أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل عن جماعة يجتمعون في مجلس ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوى

    ج/ 11 ص -85-سئل الشيخ العالم العلامة إمام الوقت، فريد الدهر، جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان مفتى الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني رضي اللّه عنه ونفع به آمين في جماعة يجتمعون في مجلس، ويلبسون لشخص منهم لباس ‏[‏الفتوة‏]‏ ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها ويزعمون أن هذا من الدين، ويذكرون في مجلسهم ألفاظًا لا تليق بالعقل والدين‏.‏
    فمنها أنهم يقولون‏:‏ إن رسول اللّه ﷺ ألبس علي ابن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه - لباس الفتوة، ثم أمره أن يلبس من شاء، ويقولون‏:‏ إن اللباس أنزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صندوق، ويستدلون عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏
    "يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏26‏]‏، فهل هو كما زعموا ‏؟‏ أم

    ج/ 11 ص -86-كذب مختلق‏؟‏ وهل هو من الدين أم لا‏؟‏ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من يفعل ذلك أو يعين عليه‏؟‏ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين اللّه‏.‏ إلى عبد الجبار ويزعم أن ذلك من الدين؛ فهل لذلك أصل أم لا‏؟‏
    وهل الأسماء التي يسمون بها يعضهم بعضا من اسم الفتوة، ورؤوس الأحزاب والزعماء فهل لهذا أصل أم لا‏؟‏ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه ‏[‏دسكرة‏]‏ ويقوم للقوم نقيب إلى الشخص الذي يلبسونه فينزعه اللباس الذي عليه بيده، ويلبسه اللباس الذي يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائر‏.‏ أم لا ‏؟‏ وإذا قيل‏:‏ لايجوز فعل ذلك ولا الإعانة عليه، فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك‏؟‏
    وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا‏؟‏ وإذا قيل‏:‏ لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر أن ينكر عليهم، ويمنعهم من ذلك أم لا مع تمكنه من الإنكار‏؟‏ وهل أحد من الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم، أو التابعين، أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا‏؟‏
    وهل خلق النبي ﷺ من النور‏؟‏ أم خلق من الأربع عناصر‏؟‏ أم من غير ذلك‏؟‏ وهل الحديث الذي يذكره بعض الناس‏:‏ ‏"‏لولاك ماخلق اللّه عرشًا‏.‏ ولا كرسيًا، ولا أرضًا، ولا سماء،

    ج/ 11 ص -87-ولا شمسًا، ولا قمرًا ولا غيرذلك ‏"‏ صحيح هو أم لا‏؟‏
    وهل ‏[‏الأخوة‏]‏ التي يواخيها المشائخ بين الفقراء في السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا‏؟‏ وهل آخي رسول اللّه ﷺ بين المهاجرين والأنصار‏؟‏ أم بين كل مهاجري وأنصاري‏؟‏ وهل آخى رسول اللّه ﷺ على بن أبي طالب- كرم اللّه وجهه -أم لا‏؟‏ بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة، وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطا شافيًا مأجورين‏.‏ أثابكم اللّه تعالى‏.‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه‏.‏ أما ما ذكر من إلباس لباس ‏[‏الفتوة‏]‏ السراويل أو غيره، وإسقاء الملح والماء فهذا باطل، لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول اللّه ﷺ، ولا أحد من أصحابه‏.‏ لا علي ابن أبي طالب ولا غيره، ولا من التابعين لهم بإحسان‏.‏
    والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة، فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف، ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي ﷺ بمثل هذا الإسناد المجهول

    ج/ 11 ص -88-الرجال أمرًا من الأمور التي لا تعرف عنه، فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه‏؟‏‏!‏ فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه وعلى علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه، وما ذكروه من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب، باتفاق العارفين بسنته‏.‏
    و ‏[‏اللباس الذى يوارى السوءة‏]‏ هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح‏.‏ أنزل الله تعالى هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، ويقولون‏:‏ ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله‏:‏ ‏
    "خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏"‏ ‏[‏ الأعراف‏:‏ 13‏]‏‏.‏
    والكذب فى هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبى ﷺ تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه وقال له‏:‏ إن ربك يطلب نصيبه من زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش‏.‏ فهذا أيضًا كذب باتفاق أهل المعرفة؛ فإن النبى ﷺ لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف، ولا سماع دفوف وشبابات، ولا رقص ولا سقط عنه ثوب من ثيابه فى ذلك، ولا قسمه على أصحابه، وكل ما يروى من ذلك فهو كذب مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته ‏.

    ج/ 11 ص -89-فصل
    والشروط التي تشترطها شيوخ ‏[‏الفتوة‏]‏ ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم ونصر المظلوم، وصلة الأرحام والوفاء بالعهد‏.‏ أو كانت مستحبة‏:‏ كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذى يحبه الله ورسوله وأن يجتمعوا على السنة، ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة، ونحوذلك‏.‏ فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله‏:‏ مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية، أن كلا منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهى شروط ليست في كتاب الله‏.‏
    وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏المسلمون عند شروطهم‏:‏ إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالا‏"‏ وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، ما كان من الأمر المشروط الذى قد أمر الله به ورسوله

    ج/ 11 ص -90-فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله‏.‏ وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه، كما نهى الله عنه ورسوله، وليس لبنى آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بنى آدم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ‏"‏[‏ البقرة‏:‏ 40 ‏]‏‏.‏
    وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر أو يعقده الاثنان‏:‏ كعقد البيع والإجارة، والهبة وغيرهما، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين‏:‏ كعقد الوقف والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئًا مما نهى الله عنه ورسوله كان شرطه باطلا‏.‏ وفي الصحيح عن عائشة رضى الله عنها عن النبى ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "‏من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه‏"‏‏.‏ والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هى من جنس دين الجاهلية، وهى شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقودًا أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله ‏.‏
    فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه ‏.‏

    ج/ 11 ص -91-فصل
    وأما لفظ ‏[‏الفتى‏]‏ فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى‏:‏ ‏"إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ‏"‏[‏الكهف‏:‏13‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏60‏]‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ‏"‏[‏الكهف‏:‏ 60‏]‏؛ لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ ‏[‏الفتوة‏]‏ عن مكارم الأخلاق‏.‏ كقول بعضهم‏:‏ طريقنا تفتى وليس تنصر‏.‏ وقوله بعضهم‏:‏ ‏[‏الفتوة‏]‏ أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسىء إليك، سماحة لا كظمًا، ومودة لا مضارة وقول بعضهم‏:‏ ‏[‏الفتوة‏]‏ ترك ما تهوى لما تخشى، وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة، سواء سميت فتوة أو لم تسم، وهى لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء‏.‏ كلفظ الإحسان والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم، وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، والزكاة والخير‏.‏ ونحو ذلك من الأسماء الحسنة التي تتضمن هذه المعانى، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب، والخيانة،

    ج/ 11 ص -92-والفجور، والظلم والفاحشة ونحو ذلك ‏.‏
    وأما لفظ ‏[‏الزعيم‏]‏ فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى‏:‏
    ‏"وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ‏"‏[‏يوسف‏:‏72‏]‏ فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال‏:‏ هو زعيم؛ فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًا كان مذمومًا على ذلك ‏.‏
    وأما ‏[‏رأس الحزب‏]‏ فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أى تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم‏.‏ وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذى ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان ‏.‏
    وفي الصحيحين عن النبى ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"‏مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر‏"‏ وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا‏"‏ وشبك بين

    ج/ 11 ص -93-أصابعه‏.‏وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله‏"‏ وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‏"‏ قيل‏:‏ يا رسول الله أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا ‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏خمس تجب للمسلم على المسلم‏:‏ يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويشيعه إذا مات‏"‏‏.‏ وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه‏"‏‏.‏
    فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض‏.‏ وفي الصحيحين عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا‏"‏، وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله يرضى لكم ثلاثًا‏:‏ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا؛ وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم‏"‏‏.‏
    وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال‏:‏
    ‏"‏ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏صلاح ذات البين، فإن

    ج/ 11 ص -94-فساد ذات البين هى الحالقة، لا أقول تحلق الشعر‏.‏ ولكن تحلق الدين‏"‏ فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها ‏.‏
    وأما لفظ ‏[‏الدسكرة‏]‏ فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة فيتعلق بها حمد أو ذم، ولكن هى في عرف الناس يعبر بها عن المجامع‏.‏ كما في حديث هرقل‏:‏ أنه جمع الروم في دسكرة؛ ويقال للمجتمعين على شرب الخمر‏:‏ إنهم في دسكرة؛ فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب؛ لأن الغالب في عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء‏.‏
    والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض على كل مسلم، لكنه من فروض الكفايات، فإن قام بهما من يسقط به الفرض من ولاة الأمر، أو غيرهم‏.‏ وإلا وجب على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه ‏.‏
    فصل
    والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خلق مما يخلق منه البشر؛ ولم يخلق أحد من البشر من نور، بل قد ثبت في الصحيح عن النبى

    ج/ 11 ص -95-صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إن الله خلق الملائكة من نور؛ وخلق إبليس من مارج من نار؛ وخلق آدم مما وصف لكم‏"‏ وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت منه فقط؛ بل قد يخلق المؤمن من كافر، والكافر من مؤمن، كابن نوح منه وكإبراهيم من آزر، وآدم خلقه الله من طين، فلما سواه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شىء وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك‏.‏ فهو وصالحو ذريته أفضل من الملائكة؛ وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين، وهؤلاء من نور ‏.‏وهذه ‏[‏مسألة كبيرة‏]‏ مبسوطة في غير هذا الموضع، فإن فضل بنى آدم هو بأسباب يطول شرحها هنا‏.‏ وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار‏:‏ ‏"وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏"‏[‏الرعد‏:‏23، 24‏]‏ والآدمى خلق من نطفة، ثم من مضغة، ثم من علقة، ثم انتقل من صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله، وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذى تشابه أول أمره وآخره‏.‏ ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء حيث نظر إلى أحوال الأنبياء‏.‏ وهم في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات الكمال ‏.‏

    ج/ 11 ص -96-وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة، والله تعالى أظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحى الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة، حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات‏.‏ فخلق بدنه من الأرض، وروحه من الملأ الأعلى، ولهذا يقال‏:‏ هو العالم الصغير، وهو نسخة العالم الكبير ‏.‏ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الخلق، وأكرمهم عليه‏.‏ ومن هنا قال من قال‏:‏ إن الله خلق من أجله العالم، أو أنه لولا هو لما خلق عرشًا، ولا كرسيًا، ولا سماء ولا أرضًا ولا شمسًا ولا قمرًا‏.‏
    لكن ليس هذا حديثًا عن النبى ﷺ لا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبى ﷺ، بل ولا يعرف عن الصحابة، بل هو كلام لا يدرى قائله‏.‏ ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله‏:‏ ‏
    "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏"‏ ‏[‏الجاثية ‏:‏13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 32 34 ‏]‏ وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبنى آدم‏.‏ ومعلوم أن لله فيها حكمًا عظيمة غير ذلك،

    ج/ 11 ص -97-وأعظم من ذلك‏.‏ ولكن يبين لبنى آدم ما فيها من المنفعة، وما أسبغ عليهم من النعمة ‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ فعل كذا لكذا لم يقتض ألا يكون فيه حكمة أخرى‏.‏ وكذلك قول القائل‏:‏ لولا كذا ما خلق كذا‏.‏ لا يقتضى ألا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضى إذا كان أفضل صالحى بنى آدم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة بالغة مقصودة أعظم من غيره، صار تمام الخلق، ونهاية الكمال، حصل بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ‏.‏
    والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان آخر الخلق يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد العصر في آخر يوم الجمعة‏.‏ وسيد ولد آدم هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم آدم فمن دونه تحت لوائه قال صلى الله تعالى عليه وسلم‏:‏
    ‏"‏إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل ‏[‏منجدل‏:‏ أى ملقى على الجَدَالة وهى الأرض‏.‏ انظر غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1248‏]‏ في طينته‏"‏ أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه، كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقى أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه‏.‏
    فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها

    ج/ 11 ص -98-وهو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقًا، ومحمد إنسان هذا العين، وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما ينكر أن يقال‏:‏ إنه لأجله خلقت جميعها، وأنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل علىه الكتاب والسنة قبل ذلك ‏.‏
    وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض المخلوقات في شىء من الربوبية، كان ذلك مردودًا غير مقبول، فقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال‏:‏
    ‏"‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏"‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏171‏]‏ ‏.‏
    والله قد جعل له حقًا لا يشركه فيه مخلوق فلا تصلح العبادة إلا له، ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به ‏
    "وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏"‏ ‏[‏سبأ‏:‏23‏]‏، ‏"مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]

    ج/ 11 ص -99-‏"إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏93 95‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏"‏ ‏[‏ النور‏:‏52‏]‏، فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك في قوله‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏59‏]‏ فالإيتاء لله والرسول‏.‏ وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده ‏.‏
    فصل
    وأما ‏[‏المؤاخاة‏]‏ فإن النبى ﷺ آخى بين المهاجرين والأنصار، لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسى وبين أبى الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة، حتى أنزل الله تعالى‏:‏
    ‏"وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ‏"‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏ 75 ‏]‏ فصاروا يتوارثون بالقرابة‏.‏ وفي ذلك أنزل الله تعالى‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏"‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 33 ‏]‏ وهذا هو المحالفة‏.‏ واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ‏؟‏ على قولين‏:‏

    ج/ 11 ص -100-أحدهما‏:‏ أن ذلك منسوخ، وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة‏"‏‏.‏
    والثاني‏:‏ أن ذلك محكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه‏.‏
    وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال‏:‏ إنه آخى بين أبى بكر وعمر، وأنه آخى عليًا ونحو ذلك، فهذا كله باطل، وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة، وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة، وذلك نقل ضعيف‏:‏ إما منقطع، وإما بإسناد ضعيف‏.‏ والذى في الصحيح هو ما تقدم، ومن تدبر الأحاديث الصحيحة، والسيرة النبوية الثابتة، تيقن أن ذلك كذب‏.‏
    وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله‏:‏
    ‏"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ‏"‏ [‏ الحجرات‏:‏10‏]‏، وقول النبى ﷺ‏:‏ ‏"‏المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"‏لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏والذى

    ج/ 11 ص -101-نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه‏"‏ ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن‏.‏ فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله‏.‏ وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة، وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان، بناء على أن ذلك منسوخ أم لا ‏؟‏ فمن قال‏:‏ إنه منسوخ كمالك والشافعى وأحمد في المشهور عنه قال‏:‏ إن ذلك غير مشروع‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه لم ينسخ كما قال‏:‏ أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى قال‏:‏ إنه مشروع ‏.‏
    وأما ‏[‏الشروط‏]‏ التي يلتزمها كثير من الناس في ‏[‏السماع‏]‏ وغيره‏.‏ مثل أن يقول‏:‏ على المشاركة في الحسنات، وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه، ونحو ذلك‏.‏ فهذه كلها شروط باطلة؛ فإن الأمر يومئذ لله، هو
    ‏"يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا‏"‏[‏ الانفطار‏:‏ 19 ‏]‏ وكما قال تعالى‏:‏‏"وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏"‏ ‏[‏ الأنعام‏:‏ 94 ‏]‏ ‏.‏
    وكذلك يشترطون شروطًا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها،

    ج/ 11 ص -102- وما أعلم أحدًا ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ماشرطه الله ورسوله وفي بها، بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال؛ لا حقيقة له في المآل، وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله، فضلا عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك ‏.‏
    وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع‏.‏ والله أعلم ‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML