ج/ 11 ص -156-وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفي بالله شهيدًا. أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميًا وآذانًا صما، وقلوبًا غلفًا، وفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والمؤمنين
ج/ 11 ص -157-والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله، فمن شهد له محمد ﷺ بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن، ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أولياء الشيطان.
وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله ﷺ أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء، ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. فقال تعالى: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [يونس:62: 64]، وقال تعالى: "اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة:257]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُون" [المائدة:51: 56]، وقال تعالى: "هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا" [سورة الكهف: 44].
ج/ 11 ص -158-وذكر [أولياء الشيطان] فقال تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ" [النحل:98 100] وقال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا" [النساء: 76]، وقال تعالى: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا" [الكهف:50]، وقال تعالى: "وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا" [ النساء: 119 ] وقال تعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" [آل عمران:173 175]، وقال تعالى:"إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا" إلى قوله:
"إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ"
ج/ 11 ص -159- [الأعراف:27 30]، وقال تعالى: "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ" [الأنعام: 121] وقال الخليل عليه السلام: "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا" [مريم: 45]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ" الآيات، إلى قوله: "إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [ الممتحنة 1 5 ] .
فصل
وإذا عرف أن الناس فيهم [أولياء الرحمن وأولياء الشيطان] فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" [يونس :62: 63].
وفي الحديث الصحيح الذى رواه البخارى وغيره عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي ﷺ قال: "يقول الله: من عادى لي وليًا فقد بارزنى بالمحاربة أو فقد آذنته الحرب وما تقرب إلي
ج/ 11 ص -160-عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى. ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذ بى لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه" وهذا أصح حديث يروى في الأولياء، فبين النبي ﷺ أنه من عادى وليًا لله فقد بارز الله بالمحاربة .
وفي حديث آخر: "وإنى لأثأر لأوليائى كما يثأر الليث الحرب" أي آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذى وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله" وفي حديث آخر رواه أبو داود قال: "ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".
و [الولاية] ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل
ج/ 11 ص -161-العداوة البغض والبعد. وقد قيل: إن الولى سمى وليًا من موالاته للطاعات أي متابعته لها، والأول أصح. والولى القريب، فيقال: هذا يلى هذا، أي يقرب منه. ومنه قوله ﷺ: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذَكَر" أي لأقرب رجل إلى الميت. وأكده بلفظ [الذكر] ليبين أنه حكم يختص بالذكور، ولا يشترك فيها الذكور والإناث كما قال في الزكاة "فابن لبون ذكر".
فإذا كان ولى الله هو المرافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمره به وينهى عنه كان المعادى لوليه معاديًا له كما قال الله تعالى: "لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ" [الممتحنة: 1] فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، فلهذا قال: "ومن عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة".
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ﷺ قال تعالى: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا" [ الشورى: 13]، وقال تعالى: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا" [الأحزاب: 8،7] .
ج/ 11 ص -162-وأفضل أولى العزم محمد ﷺ خاتم النبيين وإمام المتقين، وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة، الذى بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم، وهم آخر الأمم خلقًا، وأول الأمم بعثًا، كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيدأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم؛ فهذا يومهم الذى اختلفوا فيه يعنى يوم الجمعة فهدانا الله له: الناس لنا تبع فيه، غدًا لليهود وبعد غد للنصارى".
وقال ﷺ: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" وقال ﷺ: "آتى باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت ؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك".
ج/ 11 ص -163-وفضائله ﷺ وفضائل أمته كثيرة، ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه، فلا يكون وليًا لله إلا من آمن به وبما جاء به، واتبعه باطنًا وظاهرًا. ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان، قال تعالى: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ" [آل عمران: 31]، قال الحسن البصرى رحمه الله : ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم، وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول ﷺ فليس من أولياء الله، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. قال تعالى: "قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ" الآية [المائدة: 18] وقال تعالى: "وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ" إلى قوله: "وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" [ البقرة :111، 112] .
وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم، كما قال تعالى: "قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ" [المؤمنون: 66، 67]، وقال تعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ"
ج/ 11 ص -164-إلى قوله: "وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ" [الأنفال:30 34] فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه. ولا أولياء بيته، إنما أولياؤه المتقون .
وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول جهارًا من غير سر: "إن آل فلان ليسوا لى بأولياء يعنى طائفة من أقاربه إنما ولى الله وصالح المؤمنين" وهذا موافق لقوله تعالى: "فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ" الآية [ التحريم: 4]. وصالح المؤمنين هو من كان صالحًا من المؤمنين، وهم المؤمنون المتقون أولياء الله. ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة" ومثل هذا الحديث الآخر: "إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا".
كما أن من الكفار من يدعى أنه ولى الله وليس وليًا لله، بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأنه مرسل إلى جميع الإنس، بل إلى الثقلين الإنس والجن، ويعتقدون في الباطن
ج/ 11 ص -165-ما يناقض ذلك، مثل ألا يقروا في الباطن بأنه رسول اله، وإنما كان ملكا مطاعًا ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقولون: إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى، أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته، كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها، أو لم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته وقد يقول بعض هؤلاء: إن [أهل الصُّفَّة] كانوا مستغنين عنه، ولم يرسل إليهم، ومنهم من يقول: إن الله أوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج، فصار أهل الصفة بمنزلته، وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الإسراء كان بمكة كما قال تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ" [ الإسراء: 1]، وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة، وكانت صفة في شمالى مسجده ﷺ ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم؛ فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي
ج/ 11 ص -166-ﷺ إلى المدينة، فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه .
ولم يكن [أهل الصفة] ناسًا بأعيانهم يلازمون الصفة، بل كانوا يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها زمانًا ثم ينتقل منها. والذين ينزلون بها من جنس سائر المسلمين؛ ليس لهم مزية في علم ولا دين، بل فيهم من ارتد عن الإسلام وقتله النبي ﷺ كالعرنيين الذين اجتووا المدينة أي استوخموها فأمر لهم النبي ﷺ بلقاح أي إبل لها لبن وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا الراعى، واستاقوا الذود فأرسل النبي ﷺ في طلبهم، فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون. وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس، وفيه أنهم نزلوا الصفة. فكان ينزلها مثل هؤلاء، ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبى وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل عنها ونزلها أبو هريرة وغيره .
وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي [هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن خالد بن سالم بن زاوية بن سعيد بن قبيصة بن سراق الأزدى السلمى الحافظ المحدث،شيخ خراسان وكبير الصوفية أبو عبد الرحمن النيسابورى الصوفي صاحب التصانيف، ولد سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، صنف في علوم القوم سبعمائة جزء وفي أحاديث النبي ﷺ من جميع الأبواب والمشايخ، وكانت تصانيفه مقبولة، قال عنه الخطيب: غير ثقة، وكان يضع للصوفية الأحاديث. مات في شهر شعبان سنة اثنتى عشرة وأربعمائة. [سير أعلام النبلاء: 17247 255 ] تاريخ من نزل الصفة .
وأما [الأنصار] فلم يكونوا من أهل الصفة، وكذلك أكابر المهاجرين كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وعبد الرحمن
ج/ 11 ص -167-بن عوف وأبى عبيدة وغيرهم، لم يكونوا من أهل الصفة.
وقد روي أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي ﷺ قال: "هذا واحد من السبعة" وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحلية، وكذا كل حديث يروى عن النبي ﷺ في عدة [الأولياء] و[الأبدال] و[النقباء] و[النجباء] و[الأوتاد] و[الأقطاب] مثل أربعة أو سبعة أو اثنى عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شىء صحيح عن النبي ﷺ، ولم ينطق السلف بشىء من هذه الألفاظ إلا بلفظ [الأبدال]. وروى فيهم حديث: أنهم أربعون رجلًا وأنهم بالشام، وهو في المسند من حديث على رضى الله عنه. وهو حديث منقطع ليس بثابت، ومعلوم أن عليًا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر على، وقد أخرجا في الصحيحين عن أبى سعيد عن النبي ﷺ أنه قال: "تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق" وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة على، فقتلهم على بن أبى طالب وأصحابه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي
ج/ 11 ص -168-بن أبى طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما ؟
وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي ﷺ أنه أنشد منشد :
قد لسعت حية الهوى كبدى فلا طبيب لها ولا راقى
إلا الحبيب الذى شغفت به فعنده رقيتى وترياقى
وأن النبي ﷺ تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم: "أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش"، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله ﷺ أنه من أظهر الأحاديث كذبًا عليه ﷺ .
وكذلك ما يروونه عن عمر رضى الله عنه أنه قال: كان النبي ﷺ وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجى. وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث .
والمقصود هنا أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر من يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك، فيكون منافقًا وهو يدعى في نفسه وأمثاله
ج/ 11 ص -169-أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول ﷺ إما عنادًا وإما جهلًا، كما أن كثيرًا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله، وأن محمدًا رسول الله، ولكن يقولون: إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب، وأنه لا يجب علينا اتباعه؛ لأنه أرسل إلينا رسلًا قبله، فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" [يونس: 62، 63] .
ولابد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمن بكل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله، كما قال تعالى: "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [ البقرة :136، 137 ] وقال تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ" إلى آخر السورة [البقرة :285، 286].
وقال في أول السورة: "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [البقرة: 1 5] .
ج/ 11 ص -170-فلابد في الإيمان من أن تؤمن أن محمدًا ﷺ خاتم النبيين، لا نبى بعده، وأن الله أسرله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن؛ فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين؛ ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن، كما قال الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" [النساء: 150 152] ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ماحرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله ﷺ، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقًا إلى الله من غير متابعة محمد ﷺ فهو كافر من أولياء الشيطان.
ج/ 11 ص -171-وأما خلق الله تعالى للخلق، ورزقه إياهم، وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار، فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل.
ثم لو بلغ الرجل في [الزهد والعبادة والعلم] ما بلغ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد ﷺ فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى، كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم، وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من المشركين مشركى العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه وليس مؤمنًا بجميع ما جاء به فهو كافر عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولى لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارًا مجوسًا.
وكذلك حكماء [اليونان] مثل أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب، وكان أرسطو قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة، وكان وزيرًا للإسكندر بن فيلبس المقدونى، وهو الذى تؤرخ به تواريخ الروم واليونان، وتؤرخ به اليهود والنصارى، وليس هذا هو ذو القرنين الذى ذكره الله في كتابه، كما يظن بعض الناس أن أرسطو كان وزيرًا لذى القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الإسكندر، وهذا قد يسمى بالإسكندر، ظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه
ج/ 11 ص -172-وليس الأمر كذلك، بل هذا الإسكندر المشرك الذى قد كان أرسطو وزيره متأخر عن ذاك، ولم يبن هذا السد، ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج، وهذا الإسكندر الذى كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعرف.
وفي أصناف المشركين من مشركى العرب ومشركى الهند والترك واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمتبع للرسل ولا يؤمن بما جاؤوا به ولا يصدقهم بما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين، قال تعالى: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ" [الشعراء: 221 223].
وهؤلاء جميعهم ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلا بد أن يكذبوا، وتكذبهم شياطينهم. ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة؛ ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الر حمن. قال الله تعالى: "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" [الزخرف:36]
ج/ 11 ص -173-وذكر الرحمن هو الذكر الذى بعث به رسول الله ﷺ مثل القرآن، فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره، فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به، قال تعالى: "وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ" [الأنبياء: 50] وقال تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى" [طه:124 126] فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، لهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائمًا ليلًا ونهارًا مع غاية الزهد، وعبده مجتهدًا في عبادته ولم يكن متبعًا لذكره الذى أنزله وهو القرآن كان من أولياء الشيطان ولو طار في الهواء أو مشى على الماء؛ فإن الشيطان يحمله في الهواء. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فصل
ومن الناس من يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب،
ج/ 11 ص -174-وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر" وفي الصحيحين أيضًا عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" فبين النبي ﷺ أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها، وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لأبى ذر وهو من خيار المؤمنين : "إنك امرؤ فيك جاهلية" فقال: يا رسول الله، أعلى كبر سني ؟! قال: "نعم"!.
وثبت في الصحيح عنه أنه قال:"أربع في أمتى من أمر الجاهلية: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم" وفي الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" وفي صحيح مسلم: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" وذكر البخارى عن ابن أبى مُليْكةَ قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقد قال الله تعالى: "وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ" [ آل عمران: 166، 167 ] فقد جعل هؤلاء إلى
ج/ 11 ص -175-الكفر أقرب منهم للإيمان، فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى؛ وغيرهم يكون مخلطًا وإيمانه أقوى .
وإذا كان [أولياء الله] هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانًا وتقوى، كان أكمل ولاية لله. فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تعالى: "وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ" [التوبة: 124، 125]، وقال تعالى: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ" [ التوبة: 37] وقال تعالى: "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ" [محمد: 17]، وقال تعالى في المنافقين: "فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا" [البقرة: 10]. فبين سبحانه وتعالى أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه، وقال تعالى: "وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا" [ المدثر: 31]، وقال تعالى: "لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ" [الفتح:4].
ج/ 11 ص -176-فصل
وأولياء الله على [طبقتين] سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون. ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، والمطففين وفي سورة فاطر، فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها، فقال في أولها: "إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ" [ الواقعة: 1 14] .
فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين، كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع .
ثم قال تعالى في آخر السورة: "فَلَوْلَا" أي: فهلا "وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ" [ الواقعة: 83 96] .
ج/ 11 ص -177-وقال تعالى في سورة الإنسان: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا" الأيات [الإنسان: 3 12].
وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال: "كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ" إلى أن قال: "كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ أياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ" [ المطففين: 7 28]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا: يمزج
ج/ 11 ص -178-لأصحاب اليمين مزجًا، ويشرب بها المقربون صرفًا، وهو كما قالوا. فإنه تعالى قال: "يَشْرَبُ بِهَا" ولم يقل: يشرب منها؛ لأنه ضمن ذلك قوله يشرب، يعنى: يروى بها، فإن الشارب قد يشرب ولا يروى، فإذا قيل: يشربون منها لم يدل على الرى، فإذا قيل: يشربون بها كان المعنى يروون بها، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها؛ فلهذا يشربون منها صرفًا، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجًا، وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان: "كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا" [الإنسان: 5، 6].
فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة، وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال النبي ﷺ: "من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكين، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" رواه مسلم في صحيحه، وق
ج/ 11 ص -179-ﷺ: "الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" قال الترمذى: حديث صحيح .
وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن: "يقول الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسمًا من اسمى، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته"، وقال: "ومن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله" ومثل هذا كثير .
وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون وأصحاب يمين كما تقدم. وقد ذكر النبي ﷺ عمل القسمين في حديث الأولياء فقال: "يقول الله تعالى: من عادى لى وليًا فقد بارزنى بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها".
فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات .
وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا
ج/ 11 ص -180-الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبًا تامًا، كما قال تعالى: "ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه" يعنى الحب المطلق، كقوله تعالى: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" [ الفاتحة: 6، 7] أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" [النساء: 69]. فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات، يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفًا كما علموا له صرفًا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم، فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفًا، بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا .
ونظير هذا انقسام الأنبياء عليهم السلام إلى عبد رسول، ونبي ملك، وقد خير الله سبحانه محمدًا ﷺ بين أن يكون عبدًا رسولا، وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولا، فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام، قال الله تعالى في قصة سليمان الذي "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ ص: 35 39 ]
ج/ 11 ص -181-أي اعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك، فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه، ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه .
وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدًا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، بل روى عنه أنه قال: "إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت"، ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى: "قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ" [الأنفال: 1] وقوله تعالى: "مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" [الحشر: 7]، وقوله تعالى: "وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ" [الأنفال: 41].
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولى الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف، ويذكر هذا روأية عن أحمد، وقد قيل في الخمس أنه يقسم على خمسة، كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه، وقيل: على ثلاثة، كقول أبي حنيفة رحمه الله .
ج/ 11 ص -182-والمقصود هنا أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك، كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين. فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك.
فصل
وقد ذكر الله تعالى [أولياءه] المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ" [ فاطر:32 35 ]، لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الأية هم أمة محمد ﷺ خاصة كما قال تعالى: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ".
ج/ 11 ص -183-وأمة محمد ﷺ هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصًا بحفاظ القرآن، بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسمهم إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق؛ بخلاف الأيات التي في الواقعة والمطففين والانفطار، فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم، وهذا التقسيم لأمة محمد ﷺ ف [الظالم لنفسه] أصحاب الذنوب المصرون عليها، ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين، و[المقتصد] المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق للخيرات هو المؤدى للفرائض والنوافل، كما في تلك الأيات، ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج من بذلك عن السابقين والمقتصدين كما في قوله تعالى: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء َالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ" [ آل عمران: 133 136 ]
ج/ 11 ص -184- [المقتصد] المؤدى للفرائض المجتنب للمحارم، و[السابق بالخيرات] هو المؤدى للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات .
وقوله: "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا" [ فاطر: 33 ] مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد .
وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي ﷺ، كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد ﷺ في أهل الكبائر وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا ﷺ وشفاعة غيره. فمن قال: إن أهل الكبائر مخلدون في النار وتأول الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، كما تأوله من المعتزلة فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار. ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب، وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي ﷺ ولإجماع سلف الأمة وأئمتها .
وقد دل على فساد قول [الطائفتين] قول الله تعالى في آيتين من كتابه وهو قوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" [ النساء:48 ]، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب كما يقوله من يقوله من
ج/ 11 ص -185-لمعتزلة؛ لأن الشرك يغفره الله لمن تاب وما دون الشرك يغفره الله أيضًا للتائب فلا تعلق بالمشيئة، ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [ الزمر: 53 ].
فهنا عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له، ففي أية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الأية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة ومن الشرك التعطيل للخالق وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه كتعطيل الخالق، أو يجوز ألا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورًا له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة .
وقوله تعالى: "وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" دليل على أنه يغفر البعض دون البعض، فبطل النفي والوقف العام .
ج/ 11 ص -186-فصل
وإذا كان [أولياء الله عز وجل] هم المؤمنون المتقون. والناس يتفاضلون في الأيمان والتقوى، فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك. كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك .
وأصل الأيمان والتقوى: الأيمان برسل الله، وجماع ذلك: الأيمان بخاتم الرسل محمد ﷺ، فالأيمان به يتضمن الأيمان بجميع كتاب الله ورسله، وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل، وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة؛ فإن الله تعالى: أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة، قال الله تعالى "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" [الإسراء: 15] وقال تعالى: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأيوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [ النساء: 163 165 ]،
ج/ 11 ص -187-وقال تعالى عن أهل النار: "كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ" [الملك: 8، 9 ] فأخبر أنه كلما ألقى في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير. وقال تعالى في خطابه لإبليس: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ" [ ص: 85 ] فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه؛ فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم. فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له فإنه ممن لا يتبع الشيطان ولم يكن مذنبًا، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل .
فصل
ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانًا مجملا، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك فيؤمن بما بلغه عن الرسل، وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به؛ ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانًا مجملًا، فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به مع
ج/ 11 ص -188-إيمانه وتقواه فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب أيمانه وتقواه، وما لم تقم عليه الحجة فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والإيمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسل وآمن به أيمانًا مفصلا وعمل به فهو أكمل أيمانًا وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به؛ وكلاهما ولي لله تعالى.
والجنة درجات متفاضلة تفاضلًا عظيمًا، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب أيمانهم وتقواهم، قال تبارك وتعالى: "مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا" [الإسراء: 18 21 ] .
فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه وإن عطاءه ما كان محظورًا من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى: "انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا". فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا وقد بين
ج/ 11 ص -189-تفاضل أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين، فقال تعالى: "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأيدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" [ البقرة: 253 ]، وقال تعالى: "وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا" [الإسراء: 55 ] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر".
وقد قال الله تعالى: "لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى" [ الحديد: 10 ]، وقال تعالى: "لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" [ النساء: 95، 96 ]،
ج/ 11 ص -190-وقال تعالى: "أَجَعَلْتُمْ سِقَأيةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" [التوبة: 19 22 ]، وقال تعالى: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" [ الزمر: 9]، وقال تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" [المجادلة: 11 ] .
فصل
وإذا كان العبد لا يكون وليًا لله إلا إذا كان مؤمنًا تقيًا لقوله تعالى: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" [ يونس:62، 63 ] وفي صحيح البخارى الحديث المشهور وقد تقدم يقول الله تبارك وتعالى فيه: "ولا يزال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه" ولا يكون مؤمنًا تقيًا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار
ج/ 11 ص -191-أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحدًا من الكفار والمنافقين لا يكون وليًا لله.
وكذلك من لا يصح أيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة وإن قيل: إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولًا فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين؛ فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا يترك السيئات لم يكن من أولياء الله. وكذلك المجانين والأطفال؛ فإن النبي ﷺ قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ".
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول. لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء. وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء. ولا يصح منه أيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة. فلا يصلح أن يكون بزازًا ولا عطارًا ولا حدادًا ولا نجارًا ولا تصح عقوده باتفاق العلماء. فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته، ولا غير ذلك من أقواله، بل
ج/ 11 ص -192-أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب. بخلاف الصبى المميز فإن له أقوالًا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع. وفي مواضع فيها نزاع .
وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليًا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله؛ لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليًا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله ؟! مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي ﷺ باطنًا وظاهرًا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة. أو يعتقد أن لأولياء الله طريقًا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم السلام أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق أو هم على قدوة العامة دون الخاصة ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعى الولأية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان. فضلا عن ولاية الله عز وجل. فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على ولأيتهم كان أضل من اليهود والنصارى .
ج/ 11 ص -193-وكذلك المجنون؛ فإن كونه مجنونًا يناقض أن يصح منه الأيمان والعبادات التي هى شرط في ولاية الله، ومن كان يجن أحيانًا ويفيق أحيانًا.
إذا كان في حال إفاقته مؤمنًا بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، فهذا إذا جن لم يكن جنونه مانعًا من أن يثيبه الله على أيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك. وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من أيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه .
فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدى الفرائض ولا يجتنب المحارم بل قد يأتى بما يناقض ذلك. لم يكن لأحد أن يقول: هذا ولى لله، فإن هذا إن لم يكن مجنونًا، بل كان متولهًا من غير جنون أو كان يغيب عقله بالجنون تارة، ويفيق أخرى وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول ﷺ فهو كافر، وإن كان مجنونًا باطنًا وظاهرًا قد ارتفع عنه القلم، فهذا وإن لم يكن معاقبًا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقًا لما يستحقه أهل الأيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولى لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنًا بالله متقيًا كان له من ولاية الله بحسب ذلك.
ج/ 11 ص -194-وإن كان له في حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرًا أو منافقًا ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق .
فصل
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحًا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحًا، كما قيل: كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد ﷺ إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويجدون في التجار والصناع والزراع.
وقد ذكر الله أصناف أمة محمد ﷺ في قوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرضي وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" [ المزمل :20 ].
ج/ 11 ص -195-وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم [القراء] فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم حدث بعد ذلك اسم [الصوفية والفقراء]. واسم [الصوفية] هو نسبة إلى لباس الصوف؛ هذا هو الصحيح. وقد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء. وقيل: إلى صوفة بن أدّ بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك. وقيل: إلى أهل الصفة. وقيل: إلى الصفا. وقيل: إلى الصفوة. وقيل: إلى الصف المقدم بين يدى الله تعالى. وهذه أقوال ضعيفة؛ فإنه لوكان كذلك لقيل: صَفي أو صفائى أو صَفَوى أو صُفي، ولم يقل: صوفي.
وصار أيضًا اسم [الفقراء] يعنى به: أهل السلوك. وهذا عرف حادث. وقد تنازع الناس: أيما أفضل: مسمى [الصوفي] أو مسمى [الفقير] ؟ ويتنازعون أيضًا : أيما أفضل: الغنى الشاكر أو الفقير الصابر ؟
وهذه المسألة فيها نزاع قديم بين الجنيد وبين أبي العباس بن عطاء. وقد روى عن أحمد بن حنبل فيها روأيتان، والصواب في هذا كله ما قاله الله تبارك وتعالى حيث قال:"يَا أيهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" [الحجرات: 13].
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
ج/ 11 ص -196-ﷺ أنه سئل: أي الناس أفضل ؟ قال: "أتقاهم". قيل له: ليس عن هذا نسألك. فقال: "يوسف نبى الله ابن يعقوب نبى الله ابن إسحاق نبى الله ابن إبراهيم خليل الله". فقيل له: ليس عن هذا نسألك. فقال: "عن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة. خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
فدل الكتاب والسنة أن أكرم الناس عند الله أتقاهم .
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. كلكم لآدم وآدم من تراب".
وعنه أيضًا ﷺ أنه قال:"إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي".
فمن كان من هذه الأصناف أتقى لله فهو أكرم عند الله، وإذا استويا في التقى استويا في الدرجة
ولفظ [الفقر] في الشرع يراد به الفقر من المال، ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه كما قال تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ" [ التوبة:60 ]،
ج/ 11 ص -197-وقال تعالى: "يَا أيهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ" [ فاطر:15 ]. وقد مدح الله تعالى في القرآن صنفين من الفقراء: أهل الصدقات، وأهل الفيء، فقال في الصنف الأول: "لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا" [البقرة: 273 ]، وقال في الصنف الثاني وهم أفضل الصنفين : "لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [ الحشر: 8 ].
وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات وجاهدوا أعداء الله باطنًا وظاهرًا. كما قال النبي ﷺ: "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله".
أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" فلا أصل له،ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي ﷺ وأفعاله، وجهاد الكفار من أعظم الأعمال؛ بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان قال الله تعالى: "لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" [النساء:95، 96]
ج/ 11 ص -198-وقال تعالى: "أَجَعَلْتُمْ سِقَأيةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" [ التوبة:19 22 ] .
وثبت في صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنت عند النبي ﷺ فقال رجل: ما أبالى ألا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر: ما أبالى أن أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال على بن أبي طالب: الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتما، فقال عمر: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ ولكن إذا قضيت الصلاة سألته، فسأله فأنزل الله تعالى هذه الأية.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل؟ قال: "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أي ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قال: حدثنى بهن رسول الله
ج/ 11 ص -199-ﷺ ولو استزدته لزادني"، وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه سئل: أي الأعمال أفضل ؟ قال "أيمان بالله وجهاد في سبيله"، قيل: ثم ماذا ؟ قال: "حج مبرور".
وفي الصحيحين أن رجلًا قال له ﷺ: يا رسول الله، أخبرنى بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال: "لا تستطيعه أو لا تطيقه" قال: فأخبرني به قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر ؟".
وفي السنن عن معاذ رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال: "يا معاذ، اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"، وقال: "يا معاذ، إنى لأحبك، فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"، وقال له وهو رديفه: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده ؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليهم ألا يعذبهم".
وقال أيضًا لمعاذ: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة
ج/ 11 ص -200-سنامه الجهاد في سبيل الله"، وقال: "يا معاذ، ألا أخبرك بأبواب البر ؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وقيام الرجل في جوف الليل" ثم قرأ "تَتَجَافي جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [السجدة:16، 17]، ثم قال: "يا معاذ، ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟" قلت: بلى ! فقال: "أمسك عليك لسانك هذا" فأخذ بلسانه، قال: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
وتفسير هذا ما ثبت في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهى عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضًا، كما ثبت في صحيح البخارى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ رأي رجلًا قائمًا في الشمس فقال: "ما هذا ؟" فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي ﷺ: "مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه".
ج/ 11 ص -201-وثبت في الصحيحين عن أنس: أن رجالًا سألوا عن عبادة رسول الله ﷺ فكأنهم تَقَالُّوها فقالوا: وأينا مثل رسول الله ﷺ ؟ ! ثم قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام. وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم.
وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال رسول الله ﷺ: "ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا ؟! ولكنى أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" أي: سلك غيرها؛ ظانًا أن غيرها خير منها، فمن كان كذلك فهو برىء من الله ورسوله، قال تعالى: "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ" [البقرة: 130 ]. بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ﷺ، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة.
فصل
وليس من شرط ولى الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفي عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى
ج/ 11 ص -202-الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فقال تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" [البقرة : 285، 286 ] .
وقد ثبت في الصحيحين أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال: قد فعلت، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية "وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [البقرة: 284 ] قال: دخل قلوبهم منها شىء لم يدخلها قبل ذلك شىء أشد منه، فقال النبي صلى الله علية وسلم: "قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"
ج/ 11 ص -203-إلى قوله: "أَوْ أَخْطَأْنَا" قال الله: قد فعلت "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" قال: قد فعلت: "رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" قال: قد فعلت وقد قال تعالى: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ" [ الأحزاب: 5].
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم من حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر" فلم يؤثم المجتهد المخطئ، بل جعل له أجرًا على اجتهاده، وجعل خطأه مغفورًا له ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه، ولهذا لما كان ولى الله يجوز أن يغلط لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولى لله لئلا يكون نبيًا، بل ولا يجوز لولى الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا للشرع وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله علية وسلم فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه .
والناس في الباب [ثلاثة أصناف] طرفان وسط. فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولى لله وافقه في كل ما يظن أنه حدث
ج/ 11 ص -204-به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدًا مخطئًا، وخيار الأمور أوساطها وهو ألا يجعل معصومًا ولا مأثومًا إذا كان مجتهدًا مخطئًا، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده.
والواجب على الناس اتباع مع بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه يقول المخالف ويقول: هذاخالف الشرع .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم" وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: "لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر" وفي حديث آخر: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه"، وفيه: "لو كان نبى بعدى لكان عمر"، وكان على بن أبى طالب رضي الله عنه يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. ثبت هذا عنه من رواية الشعبى. وقال ابن عمر: ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا، إلا كان كما يقول. وعن قيس بن طارق قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك. وكان عمر يقول:
ج/ 11 ص -205-اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور صادقة.
وهذه الأمور الصادقة التى أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها تتجلى للمطيعين هي الأمور التى يكشفها الله عز وجل لهم. فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات؛ فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبى بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدَّث في هذه الأمة، فأى محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله علية وسلم فعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غيره مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخارى وغيره، فإن النبي صلى الله علية وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر بعد العام القابل، وشرط لهم شروطًا فيها نوع غضاضة على المسلمين في
ج/ 11 ص -206-الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبى صلى الله علية وسلم: يا رسول الله، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: "بلى" قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال: "بلى" قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ ! فقال له النبي ،: "إنى رسول الله وهو ناصرى، ولست أعصيه" ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به ؟ قال: "بلى". قال: "أقلت لك. إنك تأتيه العام ؟" قال: لا، قال: "إنك آتيه ومطوف به" فذهب عمر إلى أبى بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال النبي صلى الله علية وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله علية وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت لذلك أعمالًا.
وكذلك لما مات النبي صلى الله علية وسلم أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر: إنه مات رجع عمر عن ذلك .
وكذلك في [قتال مانعي الزكاة] قال عمر لأبى بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله علية وسلم: "أمرت أن
ج/ 11 ص -207-أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ألم يقل: "إلا بحقها" ؟ ! فإن الزكاة من حقها، والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله علية وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعلمت أنه الحق.
ولهذا نظائر تبين تقدم أبى بكر على عمر، مع أن عمر رضي الله عنه مُحدَّث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله علية وسلم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظهرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته، ولا يقول لهم: أنا محدث ملهم مخاطب فينبغى لكم أن تقبلوا منى ولا تعارضونى، فأى أحد ادعى أو ادعى له أصحابه أنه ولى لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون، ومثل هذا من أضل الناس، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه وهو
ج/ 11 ص -208-أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله، وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله علية وسلم.
وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبّرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردودًا، وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهدًا معذورًا فيما قاله، له أجر على اجتهاده. لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئًا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن:16]،وهذا تفسير قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ" [آل عمران:102 ] قال ابن مسعود وغيره: حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أى بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما قال تعالى: "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" [البقرة: 286 ]، وقال تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [ الأعراف:42]، وقال تعالى: "وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [ الأنعام: 152 ] .
ج/ 11 ص -209-وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى: "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" [البقرة:136]، وقال تعالى: "الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [البقرة: 1 5]، وقال تعالى: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [ البقرة: 177 ] .
وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله
ج/ 11 ص -210-باتباعهم؛ بل إما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون مفرطًا في الجهل .
وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبى سليمان الدارانى: إنه ليقع في قلبى النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة .
وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا. أو قال: لا يقتدى به. وقال أبو عثمان النيسابورى: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم "وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا" [ النور: 54 ] وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .
وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولى لله، ويظن أن ولى الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء
ج/ 11 ص -211-فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال، وآخرًا إلى الكفر والنفاق، ويكون له نصيب من قوله تعالى:"وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا" [الفرقان: 27 29]، وقوله تعالى: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا" [الأحزاب: 66 68 ]، وقوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" [البقرة: 165 167 ] .
وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة: 31 ]، وفى
ج/ 11 ص -212-المسند وصححه الترمذى عن عدى بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي صلى الله علية وسلم عنها فقال: ما عبدوهم؛ فقال النبي صلى الله علية وسلم: "أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وكانت هذه عبادتهم إياهم"، ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم فلا بد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم، فلا بد من الإيمان بأن محمدًا رسول صلى الله علية وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، علمائهم وعبادهم ملوكهم وسوقتهم، وإنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنًا وظاهرًا، حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كما قال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [ آل عمران:81 ،82]
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمتى الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال
ج/ 11 ص -213-تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء:60 65 ] .
وكل من خالف شيئًا مما جاء به الرسول مقلدًا في ذلك لمن يظن أنه ولى الله فإنه بنى أمره على أنه ولى لله، وإن ولى الله لا يخالف في شىء ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك ؟! وتجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليًا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها
ج/ 11 ص -214-أو يمشى على الماء أحيانًا، أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب أو أن يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شىء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولى لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله علية وسلم وموافقته لأمره ونهيه .
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها وليًا لله فقد يكون عدوًا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شىء من هذه الأمور أنه ولى لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التى دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة .
مثال ذلك: أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ؛ ولا يصلى الصلوات المكتوبة، بل يكون
ج/ 11 ص -215-ملابسًا للنجاسات معاشًا للكلاب، يأوى إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف، وقد قال النبي صلى الله علية وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جنب ولا كلب" وقال عن هذه الأخلية: "إن هذه الحشوش محتضرة" أى يحضرها الشيطان وقال: "من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم".
وقال: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا" وقال: "إن الله نظيف يحب النظافة" وقال: "خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور" وفي رواية: "الحية والعقرب". وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلب وقال: "من اعتنى كلبًا لا يغنى عنه زرعا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط". وقال: "لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب" وقال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب".
وقال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف:156، 157] .
ج/ 11 ص -216-فإذا كان الشخص مباشرًا للنجاسات والخبائث التى يحبها الشيطان أو يأوى إلى الحمامات والحشوش التى تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير، وإذ أن الكلاب التى هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التى يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوى إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوى إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغانى والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله، وقال عثمان ابن عفان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل، وقال ابن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البَقْل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل .
ج/ 11 ص -217-
وإن كان الرجل خبيرًا بحقائق الإيمان الباطنة فارقًا بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية، فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [الحديد: 28]، وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا" [الشورى:52] فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذى عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله علية وسلم قال "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، قال الترمذى حديث حسن.
وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخارى وغيره قال فيه: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التى يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شىء أنا فاعله ترددى في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه".
فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الردىء، وكما يفرق من يعرف
ج/ 11 ص -218-الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبئ الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين وموسى والمسيح وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسى، وطليحة الأسدى، والحارث الدمشقى، وباباه الرومى، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين.
فصل
و[الحقيقة]، حقيقة الدين دين رب العالمين هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج. ف [الشرعة] هي الشريعة، قال الله تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" [المائدة:48]، وقال تعالى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ" [ الجاثية: 18، 19 ] .
و[المنهاج] هو الطريق، قال تعالى: "وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا" [الجن: 16، 17 ] .
ج/ 11 ص -219-فالشرعة بمنزلة الشريعة للنهر، والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه والغاية المقصودة هي حقيقة الدين، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي حقيقة دين الإسلام، وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين، لا يستسلم لغيره، فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، والله: "لا يّغًفٌرٍ أّن يٍشًرّكّ بٌهٌ" [النساء: 116] ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه: "إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60 ] .
ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، وقوله تعالى: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ" [آل عمران: 85] عام في كل زمان ومكان .
فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى عن نوح: "يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ" إلى قوله: "وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [يونس:71، 72]، وقال تعالى: "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" [البقرة:130 132]،
ج/ 11 ص -220-وقال تعالى: "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" [يونس: 84] وقال السحرة:"رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ" [الأعراف:126]، وقال يوسف عليه السلام: "تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" [يوسف :101]، وقالت بلقيس: "أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [النمل: 44]، وقال تعالى: "يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ" [المائدة:44]، وقال الحواريون: "آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران:52] .
فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم قال: "إنا معشر الأنبياء ديننا واحد" قال تعالى: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ" [الشورى:13]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" [ المؤمنون: 51 53 ] .
ج/ 11 ص -221-فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم [أربع مراتب] فقال تعالى: "وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" [النساء: 69].
وفي الحديث: "ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر" وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله علية وسلم. قال تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ" [آل عمران:110] وقال تعالى: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا" [فاطر:32 ]، وقال النبي صلى الله علية وسلم في الحديث الذي في المسند: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله".
وأفضل أمة محمد صلى الله علية وسلم القرن الأول .
وقد ثبت عن النبي صلى الله علية وسلم من غير وجه أنه قال:ض
ج/ 11 ص -222- "خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه".
وفي الصحيحين أيضًا عنه صلى الله علية وسلم أنه قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة، قال تعالى: "لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" [الحديد:10]، وقال تعالى: "وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ" [التوبة:100] والسابقون الأولون الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح صلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة، وفيه أنزل الله تعالى: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ" [الفتح: 1، 2]، فقالوا: يا رسول الله، أو فتح هو ؟! قال: "نعم".
وأفضل السابقين الأولين [الخلفاء الأربعة] وأفضلهم أبو بكر ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها، وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في [منهاج
ج/ 11 ص -223-أهل السنة النبوية، في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية].
وبالجملة، اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة، وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم واتباعًا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملًا به، فهو أفضل أولياء الله إذ كانت أمة محمد صلى الله علية وسلم أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد صلى الله علية وسلم، وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه.
وقد ظن طائفة غالطة أن [خاتم الأولياء] أفضل الأولياء قياسًا على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن على الحكيم الترمذى، فإنه صنف مصنفًا غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعى أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته كما يزعم ذلك ابن عربى صاحب [كتاب الفتوحات المكية] و [كتاب الفصوص] فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن.
ج/ 11 ص -224-ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء فكيف الأنبياء كلهم ؟ والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتى بعدهم ويدعى أنه خاتم الأولياء ؟! وليس آخر الأولياء أفضلهم، كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد صلى الله علية وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك. كقوله صلى الله علية وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، وقوله: "آتى باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: "محمد"، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك".
و[ليلة المعراج] رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم فكان أحقهم بقوله تعالى: "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ"[البقرة: 253]، إلى غير ذلك من الدلائل، كل منهم يأتيه الوحي من الله، لا سيما محمد ﷺ لم يكن في نبوته محتاجًا إلى غيره، فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق، بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وجاء المسيح فكملها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح؛ كالتوراة والزبور، وتمام الأربع وعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين، بخلاف أمة محمد ﷺ، فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدَّث، بل جمع له من الفضائل والمعارف
ج/ 11 ص -225-والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضله الله به من الله بما أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر. وهذا بخلاف [الأولياء] فإن كل من بلغه رسالة محمد ﷺ لا يكون وليًا لله إلا باتباع محمد ﷺ، وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد ﷺ، وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليًا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه.
ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد ﷺ من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدًا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفارًا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدًا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن، آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ، وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.
ج/ 11 ص -226-فإذا ادعى المدعي أن محمدًا ﷺ إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة، فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول: أومن ببعض، وأكفر ببعض، ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين.
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن [الولاية] أفضل من [النبوة] ويلبسون على الناس فيقولون: ولايته أفضل من نبوته وينشدون:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون.
وكل رسول نبي ولي، فالرسول نبي ولي. ورسالته متضمنة لنبوته، ونبوته متضمنة لولايته، وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليًا لله، ولا تكون مجردة عن ولايته، ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته.
ج/ 11 ص -227-وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب [الفصوص] ابن عربي : إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول؛ وذلك أنهم اعتقدوا [عقيدة المتفلسفة] ثم أخرجوها في قالب [المكاشفة]، وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا: إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبه بها، كما يقوله أرسطو وأتباعه؛ أو لها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم: كابن سينا وأمثاله، ولا يقولون: إنها لرب خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات؛ بل إما أن ينكروا علمه مطلقًا، كقول أرسطو، أو يقولوا: إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا، وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معين جزئي: الأفلاك كل معين منها جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئًا من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان.
والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في [درء تعارض العقل والنقل] وغيره.
فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، فإن جميع هؤلاء يقولون: إن الله خلق السموات والأرض، وأنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من المتفلسفة
ج/ 11 ص -228-واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة والأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك، وإنما غالب علوم القوم الأمور الطبيعية، وأما الأمور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب، كثير الخطأ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة، وركبوا مذهبًا قد يعتزى إليه متفلسفة أهل الملل؛ وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع.
وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد ﷺ قد بهر العالم، واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد ﷺ أعظم ناموس طرق العالم، ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن. أرادوا أن يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين هم أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأولئك قد أثبتوا عقولًا عشرة يسمونها [المجردات] و[المفارقات]. وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن، وسموا تلك [المفارقات] لمفارقتها المادة وتجردها عنها، وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسًا، وأكثرهم جعلوها أعراضًا، وبعضهم جعلها جواهر.
وهذه [المجردات] التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمور
ج/ 11 ص -229-موجودة في الأذهان لا في الأعيان، كما أثبت أصحاب أفلاطون [الأمثال الأفلاطونية المجردة] أثبتوا هيولي مجردة عن الصورة، ومدة وخلاء مجردين. وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان، فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة، وزعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي:
الأول: أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها من العلم بلا تعلم.
الثاني: أن يكون له قوة تخيلية تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورًا أو يسمع في نفسه أصواتًا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى.
الثالث: أن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولي العالم وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة، هي قوى النفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية، دون انشقاق القمر ونحو ذلك، فإنهم ينكرون وجود هذا.
ج/ 11 ص -230-وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع، وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام، وإن هذا الذي جعلوه من الخصائص يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء، وإن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون، كما قال تعالى: "وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ" [المدثر: 31]، وليسوا عشرة، وليسوا أعراضًا، لا سيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو [العقل الأول]، وعنه صدر كل ما دونه، و[العقل الفعال العاشر] رب كل ما تحت فلك القمر.
وهذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل، فليس أحد من الملائكة مبدع لكل ما سوى الله. وهؤلاء يزعمون أنه العقل المذكور في حديث يروى: "أن أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، فقال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقًا أكرم علي منك، فبك آخذ وبك أعطي، ولك الثواب وعليك العقاب". ويسمونه أيضًا [القلم] لما روى: "إن أول ما خلق الله القلم" الحديث رواه الترمذي.
والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم البستي والدارقطني وابن الجوزي وغيرهم، وليس في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها، ومع
ج/ 11 ص -231-هذا فلفظه لو كان ثابتًا حجة عليهم، فإن لفظه: "أول ما خلق الله تعالى العقل قال له" ويروي : "لما خلق الله العقل قال له" فمعنى الحديث: أنه خاطبه في أول أوقات خلقه، ليس معناه أنه أول المخلوقات و [أول] منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر [لما] وتمام الحديث: "ما خلقت خلقًا أكرم علي منك" فهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره، ثم قال: "فبك آخذ، وبك أعطي، ولك الثواب، وعليك العقاب" فذكر أربعة أنواع من الأعراض، وعندهم أن جميع جواهر العالم العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل. فأين هذا من هذا ؟!
وسبب غلطهم أن لفظ [العقل] في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان، فإن [العقل] في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلًا، كما في القرآن: "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [النحل: 12]، "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا"[الحج: 46] ويراد [بالعقل] الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها.
وأما أولئك ف [العقل] عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقًا للغة الرسل والقرآن. وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر، وقد يسمى [العقل] عالم الجبروت و[النفوس] عالم الملكوت؛ و[الأجسام]
ج/ 11 ص -232-عالم الملك، ويظن من لم يعرف لغة الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا، وليس الأمر كذلك.
وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيسًا كثيرًا، كإطلاقهم أن [الفلك] محدث: أي معلول مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقًا بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثًا، والله قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به الرسل، ولا أحكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا، ولا للأعداء كسروا، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون [جبريل] هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي ﷺ، والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم [أولياء الله]، وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة كابن عربي صاحب [الفتوحات] و[الفصوص]، فقال:
ج/ 11 ص -233-إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول، و [المعدن] عنده هو العقل و [الملك] هو الخيال، و[الخيال] تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي ولو كان خاصة النبي ما ذكروه لم يكن هو من جنسه، فضلا عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين؟! والنبوة أمر وراء ذلك، فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة: كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين.
والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى : "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ" [الأنبياء: 26: 29]، وقال تعالى: "وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى" [النجم: 26]،
ج/ 11 ص -234-وقال تعالى: "قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" [سبأ: 22، 23]، وقال تعالى : "وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ" [الأنبياء: 19، 20].
وقد أخبر أن الملائكة جاءت لإبراهيم عليه السلام في صورة البشر، وأن الملك تمثل لمريم بشرًا سويًا، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي ﷺ في صورة دحية الكلبي، وفي صورة أعرابي، ويراهم الناس كذلك.
وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وأن محمدًا ﷺ رآه بالأفق المبين، ووصفه بأنه "عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُنَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى" [النجم : 5-18].
ج/ 11 ص -235-وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ "أنه لم ير جبريل في صورته التي خلق عليها غير مرتين" يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى، ووصف جبريل عليه السلام في موضع آخر بأنه الروح الأمين، وأنه روح القدس، إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه، ليس خيالا في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة، والمدعون ولاية الله، وأنهم أعلم من الأنبياء.
وغاية حقيقة هؤلاء إنكار [أصول الإيمان] بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وقالوا: الوجود واحد، ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، كما تشترك الأناسي في مسمى الإنسان، والحيوانات في مسمى الحيوان، ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركًا كليًا إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفَرَس، ووجود السموات ليس هو بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته.
وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع، فإنه لم يكن
ج/ 11 ص -236-منكرًا هذا الوجود المشهود، لكن زعم أنه موجود بنفسه، لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك، لكن زعموا بأنه هو الله، فكانوا أضل منه وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادًا منهم، و لهذا جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، وقالوا: "لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف وإن جار في العرف الناموسي، كذلك قال: أنا ربكم الأعلى أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم".
قالوا: "ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك وقالوا: "فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" [طه: 72]، قالوا: فصح قول فرعون: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" [النازعات: 24] وكان فرعون عين الحق" ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر، فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله، وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم.
وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء؛ ولكن لما كان الكلام في [أولياء الله] والفرق بين [أولياء الرحمن وأولياء الشيطان] وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاءً لولاية الله، وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان، نبهنا على ذلك. ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات
ج/ 11 ص -237-الشيطانية، ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات: [باب أرض الحقيقة] ويقولون: هي أرض الخيال. فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، ومحل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي عليه، قال تعالى : "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ" [الزخرف: 36: 39]، وقال تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا"إلى قوله: "يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا" [النساء: 116: 120]، وقال تعالى: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [إبراهيم: 22 ]، وقال تعالى: "وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [الأنفال: 48].
وقد روى عن النبي ﷺ في الحديث الصحيح:
ج/ 11 ص -238- "أنه رأى جبريل يزع الملائكة" والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته. قال تعالى: "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ" [الأنفال: 12]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا" [الأحزاب: 9]، وقال تعالى: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا" [التوبة: 40]، وقال تعالى: "إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِين بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ" [آل عمران : 124، 125] .
وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم، وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة، كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام، وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام : المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومُبير" وكان الكذاب: المختار بن أبي عبيد، والمبير: الحجاج بن يوسف. فقيل لابن عمر وابن عباس: إن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا: صدق، قال الله تعالى:"هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ" [الشعراء: 221، 222]. وقال الآخر: وقيل له: إن
ج/ 11 ص -239-لمختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: قال الله تعالى: "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ" [الأنعام : 121].
وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب [الفتوحات] أنه ألقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعًا من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية، وأعرف من هؤلاء عددًا، ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجُعْل يحصل له من الناس، أو بعطاء يعطونه إذا دلهم على سرقاتهم ونحو ذلك.
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يوجد في كلام صاحب [الفتوحات المكية] و[الفصوص] وأشباه ذلك يمدح الكفار، مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، ويتنقص الأنبياء: كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين: كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبدالله التستري، ويمدح المذمومين عند المسلمين: كالحلاج ونحوه كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس الله روحه كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد
ج/ 11 ص -240-فقال: [التوحيد] إفراد الحدوث عن القدم.فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وبين الخالق والمخلوق. وصاحب [الفصوص] أنكر هذا، وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له: يا جنيد، هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما؟ فخطأ الجنيد في قوله: [إفراد الحدوث عن القدم]، لأن قوله هو: إن وجود المحدث هو عين وجود القديم، كما قال في فصوصه: [ومن أسمائه الحسنى [العلي] على من ؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا ؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته وليست إلا هو] إلى أن قال:
[هو عين ما بطن وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات].
فيقال لهذا الملحد: ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالث، فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنًا وظاهرًا، وأما هؤلاء
ج/ 11 ص -241-الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منه وهو أحدقهم في اتحادهم لماقرئ عليه [الفصوص] فقيل له: القرآن يخالف فصوصكم، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له: فإذا كان الوجود واحدًا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حرامًا؟ فقال: الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا حرام عليكم.
وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهر، فإن الوجود إذا كان وحدًا فمن المحجوب ومن الحاجب ؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده: من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده: فمن هو الذي يكذب ؟ وقالوا لآخر: هذه مظاهر، فقال لهم: المظاهر غير الظاهر أم هي ؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق.
وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر، وبينا حقيقة قول كل واحد منهم، وإن صاحب [الفصوص] يقول: المعدوم شيء، ووجود الحق فاض عليه، فيفرق بين الوجود والثبوت. والمعتزلة الذين قالوا: المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه، فإن أولئك قالوا: إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودًا ليس هو وجود الرب. وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليه
ج/ 11 ص -242-فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه الصدر القونوي يفرق بين المطلق والمعين؛ لأنه كان أقرب إلى الفلسفة، فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق، وصنف [مفتاح غيب الجمع والوجود].
وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الإطلاق وهو الكلي العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي وإن قيل: إنه موجود في الخارج فلا يوجد في الخارج إلا معينًا، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج، فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج وإما أن يكون جزءًا من وجود المخلوقات، وإما أن يكون عين وجود المخلوقات.وهل يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه؟ أم العدم يخلق الوجود؟ أو يكون بعض الشيء خالقًا لجميعه؟!
وهؤلاء يفرون من لفظ [الحلول] لأنه يقتضي حالا ومحلا، ومن لفظ [الاتحاد] لأنه يقتضي شىئين اتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحد. ويقولون: النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله، ولو عمموا لما كفروا.
وكذلك يقولون في عباد الأصنام: إنما أخطؤوا لما عبدوا بعض
ج/ 11 ص -243-المظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطؤوا عندهم. والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام.
وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائمًا من التناقض؛ لأنه يقال لهم: فمن المخطئ ؟ لكنهم يقولون : إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق. و يقولون: إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق، ويقولون ما قاله صاحب [الفصوص]: [فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية، والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفًا أو عقلا أو شرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلًا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة].
وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض، فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذاك، وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني: إنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل. ويقولون: من أراد التحقيق يعني تحقيقهم فليترك العقل والشرع.
وقد قلت لمن خاطبته منهم: ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبر غيرهم، و الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته.لا بما
ج/ 11 ص -244-يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا عقليين أوسمعيين، أو كان أحدهما عقليًا والآخر سمعيًا، فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل؟.
وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب، لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين.
وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع ، كما يذكر عن ابن سبعين وغيره، ويجعلون المراتب [ثلاثة] يقولون: العبد يشهد أولا طاعة ومعصية، ثم طاعة بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية، و[الشهود الأول] هو الشهود الصحيح وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي، وأما [الشهود الثاني] فيريدون به شهود القدر كما أن بعض هؤلاء يقول: أنا كافر برب يعصى، وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة. والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة ويقول شاعرهم:
ج/ 11 ص -245- أصبحت منفعلا لما تختاره مني ففعلي كله طاعات
ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه؛ فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله كما قال تعالى: "تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ"[النساء: 13، 14] وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني.
وكانت هذه [المسألة] قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم، من اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل؛ لأنهم تكلموا في أن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته، وفي شهود هذا التوحيد، وهذا يسمونه الجمع الأول، فبين لهم الجنيد أنه لابد من شهود الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته، وخلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهي عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه وأعدائه كما قال تعالى: "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"[القلم: 35، 36]، وقال تعالى: "أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ"[ص: 82]،
ج/ 11 ص -246-وقال تعالى: "أمْحَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ"[الجاثية: 21]، وقال تعالى: "وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ"[غافر: 58].
ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة، ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم.
وأما [المرتبة الثالثة] ألا يشهد طاعة ولا معصية، فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا غاية التحقيق والولاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته، وغاية العداوة لله، فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء، وقد قال تعالى: "وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"[المائدة: 51] ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ"[الممتحنة: 4] وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين
ج/ 11 ص -247-"أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ"[الشعراء: 57-77] وقال تعالى: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ"[المجادلة: 22]. وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة ب [نظم السلوك] يقول فيها:
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصلٍّ واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سوائي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
إلىّ رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي علىّ استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادي أجابت من دعاني ولبت
إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد ويقول:
ج/ 11 ص -248- إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها أضغاث أحلام
فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه، وقال الله تعالى: "سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"[الحديد: 1] فجميع ما في السموات والأرض يسبح لله، ليس هو الله، ثم قال تعالى: "لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [الحديد: 2، 3].
وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه: "اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر". ثم قال: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [الحديد: 4]
ج/ 11 ص -249-فذكر أن السموات والأرض وفي موضع آخر "وَمَا بَيْنَهُمَا" مخلوق مسبح له، وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء.
وأما قوله: "وَهُوَ مَعَكُمْ" فلفظ [مع] لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر كقوله تعالى: "اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ" [التوبة: 119]، وقوله تعالى: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ" [الفتح: 29]، وقوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ" [الأنفال: 75].
ولفظ [مع] جاءت في القرآن عامة وخاصة، ف [العامة] في هذه الآية وفي آية المجادلة: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [المجادلة: 7]، فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل: هو معهم بعلمه.
وأما [المعية الخاصة] ففي قوله تعالى:
"إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ" [النحل: 128]، وقوله تعالى لموسى: "إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" [طه : 46]، وقال تعالى: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا" [التوبة: 40]، يعني النبي
ج/ 11 ص -250-ﷺ وأبا بكر رضي الله عنه فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين.
فلو كان معنى: [المعية] أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك. وقوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ" [الزخرف: 84] أي: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، كما قال الله تعالى: "وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [الروم: 27]، وكذلك قوله تعالى: "وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ" [الأنعام : 3] كما فسره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره: أنه المعبود في السموات والأرض.
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال، كما قال الله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ" [سورة الإخلاص]. قال ابن عباس: [الصمد]: العليم الذي كمل في علمه، العظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده.
ج/ 11 ص -251-وقال ابن مسعود وغيره: هو الذي لا جوف له. و[الأحد]: الذي لا نظير له، فاسمه [الصمد] يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه، واسمه [الأحد] يتضمن اتصافه أنه لا مثل له، وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن.
فصل
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية؛ فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر كما قال تعالى: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [الأعراف: 54] فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات
ج/ 11 ص -252-التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء"[النساء: 116]، وقال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" [البقرة: 165].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزني بحليلة جارك" فأنزل الله تصديق ذلك: "وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"[الفرقان: 68: 70].
وأمر سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهي عنه كما قال في سورة سبحان: "كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا" [الإسراء: 83] وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق
ج/ 11 ص -253-ونهى عن التبذير، وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال: "كٍلٍَ ذّلٌكّ كّانّ سّيٌَئٍهٍ عٌنًدّ رّبٌَكّ مّكًرٍوهْا" وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر.
والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائمًا، قال الله تعالى: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [النور: 31].
وفي صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: "أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده ، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". وفي صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وفي السنن عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد يقول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة" أو قال: "أكثر من مائة مرة".
وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي ﷺ إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثًا ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"
ج/ 11 ص -254-كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه، وقد قال تعالى: "وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ" [ آل عمران: 17]، فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار. وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى: "وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [المزمل : 20] وكذلك قال في الحج: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"[البقرة: 198، 199] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي ﷺ غزوة تبوك وهي آخر غزواته: "لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"[التوبة: 117، 118] وهي آخر ما نزل من القرآن.
وقد قيل: إن آخر سورة نزلت قوله تعالى: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[سورة النصر]، فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه ﷺ كان
ج/ 11 ص -255-يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن. وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه كان يقول: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت".
وفي الصحيحين : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يارسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم".
وفي السنن عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: "قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم. قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك".
فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائمًا.
ج/ 11 ص -256-قال الله تبارك وتعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا"[الأحزاب: 72، 73]، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم.
وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "لن يدخل الجنة أحد بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" وهذا لا ينافي قوله: "كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ" [ الحاقة : 24] فإن الرسول نفي باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب.
وقول من قال: إذا أحب الله عبدًا لم تضره الذنوب، معناه: أنه إذا أحب عبدًا ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.
وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ"[ آل عمران: 133: 135]
ج/ 11 ص -257-ومن ظن أن [القدر] حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ"قال الله تعالى ردًا عليهم: "كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ"[الأنعام: 148: 149].
ولو كان [القدر] حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات، وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعًا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحدًا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوى عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرًا وبين من يفعل معه شرًا، وهذا ممتنع طبعًا وعقلا وشرعًا، وقد قال تعالى: "أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ"[ص: 28] ، وقال تعالى: "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ"[القلم: 35]،
ج/ 11 ص -258-وقال تعالى: "ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ"[الجاثية: 21]، وقال تعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" [المؤمنون: 115]، وقال تعالى: "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" [القيامة: 36]، أي: مهملًا لا يؤمر ولا ينهى.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبًا عليَّ قبل أن أخلق "وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى" [طه: 121]، قال: بأربعين سنة، قال: فلم تلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ قال: فحج آدم موسى" أي: غلبه بالحجة.
وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان:
[طائفة] كذبت به لما ظنوا أنه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر.
و[طائفة] شر من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون: القدر
ج/ 11 ص -259-حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا. ومن الناس من قال: إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل.
ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضًا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: "قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"[الأعراف: 23]. والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ" [غافر : 55] فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب.
وقال تعالى: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [التغابن: 11]، قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة، مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا
ج/ 11 ص -260-لما أصابهم، وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر.
و[الصبر] واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، و[الرضا] قد قيل: إنه واجب، وقيل: هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببًا لتكفير خطاياه، ورفع درجاته وإنابته وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين، وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها، ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي
ج/ 11 ص -261-فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة".
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه
تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي ،كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ياعبادي ،لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
ج/ 11 ص -262-فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شرًا فلا يلومن إلا نفسه.
وكثير من الناس يتكلم بلسان [الحقيقة]، ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته. ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقًا لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ [الشريعة] يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله؛ فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر. وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطئ. هذا إذا كان عالمًا عادلًا وإلا ففي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضي بغيره فهو في النار".وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد ﷺ فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع، فمن
ج/ 11 ص -263-قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار.وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له بالاتفاق. وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول إن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وفرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين النوعين.فلفظ [الشرع، والشريعة] إذا أريد به الكتاب و السنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقًا إلى الله، غير متابعة محمد ﷺ باطنًا وظاهرًا. فلم يتابعه باطنًا وظاهرًا فهو كافر.ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطًا من وجهين: أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، وأما محمد ﷺ فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولو
ج/ 11 ص -264-أدركه من هو أفضل من الخضر: كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليًا، ولهذا قال الخضر لموسى: "أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه" وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد ﷺ أن يقول مثل هذا. الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفًا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفًا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله. قال: ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان قال له : إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم. وإلا فلا تقتلهم. رواه البخاري، وأما الإحسان إلى اليتيم بلاعوض والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفًا شرع الله. وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالمًا وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابًا وقد يكون خطًا، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه: كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن
ج/ 11 ص -265-سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا؛ أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كاتباع الرسول ﷺ، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم. وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك، فهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، و بين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده.
فصل
وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين [الإرادة] و [الأمر] و [القضاء] و[الإذن] و [التحريم] و[البعث] و [الإرسال] و [الكلام] و[الجعل]: بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه؛ وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثيب أصحابه، ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم، وجعلهم من أوليائه المتقين
ج/ 11 ص -266-وحزبه المفلحين وجنده الغالبين؛ وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه، ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه.
ف[الإرادة الكونية] هي مشيئته لما خلقه وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية، والإرادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعًا ودينًا. وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى: "فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء" [الأنعام: 125]، وقال نوح عليه السلام لقومه: "وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ" [هود: 34]، وقال تعالى: "وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ" [الرعد: 11]، وقال تعالى في الثانية: "وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة: 185] وقال في آية الطهارة: "مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [المائدة: 6] ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال: "يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا" [النساء: 26: 28]
ج/ 11 ص -267-وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي ﷺ وما نهاهم عنه: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" [ الأحزاب: 33 ]. والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا، فمن أطاع أمره كان مطهرًا قد أذهب عنه الرجس بخلاف من عصاه.
وأما [الأمر] فقال في الأمر الكوني: "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [النحل:40]، وقال تعالى: "وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ" [القمر: 50]، وقال تعالى: "أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ" [يونس: 24]، وأما الأمر الديني، فقال تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [النحل: 90]، وقال تعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [النساء: 58].
وأما [الإذن] فقال في الكوني لما ذكر السحر: "وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ" [البقرة: 102]، أي بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل، وقال في الإذن الديني: "أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ" [الشورى: 21]، وقال تعالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا" [الأحزاب: 45، 46]،
ج/ 11 ص -268-وقال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ" [النساء: 64]، وقال تعالى: "مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَالْفَاسِقِينَ" [ الحشر: 5 ] .
وأما [القضاء] فقال في الكوني: "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" [فصلت: 12] وقال سبحانه: "إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [آل عمران: 47]، وقال في الديني: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ" [الإسراء: 23]، أي أمر، وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى: "وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ" [يونس: 18]، وقول الخليل عليه السلام لقومه: "قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 75: 77]، وقال تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" [سورة الكافرون]، وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم ولا تقتضي رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى: "وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ" [يونس: 41]
ج/ 11 ص -269-ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن قوله: "وَقَضَى رَبُّكَ" بمعنى قدر، وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرًا بالكتب.
وأما لفظ [البعث] فقال تعالى في البعث الكوني: "فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا" [الإسراء: 5] وقال في البعث الديني: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" [الجمعة: 2]، و قال تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ" [النحل: 36].
وأما لفظ [الإرسال] فقال في الإرسال الكوني: "أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا" [مريم: 83] ،وقال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ" [الفرقان: 48]، وقال في الديني: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" [الأحزاب: 45]، وقال تعالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ" [نوح: 1]، وقال تعالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا" [المزمل: 15]، وقال تعالى: "اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ" [الحج: 75].
وأما لفظ [الجعل] فقال في الكوني: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ" [القصص: 41]،
ج/ 11 ص -270-وقال في الديني: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا" [المائدة: 48]، وقال تعالى: "مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ" [المائدة:103].
وأما [لفظ التحريم] فقال في الكوني: "وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ" [القصص: 12]، وقال تعالى: "فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ" [المائدة: 26]، وقال في الديني: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ" [المائدة: 3]،وقال تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ" الآية [النساء: 23].
وأما لفظ [الكلمات] فقال في الكلمات الكونية: "وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ" [التحريم: 12]، وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقول: "أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق، ومن غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون"، وقال ﷺ: "من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ماخلق لم يضره شيء حتي يرتحل من منزله ذلك" وكان يقول: "أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن".
ج/ 11 ص -271-و[كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر] هي التي كون بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته. وأما [كلماته الدينية] وهي كتبه المنزلة: وما فيها من أمره ونهيه، فأطاعها الأبرار، وعصاها الفجار.
وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية.
وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم،فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب.
وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحظور، وصبروا على المقدور، فأحبهم وأحبوه، ورضى عنهم ورضوا عنه. وأعداؤه أولياء الشياطين، وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم، ويغضب عليهم، ويلعنهم ويعاديهم.
وبسط هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع [الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان] وجمع الفرق بينهما
ج/ 11 ص -272-اعتبارهم بموافقة رسول الله ﷺ، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء، وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد ،وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد وأعدائه حزب الشيطان وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه. قال تعالى: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" الآية [المجادلة: 22]، وقال تعالى: "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ" [الأنفال: 12].
وقال في أعدائه: "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ" [الأنعام: 121]، وقال: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا" [الأنعام: 112]، وقال: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ" [الشعراء: 221: 227]، وقال تعالى: "فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ" [الحاقة: 38: 52]،
ج/ 11 ص -273-وقال تعالى: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ" [الطور: 29: 34].
فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمدًا ﷺ عمن تقترن به الشياطين، من الكهان والشعراء والمجانين؛ وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه. قال الله تعالى: "اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ" [الحج: 75]، وقال تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ" [الشعراء: 192: 195]، وقال تعالى: "قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ" [البقرة: 97]، وقال تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" إلى قوله: "وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" [النحل: 98: 102] فسماه الروح الأمين،وسماه روح القدس.
وقال تعالى: "فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ" [التكوير: 15، 16] يعني: الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي: مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها"وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ" [التكوير: 17] أي: إذا أدبر، وأقبل الصبح "وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ" [التكوير: 18]
ج/ 11 ص -274-أي: أقبل "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ" [التكوير: 19] وهو جبريل عليه السلام "ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ" [التكوير:20، 21]، أي: مطاع في السماء أمين، ثم قال: "وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ" [التكوير: 22] أي: صاحبكم الذي مَنَّ الله عليكم به؛ إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى: "وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ" [الأنعام: 8، 9]. وقال تعالى: "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ" [التكوير: 23] أي: رأى جبريل عليه السلام "وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ" [التكوير: 24] أي: بمتهم، وفي القراءة الأخرى: "بِضَنِينٍ" أي: ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجعل، كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض، "وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ" [التكوير: 25] فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانًا، كما نزه محمدًا ﷺ عن أن يكون شاعرًا أو كاهنًا.
فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد ﷺ فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين. وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم ﷺ كذلك.
ج/ 11 ص -275-وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله ﷺ ،فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول ﷺ: مثل انشقاق القمر، وتسبيح الحصا في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة،كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص في حديث أم سلمة المشهور، وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص، وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص وهم نحو ثلاثين ألفًا، ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفي الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة، ورده لعين أبي قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قطعتين فأكلوا منها جميعهم ثم فضل فضلة، ودَيْن عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقًا. قال جابر: فأمر صاحب الدَّين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله ﷺ ثم قال لجابر جد له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا. ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة.
ج/ 11 ص -276-وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدًا، مثل ما كان [أسيد بن حضير] يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته]. وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين. وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها. وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله ﷺ في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما، رواه البخاري وغيره.
وقصة [الصديق] في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربي من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبوبكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله ﷺ، وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا.
و[خبيب بن عدي] كان أسيرًا عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة.
و[عامر بن فهيرة] قتل شهيدًا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه،
ج/ 11 ص -277-وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال: عروة: فيرون الملائكة رفعته.
وخرجت [أم أيمن] مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسًا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها.
و[سفينة] مولى رسول الله ﷺ أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله ﷺ فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده.
و[البراء بن مالك] كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه، وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء، أقسم على ربك، فيقول: يارب، أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم فيهزم العدو، فلماكان يوم [القادسية] قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيدًا.
و[خالد بن الوليد] حاصر حصنًا منيعًا فقالوا: لا نسلم حتى تشرب
ج/ 11 ص -278-السم، فشربه فلم يضره. و[سعد بن أبي وقاص] كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق.
و[عمر بن الخطاب] لما أرسل جيشًا أَمَّر عليهم رجلا يسمى [سارية] فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فقدم رسول الجيش فسأل فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدوًا فهزمونا فإذا بصائح: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله .
ولما عذبت [الزنِّيرة] على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها ،قال المشركون: أصاب بصرها اللات والعزى، قالت: كلا والله، فرد الله عليها بصرها.
ودعا [سعيد بن زيد] على أروى بنت الحكم فأعمى بصرها لما كذبت عليه فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
و[العلاء بن الحضرمي] كان عامل رسول الله ﷺ على البحرين وكان يقول في دعائه: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم،
ج/ 11 ص -279-فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضؤوا لما عدموا الماء والإسقاء لما بعدهم فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم؛ ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد.
وجرى مثل ذلك [لأبي مسلم الخولاني] الذي ألقى في النار، فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال: تفقدون من متاعكم شيئًا حتى أدعو الله عز وجل فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة، فقال: اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له: أتشهد أني رسول الله، قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، فأمر بنار فألقى فيها فوجدوه قائمًا يصلي فيها وقد صارت عليه بردًا وسلامًا، وقدم المدينة بعد موت النبي ﷺ فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال:"الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد ﷺ من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله". ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره، وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت، وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها.
وكان [عامر بن عبد قيس] يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه وما
ج/ 11 ص -280-يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجىء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه وقال: إنما أنت كلب من كلاب الرحمن وإني أستحي أن أخاف شيئًا غيره، ومرت القافلة ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتي بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه.
وتغيب [الحسن البصري] عن الحجاج ،فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتًا.
و[صلة بن أشيم] صلة بن أشيم هو: [أبو الصهباء العدوي البصري ،زوج الصالحة معاذة العدوية لم يرو سوى حديث واحد عن ابن عباس، حدث عنه أهله معاذ والحسن وغيرهم، كان أبو الصهباء يصلى حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفًا، قتل سنة اثنتين وستين رحمه الله. [سير أعلام النبلاء: 3497: 500]. مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق على منة ،ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال: يا بنى خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاع مرة بالأهواز، فدعا الله عز وجل واستطعمه، فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقى الثوب عند زوجته زمانًا. وجاء الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل فلما سلم قال له: اطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير.
وكان [سعيد بن المسيب] في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر
ج/ 11 ص -281-رسول الله ﷺ أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره.
ورجل من [النخع] كان له حمار فمات في الطريق فقال له أصحابه: هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم: أمهلوني هنيهة ،ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره فحمل عليه متاعه.
ولما مات [أويس القرني] [أويس القرني هو: أبو عمرو أويس بن عامر بن جزء بن مالك المرادي اليماني القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، قالوا عنه: إنه ما روى شيئًا مسندًا ولا تهيأ أن يحكم عليه بلين، وقد كان من أولياء الله المتقين ومن عباده المخلصين، ذكر الصيرفي أن مسلمًا خرج حديثه، قيل: إنه قتل يوم صفين، وقيل: مات على جبل بمكة ،وقيل: إنه مات بدمشق، ولم تذكر الكتب لا سنة مولده ولا سنة وفاته. [سير أعلام النبلاء: 4
19: 33، لسان الميزان: 1
527: 531 تهذيب التهذيب 1
386]. وجدوا في ثيابه أكفانًا لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبرًا محفورًا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب.
وكان [عمرو بن عقبة بن فرقد] يصلي يومًا في شدة الحر فأظلته غمامة، وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم.
وكان [مطرف بن عبد الله بن الشخير] إذا دخل بيته سبحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط.
ولما مات [الأحنف بن قيس] وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى
ج/ 11 ص -282-ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر.
وكان [إبراهيم التيمي] يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئًا وخرج يمتار لأهله طعامًا فلم يقدر عليه فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبًا متراكبًا.
وكان [عتبة الغلام] [عتبة الغلام هو: عتبة بن أبان البصري الزاهد، الخاشع الخائف. قال سلمة الفراء: كان عتبة الغلام من نساك أهل البصرة، يصوم الدهر، ويأوى السواحل والجبانة. قال أبو عمر البصري: كان رأس مال عتبة فلسًا، يشتري به خوصا، يعمله ويبيعه بثلاثة فلوس فيتصدق بفلس، ويتعشى بفلس، وفلس رأس ماله. [سير أعلام النبلاء: 7
62]. سأل ربه ثلاث خصال: صوتًا حسنًا، ودمعًا غزيرًا، وطعامًا من غير تكلف. فكان إذا قرأ بكى وأبكى، ودموعه جارية دهره، وكان يأوى إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه.
وكان [عبد الواحد بن زيد] أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء فكانت وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده.
وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع.
وأما ما نعرفه عن أعيان ونعرفه في هذا الزمان فكثير.
ج/ 11 ص -283-ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ويسد حاجته ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيًا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته؛ ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة.
وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال [عبد الله بن صياد] الذي ظهر في زمن النبي ﷺ وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي ﷺ في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان قال له: النبي ﷺ قد خبأت لك خبأ" قال: الدخ الدخ. وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي ﷺ: "اخسأ فلن تعدو قدرك" يعني: إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي ﷺ قال: "إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم".
ج/ 11 ص -284-وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبي ﷺ في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال النبي ﷺ: "ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟" قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، قال رسول الله ﷺ: "فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء،ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: ماذا قال ربنا؟ فيخبرونهم،ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا،وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم،فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون".
وفي رواية: قال معمر: قلت للزهرى: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم ولكنها غلظت حين بعث النبي ﷺ.
و[الأسود العنسي] الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه.
ج/ 11 ص -285-وكذلك [مسيلمة الكذاب] كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور، وأمثال هؤلاء كثيرون مثل [الحارث الدمشقي] الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده،وكان يرى الناس رجالًا وركبانًا على خيل في الهواء ويقول: هي الملائكة، وإنما كانوا جنًا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله،فسمى الله فطعنه فقتله.
وهكذا أهل [الأحوال الشيطانية] تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما وكله النبي ﷺ بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي ﷺ: "ما فعل أسيرك البارحة" فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: "كذبك وإنه سيعود" فلما كان في المرة الثالثة. قال: دعني حتى أعلمك ما ينفعك: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" [البقرة: 255] إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي ﷺ قال: "صدقك
ج/ 11 ص -286-وهو كذوب" وأخبره أنه شيطان.
ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها ،مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلامًا لا يعلم وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولبسه وتكلم على لسانه، فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال، ولهذا قد يضرب المصروع، وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه.
ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجًا شرعيا، بل يذهب بثيابه،ولا يحرم إذا حاذى الميقات. ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج، ولهذا رأى بعض هؤلاء الملائكة تكتب الحجاج فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست من الحجاج، يعني حجًا شرعيًا.
ج/ 11 ص -287-وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة:
منها: أن [كرامات الأولياء] سببها الإيمان والتقوى، و[الأحوال الشيطانية] سببها ما نهى الله عنه ورسوله. وقد قال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" [الأعراف: 33]، فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببًا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية.
ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد.
ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت،سواء كان ذلك الحي مسلمًا أو نصرانيًا أو مشركًا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث
ج/ 11 ص -288-به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين.
ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان، ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته.
ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحدًا يغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رأى خادمه شخصًا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله أي غسل الميت غاب وكان ذلك شيطانًا، وكان قد أضل الميت، وقال: إنك بعد الموت تجىء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضًا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك.
ج/ 11 ص -289-ومنهم من يرى عرشًا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول. ومنهم من يرى أشخاصًا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر: إما الصديق رضى الله عنه أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وهم على مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ، فإن كان الإنسي كافرًا أو فاسقًا أو جاهلًا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونوه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أو يقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بالنجاسة فيغورون له الماء، وينقلونه بسبب مايرضيهم به من الكفر، وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعًا ملجأ إليه.
إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها، والإيمان بها إيمان
ج/ 11 ص -290-بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام. وإن كان الرجل مطيعًا لله ورسوله باطنًا وظاهرًا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته.
ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب أقرب إلى الأحوال الشيطانية، فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال: "إن من أمَنًّ الناس عَلَىَّ في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، لا يبقين في المسجد خَوْخَة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك".
وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة، وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال: "إن أولئك إذا مات فيهم
ج/ 11 ص -291-الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيها تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه ﷺ قال: "إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد".
وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" وفي الموطأ عنه أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وفي السنن عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني".
وقال ﷺ: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام" وقال ﷺ: "إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام" وقال ﷺ: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد
ج/ 11 ص -292-أرمت أي بليت ؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء".
وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام: "وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" [ نوح: 23] قال ابن عباس وغيره من السلف: هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان. فنهى النبي ﷺ عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب. فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين، فسد هذا الباب.
والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها كما يفعل أهل دعوة الكواكب فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب، وهو شيطان، والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين،
ج/ 11 ص -293-وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروون حديثًا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك.
ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين: مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد، أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه. يفعل الشيطان هذا ليضلهم، وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال: لا إله إلا الله فسقط ، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان.
وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع.
ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرًا ما تأوى إلى المغارات والجبال: مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان وجبال بالجزيرة،
ج/ 11 ص -294-وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز وجبل ماشكو عند أقشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى: "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا"[ الجن:6] .
ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني جلده يشبه جلد الماعز فيظن من لا يعرفه أنه إنسي وإنما هو جني، ويقال: بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال، كما يعرف ذلك بطرق متعددة.
وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر، الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك.
والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام:
قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به
ج/ 11 ص -295-مجملا وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء.
ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليًا لله وكلا الأمرين خطأ، ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين وأنهم من أولياء الله. وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة، والصواب القول الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل كما قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ" [ المائدة:51] وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضًا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بد أن يكون في أحدهم من الكذب جهلاً أو عمدًا.و من الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين. قال الله تعالى: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ" [الشعراء:221، 222] والأفاك: الكذاب، والأثيم الفاجر.
ومن أعظم ما يقوى الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى: "وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً" [الأنفال:35]،
ج/ 11 ص -296-قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما من السلف: [التصدية] التصفيق باليد، و[المكاء] مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة، وأما النبي ﷺ وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي ﷺ وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف، ولا تواجد ولا سقطت بردته، بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه.
وكان أصحاب النبي ﷺ إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ، والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. ومر النبي ﷺ بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له: "مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع لقراءتك" فقال: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا .أي: لحسنته لك تحسينًا، كما قال النبي ﷺ: "زينوا القرآن بأصواتكم". وقال ﷺ: "لله أشد أذنًا أي: استماعًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته".
وقال ﷺ لابن مسعود:"اقرأ علي القرآن" فقال: أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء، حتى انتهيت إلى هذه
ج/ 11 ص -297-الآية: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا" [النساء:41] قال: [حسبك]، فإذا عيناه تذرفان من البكاء.
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم، كما ذكره الله في القرآن فقال:"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا"[ مريم: 58]، وقال في أهل المعرفة: "وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ" [المائدة:83].ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى:"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ"[الزمر:23]، وقال تعالى:"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" [الأنفال: 2-4].
وأما السماع المحدث، سماع الكف والدف والقصب، فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقًا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدونه من القرب والطاعات،
ج/ 11 ص -298-بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعي: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبًا وافرًا، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم.
ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان منه أكثر وهو بمنزلة الخمر، يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر؛ ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم، كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه ؟! وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبدًا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، و يرفع به درجته.
وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو
ج/ 11 ص -299-من جنس الغنى عن جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى.
وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته.وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أوحسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيرًا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها، كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات، فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرًا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدًا خرت عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطي عبداً ملكا ومالا وتصرفًا لم يحاسبه عليه، ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورًا بها ولا منهيًا عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد
ج/ 11 ص -300-الرسول أعلى من النبي الملك.
ولما كانت الخوارق كثيرًا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى، كما يتوب من الذنوب: كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك ألا يقف عندها ولا يجعلها همته ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول: هنيئًا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة أو تمر به أنوار، أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله.
وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له: أنا من أمر الله، ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي ﷺ ويظهر له الخوارق،
ج/ 11 ص -301-مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينًا أو شمالاً ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له:هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه: كيف تصوروا بصورة المردان؟! فيرفع رأسه فيجدهم بلحي ويقول له: علامة أنك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان.
وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى:"فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ"[الفجر:15، 16] قال الله تبارك وتعالى:"كَلَّا"[الفجر:17]، ولفظ "كَلَّا" فيها زجر وتنبيه: زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرمًا له بها، ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهينًا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلى عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده ليستدرجه بذلك، وقد يحمى منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منه.
ج/ 11 ص -302-وأيضًا [كرامات الأولياء] لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء، وإنما تحصل عند الشرك: مثل دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات: كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات، ومثل الغناء والرقص، لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدًا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد. فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى: "وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" [الزخرف:36].
فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى" [طه:124: 126] يعني تركت العمل بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة؛ ثم قرأ هذه الآية.
ج/ 11 ص -303-فصل
ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدًا ﷺ إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد ﷺ واتباعه، فعليه أن يصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر، سواء كان إنسيًا أو جنيًا.
ومحمد ﷺ مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين لما كان النبي ﷺ يصلي بأصحابه ببطن نخلة لما رجع من الطائف، وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله: "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"[الأحقاف:29: 32].
ج/ 11 ص -304-وأنزل الله تعالى بعد ذلك: "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا" [الجن:1-6] أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء.
وقال غير واحد من السلف: كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانًا وكفرًا كما قال تعالى: "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا" [الجن:6، 8] وكانت الشياطين ترمي بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم، فلما بعث محمد ﷺ ملئت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا، وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا، كما قالوا: "وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا" [الجن:9]،
ج/ 11 ص -305-وقال تعالى في الآية الأخرى: "وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" [الشعراء:210-212]، قالوا: "وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا" [الجن:10، 11]، أي على مذاهب شتى، كما قال العلماء: منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي "وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا" [الجن:12]، أخبروا أنهم لا يعجزونه:لا إن أقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه "وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا"[الجن:13، 14]أي الظالمون، يقال:أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار وظلم، "وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا" [الجن:1422]، أي ملجأ ومعاذًا، "إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا" [الجن:23، 24].
ج/ 11 ص -306-ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي ﷺ وآمنوا به وهم جن نصيبين، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود، وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن، وكان إذا قال: "فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" [الرحمن:13] قالوا:ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد.
ولما اجتمعوا بالنبي ﷺ سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال:"لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علفًا لدوابكم" قال النبي ﷺ: "فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لإخوانكم من الجن" وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة، وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك، وقالوا: فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى.
ومحمد ﷺ أرسل إلى جميع الإنس والجن، وهذا أعظم قدرًا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام، فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك، ومحمد ﷺ أرسل إليهم يأمرهم بما أمر الله به ورسوله، لأنه عبد الله ورسوله، ومنزلة العبد الرسول فوق منزلة النبي الملك.
وكفار الجن يدخلون النار بالنص والإجماع، وأما مؤمنوهم فجمهور
ج/ 11 ص -307-العلماء على أنهم يدخلون الجنة، وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول. لكن منهم النذر، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.
والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال:
فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس بذلك، فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه.
ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول: كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل، كتمريضه
ج/ 11 ص -308-
وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص: إما فاسق وإما مذنب غير فاسق، وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات:مثل أن يستعين بهم على الحج، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به.
وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركًا يعبد الكواكب والأوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة، ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أو شيخ صالح، فيظن أنه صالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان، قال الله تعالى: "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ" [سبأ:40، 41] .
ج/ 11 ص -309-ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له، ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون. فإن كان نصرانيًا واستغاث بجرجس أو غيره، جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به، وإن كان منتسبًا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين جاء في صورة ذلك الشيخ، وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك.
ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به، وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم نقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم، وإنما هو بتوسط الشيطان.
ولقد أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة، فقال: يرونني الجن شيئًا براقًا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه مايطلب منه الإخبار به، قال: فأخبر الناس به، ويوصلون إلى كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه.
وكان كثيرمن الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها وقال: إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة، كما
ج/ 11 ص -310-يدخل النار بحجر الطلق وقشور النارنج، ودهن الضفادع ، وغير ذلك من الحيل الطبيعية فيعجب هؤلاء المشايخ ويقولون: نحن والله لا نعرف شيئًا من هذه الحيل، فلما ذكر لهم الخبير إنكم لصادقون في ذلك، ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه لما تبين لهم الحق، وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله، فلا تحصل عند ما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية، فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه؛ لا من كرامات الرحمن لأوليائه.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله وسلم على محمد سيد رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه صلاة وسلامًا نستوجب بهما شفاعته [آمين].
ج/ 11 ص -311-وقال الشيخ الإمام العالم العلامة، العارف الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله رب العالمين ، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات
وإن كان اسم [المعجزة] يعم كل خارق للعادة في اللغة ، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ويسمونها: الآيات لكن كثير من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل [المعجزة]
ج/ 11 ص -312-للنبي، و[الكرامة] للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة .
فنقول: صفات الكمال ترجع إلى [ثلاثة]: العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول: العلم، والقدرة. والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغني، والأول أجود. وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين.
وقد أمر الرسول ﷺ أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: "قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ" [الأنعام: 50]، وكذلك قال نوح عليه السلام. فهذا أول أولى العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولى العزم كلاهما يتبرأ من ذلك. وهذا لأنهم يطالبون الرسول ﷺ تارة بعلم الغيب كقوله: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" [يس: 48]، و"يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي" [الأعراف:187] وتارة بالتأثير، كقوله: "وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلًا"
ج/ 11 ص -313-إلى قوله: "قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا" [الإسراء: 90 - 93] وتارة يعيبون عليه الحاجة البشرية، كقوله: "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا" [ الفرقان: 7، 8]
فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الله، ولا هو ملك غني عن الأكل والمال، إن هو إلا متبع لما أوحى إليه، واتباع ما أوحى إليه هو الدين، وهو طاعة الله، وعبادته علما وعملا بالباطن والظاهر، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى فيعلم منه ما علمه إياه، ويقدر منه على ما أقدره الله عليه، ويستغنى عما أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس.
فما كان من الخوارق من [باب العلم] فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره. وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومنامًا، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحيا وإلهامًا، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفًا ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات: فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله [كشفًا]، و[مكاشفة] أي كشف له عنه.
ج/ 11 ص -314-وما كان من [باب القدرة] فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقًا ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه، كقوله: "من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب". ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك.
وكذلك ما كان من [باب العلم والكشف]. قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي ﷺ في المبشرات: "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له" "وكما قال النبي ﷺ: "أنتم شهداء الله في الأرض".
وكل واحد [من الكشف والتأثير] قد يكون قائمًا به، وقد لا يكون قائمًا به، بل يكشف الله حاله ويصنع له من حيث لا يحتسب، كما قال يوسف بن أسباط: ما صدق الله عبد إلا صنع له. وقال أحمد بن حنبل: لو وضع الصدق على جرح لبرأ. لكن من قام بغيره له من الكشف والتأثير فهو سببه أيضًا، وإن كان خرق عادة في ذلك الغير، فمعجزات الأنبياء وأعلامهم ودلائل نبوتهم تدخل في ذلك.
ج/ 11 ص -315-وقد جمع لنبينا محمد ﷺ جميع أنواع [المعجزات والخوارق]: أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل إخبار نبينا ﷺ عن الأنبياء المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم بما يوافق ما عند أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم، وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم، ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء، تارة بما في أيديهم من الكتب الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر، وتارة بما يعلمه الخاصة من علمائهم، وفي مثل هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه.
فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من [باب العلم الخارق] وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته، وزوال مملكة فارس والروم، وقتال الترك، وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في [كتب دلائل النبوة]، و[سيرة الرسول] و[فضائله] و[كتب التفسير]، و[الحديث] و[المغازي] مثل دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي، وسيرة ابن إسحاق، وكتب الأحاديث المسندة كمسند الإمام أحمد، والمدونة كصحيح البخاري، وغير ذلك مما
ج/ 11 ص -316-هو مذكور أيضًا في [كتب أهل الكلام والجدل]: كإعلام النبوة للقاضي عبد الجبار وللماوردى، والرد على النصارى للقرطبي، ومصنفات كثيرة جدًا، وكذلك ما أخبر عنه غيره مما وجد في كتب الأنبياء المتقدمين وهي في وقتنا هذا اثنان وعشرون نبوة بأيدي اليهود والنصارى، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وكتاب شعيًا، وحبقوق، ودانيال، وأرميا وكذلك أخبار غير الأنبياء من الأحبار والرهبان وكذلك أخبار الجن والهواتف المطلقة، وأخبار الكهنة كسطيح وشق وغيرهما، وكذلك المنامات وتعبيرها: كمنام كسرى وتعبير الموبذان، وكذا أخبار الأنبياء المتقدمين بما مضى وما عبر هو من أعلامهم.
وأما [القدرة والتأثير] فإما أن يكون في العالم العلوي أو ما دونه، وما دونه إما بسيط أومركب، والبسيط إما الجو وإما الأرض، والمركب إما حيوان وإما نبات وإما معدن، والحيوان إما ناطق وإما بهيم، فالعلوي كانشقاق القمر، ورد الشمس ليوشع بن نون، وكذلك ردها لما فاتت عليًا الصلاة والنبي ﷺ نائم في حجره إن صح الحديث فمن الناس من صححه كالطحاوي والقاضي عياض. ومنهم من جعله موقوفًا كأبي الفرج ابن الجوزي وهذا أصح. وكذلك معراجه إلى السموات.
ج/ 11 ص -317-وأما [الجو] فاستسقاؤه، واستصحاؤه غير مرة:كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره، وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وأما [الأرض والماء] فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة.
وأما [المركبات] فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة، وفي أسفاره، وجراب أبي هريرة، ونخل جابر بن عبد الله، وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة.
وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل .
وكذلك من باب [القدرة] عصا موسى ﷺ وفلق البحر والقمل والضفادع والدم، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، كما أن من باب العلم إخبارهم بما يأكلون
ج/ 11 ص -318-وما يدخرون في بيوتهم.
وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها، وإنما الغرض التمثيل بها.
وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من [باب الكشف والعلم] فمثل قول عمر في قصة سارية، و إخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلًا، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام.
و [القدرة] مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد، و سفينة مولى رسول الله ﷺ وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها فإن تعداد هذا مثل المطر، وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس. وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه.
ج/ 11 ص -319-فصل
الخارق كشفًا كان أو تأثيرًا إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينًا وشرعًا، إما واجب وإما مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرًا، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه كان سببًا للعذاب أو البغض، كقصة الذي أوتي الآيات فانسلخ منها: بلعام بن باعوراء، لكن قد يكون صاحبها معذورًا لاجتهاد أو تقليد أو نقص عقل أوعلم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة، فيكون من جنس برح العابد.
و [النهي] قد يعود إلى سبب الخارق وقد يعود إلى مقصوده، فالأول مثل أن يدعو الله دعاء منهيًا عنه اعتداء عليه. وقد قال تعالى: "ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [الأعراف: 55] ومثل الأعمال المنهي عنها إذا أورثت كشفًا أو تأثيرًا. والثاني أن يدعو على غيره بما لا يستحقه أو يدعو للظالم بالإعانة، ويعينه بهمته كخفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال؛ فإن كان صاحبه من عقلاء المجانين والمغلوبين غلبة
ج/ 11 ص -320-بحيث يعذرون، والناقصين نقصًا لا يلامون عليه كانوا برحية. وقد بينت في غير هذا الموضع ما يعذرون فيه وما لا يعذرون فيه. وإن كانوا عالمين قادرين كانوا بلعامية، فإن من أتى بخارق على وجه منهي عنه أو لمقصود منهي عنه، فإما أن يكون معذورًا معفوًا عنه كبرح، أو يكون متعمدًا للكذب كبلعام.
فتلخص أن الخارق [ثلاثة أقسام]: محمود في الدين، ومذموم في الدين، ومباح لا محمود ولا مذموم في الدين؛ فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة، وإن لم يكن فيه منفعة كان كسائر المباحات التي لامنفعة فيها كاللعب والعبث.
قال أبو علي الجوزجاني: كن طالبًا للاستقامة لا طالبًا للكرامة. فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا الذي ذكره أصل عظيم كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبدًا نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئًا من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهمًا لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله
ج/ 11 ص -321-يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة تفننا، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصدق اليقين أغنى بذلك عن رؤية خرق العادات، لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين، فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقينًا. فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به، وتقتضي الحكمة كشف ذلك لآخر لموضع حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعدادًا وأهلية من الأول. فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة. ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك. وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة.
فتعلم هذا، لأنه أصل كبير للطالبين، والعلماء الزاهدين، ومشايخ الصوفية.
ج/ 11 ص -322-فصل
كلمات الله تعالى [نوعان]: كلمات كونية، وكلمات دينية. فكلماته الكونية هي: التي استعاذ بها النبي ﷺ في قوله: "أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر" وقال سبحانه: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" [يس:82]، وقال تعالى:"وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا" [الأنعام: 115] والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية.
و[النوع الثاني] الكلمات الدينية وهي: القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي: أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العبد عمومًا وخصوصًا من الأول العلم بالكونيات، والتأثير فيها، أي بموجبها.
فالأولى قدرية كونية والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما
ج/ 11 ص -323-أن الأولى تنقسم إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء وجلوسه على النار، وإلى تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنًا وظاهرًا، وإلى تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله؛ فيطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تقبل النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات. كما قبلت من الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات.
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علمًا وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن وجود ذلك في حقه مأمورًا به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير الإنسان ناقصًا مذمومًا إما أن يجعله مستحقًا للعقاب، وإما أن يجعله محرومًا من الثواب، وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته وثوابه، وإما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلًا في الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم.
إذا عرف هذا فالأقسام ثلاثة: إما أن يتعلق بالعلم والقدرة أو بالدين
ج/ 11 ص -324-فقط، أو بالكون فقط.
فالأول: كما قال لنبيه ﷺ: "وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا" [الإسراء: 80] فإن السلطان النصير يجمع الحجة والمنزلة عند الله، وهو كلماته الدينية، والقدرية، والكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء عليهم السلام تجمع الأمرين، فإنها حجة على النبوة من الله وهي قدرية. وأبلغ ذلك القرآن الذي جاء به محمد ﷺ، فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد ﷺ على نبوته، ومجيئه من الخوارق للعادات، فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة.
وأما القسم الثاني: فمثل من يعلم بما جاء به الرسول خبرًا وأمرًا ويعمل به ويأمر به الناس، ويعلم بوقت نزول المطر وتغير السعر، وشفاء المريض، وقدوم الغائب، ولقاء العدو، وله تأثير إما في الأناسي، وإما في غيرهم بإصحاح وإسقام وإهلاك، أو ولادة أو ولاية أو عزل. وجماع التأثير إما جلب منفعة كالمال والرياسة؛ وإما دفع مضرة كالعدو والمرض، أو لا واحد منهما مثل ركوب أسد بلا فائدة، أو إطفاء نار ونحو ذلك.
وأما الثالث: فمن يجتمع له الأمران؛ بأن يؤتي من الكشف
ج/ 11 ص -325-والتأثير الكوني ما يؤيد به الكشف والتأثير الشرعي، وهو علم الدين والعمل به، والأمر به، ويؤتي من علم الدين والعمل به، ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني، بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية، بحيث ينال من العلوم الدينية، ومن العمل بها، ومن الأمر بها، ومن طاعة الخلق فيها، ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذه أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد ﷺ وأبي بكر الصديق وعمر وكل المسلمين.
فهذا القسم الثالث هو مقتضى "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة:5] إذ الأول هو العبادة، والثاني هو الاستعانة، وهو حال نبينا محمد ﷺ والخواص من أمته المتمسكين بشرعته ومنهاجه باطنًا وظاهرًا، فإن كراماتهم كمعجزاته لم يخرجها إلا لحُجّة أو حاجة، فالحجة ليظهر بها دين الله ليؤمن الكافر ويخلص المنافق ويزداد الذين آمنوا إيمانًا، فكانت فائدتها اتباع دين الله علمًا وعملًا، كالمقصود بالجهاد، والحاجة كجلب منفعة يحتاجون إليها كالطعام والشراب وقت الحاجة إليه، أو دفع مضرة عنهم ككسر العدو بالحصى الذي رماهم به فقيل له: "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى" [الأنفال: 17]، وكل من هذين يعود إلى منفعة الدين كالأكل والشرب وقتال العدو والصدقة على
ج/ 11 ص -326-المسلمين، فإن هذا من جملة الدين والأعمال الصالحة.
وأما القسم الأول: وهو المتعلق بالدين فقط فيكون منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة، والتابعين وصالحي المسلمين، وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لابد أن يكون لهم حاجة أو انتفاعًا بشيء من الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون نقصًا، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصًا وقد لا يكون نقصًا، فإن كان لإخلاله بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصا وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصًا عن رتبة أصحاب اليمين المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسبب بالكونيات التي لا يكون عدمها ناقصًا لثواب لم يكن ذلك نقصًا، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافي أو يجىء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه.
وأما القسم الثاني: و هو صاحب الكشف والتأثير الكوني فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصًا، وتارة لا له ولا عليه وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة،
ج/ 11 ص -327-وهذا الثاني بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبيًا، فيكون خير أهل الأرض، وقد يكون ظالمًا من شر الناس، وقد يكون ملكًا عادلًا فيكون من أوساط الناس، فإن العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها بالملك وأسبابه، فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنة روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جسمانية. وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء.
وذلك من وجوه:
أحدها: أن علم الدين طلبًا وخبرًا لا ينال إلا من جهة الرسول ﷺ، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسل وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه إلا هم وأتباعهم.
الثاني: أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله، وصفوته وأحباؤه وأولياؤه، ولا يأمر به إلا هم.
ج/ 11 ص -328-وأما التأثير الكوني: فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر تأثيره في نفسه وفي غيره، كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصًا بالصالحين أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون.
الثالث: أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة ولا يضره. وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة بل قد يضره كما قال تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ" [البقرة:103].
الرابع: أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون، فإن لم يكن فيه فائدة؛ كالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة، والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر، فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله. وهو تحت القدرة والسلطان في الكون، مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام الحالة عند الناس بلا فائدة، فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالبا بغير الخوارق أكثر مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب أخرى،
ج/ 11 ص -329-وأما الآخر أيضًا فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين. والدين وحده موجب للآخرة بلا خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة كحال نبينا محمد ﷺ. وكذلك المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق إنما هو مع الدين. وإلا فالخوارق وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثرًا ضعيفًا.
فإن قيل: مجرد الخوارق إن لم تحصل بنفسها منفعة لا في الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية.
قلت: نحن لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارق في نفسه من غير فعل الناس، وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول أولا: الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر، والمطيع بها خيار بني آدم عقلا ودينًا،وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل فيها إلا جهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي والجبال ونحوهم ممن لا عقل له ولا دين.
ج/ 11 ص -330-ثم نقول ثانيا: لو كان الخارق يناله من الرياسة والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكًا من الملوك، بل ملكه إن لم يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا التي ينالها الملوك بسياستهم و شجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد، فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة.
الخامس: أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير.
وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات،وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها كما يفعله مولهو الأحمدية فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقى نفسه شقاء لا مزيد عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات، وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه لعقوبتهم
ج/ 11 ص -331-ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين فهذا القدر إذا فعله الإنسان مع الناس ولم يكن عمله دينًا يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان للناس يحفظ أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من جنس عمل أولئك سواء.
ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه يحابي بذلك أقوامًا ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من هذه الأمة وغيرهم.وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله؛ لأن ما أمر الله به ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى.
السادس: أن للدين علما وعملا إذا صح فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه،قال الله تعالى: "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ"[الطلاق:2، 3]، وقال تعالى: "إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا" [الأنفال: 29]، وقال تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا" [النساء:66-68]، وقال تعالى: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" [يونس :62: 64].
ج/ 11 ص -332-وقال رسول الله ﷺ: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ قوله تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ" [الحجر :75] رواه الترمذي وحسنه من رواية أبي سعيد.
وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله ﷺ: "من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه" فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوبه به يعلم سمعًا وبصرًا، وبه يعمل بطشًا وسعيًا، وفيه أنه يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف عنه ما يستعيذ به من المضار، وهذا باب واسع.
وأما الخوارق فقد تكون، مع الدين، وقد تكون مع عدمه أو فساده أو نقصه.
ج/ 11 ص -333-السابع: أن الدين هو إقامة حق العبودية وهو فعل ما عليك وما أمرت به، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية إذا لم يؤمر العبد بها، وإن كانت بسعى من العبد فإن الله هو الذي يخلقها بما ينصبه من الأسباب، والعبد ينبغي له أن يهتم بما عليه وما أمر به، وأما اهتمامه بما يفعله الله إذا لم يؤمر بالاهتمام به فهو إما فضول فتكون لما فيها من المنافع كالمنافع السلطانية المالية التي يستعان بها على الدين، كتكثير الطعام والشراب وطاعة الناس إذا رأوها، ولما فيها من دفع المضار عن الدين بمنزلة الجهاد الذي فيه دفع العدو وغلبته.
ثم هل الدين محتاج إليها في الأصل، ولأن الإيمان بالنبوة لا يتم إلا بالخارق أو ليس بمحتاج في الخاصة بل في حق العامة. هذا نتكلم عليه.
وأنفع الخوارق الخارق الديني وهو حال نبينا محمد ﷺ. قال ﷺ: "ما من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر ،وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" أخرجاه في الصحيحين. وكانت آيته هي دعوته وحجته بخلاف غيره من الأنبياء،ولهذا نجد كثيرًا من المنحرفين منا إلى العيسوية يفرون من القرآن، والقال إلى الحال، كما أن المنحرفين منا إلى الموسوية يفرون من الإيمان والحال إلى
ج/ 11 ص -334-القال، ونبينا ﷺ صاحب القال والحال، وصاحب القرآن والإيمان.
ثم بعده الخارق المؤيد للدين المعين له، لأن الخارق في مرتبة "وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"، والدين في مرتبة "إِيَّاكَ نَعْبُدُ"، فأما الخارق الذي لم يعن الدين فإما متاع دنيا، أو مبعد صاحبه عن الله تعالى.
فظهر بذلك أن الخوارق النافعة تابعة للدين حادثة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال بيد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن جعلها هي المقصودة وجعل الدين تابعًا لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل فهو يشبه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة فإن ذلك مأمور به،وهو على سبيل نجاة وشريعة صحيحة.
والعجب أن كثيرًا ممن يزعم أن همه قد ارتفع وارتقى عن أن يكون دينه خوفًا من النار أو طلبًا للجنة، يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا، ولعله يجتهد اجتهادًا عظيمًا في مثله وهذا خطأ، ولكن منهم من يكون قصده بهذا تثبيت قلبه وطمأنينته وإيقانه بصحة طريقه وسلوكه، فهو يطلب الآية علامة وبرهانًا على صحة دينه، كما
ج/ 11 ص -335-تطلب الأمم من الأنبياء الآيات دلالة على صدقهم، فهذا أعذر لهم في ذلك.
ولهذا لما كان الصحابة رضي الله عنهم مستغنين في علمهم بدينهم وعملهم به عن الآيات بما رأوه من حال الرسول ونالوه من علم، صار كل من كان عنهم أبعد مع صحة طريقته يحتاج إلى ما عندهم في علم دينه وعمله.
فيظهر مع الأفراد في أوقات الفترات وأماكن الفترات من الخوارق مالا يظهر لهم ولا لغيرهم من حال ظهور النبوة والدعوة.
فصل
العلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة: حسية وعقلية وكشفية وسمعية، ضرورية ونظرية وغير ذلك، وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما يتبع منها وما لا يتبع في الأحكام الشرعية، أعني الأحكام الشرعية على العلم بالكائنات من طريق الكشف يقظة ومنامًا كما كتبته في الجهاد.
أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان: أمور خبرية اعتقادية وأمور
ج/ 11 ص -336-طلبية عملية.
فالأول: كالعلم بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل في ذلك إخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك.
وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة.
والثاني: الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني.
ج/ 11 ص -337-قد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع، أم لا تعلم إلا بالسمع؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا تثبت به تلك المسائل، فإثباتها بالعقل حتى يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته، وأنه مستوٍ على العرش. ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقًا؛ بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين بما زعموا.
ويزعم كثير من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع واليقين.
ج/ 11 ص -338-يزعم قوم من غالية المتكلمين أنه لا يستدل بالإجماع على شيء، ومنهم من يقول لا يصح الاستدلال به على الأمور العلمية لأنه ظني،وأنواع من هذه المقالات التي ليس هذا موضعها.
فإن طرق العلم والظن وما يتوصل به إليهما من دليل أو مشاهدة، باطنة أو ظاهرة، عام أو خاص، فقد تنازع فيه بنو آدم تنازعًا كثيرًا.
وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك. وكذلك الأمور الكشفية التي للأولياء من أهل الكلام من ينكرها، ومن أصحابنا من يغلو فيها، وخيار الأمور أوساطها.
فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية طريقة أهل الحديث وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفيًا وإثباتًا، فمن الناس من ينكر منها ما لا يعرفه، ومن الناس من يغلو فيما يعرفه، فيرفعه فوق قدره وينفي ما سواه. فالمتكلمة والمتفلسفة تعظم الطرق العقلية وكثير منها فاسد متناقض، وهم أكثر خلق الله تناقضًا واختلافًا، وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعيًا.
ج/ 11 ص -339-طائفة ممن تدعى السنة والحديث يحتجون فيها بأحاديث موضوعة وحكايات مصنوعة يعلم أنها كذب، وقد يحتجون بالضعيف في مقابلة القوى، وكثير من المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفًا وهي خيالات غير مطابقة. وأوهام غير صادقة "إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" [ النجم:28] فنقول:
أما طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عليها في أصول الفقه فهي بإجماع المسلمين [الكتاب] لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك، كما خالف بعض أهل الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الاعتقادية.
والثاني: [السنة المتواترة] التي لا تخالف ظاهر القرآن، بل تفسره، مثل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها، ونصب الزكاة وفرائضها وصفة الحج والعمرة، وغير ذلك من الأحكام التي لم تعلم إلا بتفسير السنة.
وأما السنة المتواترة التي لا تفسر ظاهر القرآن، أو يقال: تخالف ظاهره كالسنة في تقدير نصاب السرقة ورجم الزاني وغير ذلك، فمذهب جميع السلف العمل بها أيضًا إلا الخوارج، فإن من قولهم أو قول بعضهم مخالفة السنة، حيث قال أولهم للنبي ﷺ في وجهه: "إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله". ويحكى عنهم أنهم لا يتبعونه ﷺ إلا فيما بلغه عن الله
ج/ 11 ص -340-من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره، ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. وقال النبي ﷺ لأولهم: "لقد خبت وخسرت إن لم أعدل" فإذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه، فقد اتبع ظالمًا كاذبًا، وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء، ولهذا قال النبي ﷺ: "أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني؟" أو كما قال. يقول ﷺ :إن أداء الأمانة في الوحي أعظم والوحي الذي أوجب الله طاعته هو الوحي بحكمه وقسمه.
وقد ينكر هؤلاء كثيرًا من السنن طعنًا في النقل لا ردًا للمنقول، كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم كالشفاعة والحوض والصراط والقدر وغير ذلك .
الطريق الثالث: [السنن المتواترة] عن رسول الله ﷺ؛ إما متلقاة بالقبول بين أهل العلم بها، أو برواية الثقات لها. وهذه أيضًا مما اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض أهل الكلام. وأنكر كثير منهم أن يحصل العلم بشيء منها وإنما يوجب العلم،فلم
ج/ 11 ص -341-يفرقوا بين المتلقى بالقبول وغيره، وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيرًا منها بشروط اشترطها، ومعارضات دفعها بها ووضعها، كما يرد بعضهم بعضًا، لأنه بخلاف ظاهر القرآن فيما زعم، أو لأنه خلاف الأصول، أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه، أو غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الفقه والحديث وأصول الفقه.
الطريق الرابع: الإجماع، وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالبًا، ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي وغير ذلك.
الطريق الخامس: القياس على النص والإجماع، وهو حجة أيضًا عند جماهير الفقهاء، لكن كثيرًا من أهل الرأي أسرف فيه حتى استعمله قبل البحث عن النص، وحتى رد به النصوص، وحتى استعمل منه الفاسد، ومن أهل الكلام وأهل الحديث وأهل القياس من ينكره رأسًا، وهي مسألة كبيرة والحق فيها متوسط بين الإسراف والنقص.
ج/ 11 ص -342-الطريق السادس: [الاستصحاب]، وهو البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في اعتقاد العدم؟ فيه خلاف، ومما يشبهه الاستدلال بعدم الدليل السمعي على عدم الحكم الشرعي، مثل أن يقال: لو كانت الأضحية أو الوتر واجبًا لنصب الشرع عليه دليلا شرعيًا، إذ وجوب هذا لا يعلم بدون الشرع، ولا دليل، فلا وجوب.
فالأول يبقى على نفي الوجوب والتحريم المعلوم بالعقل حتى يثبت المغير له، وهذا استدلال بعدم الدليل السمعي المثبت على عدم الحكم، إذ يلزم من ثبوت مثل هذا الحكم ثبوت دليله السمعي، كما يستدل بعدم النقل لما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وما توجب الشريعة نقله، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم ينقلونه على أنه لم يكن، كالاستدلال بذلك على عدم زيادة في القرآن وفي الشرائع الظاهرة، وعدم النص الجلي بالإمامة على علي أو العباس أو غيرهما، ويعلم الخاصة من أهل العلم بالسنن والآثار وسيرة النبي ﷺ وخلفائه انتفاء أمور من هذا، لا يعلم انتفاءها غيرهم ولعلمهم بما ينفيها من أمور منقولة يعلمونها هم، ولعلمهم بانتفاء لوازم نقلها، فإن وجود أحد الضدين ينفي الآخر، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.
الطريق السابع: [المصالح المرسلة]، وهو أن يرى المجتهد أن هذا
ج/ 11 ص -343-الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه؛ فهذه الطريق فيها خلاف مشهور. فالفقهاء يسمونها [المصالح المرسلة]. ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان. وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.
وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي. فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقط فقد قصر.
وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه
ج/ 11 ص -344-وربما قدم على المصالح المرسلة كلامًا بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعًا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه.
وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصًا ولا قياسًا.
والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبًا. وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك. فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسنًا كما أن الاستقباح رؤيته قبيحًا، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق .
والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي ﷺ وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان
ج/ 11 ص -345-الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة، وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرًا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر: "قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" [البقرة:219] .
وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك حسبوه منفعة أو مصلحة نافعًا وحقًا وصوابًا ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم، فقد "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" [الكهف:104] وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا، فإذا كان الإنسان يرى حسنًا ما هو سيّئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب.
وهذا بخلاف الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا. فإن باب جحود الحق ومعاندته غير باب جهله والعمى عنه، والكفار فيهم هذا وفيهم هذا، وكذلك في أهل الأهواء من المسلمين القسمان. فإن الناس كما أنهم في باب الفتوى والحديث
ج/ 11 ص -346-يخطئون تارة ويتعمدون الكذب أخرى، فكذلك هم في أحوال الديانات، وكذلك في الأفعال قد يفعلون مايعلمون أنه ظلم وقد يعتقدون أنه ليس بظلم هو ظلم، فإن الإنسان كما قال الله تعالى: "وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" [الأحزاب:72] فتارة يجهل وتارة يظلم: ذلك في قوة علمه وهذا في قوة عمله.
واعلم أن هذا الباب مشترك بين أهل العلم والقول وبين أهل الإرادة والعمل، فذلك يقول: هذا جائز أو حسن بناء على ما رآه وهذا يفعله من غير اعتقاد تحريمه أو اعتقاد أنه خير له كما يجد نفعًا في مثل السماع المحدث: سماع المكاء والتصدية واليراع التي يقال لها: الشبابة والصفارة والأوتار وغير ذلك، وهذا يفعله لما يجده من لذته وقد يفعله لما يجده من منفعة دينه بزيادة أحواله الدينية كما يفعل مع القرآن.
وهذا يقول:هذا جائز لما يرى من تلك المصلحة والمنفعة،وهو نظير المقالات المبتدعة. وهذا يقول: هو حق لدلالة القياس العقلي عليه. وهذا يقول: يجوز ويجب اعتقادها وإدخالها في الدين إذا كانت كذلك، وكذلك سياسات ولاة الأمور من الولاة والقضاة وغير ذلك.
واعلم أنه لا يمكن العاقل أن يدفع عن نفسه أنه قد يميز بعقله بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وبين النافع والضار،
ج/ 11 ص -347-والمصلحة والمفسدة، ولا يمكن المؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات، ولهذا لم يختلف الناس أن الحسن أو القبيح إذا فسر بالنافع والضار والملائم للإنسان والمنافي له واللذيذ والأليم فإنه قد يعلم بالعقل، هذا في الأفعال .
وكذلك إذا فسر حسنه بأنه موجود أو كمال الموجود يوصف بالحسن ومنه قوله تعالى: "وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى" [الأعراف:180]، وقوله: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" [السجدة: 7] كما نعلم أن الحي أكمل من الميت في وجوده، وأن العالم أكمل من الجاهل، وأن الصادق أكمل من الكاذب فهذا أيضًا قد يعلم بالعقل. وإنما اختلفوا في أن العقل هل يعتبر المنفعة والمضرة. وأنه هل [باب التحسين] واحد في الخالق والمخلوق.
فأما الوجهان الأولان فثابتان في أنفسهما، ومنهما ما يعلم بالعقل: الأول في الحق المقصود، والثاني في الحق الموجود. [الأول] متعلق بحب القلب وبغضه وإرادته وكراهته وخطابه بالأمر والنهي. و[الثاني] متعلق بتصديقه وتكذيبه وإثباته ونفيه وخطابه الخبري المشتمل على النفي والإثبات، والحق والباطل يتناول النوعين، فإن الحق يكون بمعنى الموجود الثابت، والباطل بمعنى المعدوم المنتفي، والحق بإزاء ما ينبغي قصده وطلبه وعمله، وهو النافع.
والباطل بإزاء مالا ينبغي قصده ولا طلبه ولا عمله، وهو
ج/ 11 ص -348-غير النافع. والمنفعة تعود إلى حصول النعمة واللذة والسعادة التي هي حصول اللذة، ودفع الألم هو حصول المطلوب، وزوال المرهوب. حصول النعيم وزوال العذاب. وحصول الخير وزوال الشر. ثم الموجود والنافع قد يكون ثابتًا دائمًا، وقد يكون منقطعًا لا سيما إذا كان زمنًا يسيرًا فيستعمل الباطل كثيرًا بإزاء ما لا يبقى من المنفعة، وبإزاء ما لا يدوم من الوجود. كما يقال: الموت حق والحياة باطل، وحقيقته أنه يستعمل بإزاء ما ليس من المنافع خالصًا أو راجحًا، كما تقدم القول فيه فيما يزهد فيه، وهو ما ليس بنافع، والمنفعة المطلقة هي الخالصة أوالراجحة، وأما ما يفوت أرجح منها أو يعقب ضررًا ليس هو دونها فإنها باطل في الاعتبار، والمضرة أحق باسم الباطل من المنفعة. وأما ما يظن فيه منفعة وليس كذلك أو يحصل به لذة فاسدة فهذا لا منفعة فيه بحال. فهذه الأمور التي يشرع الزهد فيها وتركها وهي باطل؛ ولذلك ما نهى الله عنه ورسوله باطل ممتنع أن يكون مشتملًا على منفعة خالصة أو راجحة. ولهذا صارت أعمال الكفار والمنافقين باطلة لقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ" [الآية البقرة:264]. وأخبر أن صدقة المرائي والمنان باطلة لم يبق فيها منفعة له.
وكذلك قوله تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ" [ محمد :33] وكذلك الإحباط في
ج/ 11 ص -349-مثل قوله :"وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ" [المائدة:5] ولهذا تسميه الفقهاء العقود.
والعبادات بعضها صحيح، وبعضها باطل، وهوما لم يحصل به مقصوده ولم يترتب عليه أثره، فلم يكن فيه المنفعة المطلوبة منه. ومن هذا قوله: "وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء" [الآية النور:39].وقوله: "مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ" [آل عمران: 117]، وقوله: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا" [الفرقان: 23] ولذلك وصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة ليست مطابقة ولا حقًا، كما أن الأعمال ليست نافعة.
وقد توصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة إذا كانت غير مطابقة إن لم يكن فيها منفعة، كقوله ﷺ: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" فيعود الحق فيما يتعلق بالإنسان إلي ما ينفعه من علم وقول وعمل وحال، قال الله تعالى: "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ" [الرعد:17]، وقال تعالى: "الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ" إلى قوله: "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ" [محمد 1-3] .
ج/ 11 ص -350-وإذا كان كذلك وقد علم أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل حابط لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل،لأن ما لم يرد به وجهه إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا أو في الآخرة. فالأول ظاهر، وكذلك منفعته في الآخرة بعد الموت، فإنه قد ثبت بنصوص المرسلين أنه بعد الموت لا ينفع الإنسان من العمل إلا ما أراد به وجه الله.
وأما في الدنيا فقد يحصل له لذات وسرور، وقد يجزى بأعماله في الدنيا.لكن تلك اللذات إذا كانت تعقب ضررًا أعظم منها وتفوت أنفع منها وأبقى فهي باطلة أيضًا،فثبت أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة مَّا.
وأما الكائنات فقد كانت معدومة منتفية، فثبت أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكما قال ﷺ: "أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" وأنها تجمع الحق الموجود والحق المقصود، وكل موجود بدون الله باطل، وكل مقصود بدون قصد الله فهو باطل، وعلى هذين فقد فسر قوله: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" [القصص :88]: إلا ما أريد به وجهه، وكل شيء معدوم إلا من جهته.
هذا على قول، وأما القول الآخر وهو المأثور عن طائفة من السلف وبه فسره الإمام أحمد رحمه
ج/ 11 ص -351-الله تعالى في رده على الجهمية والزنادقة قال أحمد: وأما قوله: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" [ القصص: 88 ]، وذلك أن الله أنزل "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ" [الرحمن: 26] فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأنزل الله تعالى أنه يخبر عن أهل السموات والأرض أنكم تموتون فقال: كل شيء من الحيوان هالك يعني ميتًا إلا وجهه، فإنه حي لا يموت، فلما ذكر ذلك أيقنوا عند ذلك بالموت، ذكر ذلك في رده على الجهمية قولهم أن الجنة والنار تفنيان.
وقد تبين مما ذكرناه أن الحسن هو الحق والصدق والنافع والمصلحة والحكمة والصواب. وأن الشيء القبيح هو الباطل والكذب والضار والمفسدة والسفه والخطأ.
وأما مواضع الاشتباه والنزاع واختلاف الخلائق فموضع واحد، وذلك أن فعل الله كله حسن جميل، قال الله عز وجل: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" [السجدة: 7]، وقال تعالى: "صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ" [النمل:88]، وقال تعالى:"وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"[الأعراف: 180].
وقال النبي ﷺ: "إن الله جميل يحب الجمال" وهو حكم عدل، قال الله تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [آل عمران:18]،
ج/ 11 ص -352-وقال تعالى :"إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا" [النساء:40]، وقال تعالى:"وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" [الأنعام:73]. وهذا كله متفق عليه بين الأمة مجملًا غير مفسر فإذا فسر تنازعوا فيه.
وذلك أن هذه الأعمال الفاسدة والآلام وهذا الشر الوجودي المتعلق بالحيوان، وأنه لا يخلو عن أن يكون عملًا من الأعمال، أو أن يكون ألمًا من الآلام الواقعة بالحيوان، وذلك العمل القبيح والألم شره من ضرره، وهذا العمل والتألم: المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أن الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وإن الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعوض بنفع لاحق، وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون: بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضار والمنافع، والخير والشر بالنسبة إليه.
ويقول هؤلاء: إنه لا يتصور أن يفعل ظلمًا ولا سفها أصلا، بل لو فرض أنه فعل أي شيء كان فعله حكمة وعدلًا وحسنًا، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه وهو لم ينهه أحد، ويسوون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين.
والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد ولا يتضرر
ج/ 11 ص -353-بمعصيتهم،لكن الأولون يقولون: الإحسان إلى الغير حسن لذاته وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة.
والآخرون يقولون: ما حسن منا حسن منه، وما قبح منا قبح منه، والآخرون مع جمهور الخلائق ينكرون، والأولون يقولون: إذا أمر بالشيء فقد أراده منا. لا يعقل الحسن والقبيح إلا ما ينفع أو يضر، كنحو ما يأمر الواحد منا غيره بشيء فإنه لابد أن يريده منه ويعينه عليه، وقد أقدر الكفار بغاية القدرة، ولم يبق يقدر على أن يجعلهم يؤمنون اختيارًا، وإنما كفرهم وفسوقهم وعصيانهم بدون مشيئته واختياره. وآخرون يقولون: الأمر ليس بمستلزم الإرادة أصلا، وقد بينت التوسط بين هذين في غير هذا الموضع، وكذلك أمره. والأولون يقولون: لا يأمر إلا بما فيه مصلحة العباد، والآخرون يقولون: أمره لا يتوقف على المصلحة.
وهنا مقدمات، تكشف هذه المشكلات.
إحداها: أنه ليس ما حسن منه حسن منا وليس ما قبح منه يقبح منا، فإن المعتزلة شبهت الله بخلقه، وذلك أن الفعل يحسن منا لجلبه المنفعة، ويقبح لجلبه المضرة، ويحسن لأنا أمرنا به، ويقبح لأنا نهينا عنه، وهذان الوجهان منتفيان في حق الله تعالى قطعًا، ولو كان
ج/ 11 ص -354-الفعل يحسن باعتبار آخر كما قال بعض الشيوخ :
ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا
المقدمة الثانية: إن الحسن والقبح قد يكونان صفة لأفعالنا، وقد يدرك بعض ذلك بالعقل، وإن فسر ذلك بالنافع والضار والمكمل والمنقص فإن أحكام الشارع فيما يأمر به وينهى عنه تارة تكون كاشفة للصفات الفعلية ومؤكدة لها وتارة تكون مبينة للفعل صفات لم تكن له قبل ذلك، وإن الفعل تارة يكون حسنه من جهة نفسه، وتارة من جهة الأمر به وتارة من الجهتين جميعًا. ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به وإن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها.
المقدمة الثالثة: أن الله خلق كل شيء وهو على كل شيء قدير. ومن جعل شيئًا من الأعمال خارجًا عن قدرته ومشيئته فقد ألحد في أسمائه وآياته بخلاف ما عليه القدرية.
المقدمة الرابعة: أن الله إذا أمر العبد بشيء فقد أراده منه
ج/ 11 ص -355-إرادة شرعية دينية، وإن لم يرده منه إرادة قدرية كونية، فإثبات إرادته في الأمر مطلقًا خطأ، ونفيها عن الأمر مطلقًا خطأ، وإنما الصواب التفصيل كما جاء في التنزيل: "يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"[البقرة:185]، "يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ" [النساء:28]، "مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ" [المائدة :6] وقال:"فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا" [الأنعام:125]، وقال: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ" [المائدة:41]، وقال: "وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" [البقرة:253] وأمثال ذلك كثير.
المقدمة الخامسة: أن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني، وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة. هذا قول جمهور أهل السنة.
ومن قال: إن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات، فإنه يستلزم أحد الأمرين: إما أن الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته، وهذا قول القدرية، أو يقول: إنه لما كان مريدًا لها شاءها فهو محب لها راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات. وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وليس هذا
ج/ 11 ص -356-المعنى ثابتًا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأحسن ما يتعذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات: إن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونًا. فكذلك أحبها ورضيها كونا. وهذا فيه نظر مذكور في غير هذا الموضع.
فإن قيل: تقسيم الإرادة لا يعرف في حقنا، بل إن الأمر منه بالشيء إما يريده أو لا يريده، وأما الفرق بين الإرادة والمحبة فقد يعرف في حقنا فيقال: وهذا هو الواجب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، وليس أمره لنا كأمر الواحد منا لعبده وخدمه، وذلك أن الواحد منا إذا أمر عبده فإما أن يأمره لحاجته إليه أو إلى المأمور به أو لحاجته إلى الأمر فقط، فالأول كأمر السلطان جنده بما فيه حفظ ملكه ومنافعهم له، فإن هداية الخلق وإرشادهم بالأمر والنهي هي من باب الإحسان إليهم، والمحسن من العباد يحتاج إلى إحسانه قال الله تعالى: "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا" [الإسراء: 7]، وقال :"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا" [فصلت:46].
والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو محتاج إلى
ج/ 11 ص -357-أمرهم وإنما أمرهم إحسانًا منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وإرسال الرسل، وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه كما قال:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" [الأنبياء:107]، وقال تعالى:"لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ" [آل عمران: 164]، وقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ" [ يونس: 57، 58] فمن أنعم الله عليه مع الأمر بالامتثال فقد تمت النعمة في حقه كما قال: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" [المائدة:3]، وهؤلاء هم المؤمنون. ومن لم ينعم عليه بالامتثال بل خذله حتى كفر وعصى فقد شقى لما بدل نعمة الله كفرًا كما قال: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ" [إبراهيم:28] والأمر والنهي الشرعيان لما كانا نعمة ورحمة عامة لم يضر ذلك عدم انتفاع بعض الناس بهما من الكفار، كإنزال المطر وإنبات الرزق هو نعمة عامة وإن تضرر بها بعض الناس لحكمة أخرى كذلك مشيئته لما شاءه من المخلوقات وأعيانها وأفعالها لا يوجب أن يحب كل شيء منها فإذا أمر العبد بأمر فذاك إرشاد ودلالة، فإن فعل المأمور به صار محبوبًا لله، وإلا لم يكن محبوبًا له وإن كان مرادًا له، وإرادته له تكوينًا لمعنى آخر. فالتكوين غير التشريع.
فإن قيل: المحبة والرضا يقتضيان ملاءمة ومناسبة بين المحب
ج/ 11 ص -358-والمحبوب ويوجب للمحب بدرك محبوبه فرحًا ولذة وسرورًا، وكذلك البغض لا يكون إلا عن منافرة بين المبغض والمبغض، وذلك يقتضي للمبغض بدرك المبغض أذى وبغضًا ونحو ذلك، والملاءمة والمنافرة تقتضي الحاجة، إذ ما لا يحتاج الحي إليه لا يحبه، وما لا يضره كيف يبغضه؟ والله غني لا تجوز عليه الحاجة، إذ لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه وإمكانه وهو غني عن العالمين، وقد قال تعالى أي في الحديث القدسي : "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" فلهذا فسرت المحبة والرضا بالإرادة إذ يفعل النفع والضر. فيقال الجواب من وجهين:
أحدهما: الإلزام، وهو أن نقول: الإرادة لا تكون إلا للمناسبة بين المريد والمراد، وملائمته في ذلك تقتضي الحاجة، وإلا فما لايحتاج إليه الحي لاينتفع به ولا يريده، ولذلك إذا أراد به العقوبة والإضرار لا يكون إلا لنفرة وبغض، وإلا فما لم يتألم به الحي أصلا لا يكرهه ولا يدفعه، وكذلك نفس نفع الغير وضرره هو في الحي متنافر من الحاجة، فإن الواحد منا إنما يحسن إلى غيره لجلب منفعة أو لدفع مضرة، وإنما يضر غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة، فإذا كان الذي يثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه لم يكن إثبات إحداهما ونفى الأخرى أولى من العكس، ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة
ج/ 11 ص -359-وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره لم يكن بينهما فرق، وحينئذ فالواجب إما نفي الجميع ولا سبيل إليه للعلم الضروري بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم وإن ذلك يستلزم الإرادة، وإما إثبات الجميع كما جاءت به النصوص، وحينئذ فمن توهم أنه يلزم من ذلك محذور فأحد الأمرين لازم، إما أن ذلك المحذور لا يلزم أو أنه إن لزم فليس بمحذور.
الجواب الثاني: إن الذي يعلم قطعًا هو أن الله قديم واجب الوجود كامل، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا الإمكان ولا النقص، لكن كون هذه الأمور التي جاءت بها النصوص مستلزمة للحدوث والإمكان أو النقص هو موضع النظر، فإن الله غني واجب بنفسه، وقد عرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه ولا إمكانه ولا حاجته. وأن قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله مفتقر إلى ذاته، و معلوم أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه، فتوهم حاجة نفسه إلى نفسه، إن عنى به أن ذاته لا تقوم إلا بذاته فهذا حق، فإن الله غني عن العالمين وعن خلقه، وهوغني بنفسه.
وأما إطلاق القول بأنه غني عن نفسه فهو باطل فإنه محتاج إلى نفسه،وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد، ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا كان سبحانه عليمًا يحب العلم، عفوًا يحب العفو، جميلًا يحب
ج/ 11 ص -360-الجمال، نظيفًا يحب النظافة، طيبًا يحب الطيب، وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، وهو سبحانه الجامع لجميع الصفات المحبوبة، والأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو يحب نفسه ويثنى بنفسه على نفسه، والخلق لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه، فالعبد المؤمن يحب نفسه، ويحب في الله من أحب الله وأحبه الله، فالله سبحانه أولى بأن يحب نفسه، ويحب في نفسه عباده المؤمنين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن هؤلاء ويفرح بهم، ويفرح بتوبة عبده التائب من أولئك، ويمقت الكفار ويبغضهم، ويحب حمد نفسه والثناء عليه، كما قال النبي ﷺ للأسود بن سريع لما قال: إنني حمدت ربي بمحامد فقال: "إن ربك يحب الحمد" وقال ﷺ: "لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، ولا أحد أصبر على أذى من الله، يجعلون له ولدا وشريكًا وهو يعافيهم ويرزقهم".
فهو يفرح بما يحبه، ويؤذيه ما يبغضه، ويصبر على ما يؤذيه، وحبه، ورضاه وفرحه وسخطه وصبره على ما يؤذيه كل ذلك من كماله وكل ذلك من صفاته وأفعاله، وهو الذي خلق الخلائق وأفعالهم، وهم لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، وإذا فرح ورضي بما فعله بعضهم فهو سبحانه الذي خلق فعله، كما أنه إذا فرح ورضى بما يخلقه فهو الخالق، وكل الذين يؤذون الله ورسوله هو الذي مكنهم وصبر على أذاهم بحكمته
ج/ 11 ص -361-فلم يفتقر إلى غيره، ولم يخرج شيء عن مشيئته ولم يفعل أحد ما لا يريد، وهذا قول عامة القدرية ونهاية الكمال والعزة.
وأما الإمكان لو افتقر وجوده إلى فرح غيره، وأما الحدوث فيبنى على قيام الصفات فيلزم منه حدوثه، وقد ذكر في غير هذا الموضع أن ما سلكه الجهمية في نفي الصفات فمبناه على القياس الفاسد المحض وله شرح مذكور في غير هذا الموضع.
ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام والإتقان وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال، وأنه تعالى ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصًا؛ بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم يكن فاعله، وأنه إذا كان كاملا بذاته وصفاته وأفعاله لم يكن كاملًا بغيره ولا مفتقرًا إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء، وقال تعالى :"لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ" [آل عمران:181]، وهو سبحانه في محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا تحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه، له الغنى الذي لا يفتقر إلى سواه، "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا" [مريم : 93: 95].
ج/ 11 ص -362-فهذا الأصل العظيم وهو مسألة خلقه وأمره وما يتصل به من صفاته وأفعاله من محبته ورضاه وفرحه بالمحبوب وبغضه وصبره على ما يؤذيه هي متعلقة بمسائل القدر ومسائل الشريعة، والمنهاج الذي هو المسؤول عنه ومسائل الصفات ومسائل الثواب والعقاب والوعد والوعيد، وهذه الأصول الأربعة كلية جامعة وهي متعلقة به وبخلقه.
وهي في عمومها وشمولها وكشفها للشبهات تشبه مسألة الصفات الذاتية والفعلية، ومسألة الذات والحقيقة والحد وما يتصل بذلك من مسائل الصفات والكلام في حلول الحوادث ونفي الجسم وما في ذلك من تفصيل وتحقيق.
فإن المعطلة والملحدة في أسمائه وآياته كذبوا بحق كثير جاءت به الرسل بناء على ما اعتقدوه من نفي الجسم والعرض ونفي حلول الحوادث ونفي الحاجة.
وهذه الأشياء يصح نفيها باعتبار ، ولكن ثبوتها يصح باعتبار آخر، فوقعوا في نفي الحق الذي لا ريب فيه، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وفطرت عليه الخلائق، ودلت عليه الدلائل السمعية والعقلية، والله أعلم.