أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات

    ج/ 11 ص -670-وقال أيضا شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
    رب يسر وأعن يا كريم ‏.‏
    الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا‏.‏ من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ‏.‏صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏
    فصل
    في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات
    والأول‏:‏ يخفى على كثير من الناس‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏"‏‏[‏غافر‏:‏55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏"‏ ‏[‏محمد ‏:‏19‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏"‏[‏الفتح‏:‏2‏]‏،

    ج/ 11 ص -671-وقال‏:‏‏"أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏"‏‏[‏هود‏:‏2، 3‏]‏، ومثل هذا في القرآن كثير‏.‏
    فنقول ‏:‏ التوبة والاستغفار يكون من ترك مأمور، ومن فعل محظور، فإن كلاهما من السيئات والخطايا والذنوب، وترك ‏[‏الإيمان‏]‏ و‏[‏التوحيد‏]‏ و‏[‏الفرائض‏]‏ التي فرضها الله تعالى على القلب والبدن من الذنوب بلا ريب، عند كل أحد، بل هي أعظم الصنفين‏.‏ كما قد بسطناه فيما كتبناه من ‏[‏القواعد‏]‏ قبل ذهابي إلى مصر‏.‏
    فإن جنس ترك الواجبات أعظم من جنس فعل المحرمات، إذ قد يدخل في ذلك ترك الإيمان والتوحيد، ومن أتى بالإيمان والتوحيد لم يخلد في النار،ولو فعل ما فعل‏.‏ ومن لم يأت بالإيمان والتوحيد كان مخلدًا ولو كانت ذنوبه من جهة الأفعال قليلة‏:‏كالزهاد والعباد من المشركين، وأهل الكتاب كعباد مشركي الهند، وعباد النصارى،وغيرهم،فإنهم لا يقتلون، ولا يزنون، ولا يظلمون الناس،لكن نفس الإيمان والتوحيد الواجب تركوه‏.‏
    ولكن يقال‏:‏ ترك الإيمان والتوحيد الواجب ،إنما يكون مع الاشتغال بضده، وضده إذا كان كفرًا فهم يعاقبون على الكفر، وهو

    ج/ 11 ص -672-من باب المنهي عنه، وإن كان ضده من جنس المباحات كالاشتغال بأهواء النفس ولذاتها، من الأكل والشرب، والرئاسة وغير ذلك عن الإيمان الواجب، فالعقوبة هنا لأجل ترك الإيمان، لا لأجل ترك هذا الجنس‏.‏
    وقد يقال‏:‏ كل من ترك الإيمان والتوحيد فلا يتركه إلا إلى كفر وشرك، فإن النفس لابد لها من إله تعبده، فمن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان، فيقال‏:‏عبادة الشيطان جنس عام، وهذا إذا أمره أن يشتغل بما هو مانع له من الإيمان والتوحيد، يقال‏:‏ عبده‏.‏كما أن من أطاع الشيطان فقد عبده،ولكن عبادة دون عبادة‏.‏
    والناس ‏[‏نوعان‏]‏ طلاب دين، وطلاب دنيا، فهو يأمر طلاب الدين بالشرك والبدعة، كعباد المشركين، وأهل الكتاب، ويأمر طلاب الدنيا بالشهوات البدنية، وفي الحديث عن النبي ﷺ ‏:‏
    ‏"‏إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم، وفروجكم، ومضلات الفتن‏"‏‏.‏
    ولهذا قال الحسن البصري لما ذكر الحديث ‏:‏ لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة ،فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه، فقالوا ‏:‏ أنت إذا مررت في السوق أشار إليك

    ج/ 11 ص -673-الناس‏.‏ فقال‏:‏ إنه لم يعن هذا،وإنما أراد المبتدع في دينه، والفاجر في دنياه‏.‏
    وقد بسطت الكلام على ‏[‏النوعين‏]‏ في مواضع، كما ذكرنا في ‏[‏اقتضاء الصراط المستقيم‏]‏ الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏
    "فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏69‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    فإن ترك الواجب وفعل المحرم متلازمان؛ ولهذا كان من فعل ما نهى عنه يقال‏:‏ إنه عصى الأمر‏.‏ ولو قال لها‏:‏ إن عصيتي أمري فأنت طالق‏.‏ فنهاها فعصته، ففيه وجهان‏:‏
    أصحهما أنها تطلق، وبعض الفقهاء يعلل ذلك بأن هذا يعد في العرف عاصيًا، ويجعلون هذا في الأصل نوعين‏.‏
    والتحقيق أن كل نهي ففيه طلب واستدعاء لما يقصده الناهي، فهو أمر، فالأمر يتناول هذا وهذا‏.‏ ومنه قول الخضر لموسى ‏:‏‏
    "إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا‏"‏ وقال له‏:‏ "فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏"‏‏[‏الكهف‏:‏67-70‏]‏‏.‏ فقوله ‏:‏

    ج/ 11 ص -674- ‏"فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏"‏، قد تناوله قوله‏:‏ ‏"وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا‏"‏‏.‏ ومنه قول موسى لأخيه‏:‏ ‏"مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏"‏‏[‏طه‏:‏92، 93‏]‏، وموسى قال له ‏:‏ ‏"اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏142‏]‏ نهى، وهو لامه على أنه لم يتبعه، وقال‏:‏ ‏"أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏"‏‏؟‏ وعباد العجل كانوا مفسدين‏.‏ وقد جعل هذا كله أمرًا‏.‏
    وكذلك قوله‏:‏ ‏
    "مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏"‏ ‏[‏التحريم‏:‏6‏]‏، فهم لا يعصونه إذا نهاهم، وقوله عن الرسول‏:‏ ‏"فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏"‏‏[‏النور‏:‏63‏]‏، فمن ركب ما نهى عنه فقد خالف أمره، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏"‏‏[‏طه‏:‏121‏]‏، وإنما كان فعلا منهيًا عنه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏"‏‏[‏الأحزاب‏:‏36‏]‏ ،هو يتناول ما نهى عنه، أقوى مما يتناول ما أمر به، فإنه قال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏إذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏"‏‏.‏
    وقوله ‏:‏‏"يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ‏"‏‏[‏النساء‏:‏42‏]‏، فالمعصية مخالفة الأمر، ومخالف النهي عاص، فإنه مخالف الأمر، وفاعل المحظور قد يكون أظهر معصية من تارك المأمور‏.‏

    ج/ 11 ص -675-وبالجملة، فهما متلازمان‏.‏ كل من أمر بشىء فقد نهى عن فعل ضده، ومن نهى عن فعل فقد أمر بفعل ضده، كما بسط في موضعه، ولكن لفظ ‏[‏الأمر‏]‏ يعم النوعين، واللفظ العام قد يخص أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام للنوع الآخر، فلفظ الأمر عام لكن خصوا أحد النوعين بلفظ النهي، فإذا قرن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين، لا العموم‏.‏
    فصل
    والمقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين، وأيضًا فالاستغفار والتوبة مما فعله وتركه، في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة، فإنه سبحانه قال‏:
    ‏‏"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏"‏[‏الإسراء‏:‏15‏]‏‏.‏
    وقد قال طائفة من أهل الكلام والرأي ‏:‏ إن هذا في الواجبات الشرعية غير العقلية‏.‏ كما يقوله من يقوله من المعتزلة وغيرهم‏:‏ من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم‏:‏ مثل أبي الخطاب وغيره، على أن الآية عامة‏:‏ لا يعذب الله أحدًا إلا بعد رسول

    ج/ 11 ص -676-وفيهما دليل على أنه لا يعذب إلا بذنب،خلافًا لما يقوله‏:‏ ‏[‏المجبرة‏]‏ أتباع جهم ‏:‏ أنه تعالي يعذب بلا ذنب، وقد تبعه طائفة تنسب إلى السنة‏:‏ كالأشعري وغيره، وهو قول القاضي أبي يعلى وغيره، وقالوا‏:‏ إن الله يجوز أن يعذب الأطفال في الآخرة عذابًا لا نهاية له من غير ذنب فعلوه، وهؤلاء يحتجون بالآية على إبطال قول من يقول‏:‏ إن العقل يوجب عذاب من لم يفعل،والآية حجة عليهم أيضًا حيث يجوزون العذاب بلا ذنب، فهي حجة على الطائفتين‏.‏
    ولها نظائر في القرآن كقوله‏:‏
    ‏"وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِك الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا‏"‏‏[‏القصص‏:‏59‏]‏، وقوله تعالى ‏:‏‏"لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏"‏[‏النساء‏:‏165‏]‏ وقوله ‏:‏ ‏"كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ‏"‏‏[‏الملك ‏:‏8، 9‏]‏‏.‏ وما فعلوه قبل مجىء الرسل كان سيئًا وقبيحًا وشرّا، لكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسول‏.‏ هذا قول الجمهور‏.‏
    وقيل ‏:‏ إنه لا يكون قبيحًا إلا بالنهي، وهوقول من لا يثبت حسنا ولاقبيحًا إلا بالأمر والنهي‏.‏ كقول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة‏.‏ وأصحاب مالك والشافعي وأحمد‏:‏ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، والجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبل

    ج/ 11 ص -677-مجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئًا قبيحًا، وكان شرّا‏.‏ لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجىء الرسول؛ ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ثلاثة أقوال‏:‏ قيل‏:‏ إن قبحهما معلوم بالعقل، وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة، وإن لم يأتهم الرسول،كما يقوله المعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة‏.‏ وحكوه عن أبي حنيفة نفسه، وهو قول أبي الخطاب، وغيره‏.‏
    و قيل‏:‏ لا قبح، ولا حسن، ولا شر فيهما قبل الخطاب، وإنما القبيح ما قيل ‏:‏ فيه لا تفعل، والحسن ما قيل ‏:‏ فيه افعل، أو ما أذن في فعله، كما تقوله الأشعرية، ومن وافقهم، من الطوائف الثلاثة‏.‏
    وقيل‏:‏ إن ذلك سيئ، وشر، وقبيح، قبل مجيء الرسول؛ لكن العقوبة إنما تستحق بمجيء الرسول‏.‏ وعلى هذا عامة السلف، وأكثر المسلمين، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن فيهما بيان أن ما عليه الكفار هو شر وقبيح، وسيئ قبل الرسل، وإن كانوا لايستحقون العقوبة إلا بالرسول‏.‏ وفي الصحيح أن حذيقة قال‏:‏ يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها‏"‏‏.‏

    ج/ 11 ص -678-فصل
    وقد أخبر الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول، كقوله لموسى‏:‏ ‏"اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏17-19‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ‏"‏ ‏[‏القصص‏:‏ 46‏]‏‏.‏ فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى، وحين كان صغيرًا قبل أن يأتيه برسالة، إنه كان طاغيًا مفسدًا‏.‏
    وقال تعالى‏:‏ ‏
    "وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ‏"‏ ‏[‏طه‏:‏37-39‏]‏‏.‏ وهو فرعون، فهو إذ ذاك عدو لله، ولم يكن جاءته الرسالة بعد‏.‏

    ج/ 11 ص -679-فصل
    وأيضا أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه، فلو كان كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏"
    الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏"‏‏[‏هود‏:‏13‏]‏، وقوله تعالى ‏:‏‏"قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏6، 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ‏"‏ ‏[‏نوح‏:‏14‏]‏‏.‏ فدل على أنها كانت ذنوبًا قبل إنذاره إياهم‏.‏ وقال عن هود‏:‏ ‏"وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ

    ج/ 11 ص -680- مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏50- 52‏]‏، فأخبر في أول خطابه أنهم مفترون بأكثر الذي كانوا عليه، كما قال لهم في الآية الأخرى‏:‏‏"أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ‏"‏‏[‏الأعراف‏:‏71‏]‏‏.‏
    وكذلك قال صالح‏:‏ ‏
    "يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ‏"‏‏[‏هود‏:‏61‏]‏‏.‏
    وكذلك قال لوط لقومه‏:‏‏
    "أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏80‏]‏‏.‏ فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف قول من يقول‏:‏ ما كانت فاحشة، ولا قبيحة، ولا سيئة حتى نهاهم عنها، ولهذا قال لهم‏:‏ ‏"أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ‏"‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏29‏]‏‏.‏ وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون، ولكن أنذرهم بالعذاب‏.‏
    وكذلك قول شعيب‏:‏
    ‏"أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏"‏[‏هود‏:‏85‏]‏‏.‏ بين أن ما فعلوه

    ج/ 11 ص -681-كان بخسا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم، بخلاف قول ‏[‏المجبرة‏]‏‏:‏ إن ظلمهم ما كان سيئة، إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب، وغير ذلك‏.‏ كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش‏.‏
    وهكذا إبراهيم الخليل قال‏:‏ ‏
    "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا‏"‏‏[‏مريم‏:‏41، 42‏]‏،فهذا توبيخ على فعله قبل النهي، وقال أيضًا‏:‏ ‏"وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا‏"‏[‏العنكبوت‏:‏ 16، 17‏]‏‏.‏ فأخبر أنهم يخلقون إفكًا قبل النهي‏.‏
    وكذلك قول الخليل لقومه أيضًا‏:‏ ‏
    "مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 85- 96‏]‏ فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه، قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر، فقال‏:‏ ‏"أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏"‏، أي‏:‏ وخلق ما تنحتون‏.‏ فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم‏؟‏ وتدعون رب العالمين‏.‏

    ج/ 11 ص -682-فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحًا بالنهي، ومعني قبحه كونه منهيًا عنه، لا لمعنى فيه، كما تقوله المجبرة‏.‏
    وأيضًا، ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية، ويضرب لهم الأمثال، كقوله تعالى‏:‏ ‏
    "قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏"‏ وقوله‏:‏‏"أَفَلَا تَتَّقُونَ‏"‏ وقوله ‏:‏‏"فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏"‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏84-89‏]‏‏.‏ فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها، وأن عبادتها من القبائح المذمومة، ولكن هؤلاء يظنون أن الشرك هو اعتقاد أن ثم خالق آخر، وهذا باطل، بل الشرك عبادة غير الله، وإن اعترف المشرك بأنه مخلوق‏.‏
    وقوله ‏:‏ إنه كله لله، كذب مفترى وإن قال‏:‏ إنه مخلوق‏.‏ ومثل هذا كثير في القرآن‏.‏ كقوله‏:‏‏
    " أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا

    ج/ 11 ص -683-أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ"وهذا في جملة بعد جملة يقول‏:‏ ‏"أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ‏"‏[‏النمل‏:‏60‏:‏ 61‏]‏، إنكار عليهم أن يعبدوا غير الله، ويتخذوه إلهًا مع اعترافهم بأن هذا لم يفعله إله غير الله، وإنما فعله هو وحده‏.‏
    وقوله‏:‏
    ‏"أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ‏"‏ جواب الاستفهام ،أي‏:‏ إله مع الله موجود وهذا غلط، فإنهم يجعلون مع الله آلهة ويشهدون بذلك، لكن ما كانوا يقولون‏:‏ إنهم فعلوا ذلك، والتقرير إنما يكون لما يقرون به، وهم مقرون بأنهم لم يفعلوا، لا يقرون بأنه لم يكن معه إله‏.‏ قال تعالى‏:‏‏"أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏"‏‏[‏الأنعام‏:‏19‏]
    وقد قال سبحانه ‏:
    ‏‏"وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏54‏]‏‏.‏ وقال ‏:‏‏"إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏17‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏‏[‏النحل‏:‏119‏]‏ ‏.

    ج/ 11 ص -684-فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون‏:‏ إن كل عاص فهو جاهل كما قد بسط في موضع آخر فهو متناول لمن يكون علم التحريم أيضًا‏.‏
    فدل على أنه يكون عاملا سوءًا، وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه، وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب، وقيام الحجة‏.‏
    وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة‏:‏ كالفاحشة، والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب، إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى‏.‏ وكذلك البدع كلها‏.‏
    ولهذا قال طائفة من السلف منهم الثوري ‏:‏ البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها‏.‏ وهذا معنى ما روى عن طائفة أنهم قالوا‏:‏ إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه لا يقبل

    ج/ 11 ص -685-توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال‏:‏ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه‏:‏ ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة، فإنه يتوب منها كما يرى الكافر إنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة، تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله، والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، ورجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز، وغيره ومنهم من سمع العلم، فتاب وهذا كثير، فهذا القسم الذى لا يعلم فاعلوه قبحه قسم كثير من أهل القبلة، وهو في غيرهم عام، وكذلك ما يترك الإنسان من واجبات لا يعلم وجوبها كثيرة جدا، ثم إذا علم ما كان قد تركه من الحسنات من التوحيد والايمان وما كان مأمورًا بالتوبة منه والاستغفار مما كان سيئة، والتائب يتوب مما تركه وضيعه وفرط فيه من حقوق الله تعالى، كما يتوب مما فعله من السيئات وإن كان قد فعل هذا وترك هذا قبل الرسالة؛ فبالرسالة يستحق العقاب على ترك هذا فعل هذا، وإلا فكونه كان فاعلًا للسيئات المذمومة وتاركًا للحسنات التى يذم تاركها كان تائبًا قبل ذلك كما تقدم وذكرنا القولين قول من نفى الذم والعقاب وقول من أثبت الذم والعقاب‏.‏

    ج/ 11 ص -686-فإن قيل إذا لم يكن معاقبا عليها فلا معنى لقبحها قيل بل فيه معنيان‏:‏-
    أحدهما‏:‏ إنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط، وهو الحجة قال تعالى ‏:‏‏
    "وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا‏"‏‏[‏آل عمران 103‏]‏‏.‏ فلولا إنقاذه لسقطوا ومن كان واقفًا على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه، بخلاف ما إذا بان، وبعد عن ذلك؛ فقد بعد عن الهلاك، فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب الثاني أنهم مذمومون منقوصون معيبون، فدرجتهم منخفضة بذلك، ولابد ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم، من ذلك من كرامته أيضًا وثوابه فهذه عقوبة بحرمان خير، وهى أحد نوعي العقوبة وهذا وإن كان حاصلًا لكل من ترك مستحبًا، فإنه يفوته خيره، ففرق بين ما يفوته مالم يحصل له، وبين ما ينقص ما عنده، وهذا كلام عام فيما لم يعاقب عليه من الذنوب، وأما من لم يرسل إليه رسول في الدنيا، فقد رويت آثار أنهم يرسل إليهم رسول في عرصامات القيامة كما قد بسط في مواضع‏.‏
    وقد تنازع الناس في الوجوب والتحريم؛ هل يتحقق بدون العقاب

    ج/ 11 ص -687-على الترك على قولين، قيل لا يتحقق، فإنه إذا لم يعاقب كان كالمباح، وقيل يتحقق؛ فإنه لابد أن يذم وإن لم يعاقب، وتحقيق الأمر أن العقاب نوعان‏:‏
    نوع بالآلام، فهذا قد يسقط بكثرة الحسنات، ونوع بنقص الدرجة، وحرمان ما كان يستحقه، فهذا يحصل إذا لم يحصل الأول، والله تعالى يكفر سيئات المسيء، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا‏"‏‏[‏النساء 31‏]‏‏.‏ فيكفرها تارة بالمصائب، فتبقى درجة صاحبها كما كانت، وقد تصير درجته أعلى، ويكفرها بالطاعات، ومن لم يأت بتلك السيئات أعلى درجة، فيحرم صاحب السيئات، ما يسقط بازائها من طاعته، وهذا مما يتوب منه من أراد أن لا يخسر ومن فرط في مستحبات؛ فإنه يتوب أيضًا ليحصل له موجبها، فالتوبة تتناول هؤلاء كلهم‏.‏
    وتوبة الإنسان من حسناته على أوجه‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع‏.‏
    والثالث‏:‏ يتوب من إعجابه ورؤيته أنه فعلها، وأنها حصلت

    ج/ 11 ص -688-بقوته، وينسى فضل الله، وإحسانه، وأنه هو المنعم بها، وهذه توبة من فعل مذموم وترك مأمور؛ ولهذا قيل تخليص الأعمال مما يفسدها، أشد على العالمين من طول الاجتهاد، وهذا مما يبين احتياج الناس إلى التوبة دائما، ولهذا قيل هى مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل فيه؛ إلى آخر عمره، ولابد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة‏.‏
    قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏.‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏"‏‏[‏الأحزاب 72‏,‏ 73‏]‏ فغاية كل مؤمن التوبة، وقد قال الله لأفضل الأنبياء، وأفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم السابقون الأولون ‏"لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏التوبة 117‏]‏‏.‏ ومن آواخر ما أنزل الله قوله ‏"إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏.‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا‏.‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏"‏ ‏[‏النصر 1‏:‏ 3‏]‏ وقد ثبت في الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه، وسجوده ‏:‏‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن‏"‏ وفى لفظ لمسلم عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله ﷺ يكثر

    ج/ 11 ص -689-أأن يقول قبل أن يموت‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك‏"‏ قالت‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله أراك تكثر من قولك سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، فقال‏:‏ ‏"‏أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فقد رأيتها ‏"إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏"‏ فتح مكة ‏"وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا‏.‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏"‏‏"‏‏.‏ وأمره سبحانه له بالتسبيح بحمده والاستغفار في هذه الحال، لا يقتضي أنه لا يشرع في غيرها أو لا يؤمر به غيره بل يقتضي أن هذا سبب لما أمر به وإن كان مأمورًا به في مواضع أخر، كما يؤمر الإنسان بالحمد والشكر على نعمه، وإن كان مأمورًا بالشكر عليها وكما يؤمر بالتوبة من ذنب؛ وإن كان مأمورًا بالتوبة من غيره، لكن هو أمر أن يختم عمله بهذا، فغيره أحوج إلى هذا منه‏.‏ وقد يحتاج العبد إلى هذا في غير هذه الحال، كما يحتاج إلى التوبة، فهو محتاج إلى التوبة والاستغفار مطلقا، كما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ كان يستغفر عقب الصلاة ثلاثا قال تعالى‏"وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ‏"‏‏[‏آل عمران 17‏]‏ قاموا الليل ثم جلسوا وقت السحر يستغفرون‏.‏ وقد ختم الله سورة المزمل وفيها قيام الليل بقوله ‏"وَاسْتَغْفِرُوا

    ج/ 11 ص -690-اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏المزمل 20‏]‏،كما ختم بذلك سورة المدثر بقوله ‏"هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏"‏ ‏[‏المدثر 56‏]‏، فهو سبحانه أهل التقوى، ولم يقل سبحانه أهل للتقوى بل قال‏:‏ أهل التقوى فهو وحده أهل أن يتقى فيعبد دون ما سواه، ولا يستحق غيره أن يتقى، كما قال ‏"وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ‏"‏‏[‏النحل 52‏]‏، وقال ‏"وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏"‏‏[‏النور 52‏]‏، وهو أهل المغفرة، ولا يغفر الذنوب غيره، كما قال تعالى ‏"وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ‏"‏ ‏[‏آل عمران 135‏]‏، وفى غير حديث يقول النبي ﷺ ‏:‏‏"‏إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏"‏‏.‏
    فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله سبحانه
    ‏"‏فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات‏"‏ فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قبل الاسلام من توحيد الله وعبادته، وإن كان ذلك لم يأتهم به رسول بعد، كما تقدم، والرسول يستغفر من ترك ما كان تاركه، كما قال فيه ‏"مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وإن كان ذلك لم يكن عليه عقاب، والمؤمن إذا تبين له أنه ضيع حق قرابته، أو غيره استغفر الله من ذلك وتاب، وكذلك إذا تبين له أن بعض ما يفعله هو مذموم‏.

    ج/ 11 ص -691-فصل
    وأيضًا فمما يستغفر ويتاب منه ما في النفس من الأمور التى لو قالها، أو فعلها عذب، قال تعالى‏:‏"وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏"‏‏[‏البقرة 284‏]‏‏.‏ فهو يغفر لمن يرجع عما في نفسه فلم يتكلم به ولم يعمل كالذي همّ بالسيئة ولم يعملها، وإن تركها لله كتبت له حسنة، وهذا مما يستغفر منه ويتوب، فإن الاستغفار والتوبة من كل ما كان سببا للذم والعقاب، وإن كان لم يحصل العقاب ولا الذم، فإنه يفضي إليه فيتوب من ذلك، أي يرجع عنه، حتى لا يفضي إلى شر فيستغفر الله منه، أي يطلب منه أن يغفر له فلا يشقيه به، فإنه وإن لم يعاقب عليه فقد ينقص به، فالذي يهم بالسيئات، وإن كان لا يكتب عليه سيئة، لكن اشتغل بها عما كان ينفعه فينقص بها عمن لم يفعلها واشتغل بما ينفعه عنها، وقد بسطنا في غير هذا الموضع؛ أن فعل الإنسان وقوله، إما له وإما عليه، لا يخلو من هذا أو هذا، فهو يستغفر الله ويتوب مما

    ج/ 11 ص -692-عليه، وقد يظن ظنون سوء باطلة، وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها، استغفر الله وتاب، وظلمه لنفسه يكون بترك واجب، كما يكون بفعل محرم، فقوله تعالى ‏"وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏"‏ ‏[‏النساء 110‏]‏ من عطف العام على الخاص وكذلك قوله ‏"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏آل عمران 135‏]‏‏.‏ وقد قيل في قوله تعالى ‏"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ‏"‏ ‏[‏آل عمران 135‏]‏ قيل الفاحشة‏:‏ الزنا وقيل كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها، قيل هو‏:‏ فاحشة أيضًا وقيل هى الصغائر‏.‏
    وهذا يوافق قول من قال‏:‏ الفاحشة هي الكبيرة، فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة، ومن قال‏:‏ الفاحشة الزنا، يقول ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات، وقيل الفاحشة‏:‏ الزنا وظلم النفس ما دونه، من اللمس والقبلة والمعانقة، وقيل‏:‏ هذا هو الفاحشة، وظلم النفس‏:‏ المعاصى وقيل الفاحشة‏:‏ فعل وظلم النفس، قول والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام، يتناول كل ذنب‏.‏
    وفى الصحيحين أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاءًا أدعو به في صلاتي فقال ‏"‏قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏"‏‏.‏
    والتحقيق أن ‏[‏ظلم النفس‏]‏ جنس عام يتناول كل ذنب، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال‏:‏ يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال‏:‏ ‏"‏قل‏:‏ اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏"‏،

    ج/ 11 ص -693-وفي صحيح مسلم، وغيره أن النبي ﷺ كان يقول في استفتاحه‏:‏ ‏"‏اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت‏"‏‏.‏
    وقد قال أبو البشر وزوجته‏:‏ ‏"قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏23‏]‏، وقال موسى ‏:‏‏"رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ‏"‏ [‏القصص‏:‏ 16‏]‏، وقال ذو النون يونس ‏:‏‏"لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، وقالت بلقيس‏:‏ ‏"رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏النمل‏:‏44‏]‏‏.‏
    وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ وقد قال عن أهل القرى المعذبين ‏:‏‏
    "وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏"‏‏[‏هود‏:‏101‏]‏، وأما قوله‏:‏ ‏"ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏"‏[‏آل عمران‏:‏147‏]‏، فقد قيل‏:‏ إن الذنوب هي الصغائر، والإسراف هو الكبائر‏.‏
    و‏[‏التحقيق‏]‏ أن ‏[‏الذنوب‏]‏ اسم جنس، و‏[‏الإسراف‏]‏ تعدي الحد، ومجاوزة القصد، كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم،

    ج/ 11 ص -694-والإسراف كالعدوان، كما في قوله‏:‏ ‏"غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ‏"‏[‏الأنعام‏:‏145‏]‏، ومجاوزة قدر الحاجة، فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله، فهذا كله ذنب، كالذي يرضى لنفسه، ويغضب لنفسه، فهو متبع لهواه، و‏[‏الإسراف‏]‏ كالذي يغضب لله، فيعاقب بأكثر مما أمر الله‏.‏ والآية في سياق قتال المشركين، وما أصابهم يوم أحد‏.‏
    وقد أخبر عمن قبلهم بقوله‏:‏ ‏
    "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏146‏]‏، وقد قيل على الصحيح، المراد به النبي ﷺ وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون، ‏"فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا‏"‏ الآية‏.‏
    فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها‏.‏ والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء‏.‏ فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا‏"‏ ‏[‏الإسراء 33‏]‏‏.‏

    ج/ 11 ص -695-وقال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏"‏ ‏[‏الفرقان 67‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ‏"‏ ‏[‏الأعراف 31‏]‏‏.‏ فالإسراف مجاوزة الحد‏.‏ هذا آخر ما كتبته هنا‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏

    ج/ 11 ص -696-وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله‏:‏
    الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه؛ إلى الفعل المحبوب من العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل ‏;‏ فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله، وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ‏;‏ بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية‏.‏
    وقد ثبتت‏:‏ دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى

    ج/ 11 ص -697-أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد، والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم‏.‏ فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين؛ تذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه‏.‏ والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول‏:‏ لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول‏:‏ أستغفر الله‏.‏
    فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين‏.‏ وقال‏:‏ إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب، خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس ‏[‏عيون‏]‏ الخفافيش بالنهار‏.‏ فاحذر مثل هؤلاء وعليك بصحبة أتباع الرسل، المؤيدين بنور الهدى، وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية العالمين العاملين
    ‏"أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏"‏‏[‏المجادلة 22‏]‏‏.‏

    ج/ 11 ص -698-وقال‏:‏ التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع؛ فمن أحس بتقصير في قوله، أو عمله، أو حاله، أو رزقه ، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص‏.‏ وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان، فعليه بالدعاء لهم والاستغفار‏.‏ قال حذيفة بن اليمان للنبي ﷺ‏:‏ إن لي لسانًا ذربًا على أهلي‏.‏ فقال له ‏:‏‏"‏أين أنت من الاستغفار ‏؟‏ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة‏"‏‏.‏

    ج/ 11 ص -699-وسئل رحمه الله
    عن قوله‏:‏ ‏ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم والليلة سبعين مرة‏"‏‏.‏ هل المراد ذكر الاستغفار باللفظ ‏؟‏ أو أنه إذا استغفر ينوي بالقلب أن لا يعود إلى الذنب ‏؟‏ وهل إذا تاب من الذنب، وعزم بالقلب أن لا يعود إليه، وأقام مدة ثم وقع فيه، أفيكون ذلك الذنب القديم يضاف إلى الثاني ‏؟‏ أو يكون مغفورًا بالتوبة المتقدمة ‏؟‏ وهل التائب من شرب الخمر ولبس الحرير يشربه في الآخرة ‏؟‏ ويلبس الحرير في الآخرة ‏؟‏ والتوبة النصوح ما شرطها ‏؟‏‏.‏
    فأجاب‏:‏ الحمد لله‏.‏ بل المراد الاستغفار بالقلب مع اللسان، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث الآخر ‏:‏‏
    "‏لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار‏"‏ فإذا أصر على الصغيرة صارت كبيرة، وإذا تاب منها غفرت‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ‏"‏‏[‏آل عمران 135‏]‏ الآية‏.‏

    ج/ 11 ص -700-وإذا تاب توبة صحيحة غفرت ذنوبه، فإن عاد إلى الذنب فعليه أن يتوب أيضًا‏.‏ وإذا تاب قبل الله توبته أيضًا‏.‏
    وقد تنازع العلماء في التائب من الكفر‏.‏ إذا ارتد بعد إسلامه ثم تاب بعد الردة وأسلم، هل يعود عمله الأول ‏؟‏ على قولين مبناهما أن الردة هل تحبط العمل مطلقا أو تحبطه بشرط الموت عليها ‏؟‏‏.‏
    فمذهب أبي حنيفة ومالك أنها تحبطه مطلقا، ومذهب الشافعي أنها تحبطه بشرط الموت عليها، والردة ضد التوبة، وليس من السيئات ما يمحو جميع الحسنات إلا الردة، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا‏"‏ ‏[‏التحريم 8‏]‏‏.‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏"تَوْبَةً نَّصُوحًا‏"‏ أن يتوب ثم لا يعود فهذه التوبة الواجبة التامة‏.‏ ومن تاب من شرب الخمر ولبس الحرير فإنه يلبس ذلك في الآخرة كما جاء في الحديث الصحيح ‏:‏‏"‏من شرب الخمر ثم لم يتب منها حرمها‏"‏‏.‏ وقد ذهب بعض الناس كبعض أصحاب أحمد‏:‏ إلى أنه لا يشربها مطلقًا وقد أخطئوا الصواب الذي عليه جمهور المسلمين‏.‏

    ج/ 11 ص -701-وسئل عن
    اليهودي أو النصراني إذا أسلم‏.‏ هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام ‏؟‏
    فأجاب‏:‏ - إذا أسلم باطنًا وظاهرًا غفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع، وأما الذنوب التي لم يتب منها مثل أن يكن مصرًا على ذنب، أو ظلم، أو فاحشة، ولم يتب منها بالإسلام، فقد قال بعض الناس‏:‏ أنه يغفر له بالإسلام‏.‏ والصحيح‏:‏ أنه إنما يغفر له ما تاب منه‏.‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قيل‏:‏ ‏"
    ‏أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ‏؟‏ فقال‏:‏ من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية‏.‏ ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر‏"‏‏.‏ وحسن الإسلام أن يلتزم فعل ما أمر الله به، وترك ما نهي عنه‏.‏ وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها‏.‏ وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ‏;‏ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث

    ج/ 11 ص -702-الصحيح لعمرو بن العاص ‏:‏‏"‏أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله‏"‏ فإن اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر‏"‏ أي‏:‏ إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب، فإنه يؤاخذ بالأول والآخر‏.‏ وهذا موجب النصوص والعدل، فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب، ولم يجب أن يغفر له غيره، والمسلم تائب من الكفر كما قال تعالى‏:‏ ‏"فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏"‏ ‏[‏التوبة 5‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ "قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏"‏ ‏[‏الأنفال 38‏]‏‏.‏ أي إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف‏.‏
    فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه‏.‏ من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه‏.‏ وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر‏.‏ والله أعلم‏.‏
    آخر المجلد الحادي عشر‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML