أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها

    ج/ 10 ص -388-فصل: في العبادات و الفرق بين شرعيها وبدعيها
    فإن هذا باب كثر فيه الاضطراب، كما كثر في باب الحلال والحرام، فإن أقوامًا استحلوا بعض ما حرمه الله، وأقوامًا حرموا بعض ما أحل الله تعالى وكذلك أقوامًا أحدثوا عبادات لم يشرعها الله، بل نهى عنها‏.‏
    وأصل الدين‏:‏ أن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله‏.‏ قال الله تعالى ‏:‏
    ‏"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام ‏:‏ 153‏]‏‏.‏
    وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه خط خطًا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال‏:‏
    ‏"هذه سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو

    ج/ 10 ص -389-إليه‏"‏، ثم قرأ‏:‏ ‏"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏"‏‏.‏
    وقد ذكر الله تعالي في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى كالبحيرة، والسائبة ؛ واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم، وشرعوا دينا لم يأذن به الله، فقال تعالى‏:‏
    ‏"أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏، ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات، كالشرك والفواحش، مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك‏.‏
    والكلام في الحلال والحرام له مواضع أخر‏.‏
    والمقصود هنا العبادات فنقول‏:‏
    العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى منها ما كان محبوبًا لله ورسوله مرضيًا لله ورسوله، إما واجب وإما مستحب، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى‏:‏ ‏
    "ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،

    ج/ 10 ص -390-فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه‏"‏‏.‏
    ومعلوم أن الصلاة منها فرض، وهي الصلوات الخمس، ومنها نافلة، كقيام الليل، وكذلك الصيام فيه فرض، وهو صوم شهر رمضان، ومنه نافلة كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى المسجدين الآخرين مسجد النبي ﷺ وبيت المقدس مستحب‏.‏
    وكذلك الصدقة، منها ما هو فرض، ومنها ما هو مستحب، وهو العفو، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏‏.‏
    وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"يابن آدم، إنك إن تنفق الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول‏"‏، والفرق بين الواجب، والمستحب له موضع آخر غير هذا، والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع، سواء كان واجبًا، أو مستحبًا، وما ليس بمشروع‏.‏
    فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى الله تعالى وهو سبيل الله،

    ج/ 10 ص -391-وهو البر والطاعة والحسنات، والخير، والمعروف، وهو طريق السالكين، ومنهاج القاصدين، والعابدين، وهو الذي يسلكه كل من أراد الله هدايته، وسلك طريق الزهد والعبادة، وما يسمى بالفقر والتصوف، ونحو ذلك‏.‏
    ولا ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة، واجبها، ومستحبها، ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع، وقراءة القرآن على الوجه المشروع، والأذكار والدعوات الشرعية، وما كان من ذلك موقتًا بوقت كطرفي النهار، وما كان متعلقًا بسبب، كتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة، وما ورد من الأذكار، والأدعية الشرعية في ذلك‏.‏ وهذا يدخل فيه أمور كثيرة، وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه، وكذلك يدخل فيه الصيام الشرعي، كصيام نصف الدهر، وثلثه أو ثلثيه، أو عشره، وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويدخل فيه السفر الشرعي، كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الآخرين، ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه، وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع‏.‏
    والعبادات الدينية أصولها‏:‏ الصلاة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، لما أتاه النبي ﷺ، وقال‏:‏
    ‏"ألم أحدث أنك قلت‏:‏ لأصومن

    ج/ 10 ص -392-النهار، ولأقومن الليل، ولأقرأن القرآن في ثلاث‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ بلى‏!‏ قال‏:‏ ‏"فلا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هَجَمَتْ له العين، ونَفِهَتْ له النفس‏"‏، ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال‏:‏ إني أطيق أكثر من ذلك، فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم، فقال‏:‏ إني أطيق أكثر من ذلك، فقال‏:‏ ‏"لا أفضل من ذلك‏"‏، وقال‏:‏ ‏"أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى، وأفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأمره أن يقرأ القرآن في سبع‏"‏‏.‏
    ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة، قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين‏:‏ ‏"يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة‏"‏ فذكر اجتهادهم بالصلاة والصيام والقراءة، وأنهم يغلون في ذلك، حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء‏.‏
    وهؤلاء غلوا في العبادات بلا فقه، فآل الأمر بهم إلى البدعة، فقال‏:‏ ‏"ىمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏"‏‏.‏ فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين، وكفروا من خالفهم، وجاءت فيهم الأحاديث

    ج/ 10 ص -393-الصحيحة، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ‏:‏ صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها‏.‏
    ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة، ولكن يبقى الكلام في القدر المشروع منها، وله صنف كتاب ‏[‏الاقتصاد في العبادة‏]‏‏.‏ وقال أبي بن كعب، وغيره‏:‏ اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة‏.‏
    والكلام في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين، وأيام التشريق، وقيام جميع الليل، هل هو مستحب‏؟‏ كما ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء، والصوفية والعباد، أو هو مكروه كما دلت عليه السنة وإن كان جائزًا ‏؟‏ لكن صوم يوم وفطر يوم أفضل، وقيام ثلث الليل أفضل، ولبسطه موضع آخر‏.‏
    إذ المقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة، حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالاعتكاف الشرعي، والاعتكاف الشرعي في المساجد، كما كان النبي ﷺ يفعله هو وأصحابه، من العبادات الشرعية‏.‏
    وأما الخلوات، فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي، وهذا خطأ،

    ج/ 10 ص -394-فإن ما فعله ﷺ قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة، فنحن مأمورون باتباعه فيه، وإلا فلا‏.‏ وهو من حين نبأه الله تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون‏.‏ وقد أقام صلوات الله عليه بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ودخل مكة في عمرة القضاء، وعام الفتح أقام بها قريبًا من عشرين ليلة، وأتاها في حجة الوداع، وأقام بها أربع ليال، وغار حراء قريب منه، ولم يقصده‏.‏
    وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية، ويقال‏:‏ إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه؛ لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه كالصلاة والاعتكاف في المساجد، فهذه تغني عن إتيان حراء بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي، فإنه لم يكن يقرأ، بل قال له الملك عليه السلام ‏:‏ اقرأ‏.‏ قال صلوات الله عليه وسلامه ‏:‏ ‏"فقلت‏:‏ لست بقارئ‏"‏ ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة‏!‏ ولهذا لما صلاها النبي ﷺ نهاه عنها من نهاه من المشركين، كأبي جهل، قال الله تعالى‏:‏
    ‏"أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏.‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏.‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏.‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏.‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏.‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏.‏ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ ‏.‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏.‏ فَلْيَدْعُ نَادِيَه ‏.‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏.‏ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏"‏‏[‏العلق‏:‏ 9 19‏]‏‏.‏
    وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يومًا، ويعظمون أمر الأربعينية،

    ج/ 10 ص -395-ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر‏.‏وقد روى أن موسى عليه السلام صامها وصام المسيح أيضًا أربعين لله تعالى وخوطب بعدها‏.‏ فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل، كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي‏.‏
    وهذا أيضًا غلط، فإن هذه ليست من شريعة محمد ﷺ بل شرعت لموسى عليه السلام كما شرع له السبت والمسلمون لا يسبتون، وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد ﷺ‏.‏ فهذا تمسك بشرع منسوخ، و ذاك تمسك بما كان قبل النبوة‏.‏
    وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين، وحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عددًا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل، فنزلت عليهم الشياطين؛ لأنهم خرجوا عن شريعة النبي ﷺ التي أمروا بها‏.‏ قال تعالى ‏:‏ ‏
    "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏.‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ‏"‏‏[‏الجاثية‏:‏ 18، 19‏]‏‏.‏
    وكثير منهم لا يحد للخلوة مكانًا، ولا زمانًا، بل يأمر الإنسان أن يخلو في الجملة‏.‏

    ج/ 10 ص -396-ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية، الصلاة والصيام، والقراءة والذكر‏.‏وأكثرهم يخرجون إلى أجناس غير مشروعة، فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه، وهؤلاء يأمرون صاحب الخلوة ألا يزيد على الفرض، لا قراءة ولا نظرًا في حديث نبوي، ولا غير ذلك، بل قد يأمرونه بالذكر، ثم قد يقولون ما يقوله أبو حامد‏:‏ ذكر العامة‏:‏ لا إله إلا الله، وذكر الخاصة‏:‏ الله، الله، وذكر خاصة الخاصة‏:‏ هو، هو‏.‏
    والذكر بالاسم المفرد مظهرًا، ومضمرًا بدعة في الشرع، وخطأ في القول واللغة، فإن الاسم المجرد ليس هو كلامًا لا إيمانًا ولا كفرًا‏.‏
    وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن ‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏"‏‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏"أفضل الذكر لا إله إلا الله‏"‏، وقال‏:‏ ‏"أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير‏"‏‏.‏ والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة‏.‏
    وأما ذكر الاسم المفرد، فبدعة لم يشرع، وليس هو بكلام يعقل ولا فيه إيمان؛ ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخرين يبين أنه ليس

    ج/ 10 ص -397-قصدنا ذكر الله تعالى ولكن جمع القلب على شيء معين حتي تستعد النفس لما يرد عليها، فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرات، فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حالًا شيطانيًا، فيلبسه الشيطان، ويخيل إليه أنه قد صار في الملأ الأعلى، وأنه أعطى ما لم يعطه محمد ﷺ ليلة المعراج، ولا موسى عليه السلام يوم الطور، وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا‏.‏
    وأبلغ من ذلك من يقول‏:‏ ليس مقصودنا إلا جمع النفس بأي شيء كان، حتي يقول‏:‏ لا فرق بين قولك‏:‏ يا حي ‏!‏ وقولك‏:‏ يا جحش‏!‏ وهذا مما قاله لي شخص منهم، وأنكرت ذلك عليه، ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل عليها الشيطان‏.‏
    ومنهم من يقول‏:‏ إذا كان قصد وقاصد، ومقصود، فاجعل الجميع واحدًا، فيدخله في أول الأمر في وحدة الوجود‏.‏
    وأما أبو حامد، وأمثاله ممن أمروا بهذه الطريقة، فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر لكن ينبغي أن يعرف أن البدع بريد الكفر، ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء، حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي رأسه ويقول‏:‏ الله، الله‏.‏ وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب، بل

    ج/ 10 ص -398-قد يقولون‏:‏ إنه يحصل له من جنس ما يحصل للأنبياء‏.‏
    ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للأنبياء، وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في ‏[‏الإحياء‏]‏ وغيره، كما أنه يبالغ في مدح الزهد، وهذا من بقايا الفلسفة عليه‏.‏ فإن المتفلسفة، كابن سينا، وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل في القلوب من العلم للأنبياء وغيرهم فإنما هو من العقل الفعال؛ ولهذا يقولون‏:‏ النبوة مكتسبة، فإذا تفرغ صفى قلبه عندهم وفاض على قلبه من جنس ما فاض على الأنبياء‏.‏ وعندهم أن موسى بن عمران ﷺ كلم من سماء عقله، لم يسمع الكلام من خارج؛ فلهذا يقولون‏:‏ إنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى، وأعظم مما حصل لموسى‏.‏
    وأبو حامد يقول‏:‏ إنه سمع الخطاب، كما سمعه موسى عليه السلام وإن لم يقصد هو بالخطاب، وهذا كله ؛ لنقص إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض، وهذا الذي قالوه باطل من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن هذا الذي يسمونه‏:‏ العقل الفعال، باطل لا حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر‏.‏
    الثاني‏:‏ أن ما يجعله الله في القلوب يكون تارة بواسطة الملائكة

    ج/ 10 ص -399-إن كان حقًا، وتارة بواسطة الشياطين، إذا كان باطلًا‏.‏ والملائكة، والشياطين أحياء ناطقون، كما قد دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من جهة الأنبياء، وكما يدعي ذلك من باشره من أهل الحقائق‏.‏ وهم يزعمون أن الملائكة، والشياطين صفات لنفس الإنسان فقط‏.‏ وهذا ضلال عظيم‏.‏
    الثالث ‏:‏ أن الأنبياء جاءتهم الملائكة من ربهم بالوحي، ومنهم من كلمه الله تعالى فقربه وناداه، كما كلم موسى عليه السلام لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض، كما يزعمه هؤلاء‏.‏
    الرابع‏:‏ أن الإنسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر‏.‏ فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق‏؟‏ هذا إما أن يعلم بعقل، أو سمع، وكلاهما لم يدل على ذلك‏.‏
    الخامس‏:‏ أن الذي قد علم بالسمع والعقل، أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء حلت فيه الشياطين، ثم تنزلت عليه الشياطين، كما كانت تتنزل على الكهان، فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر الله، الذي أرسل به رسله، فإذا خلا من ذلك تولاه الشيطان، قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ‏.‏ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ‏"‏‏[‏الزخرف‏:‏ 36، 37‏]‏، وقال الشيطان، فيما أخبر الله عنه‏:‏ ‏"فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏.‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 82، 83‏]‏،

    ج/ 10 ص -400-وقال تعالى ‏:‏ ‏"إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ‏"‏‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده لا يشركون به شيئًا، وإنما يعبد الله بما أمر به على ألسنة رسله فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين‏.‏
    وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين، واشتبهت عليهم الأحوال الرحمانية بالأحوال الشيطانية، وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة، وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء الله المتقين، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏
    السادس‏:‏ أن هذه الطريقة لو كانت حقًا، فإنما تكون في حق من لم يأته رسول، فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك طريق، فمن خالفه ضل، وخاتم الرسل ﷺ، قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلاة، وذكر، ودعاء، وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر، وانتظار ما ينزل‏.‏
    فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض الأنبياء، لكانت منسوخة بشرع محمد ﷺ، فكيف وهي طريقة جاهلية لا توجب الوصول إلى المطلوب إلا بطريق الاتفاق، بأن يقذف الله تعالى في قلب

    ج/ 10 ص -401-العبد إلهامًا ينفعه‏؟‏ وهذا قد يحصل لكل أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق‏.‏
    ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله، ويدخل فيه خوف الله تعالى وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله‏.‏ وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، لا ينقاضه وينافيه، كما قال جندب وابن عمر‏:‏ تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا‏.‏
    وأما الاقتصار على الذكر المجرد الشرعي، مثل قول‏:‏ لا إله إلا الله، فهذا قد ينتفع به الإنسان أحيانًا، لكن ليس هذا الذكر وحده هو الطريق إلى الله تعالى دون ما دعاه، بل أفضل العبادات البدنية الصلاة، ثم القراءة، ثم الذكر، ثم الدعاء، والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل، كالتسبيح في الركوع، والسجود، فإنه أفضل من القراءة، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة أفضل من القراءة، ثم قد يفتح على الإنسان في العمل المفضول، ما لا يفتح عليه في العمل الفاضل‏.‏ وقد ييسر عليه هذا دون هذا، فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الأفضل، كالجائع إذا وجد الخبز المفضول متيسرًا عليه، والفاضل متعسرًا

    ج/ 10 ص -402-عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول، وشبعه واغتذاؤه به حينئذ أولى به‏.‏
    السابع‏:‏ أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش أهل الصين والروم على تزويق الحائط، وأولئك صقلوا حائطهم حتى تمثل فيه ما صقله هؤلاء، وهذا قياس فاسد؛ لأن هذا الذي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية، كما حصل لهذا الحائط من هذا الحائط‏.‏ بل هو يقول إن‏:‏ العلم منقوش في النفس الفلكية، ويسمى ذلك ‏[‏اللوح المحفوظ‏]‏ تبعًا لابن سينا‏.‏
    وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله ورسوله ليس هو النفس الفلكية، وابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع، فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، وكسوه لحاء الشريعة‏.‏
    وهذا كلفظ المُلْكِ، والملكوت، والجبروت، و اللوح المحفوظ، والملك، والشيطان، والحدوث، والقدم وغير ذلك‏.‏

    ج/ 10 ص -403-وقد ذكرنا من ذلك طرفًا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلام أبي حامد، ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يحرفون كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت طائفة القرامطة الباطنية‏.‏
    والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية، كما يزعم هؤلاء، فلا فرق في ذلك بين الناظر والمستدل والمفرغ قلبه، فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل‏.‏
    ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين، ولهم تنزلات معروفة، وقد بسط الكلام عليها ابن عربي الطائي ومن سلك سبيله، كالتلمساني، وهي تنزلات شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة، لكن ليس هذا موضع بسطها، وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس‏.‏
    ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بلا حدود شرعية، بل سهر مطلق، وجوع مطلق، وصمت مطلق مع الخلوة، كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره، وهي تولد لهم أحوالًا شيطانية، و أبو طالب قد ذكر بعض ذلك، لكن أبو طالب أكثر اعتصامًا بالكتاب والسنة من هؤلاء‏.‏ ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة‏.‏

    ج/ 10 ص -404-من جنس أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي ﷺ، وهو كذب محض، وإن كان ليس فيه إلا قراءة قرآن، ويذكر أحيانًا عبادات بدعية من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو، وأبو حامد وغيرهما، وذكروا أنه يزن الخبز بخشب رطب، كلما جف نقص الأكل‏.‏
    وذكروا صلوات الأيام والليالي، وكلها كذب موضوعة؛ ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيئًا من الخيالات الفاسدة، وليس هذا موضع بسط ذلك‏.‏
    وإنما الغرض التنبيه بهذا علي جنس من العبادات البدعية، وهي ‏:‏ [‏الخلوات البدعية‏]‏ سواء قدرت بزمان، أو لم تقدر؛ لما فيها من العبادات البدعية، أما التي جنسها مشروع، ولكن غير مقدرة وأما ما كان جنسه غير مشروع، فأما الخلوة، والعزلة، والانفراد المشروع، فهو ما كان مأمورًا به أمر إيجاب، أو استحباب‏:‏
    فالأول‏:‏ كاعتزال الأمور المحرمة، ومجانبتها، كما قال تعالى‏:
    ‏ ‏"وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏، ومنه قوله تعالى عن الخليل‏:‏ ‏"فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا‏"‏[‏مريم‏:‏ 49‏]‏، و قوله عن أهل

    ج/ 10 ص -405- الكهف‏:‏ ‏"وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ‏"‏[‏ الكهف‏:‏ 16‏]‏، فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة، ولا من يأمر بشرع نبي ؛ فلهذا أووا إلى الكهف، وقد قال موسى‏:‏ ‏"وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي‏"‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 21‏]‏‏.‏
    وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع، وذلك بالزهد فيه، فهو مستحب، وقد قال طاووس‏:‏ نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره، وسمعه‏.‏
    وإذا أراد الإنسان تحقيق علم، أو عمل، فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة، فهذا حق كما في الصحيحين، أن النبي ﷺ سئل‏:‏ أي الناس أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏
    "رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويدع الناس إلا من خير‏"‏‏.‏
    وقوله‏:
    ‏ ‏"يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة‏"‏ دليل على أن له مالا يزكيه، وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلاة فيهم، فقد قال صلوات الله عليه‏:‏ ‏"ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة جماعة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان‏"‏ وقال‏:‏ ‏"عليكم بالجماعة، فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم‏"‏‏.‏

    ج/ 10 ص -406- فَصْل
    وهذه الخلوات، قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان، ولا إقامة، ولا مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس، إما مساجد مهجورة، وإما غير مساجد، مثل الكهوف، والغيران التي في الجبال، ومثل المقابر لا سيما قبر من يحسن به الظن، ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي، أو رجل صالح؛ ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية، يظنون أنها كرامات رحمانية‏.‏
    فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه، وقد مات من سنين كثيرة، ويقول‏:‏ أنا فلان، وربما قال له‏:‏ نحن إذا وضعنا في القبر خرجنا، كما جرى للتونسي مع نعمان السلامي‏.‏
    والشياطين كثيرًا ما يتصورون، بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف فتقول‏:‏ أنا الشيخ فلان، أو العالم فلان، وربما قالت‏:‏ أنا أبو بكر وعمر وربما أتى في اليقظة دون المنام، وقال‏:‏ أنا المسيح، أنا موسى، أنا محمد، وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها،

    ج/ 10 ص -407-وثم من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم، وثم شيوخ لهم زهد، وعلم، وورع، ودين يصدقون بمثل هذا‏.‏
    ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي، أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه‏.‏ ومن هؤلاء من رأى في دائرة ذرى الكعبة صورة شيخ، قال‏:‏ إنه إبراهيم الخليل، ومنهم من يظن أن النبي ﷺ خرج من الحجرة وكلمه، وجعلوا هذا من كراماته، ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه‏.‏
    وبعضهم كان يحكي‏:‏ أن ابن منده، كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل، فسأل النبي ﷺ عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك، وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك‏:‏ ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار‏؟‏ فهل في هؤلاء من سأل النبي ﷺ بعد الموت وأجابه‏؟‏ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي ﷺ فأجابهم ‏؟‏ وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه، فهلا سألته فأجابها‏؟‏

    ج/ 10 ص -408-فَصْل
    والأنبياء صلوات اللّه عليهم وسلامه أجمعين قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه، وأن نقتدي بهم، وبهداهم‏.‏ قال تعالى‏:‏
    ‏"قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ‏"‏[‏ الأنعام‏:‏ 90‏]‏ ومحمد ﷺ خاتم النبيين لا نبي بعده، وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره، فلم يبق طريق إلى اللّه إلا باتباع محمد ﷺ فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب، فهو مشروع، وكذلك ما رغب فيه، وذكر ثوابه، وفضله‏.‏
    ولا يجوز أن يقال‏:‏ إن هذا مستحب، أو مشروع، إلا بدليل شرعي، ولا يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف، لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي، وروى له فضائل بأسانيد ضعيفة، جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب، وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة، فإذا روى في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب، لم يجز أن يكذب

    ج/ 10 ص -409-به، وهذا هو الذي كان الإمام أحمد بن حنبل، وغيره يرخصون فيه، وفي روايات أحاديث الفضائل‏.‏ وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف، فحاشا للّه، كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب، فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته إلا أن يبينوا أنه كذب لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"من روى عني حديثًا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين‏"‏‏.‏
    وما فعله النبي ﷺ على وجه التعبد، فهو عبادة يشرع التأسي به فيه‏.‏ فإذا خصص زمان أو مكان بعبادة، كان تخصيصه بتلك العبادة سنة؛ كتخصيصه العشر الأواخر بالاعتكاف فيها وكتخصيصه مقام إبراهيم بالصلاة فيه، فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل؛ لأنه فعل‏.‏
    وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد، فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا كذلك، كنا متبعين له، وكذلك إذا ضرب لإقامة حد، بخلاف من شاركه في السفر، وكان قصده غير قصده، أو شاركه في الضرب، وكان قصده غير قصده، فهذا ليس بمتابع له، ولو فعل فعلًا بحكم الاتفاق مثل نزوله في السفر بمكان، أو أن يفضل في إداوته ماء فيصبه في أصل شجرة، أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك، فهل يستحب قصد متابعته في ذلك‏؟‏ كان ابن عمر يحب أن

    ج/ 10 ص -410-يفعل مثل ذلك‏.‏ وأما الخلفاء الراشدون، وجمهور الصحابة، فلم يستحبوا ذلك؛ لأن هذا ليس بمتابعة له، إذ المتابعة لابد فيها من القصد، فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل، بل حصل له بحكم الاتفاق كان في قصده غير متابع له، وابن عمر رضي اللّه عنه يقول‏:‏ وإن لم يقصده، لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان، فأحب أن أفعل مثله، إما لأن ذلك زيادة في محبته، وإما لبركة مشابهته له‏.‏
    ومن هذا الباب‏:‏ إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته، وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك، ويرخص في مثل ما فعله ابن عمر، وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعًا لابن عمر، وعن أحمد في التمسح بالمنبر روايتان‏.‏
    أشهرهما أنه مكروه، كقول الجمهور، وأما مالك وغيره من العلماء، فيكرهون هذه الأمور وإن فعلها ابن عمر، فإن أكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، لم يفعلها‏.‏ فقد ثبت بالإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكانًا يصلون فيه، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ مكان صلى فيه رسول اللّه ﷺ‏.‏ فقال‏:‏ أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد‏؟‏‏!‏ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته فيه الصلاة فليصل فيه وإلا فليمض‏.‏

    ج/ 10 ص -411-وهكذا للناس قولان، فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط، أو مستحبة‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره، كما قد بسط ذلك في موضعه، ولم يكن ابن عمر، ولا غيره من الصحابة يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه، ومثل مواضع نزوله في مغازيه، وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقط، وإن كان هو لم يقصد التعبد به، فأما الأمكنة نفسها، فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم منها، إلا ما عظمه الشارع‏.‏
    فَصل
    وأهل العبادات البدعية، يزين لهم الشيطان تلك العبادات، ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث، فلا يحبون سماع القرآن والحديث، ولا ذكره، وقد يبغض إليهم حتى الكتاب، فلا يحبون كتابا، ولا من معه كتاب، ولو كان مصحفًا أو حديثًا، كما حكى النصراباذي أنهم كانوا يقولون‏:‏ يدع علم الخرق، ويأخذ علم الورق، قال‏:‏ وكنت أستر الواحى منهم، فلما كبرت احتاجوا إلى علمي‏.‏
    وكذلك حكى السري السقطي‏:‏ أن واحدًا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلمًا خرج، ولم يقعد عنده، ولهذا قال سهل بن عبد

    ج/ 10 ص -412-اللّه التستري‏:‏ يا معشر الصوفية، لا تفارقوا السواد على البياض، فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن‏.‏
    وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع، أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب، وذلك؛ لأنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم، فصارت شياطينهم تهربهم من هذا، كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه، وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم، ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه، وقال اللّه تعالى عن المشركين‏:‏ ‏
    "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ‏.‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ‏.‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49 - 51‏]‏‏.‏ وهم من أرغب الناس في السماع البدعي، سماع المعازف‏.‏ ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات اللّه تعالى‏:‏
    وكان مما زين لهم طريقهم، أن وجدوا كثيرًا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة اللّه تعالى وسلوك سبيله، إما اشتغالًا بالدنيا، وإما بالمعاصي وإما جهلا وتكذيبًا بما يحصل لأهل التأله والعبادة، فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم، وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه

    ج/ 10 ص -413-من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين، هؤلاء يقولون‏:‏ ليس هؤلاء على شيء، وهؤلاء يقولون‏:‏ ليس هؤلاء على شيء، وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في الكتب‏.‏
    فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بلا تلقين، ويحكون أن شخصًا حصل له ذلك، وهذا كذب‏.‏ نعم قد يكون سمع آيات اللّه، فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها‏.‏ فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها، ويقول بعضهم أو يحكي أن بعضهم قال‏:‏ أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت‏.‏ وهذا يقع، لكن منهم من يظن أنَّ ما يلقي إليه من خطاب، أو خاطر هو من اللّه تعالى بلا واسطة، وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني، فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة، فما وافق الكتاب والسنة، فهو حق‏.‏ وماخالف ذلك، فهو خطأ‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏
    ‏"وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏.‏ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏.‏ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ‏"‏[‏الزخرف‏:‏ 36-38‏]‏ ‏.‏
    وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله، قال تعالي‏:‏
    ‏"وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ‏"‏[‏ القلم‏:‏ 52‏]‏، وقال تعالى‏:‏

    ج/ 10 ص -414-"فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏.‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏.‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ‏.‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 123-126‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏.‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 9، 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏.‏ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52، 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدٌِ‏"‏[‏إبراهيم‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ ‏.‏
    ثم إن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من اللّه بلا واسطة، صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول‏.‏ يقول أحدهم‏:‏ فلان عطيته على يد محمد، وأنا عطيتي من اللّه بلا واسطة، ويقول أيضًا‏:‏ فلان يأخذ عن الكتاب، وهذا الشيخ يأخذ عن اللّه، ومثل هذا‏.‏
    وقول القائل‏:‏ يأخذ عن اللّه، وأعطاني اللّه لفظ مجمل، فإن

    ج/ 10 ص -415-أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني الخلقي أي‏:‏ بمشيئة اللّه وقدرته حصل لي هذا، فهو حق، ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا، وذلك الذي أخذ عن الكتاب، هو أيضًا عن اللّه أخذ بهذا الاعتبار‏.‏ والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضًا هم كذلك، وإن أراد أن هذا الذي حصل له هو مما يحبه اللّه، ويرضاه، ويقرب إليه، وهذا الخطاب الذي يلقي إليه هو كلام اللّه تعالى‏.‏ فهنا طريقان‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن يقال له‏:‏ من أين لك أن هذا إنما هو من اللّه، لا من الشيطان، وإلقائه ووسوسته‏؟‏ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم، كما أخبر اللّه تعالى بذلك في القرآن، وهذا موجود كثيرًا في عباد المشركين، وأهل الكتاب، وفي الكهان، والسحرة، ونحوهم، وفي أهل البدع بحسب بدعتهم‏.‏ فإن هذه الأحوال قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية، فلا بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث اللّه به محمدًا ﷺ فهو ‏
    "الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏"‏‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏، وهوالذي فرق اللّه به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين سبيل أولياء الرحمن وسبيل أولياء الشيطان، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع‏.‏

    ج/ 10 ص -416-والمقصود هنا أنه يقال لهم‏:‏ إذا كان جنس هذه الأحوال مشتركًا بين أهل الحق وأهل الباطل فلا بد من دليل يبين أن ما حصل لكم هو الحق‏.‏
    الطريق الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ بل هذا من الشيطان لأنه مخالف لما بعث اللّه به محمدًا ﷺ، وذلك أنه ينظر فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته، فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له‏:‏ اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد، أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب، أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب، أو أن يدعو مخلوقًا، كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق ملكًا، أو نبيًا، أو شيخًا، فإذا دعاه كما يدعو الخالق، سبحانه، إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركا به، فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك، كما كان يحصل للمشركين‏.‏
    وكانت الشياطين تتراءى لهم أحيانًا، وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة‏.‏ أو يقضون لهم بعض الحوائج، فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم، وإيمانهم الذي هلكوا بزواله كالسحر،

    ج/ 10 ص -417-قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ ‏.‏
    وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف، وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أنه قال‏:‏ اتقوا الخمر فإنها أم الخبائث، وإن رجلًا سأل امرأة، فقالت‏:‏ لا أفعل حتى تسجد لهذا الوثن، فقال‏:‏ لا أشرك باللّه، فقالت‏:‏ أو تقتل هذا الصبي‏؟‏ فقال‏:‏ لا أقتل النفس التي حرم اللّه، فقالت‏:‏ أو تشرب هذا القدح‏؟‏ فقال هذا أهون‏.‏ فلما شرب الخمر قتل الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة‏.‏
    والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك، ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم، فيشركون ويقتلون النفس التي حرم اللّه، ويزنون‏.‏
    وهذه الثلاثة موجودة كثيرًا في أهل سماع المعازف، سماع المكاء والتصدية، أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبوا شيخهم أو غيره، مثل ما يحبون اللّه ويتواجدون على حبه‏.‏
    وأما الفواحش، فالغناء رقية الزنا، وهو من أعظم الأسباب

    ج/ 10 ص -418-لوقوع الفواحش، ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره، فتنحل نفسه، وتسهل عليه الفاحشة، ويميل لها فاعلا ً، أو مفعولًا به أو كلاهما، كما يحصل بين شاربي الخمر، وأكثر‏.‏
    وأما القتل، فإن قتل بعضهم بعضًا في السماع، كثير يقولون‏:‏ قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته، وذلك أن معهم شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الآخر‏.‏ كالذين يشربون الخمر، ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الآخر، وقد جرى مثل هذا لكثير منهم، ومنهم من يقتل إما شخصًا، وإما فرسًا، أو غير ذلك بحاله، ثم يقوم صاحب الثأر، ويستغيث بشيخه، فيقتل ذلك الشخص، وجماعة معه‏:‏ إما عشرة، وإما أقل أو أكثر‏.‏ كما جرى مثل هذا لغير واحد‏.‏ وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات‏.‏
    فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية، وأن هؤلاء معهم شياطين تعينهم على الإثم والعدوان عرف ذلك من بصره اللّه تعالى وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلاء‏.‏
    وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة، فبتنا بمكان وأرادوا أن

    ج/ 10 ص -419-يقيموا سماعا وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك، فجعلوا لي مكانا منفردًا قعدت فيه، فلما سمعوا وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده، ويقول‏:‏ يا فلان قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ نصيبك، فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا‏:‏ أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب لا يأتي عن طريق محمد بن عبد اللّه، فإني لا آكل منه شيئًا، وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة، وعلم أنه كان معهم الشياطين، وكان فيهم من هو سكران بالخمر‏.‏
    والذي قلته معناه‏:‏ أن هذا النصيب، وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي، ليس هو طاعة للّه ورسوله ولا شرعها الرسول فهو مثل من يقول‏:‏ تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال، أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك هذه الولاية ونحو ذلك‏.‏
    وقد يكون سببه نذرًا لغير اللّه سبحانه وتعالى مثل أن ينذر لصنم، أو كنيسة، أو قبر، أو نجم، أو شيخ، ونحو ذلك من النذور، التي فيها شرك، فإذا أشرك بالنذر، فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه، كما تقدم في السحر‏.‏
    وهذا بخلاف النذر للّه تعالى فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ، أنه نهى عن النذر، وقال‏:‏
    ‏"إنه لا يأتي

    ج/ 10 ص -420-بخير، وإنما يستخرج به من البخيل‏"‏ وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ نحوه، وفي رواية‏:‏ ‏"فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر‏"‏ فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به، منهى عن عقده، ولكن إذا كان قد عقده فعليه، الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه‏"‏‏.‏
    وإنما نهى عنه ﷺ ؛لأنه لا فائدة فيه إلا التزام ما التزمه، وقد لا يرضى به، فيبقى آثمًا‏.‏ وإذا فعل تلك العبادات بلا نذر كان خيرًا له، والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم، فبين النبي ﷺ أن النذر لا يأتي بخير، فليس النذر سببًا في حصول مطلوبهم، وذلك أن الناذر إذا قال‏:‏ للّه علي إن حفظني اللّه القرآن أن أصوم مثلًا ثلاثة أيام، أو إن عافاني اللّه من هذا المرض، أو إن دفع اللّه هذا العدو، أو إن قضي عني هذا الدين فعلت كذا، فقد جعل العبادة التي التزمها عوضًا عن ذلك المطلوب‏.‏ واللّه سبحانه لا يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة المنذورة، بل ينعم على عبده بذلك المطلوب؛ ليبتليه أيشكر أم يكفر‏؟‏ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه‏.‏
    وأما تلك العبادة المنذورة، فلا تقوم بشكر تلك النعمة، ولا ينعم اللّه تلك النعمة؛ ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي كانت مستحبة، فصارت

    ج/ 10 ص -421-واجبة؛ لأنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء، بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم، لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيرًا من حقوق اللّه ثم بذل ذلك النذر؛ لأجل تلك النعمة، وتلك النعمة أجل من أن ينعم اللّه بها؛ لمجرد ذلك المبذول المحتقر‏.‏
    وإن كان المبذول كثيرًا، والعبد مطيع للّه، فهو أكرم على اللّه من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير، فليس النذر سببًا لحصول مطلوبه كالدعاء، فإن الدعاء من أعظم الأسباب وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها اللّه تعالى أسبابا؛ لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء، وأما ما يفعله على وجه النذر، فإنه لا يجلب منفعة، ولا يدفع عنه مضرة، لكنه كان بخيلا فلما نذر، لزمه ذلك، فاللّه تعالى يستخرج بالنذر من البخيل، فيعطي على النذر مالم يكن يعطيه بدونه واللّه أعلم‏.

    ج/ 10 ص -422-سُئلَ شَيْخُ الإِسْلام رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏
    ما عمل أهل الجنة‏؟‏ وما عمل أهل النار‏؟‏
    فأجاب‏:‏
    الحمد للّه رب العالمين، عمل أهل الجنة‏:‏ الإيمان والتقوى، وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان، فأعمال أهل الجنة الإيمان باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، والشهادتان‏:‏ شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت‏.‏ وأن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏.‏
    ومن أعمال أهل الجنة‏:‏ صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم‏.‏

    ج/ 10 ص -423-ومن أعمال أهل الجنة‏:‏ الإخلاص للّه، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله، وخشية اللّه ورجاء رحمته، والإنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه‏.‏
    ومن أعمال أهل الجنة‏:‏ قراءة القرآن، وذكر اللّه، ودعاؤه، ومسألته، والرغبة إليه‏.‏
    ومن أعمال أهل الجنة‏:‏ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين‏.‏
    ومن أعمال أهل الجنة‏:‏ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإن اللّه أعد الجنة للمتقين، الذين ينفقون في السراء، والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين‏.‏
    ومن أعمال أهل الجنة‏:‏ العدل في جميع الأمور، وعلى جميع الخلق حتى الكفار، وأمثال هذه الأعمال‏.‏
    وأما عمل أهل النار، فمثل‏:‏ الإشراك باللّه، والتكذيب بالرسل، والكفر والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من

    ج/ 10 ص -424-روح اللّه، والأمن من مكر اللّه، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض اللّه، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات اللّه، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة‏.‏
    ومن عمل أهل النار‏:‏ السحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم اللّه بغير الحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات‏.‏
    وتفصيل الجملتين لا يمكن، لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة اللّه ورسوله، وأعمال أهل النار كلها تدخل في معصية اللّه ورسوله،
    ‏"وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏.‏ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ‏"‏‏[‏النساء‏:‏ 13، 14‏]‏ واللّه أعلم‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML