ج/ 10 ص -455-قَالَ شَيخ الإِسْلام عَلاَّمة الزَّمَان أبو العباس أحمد بن تيمية قدس اللّه روحه ونور ضريحه:
الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وسلم تسليما كثيرًا.
قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب ]فتوح الغيب[: لابد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء:
أمر يمتثله.
ونهي يجتنبه.
وقدر يرضي به
ج/ 10 ص -456-فأقل حالة لا يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي له أن يلزم بها قلبه، ويحدث بها نفسه، ويأخذ بها الجوارح في كل أحواله.
قلت: هذا كلام شريف، جامع يحتاج إليه كل أحد، وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد، وهي مطابقة لقوله تعالى: "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 90]، ولقوله تعالى: "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا"[آل عمران: 120] ولقوله تعالى: "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" [آل عمران: 186]؛ فإن [التقوى] تتضمن: فعل المأمور، وترك المحظور، و[الصبر] يتضمن: الصبر على المقدور. فالثلاثة ترجع إلى هذين الأصلين، والثلاثة في الحقيقة ترجع إلى امتثال الأمر، وهو طاعة اللّه ورسوله.
فحقيقة الأمر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة اللّه ورسوله، وهو: أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في ذلك الوقت وطاعة اللّه ورسوله هي: عبادة اللّه التي خلق لها الجن والإنس، كما قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56]، وقال تعالى: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" [الحجر: 99]، وقال تعالى: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: 21].
ج/ 10 ص -457-والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا اللّه، ولا يشركوا به شيئًا، وقال تعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" [النحل: 36]، وقال تعالى: "وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ" [الزخرف: 45].
وإنما كانت الثلاثة ترجع إلى امتثال الأمر؛ لأنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض، كالصلوات الخمس والحج ونحو ذلك، يحتاج إلى فعل ذلك المأمور، وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى الامتناع والكراهة والإمساك عن ذلك، وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت، وأما من لم تخطر له المعصية ببال، فهذا لم يفعل شيئًا يؤجر عليه، ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلامته من عقوبة الذنب، والعدم المحض المستمر لا يؤمر به، وإنما يؤمر بأمر يقدر عليه العبد، وذاك لا يكون إلا حادثًا، سواء كان إحداث إيجاد أمر، أو إعدام أمر.
وأما القدر الذي يرضى به، فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف، فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب، ومأمور بالرضا، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولان، ونفس الصبر والرضا بالمصائب هو طاعة للّه ورسوله، هو من امتثال الأمر وهو عبادة للّه.
ج/ 10 ص -458-لكن هذه الثلاثة وإن دخلت في امتثال الأمر عند الإطلاق، فعند التفصيل والاقتران: إما أن تخص بالذكر، وإما أن يقال: يراد بهذا مالا يراد بهذا، كما في قوله: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود: 123]، وقوله: "فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" [طه: 14]، فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة، وعند الاقتران إما أن يقال: ذكره عمومًا وخصوصًا، وإما أن يقال: ذكره خصوصًا يغني عن دخوله في العام.
ومثل هذا قوله تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"[الفاتحة: 5]، وقوله: "وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا . وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا" [المزَّمل: 8-10]. وقد يقال: لفظ [التبتيل] لا يتناول هذه الأمور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة.
وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به الإنسان ابتداء، وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة، أو عند حب الشيء وبغضه.
وكلام الشيخ قدس اللّه روحه يدور على هذا القطب، وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويخلوا فيما سواهما عن إرادة؛
ج/ 10 ص -459-لئلا يكون له مراد غير فعل ما أمر اللّه به، وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بلا واسطة العبد، أو فعله بالعبد بلا هوى من العبد. فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به.
وسيأتي في كلام الشيخ ما يبين مراده، وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به، ويترك ما نهي عنه. وأما إذا لم يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله، وهذه هي [الحقيقة] في كلام الشيخ وأمثاله. وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان:
أحدهما: أن يكون العبد مأمورًا فيما فعله الرب. إما بحب له وإعانة عليه. وإما ببغض له ودفع له.
والثاني: ألا يكون العبد مأمورًا بواحد منهما.
فالأول: مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره، فهو مأمور بحبه وإعانته عليه، كإعانة المجاهدين في سبيل اللّه على الجهاد، وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب الإمكان، وبمحبة ذلك والرضا به، وكذلك هو مأمور عند مصيبة الغير: إما بنصر مظلوم، وإما بتعزية مصاب، وإما بإغناء فقير ونحو ذلك.
ج/ 10 ص -460-وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه، فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان، فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه، وإنكاره بحسب الإمكان كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وأما ما لا يؤمر العبد فيه بواحد منهما، فمثل ما يظهر له من فعل الإنسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها على طاعة ولا معصية. فهذه لا يؤمر بحبها، ولا ببغضها، وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الاستعانة بها على طاعة ولا معصية.
مع أن هذا نقص منه، فإن الذي ينبغي أنه لا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة، فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى اللّه تعالى بالنوافل بعد الفرائض، ولم يزل أحدهم يتقرب إليه بذلك حتى أحبه، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وأما من فعل المباحات مع الغفلة، أو فعل فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب المحارم باطنًا وظاهرًا، فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين.
ج/ 10 ص -461-وبالجملة الأفعال التي يمكن دخولها تحت الأمر والنهي لا تكون مستوية من كل وجه، بل إن فعلت على الوجه المحبوب كان وجودها خيرًا للعبد، وإلا كان تركها خيرًا له وإن لم يعاقب عليها، ففضول المباح التي لا تعين على الطاعة عدمها خير من وجودها، إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة اللّه، فإنها تكون شاغلة له عن ذلك، وأما إذا قدر أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها، وإن شغلته عن معصية اللّه كانت رحمة في حقه، وإن كان اشتغاله بطاعة اللّه خيرًا له من هذا وهذا.
وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الاستعانة بها على الطاعة، كالنوم الذي يقصد به الاستعانة على العبادة؛ والأكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الاستعانة به على العبادة، إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصًا من العبد وفوات حسنة، وخير يحبه الله، ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال لسعد: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك"، وقال في الصحيح: "نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة".
فما لا يحتاج إليه من المباحات، أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة، فعدمه خير من وجوده، إذا كان مع عدمه يشتغل بما هو
ج/ 10 ص -462-خير منه، وقد قال النبي ﷺ: "في بضع أحدكم صدقة". قالوا: يارسول اللّه، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر. قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر؟" قالوا: بلى ! قال: "فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر، فلم تعتدون بالحرام ولا تعتدون بالحلال ؟".
وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه اللّه إلى ما أباحه اللّه، يقصد فعل المباح معتقدًا أن اللّه أباحه، "واللّه يحب أن يأخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته" كما رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره؛ ولهذا أحب القصر والفطر، فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي لا يحبه اللّه إلى ما يحبه اللّه من الرخصة، هو من الحسنات التي يثيبه اللّه عليها، وإن فعل مباحًا لما اقترن به من الاعتقاد والقصد اللذين كلاهما طاعة للّه ورسوله.فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
وأيضًا، فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات، هو مأمور بالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش؛ ولهذا يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها، ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد، كما هو قول جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه، بل وهو مأمور
ج/ 10 ص -463-بنفس عقد النكاح إذا احتاج إليه وقدر عليه، فقول النبي ﷺ: "في بضع أحدكم صدقة" فإن المباضعة مأمور بها لحاجته ولحاجة المرأة إلى ذلك، فإن قضاء حاجتها التي لا تنقضي إلا به بالوجه المباح صدقة.
والسلوك سلوكان:
سلوك الأبرار أهل اليمين، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا.
والثاني: سلوك المقربين السابقين، وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي ﷺ: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وكلام الشيوخ الكبار كالشيخ عبد القادر وغيره يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم، فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة، وبالعامة مسلك العامة، وطريق الخاصة طريق المقربين ألا يفعل العبد إلا ما أمر به، ولا يريد إلا ما أمر اللّه ورسوله بإرادته، وهو ما يحبه
ج/ 10 ص -464-اللّه ويرضاه، ويريده إرادة دينية شرعية، وإلا فالحوادث كلها مرادة له خلقًا وتكوينًا.
والوقوف مع الإرادة الخلقية القدرية مطلقًا غير مقدور عقلًا، ولا مأمور شرعًا؛ وذلك لأن من الحواث ما يجب دفعه ولا تجوز إرادته، كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله، أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على دفعه، أو أراد إضلال الخلق وإفساد دينهم ودنياهم، فهذه الأمور يجب دفعها وكراهتها؛ لا تجوز إرادتها.
وأما الامتناع عقلا، فلأن الإنسان مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافره، فهو عند الجوع يحب ما يغنيه كالطعام، ولا يحب ما لا يغنيه كالتراب فلا يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء.
وكذلك يحب الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعه، ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره، بل ويحب اللّه وعبادته وحده، ويبغض عبادة ما دونه، كما قال الخليل: "أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 75 - 77]، وقال تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ" [الممتحنة: 4].
ج/ 10 ص -465-فقد أمرنا اللّه أن نتأسى بإبراهيم والذين معه، إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون اللّه، وقال الخليل: "إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي" [الزخرف: 26، 27]، والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض وأصل الولاية الحب، وهذا لأن حقيقة التوحيد ألا يحب إلا اللّه، ويحب ما يحبه اللّه للّه، فلا يحب إلا للّه، ولا يبغض إلا للّه، قال تعالى: "وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" [البقرة: 165].
والفرق ثابت بين الحب للّه والحب مع اللّه، فأهل التوحيد والإخلاص يحبون غير اللّه للّه، والمشركون يحبون غير اللّه مع اللّه، كحب المشركين لآلهتهم، وحب النصارى للمسيح، وحب أهل الأهواء رؤوسهم.
فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه، وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة وخلقًا، ولا هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدًا لجميع الحوادث، بل قد أمره اللّه بإرادة أمور وكراهة أخرى.
ج/ 10 ص -466-والرسل صلوات اللّه عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وقد قال النبي ﷺ: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"، قال تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [الروم: 30]، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: "يقول اللّه تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا".
والحنيفية: هي الاستقامة بإخلاص الدين للّه، وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له، لا يشرك به شيء، لا في الحب ولا في الذل؛ فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، وذلك لا يستحقه إلا اللّه وحده، وكذلك الخشية والتقوى للّه وحده، والتوكل على اللّه وحده.
والرسول يطاع ويحب، فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى: "وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ" [النور: 52]، وقال تعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ" [التوبة: 59].
ج/ 10 ص -467-وهذا حقيقة دين الإسلام.
والرسل بعثوا بذلك، كما قال تعالى: "شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" [الشورى: 13]، وقال تعالى: "يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِي" [المؤمنون: 51، 52].
فهذا هو الأصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به، فلا بد أن يكون مريدًا محبًا لما أمره اللّه بإرادته ومحبته. كارهًا مبغضًا لما أمره اللّه بكراهته وبغضه.
والناس في هذا الباب أربعة أنواع:
أكملهم الذين يحبون ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغضون ما أبغضه اللّه ورسوله، فيريدون ما أمرهم اللّه ورسوله بإرادته، ويكرهون ما أمرهم اللّه ورسوله بكراهته، وليس عندهم حب ولا بغض لغير ذلك. فيأمرون بما أمر اللّه به ورسوله، ولا يأمرون بغير ذلك، وينهون عما نهى اللّه عنه ورسوله، ولا ينهون عن غيرذلك، وهذه حال الخليلين أفضل البرية: محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم، وقد
ج/ 10 ص -468-ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا" وقال ﷺ في الحديث الصحيح: "إني واللّه لا أعطي أحدًا، ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت".
وذكر: أن ربه خيره بين أن يكون نبيًا ملكًا؛ وبين أن يكون عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا. فإن النبي الملك مثل: داود وسليمان، قال تعالى: "هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ص: 39]، قالوا: معناه اعط من شئت، وامنع من شئت، لا نحاسبك.
فالنبي الملك: يعطي بإرادته لا يعاقب على ذلك، كالذي يفعل المباحات بإرادته، وأما العبد الرسول فلا يعطي ولا يمنع إلا بأمر ربه، وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية، والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول، والمقتصدون أهل اليمين أتباع النبي الملك، وقد يكون للإنسان حال هو فيها خال عن الإرادتين: وهو ألا تكون له إرادة في عطاء ولا منع، لا إرادة دينية هو مأمور بها، ولا إرادة نفسانية سواء كان منهيًا عنها أو غير منهي عنها، بل ما وقع كان مرادًا له، ومهما فعل به كان مرادًا له، من غير أن يفعل المأمور به شرعًا في ذلك.
ج/ 10 ص -469-فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين، لا إرادة شرعية ولا إرادة مذمومة، بل يعطي كل أحد. فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفى عليه الإرادة الشرعية في تفصيل أفعاله، فإنه لايذم على ما فعل ولا يمدح مطلقًا، بل يمدح لعدم هواه، ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل؛ بل هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب. وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛وإن كان ذلك مباحًا له، وهو دون من يريد بأمر ربه لا بهواه، ولا بالقدر المحض.
فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلاثة أقسام:
قوم لا يتصرفون فيها إلا بحكم الأمر الشرعي. وهو حال نبينا ﷺ. وهو حال العبد الرسول ومن اتبعه في ذلك.
وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة. وهذا حال النبي الملك. وهو حال الأبرار أهل اليمين.
وقوم لا يتصرفون بهذا ولا بهذا. أما الأول: فلعدم
ج/ 10 ص -470-علمهم به. وأما الثاني: فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم القدر المحض، اتباعًا لإرادة اللّه الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الإرادة الشرعية الأمرية، وهذا كالترجيح بالقرعة إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم، وقد يتصرف هؤلاء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب.
وكلام الشيخ عبد القادر قدس اللّه روحه كثيرًا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها، حتى لا يتصرف بحكم الإرادة والنفس، وهذا رفع له عن حال الأبرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلقًا ، ومن حصل هذا وتصرف بالأمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق، لكن هذا قد يخفى عليه، فإن معرفة هذا على التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع ألا ترى أن النبي ﷺ لما حكم سعد ابن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم، وبسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم. قال: "لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة"، وذلك أن تخيير ولي الأمر بين القتل والاسترقاق، والمن والفداء ليس تخيير شهوة، بل تخيير رأي ومصلحة، فعليه أن يختار الأصلح، فإن اختار ذلك فقد وافق حكم اللّه، وإلا فلا.
ولما كان هذا يخفي كثيرًا، قال النبي ﷺ في الحديث
ج/ 10 ص -471-الصحيح: "إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه، فإنك لا تدري ماحكم اللّه فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك"، والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده، فلما أمر سعد بما هو الأرضي للّه، والأحب إليه، حكم بحكمه، ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده، وإن لم يكن ذلك هو حكم اللّه في الباطن.
ففي مثل هذه الحال التي لا يتبين الأمر الشرعي في الواقعة المعينة، يأمر الشيخ عبدالقادر وأمثاله من الشيوخ: تارة بالرجوع إلى الأمر الباطن والإلهام إن أمكن ذلك، وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر الأسباب المرجحة من جهة الشرع، كما يرجح الشارع بالقرعة. فهم يأمرون ألا يرجح بمجرد إرادته وهواه، فإن هذا إما محرم وإما مكروه، وإما منقص، فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات.
ثم إن تبين لهم الأمر الشرعي وجب الترجيح به، وإلا رجحوا، إما بسبب باطن من الإلهام والذوق، وإما بالقضاء والقدر الذي لا يضاف إليهم. ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة اللّه، كما كان النبي ﷺ يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن، فقد أصاب.
ج/ 10 ص -472-وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد، وعند المقلد المستفتي، فإنه لا يرجح شيئًا، بل ما جرى به القدر أقروه، ولم ينكروه، وتارة يرجح أحدهم: إما بمنام، وإما برأي مشير ناصح، وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين.
وأما الترجيح بمجرد الاختيار، بحيث إذا تكافأت عنده الأدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره. فهذا ليس قول أحد من أئمة الإسلام، وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام، ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي: أنه يخير بين المفتين المختلفين. وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده الأمران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته، فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر، لا يقول به أحد من أئمة العلم والزهد. فأئمة الفقهاء والصوفية لا يقولون هذا.
ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته، فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته وذوقه.
لكن قد يقال: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي. وعلى هذا التقدير ليس من هذا، فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه اللّه، وبغض ما يكرهه اللّه، إذا لم يدر في الأمر المعين
ج/ 10 ص -473-هل هو محبوب للّه أو مكروه، ورأي قلبه يحبه أو يكرهه، كان هذا ترجيحًا عنده. كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه، فإن الترجيح بخبر هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي.
ففي الجملة، متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين أحب إلى اللّه ورسوله، كان هذا ترجيحًا بدليل شرعي، والذين أنكروا كون الإلهام طريقًا على الإطلاق أخطؤوا، كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًا على الإطلاق.
ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحًا، وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والأحاديث الضعيفة، والظواهر الضعيفة، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب، والخلاف وأصول الفقه.
وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه قال: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللّه" ثم قرأ قوله تعالى: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينََ" [الحجر: 57]. وقال عمر بن الخطاب: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور
ج/ 10 ص -474-صادقة. وقد ثبت في الصحيح قول اللّه تعالى: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي".
وأيضًا فاللّه سبحانه وتعالى فطر عباده على الحنيفية: وهو حب المعروف، وبغض المنكر، فإذا لم تستحل الفطرة فالقلوب مفطورة على الحق، فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان، منورة بنور القرآن، وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة، ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين، كان هذا من أقوى الأمارات عند مثله، وذلك أن اللّه علم القرآن والإيمان. قال اللّه تعالى: "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا" الآية ثم قال:"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا" [الشورى: 51، 52]، وقال جندب بن عبد اللّه، وعبد اللّه بن عمر: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا.
وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي ﷺ أنه قال: "إن اللّه أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة"، وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي ﷺ
ج/ 10 ص -475-أنه قال: "ضرب اللّه مثلًا صراطًا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو من فوق الصراط. فالصراط المستقيم هو الإسلام، والستور حدود اللّه، والأبواب المفتحة محارم اللّه. فإذا أراد العبد أن يفتح بابًا من تلك الأبواب ناداه المنادي أو كما قال يا عبد اللّه لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. والداعي على رأس الصراط كتاب اللّه، والداعي فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مؤمن".
فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ، والواعظ الأمر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا الأمر والنهي الذي يقع في قلب المؤمن مطابق لأمر القرآن ونهيه؛ ولهذا يقوى أحدهما بالآخر. كما قال تعالى: "نُورٌ عَلَى نُورٍ" [النور: 35]، قال بعض السلف في الآية: هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر. فإذا سمع بالأثر كان نورًا على نور. نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن، كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل؛ فإن اللّه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
وقد يؤتي العبد أحدهما ولا يؤتي الآخر، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل
ج/ 10 ص -476-المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر".
والإلهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والاعتقاد، وتارة يكون من جنس العمل والحب والإرادة والطلب، فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب، وقد يميل قلبه إلى أحد الأمرين دون الآخر، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر"، والمحدث الملهم المخاطب، وفي مثل هذا قول النبي ﷺ في حديث وابصة: "البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك" وهو في السنن. وفي صحيح مسلم عن النواس عن النبي ﷺ قال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". وقال ابن مسعود: الإثم حزاز القلوب.
وأيضًا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينًا أو ظنًا، فالأمور الدينية كذلك بطريق الأولى، فإنه إلى كشفها أحوج، لكن هذا في الغالب لابد أن يكون كشفًا بدليل، وقد يكون
ج/ 10 ص -477-بدليل ينقدح في قلب المؤمن، ولا يمكنه التعبير عنه. وهذا أحد ما فسر به معنى الاستحسان.
وقد قال من طعن في ذلك كأبي حامد وأبي محمد : ما لا يعبر عنه فهو هوس، وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه، وكثير من الناس يبينها بيانًا ناقصًا، وكثيرمن أهل الكشف يلقي في قلبه أن هذا الطعام حرام، أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق، من غيردليل ظاهر، وبالعكس قد يلقي في قلبه محبة شخص وأنه ولي للّه أو أن هذا المال حلال.
وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية، لكن إن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة. فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعًا، فإن التسوية بينهما باطلة قطعًا.كما قلنا: إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل بأحدهما. والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لابد في كل حادثة من دليل شرعي، فلايجوز تكافؤ الأدلة في نفس الأمر، لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له، وأما من قال: إنه ليس في نفس الأمر حق معين، بل كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة، وليس لأحدهما على الأخر مزية في علم ولا عمل، فهؤلاء
ج/ 10 ص -478-قد يجوزون أو بعضهم تكافؤ الأدلة، ويجعلون الواجب التخيير بين القولين، وهؤلاء يقولون ليس على الظن دليل في نفس الأمر؛ وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والإرادة، كترجيح النفس الغضبية للانتقام، والنفس الحليمة للعفو.
وهذا القول خطأ؛ فإنه لابد في نفس الأمر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى. كالكعبة في حق من اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاد إلى جهة سقط عنه الفرض بالصلاة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى قول فعمل بموجبه كلاهما مطيع للّه، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع للّه وله أجر على ذلك، وليس مصيبًا بمعنى أنه علم الحق المعين؛ فإن ذلك لا يكون إلا واحدًا ومصيبه له أجران وهذا في كشف الأنواع التي يكون عليها دليل شرعي لكن قد يخفي على العبد، فإن الشارع بين الأحكام الكلية.
وأما الأحكام المعينات التي تسمى: تنقيح المناط، مثل كون الشخص المعين عدلًا أو فاسقًا أو مؤمنًا أو منافقًا أو وليًا للّه أو عدوًا له، وكون هذا المعين عدوًا للمسلمين يستحق القتل، وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الإحسان إليه، وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم، فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله، فهذه
ج/ 10 ص -479-الأمور لا يجب أن تعلم بالأدلة الشرعية العامة الكلية، بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها.
ومن طرق ذلك: الإلهام، فقد يلهم اللّه بعض عباده حال هذا المال المعين، وحال هذا الشخص المعين، وإن لم يكن هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره.
وقصة موسى مع الخضر هي من هذا الباب، ليس فيها مخالفة لشرع اللّه تعالى؛ فإنه لا يجوز قط لأحد لا نبي ولا ولي أن يخالف شرع اللّه، لكن فيها علم حال ذاك المعين بسبب باطن يوجب فيه الشرع ما فعله الخضر، كمن دخل إلى دار وأخذ ما فيها من المال لعلمه بأن صاحبها أذن له وغيره لم يعلم، ومثل من رأى ضالة أخذها ولم يعرفها، لعلمه بأنه أتى بها هدية له، ونحو ذلك. ومثل هذا كثير عند أهل الإلهام الصحيح.
والنوع الثاني: عكس هذا، وهو أنهم يتبعون هواهم، لا أمر اللّه، فهؤلاء لا يفعلون ولا يأمرون إلا بما يحبونه بهواهم، ولا يتركون وينهون إلا عما يكرهونه بهواهم، وهؤلاء شر الخلق. قال تعالى: "أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا" [الفرقان: 43] قال الحسن: هو المنافق لا يهوي شيئًا إلا ركبه، وقال تعالى:
ج/ 10 ص -480-"ْوَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ" [القصص: 50]، وقال عمر بن عبد العزيز: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق، وتعاقب على ما خالفته. وهو كما قال رضي اللّه عنه لأنه في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل للّه.
ألا ترى أن أبا طالب نصر النبي ﷺ، وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لأجل القرابة، لا لأجل اللّه تعالى، فلم يتقبل اللّه ذلك منه، ولم يثبه على ذلك؟! وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه أعانه بنفسه وماله للّه؛ فقال اللّه فيه: "وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى" [الليل: 17-21].
القسم الثالث: الذي يريد تارة إرادة يحبها اللّه؛ وتارة إرادة يبغضها اللّه. وهؤلاء أكثر المسلمين، فإنهم يطيعون اللّه تارة، ويريدون ما أحبه، ويعصونه تارة، ويريدون ما يهوونه، وإن كان يكرهه.
والقسم الرابع: أن يخلو عن الإرادتين، فلا يريد للّه ولا لهواه، وهذا يقع لكثير من الناس في بعض الأشياء، ويقع لكثير
ج/ 10 ص -481-من الزهاد والنساك في كثير من الأمور.
وأما خلو الإنسان عن الإرادة مطلقًا فممتنع، فإنه مفطور على إرادة مالابد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه، والزاهد الناسك إذا كان مسلمًا فلا بد أن يريد أشياء يحبها اللّه: مثل أداء الفرائض وترك المحارم، بل وكذلك عموم المؤمنين لابد أن يريد أحدهم أشياء يحبها اللّه، وإلا فمن لم يحب اللّه، ولا أحب شيئًا للّه، فلم يحب شيئًا من الطاعات، لا الشهادتين ولا غيرهما ولا يريد ذلك فإنه لا يكون مؤمنًا، فلابد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه اللّه؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ولا يحبه اللّه، فهذا لازم لكل من عصى اللّه، فإنه أراد المعصية واللّه لا يحبها ولا يرضاها. وأما الخلو عن الإرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين:
أحدهما: مع إعراض العبد عن عبادة اللّه تعالى وطاعته وإن علم بها، فإنه قد يعلم كثيرًا من الأمور أنه مأمور بها، وهو لا يريدها ولا يكره من غيره فعلها، وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريدًا لانتصار هؤلاء الذي يحبه اللّه، ولا لانتصار هؤلاء الذي يبغضه اللّه.
والوجه الثاني: يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما
ج/ 10 ص -482-يعلمون أن اللّه أمر به، المجتنبين لما يعلمون أن اللّه نهى عنه، وأمور أخرى لا يعلمون أنها مأمور بها ولا منهي عنها، فلا يريدونها ولا يكرهونها لعدم العلم، وقد يرضونها من جهة كونها مخلوقة مقدرة، وقد يعاونون عليها، ويرون هذا موافقة للّه وأنهم لما خلو عن هوى النفس كانوا مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه. وهذا موضع يقع فيه الغلط، فإن ما أحبه اللّه ورسوله علينا أن نحب ما أحبه اللّه ورسوله. وما أبغضه اللّه ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه اللّه ورسوله، وأما ما لا يحبه اللّه ورسوله ولا يبغضه اللّه ورسوله كالأفعال التي لا تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون، فهذا إذا كان اللّه لا يحبها ويرضاها ولا يكرهها ويذمها، فالمؤمن أيضًا لا ينبغي أن يحبها ويرضاها ولا يكرهها.
وأما كونها مقدورة ومخلوقة للّه فذاك لا يختص بها، بل هو شامل لجميع المخلوقات. واللّه تعالى خلق ما خلقه لما شاء من حكمته، وقد أحسن كل شيء خلقه، والرضا بالقضاء ثلاثة أنواع:
أحدها: الرضا بالطاعات؛ فهذا طاعة مأمور بها.
والثاني: الرضا بالمصائب، فهذا مأمور به: إما مستحب، وإما واجب.
ج/ 10 ص -483-والثالث: الكفر والفسوق والعصيان، فهذا لا يؤمر بالرضا به، بل يؤمر ببغضه وسخطه، فإن اللّه لا يحبه ولا يرضاه، كما قال تعالى: "إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ" [النساء: 108]، وقال: "وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ" [البقرة: 205]، وقال: "وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ" [الزمر: 7]، وقال: "فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ" [آل عمران: 32]، وقال: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [المائدة: 87].
وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فلا يمتنع أن يخلق مالا يحبه لإفضائه إلى الحكمة التي يحبها، كما خلق الشياطين، فنحن راضون عن اللّه في أن يخلق ما يشاء، وهو محمود على ذلك.
وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله، فلا نرضى به ولا نحمده، وفرق بين ما يحب لنفسه، وما يراد لإفضائه إلى المحبوب، مع كونه مبغضًا من جهة أخرى؛ فإن الأمر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر، كالمريض الذي يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه، وهو مع هذا يريد استعماله لإفضائه إلى المحبوب، لا لأنه في نفسه محبوب.
وفي الحديث الصحيح يقول اللّه تعالى: "وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه"، فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي
ج/ 10 ص -484-يكره الموت، كان هذا مقتضيًا أن يكره إماتته، مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة سبحانه وتعالى فالأمور التي يبغضها اللّه تعالى وينهى عنها لا تحب ولا ترضى، لكن نرضى بما يرضى اللّه به حيث خلقها، لما له في ذلك من الحكمة، فكذلك الأفعال التي لا يحبها ولا يبغضها لا ينبغي أن تحب ولا ترضى، كما لا ينبغي أن تبغض.
والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، كان حقًا على اللّه أن يرضيه"، وأما بالنسبة إلى القدر فيرضى عن اللّه، إذ له الحمد على كل حال، ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لأجلها ما خلق وإن كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات، فحيث انتفي الأمر الشرعي أو خفي الأمر الشرعي لا يكون الامتثال والرضا والمحبة، كما يكون في الأمر الشرعي، وإن كان ذلك مقدورًا.
وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم، فضلًا عن عامتهم، ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم بالأمر الشرعي وطاعتهم له.
فمنهم من هو أعرف من غيره بالأمر الشرعي وأطوع له، فهذا
ج/ 10 ص -485-تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة بالأمر الشرعي والطاعة له.
ومنهم من يبعد عن الأمر الشرعي، ويسترسل حتى ينسلخ من الإسلام بالكلية، ويبقى واقفًا مع هواه والقدر.
ومن هؤلاء من يموت كافرًا، ومنهم من يتوب اللّه عليه، ومنهم من يموت فاسقًا، ومنهم من يتوب اللّه عليه.
وهؤلاء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر الشرعي ولا بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير الأمر الشرعي، إما من أنفسهم وإما من غير اللّه ورسوله، إذ الاسترسال مع القدر مطلقًا ممتنع لذاته، لما تقدم من أن العبد مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء.
وقول من قال: إن العبد يكون مع اللّه كالميت مع الغاسل لا يصح ولا يسوغ على الإطلاق عن أحد من المسلمين، وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر اللّه عليه، وإلا فإذا علم ما أمر اللّه به وأحبه، فلابد أن يحب ما أحبه اللّه، ويبغض ما أبغضه.
ج/ 10 ص -486-فَصْل
وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الأدلة والأسباب هي الموجبة للعلم، كتدبر القرآن والحديث، فالطريقة العملية بصحة الإرادة والأسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك: المريد، كما يسميه أولئك: الطالب، و النظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم، وكذلك: الإرادة.
فكما أن طريق العلم لابد فيه من العلم النبوي الشرعي، بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية، ويكون علمك بها مطابقًا لما أخبرت به الرسل، وإلا فلا ينفعك أي معلوم علمته، ولا أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل، بل لابد من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فكذلك [الإرادة] لابد فيها من تعيين المراد، وهو اللّه والطريق إليه، وهو ما أمرت به الرسل. فلا بد أن تعبد اللّه وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله، إذ لابد من تصديق الرسول فيما أخبر علمًا، ولابد من طاعته فيما أمر عملًا.
ج/ 10 ص -487-ولهذا كان الإيمان قولًا وعملًا مع موافقة السنة، فعلم الحق ما وافق علم اللّه، والإرادة الصالحة ما وافقت محبة اللّه ورضاه، وهو حكمه الشرعي، واللّه عليم حكيم.
فالأمور الخبرية لابد أن تطابق علم اللّه وخبره؛ والأمور العملية لابد أن تطابق حب اللّه وأمره، فهذا حكمه، وذاك علمه.
وأما من جعل حكمه مجرد القدر، كما فعل صاحب [منازل السائرين] وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع. فلا ينفع المريد القاصد أن يعبد أي معبود كان، ولا أن يعبد اللّه بأي عبادة كانت، بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به اللّه، كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير اللّه بغير أمر اللّه، وأما أهل الإسلام والسنة فهم يعبدون اللّه وحده، ويعبدونه بما شرع. لا يعبدونه بالبدع إلا ما يقع من أحدهم خطأ.
فالسالكون طريق الإرادة قد يغلطون تارة في المراد، وتارة في الطريق إليه، وتارة يألهون غير اللّه بالخوف منه والرجاء له، والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه، فهذا حقيقة الشرك المحرم، فإن حقيقة
ج/ 10 ص -488-التوحيد ألا يعبد إلا اللّه.
والعبادة تتضمن كمال الحب، وكمال التعظيم، وكمال الرجاء، والخشية، والإجلال والإكرام. والفناء في هذا التوحيد فناء المرسلين واتباعهم، وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ماسواه، وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه.
وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون اللّه، لكن لا يتبعون الأمر الشرعي في إرادته، لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه يرضيه، ولا يكون كذلك، وتارة ينظرون القدر لكونه مراده، فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض، وأما الفناء المطلق فيه فممتنع. وهؤلاء يفني أحدهم متبعًا لذوقه ووجده المخالف للأمر الشرعي، أو ناظرًا إلى القدر. وهذا يبتلى به كثير من خواصهم.
والشيخ عبد القادر، ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمرًا بترك الهوى والإرادة النفسية. فإن الخطأ في الإرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه الجهة؛ فهو يأمر السالك
ج/ 10 ص -489-ألا تكون له إرادة من جهة هواه أصلًا، بل يريد ما يريده الرب عز وجل : إما إرادة شرعية أن تبين له ذلك، وإلا جرى مع الإرادة القدرية، فهو إما مع أمر الرب، وإما مع خلقه، وهو سبحانه له الخلق والأمر.
وهذه طريقة شرعية صحيحة، إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية لا يعلم أنها شرعية، أو من تقديم إرادة قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها، وقد يريد ضدها، فيكون ترك مأمورًا أو فعل محظورًا وهو لا يعلم. فإن طريقة الإرادة: يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل، والوقوع في الضلال، كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل، وضعف العلم الذي يقترن بالعمل، لكن لا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها من هذا، وهذا. قال تعالى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]، فإذا تفقه السالك، وتعلم الأمر والنهي بحسب اجتهاده، وكان علمه وإرادته بحسب ذاك، فهذا مستطاعه. وإذا أدى الطالب ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وكان علمه مطابقًا لعمله، فهذا مستطاعه.
ج/ 10 ص -490-فَصْل
قال الشيخ عبد القادر قدس اللّه روحه : "افن عن الخلق بحكم اللّه، وعن هواك بأمره، وعن إرادتك بفعله، فحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم اللّه".
قلت: فحكمه يتناول خلقه وأمره، أي: افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة اللّه والتوكل عليه، فلا تطعهم في معصية اللّه تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعه ولا دفع مضرة. وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقًا للأمر الشرعي لا لهواه، وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل اللّه لا لإرادة نفسه، فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات.
فالأول: يكون بالأمر، والثاني: لا تكون له إرادة. ولا بد في هذا أن يقيد بألا تكون له إرادة لم يؤمر بها، وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئًا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته، سواء كان موافقًا للقدر أم لا. وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين
ج/ 10 ص -491-والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور.
قال الشيخ: "فعلامة فنائك عن خلق اللّه انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم".
وهو كما قال.
فإذا كان القلب لا يرجوهم، ولا يخافهم، لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورًا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر اللّه به، ونهيهم عما نهاهم اللّه عنه، كذهاب الرسل، واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات اللّه، فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد. ليكون عابدًا للّه متوكلًا عليه، وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل، أو مثله أو دونه، كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب، بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه.
قال الشيخ: "وعلامة فنائك عنك وعن هواك: ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر، فلا تتحرك فيك بك ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك، ولا تذب عنك، لكن تكل ذلك كله
ج/ 10 ص -492-إلى من تولاه أولًا فيتولاه آخرًا. كما كان ذلك موكولًا إليه في حال كونك مغيبًا في الرحم، وكونك رضيعًا طفلا في مهدك".
قلت: وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها، فإذا فنى عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه اللّه وترك ما يبغضه اللّه فاعتاض بفعل محبوب اللّه عن محبوبه وبترك ما يبغضه اللّه عما يبغضه وحينئذ فالنفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فيكون في ذلك متوكلًا على اللّه.
والشيخ رحمه اللّه ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن لم تكن متوكلة على اللّه في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقًا، بل لابد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة للّه وطاعة أمره بدون التوكل عليه، كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته، قال تعالى: "فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ" [هود: 123]، وقال تعالى: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" [الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى: "وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا" [المزمل: 8، 9] .
والمقصود أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون
ج/ 10 ص -493-التوكل والاستعانة، ومن كان واثقًا باللّه أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره، وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول: إنه محتاج فيه إلى غيره.
قال الشيخ رضي اللّه عنه : وعلامة فناء إرادتك بفعل اللّه أنك لا تريد مرادًا قط، فلا يكن لك غرض، ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة اللّه سواها، بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة اللّه تعالي وفعله، ساكن الجوارح مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها، تقلبك يد القدرة ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورًا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الأول، فتكون منكسرًا أبدًا.
فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة: كالإناء المتثلم الذي لا يثبت فيه مائع ولا كدر فتفنوا عن أخلاق البشرية، فلن يقبل باطنك ساكنا غير إرادة اللّه، فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم وهو فعل اللّه تبارك وتعالى حقًا في العلم فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية، وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانية وشهوات إضافية .كما قال النبي ﷺ: "حبب إلى من
ج/ 10 ص -494-دنياكم: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة" فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقًا لما أشرت إليه وتقدم، قال اللّه تعالى: "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" وساق كلامه. وفيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل" الحديث.
قلت: هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر رضي اللّه عنه وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورًا بإرادته. فقوله: علامة فناء إرادتك بفعل اللّه أنك لا تريد مرادًا قط. أي لا تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته، فأما ما أمرك اللّه ورسوله بإرادتك إياه، فإرادته إما واجب وإما مستحب، وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص .
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلًا، وإن قول أبي يزيد: أريد ألا أريد لما قيل له: ماذا تريد؟ نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشائخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقًا، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين، وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقًا، فإن هذا غلط ممن قاله، فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور.
ج/ 10 ص -495-فإن الحي لابد له من إرادة، فلا يمكن حيًا ألا تكون له إرادة، فإن الإرادة التي يحبها اللّه ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركًا لما هو خير له.
واللّه تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه الإرادة، فقال تعالى: "وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" [الأنعام: 52]، وقال تعالى: "وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى" [الليل: 19، 20]، وقال تعالى: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا" [الإنسان: 9]، وقال تعالى: "وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا" [الأحزاب: 29]، وقال تعالى: "وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا" [الإسراء: 19]، وقال تعالى: "فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ّ. أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" [الزمر: 2، 3]، وقال تعالى: "قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي" [الزمر: 14]، وقال تعالى: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" [النساء: 36]، وقال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56].
ولا عبادة إلا بإرادة اللّه، ولما أمر به، وقال تعالى: "بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ" [البقرة: 112]، أي أخلص قصده للّه. وقال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ"[البينة: 5]، وإخلاص الدين له
ج/ 10 ص -496-هو إرادته وحده بالعبادة. وقال تعالى: "يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ"[المائدة: 54]، وقال تعالى: "ِوَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ"[البقرة: 165]، وقال تعالى: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ" [آل عمران: 31]، وكل محب فهو مريد، وقال الخليل عليه السلام : "لَا أُحِبُّ الْآفِلِينََ" [الأنعام: 76]، ثم قال: "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" [الأنعام: 79].
ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر اللّه بإرادته، وإرادة ما يأمر به، وينهى عن إرادة غيره، وإرادة ما نهى عنه، وقد قال النبي ﷺ: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"، فهما إرادتان: إرادة يحبها اللّه ويرضاها، وإرادة لا يحبها اللّه ولا يرضاها، بل إما نهي عنها، وإما لم يأمر بها، ولا ينهي عنها والناس في الإرادة ثلاثة أقسام:
قوم يريدون ما يهوونه، فهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان.
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الإرادة مطلقًا، ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب، وإن هذا المقام هو أكمل المقامات، ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة، وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه
ج/ 10 ص -497-شهد القيومية العامة، ويجعلون الفناء في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والاصطلام، ونحو ذلك. وكثير من الشيوخ زلقوا في هذا الموضع.
وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية، وأن اللّه خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو شهود القدر، وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق الأول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا، ورؤية فعل هذا وترك هذا، فإن الإنسان قبل أن يشهد هذا التوحيد يرى للخلق فعلًا يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبعًا لهواه فيما يريده، فإذا أراد الحق خرج بإرادته عن إرادة الهوى والطبع، ثم شهد أنه خالق كل شيء، فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق، فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني، وهو بعد هذا الجمع، وهو الفرق الشرعي. ألا تري أنك تريد ما أمرت به، ولا تريد ما نهيت عنه؟! وتشهد أن اللّه يستحق العبادة دون ما سواه، وأن عبادته هي بطاعة رسله، فتفرق بين المأمور والمحظور، وبين أوليائه وأعدائه، وتشهد توحيد الألوهية، فنازعوه في هذا الفرق.
منهم من أنكره.
ج/ 10 ص -498-ومنهم من لم يفهمه.
ومنهم من ادعي أن المتكلم فيه لم يصل إليه.
ثم إنك تجد كثيرًا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع، وهو: توحيد الربوبية، والفناء فيه. كما في كلام صاحب [منازل السائرين] مع جلالة قدره، مع أنه قطعًا كان قائمًا بالأمر والنهي المعروفين، لكن قد يدعون أن هذا لأجل العامة. ومنهم من يتناقض.
ومنهم من يقول: الوقوف مع الأمر لأجل مصلحة العامة، وقد يعبر عنهم بأهل المارستان.
ومنهم من يسمى ذلك مقام التلبيس.
ومنهم من يقول: التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، فيشهد بقلبه استواء المأمور والمحظور مع تفريقه بينهما.
ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك
ج/ 10 ص -499-العارفين، وغاية منازل الأولياء الصديقين.
و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهي يكون في السلوك والبداية، وأما في النهاية فلاتبقى إلا إرادة القدر. وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة، فإن العبادة للّه والطاعة له ولرسوله إنما تكون في امتثال الأمر الشرعي لا في الجري مع المقدور، وإن كان كفرًا أو فسوقًا أو عصيانًا، ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان الكفار والفجار وخفرائهم، حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا الأمر والنهي الشرعيين.
ومن هؤلاء من يقول: من شهد القدر سقط عنه الملام، ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملام لما شهد القدر.
وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملكًا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف، فيظن ذلك كمالا في الولاية، وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية، وأهواء نفسانية، وإنما الكمال في الولاية أن يستعمل خرق العادات في إقامة الأمر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور، فإذاحصلت بغير الأسباب الشرعية فهي مذمومة، وإن حصلت بالأسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة، وإن توصل بها إلى مباح
ج/ 10 ص -500-لا يستعان بها على طاعة كانت للأبرار دون المقربين.
وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل الأمر الشرعي، فهذه خوارق المقربين السابقين.
فلابد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها: من أين حصلت، وإلى ماذا أوصلت كما ينظر في الأموال في مستخرجها ومصروفها ومن استعملها أعني الخوارق في إرادته الطبيعية كان مذمومًا، ومن كان خاليًا عن الإرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه، لكونه لم يعرف الإرادة الشرعية.
وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذمومًا مستحقًا للعقاب إن لم يعف عنه، وهو يمدح بكون إرادته ليست بهواه، لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لأمر اللّه تعالى ورسوله، لا يكفيه أن تكون لا من هذا ولامن هذا، مع أنه لا يمكن خلوه عن الإرادة مطلقًا؛ بل لابد له من إرادة، فإن لم يرد ما يحبه اللّه ورسوله، أراد مالا يحبه اللّه ورسوله، لكن إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريدًا لما يظن أنه مأمور به، فيكون ضالًا.
فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى. وقد قال تعالى:"اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" [الفاتحة: 6، 7]،
ج/ 10 ص -501-وقد قال النبي ﷺ: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون".
فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها. كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون. وهم يعرفون الحق ولا يعملون به، فلهم علم، لكن ليس لهم عمل بالعلم، وهم في الإرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الإرادة المحمودة المأمور بها، وهي إرادة ما يحبه اللّه ورسوله.
والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلال، يعملون بغير علم، فلا يعرفون الإرادة التي يحبها اللّه ورسوله، بل غاية أحدهم تجريد نفسه عن الإرادات، فلا يبقى مريدًا لما أمر اللّه به ورسوله، كما لا يريد كثيرًا مما نهى اللّه عنه ورسوله، وهؤلاء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة اللّه ورسوله، ولهذا كانوا ملعونين: أي بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة اللّه عز وجل.
والعالم الفاجر يشبه اليهود. والعابد الجاهل يشبه النصارى. ومن أهل العلم من فيه شيء من الأول، ومن أهل العبادة من فيه شيء من الثاني.
ج/ 10 ص -502-وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم، وتباينوا تباينًا عظيمًا، لا يحيط به إلا اللّه. ففيهم من لم يخلق اللّه خلقًا أكرم عليه منه، وهو خير البرية. ومنهم من هو شر البرية، وأفضل الأحوال فيه حال الخليلين: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، وهو المعروج به إلى ما فوق الأنبياء كلهم إبراهيم و موسى وغيرهما.
وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم، كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي ﷺ: "إن إبراهيم خير البرية"، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي ﷺ: أنه كان يقول في خطبة الجمعة: "خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد ﷺ". وكذلك كان عبد اللّه بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس، كما رواه البخاري في صحيحه.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت: ما ضرب رسول اللّه ﷺ خادمًا له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل اللّه، وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم اللّه، فإذا انتهكت محارم اللّه لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم للّه.
ج/ 10 ص -503-وقال أنس: خدمت رسول اللّه ﷺ عشر سنين، فما قال لي: أف قط، وما قال لي لشىء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟. وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال: "دعوه، فلو قضى شيء لكان". ورسول اللّه ﷺ هو أفضل الخلائق، وسيد ولد آدم، وله الوسيلة في المقامات كلها، ولم يكن حاله أنه لا يريد شيئًا، ولاأنه يريد كل واقع، كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى، بل هو منزه عن هذا وهذا، قال اللّه تعالى: "وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 3، 4]، وقال تعالى:"وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ" [الجن: 19] وقال تعالى: "وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا" [البقرة: 23]، وقال: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا" [الإسراء: 1]. والمراد بعبده عابده المطيع لأمره، وإلا فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون.
وقد قال اللّه لنبيه: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" [الحجر: 99] .قال الحسن البصري: لم يجعل اللّه لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، وقد قال اللّه تعالى له: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [القلم: 4] .قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن حنبل: على دين عظيم. والدين: فعل ما أمر به. وقالت عائشة: كان خلقه القرآن. رواه مسلم. وقد أخبرت أنه لم يكن يعاقب لنفسه، ولا ينتقم لنفسه، لكن يعاقب للّه
ج/ 10 ص -504-وينتقم للّه، وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه، وأما حدود اللّه فقد قال: "والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" أخرجاه في الصحيحين.
وهذا هو كمال الإرادة؛ فإنه أراد ما يحبه اللّه ويرضاه من الإيمان و العمل الصالح، وأمر بذلك وكره ما يبغضه اللّه من الكفر والفسوق والعصيان، ونهى عن ذلك، كما وصفه اللّه تعالى بقوله: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 156، 157].
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ولا ينتقم، بل يستوفى حق ربه، ويعفو عن حظ نفسه، وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر، فيقول: "لو قضى شيء لكان"، وفي حق اللّه يقوم بالأمر فيفعل ما أمر اللّه به، ويجاهد في سبيل اللّه أكمل الجهاد الممكن، فجاهدهم أولًا بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه، كما قال تعالى: "وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا . فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا" [الفرقان: 51، 52]. ثم لما
ج/ 10 ص -505-هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال، جاهدهم بيده.
وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة، وهو معروف أيضًا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ في حديث احتجاج آدم وموسى، لما لام موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب الذي فعله، فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبًا علىَّ قبل أن أخلق بمدة طويلة، قال النبي ﷺ: "فحج آدم موسى".
وذلك لأن ملام موسى لآدم لم يكن لحق اللّه، وإنما كان لما لحقه وغيره من الآدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل، فذكر له آدم أن هذا كان أمرًا مقدرًا لابد من كونه، والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو الذي ينفعهم، وأما لومهم لمن كان سببًا فيها فلا فائدة لهم في ذلك، وكذلك ما فاتهم من الأمور التي تنفعهم يؤمرون في ذلك بالنظر إلى القدر، وأما التأسف والحزن فلا فائدة فيه، فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم، أو حصول مضرة لهم، فلينظروا في ذلك إلى القدر، وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي، والإصلاح في المستقبل. فإن هذا الأمر ينفعهم، وهو مقدور لهم بمعونة اللّه لهم.
ج/ 10 ص -506-وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجزن. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر اللّه وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان".
أمر النبي ﷺ بحرص العبد على ما ينفعه، والاستعانة باللّه، ونهاه عن العجز، وأنفع ما للعبد طاعة اللّه ورسوله، وهي عبادة اللّه تعالى. وهذان الأصلان هما حقيقة قوله تعالى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"[الفاتحة: 5]. ونهاه عن العجز وهو الإضاعة والتفريط والتواني. كما قال في الحديث الآخر: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على اللّه الأماني" رواه الترمذي.
وفي سنن أبي داود: أن رجلين تحاكما إلى النبي ﷺ فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبي اللّه ونعم الوكيل، فقال النبي ﷺ: "إن اللّه يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي اللّه ونعم الوكيل" فالكيس ضد العجز. وفي الحديث: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" رواه مسلم. وليس المراد بالعجز في كلام النبي ﷺ ما يضاد
ج/ 10 ص -507-القدرة؛ فإن من لا قدرة له بحال لا يلام، ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال.
ثم لما أمره بالاجتهاد والاستعانة باللّه ونهاه عن العجز، أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول: قدر اللّه وما شاء فعل، ولا يتحسر ويتلهف ويحزن. ويقول: "لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى: الأمر أمران: أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه؛ فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه. وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين. كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره. فإنه لابد من فعل المأمور وترك المحظور، والرضا والصبر على المقدور. وقد قال تعالى حكاية عن يوسف: "أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 90].
فالتقوى: تتضمن فعل المأمور وترك المحظور. والصبر: يتضمن الصبر على المقدور. وقد قال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا" إلى قوله: "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا" [آل عمران: 118-120]، فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر لا يضر
ج/ 10 ص -508-المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين، وقال تعالى: "بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ" [آل عمران: 125]، فبين أنه مع الصبر والتقوى يمدهم بالملائكة، وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم.
وقال تعالى: "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"[آل عمران: 186] فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لابد أن يؤذوهم بألسنتهم، وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم الأمور. فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة، المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم، وشر العدو المبطن للعداوة، وهم المنافقون. وهذا الذي كان خلق النبي ﷺ وهديه هو أكمل الأمور.
فأما من أراد ما يحبه اللّه تارة وما لا يحبه تارة، أو لم يرد لا هذا ولا هذا، فكلاهما دون خلق رسول اللّه ﷺ؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم، كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والانتقام المباح كما هو خلق بعض الأنبياء والصالحين، فهو وإن كان جائزًا لا إثم فيه، فخلق رسول اللّه ﷺ أكمل منه.
ج/ 10 ص -509-وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب، ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا جاز العفو وإن كان الانتقام للّه أرضى للّه. كما هو أيضًا خلق بعض الأنبياء والصالحين فهذا وإن كان جائزًا لا إثم فيه فخلق رسول اللّه ﷺ أكمل منه.
وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فلا عيب على نبي فيما شرع اللّه له.
لكن قد فضل اللّه بعض النبيين على بعض، وفضل بعض الرسل على بعض، والشريعة التي بعث اللّه بها محمدًا ﷺ أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد ﷺ أفضل الأنبياء والمرسلين، وأمته خير أمة أخرجت للناس. قال أبو هريرة في قوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل عمران: 110]: كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة، يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس، فهم خير الأمم للخلق. والخلق عيال اللّه، فأحبهم إلى اللّه أنفعهم لعياله، وأما غير الأنبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لاتباعه لذلك النبي، وأما من كان من أهل شريعة محمد ﷺ ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبًا عليه وما فعله محرمًا عليه كان مستحقًا للذم والعقاب، إلا أن يكون متأولًا مخطئًا فاللّه قد وضع عن هذه الأمة
ج/ 10 ص -510-الخطأ والنسيان وذنب أحدهم قد يعفو اللّه عنه بأسباب متعددة.
ومن أسباب هذا الانحراف: أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه، فيزهد في موجب الشهوة والغضب، كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين، وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم، وهؤلاء يرون الجهاد نقصًا لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، ويرون أن اللّه لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لأنه جرى علي يديه سفك الدماء.
ومنهم من لا يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة، ومنهم من لا يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى اللّه بأنه لا يذبح حيوانًا ولا يأكل لحمه ولا ينكح النساء، ويقول مادحه: فلان ما نكح، ولا ذبح.
وقد أنكر النبي ﷺ على هؤلاء كما في الصحيحين عن أنس: أن نفرا من أصحاب النبي ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي ﷺ فحمد اللّه وأثني عليه وقال: "ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا؟! لكني أصلي وأنام،
ج/ 10 ص -511-وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وقد قال تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ" [المائدة: 87] نزلت في عثمان ابن مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل، ونوع من الترهب. وفي الصحيحين عن سعد قال: رد رسول اللّه ﷺ على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا.
والزهد النافع المشروع الذي يحبه اللّه ورسوله هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة، فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك، فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة اللّه وطاعته، والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر، أو زهد فيما لا ينفع، فأما الزهد في النافع فجهل وضلال كما قال النبي ﷺ: "احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه ولا تعجزن".
والنافع للعبد هو عبادة اللّه وطاعته وطاعة رسوله، وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع، ثم الأنفع له أن تكون كل أعماله عبادة للّه وطاعة له، وإن أدى الفرائض وفعل مباحًا لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره.
وكذلك الورع المشروع، هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو
ج/ 10 ص -512-ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله مثل محرم معين مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينًا تحريمه، أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة، كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو مطالب بها، وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها، ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة.
وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه.
وتمام الورع أن يعم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.
ج/ 10 ص -513-وكذلك الزهد والرغبة، من لم يراع مايحبه اللّه ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك، وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل، أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق اللّه تعالى أو حقوق عباده، أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللّه، لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم، حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك.
وقد قال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ" [البقرة: 217].
يقول سبحانه وتعالى : وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.
وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلمًا له هو جاهل، فإن هذا الحيوان لابد أن يموت، فإذا قتل لمنفعة الآدميين
ج/ 10 ص -514-وحاجتهم كان خيرًا من أن يموت موتًا لا ينتفع به أحد، والآدمي أكمل منه، ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك، لكن مالا يحتاج إليه من تعذيبه نهي اللّه عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك، وأوجب اللّه الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح. كما في صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي ﷺ أنه قال: "إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
وهؤلاء الذين زهدوا في الإرادات حتى فيما يحبه اللّه ورسوله من الإرادات بإزائهم طائفتان:
طائفة رغبت فيما كره اللّه ورسوله الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان.
وطائفة رغبت فيما أمر اللّه ورسوله، لكن لهواء أنفسهم لا لعبادة اللّه تعالى، وهؤلاء الذين يأتون بصور الطاعات مع فساد النيات، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قيل له: يا رسول اللّه، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل اللّه؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا،
ج/ 10 ص -515-فهو في سبيل اللّه". قال تعالى: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا" [النساء: 142] .
وهؤلاء أهل إرادات فاسدة مذمومة، فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم، وهم يشبهون اليهود، كما يشبه أولئك النصارى. قال تعالى: "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"[آل عمران: 112]، وقال تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا" [الأعراف: 146]، وقال تعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا" إلى قوله: "وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"[الأعراف: 175، 176].
فهؤلاء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق، وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلال والجهل بالحق. كما قال تعالى: "ِوَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" [المائدة: 77].
ج/ 10 ص -516-وكلا الطائفتين تاركة ما أمر اللّه ورسوله به من الإرادات، والأعمال الصالحة، مرتكبة لما نهى اللّه ورسوله عنه من الإرادات والأعمال الفاسدة.
فَصْل
فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الاستقامة رضي اللّه عنهم : بأنه لا يريد السالك مرادًا قط، وأنه لا يريد مع إرادة اللّه عز وجل سواها، بل يجرى فعله فيه، فيكون هو مراد الحق، إنما قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر اللّه ورسوله فيه، فأما ما علم أن اللّه أمر به فعليه أن يريده ويعمل به، وقد صرحوا بذلك في غير موضع. وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالإرادة الخلقية هو الكمال، وهو الفناء في توحيد الربوبية، وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد، فصاحبه إذا قام بالأمر فلأجل غيره، أو أنه لا يحتاج أن يقوم بالأمر، فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع.
فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف
ج/ 10 ص -517-الكرخي، والسري السقطي، والجنيد ابن محمد، وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف.
وهذا كثير في كلامهم: كقول الشيخ عبد القادر في كتاب [فتوح الغيب]: [اخرج من نفسك، وتنح عنها، وانعزل عن ملكك، وسلم الكل إلى اللّه تبارك وتعالى، وكن بوابه علي باب قلبك، وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك بإدخاله، وانته نهيه في صد من يأمرك بصده، فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه، وإخراج الهوى من القلب بمخالفته وترك متابعته في الأحوال كلها، وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته، فلا ترد إرادة غير إرادته تبارك وتعالى، وغير ذلك منك غير، وهو واد الحمقى، وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى، وحجابك عنه.
احفظ أبدا أمره، وانته أبدا نهيه، وسلم إليه أبدا مقدوره، ولا تشركه بشيء من خلقه، فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه، فلا ترد ولا تهوى ولا تشته لئلا يكون شركا. قال اللّه تعالى: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف: 110]
ج/ 10 ص -518-ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب؛ بل هو أيضًا متابعتك لهواك، وأن تختار مع ربك شيئًا سواه من الدنيا وما فيها، والآخرة وما فيها، فما سواه تبارك وتعالى غيره، فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره، فاحذر ولا تركن، وخف ولا تأمن، وفتش ولا تغفل فتطمئن، ولا تضف إلى نفسك حالًا ولا مقامًا، ولاتدع شيئًا من ذلك].
وقال الشيخ عبد القادر أيضًا: [إنما هو اللّه ونفسك، وأنت المخاطب، والنفس ضد اللّه وعدوته، والأشياء كلها تابعة للّه، فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصمًا له على نفسك] إلى أن قال :
[فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك، قال تعالى: "وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" [ص: 26] ] إلى أن قال:
[والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي رحمه اللّه تعالى لما رأي رب العزة في المنام فقال له: كيف الطريق إليك؟ فقال: [اترك نفسك وتعال] قال أبو يزيد: فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها.
فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الأحوال كلها، فإن
ج/ 10 ص -519-كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج من إجرام الخلق، وشبههم ومنتهم، والاتكال عليهم والثقة بهم، والخوف منهم؛ والرجاء لهم، والطمع فيما عندهم من حطام الدنيا، فلا ترج عطاءهم على طريق الهدية، أو الزكاة، أو الصدقة، أو الكفارة أو النذر، فاقطع همك منهم من سائر الوجوه والأسباب، فاخرج من الخلق جدًا، واجعلهم كالباب يرد ويفتتح، وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل أخرى، كل ذلك بفعل فاعل، وتدبير مدبر، وهو اللّه تبارك وتعالى.
فإذا صح لك هذا كنت موحدًا له تبارك وتعالى ولا تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية، واعتقد أن الأفعال لا تتم لهم دون اللّه تبارك وتعالى لكيلا تعبدهم، وتنسى اللّه تعالى ولا تقبل فعلهم دون اللّه فتكفر، وتكون قدريًا. ولكن قل: هي للّه خلقًا وللعباد كسبا. كما جاءت به الآثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب، وامتثل أمر اللّه فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ولا تجاوزه، فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم، فلا تكن أنت الحاكم، وكونك معهم قدر، والقدر ظلمة، فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم كتاب اللّه وسنة رسوله ﷺ لا تخرج عنهما.
فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة، فإن وجدت فيهما تحريم ذلك، مثل أن تلهم بالزنا أو الربا أو مخالطة
ج/ 10 ص -520-أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك، واهجره ولاتقبله، ولاتعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين، وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الأكل والشرب واللبس والنكاح فاهجره أيضًا ولا تقبله، واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها، وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها]
قلت: ومراده بهجر المباح، إذا لم يكن مأمورًا به، كما قد بين مراده في غير هذا الموضع، فإن المباح المأمور به إذا فعله بحكم الأمر كان ذلك من أعظم نعمة اللّه عليه، وكان واجبًا عليه، وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين المقربين؛ لا يقف عند طريقة الأبرار أصحاب اليمين].
قال: [وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ولا إباحته بل هو أمر لا تعقله، مثل أن يقال لك: ائت موضع كذا وكذا، الق فلانًا الصالح، ولا حاجة لك هناك ولا في الصالح، لاستغنائك عنه بما أولاك اللّه تعالى من نعمه من العلم والمعرفة، فتوقف في ذلك ولا تبادر إليه، فتقول: هل هذا إلهام إلا من الحق فأعمل به؟ بل أنتظر الخير في ذلك، وفعل الحق بأن يتكرر ذلك الإلهام وتؤمر بالسعي، أو علامة تظهر لأهل العلم باللّه تبارك وتعالى يفعلها العقلاء من أولياء اللّه، والمؤيدون من الأبدال.
وإنما لم تبادر إلى ذلك لأنك لا تعلم عاقبته وما يؤول الأمر إليه، وربما
ج/ 10 ص -521-كان فيه فتنة وهلاك ومكر من اللّه وامتحان، فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك، فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولًا محفوظًا فيها؛ لأن اللّه تعالى لا يعاقبك على فعله، وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء].
قلت: فقد أمر رضي اللّه عنه بأن ما كان محظورًا في الشرع يجب تركه ولابد، وما كان معلومًا أنه مباح بعينه لكونه يفعل بحكم الهوى لا بأمر الشارع فيترك أيضًا، وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح لا مضرة فيه أو فيه مضرة مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين، والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين، فإن جنس هذا العمل ليس محرمًا ولا كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على الإنسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لأنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له فعله، وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه، فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فلا يؤاخذ بالفعل، لخلاف ما إذا فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنًا.
وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلاء خيف عليه. مثل قوله ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها
ج/ 10 ص -522-عن غير مسألة أعنت عليها"، ومنه قوله: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا". وفي السنن: "من سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه، ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل اللّه عليه ملكًا يسدده وفي رواية وإن أكره عليه"، وفي الصحيحين أنه ﷺ قال في الطاعون: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه"، وعنه أنه ﷺ نهى عن النذر. ومنه قوله: "ذروني ماتركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
فَصْل
قال الشيخ عبد القادر: وإن كنت في حال الحقيقة، وهي حال الولاية: فخالف هواك واتبع الأمر في الجملة، واتباع الأمر على قسمين:
أحدهما: أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس، وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن.
ج/ 10 ص -523-والقسم الثاني: ما كان بأمر باطن، وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه، وإنما يتحقق هذا الأمر في المباح الذي ليس حكمًا في الشرع، على معنى أنه ليس من قبيل النهي ولا من قبيل الأمر الواجب، بل هو مهمل ترك العبد يتصرف فيه باختياره، فسمى مباحًا فلا يحدث العبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر الأمر فيه فإذا أمر امتثل فيصير جميع حركاته وسكناته باللّه تعالى، مافي الشرع حكمه فبالشرع، وما ليس له حكم في الشرع فبالأمر الباطن، فحينئذ يصير محققًا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم.
وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق، والفناء حالة الأبدال المنكسري القلوب؛ لأجل الحق، والموحدين العارفين أرباب العلوم والفعل، السادة الأمراء، السخي الخفراء للحق، خلفاء الرحمن وأجلائه وأعيانه وأحبابه عليهم السلام فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة، وألا تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة، دنيا وأخرى عبد المَلِك لاعبد المَلَك، وعبد الأمر لا عبد الهوى كالطفل مع الظئر، والميت الغسيل مع الغاسل، والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى الأمر والنهي.
وقال أيضًا: اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك، إن كنت في
ج/ 10 ص -524-حال التقوى التي هي القدم الأولى، واتبع الأمر في حالة الولاية ووجود الهوي ولا تتجاوزه، وهي القدم الثانية، وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية والصديقية، وهي المنتهى، تنح عن الطريق القذر، خل عن سبيله، رد نفسك وهواك، كف لسانك عن الشكوى، فإذا فعلت ذلك، إن كان خيرًا زادك المولى طيبة ولذة وسرورًا، وإن كان شرا ً حفظك في طاعته فيه، وأزال عنك الملامة وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله، كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف، ذلك النموذج عندك فاعتبر به. ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا، ولا يصلح لمجالسة الكريم إلا طاهر عن أنجاس الذنوب والزلات، ولايقبل على شدته إلا طيب من دون الدعوى والهواشات، كما لا يصلح لمجالسة الملوك إلا الطاهر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ، فالبلايا مكفرات. قال النبي ﷺ: "حمى يوم كفارة سنة".
قلت: فقد بين الشيخ عبد القادر رضي اللّه عنه أن لزوم الأمر والنهي لابد منه في كل مقام، وذكر الأحوال الثلاث التي جعلها: حال صاحب التقوى، وحال الحقيقة، وحال حق الحق، وقد فسر مقصوده بأنه لابد للعبد في كل حال من أن يريد فعل ما أمر به
ج/ 10 ص -525-في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع، وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه، وهذا حق. فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ولا نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو في مثل هذا عن إرادة النقيضين.
وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم الأمر دائمًا الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه، أو الأمر الباطن، وبين أن الأمر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم، وإن مثل هذا ينتظر فيه الأمر الخاص حتى يفعله بحكم الأمر.
فإن قلت: فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله؟ وصاحب الحق الذي بعده؟.
قيل: أما الذي بعده الذين سماهم: الأبدال، فهم الذين لا يفعلون إلا بأمر الحق ولا يفعلون إلا به فلا يشهدون لأنفسهم فعلًا فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره، ولهذا قال: فاتباع الأمر فيها مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة.
فهؤلاء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد الإلهية، فيشهدون
ج/ 10 ص -526-أن اللّه هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير، فلا يرون لأنفسهم حمدًا ولا منة على أحد، ويرون أن اللّه خالق أفعال العباد فلا يرون أحدًا مسيئًا إليهم، ولا يرون لهم حقًا على أحد إذ قد شهدوا أن اللّه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وهم يعلمون أن العبادة لا يستحقون من أنفسهم ولا بأنفسهم على اللّه شيئًا، بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد، ولا يشرك به شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فيرون إنما قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك.
ويشهدون: أنه لا حول ولا قوة إلا باللّه. وأما ما قام بالعباد من أذاهم، فهو خلقه وهو من عدله، وما تركه الناس من حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه، وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل. ولهذا كانوا منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض، ولا أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إلا العدم لا يرى له شيئًا، ولا يرى به شيئًا.
وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلاص الدين للّه، وأنه لا يفعل إلاما أمر به، فلايفعل إلا للّه، لكن قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته، وأنه لا حول ولا قوة إلا باللّه
ج/ 10 ص -527-وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب هو الخالق الفاعل لكل ما قام به، وإن كمال هذا الشهود لا يبقى شيئًا من العجب ولا الكبر ونحو ذلك. فكلاهما قائم بالأمر مطيع للّه، لكن هذا يشهد أن اللّه هو الذي جعله مسلمًا مصليًا، وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئًا. وذاك وإن كان يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرًا بأن اللّه خالق أفعال العباد؛ لكن قد لا يشهده شهودًا يجعله فيه بمنزلة المعدوم.
وأيضًا، بينهما فرق من جهة ثانية: وهي أن الأول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها، فهو يميز في مراداته بين ما يؤمر به وما ينهى عنه، ومالا يؤمر به ولا ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصلا إلا ما أراده الرب، إما أمرًا به فيمتثله هو باللّه، وإما فعلا فيه فيفعله اللّه به، ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر، في غير الأمر والنهي.
وأما الأول: الذي هو في مقام التقوى العامة، فإن له شهوات للمحرمات، وله التفات إلى الخلق، وله رؤية نفسه، فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى، بأن يكف عن المحرمات، وعن تناول الشهوات بغير الأمر، فهذا يحتاج أن يميز بين ما يفعله ومالا يفعله، وهو التقوى، وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إلا ما يؤمر به فقط، فلا يفعل إلا ما أمر به في الشرع، وما كان مباحًا لم يفعل إلا ما أمر به.
ج/ 10 ص -528-وأما الثالث: فقد تم شهوده في أنه لا يفعل إلا للّه وباللّه، فلا يفعل إلا ما أمر اللّه به للّه، ويشهد أن اللّه هو الذي فعل ذلك في الحقيقة، ولا تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ولا لغير اللّه، ولا يفعل بنفسه ولا بغير اللّه تعالى.
والثلاثة مشتركون في الطريق، في أن كلًا منهم لا يفعل إلا الطاعة، لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة، وبصفاء النية والإرادة. واللّه أعلم.
فإن قيل: كلام الشيخ كله يدور على أنه يتبع الأمر مهما أمكن معرفته باطنًا وظاهرًا، وما ليس فيه أمرًا باطنًا ولا ظاهرًا يكون فيه مسلما لفعل الرب، بحيث لا يكون له اختيار لا في هذا ولا في هذا بل إن عرف الأمر كان معه، وإن لم يعرفه كان مع القدر، فهو مع أمر الرب إن عرف وإلا فمع خلقه، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، وهذا يقتضي أن من الحوادث ماليس فيه أمر ولا نهي، فلا يكون للّه فيه حكم لا باستحباب ولا كراهة، وقد صرح بذلك هو والشيخ حماد الدباس، وإن السالك يصل إلى أمور لا يكون فيها حكم شرعي بأمر ولا نهي، بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة، إذ ليس هنا حقيقة شرعية.
ج/ 10 ص -529-وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة، ويقولون: الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحًا على عدمه، وهو الواجب والمستحب. وإما أن يكون عدمه راجحًا على وجوده، وهو المحرم والمكروه، وإما أن يستوى الأمران وهو المباح، وهذا التقسيم بحسب الأمر المطلق.
ثم الفعل المعين الذي يقال: هو مباح، إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لاستعانته به على طاعته ولحسن نيته. فهذا يصير أيضًا محبوبًا راجح الوجود بهذا الاعتبار، وإما أن يكون مفوتًا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن مستحب، فهذا عدمه خير له.
والسالك المتقرب إلى اللّه بالنوافل بعد الفرائض لا يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين، فإنه إذا لم يستعن به على طاعته كان تركه، وفعل الطاعة مكانه خيرًا له، وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح مثله. فيقال: لا فرق بين هذا وهذا، فهذا يصلح للأبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى اللّه بالفرائض، كأداء الواجبات، وترك المحرمات، ويشتغلون مع ذلك بمباحات. فهؤلاء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم، إذا كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر، ولا سبيل إلى أن تترك النفس فعلًا إن
ج/ 10 ص -530-لم تشتغل بفعل آخر يضاد الأول؛ إذ لا تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات.
ومن هذا أنكر الكعبي: المباح في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبًا من باب الواجب المخير.
وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار. فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه: كأبي الحسن الآمدي، وقواه طائفة، بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي. ومنهم من قال: هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة، فأما ما ليست أضداده محصورة فلا يكون النهي عنه أمرًا بأحدهما، كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير، فيقال في المخير: هو أمر بأحد الثلاثة، ويقال في المطلق: هو أمر بالقدر المشترك، وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا.
وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر، وهو قد يقول: عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم، بل إما مباح وإما مستحب، وإما واجب.
ج/ 10 ص -531-وتحقيق الأمر أن قولنا: الأمر بالشىء نهى عن ضده وأضداده، والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا: الأمر بالشىء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، والنهي عن الشىء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به. فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، وإذا كان لا يعدم إلابضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده، فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن مقصوده الأمر. والفرق ثابت بين مايؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود.
فالأول: هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلاف الثاني، فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم، فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا.
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لابد من ترك أضداده، لكن
ج/ 10 ص -532-ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك.
وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال: فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا؛ لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا: الواجب ما يذم تاركه، ويعاقب تاركه، أو يكون تركه سببًا للذم والعقاب.
فقولنا: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أو [يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب]. يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب الأول، والثاني. فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به، ويؤمر به أمرًا بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه.
ج/ 10 ص -533-ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي، فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما، بحيث إذا أكلهما جميعًا لم يعاقب عقوبة من أكل ميتتين، بل عقوبة من أكل ميتة واحدة، والأخرى وجب تركها وجوب الوسائل. فقول من قال: كلاهما محرم صحيح بهذا الاعتبار؛ وقول من قال: المحرم في نفس الأمر أحدهما صحيح أيضًا بذلك الاعتبار وهذا نظير قول من قال: يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب.
وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا، ومن قال: المحرم أحدهما لا يناسب طريقة الفقهاء، وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي. فإن الوجوب والحرمة الثابتة لأحدهما ليست ثابتة للآخر، بل نوع آخر، حتى لو اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الأخرى، كان ولده من مملوكته ثابتًا نسبه بخلاف الأخرى، ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلًا، ثم تزوج الأخرى لم يحد حدين، مع أنه لاحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الأجنبية.
وبهذا تنحل شبهة الكعبي. فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق.
ج/ 10 ص -534-ثم إن هذا يعتبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالًا ليشتغل به عن الطعام الحرام، فهذا يثاب على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي ﷺ بقوله: "وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يارسول اللّه، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر، فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال؟!"، ومنه قوله ﷺ: "إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته" رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه.
وقد يقال: المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلًا، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد. فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك. فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري. وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها.
والمقصود هنا أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح
ج/ 10 ص -535-عن مباح آخر، فيكون كل من المباحين يستوى وجوده وعدمه في حقهم. أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة اللّه، وحينئذ فمباحاتهم طاعات، وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده، فيؤمرون به شرعًا أمر استحباب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه، وإن لم يكن فيه إثم. والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها فهذا سؤال.
وسؤال ثان: وهو أنه إذا قدر أن من الأفعال ماليس فيه أمر ولا نهي، كما في حق الأبرار، فهذا الفعل لا يحمد ولا يذم، ولا يحب ولا يبغض، ولا ينظر فيه إلا وجود القدر وعدمه، بل إن فعلوه لم يحمدوا، وإن لم يفعلوه لم يحمدوا، فلا يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل، مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم وإرادتهم. إذ الكلام في ذلك.
وأما غيرالأفعال الاختيارية، وهو ما فعل بالإنسان كما يحمل الإنسان وهو لا يستطيع الامتناع، فهذا خارج عن التكليف، مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة، ويبغضه إن كان سيئة، ويخلو عنهما إن لم يكن حسنة ولا سيئة، فمن جعل الإنسان فيما يستعمله فيه القدر من الأفعال الاختيارية كالميت بين
ج/ 10 ص -536-يدي الغاسل فقد رفع الأمر والنهي عنه في الأفعال الاختيارية وهذا باطل.
وسؤال ثالث: وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط الأمر والنهي عن العبد في هذه الأحوال، مع كون أفعاله اختيارية، وهب أنه ليس له هوى، فليس كل مالا هوى فيه يسقط عنه فيه الأمر والنهي، بل عليه أن يحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله.
قيل: هذه الأسولة أسئلة صحيحة.
وفصل الخطاب: أن السالك قد يخفي عليه الأمر والنهي، بحيث لا يدري هل ذلك الفعل مأمور به شرعًا أو منهي عنه شرعًا؛ فيبقى هواه لئلا يكون له هوى فيه، ثم يسلم فيه للقدر، وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب وأمره وحبه في ذلك الفعل.
وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد، وأئمة العلماء، فإنه قد يكون عندهم أفعال وأقوال لا يعرفون حكم اللّه الشرعي فيها، بل قد تعارضت عندهم فيها الأدلة أو خفيت الأدلة بالكلية، فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم، وحكم الشرع إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من
ج/ 10 ص -537-معرفته، وأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فلا يطالب به، وإنما عليه أن يتقي اللّه ما استطاع. وهذا خطأ في العلم، وليس خطأ في العمل، وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده واجتهاده، وخطؤه مرفوع عنه.
فإن قيل: فإذا كان الأمر هكذا. فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به أو منهي عنه، وهو لا يريد أن يفعل شيئًا لا مدح فيه ولا ذم، فيقف لا يستسلم للقدر ويصير محلًا لما يستعمل فيه من الأفعال، اللّهم إلا إذا فعل غيره فعلًا، فهو لا يمدحه ولا يذمه، ولا يرضاه ولا يسخطه؛إذا لم يتبين له حكمه.
فأما كونه هو من أفعاله الاختيارية يصير مستسلمًا لما يستعمله القدر فيه: كالطفل مع الظئر، والميت مع الغاسل، فهذا مما لم يأمر اللّه به ولا رسوله، بل هذا محرم، وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لاجتهاده وحسن قصده، أما كونه يحمد على ذلك، ويجعل هذا أفضل المقامات فليس الأمر كذلك، وكونه مجردًا عن هواه ليس مسوغًا له أن يستسلم لكل مايفعل به.
ثم يقال: الأمور مع هذا نوعان:
ج/ 10 ص -538-أحدهما: أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل الإنسان ولا يمكنه الامتناع، وكما تضجع المرأة قهرًا وتوطأ، فهذا لا إثم فيه باتفاق العلماء، وأما أن يكره بالإكراه الشرعي حتى يفعل، فهذا أيضًا معفو عنه في الأفعال عند الجمهور، وهو أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالى: "وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [النور: 33].
وأما إذا لم يكره الإكراه الشرعي فاستسلامه للفعل المطلق الذي لا يعرف أخير هو أم شر؟ ليس هو مأمورًا به، وإن جرى على يده خرق عادة أو لم يجر، فليس هو مأمورًا أن يفعل إلا ما هو خير عند اللّه ورسوله.
قيل: هذا السؤال صحيح، وحقيقة الأمر: أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فيحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم لربهم، وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الأصلح، إذا استعملوا في أمورهم لا يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن يكون خيرًا؛ لأن معرفتهم بحكمه قد تعذرت عليهم، والإنسان غير عالم في كل حال بما هو الأصلح له في دينه، وبما هو أرضى للّه ورسوله، فيبقى حالهم حال المستخير للّه فيما لم يعلم عاقبته، إذا قال: "اللهم، إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر؛ وتعلم ولا أعلم؛ وأنت علام الغيوب، اللّهم، إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني
ج/ 10 ص -539-ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به".
فإذا استخار اللّه كان ما شرح له صدره وتيسر له من الأمور هو الذي اختاره اللّه له. إذ لم يكن معه دليل شرعي على أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال، فإن الأدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام، لا بعين كل فعل من كل فاعل، إذ كان هذا ممتنعًا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الأفراد المعينة داخلة تحت الأمر العام الكلي؛ لكن لا يقدر كل أحد على استحضار هذا، ولا على استحضار أنواع الخطاب .
ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم.
ثم القياس أيضًا قد لا يحصل في كل واقعة، فقد يخفى على الأئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام، أو اعتبارها بنظير لها، فلا يعرف لها أصل، ولا نظير. هذا مع كثرة نظرهم في خطاب الشارع ومعرفة معانيه، ودلالته على الأحكام. فكيف من لم يكن كذلك؟!
ج/ 10 ص -540-ثم السالك ليس قصده معرفة الحلال والحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا، وهذا خير من هذا، وأيهما أحب إلى اللّه في حقه في تلك الحال، وهذا باب واسع لا يحيط به إلا اللّه ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيها بما ينهي عنه غيره، ويؤمر في حال بما ينهي عنه في أخرى.
فقالوا: نحن نفعل الخير بحسب الإمكان، وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به، ونترك أصل الشر وهو هوى النفس، ونلجأ إلى اللّه فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن أصبنا فلنا أجران، وإلا فلنا أجر، وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا.
وحينئذ، فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا؛ ولكن كثير ممن يعلم المشروع لا يفعله ولا يقصد أحب الأمور إلى اللّه وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى، فيبقى هذا فعل المشروع بهوى وهذا ترك مالم يعلم أنه مشروع بلا هوى. فهذا نقص في العلم، وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل، ولو كان المفعول واجبًا. فيقال: إن تاب صاحب الهوي من هواه كان أرفع بعلمه، وإن
ج/ 10 ص -541-لم يتب فله نصيب من عالم السوء؛ ولهذا تشاجر رجلان من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا. فقال أحدهما لصاحبه: إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. وقال الآخر: أنت كالحمار يحمل أسفارًا؛ فهذا أحسن قصدًا وأقوى علمًا.
ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلاء اتباع الهوي وحب الدنيا والرئاسة، وأهل العلم يعيبون على أولئك نقص علمهم بالشرع، وعدولهم عن الأمر والنهي فهذا هذا.
واللّه تعالى المسؤول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وقد قال بعض أهل الفقه والزهد: من الناس من سلك الشريعة، ومنهم من سلك الحقيقة. ولعله أراد هؤلاء وهؤلاء؛ فإن هؤلاء يرجحون بما ييسره اللّه مع حسن القصد واتباع الأمر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الأدلة الشرعية في ذلك المتيسر لهم، وهؤلاء يرجحون بالأدلة الشرعية من الظواهر والأقيسة، وأخبار الآحاد وأقوال العلماء مع خفاء الأمر المتيسر لهم.
وأيضًا، فهؤلاء قد يشهدون مافي ذلك الفعل المقدر من
ج/ 10 ص -542-المصلحة والخير، فيرجحونه بحكم الإيمان وإن لم يعرفوا دليلًا من النص على حسنه، وأولئك إنما يرجحون من النصوص، وما استنبط منها، فهؤلاء لهم القرآن، وهؤلاء لهم الإيمان، وسبب هذا أن كلا من الطائفتين خفي عليه ما مع الأخرى من الحق، وكل من الطائفتين في طريقها حق وباطل.
فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة الأمر والنهي الشرعيين، فهم ضالون، كالذين يعرفون الأمر والنهي ولا يفعلون إلا ما يهوونه من الكبائر، فإنهم فساق. وهؤلاء الذين قيل فيهم: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون. والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية، وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المنزل، و المؤول والمبدل.
والمقصود هنا ذكر أهل الاستقامة من الطائفتين والكلام على حال أهل العبادة والإرادة، الذين خرجوا عن الهوي وهو الفرق الطبعي، وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي.
وبقى قسم ثالث، ليس لهم فيه فرق طبعي ولا عندهم فيه فرق شرعي، فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر.
وأما من جري مع الفرق الطبعي، إما عالمًا بأنه عاص وهو العالم
ج/ 10 ص -543-الفاجر، أو محتجًا بالقدر أو بذوقه ووجده معرضًا عن الكتاب والسنة، وهو العابد الجاهل فهذا خارج عن الصراط المستقيم.
وهذا مما بين حال كمال الصحابة رضي اللّه عنهم وأنهم خير قرون هذه الأمة، إذ كانوا في خلافة النبوة يقومون بالفروق الشرعية في جليل الأمور ودقيقها مع اتساع الأمر، والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق الشرعية فيما يخصه، كما أن الواحد من هؤلاء يتبع هواه في أمر قليل. فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من الأمر والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات، ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات، والكثير من المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس، أو يفوته القصد في كثير من الأعمال، حتي يتبع هواه فيما وضح له من الأمر والنهي.
فنسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة، وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوي حقيقة، فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول، وخلط القصد الحسن باتباع الهوى، فهؤلاء
ج/ 10 ص -544-وهؤلاء مخلطون في علمهم وعملهم، وتخليط هؤلاء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد، وتخليط هؤلاء في القصد سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم.
فإنه من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم. وحسن القصد: من أعون الأشياء على نيل العلم ودركه. والعلم الشرعي: من أعون الأشياء على حسن القصد والعمل الصالح، فإن العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون، فإن ونى قائدها لم تستقم لسائقها، وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها، فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك، فغايته أن يستطرح للقدر، وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه، فهذا حائر لا يدري أين يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به.
قال تعالى: "فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" [الصف: 5]. هذا جاهل وهذا ظالم، قال تعالى: "وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" [الأحزاب: 72]. مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل لا يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة له من العلم. قال تعالى: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ" [النساء: 17].
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد فقالوا: كل من عصى اللّه
ج/ 10 ص -545-فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.
وقد روى الخلال عن أبي حيان التيمي قال: العلماء ثلاثة: فعالم باللّه ليس عالمًا بأمر اللّه، وعالم بأمر اللّه ليس عالمًا باللّه، وعالم باللّه وبأمر اللّه.
فالعالم باللّه الذي يخشاه، والعالم بأمر اللّه الذي يعرف أمره ونهيه.
قلت: والخشية تمنع اتباع الهوى قال تعالى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" [النازعات: 40، 41].
والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل ﷺ الذي قال فيه: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 1-4]، فنفى عنه الضلال والغي ووصفه بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي، فهذا كمال العلم وذاك كمال القصد ﷺ.
ووصف أعداءه بضد هذين، فقال تعالى: "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى" [النجم: 23]، فالكمال المطلق للإنسان هو تكميل العبودية للّه علمًا وقصدًا. قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56]،
ج/ 10 ص -546-وقال تعالى: "وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ" [الجن: 19]، وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس: "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ" [ص: 82، 83]، وقال تعالى: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ" [الحجر: 42]، وقال تعالى: "كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ" [يوسف: 24]، وقال تعالى: "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ" [النحل: 99، 100].
وعبادته: طاعة أمره، وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه، فالكمال في كمال طاعة اللّه ورسوله باطنًا وظاهرًا، ومن كان لم يعرف ما أمر اللّه به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورًا به، أو تعارضت عنده الأدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس الأمر، فهؤلاء مطيعون للّه مثابون على ما أحسنوه من القصد للّه، واستفرغوه من وسعهم في طاعة اللّه، وما عجزوا عن علمه فأخطؤوه إلى غيره فمغفور لهم.
وهذا من أسباب فتن تقع بين الأمة، فإن أقوامًا يقولون ويفعلون أمورًا هم مجتهدون فيها. وقد أخطؤوا فتبلغ أقوامًا يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب، أو يظنون أنهم لا يعذرون بالخطأ، وهم أيضًا مجتهدون مخطئون، فيكون هذا مجتهدًا مخطئًا في فعله، وهذا مجتهدًا مخطئًا
ج/ 10 ص -547-في إنكاره، والكل مغفور لهم. وقد يكون أحدهما مذنبًا، كما قد يكونان جميعًا مذنبين.
وخير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
والواحد من هؤلاء قد يعطي طرفًا بالأمر والنهي، فيولي ويعزل ويعطي ويمنع، فيظن الظان أن هذا كمال، وإنما يكون كمالا إذا كان موافقًا للأمر، فيكون طاعة للّه، وإلا فهو من جنس الملك، وأفعال الملك: إما ذنب، وإما عفو، وإما طاعة.
فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة، وهم أتباع العبد الرسول وهي طريقة السابقين المقربين.
وأما طريقة الملوك العادلين، فإما طاعة وإما عفو، وهي طريقة الأنبياء الملوك؛ وطريقة الأبرار أصحاب اليمين.
وأما طريقة الملوك الظالمين، فتتضمن المعاصي، وهي طريقة الظالمين لأنفسهم. قال تعالى: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ" [فاطر: 32] فلا يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون
ج/ 10 ص -548-من أحد هذه الأصناف: إما ظالم لنفسه وإما مقتصد، وإما سابق بالخيرات.
وخوارق العادات: إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق، وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة، وأصحابها لا يخرجون عن الأقسام الثلاثة.
ج/ 10 ص -549-قالَ شيخُ الإِسْلاَم رَحِمَه اللَّه تَعَالَى:
فَصْل
حدثني أبي عن محيى الدين بن النحاس؛ وأظني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارًا عن الحق تعالى: "من جاءنا تلقيناه من البعيد، ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد، ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد، ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد".
قلت: هذا من جهة الرب تبارك وتعالى:
فالأولتان: العبادة والاستعانة، والآخرتان: الطاعة والمعصية، فالذهاب إلى اللّه هي عبادته وحده كما قال تعالى: "من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلىّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".
والتقرب بحوله هو الاستعانة، والتوكل عليه، فإنه لا حول ولا
ج/ 10 ص -550-قوة إلا باللّه. وفي الأثر: "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه". وعن سعيد بن جبير: "التوكل جماع الإيمان"، وقال تعالى: "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" [الطلاق: 3]، وقال: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ" [الأنفال: 9]، وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه بمنزلة الدعاء على أصح القولين أيضًا سبب لجلب المنافع ودفع المضار، فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا هو الغالب على ذوي الأحوال متشرعهم وغير متشرعهم، وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق الأمر، وتارة بما يخالفه.
وقوله: "ومن اتبع مرادنا" يعني: المراد الشرعي كقوله:"يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ" [البقرة: 185]، وقوله: "يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ" [النساء: 28]، وقوله: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ"[المائدة: 6] هذا هو طاعة أمره، وقد جاء في الحديث: "وأنت يا عمر لو أطعت اللّه لأطاعك"، وفي الحديث الصحيح: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"، وقد قال تعالى: "وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ" [الشورى: 26].
وقوله: "ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد". يعني: ترك ما كره اللّه من المحرم والمكروه لأجل اللّه: رجاء ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد؛ لأن هذا مقام الصبر، وقد قال تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [الزمر: 10].
ج/ 10 ص -551-سُئِلَ عن [إحياء علوم الدين] و [قوت القلوب].. . إلخ.
فأجاب:
أما [كتاب قوت القلوب] و [كتاب الإحياء] تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب: مثل الصبر والشكر، والحب والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك. وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر، وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم، من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقًا، وأبعد عن البدعة مع أن في [قوت القلوب] أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة.
وأما ما في [الإحياء] من الكلام في [المهلكات] مثل الكلام على الكبر، والعجب والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ماهو مقبول ومنه ماهو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه.
و[الإحياء] فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا
ج/ 10 ص -552-ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه. وقالوا: مرضه [الشفاء] يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة.
وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة.
وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم.
وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه.