أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل عن الكبائر هل لها حد تعرف به وعن الصحيح من الأقوال فيها

    ج/ 11 ص -650-وسئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن، والحديث‏.‏ هل لها حد تعرف به ‏؟‏ وهل قول من قال‏:‏ إنها سبع، أو سبعة عشر، صحيح ‏؟‏ أو قول من قال ‏:‏ إنها ما اتفقت فيها الشرائع أعني على تحريمها‏؟‏ أو أنها ما تسد باب المعرفة بالله‏؟‏ أو أنها ما تذهب الأموال والأبدان‏؟‏ أو أنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها‏؟‏ أو أنها لا تعلم أصلا‏.‏ وأبهمت كليلة القدر‏؟‏ أو ما يحكي بعضهم أنها إلى التسعين أقرب، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، أو أنها ما رتب عليها حد‏.‏ أو ما توعد عليها بالنار‏؟‏‏.‏
    فأجاب ‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، أمثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل، وغيرهما وهو‏:‏ أن الصغيرة ما دون الحدين‏:‏ حد الدنيا، وحد الآخرة‏.‏ وهو معنى قول من قال‏:‏ ما ليس فيها حد في الدنيا‏.‏ وهو معنى قول القائل‏:‏ كل ذنب ختم بلعنة، أو غضب، أو نار، فهو من الكبائر ‏.‏
    ومعنى قول القائل‏:‏ وليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في

    ج/ 11 ص -651-الآخرة، أي ‏[‏وعيد خاص‏]‏ كالوعيد بالنار، والغضب، واللعنة، وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة، كالعقوبة الخاصة في الدنيا، فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع، والقتل، وجلد مائة، أو ثمانين،وبين العقوبات التي ليست بمقدرة‏:‏ وهي ‏[‏التعزير‏]‏ فكذلك يفرق في العقوبات التي يعزر الله بها العباد في غير أمر العباد بها بين العقوبات المقدرة‏:‏ كالغضب، واللعنة، والنار، وبين العقوبات المطلقة‏.‏
    وهذا ‏[‏الضابط‏]‏ يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل كل ما ثبت في النص أنه كبيرة‏:‏ كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة مشروعة، وكالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور؛ فإن هذه الذنوب وأمثالها فيها وعيد خاص، كما قال في الفرار من الزحف‏:‏ ‏
    "وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏"‏[‏الأنفال‏:‏16‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏"‏‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏‏"وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏"‏‏[‏الرعد‏:‏25‏]‏،

    ج/ 11 ص -652-وقال‏:‏ ‏"فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ‏"‏‏[‏محمد‏:‏22، 23‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏77‏]‏ ‏.‏
    وكذلك كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، ولا يشم رائحة الجنة، وقيل فيه‏:‏ من فعله فليس منا، وأن صاحبه آثم، فهذه كلها من الكبائر‏.‏ كقوله ﷺ ‏:
    ‏ ‏"‏ لا يدخل الجنة قاطع‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ من غشنا فليس منا‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏من حمل علينا السلاح فليس منا‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏لا يزني الزاني حين يزنى، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن‏"‏‏.‏
    وذلك لأن نفي الإيمان، وكونه ليس من المؤمنين، ليس المراد به ما يقوله المرجئة‏:‏ أنه ليس من خيارنا، فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم، وليس المراد به ما يقوله الخوارج‏:‏ إنه صار كافرًا‏.‏ ولا ما يقوله المعتزلة ‏:‏ من أنه لم يبق معه من الإيمان شىء، بل هو

    ج/ 11 ص -653-مستحق للخلود في النار لا يخرج منها، فهذه كلها أقوال باطلة، قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع‏.‏
    ولكن المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد،وهو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، هو المؤدي للفرائض،المجتنب المحارم،وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق،فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين،إذ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة‏.‏وهذا معنى قول من قال‏:‏أراد به نفي حقيقة الإيمان،أو نفي كمال الإيمان،فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب،فإن ترك الكمال المستحب لا يوجب الذم والوعيد، والفقهاء يقولون‏:‏الغسل ينقسم إلى‏:‏كامل،ومجزئ‏.‏ثم من عدل عن الغسل الكامل إلى المجزئ لم يكن مذمومًا‏.‏
    فمن أراد بقوله‏:‏ ‏[‏نفي كمال الإيمان‏]‏ أنه نفي الكمال المستحب، فقد غلط، وهو يشبه قول المرجئة، ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب‏.‏ وهذا مطرد في سائر ما نفاه الله ورسوله؛ مثل قوله‏:‏ ‏
    "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏"‏‏[‏الأنفال‏:‏24‏]‏ ومثل الحديث المأثور‏:‏ ‏"‏لاإيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له‏"‏، ومثل قوله ﷺ ‏:‏ ‏"‏لا صلاة إلا بأم

    ج/ 11 ص -654-القرآن‏"‏ وأمثال ذلك، فإنه لاينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك، لا لانتفاء بعض مستحباته، فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به، وإن كان معه بعض الإيمان‏.‏ فإن الإيمان يتبعض ويتفاضل‏.‏ كما قال ﷺ ‏:‏ ‏"‏يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏"‏‏.‏
    والمقصود هنا أن نفي الإيمان والجنة، أو كونه من المؤمنين، لا يكون إلا عن كبيرة‏.‏ أما الصغائر فلا تنفي هذا الاسم والحكم عن صاحبها بمجردها، فيعرف أن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة‏.‏
    وإنما قلنا‏:‏ إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه المأثور عن السلف‏.‏ بخلاف تلك الضوابط، فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وإنما قالها بعض من تكلم في شىء من الكلام، أو التصوف بغير دليل شرعي، وأما من قال من السلف‏:‏ إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، فهذا لا يخالف ما ذكرناه‏.‏ وسنتكلم عليها إن شاء الله واحدًا واحدًا‏.‏

    ج/ 11 ص -655-الثاني‏:‏ أن الله قال‏:‏ ‏"إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات، واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته، أو نار أو حرمان جنة، أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه‏.‏
    الثالث‏:‏ أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب، فهو حد يتلقى من خطاب الشارع، وماسوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله، بل هو قول رأي القائل وذوقه من غير دليل شرعي، والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز‏.‏
    الرابع‏:‏ أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر، لأن تلك الصفات لادليل عليها ،لأن الفرق بين ما اتفقت فيه الشرائع واختلفت لا يعلم إن لم يمكن وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها،وهذا غير معلوم لنا‏.‏

    ج/ 11 ص -656-وكذلك ‏[‏ما يسد باب المعرفة‏]‏ هو من الأمور النسبية والإضافية، فقد يسد باب المعرفة عن زيد ما لا يسد عن عمرو، وليس لذلك حد محدود‏.‏
    الخامس‏:‏ أن تلك الأقوال فاسدة‏.‏ فقول من قال‏:‏ إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، يوجب أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقة، والخيانة، والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة‏.‏ وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر، إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة، وكذلك يقتضي أن يكون التزوج بالمحرمات بالرضاعة والصهر وغيرهما ليس من الكبائر، لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع، وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث، ووطؤها بعد ذلك‏.‏ مع اعتقاد التحريم‏.‏
    وكذلك من قال‏:‏ إنها ما تسد باب المعرفة، أو ذهاب النفوس والأموال، يوجب أن يكون القليل من الغضب والخيانة كبيرة، وأن يكون عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك ليس من الكبائر‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، وأن ما عصى الله

    ج/ 11 ص -657-به فهو كبيرة، فإنه يوجب ألا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر، وهذا خلاف القرآن‏.‏ فإن الله قال‏:‏ ‏"الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ‏"‏‏[‏النجم‏:‏32‏]‏، وقال‏:‏ ‏"الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏"‏‏[‏الشورى‏:‏37‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏"‏‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، وقال‏:‏ ‏"مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏49‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ‏"‏ ‏[‏القمر‏:‏53‏]‏ والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر‏.‏
    ومن قال‏:‏ هي سبعة عشر، فهو قول بلا دليل‏.‏
    ومن قال ‏:‏ إنها مبهمة، أو غير معلومة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها‏.‏
    ومن قال‏:‏ إنه ما توعد عليه بالنار، قد يقال‏:‏ إن فيه تقصيرًا إذ الوعيد قد يكون بالنار، وقد يكون بغيرها، وقد يقال‏:‏ إن كل وعيد فلابد أن يستلزم الوعيد بالنار‏.‏
    وأما من قال ‏:‏إنها كل ذنب فيه وعيد، فهذا يندرج فيما ذكره السلف ؛فإن كل ذنب فيه حد في الدنيا ففيه وعيد من غير عكس، فإن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقذف المحصنات، ونحو ذلك فيها وعيد‏.‏ كمن قال‏:‏ إن الكبيرة ما فيها وعيد، والله أعلم‏.‏

    ج/ 11 ص -658-سئل رضي الله عنه عن شرب الخمر وفعل الفاحشة، أيهما أعظم إثمًا عند الله‏؟‏ أم هما مستويان‏؟‏ وما هي الكبائر التي قال عز وجل فيها‏:‏ ‏"إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏"‏‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، فما هي هذه الكبائر، وما هي السيئات‏؟‏
    فأجاب رضي الله عنه ‏:‏
    الحمد لله، الكبائر‏:‏ هي ما فيها حد في الدنيا، أو في الآخرة‏:‏ كالزنا، والسرقة، والقذف، التي فيها حدود في الدنيا، وكالذنوب التي فيها حدود في الآخرة، وهو الوعيد الخاص، مثل الذنب الذي فيه غضب الله، ولعنته، أو جهنم، ومنع الجنة، كالسحر، واليمين الغموس، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور،وشرب الخمر، ونحو ذلك‏.‏ هكذا روى عن ابن عباس، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من العلماء، قال تعالى‏:‏ ‏
    "إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏"‏، وقال تعالى:

    ج/ 11 ص -659- ‏"الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏32‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏"الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏"‏ ‏[‏الشورى 37‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا‏"‏ ‏[‏الكهف‏:‏49‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏"وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ‏"‏ ‏[‏القمر‏:‏53‏]‏‏.‏
    و أكبر الكبائر ‏:‏ الإشراك بالله، ثم قتل النفس، ثم الزنا، كما قال تعالى ‏:‏‏
    "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُون‏"‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏68‏]‏‏.‏
    والزنا أعظم من شرب الخمر، إذا استويا في القدر، مثل من يزني مرة، ويشرب الخمر مرة، فأما إذا قدر أن رجلا زنا مرة، وآخر مدمن على شرب الخمر، فهذا قد يكون أعظم من ذاك‏.‏ كما أنه لو زنا مرة وتاب كان خيرًا من المصر على شرب الخمر، وكذلك شارب الخمر إذا دعا غيره فيكون عليه إثم شربه وعليه قسط من إثم الذين دعاهم إلى الشرب، وكذلك إذا اقترن بالشرب سماع المزامير، والشرب على بعض الصور المحرمة، ونحو ذلك فهذا مما يتغلظ فيه الشرب‏.‏
    والذنب يتغلظ بتكراره، و بالإصرار عليه، وبما يقترن به من سيئات أخر، وكذلك لو قدرنا أن الزاني زنا وهو خائف من الله، وجل من عذابه، والشارب يشرب لاهيًا غافلا لا يراقب الله، كان ذنبه أعظم من هذا الوجه، فقد يقترن بالذنوب ما يخففها، وقد يقترن بها

    ج/ 11 ص -660-ما يغلظها‏.‏ كما أن الحسنات قد يقترن بها ما يعظمها، وقد يقترن بها ما يصغرها، فكما أن الحسنات أجناس متفاضلة، وقد يكون المفضول في كثير من المواضع أفضل مما جنسه فاضل‏.‏ فكذلك السيئات‏.‏
    فالصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء؛ مع أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر وبعد العصر أفضل من تحري صلاة التطوع في ذلك، وكذلك التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن فيه، وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالذكر والدعاء أعظم من انتفاعه بالقراءة، فيكون أفضل في حقه، فهكذا السيئات، وإن كان القتل أعظم من الزنا، والزنا أعظم من الشرب، فقد يقترن بالشرب من المغلظات ما يصير به أغلظ من بعض ضرر الزنا‏.‏
    وإذا عرف أن الحسنات والسيئات تتفاضل بالأجناس تارة، وتتفاضل بأحوال أخرى تعرض لها تبين أن هذا قد يكون أعظم من هذا، وهذا أعظم من هذا، والعبد قد يأتي بالحسنة بنية وصدق وإخلاص تكون أعظم من أضعافها‏.‏ كما في حديث صاحب البطاقة الذي رجحت بطاقته التي فيها‏:‏ ‏[‏لا إله إلا الله‏]‏ بالسجلات التي فيها ذنوبه، وكما في حديث البغي التي سقت كلبًا بموقها، فغفر الله لها‏.‏ وكذلك في السيئات‏.‏ والله أعلم‏.‏ كتبه ابت تيمية

    ج/ 11 ص -661-

    سئل الشيخ رحمه الله عن رجل مدمن على المحرمات، وهو مواظب على الصلوات الخمس، ويصلي على محمد مائة مرة كل يوم، ويقول ‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، كل يوم مائة مرة، فهل يُكَفَّر ذلك بالصلاة والاستغفار‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    قال الله تعالى ‏:‏‏
    "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏"‏[‏الزلزلة‏:‏7، 8 ‏]‏، فمن كان مؤمنا وعمل عملاً صالحًا لوجه الله تعالى، فإن الله لايظلمه، بل يثيبه عليه‏.‏
    وأما ما يفعله من المحرم اليسير فيستحق عليه العقوبة، و يرجى له من الله التوبة‏.‏ كما قال الله تعالى ‏:‏‏
    "وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏"‏[‏التوبة‏:‏102‏]‏ ،وإن مات ولم يتب فهذا أمره إلى الله‏.‏ هو أعلم بمقدار حسناته وسيئاته‏.‏ لا يشهد له بجنة ولا نار ،بخلاف الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون‏:‏ إنه من فعل كبيرة أحبطت جميع حسناته، وأهل السنة والجماعة لا يقولون بهذا الإحباط، بل أهل الكبائر معهم حسنات وسيئات، وأمرهم إلى الله تعالى ‏.‏

    ج/ 11 ص -662-وقوله تعالى ‏:‏‏"إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏"‏‏[‏المائدة‏:‏7‏]‏ أي من اتقاه في ذلك العمل، بأن يكون عملاً صالحًا خالًصا لوجه الله تعالى ،وأن يكون موافقًا للسنة، كما قال تعالى‏:‏ ‏"فَمَن كَانَ يَرْجُولِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏"‏‏[‏الكهف‏:‏110‏]‏‏.‏وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه ‏:‏اللهم اجعل عملي كله صالحًا واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا‏.‏ وأهل الوعيد يقولون ‏:‏ لا يتقبل العمل إلا ممن اتقاه بترك جميع الكبائر‏.‏ وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة في ‏[‏قصة حمار‏]‏ الذي كان يشرب الخمر، وقال النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏إنه يحب الله ورسوله‏"‏، وكما في أحاديث الشفاعة، وإخراج أهل الكبائر من النار‏.‏ حتى يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏.‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏"فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ‏"‏ الآية ‏[‏فاطر‏:‏32‏]‏ ‏.‏
    ومع هذا فقد صح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن‏"‏‏.‏ وقال ‏:‏ ‏"‏من شرب الخمر في الدنيا، ولم يتب منها حرمها في الآخرة‏"‏، وقال‏:‏ ‏"‏لعن الله الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها،وساقيها، وآكل ثمنها‏"‏‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML