرأ ويتلى.
وأصل هذا: أن تعلم الجامع والفارق بين سماع الكلام من المتكلم به، ومن المبلغ له عن المتكلم به، وأنه كلامه في الحالين، لكن هو في أحدهما مسموع منه سماعًا مطلقًا بغير واسطة، وفي الأخرى مسموع منه سماعًا مقيدًا بواسطة التبليغ، كما أنك تارة ترى الشمس والقمر والكواكب بطريق المباشرة، فلا تحتاج في ذلك إلى واسطة، وتارة تراها في ماء أو مرآة ونحو ذلك، تراها بواسطة ذلك الجسم الشفاف، فهي المقصودة بالرؤية في الموضعين، لكن في إحدى الحالتين رأيتها نفسها بالمباشرة رؤية مطلقة، وفي الأخرى رأيتها رؤية مقيدة بواسطة.
وإذا قلت: المرئي مثالها أو خيالها أو نحو ذلك.قيل: أنت تجد الفرق بين رؤيتك خيال الشيء الذي هو ظله وتمثاله الذي هو صورته المصورة، وبين رؤيته في الماء والمرآة، إذا كان المرئي هنا، وإن كان لابد فيه من توسط خيال، فالمقصود بالرؤية هو الحقيقة، ولكن تختلف باختلاف المرآة، فيرى كبيرًا إن كانت المرآة كبيرة،وصغيرًا
ج/ 12 ص -542-إن كانت المرآة صغيرة، ومستطيلا إن كانت المرآة مستطيلة. وهذا الكلام المروي عن الغير المقصود منه هو نفس كلام ذلك الغير،وإن كان لابد من توسط صوت هذا المبلغ؛ ولهذا يختلف باختلاف صوت المبلغ؛ فتارة يكون رقيقًا، وتارة غليظًا، وتارة مجهورًا به، وتارة مخافتًا به.
فإن قلت: فهذا المسموع مثل كلام المروي عنه، أو حكاية كلام المروي عنه، كما أطلق ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، كان إطلاق هذا خطأ، كما أنك إذا قلت لما تراه في الماء والمرآة: هذا مثل الشمس ، أو هذا يحكي الشمس، كان إطلاق ذلك خطأ، قال تعالى:"قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ"الآية [الإسراء:88]، فقد بين عجز الخلائق عن الإتيان بمثله، مع أنهم قادرون على تبليغه وتلاوته، فعلم أن هذا المسموع لا يقال: إنه مثل كلام الله، كما سماه كلامه، لكنه كلامه بواسطة المبلغ لا بطريق المباشرة.
والله سبحانه قد فرق بين التكليمين، فقال تعالى:"وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء"[الشورى:51] ففرق بين تكليمه من وراء حجاب كما كلمه موسى وبين تكليمه بإرساله رسولا يوحي بإذنه، ذاك تكليم بلا واسطة، وهذا تكليمه بواسطة.
ج/ 12 ص -543-وإن قلت لما يبلغه المبلغ عن غيره: هذا حكاية كلام ذلك، كان الإطلاق خطأ؛ فإن لفظ [الحكاية] إذا أطلق يراد به أنه أتى بكلام يشبه كلامه، كما يقال: هذا يحاكي هذا، وهذا قد حكى هذا، لكن قد يقال: فلان قد حكى هذا الكلام عن فلان، كما يقال: رواه عنه، و بلغه عنه، ونقله عنه، وحدث به عنه؛ ولهذا يجىء في الحديث عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه. فكل ما بلغه النبي ﷺ عن الله فقد حكاه عنه، ورواه عنه.
فالقائل إذا قال للقارئ: هذا يحكي كلام الله، أو يحكي القرآن، فقد يفهم منه أنه يأتي بكلام يحاكي به كلام الله، وهذا كفر. وإن أراد أنه بلغه وتلاه فالمعنى صحيح، لكن ينبغي تعبيره بما لا يدل على معنى باطل، فيقول: قرأه وتلاه، وبلغه وأداه؛ ولهذا إذا قيل: يحكي القراءات السبع، ويرويها، وينقلها، لم ينكر ذلك؛ لأنه لا يفهم منه إلا تبليغها، لا أنه يأتي بمثلها.
ج/ 12 ص -544-فصل
إذا تبين ذلك، فيقال: هذا القرآن الذي نقرأه ونبلغه ونسمعه هو كلام الله الذي تكلم به، ونزل به منه روح القدس، كما قال تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ"[النحل: 98 103]، فهذا الكلام في القرآن الذي قالوا: إنما يعلمه إياه بشر، وقد أبطل الله ذلك بقوله: "لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ" فدل على أن المراد به نفس القرآن العربي، الذي يمتنع أن يعلمه إياه ذلك الأعجمي الذي ألحدوا إليه. قد قيل:إنه رجل بمكة مولى لابن الحضرمي. والمعاني المجردة لا يمتنع تعلمها من الأعجمي، بخلاف هذا القرآن العربي، فدل أن هذا القرآن نزله روح القدس من الله تبارك وتعالى.
ج/ 12 ص -545-ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ"[الأنعام:114]، وهذا الكلام صفة الله تعالى وأما ما اختص قيامه بنا، من حركاتنا وأصواتنا، وفهمنا وغير ذلك من صفاتنا، فلم يقم منه شيء بذات الله سبحانه كما أن ما اختص الرب تعالى بقيامه به لم ينتقل عنه، ولم يقم بغيره لا هو ولا مثله؛ فإن المخلوق إذا سمع من المخلوق كلامه وبلغه عنه كان ما بلغه هو كلامه، كما تقدم قول النبي ﷺ: "نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا، فبلغه كما سمعه"، مع أن ما قام بالنبي ﷺ بباطنه من العلم والإرادة وغيرهما، وبظاهره من الحركة والصوت وغيرهما لم ينتقل عنه، ولم يقم بغيره، بل جميع صفات المخلوقين لا تفارق ذواتهم وتنتقل عنهم، فكيف يجوز أن يقال: إن صفة الخالق فارقت ذاته فانتقلت عنه؟
والمتعلم إذا أخذ علم المعلم ونقله عنه لم يفارق ذات الأول،وينتقل عنها إلى الثاني، بل نفس الحقيقة العلمية حصلت له مثل ما حصلت لمعلمه، أو ليس مثله بل يشبهه؛ ولهذا يشبه العلم بضوء السراج، كل أحد يقتبس منه وهو لم ينقص. ومن المعلوم أن من أوقد من مصباح غيره فإنه لم ينتقل إلى سراجه شيء من جرم تلك النار، ولا شيء من صفاتها القائمة بها، بل جعل الله بسبب ملاصقة النار ذلك نارًا مثل تلك،
ج/ 12 ص -546-فالحقيقة النارية موجودة، وإن كانت هذه العين ليست تلك، لكن النار والعلم ليس هو مثل الكلام الذي يبلغ عن الغير، بل هو مثل أن يسمع بعض الناس كلام غيره، وشعر غيره، فيقول من جنس ما قال، ويقول كما قال غيره مثله، كما يقال: وَقْع الخاطر على الخاطر كوقع الحافر على الحافر، وليس هذا من التبليغ والرواية في شيء، فإن قول القائل:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل* *
هو كلام لبيد كيفما أنشده الناس وكتبوه، فهذا الشعر الذي ينشده هو شعر لبيد بعينه. فإذا قيل: الشعر الذي قام بنا هو الذي قام بلبيد. قيل: إن أريد بذلك أن الشعر من حيث هو هو، إن أريد: أن نفس ما قام بذاته فارق ذاته وانتقل إلينا، فليس كذلك، وكذلك إن أريد: أن عين الصفة المختصة بذلك الشخص كحركته وصوته هي عين الصفة المختصة بنا، كحركتنا وصوتنا فليس كذلك.
فقولك: هذا هو هذا، لفظ فيه إجمال يبينه السياق. فإذا قلت: هذا الكلام هو ذاك، أو هذا الشعر هو ذاك، كنت صادقًا. وإذا قلت: هذا الصوت هو ذاك، كان كذبا.
والناس لا يقصدون، إذا قالوا: هذا شعر لبيد، إلا القدر المتحد،
ج/ 12 ص -547-وهي الحقيقة من حيث هي، مع قصر النظر عما اختص به أحدهما.
فإن قيل: القدر المتحد كلى مطلق، والكليات إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان. قيل: ذكر هذا هنا غلط، فإن هذا إنما يقال لو كان رجل قد قال شعر لبيد من غير أن يعلم بشعره. فنقول: هذان شيئان اشتركا في النوع الكلي، وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه، والكلى إنما يوجد كليًا في الذهن لا في الخارج، وأما هنا فنفس شعره كان له وجود في الخارج، والمقصود من الحقيقة الكلامية مع قطع النظر عن صوت زيد وصوت عمرو موجود لما تكلم به لبيد، وموجود إذا أنشده غير لبيد، وتلك الحقيقة المتحدة موجودة هنا وهنا، ليست مثل وجود الإنسانية في زيد وعمرو وخالد؛ فإن إنسانية زيد ليست إنسانية عمرو بل مثلها، والمشترك بينهما لا يوجد في الخارج، وهنا نفس الكلام الذي تكلم به لبيد تكلم به المنشد عنه، ولا يقال: إنه أنشأ مثله، ولا أنشد مثله، بل يقال: أنشد شعره بعينه.
لكن الشعر عَرَض،والعرض لا يقوم إلا بغيره، فلابد أن يقوم إما بلبيد وإما بغيره، والقائم به وإن كان ليس مثل القائم بغيره، لكن المقصود بهما واحد. فالتماثل والتغاير في الوسيلة، والاتحاد في الحقيقة المقصودة، وتلك الحقيقة هي إنشاء لبيد لا إنشاء غيره، والعقلاء
ج/ 12 ص -548-يعلمون أنه ليس نفس الصوت المسموع من لبيد هو نفس الصوت المسموع من المنشد، لكن نفس المقصود بالصوت هو الكلام، فإن الصوت واسطة في تبليغه؛ ولهذا ما كان في الصوت من مدح وذم كان للمبلغ، وما كان في الكلام من مدح وذم كان للمتكلم المبلغ عنه في لفظه ونظمه ومعناه.
وإذا عرف هذا، فقول القائل: هذا القرآن الذي نتلوه، القائم بنا حين التلاوة هو كلام الله الذي قام به حين تكلم به، وكان صفة له أم لا؟ قيل له: أما الكلام فهو كلام الله لا كلامنا ولا غيرنا، وهو مسموع من المبلغ لا من الله كما تقدم وهو مسموع بواسطة سماعا مقيدًا، لا سماعاً من الله مطلقًا كما تقدم وليس شيء مما قام بذاته فارقه وانتقل إلينا،ولا شيء مما يختص بذواتنا كحركاتنا وأصواتنا فهو منا قائمًا به.
وأما قوله: هذا القرآن الذي نتلوه القائم بنا حين التلاوة هو كلام الله، الذي قام به حين تكلم به؟ فلفظ [القيام] فيه إجمال؛ فإن أراد:أن نفس صفة الرب تكون صفة لغيره، أو صفة العبد تكون صفة للرب، فليس كذلك. وإن أراد: أن نفس ما ليس بمخلوق صار مخلوقًا، أو ما هو مخلوق صار غير مخلوق، فليس الأمر كذلك.وإن
ج/ 12 ص -549-أراد أن ما اختص الرب بقيامه به شاركه فيه غيره. فليس الأمر كذلك. وإن أراد: أن نفس الكلام كلامه لا كلام غيره في الحالين كما تقدم تقريره فالأمر كذلك.
وقد علم أن الحال إذا سمع من الله ليس كالحال إذا سمع من خلقه، وذلك فرق بين الحالين، وإن كان الكلام واحدًا. فإذا كان هذا الفرق ثابتًا في كلام المخلوق مسموعًا ومبلغًا عنه، فثبوته في كلام الله أولى وأحرى؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا يمكن أن يكون تكلمه به وسماعه مما يعرف له نظير ولا مثال، ولا يقاس ذلك بتكلم النبي ﷺ، وسماع الكلام منه؛ فإن النبي ﷺ بشر، يمكننا أن نعرف صفاته، والرب تعالى لا مثال له، وهو أبعد عن مماثلة المخلوقات أعظم من بعد مماثلة المخلوقات عن مماثلة أدناها.
وقول السائل: إذا تلوناه، وقام بنا، يطلق عليه كلام الله وصفته أم يطلق عليه كلام الله دون صفته؟ أم في ذلك تفصيل يجب بيانه؟
فيقال: هو كلام الله وصفته، مسموعًا من المبلغ عنه لا منه؛ فالنفي والإثبات بدون هذا التفصيل يوهم: إما أنه كلام الله مسموعًا منه، أو أنه ليس كلام الله، بل كلام المبلغ عنه. وكلا القولين خطأ وقع في كلام طائفتين من الناس؛ طائفة جعلت هذا كلام المبلغ عنه، لا كلام
ج/ 12 ص -550-الله. وطائفة قالت: هذا كلام الله مسموعًا من الله، ولم تفرق بين الحالين، حتى ادعى بعضها أن الصوت المسموع قديم، وتلك لم تجعله كلام الله، بل كلام الناس، فهؤلاء يقولون: ليس هذا كلام الله، وأولئك يقولون: هذا الصوت المسموع قديم. وكلا القولين خطأ وضلال، لكن هو كلامه مقيدًا بواسطة المبلغ القارئ، ليس هو كلامه وصفته مطلقًا عن التقييد مسموعًا منه، وكلام المتكلم يضاف إليه مطلقًا إذا سمع منه، ومقيدًا إذا سمع من المبلغ عنه، كما أن رؤيته تقال: مطلقة، إذا رؤى مباشرة. وتقال: مقيدة، إذا رؤى في ماء أو مرآة.
وأما قوله: إذا قام بنا، هل كان منتقلا عن الله بعد أن قام به أم يكون قائمًا بنا وبه معًا؟ أم الذي قام بنا يكون عبارة عن كلام الله أو حكاية عنه؟ ويكون إطلاق كلام الله عليه مجازًا؟
فيقال: إن صفة المخلوق لا تفارق ذاته، وتنتقل عنه وتقوم بغيره، فكيف يجوز أن يقال: إن صفة الرب سبحانه فارقت ذاته، وانتقلت عنه وقامت بغيره. وقد بينا أن المتكلم منا إذا أرسل غيره بكلام فإنه ما قام به، بل لم يفارق ذاته وينتقل إلى غيره، فكلام الله أولى وأحرى، بل كلامه سبحانه قائم به، كما يقوم به لو تكلم به ولم يرسل به رسولا، فإرساله رسولا به يفيد إبلاغه إلى الخلق، وإنزاله إليهم
ج/ 12 ص -551-لا يوجب نقصًا في حق الرب، ولا زوال اتصافه به، ولا خروجه عن أن يكون كلامه، بل نعلم أن الرب كما أنه قد يتكلم به، ولا يرسل به رسولاً قد يتكلم به ويرسل به رسولا، فهو سبحانه في الحالين كلامه، بل إرسال الرسول به نفع الخلق، وهداهم، ولم يجب به نقصان صفة مولاهم.
وقوله:أم يكون قائمًا بنا وبه؟ فيقال: معنى [القائم] لفظ مجمل؛ فإن أريد أن نفس الكلام من حيث هو هو تكلم هو به، وتكلمنا به مبلغين له عنه، فكذلك هو. وإن أريد:أن ما اختص به يقوم بنا، أو ما اختص بنا يقوم به، فهذا ممتنع. وإن أريد بالقيام: أنا بلغنا كلامه، أو قرأنا كلامه، أو تلونا كلامه، فهذا صحيح، فكذلك إن أريد:أن هذا الكلام كلامه مسموعًا من المبلغ لا منه. وإن أريد بالقيام: أن الشيء الذي اختص به هو بعينه قام بغيره مختصًا به، فهذا ممتنع.وإن قيل: الصفة الواحدة تقوم بموضعين. قيل: هذا أيضًا مجمل؛ فإن أريد أن الشيء المختص بمحل يقوم بمحل آخر فهذا ممتنع، وإن أريد: أن الكلام الذي يسمى صفة واحدة يقوم بالمتكلم به ويبلغه عنه غيره، كان هذا صحيحًا.
فهذه المواضع يجب أن تفسر الألفاظ المجملة بالألفاظ المفسرة المبينة، وكل لفظ يحتمل حقًا وباطلا فلا يطلق إلا مبينًا به المراد الحق دون
ج/ 12 ص -552-الباطل، فقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء. وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة، التي يفهم منها هذا معنى يثبته، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه. ثم النفاة يجمعون بين حق وباطل، والمثبتة يجمعون بين حق وباطل.
وأما قوله: أم الذي يقوم بنا يكون عبارة عن كلام الله أو حكاية عنه، ويكون إطلاق كلام الله عليه مجازًا؟ فيقال: العبارة عن كلام الغيب يقال لمن في نفسه معنى ثم يعبر عنه غيره. كما يعبر عما في نفس الأخرس من فهم مراده، والذين قالوا: [القرآن عبارة عن كلام الله] قصدوا هذا، وهذا باطل، بل القرآن العربي تكلم الله به، وجبريل بلغه عنه.
وأما [الحكاية] فيراد بها ما يماثل الشيء، كما يقال: هذا يحاكي فلانًا: إذا كان يأتي بمثل قوله أو عمله، وهذا ممتنع في القرآن، فإن الله تعالى يقول: "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ"الآية [الإسراء:88]. وقد يقال: فلان حكى فلان عنه، أي بلغه عنه، ونقله عنه، ويجيء في الحديث: أن النبي ﷺ قال فيما يحكي عن ربه، ويقال: إن النبي ﷺ روى عن ربه. وحكى عن ربه. فإذا قيل: إنه حكى عن الله، بمعنى أنه بلغ عن الله، فهذا صحيح.
ج/ 12 ص -553-وأما قول القائل: هل يكون كلام الله مجازًا؟ فيقال: علامة المجاز صحة نفيه، ونحن نعلم بالاضطرار أن فلانًا لو قال بحضرة الرسول: ليس هذا كلام الله، لكان عنده لم يكن متكلمًا بالحقيقة اللغوية.
وأيضًا، فهذا موجود في كل من بلغ كلام غيره، أنه يقال: هذا كلام المبلغ عنه، لا كلام المبلغ، والله أعلم.