ج/ 11 ص -587-سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن [ السماع]
فأجاب :
[السماع] الذي أمر الله به ورسوله، واتفق عليه سلف الأمة ومشائخ الطريق: هو سماع القرآن، فإنه سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين، قال سبحانه وتعالى: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا" [مريم:58]، وقال تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا"[الإسراء:107: 109].
وقال تعالي: "وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" [المائدة: 83]،
ج/ 11 ص -588-وقال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" [الأنفال:2-4]، وقال سبحانه وتعالى:"وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الأعراف:204]، وقال تعالى: "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ" [الأحقاف: 29].
وقال سبحانه وتعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الزمر:23]، وقال سبحانه وتعالى: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" [الزمر: 18]، وهذا كثير في القرآن.
وكما أثنى سبحانه وتعالى على هذا السماع، فقد ذم المعرضين عنه، كما قال: "لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" [فصلت:26]، وقال: "وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا" [الفرقان:73]، وقال سبحانه وتعالى: "فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ" [المدثر:49، 50]، وقال سبحانه وتعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ" [الكهف: 57]، وقال: "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ" [الأنفال:22، 23]، وقال سبحانه وتعالى "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ُ"[لقمان:7]
ج/ 11 ص -589-وهذا كثير في كتاب الله، وسنة رسول الله ﷺ، وإجماع المسلمين يمدحون من يقبل على هذا السماع ويحبه ويرغب فيه، ويذمون من يعرض عنه ويبغضه، ولهذا شرع الله للمسلمين في صلاتهم ولطسهم، شرع سماع المغرب، والعشاء الآخر. وأعظم سماع في الصلوات سماع الفجر الذي قال الله فيه: "وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا" [الإسراء:78]، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يمدح النبي ﷺ :
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
وهو مستحب لهم خارج الصلوات، وروى عن النبي ﷺ: أنه خرج على أهل الصفة وفيهم واحد يقرأ وهم
ج/ 11 ص -590-يستمعون، فجلس معهم، وكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أبا موسى،ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي ﷺ بأبي موسى وهو يقرأ: فجعل يستمع لقراءته، وقال: "لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير داود"، وقال: "يا أبا موسى،لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك" فقال:لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرًا. أي: حسنته لك تحسينًا .
وقال النبي ﷺ: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، "زينوا القرآن بأصواتكم" وقال: "لله أشد أذنا للرجل حسن الصوت، من صاحب القينة إلى قينته" وقوله:"ما أذن الله أذنا" أي سمع سمعًا، ومنه قوله: "وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ" [الانشقاق:2] أي سمعت، والآثار في هذا كثيرة.
وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية يطول شرحها، ووصفها. وله في الجسد آثار محمودة. من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن. وكانت موجودة في أصحاب رسول الله
ج/ 11 ص -591-ﷺ الذين أثنى عليهم في القرآن، ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة: الاضطراب، والاختلاج، والإغماء أو الموت، والهيام؛ فأنكر بعض السلف ذلك إما لبدعتهم، وإما لحبهم.
وأما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك، فإن السبب إذا لم يكن محظورًا كان صاحبه فيما تولد عنه معذورًا. لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم،وضعف قلوبهم عن حمله فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين، كما ذم الله الذين قال فيهم: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِك" [البقرة:74]، وقال: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" [الحديد:16]، ولو أثر فيهم آثارا محمودة لم يجذبهم عن حد العقل. لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة كانوا محمودين أيضًا ومعذورين.
فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك: إما نشيد مجرد، نظير الغبار، وإما بالتصفيق، ونحو ذلك. فهو السماع المحدث في الإسلام، فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي ﷺ حيث قال: "خير القرون: القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" وقد كرهه أعيان الأمة ولم يحضره أكابر المشايخ.
ج/ 11 ص -592-وقال الشافعي رحمه الله : خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن.
وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال:هو محدث أكرهه،قيل له: إنه يرق عليه القلب، فقال:لا تجلسوا معهم. قيل له: أيهجرون؟ فقال:لا يبلغ بهم هذا كله، فبين أنه بدعة لم يفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام،ولا في اليمن،ولا في مصر،ولا في العراق، ولا خراسان، ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف.
ولم يحضره مثل: إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا السري السقطي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، ولا الشيخ حياة، وغيرهم، بل في كلام طائفة من هؤلاء كالشيخ عبد القادر وغيره النهي عنه. وكذلك أعيان المشائخ.
وقد حضره من المشائخ طائفة، وشرطوا له المكان، والإمكان، والخلان، والشيخ الذي يحرس من الشيطان. وأكثر الذين حضروه من المشائخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم. كالجنيد فإنه حضره وهو شاب، وتركهم في آخر عمره، وكان يقول: من تكلف السماع
ج/ 11 ص -593-فتن به، ومن صادفه السماع استراح به. فقد ذم من يجتمع له، ورخص فيمن يصادفه من غير قصد. ولا اعتماد للجلوس له.
وسبب ذلك أنه مجمل ليس فيه تفصيل. فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب، والوصل والهجر، والقطيعة، والشوق، والتتيم، والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك، هو قول مجمل، يشترك فيه محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الإخوان، ومحب الأوطان، ومحب النسوان، ومحب المردان. فقد يكون فيه منفعة إذا هيج القاطن، وأثار الساكن، وكان ذلك مما يحبه الله ورسوله. لكن فيه مضرة راجحة على منفعته: كما في الخمر والميسر،فإن فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما.
فلهذا لم تأت به الشريعة، لم تأت إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة.
وأما ما تكون مفسدته غالبة على مصلحته، فهو بمنزلة من يأخذ درهما بدينار، أو يسرق خمسة دراهم، ويتصدق منها بدرهمين.
وذلك أنه يهيج الوجد المشترك، فيثير من النفس كوامن تضره آثارها، ويغذي النفس ويفتنها، فتعتاض به عن سماع القرآن، حتى لا يبقى فيها محبة لسماع القرآن ولا التذاذ به، ولا استطابة له، بل
ج/ 11 ص -594-يبقى في النفس بغض لذلك، واشتغال عنه، كمن شغل نفسه بتعلم التوراة والإنجيل، وعلوم أهل الكتاب، والصابئين واستفادته العلم والحكمة منها، فأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله، إلى أشياء أخرى تطول.
فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف، بل قد يصد عن ذلك، و يعطي مالا يحبه الله ورسوله، أو ما يبغضه الله ورسوله، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها.
ومن نكته أن الصوت يؤثر في النفس بحسنه: فتارة يفرح، وتارة يحزن، وتارة يغضب، وتارة يرضى، وإذا قوى أسكر الروح فتصير في لذة مطربة من غير تمييز. كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص، وللجسد أيضًا إذا سكر بالطعام والشراب، فإن السكر هو الطرب الذي يؤثر لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل، التي صدت عن ذكر الله وعن الصلاة، وأوقعت العداوة والبغضاء.
و بالجملة فعلى المؤمن أن يعلم: أن النبي ﷺ لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا شيئًا يبعد عن
ج/ 11 ص -595-النار إلا وقد حدث به، وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله، فإن الله يقول: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [المائدة:3]، وإذا وجد فيه منفعة لقلبه، ولم يجد شاهد ذلك، لا من الكتاب ولا من السنة، لم يلتفت إليه.
قال سهل بن عبد الله التستري:كل وجد لايشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.
وقال أبو سليمان الداراني: إنه لتلم بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنة،وقال أبوسليمان أيضًا:ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يجد فيه أثرًا. فإذا وجد فيه أثرًا كان نورًا على نور.
وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في علمنا.
و أيضا فإن الله يقول في الكتاب: "وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً" [الأنفال:35]، قال السلف من الصحابة والتابعين: [المكاء] كالصفير ونحوه، من التصويت، مثل الغناء. و[التصدية]: التصفيق باليد. فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية
ج/ 11 ص -596-والغناء لهم صلاة، وعبادة، وقربة، يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله.
وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فصلاتهم وعبادتهم القرآن، واستماعه، والركوع والسجود، وذكر الله ودعاؤه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك، وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين: المهاجرين والأنصار. فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر. واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه، فقد عظمت مشابهته لهم. وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى: "وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً".
لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده، أو لحسنات ماحية، أوغير ذلك. فيما يفرق فيه بين المسلم والكافر. لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذمومًا خارجًا عن الشريعة، داخلًا في البدعة التي ضاهى بها المشركين، فينبغي للمؤمن أن يتفطن لهذا، ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله، وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله.
ج/ 11 ص -597-ويعلم أن هذا السماع المحدث هو من جنس سماع المشركين، وهو إليه أقرب منه إلى سماع المسلمين، وإن كان قد غلط فيه قوم من صالح المسلمين،فإن الله لا يضيع أجرهم وصلاحهم، لما وقع من خطئهم، فإن النبي ﷺ قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد".
وهذا كما أن جماعة من السلف قاتلوا أمير المؤمنين عليا بتأويل، وعلي بن أبي طالب وأصحابه أولى بالحق منهم، وقد قال فيهم: من قصد الله فله الجنة.
وجماعة من السلف والخلف استحلوا بعض الأشربة بتأويل وقد ثبت بالكتاب والسنة تحريم ما استحلوه وإن كان خطؤهم مغفورًا لهم.
والذين حضروا هذا السماع من المشائخ الصالحين شرطوا له شروطًا لا توجد إلا نادرًا، فعامة هذه السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطؤوا والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة وإن كانوا معذورين.
والسبب الذي أخطؤوا فيه أوقع أممًا كثيرة في المنكر الذي نهوا
ج/ 11 ص -598-عنه، وليس للعالمين شرعة ولا منهاج، ولا شريعة ولا طريقة أكمل من الشريعة التي بعث الله بها نبيه محمدًا ﷺ كما كان يقول في خطبته: "خير الكلام كلام الله،وخير الهدي هدي محمد ﷺ".
ومن غلط بعضهم توهمه أن النبي ﷺ والصحابة والتابعين حضروا هذا السماع، سماع المكاء والتصدية، والغناء والتصفيق بالأكف، حتى روى بعض الكاذبين أن النبي ﷺ أنشده أعرابي شعرًا، قوله:
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي
سوى الحبيب الذي شغفت به فمنه دائي ومنه ترياقي
وأن النبي ﷺ تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، وقال: "ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب". وهذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله ﷺ وسنته وأحواله.
كما كذب بعض الكذابين: أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع
ج/ 11 ص -599-المشركين، وأمثال هذه الأمور المكذوبة إنما يكذبها من خرج عن أمر الله ورسوله، وأطبقت عليه طوائف من الجاهلين بأحوال الرسول وأصحابه، بل بأصول الإسلام.
وأما [الرقص] فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ" [لقمان :19]، وقال في كتابه: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا" [الفرقان:63]، أي: بسكينة، ووقار.
وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة، والسكينة، ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع، كسماع القرآن و نحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له: مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال: ورد على الحال، وأنا سكران قيل له: إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورًا.
فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقًا فهو مبتدع، ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة،من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى، والمشركين، والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال،
ج/ 11 ص -600-ومن كان كاذبًا فهو منافق ضال.
قال سيد المسلمين في وقته الفضيل بن عياض في قوله تعالى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [الملك:2]، قال: أخلصه، و أصوبه، قيل له: يا أبا علي ما أخلصه؟ وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل ،حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
وكان يقول: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا. وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشائخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال، كما قال عن النصارى: "وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ" [الحديد:27]، وقال ابن مسعود: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله خاليًا فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليًا فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم.
ج/ 11 ص -601-وأما قول القائل: هذه شبكة يصاد بها العوام،فقد صدق، فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام، والتوانس على الطعام، كما قال الله فيهم :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ" [التوبة:34]، ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال، الذين قيل في رؤوسهم: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا" [الأحزاب :66-68].
وأما الصادقون منهم: فهم يتخذونه شبكة، لكن هي شبكة مخرقة يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرًا،فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق، ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله، أورثتهم أحوالا فاسدة.
وإلى عبادته ومحبته، وطاعته، والرغبة إليه، والتبتل له والتوكل عليه أحسن من الإسلامية، والشريعة القرآنية، والمناهج الموصلة الحقيقة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة.
ج/ 11 ص -602-وإذا كان غير مشروع، ولا مأمور به، فالتطهر، أو الإنصات له، واستفتاح باب الرحمة هو من جنس عادة الرهبان، ليس من عبادة أهل الإسلام، والإيمان، ولا عبادة أهل القرآن، ولا من أهل السنة والإحسان، والحمد لله وحده.
ج/ 11 ص -603-سئل عمن قال: إن السماع على الناس حرام وعليَّ حلال هل يفسق في ذلك أم لا؟
فأجاب رضي الله عنه :
من ادعى أن المحرمات تحريمًا عامًا: كالفواحش، والظلم والملاهي، حرام على الناس حلال له فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن ادعى في الدفوف والشباب أنهما حرام على بعض الناس دون بعض فهذا مخالف للسنة، والإجماع، وأئمة الدين، وهو ضال من الضلال. ومن تم مصرًا على مثل ذلك كان فاسقًا. والله أعلم.
ج/ 11 ص -604-سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف، ثم يسجد بعضهم لبعض على وجه التواضع، هل هذا سنة ؟ أو فعله الشيوخ الصالحون؟.
الجواب :
لا يجوز السجود لغير الله، واتخاذ الضرب بالدف والغناء والرقص عبادة هو من البدع التي لم يفعلها سلف الأمة، ولا أكابر شيوخها: كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي، والسري السقطي، وغير هؤلاء.
وكذلك أكابر الشيوخ المتأخرين مثل: الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، وغير هؤلاء، فإنهم لم يحضروا [السماع البدعي] بل كانوا يحضرون [السماع الشرعي] سماع الأنبياء، وأتباعهم كسماع القرآن. والله أعلم.
ج/ 11 ص -605-سئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص، فأشار عليه رجل. فقال هذه الأبيات :
أنكروا رقصًا وقالوا حرام فعليهم من أجل ذاك سلام
أعبد الله يا فقيه، وصل والزم الشرع فالسماع حرام
بل حرام عليك، ثم حلال عند قوم أحوالهم لا تلام
مثل قوم صفوا وبان لهم من جانب الطور جذوة وكلام
فإذا قوبل السماع بلهو فحرام على الجميع حرام
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذا الشعر يتضمن منكرًا من القول وزورًا؛ بل أوله يتضمن مخالفة الشريعة، وآخره يفتح باب الزندقة والإلحاد، والمخالفة للحقيقة الإلهية الدينية النبوية. وذلك أن قول القائل :
مثل قوم صفوا وبان لهم من جانب الطور جذوة وكلام
ج/ 11 ص -606-يتضمن تمثيل هؤلاء بموسى بن عمران، الذي نودي من جانب الطور. ولما رأى النار "قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ" [القصص:29].
وهذا قول طائفة من الناس، يسلكون طريق الرياضة والتصفية، ويظنون أنهم بذلك يصلون إلى أن يخاطبهم الله، كما خاطب موسى بن عمران، وهؤلاء ثلاثة أصناف:
[صنف] يزعمون أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به موسى بن عمران. كما يقول ذلك من يقول من أهل الوحدة والاتحاد. القائلين بأن الوجود واحد. كصاحب [الفصوص] وأمثاله.
فإن هؤلاء يدعون أنهم أعلى من الأنبياء، وأن الخطاب الذي يحصل لهم من الله أعلى مما يحصل لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، و معلوم أن هذا الكفر أعظم من كفر اليهود والنصارى، الذين يفضلون الأنبياء على غيرهم، لكن يؤمنون ببعض الأنبياء، ويكفرون ببعض.
والنوع الثاني: من يقول: إن الله يكلمه مثل كلام موسى بن عمران، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والمتصوفة، الذين
ج/ 11 ص -607-يقولون: إن تكليم موسى فيض فاض على قلبه من العقل الفعال، ويقولون: إن النبوة مكتسبة.
و النوع الثالث: الذين يقولون: إن موسى أفضل، لكن صاحب الرياضة قد يسمع الخطاب الذي سمعه موسى، ولكن موسى مقصودًا بالتكليم دون هذا، كما يوجد هذا في أخبار صاحب [مشكاة الأنوار]، وكذلك سلك مسلكه صاحب [خلع النعلين]، وأمثالهما.
وأما قوله في أول الشعر لمن يخاطبه: [الزم الشرع يا فقيه وصل]، يشعر بأنك أنت تبع الشرع، وأما نحن فلنا إلى الله طريق غير الشرع، ومن ادعى أن له طريقًا إلى الله يوصله إلى رضوان الله وكرامته وثوابه غير الشريعة التي بعث الله بها رسوله، فإنه أيضًا كافر، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، كطائفة أسقطوا التكليف، وزعموا أن العبد يصل إلى الله بلا متابعة الرسل.
و[طائفة] يظنون أن الخواص من الأولياء يستغنون عن متابعة محمد ﷺ ،كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، وجهل هؤلاء أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ومحمد ﷺ رسول إلى كل أحد ظاهرًا وباطنًا، مع أن قضية الخضر لم تخالف شريعة موسى، بل وافقتها، ولكن الأسباب المبيحة للفعل لم يكن موسى علمها، فلما علمها تبين أن الأفعال توافق شريعته لا تخالفها.
ج/ 11 ص -608-وسئل عن الذين يعملون النار والإشارات، مثل النبل والزعفران، وغير ذلك ؟
فأجاب:
أما هؤلاء الذين يظهرون [الإشارات] كالنبل والزعفران والمسك، والنار، والجبة، فليسوا من أولياء الله الصالحين؛ بل هم من أحزاب الشياطين، وأحوالهم شيطانية ليست من كرامات الصالحين، وهم يفسدون العقول، والأديان، والأعراض، والنساء، والصبيان. ولا يحسن الظن بهم إلا جاهل عظيم الجهالة، أو عدو لله ورسوله، فإنهم من جنس التتر المحاربين لله ورسوله. والله أعلم.
ج/ 11 ص -609-سئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته، وإن في بلده شيخًا أعطاه إجازة، وبقى يأكل الثعابين والعقارب، ونزل عن فلاحته، ويطلب رزقه. فهل تجوز الصدقة عليه أم لا ؟
فأجاب:
الحمد لله، أكل الخبائث، وأكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين.فمن أكلها مستحلا لذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ومن اعتقد التحريم وأكلها فإنه فاسق عاص لله ورسوله، فكيف يكون رجلا صالحًا؟! ولو ذكى الحية لكان أكلها بعد ذلك حرامًا عند جماهير العلماء؛ لأن النبي ﷺ قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والعقرب، والحدأة، والفأر، والكلب العقور".
فأمر النبي ﷺ بقتل ذلك في الحل والحرم، وسماهن فواسق؛ لأنهن يفسقن: أي يخرجن على الناس، ويعتدين عليهم، فلا يمكن الاحتراز منهن،كما لايحترز من السباع العادية، فيكون
ج/ 11 ص -610-عدوان هذا أعظم من عدوان كل ذي ناب من السباع،وهن أخبث وأحرم.
وأما الذين يأكلون ويجعلون ذلك من باب ؟ [كرامات الأولياء] فهم أشر حالا ممن يأكلها من الفساق؛ لأن كرامات الأولياء لا تكون بما نهي الله عنه ورسوله، من أكل الخبائث، كما لا تكون بترك الواجبات، وإنما هذه المخاريق التي يفعلها هؤلاء المبتدعون: من الدخول في النار،وأخذ الحيات، وإخراج اللاذن ، والسكر، والدم، وماء الورد.هي نوعان:
أحدهما: أن يفعلوا ذلك بحيل طبيعية. مثل أدهان معروفة،يذهبون ويمشون في النار، ومثل ما يشربه أحدهم مما يمنع سم الحية: مثل أن يمسكها بعنقصتها حتى لا تضره، ومثل أن يمسك الحية المائية، ومثل أن يسلخ جلد الحية ويحشوه طعامًا، وكم قتلت الحيات من أتباع هؤلاء؟! ومثل أن يمسح جلده بدم أخوين؛ فإذا عرق في السماع ظهر منه ما يشبه الدم، ويصنع لهم أنواعًا من الحيل والمخادعات.
النوع الثاني: وهم أعظم، عندهم أحوال شيطانية تعتريهم عند السماع الشيطاني، فتنزل الشياطين عليهم، كما تدخل في بدن المصروع ويزبد أحدهم كما يزبد المصروع، وحينئذ يباشر النار، والحيات
ج/ 11 ص -611-والعقارب، ويكون الشيطان هو الذي يفعل ذلك، كما يفعل ذلك من تقترن بهم الشياطين من إخوانهم، الذين هم شر الخلق عند الناس، من الطائفة التي تطلبهم الناس لعلاج المصروع، وهم من شر الخلق عند الناس، فإذا طلبوا تحلوا بحلية المقاتلة، ويدخل فيهم الجن، فيحارب مثل الجن الداخل في المصروع، ويسمع الناس أصواتًا، ويرون حجارة يرمى بها، ولا يرون من يفعل ذلك، ويرى الإنسي واقفًا على رأس الرمح الطويل، وإنما الواقف هو الشيطان، ويرى الناس نارًا تحمي، ويضع فيها الفؤوس والمساحي، ثم إن الإنسي يلحسها بلسانه، وإنما يفعل ذلك الشيطان الذي دخل فيه، ويرى الناس هؤلاء يباشرون الحيات والأفاعي وغير ذلك، ويفعلون من الأمور ما هو أبلغ مما يفعله هؤلاء المبتدعون الضالون المكذبون الملبسون، الذين يدعون أنهم أولياء الله، وإنما هم من أعاديه، المضيعين لفرائضه، المتعدين لحدوده.
والجهال لأجل هذه الأحوال الشيطانية، والطبيعية، يظنوهم أولياء الله، وإنما هذه الأحوال من جنس أحوال أعداء الله الكافرين، والفاسقين، ولا يجوز أن يعان من هؤلاء على ترك المأمور، ولا فعل المحظور، ولا إقامة مشيخة تخالف الكتاب والسنة، ولا أن يعطى رزقه على مشيخة يخرج بها من طاعة الله ورسوله، وإنما يعان بالأرزاق من قام بطاعة الله ورسوله، ودعا إلى طاعة الله ورسوله، والله أعلم.
ج/ 11 ص -612-وسئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل، ويصلي في بيته، ولا يشهد الجماعة، وإذا خرج إلى الجمعة يخرج مغطى الوجه، ثم إنه يخترع العياط من غير سبب، وتجتمع عنده الرجال والنساء، فهل يسلم له حاله ؟ أو يجب الإنكار عليه؟
فأجاب :
هذه الطريقة طريقة بدعية، مخالفة للكتاب والسنة، ولما أجمع عليه المسلمون. والله تعالى إنما يعبد بما شرع، لا يعبد بالبدع، قال الله تعالى :"أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ" [الشورى :21]، فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة، بحيث يرى أن تركهما أفضل من شهودهما مطلقًا كفر، يجب أن يستتاب صاحبه منه، فإن تاب وإلا قتل. فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ألا يعبد بترك الجمعة والجماعة، بل يعبد بفعل الجمعة والجماعة، ومن جعل الانقطاع من ذلك دينًا لم يكن على دين المسلمين، بل يكون من جنس الرهبان الذين يتخلون بالصوامع والديارات، والواحد من هؤلاء قد يحصل له بسبب الرياضة، أو الشياطين بتقريبه إليهم، أو غير ذلك نوع كشف، وذلك لا يفيده؛ بل هو كافر بالله ورسوله محمد ﷺ.
والله تعالى أمر الخلق أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا،
ج/ 11 ص -613-ويعبدوه بما شرع، وأمر أن لا يعبدوه بغير ذلك. قال تعالى:"فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف:110]، وقال تعالى:"لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [الملك:2].
فالسالك طريق الزهادة والعبادة إذا كان متبعًا للشريعة في الظاهر، وقصد الرياء والسمعة، وتعظيم الناس له كان عمله باطلا لا يقبله الله. كما ثبت في الصحيح أن الله يقول:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك". وفي الصحيح عنه أنه قال: "من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به".
وإن كان خالصًا في نيته لكنه يتعبد بغير العبادات المشروعة: مثل الذي يصمت دائمًا، أو يقوم في الشمس، أوعلى السطح دائمًا، أو يتعرى من الثياب دائمًا، ويلازم لبس الصوف، أو لبس الليف، ونحوه أو يغطى وجهه، أو يمتنع من أكل الخبز، أو اللحم، أو شرب الماء، ونحو ذلك كانت هذه العبادات باطلة، ومردودة. كما ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي ﷺ قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وفي رواية: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: أن النبي ﷺ رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال: "ما هذا ؟" قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر الصمت، والقيام والبروز
ج/ 11 ص -614-للشمس مع الصوم، فأمره النبي ﷺ بالصوم وحده؛ لأنه عبادة يحبها الله تعالى ،وما عداه ليس بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى. وثبت عنه ﷺ أنه كان يقول في خطبته:"إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها،وكل بدعة ضلالة".
وثبت عنه في الصحيح: أن قومًا من أصحابه قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر:أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي ﷺ: "ما بال رجال يقول أحدهم: كيت وكيت! لكني أصوم وأفطر، وأنام، وأتزوج النساء،وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، فإذا كان هذا فيما هو جنسه عبادة، فإن الصوم والصلاة جنسها عبادة، وترك اللحم والتزويج جائز، لكن لما خرج في ذلك من السنة فالتزم القدر الزائد على المشروع، والتزم هذا ترك المباح، كما يفعل الرهبان، تبرأ النبي ﷺ ممن فعل ذلك، حيث رغب عن سنته إلى خلافها، وقال: "لا رهبانية في الإسلام" فكيف بمن يرغب عما هو من أعظم شعائر الإسلام، وهو الصلاة في الجمعة، والجماعات؟!
وقد روى عن ابن عباس أنهم سألوه غير مرة عمن يصوم
ج/ 11 ص -615-
النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة، ولا جماعة. فقال: هو في النار. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين" وقال: "من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه". وفي الصحيح والسنن: إن أعمى قال: يا رسول الله، إن لي قائدًا لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: "هل تسمع النداء؟" قال: نعم، قال: "فأجب". وفي رواية قال:"لا أجد لك رخصة".
و[الجمعة] فريضة باتفاق الأئمة.
و[الجماعة] واجبة أيضًا، عند كثير من العلماء، بل عند أكثر السلف، وهل هي شرط في صحة الصلاة على قولين:
أقواهما كما في سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: "من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له".
وعند طائفة من العلماء: أنها واجبة على الكفاية.
و[أحد الأقوال] أنها سنة مؤكدة، ولا نزاع بين العلماء أن صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمسًا وعشرين ضعفًا.
ج/ 11 ص -616-كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ. ولا نزاع بينهم أن من جعل صلاته وحده أفضل من صلاته في جماعة فإنه ضال مبتدع، مخالف لدين المسلمين.
وهذه البدع يذم أصحابها، ويعرف أن الله لا يتقبلها، وإن كان قصدهم بها العبادة، كما أنه لا يقبل عبادة الرهبان، ونحوهم ممن يجتهدون في الزهد والعبادة لأنهم لم يعبدوه بما شرع، بل ببدعة ابتدعوها، كما قال:"وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا" [الحديد:27]، فإن المتعبد بهذه البدع قصده أن يعظم ويزار، وهذا عمله ليس خالصًا لله، ولا صوابًا على السنة، بل هو كما يقال: زغل، وناقص، بمنزلة لحم خنزير ميت، حرام من وجهين.
والواجب على كل مسلم التزام عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، والأمر بذلك لكل أحد، والنهي عن ضد ذلك لكل أحد، والإنكار على من يخرج عن ذلك، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء وليس تحت أديم السماء أحد يقر على خلاف ما جاء به رسول الله ﷺ، بل إن كان مقرًا بالإسلام ألزمه بطاعة الرسول، واتباع سنته الواجبة، وشريعته الهادية، وإن كان غير مقر بالإسلام كان كافرًا، ولو كان له من الزهد والرهبان ماذا عسى أن يكون .
ج/ 11 ص -617-
والكافر إن كان من أهل الذمة فله حكم أمثاله، وإن كان من أهل الحرب فله حكم أمثاله، ويجب الإنكار على هذا المبتدع وأمثاله بحسن قصد، بحيث يكون المقصود طاعة الله ورسوله، لا اتباع هوى، ولا منافسة ولا غير ذلك. قال الله تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه" [الأنفال:39].
فالمقصود أن يكون الدين كله لله، ولا دين إلا ماشرعه الله تعالى على ألسن رسله، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ قيل له: يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" فيكون المقصود علو كلمة الله، وظهور دين الله. وأن يعلم المسلمون كلهم إن ما عليه المبتدعون المراؤون ليس من الدين، ولا من فعل عباد الله الصالحين، بل من فعل أهل الجهل والضلال والإشراك بالله تعالى، الذين يخرجون عن توحيده، وإخلاص الدين له، وعن طاعة رسله.
و[أصل الإسلام]: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فمن طلب بعباداته الرياء والسمعة، فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله،
ج/ 11 ص -618-ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدًا رسول الله.
وإنما يحقق هذين [الأصلين] من لم يعبد إلا الله، ولم يخرج عن شريعة رسول الله ﷺ التي بلغها عن الله،فإنه قال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك"، وقال: "ما تركت من شىء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به،ولا من شىء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به". وقال ابن مسعود:خط لنا رسول الله ﷺ خطّا،وخط خطوطًا عن يمينه،وشماله ثم قال: "هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ" [الأنعام:153].
فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم: الذي أمرنا الله أن نسأله هدايته، هو ما دل عليه السنة هي سبل الشيطان، ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان، فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرضا انبتي فتنبت ،وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة. وهو مع هذا عدو الله، كافر بالله، وأولياء الله هم المذكورون في قوله: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" [يونس: 62، 63]
ج/ 11 ص -619-فهم المؤمنون المتقون، والتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، فمن ترك ما أمر الله، واتخذ عبادة نهى الله عنها، كيف يكون من هؤلاء ؟
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا" الحديث. فبين سبحانه أنه ما تقرب العبد إلى الله بمثل أداء ما افترض عليه.
والتقرب بالواجبات فقط طريق المقتصدين أصحاب اليمين، ثم التقرب بعد ذلك بما أحبه الله من النوافل هو طريق السابقين المقربين، والمحبوبات هي ما أمر الله به ورسوله: أمر إيجاب، أو أمر استحباب، دون ما استحبه الرجل برأيه وهواه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ج/ 11 ص -620-وسئل شيخ الإسلام علامة الزمان، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني رضي الله عنه عن [جماعة] يجتمعون على قصد الكبائر: من القتل، وقطع الطريق، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك. ثم إن شيخًا من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات. فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح، مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين.
أصل جواب هذه المسألة وما أشبهه: أن يعلم أن الله بعث محمدًا
ج/ 11 ص -621-ﷺ بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا. وأنه أكمل له ولأمته الدين. كما قال تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [المائدة:3] . وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه، والشقاوة لمن عصاه، فقال تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا"[النساء:69]، وقال تعالى:"وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا" [الجن :23].
وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به، كما قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" [النساء:59]، وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف:108]. وقال تعالى: "وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ"[الشورى:52، 53] .
وأخبر أنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث .
ج/ 11 ص -622-كما قال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 156، 157] .
وقد أمر الله الرسول ﷺ بكل معروف ونهى عن كل منكر. وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث. وثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال: "ما بعث الله نبيا إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"، وثبت عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. قال: فقلنا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل بدعة ضلالة". وثبت عنه ﷺ أنه قال: "ما تركت من شىء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به". وقال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك".
ج/ 11 ص -623-وشواهد هذا [الأصل العظيم الجامع] من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب. [كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة] كما ترجم عليه البخارى والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين. وكان السلف كمالك وغيره يقولون: السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقال الزهري: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة.
إذا عرف هذا فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول ﷺ لا يكفي في ذلك، لكان دين الرسول ناقصًا، محتاجًا تتمة. وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها.
والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإن الشارع حكيم. فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه، كما قال تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" [ البقرة: 216]،
ج/ 11 ص -624-وقال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" [البقرة:219]، ولهذا حرمها الله تعالى بعد ذلك.
وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله، فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، و إلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه ﷺ حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين.
إذا تبين هذا فنقول للسائل: إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعون على الكبائر. فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول ﷺ والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية.
فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛
ج/ 11 ص -625-بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهم خير أولياء الله المتقين، من هذه الأمة تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية . وأمصار المسلمين وقراهم قديمًا وحديثًا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية.
فلا يمكن أن يقال: إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال: إن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية، عاجزًا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة، وما يخاطب به الناس، ويسمعهم إياه، مما يتوب الله عليهم، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية، إما مع حسن القصد، إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم، وأخذ أموالهم بالباطل، كما قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ" [التوبة:34]، فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد.وإلا فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين، والعارفين، والمؤمنين . قال تعالى في النبيين :"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا" [مريم:58].
ج/ 11 ص -626-وقال تعالى في أهل المعرفة: "وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ" [المائدة:83]. وقال تعالى في حق أهل العلم:"إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا"[الإسراء: 107: 109] .
وقال في المؤمنين: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" [الأنفال:2-4]، وقال تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ"[الزمر:23] .
وبهذا السماع هدى الله العباد، وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد، وبه بعث الرسول ﷺ، وبه أمر المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وعليه كان يجتمع السلف، كما كان أصحاب رسول الله ﷺ إذ اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون . وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته. وقال: "لقد أوتي هذا مزمارًا
ج/ 11 ص -627-من مزامير آل داود". وقال: "مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك"، فقال:لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرًا. أي: لحسنته لك تحسينًا.
وفي الصحيح أنه ﷺ قال لابن مسعود :"اقرأ علي القرآن"، فقال:أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! فقال: "إني أحب أن أسمعه من غيري".قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا" [النساء:41]، قال لي: "حسبك"، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء. وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي ﷺ، حيث قال:"خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا . لا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بالشام، ولا بمصر، والعراق، وخراسان، والمغرب. وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك، وقد مدح الله أهل هذا السماع، المقبلين عليه، وذم المعرضين عنه، وأخبر أنه سبب الرحمة، فقال تعالى: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الأعراف:204] وقال تعالى:"وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا" [الفرقان:73]،
ج/ 11 ص -628-وقال تعالى:"أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ" [الحديد:16]، وقال تعالى :"وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ" [ الأنفال:23]، وقال تعالى:"فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ" [المدثر:49: 51]، وقال تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ"[الكهف:57] ، وقال تعالى:"فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى"[طه:123: 126]، ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس باتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، ويأمرهم بسماع ذلك.
وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين في المغرب، والعشاء، والفجر . قال تعالى: "وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا"[الإسراء:78]، وبهذا مدح عبد الله بن رواحة النبي ﷺ حيث قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذ استثقلت بالكافرين المضاجع
ج/ 11 ص -629- أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات إنما قال واقع
وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله، من وجل القلوب، ودمع العيون، واقشعرار الجلود، وإنما حدث سماع الأبيات بعد هذه القرون، فأنكره الأئمة، حتى قال: الشافعي رحمه الله خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يزعمون أنه يرقق القلوب، يصدون به الناس عن القرآن، وسئل الإمام أحمد عنه فقال: محدث، فقيل له: أنجلس معهم فيه؟ فقال: لا يجلس معهم.
والتغبير هو الضرب بالقضيب على جلودهم، من أمثل أنواع السماع. وقد كرهه الأئمة فكيف بغيره، والأئمة المشائخ الكبار لم يحضروا هذا السماع المحدث، مثل الفضيل ابن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي ، وأمثالهم. ولا أكابر الشيوخ المتأخرين: مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي القاسم الحوفي، والشيخ علي ابن وهب، والشيخ حياة وأمثالهم. وطائفة من الشيوخ حضروه ثم رجعوا عنه. وسئل الجنيد عنه فقال: من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به. فبين
ج/ 11 ص -630-الجنيد أن قاصد هذا السماع صار مفتوتًا، وأما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس.
فإن النهي إنما يتوجه إلى الاستماع، دون السماع، ولهذا لو مر الرجل بقوم يتكلمون بكلام محرم لم يجب عليه سد أذنيه، لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة، ولهذا لم يأمر النبي ﷺ ابن عمر بسد أذنيه لما سمع زمارة الراعي، لأنه لم يكن مستمعًا بل سامعًا.
وقول السائل وغيره: هل هو حلال ؟ أو حرام؟ لفظ مجمل به تلبيس، يشتبه الحكم فيه، حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه، وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين:
أحدهما: أنه هل هو محرم؟ أو غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس، وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو، لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله .
والنوع الثاني: أن يفعل على وجه الديانة، والعبادة، وصلاح القلوب ، وتجريد حب العباد لربهم، وتزكية نفوسهم، وتطهير قلوبهم
ج/ 11 ص -631-وأن تحرك من القلوب الخشية، والإنابة، والحب، ورقة القلوب، وغير ذلك مما هو من جنس العبادات، والطاعات، لا من جنس اللعب والملهيات.
فيجب الفرق بين سماع المتقربين، وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس، والأفراح، ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب، والتقرب إلى رب السموات، فإن هذا يسأل عنه: هل هو قربة وطاعة؟ وهل هو طريق إلى الله ؟ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم، وتحريك وجدهم لمحبوبهم، وتزكية نفوسهم، وإزالة القسوة عن قلوبهم، ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع ؟ كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة، لا على وجه اللهو واللعب.
إذا عرف هذا فحقيقة السؤال: هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي: إما محرمة، أو مكروهة، أو مباحة، قربة وعبادة وطاعة، وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله، ويتوب العاصين، ويرشد به الغاوين، ويهدي به الضالين؟
ومن المعلوم أن الدين له [أصلان] فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله. والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا مالم يحرمه الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله.
ج/ 11 ص -632-ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين: هل يباح له ذلك؟ قال: نعم، فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة، قال: إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب وإلا قتل.
ولو سئل عن كشف الرأس، ولبس الإزار، والرداء: أفتى بأن هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام، كما يحرم الحاج. قال: إن هذا حرام منكر.
ولو سئل عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز . فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر . كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ رأى رجلا قائمًا في الشمس. فقال: "من هذا"؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم. فقال النبي ﷺ: "مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل وليتم صومه" فهذا لو فعله لراحة، أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهى عنه.
وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت، لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية:
ج/ 11 ص -633-كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف، فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى: "وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا" [البقرة:189]، فبين سبحانه أن هذا ليس ببر، وإن لم يكن حراما، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصيًا، مذمومًا، مبتدعًا، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب.
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال، مفتر، مخالف لإجماع المسلمين. ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلمًا في الدين بلا علم.
فالسؤال عن مثل هذا أن يقال:هل مايفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا ؟ وهل يثابون على ذلك أم لا ؟ وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله، ففعلوه على أنه قربة
ج/ 11 ص -634-وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى . هل يحل لهم هذا الاعتقاد ؟ وهذا العمل على هذا الوجه ؟
وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول ﷺ أن يقول: إن هذا من القرب والطاعات، وأنه من أنواع العبادات، وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعو به هؤلاء إليه، ولا أنه مما أمر الله تعالى به عباده: لا أمر إيجاب، ولا أمر استحباب، وما لم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محمودًا، ولا حسنة، و لا طاعة، ولا عبادة، باتفاق المسلمين.
فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب. لا سيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقًا يقدمونه على سماع القرآن وجدًا وذوقًا. وربما قدموه عليه اعتقادًا، فتجدهم يسمعون القرآن بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وحركات مضطربة. وأصوات لا تقبل عليه قلوبهم، ولا ترتاح إليه نفوسهم، فإذا سمعوا [المكاء] و [التصدية] أصغت القلوب، واتصل المحبوب بالمحب، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، فلا سعلة، ولا عطاس، ولا لغط، ولا صياح، وإن قرؤوا شيئًا من القرآن، أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة، كما لا يسمع الإنسان ما لا حاجة له به،
ج/ 11 ص -635-ولا فائدة له فيه، حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك، وأقبلوا عليه، وعكفت أرواحهم عليه.
فهؤلاء جند الشيطان، وأعداء الرحمن، وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين، وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين، فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى، ويبغض ما أبغض الله تعالى، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، وهؤلاء يحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه، ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان، وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله، وجند الشيطان.
فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائر به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم. وفيهم من يحضر طعامًا، وإدامًا، ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك. فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين، ومن يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل.
وقد بسطنا الكلام على [مسألة السماع] وذكرنا كلام المشائخ فيه في غير هذا الموضع، وبالله التوفيق والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ج/ 11 ص -636-قال شيخ الإسلام رحمه الله :
فصل
قد كتبت فيما تقدم: الكلام في [المكاشفات، والمشاهدات]، وأنها على [ثلاثة أقسام] في الظاهر، والباطن. وكذلك [السماع، والمخاطبات، والمحادثات] ثلاثة أقسام:في الباطن والظاهر.
فإن [السامع] إما أن يسمع نفس الصوت الذي هو كلام المتكلم الصوتي، أو غير كلامه. كما ترى عينه، وإما أن يسمع صدى الصوت ورجعه كما يرى تمثاله في ماء، أو مرآة. فهذه رؤية مقيدة، وسماع مقيد، كما يقال: رأيته في المرآة ، لكن السمع يجمع بين الصورتين.
وإما أن يتمثل له: يعني كلامه في أصوات مسموعة، كما يتمثل له في صورة فيراها. مثل أن ينقر بيده نقرات، أو يضرب بيده أوتارًا، أو يظهر أصواتًا منفصلة عنه، يبين فيها مقصوده.
ج/ 11 ص -637-وكذلك في الباطن: إما أن يسمع في المنام، أو في اليقظة نفس كلام المتكلم، مثل الملائكة مثلًا، كما يرى بقلبه عين ما يكشف له في المنام، واليقظة. وإما أن يسمع مثال كلامه في نفسه، كما يرى مثاله في نفسه بمنزلة الرؤيا التي يكون تعبيرها عين ما رؤى، وإما أن تتمثل له المعاني في صورة كلام مسموع يحتاج إلى تعبير. كما تتمثل له الأعيان في صورة أشخاص مرئية تحتاج إلى تعبير. وهذا غالب ما يرى، ويسمع في المنام، فإنه يحتاج إلى تأويل، وهو بمنزلة الاستعارة، والأمثال المضروبة، فهذا هذا. والله أعلم.
فصل
في الكون يقظة ومنامًا: لما كانت الرؤية بالعين للأشياء على وجهين:
أحدهما: رؤية العين الشيء بلا واسطة، وهي الرؤية المطلقة. مثل رؤية الشمس، والقمر، كما قال النبي ﷺ: "إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر"، وقد تنازع الناس هل الرؤية انطباع المرئي في العين، أو لانعكاس شعاع البصر، أو لا لواحد منهما. على أقوال معروفة.
ج/ 11 ص -638-والثاني: رؤية المثال: وهي الرؤية في ماء، ومرآة، ونحوهما. وهي رؤية مقيدة، ولهذا قال الفقهاء لو حلف: لا رأيت زيدًا، فرأى صورته في ماء، أو مرآة، لم يحنث، لأن ذلك ليس هو المفهوم من مطلق الرؤية، وهذا في الرؤية. كسماع الصدى في السمع، فإذا أراد الإنسان أن يرى ما يمر وراءه من الناس والدواب نظر في المرآة التي تواجهه، فتنجلي له فيها حقائق ما وراءه، فمن هذه الرؤيا قد يرى بيان الحقيقة، وقد تتمثل له الحقيقة بمثال يحتاج إلى تحقيق .كما تمثل جبريل في صورة البشر، وهكذا القلب من شأنه أن يبصر، فإن بصره هو البصر، وعماه هو العمى. كما قال تعالى: "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" [الحج:46].
فتارة يرى الشيء نفسه إذا كشف له عنه، وتارة يراه متمثلا في قلبه الذي هو مرآته، والقلب هو الرائى أيضًا، وهذا يكون يقظة، ويكون منامًا، كالرجل يرى الشيء في المنام، ثم يكون إياه في اليقظة من غير تغير.
وللقلب [حال ثالثة] كما للعين نظر في المنام: وهي التي تقع لغالب الخلق. أن يرى الرؤيا مثلا مضروبًا للحقيقة، لا يضبط رؤية الحقيقة بنفسها، ولا بواسطة مرآة قلبه. ولكن يرى ما له تعبير فيعتبر به، و[عبارة الرؤيا] هو العبور من الشىء إلى مثاله، ونظيره. وهو
ج/ 11 ص -639-حقيقة المقايسة والاعتبار، فإن إدراك الشىء بالقياس والاعتبار الذي ألفه الإنسان واعتاده أيسر من إدراك شىء على البديهة من غير مثال معروف.
ثم المرئي في هذا الوجه، في هذه الحال، وفي الحال التي قبلها هو موجود في قلب الإنسان ونفسه، وإن كان مثلا للحقيقة وواسطة لها.
والمرئي في الوجه الأول: هو عين الموجود في الخارج لا مرئى في القلب، ومن العامة المتفلسفة من يزعم: أن ما يسمعه الأنبياء من الكلام، ويرونه من الملائكة، إنما وجوده في قلوبهم، وذلك مبلغ هؤلاء من العلم؛ لأن ذلك هو غاية ما وجدوه ورأوه من أبناء جنسهم، فظنوا أن ليس وراء ذلك غاية.
وقد يعارضهم من يتوهم أن ما يسمع ويرى لا يكون في نفس الإنسان، بل جميعه من الخارج، وكلاهما خطأ، بل منه ما يكون في نفس الإنسان: مثل ما يراه ويسمعه في المنام، إما مثالًا لا تعبير له، أو له تعبير.
ومنه ما يكون في الخارج: مثل رؤية مريم للرسول، إذ تمثل لها
ج/ 11 ص -640-بشرًا سويًا، ورؤية الصحابة لجبريل في صورة الأعرابي.
فقد ظهر أن رؤية الحقائق بالعين تطابق لرؤياها بالقلب، كل منهما [ثلاثة أقسام] إدراك الموجود في الخارج بعينه، وإدراكه بواسطة تمثله في مرآة باطنة أو ظاهرة، وإدراكه متمثلًا في غير صورته، إما باطنًا في القلب، وإما ظاهرًا في العين. والله سبحانه أعلم.
فالقياس في الحسيات، كالقياس في العقليات، وهذا الذي كتبته في المكاشفات يجىء مثله في المخاطبات، فإن البصر والسمع يظهران ما يتلوه.
ج/ 11 ص -641-سئل شيخ الإسلام عمن يقول: إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب، وينشق السقف والحيطان، وتنزل الملائكة ترقص معهم، أو عليهم . وفيهم من يعتقد أن النبي ﷺ يحضر معهم. فماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما هي صفة رجال الغيب؟ وهل يكون للتتار خفراء ولهم حال كحال خفراء أمة محمد ﷺ ، أم لا؟
فأجاب:
وأما من زعم: أن الملائكة أو الأنبياء تحضر [سماع المكاء والتصدية] محبة ورغبة فيه فهوكاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين، وهي التي تنزل عليهم، وتنفخ فيهم. كما روي الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي ﷺ :"أن الشيطان قال: يا رب اجعل لي بيتًا. قال: بيتك الحمام. قال: اجعل لي قرآنًا. قال: قرآنك الشعر. قال: يا رب اجعل لي مؤذنًا . قال: مؤذنك المزمار"، وقد قال الله تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان: "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ" [الإسراء:64]، وقد فسر ذلك طائفة من
ج/ 11 ص -642-السلف بصوت الغناء. وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله. وروى عن النبي ﷺ أنه قال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت لهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود، أو شق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية" كقولهم: وا لهفاه! وا كبداه! وا نصيراه!.
وقد كوشف جماعات من أهل المكاشفات بحضور الشياطين في مجامع السماعات الجاهلية: ذات المكاء، والتصدية، وكيف يكر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني، حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين، ورأى بعض المشائخ المكاشفين أن شيطانه قد احتمله حتى رقص به . فلما صرخ بشيطانه هرب، وسقط ذلك الرجل .
وهذه الأمور لها أسرار، وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية، والمشاهد الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن سبيل المبتدعة، فقد حصل له الهدى، وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي، فإنه يصل إلى مقصوده، ويجد الزاد والماء في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه . ومن سلك خلف غير الدليل
ج/ 11 ص -643-الهادي، كان ضالا عن الطريق . فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق.
و[الدليل الهادي] هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
وآثار الشيطان تظهر في أهل السماع الجاهلي:مثل الإزباد، والإرغاء، والصراخات المنكرة، ونحو ذلك مما يضارع أهل الصرع الذين يصرعهم الشيطان، ولذلك يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت: إما وجد في الهوى المذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية، التي تعترى أهل الاجتماع، على شرب الخمر إذا سكروا بها، فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة؛ فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن، وفهم معانيه، واتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله.ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية.كما يقتل العائن من أصابه بعينه.
ولهذا قال من قال من العلماء:إن هؤلاء يجب عليهم القود والدية
ج/ 11 ص -644-والقصاص، إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة، لأنهم ظالمون، وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من مراداتهم المحرمة، كما يغتبط الظلمة المسلطون.
ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين، والمبتدعين والظالمين، فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة، كما يكون للمشركين، وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي ﷺ :"يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة".
وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة، كما يكون لهم ملكة ظاهرة، فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر، ولا يكون من أولياء الله إلامن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون. وما فعلوه من الإعانة على الظلم فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب. وباب القدرة، والتمكن باطنًا وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى، بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان، وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون مسلطًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر، هؤلاء في العباد بمنزلة هؤلاء في الأجناد.
ج/ 11 ص -645-وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين.كما كان يكون لأصحاب النبي ﷺ مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ" [غافر:51].
وإذا كان في المسلمين ضَعْفٌ، وكان عدوهم مستظهرًا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرًا. قال الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا" [آل عمران:155]، وقال تعالى: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران:165]، وقال تعالى: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"[الحج:40، 41].
ج/ 11 ص -646-وسئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار، لا يرين الجنة، ولا يشممن رائحتها. وقد روى في الحديث عن رسول الله ﷺ: "من قال: لاإله إلا الله دخل الجنة".
فأجاب:
قد ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: "صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد الله"، ومن زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح بما فيه من الوعيد الشدي، فإنه جاهل ضال عن الشرع يستحق العقوبة التي تردعه، وأمثاله من الجهال الذين يعترضون على الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ. والأحاديث الصحيحة في [الوعيد] كثيرة، مثل قوله: "من قتل
ج/ 11 ص -647-نفسًا معاهدة بغير حقها لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفًا"، ومثل قوله الذي في الصحيح: "لا يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر"، قيل: يارسول الله، الرجل يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، أفمن الكبر ذاك؟ فقال: "لا، الكبر بطر الحق، وغمط الناس"، و"بطر الحق" جحده، و "غمط الناس" احتقارهم، وازدراؤهم. ومثل قوله في الحديث الصحيح: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وفقير مختال".
وفي القرآن من آيات الوعيد ما شاء الله، كقوله: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا" [النساء:10]، وكما في قوله: "لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا" [النساء:29، 30]، وقوله في الفرائض :"تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ" [النساء:13، 14].
ج/ 11 ص -648-وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين، أن [الوعيد] في الكتاب والسنة لأهل الكبائر موجود. ولكن الوعيد الموجود في الكتاب والسنة، قد بين الله في كتابه وسنة رسوله ﷺ أنه لا يلحق التائب بقوله: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا" [الزمر:53] أي لمن تاب.وقال في الآية الأخرى:"إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" [النساء:116] فهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفر، وما دون الشرك إن شاء الله غفره. وإن شاء عاقب عليه.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ما يصيب المؤمن من نَصَب ولا وَصَب، ولا هَمّ ولا غمّ، ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" ولهذا لما نزل قوله: "مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ"[النساء:123] قال أبو بكر: يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا؟ فقال: "يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به" فالمصائب في الدنيا يكفر الله بها من خطايا المؤمن ما به يكفر، وكذلك الحسنات التي يفعلها. قال الله تعالى :"إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" [هود:114]، وقال النبي ﷺ :"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"، فالله تعالى لا يظلم
ج/ 11 ص -649-عبده شيئًا. كما قال: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" [الزلزلة: 7، 8]
فالوعيد: ينتفي عنه: إما بتوبة، وإما بحسنات يفعلها تكافئ سيئاته، وإما بمصائب يكفر الله بها خطاياه، وإما بغير ذلك، وكما أن أحاديث الوعيد تُقٍدَّمُ وكذلك أحاديث الوعد. فقد يقول: لا إله إلا الله. ويجحد وجوب الصلاة، والزكاة، فهذا كافر يجب قتله، وقد يكون من أهل الكبائر المستوجبين للنار.
وهذه مسألة الوعد والوعيد من أكبر مسائل العلم . وقد بسطناها في مواضع، ولكن كتبنا هنا ما تسع الورقة .