ج/ 10 ص -344-وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلام قدس الله روحه :
فَصْل :الأمر والنهي، الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي
هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد، وكما لا تجب الطهارة بالماء، والصلاة قائمًا والصوم، وغير ذلك على من يعجز عنه.
سواء قيل: يجوز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز، فإنه لا خلاف أن تكليف العاجز الذي لا قدرة له على الفعل بحال غير واقع في
ج/ 10 ص -345-الشريعة، بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم، والقدرة تخفيفًا عنه، وضبطًا لمناط التكليف، وإن كان تكليفه ممكنًا، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه، ولأن العقل يظهر في الناس شيئًا فشيئًا، وهم يختلفون فيه، فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ.
وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زادًا وراحلة عند جمهور العلماء، مع إمكان المشي لما فيه من المشقة، وكما لا يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفًا عليه، وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض وتأخر البرء، وإن كان فعلها ممكنًا.
لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع، فقد يوجب اللّه في شريعة ما يشق، ويحرم ما يشق تحريمه، كالآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وقد يخفف في شريعة أخرى، كما قال المؤمنون: "رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا"[البقرة: 286]، وكما قال اللّه تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ" [البقرة: 185]، وقال: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ" [المائدة: 6]، وقال: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الحج: 78]، وقال: "يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ"[النساء: 28].
ج/ 10 ص -346-وقال النبي ﷺ لأصحابه في قصة الأعرابي: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"، وقال لمعاذ وأبي موسى: "يسرا ولا تعسرا"، وقال: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وقال: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد اللّه عليكم، فإن أقوامًا شددوا على أنفسهم، فشدد اللّه عليهم،فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم"، وقال: "لا رهبانية في الإسلام"،وقال: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، وقال: "إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته"، وروى عنه أنه قال: "بعثت بالحنيفية السمحة".
وأما كون الإنسان مريدًا لما أمر به، أو كارهًا له، فهذا لا تلتفت إليه الشرائع، بل ولا أمر عاقل، بل الإنسان مأمور بمخالفة هواه.
والإرادة: هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار، كما قال تعالى: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا" [الإسراء: 18، 19]، وقال تعالى: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا" [القصص: 83]، وقال تعالى: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا" الآية [هود: 15]،
ج/ 10 ص -347-وقال تعالى: "وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" [الأنعام: 52]، ونظائره كثيرة.
فإن هذه الأصول ممهدة في الكتاب والسنة، وكلام العلماء والعارفين، وليس الغرض هنا تقريرها.
وإنما الغرض شيء آخر، وهو أنه إذا كان التكليف مشروطًا بالتمكن من العلم الذي أصله العقل، وبالقدرة على الفعل فنقول: كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة، وبأسباب غير محظورة، فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج ونحوهما لم يزل عنه بذلك، أثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات، إذا كان السكر يقتضي ذلك، بخلاف ما إذا زال بسبب غير محرم، كالإغماء لمرض، أو خوف، أو سكر بشرب غير محرم، مثل أن يجرع الخمر مكرهًا، فإن هذا لا إثم عليه.
وأما قضاء الصلاة عليه عند أحمد، وعند من يقول: يقضي صلاة يوم وليلة، فذاك نظير وجوب قضائها على النائم والناسي، ولا إثم عليهما، كما قال النبي ﷺ: "ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط في اليقظة"، وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك".
ج/ 10 ص -348-وكذلك قدرة العبد، فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه، حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته، وكذلك في استحلال المحرمات، قال اللّه تعالى: "فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"[البقرة: 173]. فالضرورة بسبب محظور لا تستباح بها المحرمات، بخلاف الضرورة التي هي بسبب غير محظور.
وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر؟ ومذهب الشافعي، وأحمد أنه لا يترخص.
فالأحوال التي ترد على العباد، وأهل المعرفة والزهاد، ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه، حتى تجعله كالمجنون والموله والسكران والنائم، أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز، أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه القول والفعل بغير إرادته واختياره، فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات، وقد يوجب وقوعه في محرمات.
فهؤلاء يقال فيهم: إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم، فلا حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات، ويفعلونه من المحرمات، ولا يجوز أيضًا اتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم، ولا نذمهم على ذلك، بل قد يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من
ج/ 10 ص -349-الأقوال والأعمال، ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع، كما يقال في المجتهد المخطئ سواء، بل المجتهد المخطئ نوع من هذا الجنس، حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم.
وإن كان زوال ذلك بسبب محرم، استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم.
مثال الأول: من يسمع القرآن على الوجه المشروع، فهاج له وجد يحبه، أو مخافة أو رجاء، فضعف عن حمله حتى مات، أو صعق، أو صاح صياحًا عظيمًا، أو اضطرب اضطرابًا كثيرًا، فتولد عن ذلك ترك صلاة واجبة، أو تعدي على بعض الناس، فإن هذا معذور في ذلك، فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلاء المجانين المولهين، الذين حصل لهم الجنون، مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة، إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم، وإما لضعف قلوبهم عن حمله، وإما لانحراف أمزجتهم وقوة الخلط، وإما لعارض من الجن، فإن هؤلاء كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي، حيث سئل عنهم، فقال: هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب.
ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجودًا في التابعين ومن
ج/ 10 ص -350-بعدهم، لا سيما في عباد البصريين، فإن فيهم من مات من سماع القرآن، كزرارة بن أوفى، وأبي جهير الضرير وغيرهما.
وأما الصحابة، فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق، ومن هؤلاء أيضًا من غلب عليه الذكر للّه، والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه، كما يحصل لبعض العاشقين في غيبته بمعشوقه عما سواه، فيقول أحدهم في هذه الحال. أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا اللّه. ومنهم من غلب عليه حال الرجاء والرحمة، حتى قال: أبسط سجادتي على جهنم. فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون كالسكران أو الموله، وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شرعًا: فلا إثم عليه.
ومثال الثاني: ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع، فإنه قد ينشد أشعارًا فيها ما يخالف الشرع بأصوات مخالفة للشرع، ويكون الإنسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختلاطًا، وزوال عقل، حتى يقتل بعضهم بعضًا، إما ظاهرًا وإما باطنًا بالهمة والقلوب، ويوجب أيضًا من ترك واجبات الشريعة، ومن الاعتداء على المؤمنين في الدين والدنيا ما اللّه به عليم.
ج/ 10 ص -351-وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في الاعتقادات والأعمال فتورثه تلك العبادات والأعمال أحوالًا قوية قاهرة، يترك بها الواجبات، ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار، إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس والأموال.
وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه، وعقله قال: كنت مغلوبًا، وورد علي وارد فعل بي هذا، والحكم للوارد، وهذه حال كثير من خفراء العدو، وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة، ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الأحوال، ويقول: إنه مغلوب في ذلك، وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك، وأنه خوطب بذلك الفعل.
فيقال: أما زوال عقلك حتى صرت لا تفهم أمر اللّه ونهيه، وزوال قدرتك حتى صرت مضطرًا إلى تلك الأفعال، وإن كنت صادقًا في ذلك، فسببه تفريطك وعدوانك أولًا، حتى صرت في حال المجانين والسكارى، فأنت بمنزلة شارب الخمر الذي سكر منها، والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الأفاعيل؛ إذ لا فرق بين سكر الأصوات والصور والشراب، فإن هذا سكر الأجسام، وهذا سكر النفوس، وهذا سكر الأرواح، فإذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا في دين الإسلام.
ج/ 10 ص -352-ولهذا إنما تقع هذه الأحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر، كما يفعله النصارى في الشراب والأصوات والصور؛ ولهذا كان هؤلاء في عالم الضلال.
وأما قولك: إنك خوطبت بذلك، وأمرت فمن أي الجهتين؟ أمن جهة الكلمات الدينية؟ أم من جهة الكلمات الكونية؟
فالأولى مثل قوله: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ" [النحل: 90] وقوله: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ" [الجمعة: 2]، وقوله: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ" [الحديد: 25].
والثانية مثل قوله: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" [الإسراء: 16]، وقوله: "بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا" [الإسراء: 5]، وقوله: "أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ" [مريم: 83] فإن ذكرت أنه من الجهة الأولى، فباطل، بخلاف الكتاب والسنة.
وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح، لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود، وسائر من أطاع الأوامر الكونية، وتبع الإرادة القدرية، وأعرض عن الأوامر الشرعية، ولم يقف عند الإرادة الدينية.
فتدبر هذا الأصل فإنه عظيم نافع جداً، فتنكشف به الأحوال المخالفة للشرع، وانقسام أهلها إلى معذور وموزور، كانقسامها إلى
ج/ 10 ص -353-مسطور على صاحبه، ومغفور، بمنزلة الأحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من العقل والصحو، ومن الإغماء والسكر والجنون ومن الاضطرار والاختيار، فإن أحوال الملوك والأمراء وأحوال الهداة والعلماء، وأحوال المشايخ والفقراء، تشترك في هذه القاعدة الشريفة، وتحكم الشريعة فيها بالفرقان.
وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الأحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولاية الله، بل ولا للصلاح، بل ولا للإيمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر، ومنافق، وفاسق، وعاصي، وإنما أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
ففرق بين ولاية اللّه وبين الأحوال، كما فرق بين خلافة النبوة وبين جنس الملك، وفرق بين العلم الذي ورثته الأنبياء، وبين جنس الكلام، فبين هذين النوعين خصوص وعموم، فقد يكون الرجل ولياً للّه له حال تأثير وكشف، وقد يكون ولياً ليس له تلك الحال بكمالها، وقد يكون له شيء من هذه الأحوال، وليس ولياً للّه، كما قد يكون خليفة نبي مطاعاً، وقد يكون خليفة نبي مستضعفاً، وقد يكون جباراً مطاعاً ليس من النبوة في شيء، وقد يكون عالماً ليس متكلما بما يخالف كلام الأنبياء، وقد يكون عالماً متكلماً بكلام الأنبياء.
ج/ 10 ص -354-فَصل
واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات في هذا القدر وغيره، إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي ﷺ حيث قال: "من يعش منكم بعدي فسيري اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
ومعلوم أنه إذا استقام ولاة الأمور الذين يحكمون في النفوس والأموال استقام عامة الناس، كما قال أبو بكر الصديق فيما رواه البخاري في صحيحه للمرأة الأحمسية لما سألته فقالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح ؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم، وفي الأثر: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء أهل الكتاب وأهل الحديد، كما دل عليه قوله: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا" الآية [الحديد: 25].
وهم أولو الأمر، في قوله: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" [النساء: 59].
ج/ 10 ص -355-وكذلك من جهتهم يقع الفساد، كما جاء في الحديث مرفوعًا، وعن جماعة من الصحابة "إن أخوف ما أخاف عليكم: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون". فالأئمة المضلون هم الأمراء، والعالم والمجادل هم العلماء، لكن أحدهما صحيح الاعتقاد يزل، وهو العالم، كما يقع من أئمة الفقهاء أهل السنة والجماعة.
والثاني، كالمتفلسفة والمتكلمين الذين يجادلون بشبهات القرآن مع أنهم في الحقيقة منسلخون من آيات اللّه، وإنما احتجاجهم به دفعًا للخصم، لا اهتداء به واعتمادًا عليه؛ ولهذا قال: "جدال منافق بالقرآن" فإن السنة والإجماع تدفع شبهته.
والدين القائم بالقلب من الإيمان علمًا وحالًا هو الأصل، والأعمال الظاهرة هي الفروع، وهي كمال الإيمان.
فالدين أول ما يبنى من أصوله ويكمل بفروعه، كما أنزل اللّه بمكة أصوله من التوحيد والأمثال التي هي المقاييس العقلية، والقصص، والوعد، والوعيد، ثم أنزل بالمدينة لما صار له قوة فروعه الظاهرة من الجمعة والجماعة، والأذان والإقامة، والجهاد، والصيام، وتحريم الخمر والزنا، والميسر وغير ذلك من واجباته ومحرماته.
ج/ 10 ص -356-فأصوله تمد فروعه وتثبتها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها، فإذا وقع فيه نقص ظاهر فإنما يقع ابتداء من جهة فروعه؛ ولهذا قال ﷺ: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة"، وروى عنه أنه قال: "أول ما يرفع الحكم بالأمانة" .والحكم هو عمل الأمراء، وولاة الأمور، كما قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" [النساء: 58]، وأما الصلاة فهي أول فرض، وهي من أصول الدين والإيمان، مقرونة بالشهادتين، فلا تذهب إلا في الآخر، كما قال ﷺ: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبي للغرباء" فأخبر أن عوده كبدئه.
فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وصار ملكًا ظهر النقص في الأمراء، فلابد أن يظهر أيضًا في أهل العلم والدين، فحدث في آخر خلافة علي بدعتا الخوارج والرافضة، إذ هي متعلقة بالإمامة والخلافة، وتوابع ذلك من الأعمال، والأحكام الشرعية.
وكان ملك معاوية ملكًا ورحمة، فلما ذهب معاوية رحمة اللّه عليه وجاءت إمارة يزيد، وجرت فيها فتنة قتل الحسين بالعراق، وفتنة أهل الحرة بالمدينة، وحصروا مكة، لما قام عبد اللّه بن الزبير .
ج/ 10 ص -357-ثم مات يزيد وتفرقت الأمة، ابن الزبير بالحجاز،وبنو الحكم بالشام،ووثب المختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق.وذلك في أواخر عصر الصحابة، وقد بقى فيهم مثل عبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عمر، وجابر بن عبد اللّه، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، حدثت بدعة القدرية والمرجئة، فردها بقايا الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وجابر، وواثلة بن الأسقع وغيرهم رضي اللّه عنهم مع ما كانوا يردونه هم، وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض.
وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه، أعمال العباد، كما يتكلم فيها المرجئة، فصار كلامهم في الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق ونحو ذلك من مسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، ولم يتكلموا بعد في ربهم ولا في صفاته إلا في أواخر عصر صغار التابعين، من حين أواخر الدولة الأموية حين شرع القرن الثالث تابعوا التابعين ينقرض أكثرهم فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقى من أهل بدر، إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان، انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية وصار
ج/ 10 ص -358-في ولاة الأمور كثير من الأعاجم، وخرج كثير من الأمر عن ولاية العرب وعربت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم، وظهر ما قاله النبي ﷺ: "ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل، ولا يستشهد، ويحلف، ولا يستحلف"، حدث ثلاثة أشياء:
الرأي و الكلام والتصوف .
وحدث التجهم: وهو نفي الصفات. وبإزائه التمثيل.
فكان جمهور الرأي من الكوفة، إذ هو غالب على أهلها، مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش، وكثرة الكذب في الرواية، مع أن في خيار أهلها من العلم، والصدق، والسنة والفقه، والعبادة أمر عظيم، لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة الكذب في الرواية. وكثرة الآراء في الفقه، والتشيع في الأصول، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة.
فإنه بعد موت الحسن، وابن سيرين بقليل، ظهر عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، ومن اتبعهما من أهل الكلام والاعتزال.
وظهر أحمد بن عطاء الهجيمي الذي صحب عبد الواحد بن زيد،
ج/ 10 ص -359-وعبد الواحد صحب الحسن البصري، ومن اتبعه من المتصوفة، وبنى دويرة للصوفية، هي أول ما بني في الإسلام، وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم الفقرية، وكانوا يجتمعون في دويرة لهم .
وصار لهؤلاء من الكلام المحدث، طريق يتدينون به، مع تمسكهم بغالب الدين.
ولهؤلاء من التعبد المحدث، طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع، وصار لهؤلاء حال من السماع، والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه.
ولهؤلاء حال في الكلام والحروف، حتى خرجوا به إلى تفكير أوقعهم في تحير.
وهؤلاء أصل أمرهم الكلام .
وهؤلاء أصل أمرهم الإرادة .
وهؤلاء يقصدون بالكلام التوحيد، ويسمون نفوسهم الموحدين.
وهؤلاء يقصدون بالإرادة، التوحيد ويسمون نفوسهم أهل
ج/ 10 ص -360-التوحيد، والتجريد.
وقد كتبت قبل هذا في القواعد، ما في طريقي أهل الكلام، والنظر وأهل الإرادة والعمل من الانحراف، إذا لم يقترن بمتابعة الرسول. كما بينت في قاعدة كبيرة أن أصل العلم، والهدى، والدين هو: الإيمان باللّه ورسوله، واستصحاب ذلك في جميع الأقوال والأحوال.
وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء، وهؤلاء في القول والعمل، إذ لم ينحرفوا انحراف الطائفتين من الكوفيين والبصريين، هوى ورواية، ورأيا، وكلامًا، وسماعًا، وإن كان في بعضهم نوع انحراف لكن هم أقرب.
وأما الشاميون، فكان غالبهم مجاهدين، وأهل أعمال قلبية، أقرب إلى الحال المشروع، من صوفية البصريين إذ ذاك.
ولهذا تجد كتب الكلام، والتصوف، إنما خرجت في الأصل من البصرة، فمتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون، مثل أبي الهذيل العلاف، وأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، وأبي عبد اللّه... ، وأبي الحسين
ج/ 10 ص -361-البصري، وكذلك متكلمة الكلابية والأشعرية، كعبد اللّه بن سعيد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري وصاحبه أبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيرهم.
وكذلك كتب المتصوفة ومن خلط التصوف بالحديث والكلام، ككتب الحارث بن أسد المحاسبي، وأبي الحسن بن سالم، وأبي سعيد الأعرابي وأبي طالب المكي.
وقد شرك هؤلاء من البغداديين، والخراسانيين، والشاميين خلق.
لكن الغرض أن الأصول من ثم .
كما أن علم النبوة، من الإيمان والقرآن، وما يتبع ذلك من الفقه والحديث وأعمال القلوب، إنما خرجت من الأمصار التي يسكنها جمهور أصحاب رسول اللّه ﷺ، وهي الحرمان والعراقان والشام: المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام، وسائر الأمصار تبع.
فالقراء السبعة من هذه الأمصار، وكذلك أئمة أهل الحديث وأثبتهم أهل المدينة، وأهل البصرة، كالزهري ومالك، وكقتادة وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي.
ج/ 10 ص -362-وأهل الكوفة فيهم الصادق، والكاذب.
وأهل الشام لم يكن فيهم كثير كاذب، ولا أئمة كبار في القراءة والحديث. وكذلك أئمة الفقهاء، فمالك عالم أهل المدينة، والثوري وأبو حنيفة وغيرهما من أهل الكوفة. وابن جريج وغيره من أهل مكة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد من أهل البصرة، والأوزاعي وطبقته بالشام، وقد قيل إن مالكًا إنما احتذى موطأه على كتاب حماد بن سلمة، وقيل: إن كتاب ابن جريج قبل ذلك.
ثم الشافعي، وإن كان أصله مكيًا، فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بمصره.
وكذلك الإمام أحمد، وإن كان أجداده بصريين، فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين، ولا غيرهم. كما أن عبد اللّه بن المبارك، وإسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وغيرهم من الخراسانيين، وكذلك أئمة الزهاد والعباد من هذه الأمصار، كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في [صفوة الصفوة].
فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول اللّه ﷺ، وأما ما جاء عمن بعدهم، فلا ينبغي أن يجعل
ج/ 10 ص -363-أصلًا، وإن كان صاحبه معذورًا، بل مأجورًا، لاجتهاد أو تقليد.
فمن بنى الكلام في العلم: الأصول، والفروع على الكتاب والسنة، والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية، والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد، ﷺ، وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى.
تجد الإمام أحمد إذا ذكر أصول السنة، قال: هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول اللّه ﷺ .
وكَتَبَ كُتُبَ التفسير المأثور عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين. وكتب الحديث والآثار المأثورة عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين، وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه، حتى قال في رسالته إلى خليفة وقته المتوكل: لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب اللّه، أو في حديث عن رسول اللّه ﷺ، أو الصحابة أو التابعين، فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود.
ج/ 10 ص -364-وكذلك في الزهد والرقاق والأحوال، فإنه اعتمد في كتاب [الزهد] على المأثور عن الأنبياء، صلوات اللّه عليهم من آدم إلى محمد، ثم على طريق الصحابة والتابعين، ولم يذكر من بعدهم، وكذلك وصفه لآخذ العلم أن يكتب ما جاء عن النبي ﷺ، ثم عن الصحابة، ثم عن التابعين. وفي رواية أخرى ثم أنت في التابعين مخير.
وله كلام في الكلام الكلامي. والرأي الفقهي وفي الكتب الصوفية، والسماع الصوفي ليس هذا موضعه. يحتاج تحريره إلى تفصيل، وتبيين كيفية استعماله في حال دون حال.
فإنه ينبني على الأصل، الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة، أو غير مغفورة، وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة، إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا وعملًا. فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف. وإلا بقى الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة. إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية، إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظلمة.
ج/ 10 ص -365-وإنما قررت هذه القاعدة؛ ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه، ويعرف أن العدول عن كمال خلافة النبوة المأمور به شرعًا، تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علمًا وعملًا، وتارة بعدوان بفعل السيئات علمًا وعملًا، وكل من الأمرين قد يكون عن غلبة، وقد يكون مع قدرة .
فالأول، قد يكون؛ لعجز وقصور، وقد يكون مع قدرة وإمكان.
والثاني: قد يكون مع حاجة وضرورة، وقد يكون مع غنى وسعة، وكل واحد من العاجز عن كمال الحسنات، والمضطر إلى بعض السيئات معذور، فإن اللّه يقول: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]، وقال: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" [البقرة: 286] في البقرة والطلاق وقال: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [الأعراف: 42]، وقال النبي ﷺ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وقال سبحانه: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الحج: 78]، وقال: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ" [المائدة: 6]، وقال: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ" [البقرة: 185]، وقال: "فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" [البقرة: 173]، وقال: "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ" [الأحزاب: 5].
ج/ 10 ص -366-وهذا أصل عظيم وهو: أن تعرف الحسنة في نفسها علمًا وعملًا، سواء كانت واجبة أو مستحبة، وتعرف السيئة في نفسها علمًا وقولًا وعملًا، محظورة كانت، أو غير محظورة إن سميت غير المحظورة سيئة وإن الدين تحصيل الحسنات والمصالح، وتعطيل السيئات والمفاسد.
وإنه كثيرًا ما يجتمع في الفعل الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران، فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية.
فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائمًا بالقسط الذي أنزل اللّه له الكتاب والميزان.
فَصْل
ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلام والتصوف، وغير ذلك: كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتا
ج/ 10 ص -367-والسنة والآثار؛ إذ العهد قريب، وأنوار الآثار النبوية بعد فيها ظهور، ولها برهان عظيم، وإن كان عند بعض الناس قد اختلط نورها بظلمة غيرها.
فأما المتأخرون، فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون، مثل من صنف في الكلام من المتأخرين، فلم يذكر إلا الأصول المبتدعة وأعرض عن الكتاب والسنة، وجعلهما إما فرعين، أو آمن بهما مجملًا، أو خرج به الأمر إلى نوع من الزندقة، ومتقدمو المتكلمين خيرمن متأخريهم.
وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه، وأعرض عن الكتاب والسنة، ووزن ماجاء به الكتاب والسنة على رأي متبوعه، ككثير من أتباع أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم.
وكذلك من صنف في التصوف والزهد، جعل الأصل ما روى عن متأخري الزهاد وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين، كما فعل صاحب الرسالة أبوالقاسم القشيري، وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، وابن خميس الموصلي في [مناقب الأبرار]، وأبو عبد الرحمن السلمي في [تاريخ الصوفية]، لكن أبوعبد الرحمن صنف أيضا [سير السلف] من الأولياء والصالحين. وسير الصالحين من السلف، كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم، من ذكرهم لأخبار أهل
ج/ 10 ص -368-الزهد والأحوال، من بعد القرون الثلاثة، من عند إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ومن بعدهم، وإعراضهم عن حال الصحابة، والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة بمدحهم، والثناء عليهم، والرضوان عنهم.
وكان أحسن من هذا أن يفعلوا، كما فعله أبو نعيم الأصبهاني في [الحلية] من ذكره للمتقدمين والمتأخرين. وكذلك أبو الفرج بن الجوزي في [صفوة الصفوة] وكذلك أبو القاسم التيمي في [سير السلف]...، وكذلك ابن أسد بن موسى، إن لم يصعدوا إلى طريقة عبد اللّه بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وهناد بن السرى وغيرهم في كتبهم في الزهد، فهذا هذا. واللّه أعلم وأحكم.
فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها. ومعرفة الدين وأصله، وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعًا. إذ المرء ما لم يحط علمًا بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها، يبقى في قلبه حسكة.
وكان للزهاد، عدة أسماء: يسمون بالشام الجوعية، ويسمون بالبصرة الفقرية، والفكرية، ويسمون بخراسان المغاربة، ويسمون أيضًا الصوفية والفقراء.
ج/ 10 ص -369-والنسبة في الصوفية، إلى الصوف؛ لأنه غالب لباس الزهاد، وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت. وأما من قال: هم نسبة إلى الصفة، فقد قيل: كان حقه أن يقال: صفية، وكذلك من قال: نسبة إلى الصفا، قيل له: كان حقه أن يقال: صفائية، ولو كان مقصورًا لقيل صفوية، وإن نسب إلى الصفوة قيل: صفوية. ومن قال: نسبة إلى الصف المقدم بين يدي اللّه. قيل له: كان حقه أن يقال: صفية، ولا ريب أن هذا يوجب النسبة والإضافة، إذا أعطى الاسم حقه من جهة العربية.
لكن التحقيق، أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الاشتقاق الأكبر والأوسط، دون الاشتقاق الأصغر، كما قال أبو جعفر: العامة اسم مشتق من العمى،فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب، وهو الاشتقاق الأوسط، أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر.
وعلى الأوسط قول نحاة الكوفيين الاسم، مشتق من السمة.
وكذلك إذا قيل الصوفي من الصفا، وأما إذا قيل هو من الصفة أو الصف، فهو على الأكبر.
وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وغيره،
ج/ 10 ص -370-وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره، وأما الشافعي فالمنقول عنه ذم الصوفية، وكذلك مالك فيما أظن وقد خاطب به أحمد لأبي حمزة الخراساني، وليوسف بن الحسين الرازي، ولبدر ابن أبي بدر المغازلي، وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم، ومن العباد أيضًا من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأهل الحديث، والعباد، ومدحه آخرون.
والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم، كغيره من الطريق، وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا، وقد لا يكون، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة، والقاعدة التي قدمتها تجمع ذلك كله، وفي المتسمين بذلك من أولياء اللّه وصفوته، وخيار عباده ما لا يحصى عده. كما في أهل الرأي من أهل العلم والإيمان من لا يحصى عدده إلا اللّّه. واللّّه سبحانه أعلم.
وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين، وإن كانت في الأصل مذمومة، كما دل عليه الكتاب والسنة، سواء في ذلك البدع القولية والفعلية. وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي ﷺ: "كل بدعة ضلالة" متعين، وإنه يجب العمل بعمومه، وإن من أخذ يصنف [البدع] إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك
ج/ 10 ص -371-ذريعة إلى ألا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة والمتصوفة، والمتعبدة، إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع ادعوا ألا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: كل ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة.
وما سمي بدعة، وثبت حسنه بأدلة الشرع، فأحد الأمرين، فيه لازم:
إما أن يقال: ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة. كما قال عمر: نعمت البدعة هذه.
وإما أن يقال: هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح، كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم، وفي قاعدة السنة والبدعة، وغيره.
وإنما المقصود هنا، أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص، فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما
ج/ 10 ص -372-لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع، وقررته أيضًا في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد.
فإن نصوص الوعيد، التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير، والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول، والفروع. هذا في عذاب الآخرة، فإن المستحق للوعيد من عذاب اللّه ولعنته وغضبه في الدار الآخرة، خالد في النار، أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق، يدخل في هذه القاعدة، سواء كان بسبب بدعة اعتقادية، أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا، وهو الفسق بالأعمال.
فأما أحكام الدنيا، فكذلك أيضًا، فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقًا بدعوتهم، إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة، وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة.
ج/ 10 ص -373-وَهُنا قَاعِدةٌ شريفَة ينبغي التفطن لها وهى:
أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه، فعقوبتنا له في الدنيا أكبر، وأما ما عاد من الذنوب بمضرة الإنسان في نفسه، فقد تكون عقوبته في الآخرة أشد، وإن كنا نحن لا نعاقبه في الدنيا.
وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس، فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان:
أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط.
والثاني: فعل ما يضر به وهو العدوان. فالتفريط في حقوق العباد...
ج/ 10 ص -374-ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع، بما لا يعاقب به الساكت، ويعاقب من أظهر المنكر بما لا يعاقب به من استخفى به، ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين، وإن كان في الدرك الأسفل من النار.
وهذا لأن الأصل، أن تكون العقوبة من فعل اللّه تعالى فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الآخرة، وقد يجزيهم أيضًا في الدنيا. وأما نحن، فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات، وترك المحرمات بحسب إمكاننا، كما قال ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه" وقال تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ" [الأنفال: 39]، وقال: "وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ" [البقرة: 217] .
ولهذا من تاب من الكفار، والمحاربين، وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق اللّه، فإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه، وأهله، وماله، وكذلك قاطع الطريق، والزاني والسارق، والشارب إذا تابوا قبل القدرة عليهم؛ لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الحدود وحصول الفساد؛ ولأن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلامه؛ لأنه أسلم قبل القدرة عليه،
ج/ 10 ص -375-بخلاف من أسلم بعد الأسر، فإنه لا يمنع استرقاقه وإن عصم دمه.
ويبنى على هذه القاعدة: أنه قد يقر من الكفار والمنافقين، بلا عقوبة من يكون عذابه في الآخرة أشد، إذا لم يتعد ضرره إلى غيره، كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون، والذين أظهروا الإسلام والتزموا شرائعه ظاهرًا مع نفاقهم؛ لأن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين، ويعاقبون في الآخرة على ما اكتسبوا من الكفر والنفاق، وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلمًا فاسقًا، أو عاصيًا، أو عدلًا مجتهدًا مخطئًا، بل صالحًا أو عالمًا سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع.
مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وشهادة الزور، وقطع الطريق، وغير ذلك لما فيه من العدوان على النفوس والأموال والأبضاع، وإن كان مع هذا حال الفاسق في الآخرة خيرًا من حال أهل العهد الكفار، ومن حال المنافقين، إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والإجماع.
وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم، وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد.
ج/ 10 ص -376-وكذلك يجوز قتال البغاة: وهم الخارجون على الإمام، أو غير الإمام بتأويل سائغ مع كونهم عدولًا، ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غيرذلك. إذ الصحابة لا خلاف في بقائهم على العدالة، وذلك أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ. وأما القتال: فليؤدوا ما تركوه من الواجب، و ينتهوا عما ارتكبوه من المحرم، وإن كانوا متأولين.
وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه، وإن كانوا قومًا صالحين، فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب، أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا، وإن كانوا معذورين فيه؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا، كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وإن كان قد تاب توبة نصوحًا، وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره، وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم، فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة، وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم: القاتل مجاهد والمقتول شهيد.
وعلى هذا، فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع
ج/ 10 ص -377-يهجر، فلا يستشهد ولا يروي عنه، ولا يستفتى ولا يصلي خلفه، قد يكون من هذا الباب، فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبًا أو معذورًا، إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله، فأما هجره بترك ...في غير هذا الموضع.
ومن هذا الباب: هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد، ولمن تاب بعد الإجابة، ولمن فعل بدعة ما،مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة، فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم،كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي ﷺ المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق.حتى قد قيل أن اثنين منهما شهدا بدرًا،وقد قال اللّه لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي ﷺ وأحد أهل العقبة، فهذا أصل عظيم أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلًا، أو رجلًا صالحًا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة، وبين عقوبة الآخرة،واللّه سبحانه أعلم.
ج/ 10 ص -378-فصْل
ومما يناسب هذا الباب قولهم: فلان يسلم إليه حاله، أو لا يسلم إليه حاله، فإن هذا كثيرًا ما يقع فيه النزاع فيما قد يصدر عن بعض المشائخ، والفقراء، والصوفية، من أمور يقال: إنها تخالف الشريعة، فمن يرى أنها منكرة وإن إنكار المنكر من الدين، ينكر تلك الأمور، وينكر على ذلك الرجل وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه، ومن رأي ما في ذلك الرجل من صلاح وعبادة، كزهد وأحوال، وورع، وعلم لا ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو يعرض عن ذلك.
وقد يغلو كل واحد من هذين، حتى يخرج بالأول، إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الاجتهاد، متبعًا لظاهر من أدلة الشريعة، ويخرج بالثاني إقراره إلى الإقرار بما يخالف دين الإسلام مما يعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بخلافه، اتباعًا في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر، والأول يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلي يهودية والثاني يكثر في العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية.
ج/ 10 ص -379-والأول: كثيرًا ما يقع في ذوي العلم، لكن مقرونًا بقسوة وهوى.
والثاني: كثيرًا ما يقع في ذوي الرحمة، لكن مقرونًا بضلال وجهل.
فأما الأمة الوسط: فلهم العلم والرحمة، كما أخبر عن نفسه بقوله: "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا" [غافر: 7]، وقال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" [الأعراف: 156]، وقال: "إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا" [طه: 98]، وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال: "آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا" [الكهف: 65].
والعدل في هذا الباب قولًا وفعلًا، أن تسليم الحال له معنيان:
أحدهما: رفع اللوم عنه بحيث لا يكون مذمومًا ولا مأثومًا ...
والثاني: تصويبه علي ما فعل بحيث يكون محمودًا مأجورًا. فالأول عدم الذم والعقاب. والثاني: وجود الحمد والثواب. الأول: عدم سخط الله وعقابه، والثاني: وجود رضاه وثوابه؛ ولهذا
ج/ 10 ص -380-تجد المنكرين غالبًا في إثبات السخط والذم والعقاب، والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب، وكلاهما قد يكون مخطئًا ويكون الصواب في أمر ثالث وسط، وهو أنه لا حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب.
وبيان ذلك: أن ذلك الأمر الصادر عنه سواء كان قولًا أو فعلًا، إذا علم أنه مخالف للكتاب والسنة، بحيث يكون قولًا باطلًا، أو عملًا محرمًا فإنه يعذر في موضعين:
أحدهما: عدم تمكنه من العلم به.
والثاني: عدم قدرته على الحق المشروع.
مثال الأول: أن يكون صاحب الحال مولها مجنونًا، قد سقط عنه القلم، فهذا إذا قيل فيه: يسلم له حاله، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب، لا بمعنى تصويبه فيه، كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح.
وإن عنى به أن ذلك القول صواب فهذا خطأ.
وكذلك إذا كان ذلك الحال صادرًا عنه باجتهاد، كمسائل الاجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين. فإن هذا إذا قيل: يسلم إليه حاله، كما يقال: يقر على اجتهاده، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب فهو صحيح.
ج/ 10 ص -381-وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب، أو صحيح، فلابد من دليل على تصويبه، وإلا فمجرد القول، أو الفعل الصادر من غير الرسول، ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل، فإذا علم أن ذلك الاجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعني رفع الذم عنه، لا بمعنى إصابته وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره، أنه يقر على حكمه، فلا ينقض، أو على فتياه، فلا تنكر أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه، بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده، واتباعه من العلماء والمشايخ، فيما لم يظهر لهم أنه خطأ، لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني، الذي لم يعلم مخالفته للشريعة.
وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور، أو عرف أنه صادق في طريقه، وإن هذا الأمر قد يكون اجتهادًا منه، فهذه ثلاثة مواضع يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم، وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به.
ومثال الثاني: عدم قدرته أن يرد عليه من الأحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه، أو يلطم وجهه، أو يصيح صياحًا منكرًا، أو يضطرب اضطرابًا شديدًا. فهذا إذا عرف أن سبب ذلك لم يكن محرمًا، وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله، وإن شك هل هو مغلوب، أو متصنع، فإن عرف منه الصدق، قيل: هذا يسلم إليه حاله،
ج/ 10 ص -382-وإن عرف كذبه أنكر عليه، وإن شك فيه توقف في التسليم والإنكار، حتى يتبين أمره، كما يفعل بمن شهد شهادة، أو اتهم بسرقة. فإن ظهر صدقه وعدله قبلت الشهادة ودفعت إليهم، وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة، وعوقب على السرقة، وإن اشتبه الأمر توقف فيه؛ فإن المؤمن وقاف متبين، هكذا قال الحسن البصري.
وكذلك إذا ترك الواجبات مظهرًا أنه مغلوب لا يقدر على فعلها، مثل أن يترك الصلاة مظهرًا أنه بمنزلة المغمى عليه، والنائم الذي لا يتمكن من فعلها. كما قد يعترى بعض المصعوقين من وارد خوف الله، أو محبته، أو نحو ذلك بحيث يسقط تمييزه، فلا يمكنه الصلاة، فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات، فتسليم الحال بمعني عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور، وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم.
هذا فيما يعلم من الأقوال والأفعال أنه مخالف للشرع بلا ريب، كالشطحات المأثورة عن بعض المشائخ، كقول ابن هود: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، وكون الشبلي كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتي أدخلوه المارستان مرتين، وما يحكى عن بعضهم أنه قال: إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به، وكترك آخر صلاة الجمعة خلف إمام صالح، لكونه دعًا لسلطان وقته وسماه العادل،وترك آخر الصلاة خلف إمام؛ لما كوشف به من حديث نفسه، وما يحكي عن عقلاء
ج/ 10 ص -383-المجانين الذين قيل فيهم: إن الله أعطاهم عقولًا وأحوالا فسلب عقولهم وترك أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب.
فجماع هذا: أن هذه الأمور تعطى حقها من الكتاب والسنة. فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر، والأمر والنهي وجب اتباعه، ولم يلتفت إلى من خالفه كائنًا من كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك كائنًا من كان، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من اتباع الرسول وطاعته، وإن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة بأن يكون مسلوب العقل، أو ساقط التمييز أو مجتهدًا مخطئًا اجتهادًا قوليًا أو عمليًا، أو مغلوبًا على ذلك الفعل أو الترك بحيث لا يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بلا ذنب فعله، ولا يمكنه أداء ذلك الواجب بلا ذنب فعله، ويكون هذا الباب نوعه محفوظًا بحيث لا يتبع ما خالف الكتاب والسنة ولا يجعل ذلك شرعة ولا منهاجًا، بل لا سبيل إلى الله ولا شرعة إلا ما جاء به محمد رسول الله ﷺ.
وأما الأشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيعذرون، ولا يذمون، ولا يعاقبون. فإن كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله ﷺ. وما من الأئمة إلا من له أقوال، وأفعال لا يتبع عليها، مع أنه لا يذم عليها، وأما الأقوال والأفعال التي لم يعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة، بل
ج/ 10 ص -384-هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها؛ لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم، فيلتحق من وجه بالقسم الأول. ومن وجه بالقسم الثاني.
وقد تكون اجتهادية عنده أيضًا، فهذه تسلم لكل مجتهد، ومن قلده طريقهم تسليمًا نوعيا، بحيث لا ينكر ذلك عليهم، كما سلم في القسم الأول تسليمًا شخصيًا.
وأما الذي لا يسلم إليه حاله: فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم، ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي، واليونسية فيما يأتونه من المحرمات، ويتركونه من الواجبات، أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في وجده ليظن به خيرًا، ويرفع عنه الملام فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه أن الحق قد تبين له، وأنه متبع لهواه، أو يعرف منه تجويز الانحراف عن موجب الشريعة المحمدية، وأنه قد يتفوه بما يخالفها، وأن من الرجال من قد يستغنى عن الرسول أو له أن يخالفه، أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين، كما يحكى بعض الكذابين الضالين: أن أهل الصفة قاتلوا النبي ﷺ مع الكفار لما انهزم أصحابه وقالوا: نحن مع الله، من غلب كنا معه، وأنه صبيحة الإسراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة
ج/ 10 ص -385-وأنه تواجد في السماء، حتى وقع الرداء عنه، وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر، أو يسوغ لأحد بعد محمد الخروج عن شريعته، كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى، فإنه لم يكن مبعوثًا إليه كما بعث محمد إلى الناس كافة. فهؤلاء ونحوهم ممن يخالف الشريعة، ويبين له الحق فيعرض عنه، يجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب.
وكذلك أيضًا ينكر علي من اتبع الأولين المعذورين في أقوالهم، وأفعالهم المخالفة للشرع، فإن العذر الذي قام بهم منتف في حقه فلا وجه لمتابعته فيه.
ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو: توقف فيه، فإن الإمام إن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة، لكن لا يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة، فإن النبي ﷺ قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". فلا يسوغ الخروج عن موجب العموم والإطلاق في الكتاب والسنة بالشبهات، ولا يسوغ الذم والعقوبة بالشبهات، ولا يسوغ جعل الشىء حقًا، أو باطلًا أو صوابًا، أو خطأ بالشبهات، والله يهدينا الصراط المستقيم: صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
ج/ 10 ص -386-وبقيت هنا المسألة التي تشتبه غالبًا، وهو أن يظهر من بعض الرجال المجهول الحال، أمر مخالف للشرع في الظاهر، ويجوز أن يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًا. مثل وجد خرج فيه عن الشرع، لا يدري أهو صادق فيه أم متصنع، وأخذ مال بغير إذن صاحبه في الظاهر، مع تجويز أن يكون علم طيب قلب صاحبه به، فهذا إن قيل: ينكر عليه جاز أن يكون معذورًا، وإن قيل: لا ينكر عليه لزم إقرار المجهولين على مخالفة الشرع في الظاهر، فالواجب في مثل هذا أن يخاطب صاحبه أولا برفق، ويقال له: هذا في الظاهر منكر، وأما في الباطن، فأنت أمين الله على نفسك، فأخبرنا بحالك فيه أولا تظهره حيث يكون إظهاره فتنة، وتسلك في ذلك طريقة لا تفضي إلى إقرار المنكرات، ولا لوم البرآء.
والضابط أن من عرف من عادته الصدق، والأمانة أقر على ما لم يعلم أنه كذب وحرام، ومن عرف منه الكذب أو الخيانة، لم يقر على المجهول، وأما المجهول فيتوقف فيه.
ج/ 10 ص -387-وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، بقية السلف الكرام، العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني قدس الله روحه، ونور ضريحه، وأسكنه فسيح الجنان :
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده و رسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله و كفى بالله شهيدًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله مخلصًا حتى أتاه اليقين من ربه، ﷺ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.