أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل تكلم الحكيم الترمذي في كتاب ختم الولاية بكلام مردود فقال

    ج/ 11 ص -373-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه ‏:‏
    فصل: تكلم أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي في كتاب ‏[‏ختم الولاية‏]‏ بكلام مردود، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة،
    حيث غلا في ذكر الولاية، وما ذكره من خاتم الأولياء، وعصمة الأولياء ونحو ذلك مما هو مقدمة لضلال ابن عربي، وأمثاله، الذين تكلموا في هذا الباب بالباطل والعدوان، منها قوله‏:‏
    فيقال لهذا المسكين ‏:‏ صف لنا منازل الأولياء إذا استفرغوا مجهود الصدق كم عدد منازلهم ‏؟‏ وأين منازل أهل الفرية ‏؟‏ وأين الذين جازوا العساكر ‏؟‏ بأي شىء جازوا ‏؟‏ وإلى أين منتهاهم‏؟‏ وأين مقام أهل المجالس والحديث‏؟‏ وكم عددهم‏؟‏ وبأي شىء استوجبوا هذا على ربهم‏؟‏ وما حديثهم ونجواهم‏؟‏ وبأي شىء يفتتحون المناجاة ‏؟‏ وبأي

    ج/ 11 ص -374-شىء يختمونها‏؟‏ وماذا يخافون ‏؟‏ وكيف يكون صفة سيرهم‏؟‏ ومن ذا الذي يستحق خاتم الولاية كما استحق محمد ﷺ خاتم النبوة ‏؟‏ وبأي صفة يكون ذلك المستحق لذلك ‏؟‏ وما سبب وكم مجالس هذه الأبدان حتى ترد إلى مالك الملك‏؟‏ إلى مسائل أخر كثيرة ذكرها من هذا النمط‏.‏
    ومنها فيه‏:‏ قال له قائل ‏:‏ فهل يجوز أن يكون في هذا الزمان من يوازي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما‏؟‏ قال ‏:‏ إن كنت تعني في العمل فلا، وإن كنت تعني في الدرجات فغير مدفوع، وذلك أن الدرجات بوسائل القلوب، وتسمية ما في الدرجات بالأعمال فمن الذي حوّل رحمة الله عن أهل هذا الزمان حتى لا يكون فيهم سابق ولا مقرب ولا مجتبى، ولا مصطفى، أو ليس المهدي كائنًا في آخر الزمان‏؟‏ فهو في الفتنة يقوم بالعدل، فلا يعجز عنها‏.‏ أو ليس كائنًا في آخر الزمان من له ختم الولاية‏؟‏ وهو حجة الله على جميع الأولياء يوم الموقف‏؟‏ فكما أن محمدًا ﷺ آخر الأنبياء، فأعطى ختم النبوة وهو حجة الله على جميع الأنبياء، فكذلك هذا الولي آخر الأولياء في آخر الزمان‏.

    ج/ 11 ص -375-

    قال له قائل ‏:‏ فأين حديث النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏خرجت من باب الجنة، فأُتيت بالميزان فوضعت في كفة، وأمتي في كفة فرجحتُ بالأمة، ثم وضع أبو بكر مكاني فرجح بالأمة‏.‏ثم وضع عمر مكان أبي بكر فرجح بالأمة‏"‏‏.‏ فقال ‏:‏ هذا وزن الأعمال، لا وزن ما في القلوب، أين يذهب بكم يا عجم‏؟‏ ما هذا إلا من غباوة أفهامكم‏.‏ ألا ترى أنه يقول‏:‏ خرجت من باب الجنة، والجنة للأعمال، والدرجات للقلوب؛ والوزن للأعمال، لا لما في القلوب، إن الميزان لا يتسع لما في القلوب‏.‏
    وقال فيه ‏:‏ ثم لما قبض الله نبيه صير فيهم أربعين صديقًا؛ بهم تقوم الأرض فهم أهل بيته، وهم آله، فكلما مات منهم رجل خلفه من يقوم مقامه؛ حتى إذا انقرض عددهم، وأتى وقت زوال الدنيا؛ بعث الله وليًا اصطفاه واجتباه وقربه وأدناه وأعطاه ما أعطى الأولياء وخصه بخاتم الولاية، فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء‏.‏ فيوجد عنده ذلك الختم صدق الولاية، على سبيل ما وجد عند محمد ﷺ صدق النبوة؛ لم ينله القدر، ولا وجدت النفس سبيلا إلى الأخذ بحظها من الولاية، فإذا برز الأولياء يوم القيامة، وأقبضوا صدق الولاية والعبودية، وجد ألوفًا عند هذا الذي ختم الولاية تمامًا؛ فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم،

    ج/ 11 ص -376-وكان شفيعهم يوم القيامة، فهو سيدهم‏.‏ ساد الأولياء كما ساد محمد ﷺ الأنبياء، فينصب له مقام الشفاعة، ويثنى على الله ثناء، ويحمده بمحامد يقر الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله، فلم يزل هذا الولي مذكورًا أولًا في البدء أولا في الذكر، وأولا في العلم، ثم الأول في المسألة، ثم الأول في الموازنة، ثم الأول في اللوح المحفوظ، ثم الأول في الميثاق، ثم الأول في الحشر، ثم الأول في الخطاب، ثم الأول في الوفادة، ثم الأول في الشفاعة، ثم الأول في الجواز وفي دخول الدار، ثم الأول في الزيارة، فهو في كل مكان أول الأولياء، كما كان محمد ﷺ أول الأنبياء، فهو من محمد ﷺ عند الأذن، والأولياء عند القفا‏.‏
    فهذا عند مقامه بين يديه في ملك الله ونجواه، مثال في المجلس الأعظم، فهو في منصته، والأولياء من خلفه درجة درجة، ومنازل الأنبياء مثال بين عينيه، فهؤلاء الأربعون في كل وقت هم أهل بيته‏.‏ ولست أعنى من النسب، إنما أهل بيت الذكر‏.‏

    ج/ 11 ص -377-وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ‏:‏
    فصل
    قال القاضي أبو يعلى في عيون المسائل ‏:‏ مسألة‏:‏ ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافًا للأشعرية في قولهم‏:‏ لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول‏.‏
    وقال ‏:‏ نحن لا نمنع صحة النظر، ولانمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا هل تحصل بغيره، واستدل بأن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجزة علمنا أن هناك مرسلًا أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلا وهناك مرسل، وإذا ثبت أن هناك مرسلا أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته‏.‏
    وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد ما ذكره الخطابي أيضًا في ‏"‏الغنية

    ج/ 11 ص -378-عن الكلام وأهله‏"‏ وقد سلك بعض من بحث في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة، ومعجزات الرسالة؛ لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه النبي، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسول، وذكر قصة جعفر وأصحابه مع النجاشي، وقصة الأعرابي الذي قال‏:‏ من خلق السماء وغير ذلك‏؟‏
    قلت‏:‏ كثير من المتكلمين يقولون‏:‏ لابد أن تتقدم المعرفة أولا بثبوت الرب وصفاته التي يعلم بها أنه هو، ويظهر المعجزة، وإلا تعذر الاستدلال بها على صدق الرسول، فضلا عن وجود الرب‏.‏
    وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت، وقد جاء القرآن بها في قصة فرعون فإنه كان منكرا للرب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا‏"‏ إلى قوله ‏:‏‏"قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ‏"‏[‏الشعراء‏:‏ 16-33‏]‏ ‏.‏

    ج/ 11 ص -379-فهنا ‏:‏ قد عرض عليه موسى الحجة البينة التي جعلها دليلًا على صدقه في كونه رسول رب العالمين‏.‏ وفي أن له إلها غير فرعون يتخذه‏.‏ وكذلك قال تعالى‏:‏ ‏"فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَّ‏"‏ ‏[‏ هود ‏:‏ 14 ‏]‏ فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة، وذلك لأن المعجزة التي هي فعل خارق للعادة تدل بنفسها على ثبوت الصانع، كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك، لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الرب عندها، ويمجد ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل في النفوس ذلة من ذكر عظمته ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها، وتدل بظهورها على الرسول، وإذا تبين أنها تدعو إلى الإقرار بأنه رسول الله، فتتقرر بها الربوبية والرسالة، لاسيما عند من يقول ‏:‏ دلالة المعجزة على صدق الرسول ضرورية، كما هو قول طائفة من متكلمي المعتزلة ‏:‏ كالجاحظ، وطوائف من غيرهم، كالأشعرية والحنبلية الذين يقولون ‏:‏ يحصل الفرق بين المعجزة والسحر والكرامة بالضرورة‏.‏

    ج/ 11 ص -380-ومن يقول ‏:‏ إن شهادة المعجزة على صدق النبي معلوم بالضرورة، وهم كثير من الأشعرية والحنبلية، وكثير من هؤلاء يقول‏:‏ لأن عدم دلالتها على الصدق مستلزم عجز البارئ، إذ لا طريق سواها‏.‏
    وأما المعتزلة ‏:‏ فلأن عندهم أن ذلك قبيح، لا يجوز من الباري فعله‏.‏ والأولون يقولون‏:‏ ليس‏.‏ كأمور كثيرة جدًا، وقد بينت في غير هذا الموضع أن العلم موجود ضروري، وهو الذي عليه جمهور‏.‏

    ج/ 11 ص -381-وسئل ‏:‏
    أيما أولى ‏:‏ معالجة ما يكره الله من قلبك مثل ‏:‏الحسد والحقد والغل والكبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب، وغير ذلك، مما يختص بالقلب من درنه، وخبثه‏؟‏ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة‏:‏ من الصلاة والصيام وأنواع القربات‏:‏ من النوافل والمنذورات مع وجود تلك الأمور في قلبه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏
    فأجاب رحمه الله ‏:‏
    الحمد لله‏.‏ من ذلك ما هو عليه واجب ‏:‏ وأن للأوجب فضل وزيادة‏.‏ كما قال تعالى فيما يرويه عنه رسوله ﷺ ‏:‏
    ‏"‏ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه‏"‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‏"‏ والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك، والأعضاء جنوده‏.‏ فإذا خبث الملك خبثت جنوده، ولهذا قال النبي ﷺ ‏:‏‏"‏ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله‏"‏ وكذلك أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد‏.‏ وإذا كان المقدم هو الأوجب، سواء سمى

    ج/ 11 ص -382-باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يسمى باطنًا أوجب مثل ترك الحسد والكبر فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام، وقد يكون ما سمى ظاهرًا أفضل‏:‏ مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها، وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعين الآخر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتورث الخشوع، ونحو ذلك من الآثار العظيمة‏:‏ هي أفضل الأعمال والصدقة‏.‏ والله أعلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML