أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

التحفة العراقية في الأعمال القلبية

    ج/ 10 ص -5-مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد العاشر
    (الآداب والتصوف"
    شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
    قَالَ شَيخ ُ الإِسْلام أَحْمَدُ بنُ تَيمية قدس الله روحه‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده‏.‏
    الحمد للّه نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم‏.‏
    أما بعد‏:‏
    فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب التي قد تسمى ‏[‏المقامات والأحوال‏]‏ وهي من أصول الإيمان، وقواعد الدين، مثل

    ج/ 10 ص -6- محبة اللّه ورسوله، والتوكل على اللّه، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك‏.‏ اقتضى ذلك بعض من أوجب اللّه حقه من أهل الإيمان، واستكتبها وكل منا عجلان‏.‏
    فأقول‏:‏ هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق المأمورين في الأصل باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات‏:‏ ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات‏.‏
    فالظالم لنفسه‏:‏ العاصي بترك مأمور أو فعل محظور‏.‏
    والمقتصد‏:‏ المؤدي الواجبات والتارك المحرمات‏.‏
    والسلاابق بالمحبة اللّه ورسوله، والتوكل على اللّه، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك‏.‏ اقتضى ذلك بعض من أوجب اللّه حقه من أهل الإيمان، واستكتبها وكل منا عجلان‏.‏
    فأقول‏:‏ هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق المأمورين في الأصل باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات‏:‏ ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات‏.‏
    فالظالملنفسه‏:‏ العاصي بترك مأمور أو فعل محظور‏.‏
    والمقتصد‏:‏ المؤدي الواجبات والتارك المحرمات‏.‏
    والسابقبالخيرات‏:‏ المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه‏.‏ وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه‏:‏ إما بتوبة واللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك‏.‏ وكل من الصنفين‏:‏ المقتصدين والسابقين من أولياء اللّه الذين ذكرهم في كتابه بقوله‏:‏ ‏
    "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏.‏ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏"‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏‏.‏ فحد أولياء اللّه‏:‏ هم المؤمنون المتقون، ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم‏:‏ المقتصدون،
    خيرات‏:‏ المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه‏.‏ وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه‏:‏ إما بتوبة واللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك‏.‏ وكل من الصنفين‏:‏ المقتصدين والسابقين من أولياء اللّه الذين ذكرهم في كتابه بقوله‏:‏
    ‏"أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏.‏ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏"‏[‏يونس‏:‏ 62، 63‏]‏‏.‏ فحد أولياء اللّه‏:‏ هم المؤمنون المتقون، ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم‏:‏ المقتصدون،

    ج/ 10 ص -7- وخاص وهم‏:‏ السابقون، وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين‏.‏
    وقد ذكر النبي ﷺ القسمين في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:
    ‏ ‏"يقول اللّه‏:‏ من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏"‏‏.‏
    وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان، فمعه من ولاية اللّه بقدر إيمانه وتقواه، كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهذا قول جميع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون‏:‏ إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏.‏

    ج/ 10 ص -8- وأما القائلون بالتخليد، كالخوارج والمعتزلة القائلين‏:‏ إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر، لا قبل دخول النار ولا بعده، فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب، وحسنات وسيئات، بل من أثيب لا يعاقب، ومن عوقب لم يثب‏.‏ ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كثير ليس هذا موضعه، وقد بسطناه في مواضعه‏.‏
    وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أن رجلًا كان يسمى حمارًا وكان يضحك النبي ﷺ‏.‏ وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي ﷺ، فأتى به مرة فقال رجل‏:‏ لعنه اللّه ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي ﷺ‏.‏ فقال له النبي ﷺ‏:‏
    ‏"لا تلعنه فإنه يحب اللّّه ورسوله‏"‏‏.‏
    فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا للّه ورسوله، وحب اللّه ورسوله أوثق عرى الإيمان، كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا عليه عند اللّه ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ذكر الخوارج فقال‏:‏ ‏"يحقر

    ج/ 10 ص -9- أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏"‏‏.‏
    وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول اللّه ﷺ مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي ﷺ‏.‏ وقال النبي ﷺ فيهم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏
    "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق‏"‏‏.‏
    ولهذا قال أئمة الإسلام، كسفيان الثوري وغيره‏:‏ إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها‏.‏ ومعنى قولهم‏:‏ إن البدعة لا يتاب منها‏:‏ أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه اللّه ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله‏.‏ فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب‏.‏
    ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه اللّّه ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل

    ج/ 10 ص -10-البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ‏"‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏.‏ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا‏.‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 66 68‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏"‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏.‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏"‏ [‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏ وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة‏.‏
    وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏"‏‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ‏.‏ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109، 110‏]‏‏.‏ وهذا استفهام نفي وإنكار، أي‏:‏ وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وإنا نقلب أفئدتَهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ ‏[‏إنها‏]‏ بالكسر تكون

    ج/ 10 ص -11-جزمًا بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها‏.‏
    وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقًا‏.‏ وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذَّابًا‏"‏، فأخبر النبي ﷺ أن الصدق أصل يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ‏.‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏"‏‏[‏الانفطار‏:‏ 13، 14‏]‏؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب ألا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلام مشائخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولوا‏:‏ قل لمن لا يصدق‏:‏ لا يتبعني‏.‏ ويقولون‏:‏ الصدق سيف اللّه في الأَرْض، وما وضع على شيء إلا قطعه، ويقول يوسف بن أسباط وغيره‏:‏ ما صدق اللّّه عبدٌ إلا صنع له‏.‏ وأمثال هذا كثير‏.‏
    والصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام، فإن

    ج/ 10 ص -12-المظهرين للإسلام ينقسمون إلى‏:‏ مؤمن ومنافق، والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر اللّه حقيقة الإيمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏"قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا‏"‏إلى قوله‏:‏ ‏"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏"‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14، 15‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏"‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏‏.‏
    فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى‏:‏
    ‏"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، قال ابن عباس‏:‏ ما بعث اللّّه نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏"‏‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏،

    ج/ 10 ص -13-فذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم اللّه من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا‏.‏ والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من اللّه، كما قال تعالى‏:‏ ‏"تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏"‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏"‏[‏النمل‏:‏ 6‏]‏، والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها‏.‏
    وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى‏:‏
    ‏"لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏"‏إلى قوله‏:‏ ‏"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى‏:‏ ‏"فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 10‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ‏"‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 1‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 77‏]‏‏.‏ ونحو ذلك في القرآن كثير‏.‏
    ومما ينبغي أن يعرف‏:‏ أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي

    ج/ 10 ص -14-الأعمال، كقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه‏"‏‏.‏ ويقال‏:‏ حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة، ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك‏.‏ ولهذا يريدون بالصادق‏:‏ الصادق في إرادته وقصده وطلبه، وهو الصادق في عمله، ويريدون الصادق في خبره وكلامه، والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الذي يكون كاذبًا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ‏"‏ الآيتين ‏[‏النساء‏:‏ 142، 143‏]‏‏.‏
    وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو‏:‏ الاستسلام للّه لا لغيره، كما قال تعالى‏:
    ‏ ‏"ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ‏"‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏‏.‏ فمن لم يستسلم للّه فقد استكبر، ومن استسلم للّّه ولغيرة فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر‏.‏ ويستعمل لازمًا ومتعديًا كما قال تعالى‏:‏ ‏"إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏‏.‏ وأمثال ذلك في القرآن كثير‏.‏

    ج/ 10 ص -15-ولهذا كان رأس الإسلام ‏[‏شهادة أن لا إله إلا اللّه‏]‏، وهي متضمنة عبادة اللّه وحده وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل اللّه من الأولين والآخرين دينا سواه، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏.‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏"‏‏[‏آل عمران‏:‏ 18، 19‏]‏‏.‏
    وهذا الذي ذكرناه، مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة‏:‏ هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها‏.‏ كما قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده‏:‏
    ‏"الإسلام عَلانية، والإيمان في القلب‏"‏؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"الحلال بَيِّن، والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرْضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللّّه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏"‏، وعن أبي هريرة قال‏:‏ القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده‏.

    ج/ 10 ص -16-فَصل
    وهذه الأعمال الباطنة، كمحبة اللّه والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودًا في حال أحد، وإن ارتقى مقامه‏.‏
    وأما ‏[‏الحزن‏]‏ فلم يأمر اللّه به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين، كقوله تعالى‏:‏
    ‏"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 127‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏"‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وأمثال ذلك كثير‏.‏
    وذلك ؛لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر اللّه به، نعم‏!‏ لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم، كما يحزن على المصائب، كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"
    إن اللّه لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم‏"‏ وأشار بيده إلى لسانه، وقال ﷺ‏:‏ ‏"تدمع العين، ويحزن القلب،

    ج/ 10 ص -17-/ولا نقول إلا ما يرضى الرب‏"‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ‏"‏‏[‏يوسف‏:‏ 84‏]‏‏.‏
    وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا‏.‏ فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن‏.‏
    وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر اللّه ورسوله به، كان مذمومًا عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودًا من جهة أخرى‏.‏
    وأما المحبة للّه، والتوكل عليه، والإخلاص له ونحو ذلك، فهذه كلها خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏ ومن قال‏:‏ إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها كافر أو منافق‏.‏ وقد تكلم بعضهم في ذلك بكلام، بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلام مبسوط وليس هذا موضعه‏.‏

    ج/ 10 ص -18-ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى‏:‏ خصوص وعموم، فللخاصة خاصها، وللعامة عامها‏.‏ مثال ذلك أن هؤلاء قالوا‏:‏ إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت، والخاص لا يناضل عن نفسه‏.‏ وقالوا‏:‏ المتوكل يطلب بتوكله أمرًا من الأمور، والعارف يشهد الأمور بفروعها منها فلا يطلب شيئًا‏.‏ فيقال‏:‏ أما الأول فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على اللّه في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه؛ ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏"فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏"‏[‏هود‏:‏ 88، الشورى‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏"‏‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏‏.‏
    فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ إن اللّه جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله‏:‏
    ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏‏.‏ وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"يقول اللّه سبحانه‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل‏"‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"يقول العبد‏:‏ الحمد للّه رب العالمين، يقول اللّه‏:‏ حمدني عبدي‏.‏ يقول العبد‏:‏ الرحمن

    ج/ 10 ص -19-الرحيم، يقول اللّه‏:‏ أثنى على عبدي‏.‏ يقول العبد‏:‏ مالك يوم الدين، يقول اللّه‏:‏ مجدني عبدي‏.‏ يقول العبد‏:‏ إياك نعبد وإياك نستعين، يقول اللّّه‏:‏ فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل‏.‏ يقول العبد‏:‏ اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، يقول اللّه‏:‏ فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل‏"‏‏.‏ فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير، والعبد له نصف الدعاء والطلب‏.‏ وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه، وما للعبد، فإياك نعبد للرب، وإىاك نستعين للعبد‏.‏
    وفي الصحيحين عن معاذ رضي اللّه عنه قال‏:‏ كنت رديفًا للنبي ﷺ على حمار فقال‏:‏
    ‏"يا معاذ، أتدري ما حق اللّه على العباد‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على اللهّ إذا فعلوا ذلك‏؟‏‏"‏ قلت‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"حقهم عليه ألا يعذبهم‏"‏‏.‏ والعبادة هي الغاية التي خلق اللّه لها العباد من جهة أمر اللّه ومحبته ورضاه كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهي اسم يجمع كمال الحب للّه ونهايته، وكمال الذل للّه ونهايته، فالحب الخلي عن ذل، والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين؛ولهذا كانت العبادة لاتصلح إلا للّه، وهي وإن كانت منفعتها للعبد واللّه غني عن العالمين، فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها؛ولهذا كان اللّه أشد فرحًا بتوبة العبد من

    ج/ 10 ص -20-الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا نام آيسًا منها ثم استيقظ فوجدها، فاللّه أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته، وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في غير هذا الموضع‏.‏
    والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة، فالاستعانة كالدعاء والمسألة‏.‏ وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي ﷺ
    قال‏:‏ ‏[‏يقول اللّه عز وجل‏:‏ يا بن آدم، إنما هي أربع‏:‏ واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي‏.‏ فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك‏"‏‏.‏
    وكون هذا للّه وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء، فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملائمًا له، واللّه تعالى يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه، ويحب الوسيلة تبعًا لذلك، وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد، وكل ذلك يحبه اللّه ويرضاه، وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم‏.‏

    ج/ 10 ص -21-وأيضًا، التوكل من الأمور الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها، والزاهد فيها زاهد فيما يحبه اللّه ويأمر به ويرضاه‏.‏
    والزهد المشروع هو‏:‏ ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة اللّه، كما أن الورع المشروع هو‏:‏ ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهو ترك المحرمات والشبهات التي لايستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها، كالواجبات‏.‏ فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة، فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏"‏‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏، كما أن الاشتغال بفضول المباحات، هو ضد الزهد المشروع، فإن اشتغل بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصيًا، وإلا كان منقوصًا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين‏.‏
    وأيضًا، فإن التوكل هو محبوب للّه مرضي له مأمور به دائمًا، وما كان محبوبًا للّه مرضيًا له مأمورًا به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين، فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم‏:‏ المتوكل يطلب حظوظه‏.‏
    وأما قولهم‏:‏ إن الأمور قد فرغ منها، فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا حاجة إليه؛ لأن المطلوب إن كان مقدرًا فلا حاجة إليه، وإن لم يكن /

    ج/ 10 ص -22-مقدرًا لم ينفع الدعاء، وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلًا‏.‏
    وكذلك قول من قال‏:‏ التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة، وإن حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض، وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضًا، وكذلك قول من قال‏:‏ إن الدعاء إنما هو عبادة محضة‏.‏
    فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد‏:‏ وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة أيضًا تكون من العبد، ولم يعلموا أن اللّه سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد، وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الأعمال بالكلية‏.‏
    وقد سئل النبي ﷺ عن هذا الأصل مرات، فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن حصين قال‏:‏ قيل لرسول اللّه ﷺ‏:‏ يا رسول اللّه، أعُلِم أهل الجنة من أهل النار‏؟‏ قال‏
    :‏ ‏"نعم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ ففيم العمل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"كل ميسر لما خلق له‏"‏‏.‏ وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال‏:‏ كنا في جنازة فيها رسول اللّه ﷺ فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه وقال‏:‏ ‏"ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة‏"‏‏.‏ قال‏:‏

    ج/ 10 ص -23-فقال رجل من القوم‏:‏ يا نبي اللّه، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل‏؟‏ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة‏.‏ قال‏:‏ ‏[‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏.‏ أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة‏]‏، ثم قال نبي اللّه ﷺ‏:‏ ‏[‏‏"فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى‏.‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى‏.‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏.‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى‏.‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى‏.‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏"‏‏"‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5 10‏]‏، أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد‏.‏
    وروى الترمذي أن النبي ﷺ سئل فقيل‏:‏ يا رسول اللّه، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"
    هي من قدر اللّه‏"‏‏.‏
    وقد جاء هذا المعنى عن النبي ﷺ في عدة أحاديث‏.‏
    فبين ﷺ أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافى أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة، وشقاوة هذا بالأعمال السيئة، فإنه سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة، والشقي يشقى بالأعمال السيئة، فمن كان سعيدًا ييسر للأعمال الصالحة التي تقتضي السعادة، ومن كان شقيًا ييسر للأعمال السيئة

    ج/ 10 ص -24-/ التي تقتضى الشقاوة، وكلاهما ميسر لما خلق له، وهو ما يصير إليه من مشيئة اللّه العامة الكونية التي ذكرها اللّه سبحانه في كتابه في قوله تعالى‏:‏ ‏"وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏"‏‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏‏.‏
    وأما ما خلقوا له من محبة اللّه ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قوله‏:‏ ‏
    "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏"‏‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏‏.‏
    واللّه سبحانه قد بين في كتابه في كل واحدة‏:‏ من ‏[‏الكلمات‏]‏ و‏[‏الأمر‏]‏ و‏[‏الإرادة‏]‏ و‏[‏الإذن‏]‏ و ‏[‏الكتاب‏]‏ و ‏[‏الحكم‏]‏ و ‏[‏القضاء‏]‏ و ‏[‏التحريم‏]‏ ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة اللّه ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية‏.‏
    مثال ذلك أنه قال في الأمر الديني‏:‏
    ‏"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى‏"‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏"‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ وقال في الكوني‏:‏ ‏"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏"وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ‏"‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏ على إحدى الأقوال في هذه الآية‏.‏
    وقال فى الإرادة الدينية‏:‏
    ‏"يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏،

    ج/ 10 ص -25-‏"يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏، ‏"مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏"‏‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وقال في الإرادة الكونية‏:‏ ‏"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ‏"‏‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وقال نوح عليه السلام‏:‏ ‏"وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏"‏‏[‏هود‏:‏ 34]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 28‏]‏‏.‏
    وقال تعالى في الإذن الديني‏:‏
    ‏"مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ‏"‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى في الكوني‏:‏ ‏"وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏
    وقال تعالى في القضاء الديني‏:‏
    "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ أي‏:‏ أمر، وقال تعالى في الكوني‏:‏ ‏"فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.‏
    وقال تعالى في الحكم الديني‏:‏ ‏
    "أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏"‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى في الكوني عن ابن يعقوب‏:‏ ‏"فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 80‏]‏،

    ج/ 10 ص -26-وقال تعالى‏:‏ ‏"قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 112‏]‏‏.‏
    وقال تعالى في التحريم الديني‏:‏
    ‏"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏، ‏"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقال تعالى في التحريم الكوني‏:‏ ‏"فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ‏.‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ‏"‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 24، 25‏]‏، وقال تعالى في الكلمات الدينية‏:‏ ‏"وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏، وقال تعالى في الكونية‏:‏ ‏"وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏، ومنه قوله ﷺ المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن والمسانيد أنه كان يقول في استعاذته‏:‏ ‏"أعوذ بكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر‏"‏‏.‏ ومن المعلوم أن هذا هو الكوني الذي لا يخرج منه شىء، عن مشيئته وتكوينه‏.‏ وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته‏.‏
    والمقصود هنا أنه ﷺ بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالأعمال التي يصيرون بها إلى ذلك، كما أن سائر المخلوقات كذلك، فهو سبحانه يخلق الولد وسائر الحيوان في الأرحام بما يقدره من اجتماع الأبوين على النكاح، واجتماع المائين في الرحم، فلو قال الإنسان‏:‏ أنا أتوكل ولا أطأ زوجتي، فإن كان قد

    ج/ 10 ص -27-قضى لي بولد وجد وإلا لم يوجد ولا حاجة إلى وطء، كان أحمق بخلاف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل الماء لا يمنع انعقاد الولد إذا شاء اللّه، إذ قد يسبق الماء بغير اختياره‏.‏
    ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه ﷺ في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علىنا العزبة، وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول اللّه ﷺ‏:‏
    ‏"فقال ما علىكم ألا تفعلوا، فإن اللّه قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة‏"‏، وفي صحيح مسلم عن جابر‏:‏ أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال‏:‏ إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل، فقال‏:‏ ‏"اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها‏"‏‏.‏
    وهذا مع أن اللّه سبحانه قادر على ما قد فعله من خلق الإنسان من غير أبوين كما خلق آدم، ومن خلقه من أب فقط كما خلق حواء من ضلع آدم القصير، ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم عليه السلام، لكن خلق ذلك بأسباب أخرى غير معتادة‏.‏
    وهذا الموضع، وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع، فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر

    ج/ 10 ص -28-غير محقق لما أمر به ونهى عنه، ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل، والجري مع الحقيقة القدرية، ويحسب أن قول القائل‏:‏ ينبغي للعبد أن يكون مع اللّه كالميت بين يدي الغاسل يتضمن ترك العمل بالأمر والنهي حتى يترك ما أمر به، ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به بين ما أمر اللّه به وأحبه ورضيه، وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق اللّه بينه كما قال تعالى‏:‏ ‏"أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏"‏‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏.‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏"‏ ‏[‏القلم‏:‏ 35، 36‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏"‏‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ‏.‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ‏.‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ‏.‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ‏"‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19-22‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏
    حتى يفضي الأمر بغلاتهم إلى عدم التمييز بين الأمر بالمأمور النبوي الإلهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبين ما يكون في الوجود من الأحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار، فيشهدون وجه الجمع من جهة كون الجميع بقضاء اللّه وقدره وربوبيته وإرادته العامة،

    ج/ 10 ص -29-وأنه داخل في ملكه، ولا يشهدون وجه الفرق الذي فرق اللّه به بين أوليائه وأعدائه، والأبرار والفجار، والمؤمنين والكافرين، وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني، وأهل المعصية الذين عصوا هذا الأمر، ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الأشياخ، أو ببعض غلطات بعضهم‏.‏
    وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الاعتناء به على أهل طريق اللّه، السالكين سبيل الإرادة ؛ إرادة الذين يريدون وجهه، فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما لا يعلمه إلا اللّه، حتى يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الأرض من أهل الظلم والعلو، كالذين يتوجهون بقلوبهم في معاونة من يهوونه من أهل العلو في الأرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك من أولياء اللّه فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحًا، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدًا، فالأحوال يكون تأثيرها محبوبًا للّه تارة، ومكروهًا للّه أخرى، وقد تكلم الفقهاء على وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من اللّه له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إهانة، وأن الكرامة لزوم الاستقامة، وأن

    ج/ 10 ص -30-/اللّه لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء اللّه الذين قال اللّه فيهم‏:‏ ‏"أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏"‏‏[‏يونس‏:‏ 62‏] فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين، وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين، مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجبًا، وأما ما يبتلى اللّه به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها، أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك، وقد يشقى بها قوم إذا عصوه في ذلك‏.‏
    قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي‏.‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي‏.‏ كَلَّا‏"‏[‏الفجر‏:‏ 15-17‏]‏؛ ولهذا كان الناس في هذه الأمور على ثلاثةأقسام‏:‏
    قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في طاعة اللّه‏.‏
    وقوم يتعرضون بها لعذاب اللّه إذا استعملوها في معصية اللّه كبلعام وغيره‏.‏
    وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات‏.‏

    ج/ 10 ص -31-والقسم الأول‏:‏ هم المؤمنون حقًا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين اللّه، أو لحاجة يستعين بها على طاعة اللّه‏.‏ ولكثرة الغلط في هذا الأصل نهى رسول اللّه ﷺ عن الاسترسال مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر اللّه وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏‏.‏
    وفي سنن أبي داود‏:‏ إن رجلين اختصما إلى النبي ﷺ، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه‏:‏ حسبي اللّه ونعم الوكيل‏.‏ فقال رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"إن الله يلوم على العجز، ولكن علىك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل‏:‏ حسبي اللّه ونعم الوكيل‏"‏‏.‏ فأمر النبي ﷺ المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن يستعين باللّه، وهذا مطابق لقوله تعالى‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏ فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة اللّه وعبادته؛ إذ النافع له هو طاعة اللّه ولا شىء أنفع له من ذلك، وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح‏.‏
    قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح لسعد‏:‏
    ‏"إنك لن

    ج/ 10 ص -32-تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها فى فيِّ امرأتك‏"‏، فأخبر النبي ﷺ أن اللّه يلوم على العجز الذي هو ضد الكيس، وهو التفريط فيما يؤمر بفعله، فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل‏.‏ وإن كان لا ينافى القدرة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي‏.‏
    فإن الاستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له، ولا تصلح إلا لمقدورها، كما ذكرها اللّه تعالى في قوله‏:‏
    ‏"مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 20‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏"وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 101‏]‏‏.‏ وأما الاستطاعة التي يتعلق بها الأمر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد لا يقترن كما في قوله تعالى‏:‏ "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏"[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، وقول النبي ﷺ لعمران بن حصين‏:‏ ‏"صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب‏"‏‏.‏
    فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام‏:‏
    قوم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي والعبادة والطاعة شاهدين لإلهية الرب سبحانه الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات اللّه ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان؛ لأن الاستعانة باللّه والتوكل عليه واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه الأمور‏.‏

    ج/ 10 ص -33-ولهذا قال بعض السلف‏:‏ من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه‏.‏ وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو؛ أن رسول اللّه ﷺ صفته في التوراة‏:‏ ‏"إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا صُمّا وقلوبًا غُلْفًا بأن يقولوا لا إله إلا اللّه‏"‏‏.‏
    ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم‏:‏ لا حول ولا قوة إلا باللّه‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ‏:‏ ‏"إنها كنز من كنوز الجنة‏"‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏"‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏" إلى قوله‏:‏ ‏"فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173-175‏]‏، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنه في قوله‏:‏ ‏"وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏"‏ قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد ﷺ حين قال لهم الناس‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم‏"‏‏.
    وقسم ثان‏:‏ يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به، لكن على أهوائهم وأذواقهم، غير ناظرين إلى حقيقة أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته، وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا

    ج/ 10 ص -34-ما يعملون على الأحوال التي يتصرفون بها في الوجود، ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه، وكثيرًا ما يغلطون، فيظنون أن معصيته هي مرضاته، فيعودون إلى تعطيل الأمر والنهي ويسمون هذا حقيقة، ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا وباطنًا‏.‏
    وهؤلاء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام؛ لأن العاقبة للتقوى، ومن لم يقف عند أمر اللّه ونهيه فليس من المتقين، فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه، تارة في بدعة يظنونها شرعة، وتارة في الاحتجاج بالقدر على الأمر، واللّه تعالى لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام والأعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه اللّه، وأن شرعوا ما لم يشرعه اللّه، وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالى‏:‏ ‏"سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، ونظيرها في النحل ويس والزخرف‏.‏ وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا‏.‏
    وأما القسم الثالث‏:‏ وهو من أعرض عن عبادة اللّه واستعانته به فهؤلاء شر الأقسام‏.‏

    ج/ 10 ص -35-والقسم الرابع‏:‏ هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ فاستعانوا به على طاعته‏.‏ وشهدوا أنه إلههم الذي لايجوز أن يعبد إلا إياه بطاعته وطاعة رسوله، وإنه ربهم الذي ‏"لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏، وأنه ‏"مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ‏"‏‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، ‏"وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ‏"‏‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، ‏"قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.‏
    ولهذا قال طائفة من العلماء‏:‏ الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع‏.‏
    فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق، فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشائخ كصاحب ‏[‏علل المقامات‏]‏ وهو من أجل المشائخ، وأخذ ذلك عنه صاحب ‏[‏محاسن المجالس‏]‏ وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط، وظنه أنه لا فائدة له في تحصيل المقصود، وهذه حال من جعل الدعاء كذلك، وذلك بمنزلة من جعل الأعمال المأمور بها كذلك، كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من

    ج/ 10 ص -36-الأسباب التي هي عبادة وطاعة مأمور بها، فإن غلط هذا في ترك الأسباب المأمور بها التي هي داخلة في قوله تعالى‏:‏ ‏"فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏ كغلط الأول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏"فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏"‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏
    لكن يقال‏:‏ من كان توكله على اللّه ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة، وإن كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة، كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه، ومن أعرض عن التوكل فهو عاص للّه ورسوله، بل خارج عن حقيقة الإيمان، فكيف يكون هذا المقام للخاصة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ‏"‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ‏"‏إلى قوله‏:‏ ‏"قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.‏
    وقد ذكر اللّه هذه الكلمة
    ‏"حَسْبِي اللَّهُ‏"‏ في جلب المنفعة تارة، وفي دفع المضرة أخرى‏.‏ فالأولى في قوله تعالى‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ‏"‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏‏.‏ والثانية في قوله‏:‏ ‏"الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏،

    ج/ 10 ص -37-وفي قوله تعالى‏:‏ ‏"وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ‏"‏، يتضمن بالرضا والتوكل‏.‏
    والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول في الصلاة‏:‏
    ‏"اللّهم، بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم، إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللّهم، إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللّهم، زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين‏"‏ رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر‏.‏
    وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لاحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالى‏:‏
    ‏"وَلَقَدْ كُنْتُمْ تمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 143‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏.‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏.‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ‏"‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2-4‏]

    ج/ 10 ص -38-نزلت هذه الآية لما قالوا‏:‏ لو علمنا أي الأعمال أحب إلى اللّه لعملناه، فأنزل اللّه سبحانه وتعالى آية الجهاد، فكرهه من كرهه‏.‏
    ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلاء، بأن يوجب على نفسه ما لا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك، أو يطلب ولاية، أو يقدم على بلد فيه طاعون‏.‏ كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي ﷺ أنه نهى عن النذر، وقال‏:‏
    ‏"إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل‏"‏، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد الرحمن بن سَمُرَة‏:‏ ‏"لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِلْتَ إلىها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعِنْت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك‏"‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيحين أنه قال في الطاعون‏:‏ ‏"إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه‏"‏، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏"لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا اللّه العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف‏"‏ وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم عليه أشياء فيبخل بالوفاء، كما يفعل كثير ممن يعاهد اللّه عهودًا على أمور، وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود‏.‏
    ويقتضي أن الإنسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات‏.‏ ولابد في جميع ذلك من

    ج/ 10 ص -39-الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات، وترك المحظورات‏.‏ ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى اللّّه عنه‏.‏
    وقد ذكر اللّه الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى‏:‏
    ‏"وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏، ‏"اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 153‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ‏"‏إلى قوله‏:‏ ‏"وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏"‏ ‏[‏هود‏:‏ 114، 115‏]‏ ‏"فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏"‏[‏طه‏:‏ 130‏]‏، ‏"فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏"‏الآية ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏.‏
    وجَعلَ الإمَامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله‏:‏
    ‏"وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏"‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏، فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لابد فيه من الصبر، بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر‏.‏ كما قال معاذ بن جبل رضي اللّه عنه‏:‏ علىكم بالعلم فإن طلبه للّه عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعلىمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف اللّه ويعبد، وبه يمجد اللّه ويوحد، يرفع اللّه بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم، وينتهون إلى رأيهم‏.‏
    فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولابد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا /

    ج/ 10 ص -40-/قال تعالى‏:‏ ‏"وَالْعَصْرِ‏.‏ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏.‏ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏"‏ ‏[‏سورة العصر‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏"‏[‏ص‏:‏ 45‏]‏‏.‏
    فالعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي، فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى‏.‏ قال تعالى‏:
    ‏ ‏"وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏.‏ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى‏"‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1، 2‏]‏، فلا ينال الهدى إلا بالعلم، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر، ولهذا قال على‏:‏ ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا انقطع الرأس بان الجسد ثم رفع صوته فقال‏:‏ ألا لا إيمان لمن لا صبر له‏.‏
    وأما الرضا، فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء‏:‏ هل هو واجب أو مستحب ‏؟‏ على قولين‏:‏ فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين‏.‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن‏.‏ وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال لابن عباس‏:‏
    ‏"‏ إن استطعت أن تعمل للّه بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا‏"‏‏.‏

    ج/ 10 ص -41-ولهذا لم يجئ في القرآن إلا مدح الراضين لا إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب، كالمرض والفقر والزلزال، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، فالبأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، والزلزال في القلوب‏.‏
    وأما الرضا بما أمر اللّه به، فأصله واجب، وهو من الإيمان كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا‏"‏، وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء اللّه تعالى قال تعالى‏:‏ ‏
    "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏"‏‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ‏"‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏"‏ ‏[‏محمد‏:‏ 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ‏"‏‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏‏.‏
    ومن النوع الأول‏:‏ ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ _من سعادة ابن آدم استخارته

    ج/ 10 ص -42-للّه، ورضاه بما قسم اللّه له، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته للّه، وسخطه بما يقسم اللّه له‏"‏‏.‏
    وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان، فأكثر العلماء يقولون‏:‏ لا يشرع الرضا بها، كما لا تشرع محبتها، فإن اللّه سبحانه لا يرضاها ولا يحبها، وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانه‏:‏ ‏"وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏"‏‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ‏"‏ ‏[‏النساء‏:‏ 108‏]‏، بل يسخطها كما قال تعالى‏:‏ ‏"ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏"‏[‏محمد‏:‏ 28‏]‏‏.‏
    وقالت طائفة‏:‏ ترضى من جهة كونها مضافة إلى اللّه خلقًا، وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فعلًا وكسبًا‏.‏ وهذا القول لا ينافي الذي قبله، بل هما يعودان إلى أصل واحد‏.‏ وهو سبحانه إنما قدر الأشياء لحكمة، فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية، وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشىء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من أحدهما ويكره من الآخر، كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏"‏‏.‏
    وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف اللّه وفعله لا بالمقضي الذي

    ج/ 10 ص -43-هو مفعوله، فهو خروج منه عن مقصود الكلام، فإن الكلام ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب تعالى من صفاته وأفعاله، وإنما الكلام في الرضا بمفعولاته‏.‏ والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع‏.‏
    والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد اللّه على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه، وفي الحديث‏:‏ ‏"أول من يدعى إلى الجنة‏:‏ الحمادون الذين يحمدون اللّه في السراء والضراء‏"‏، وروى عن النبي ﷺ أنه كان إذا أتاه الأمر يسره قال‏:‏
    ‏"الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات‏"‏، وإذا أتاه الأمر الذي يسوؤه قال‏:‏ ‏"الحمد للّه على كل حال‏"‏‏.‏ وفي مسند الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"إذا قبض ولد العبد يقول اللّه لملائكته‏:‏ أقبضتم ولد عبدي‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ أقبضتم ثمرة فؤاده‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيقول‏:‏ ماذا قال عبدي ‏؟‏ فيقولون‏:‏ حمدك واسترجع، فيقول‏:‏ ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد‏"‏، ونبينا محمد ﷺ هو صاحب لواء الحمد، وأمته هم الحمادون الذين يحمدون اللّه على السراء والضراء‏.‏ والحمد على الضراء يوجبه مشهدان‏:‏
    أحدهما‏:‏ علم العبد بأن اللّه سبحانه مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه، فإنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العلىم الحكيم، الخبير الرحيم‏.‏

    ج/ 10 ص -44-/والثاني‏:‏ علمه بأن اختيار اللّه لعبده المؤمن، خير من اختياره لنفسه، كما روى مسلم في صحيحه، وغيره عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"والذي نفسي بيده لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له‏"‏‏.‏
    فأخبر النبي ﷺ أن كل قضاء يقضيه اللّه للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏"‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5، لقمان‏:‏ 31، سبأ‏:‏ 19، الشورى‏:‏ 33‏]‏ وذكرهما في أربعة مواضع من كتابه‏.‏
    فأما من لا يصبر على البلاء، ولا يشكر على الرخاء، فلا يلزم أن يكون القضاء خيرًا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏
    "مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ"‏ أي‏:‏ من سراء، ‏"وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏"‏‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ أي‏:‏ من ضراء، وكقوله تعالى‏:‏ ‏"وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 168]‏ أي‏:‏ بالسراء والضراء، كما قال تعالى‏:‏ ‏"وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏،

    ج/ 10 ص -45-فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار، ويراد بها الطاعات والمعاصي‏.‏
    والجواب الثاني‏:‏ أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور‏.‏ والذنوب تنقص الإيمان، فإذا تاب العبد أحبه اللّه، وقد ترتفع درجته بالتوبة‏.‏ قال بعض السلف‏:‏ كان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير‏:‏ إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة‏.‏ وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر اللّه ويتوب إلىه منها‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه
    قال‏:‏ ‏"الأعمال بالخواتيم‏"‏‏.‏ والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرةأسباب‏:‏
    أن يتوب فيتوب اللّه عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، أو يستغفر فيغفر له، أو يعمل حسنات تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات، أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًا وميتًا، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه اللّه به، أو يشفع فيه نبيه محمد ﷺ، أو يبتليه اللّه تعالى في الدنيا بمصائب تكفر عنه، أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه، أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه، أو يرحمه أرحم الراحمين‏.‏

    ج/ 10 ص -46-/فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إلا نفسه، كما قال تعالى فيما يروي عنه رسوله ﷺ‏:‏ ‏"يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏
    فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صبارًا شكورًا، أو كان قد استخار اللّه وعلم أن من سعادة ابن آدم استخارته للّه ورضاه بما قسم اللّه له، كان قد رضى بما هو خيرله، وفي الحديث الصحيح عن على رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏"إن اللّه يقضي بالقضاء، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط‏"‏‏.‏ ففي هذا الحديث الرضا والاستخارة، فالرضا بعد القضاء والاستخارة قبل القضاء، وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا، وفي هذا الصبر‏.‏
    ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيرًا له، فكيف مع الرضا‏؟‏ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏"المصاب من حرم الثواب‏"‏ في الأثر الذي رواه الشافعي في مسنده‏:‏ أن النبي ﷺ لما مات سمعوا قائلًا يقول‏:‏ يا آل بيت رسول اللّه ﷺ إن في اللّه عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فباللّه فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط، مع أنه لا فائدة فيه، فقد يكون فيه مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه اللّه‏.‏

    ج/ 10 ص -47-لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافى الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، وبهذا يعرف معنى قول النبي ﷺ لما بكى على الميت وقال‏:‏ ‏"إن هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده، وإنما يرحم اللّه من عباده الرحماء‏"‏، فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه على فضحك وقال‏:‏ رأيت أن اللّه قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى اللّه به، حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع‏.‏ وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد اللّه تعالى كحال النبي ﷺ فهذا أكمل‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏"ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏"[‏البلد‏:‏ 17‏]‏، فذكر سبحانه التواصي بالصبر والمرحمة‏.‏
    والناس أربعة أقسام‏:‏ منهم من يكون فيه صبر بقسوة‏.‏ ومنهم من يكون فيه رحمة بجزع‏.‏ ومنهم من يكون فيه القسوة والجزع‏.‏ والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس‏.‏
    وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن اللّه من توابع المحبة له، وهذا إنما يتوجه على المأخذ الأول وهو الرضا عنه لاستحقاقه ذلك بنفسه، مع قطع العبد النظر عن حظه، بخلاف المأخذ الثاني وهو‏:‏ الرضا لعلمه بأن المقضي خير له، ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه، لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه‏.‏ إن المحبة لله نوعان‏:‏

    ج/ 10 ص -48-محبة له نفسه، ومحلابة له لما فيه من الإحسان، وكذلك الحمد له نوعان‏:‏ حمد له على ما يستحقه نفسه، وحمد على إحسانه إلى عبده، فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة‏.‏
    وأما الرضا به وبدينه وبرسوله، فذلك من حظ المحبة، ولهذا ذكر النبي ﷺ ذوق طعم الإيمان، كما ذكر في المحبة وجود حلاوة الإيمان‏.‏ وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق الإيماني الشرعي، دون الضلالي البدعي‏.‏ ففي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"ذاق طعم الإيمان من رضي باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا‏"‏، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان‏:‏ أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار‏"‏‏.‏ وهذا مما يبين من الكلام على المحبة فنقول‏.
    فَصل
    محبة اللّه؛ بل محبة اللّه ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن

    ج/ 10 ص -49-التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة‏:‏ إما عن محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة، كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد الكبار‏.‏
    فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة‏.‏ وأصل المحبة المحمودة هي محبة اللّه سبحانه وتعالى إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند اللّه لا يكون عملًا صالحًا، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة اللّه، فإن اللّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏
    "يقول اللّه تعالى‏:‏ أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك‏"‏، وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار‏:‏ القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي‏.‏
    بل إخلاص الدين للّه هو الدين الذي لا يقبل اللّه سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه‏.‏
    قال تعالى‏:‏
    ‏"تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏.‏ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏.‏ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 13‏]‏، والسورة كلها عامتها في هذا المعنى، كقوله‏:‏ ‏"قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏.‏ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 11، 12‏]‏ إلى قوله‏:‏

    ج/ 10 ص -50-‏"قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 14‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏"أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏"أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ‏"‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏"أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏.‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏.‏ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏"‏ [‏الزمر‏:‏ 43 45‏]‏ إلى قوله‏:‏ "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏"‏‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏"بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 66‏]‏‏.‏
    وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وإبليس أنه قال‏:‏
    ‏"فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏.‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 82، 83‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ‏"‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏.‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏ 99، 100‏]‏، فبين أن سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ ولهذا قال في قصة يوسف‏:‏ ‏"كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏"‏‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، وأتباع الشيطان هم أصحاب النار، كما قال تعالى‏:‏ ‏"لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏‏.‏
    وقد قال سبحانه‏:‏ ‏
    "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏"‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ وهذه الآية في حق من لم يتب؛ ولهذا خصص الشرك، وقيد ما

    ج/ 10 ص -51-سواه بالمشيئة، فأخبر أنه لا يغفر الشرك لمن لم يتب منه، وما دونه يغفره لمن يشاء‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏"قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏"‏‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ فتلك في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق، وسياق الآية يبين ذلك مع سبب نزولها‏.‏
    وقد أخبر سبحانه أن الأولين والآخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي ﷺ على أُبَيِّ لما أمره اللّه تعالى أن يقرأ عليه قراءة إبلاغ وإسماع بخصوصه فقال‏:‏ ‏
    "وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ ‏.‏ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ‏"‏الآية ‏[‏البينة‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏ وهذا حقيقة قول لا إله إلا اللّه، وبذلك بعث جميع الرسل‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏"‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏
    وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل كما قال نوح عليه السلام‏:‏ ‏
    "اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏، وكذلك هود وصالح وشعيب عليهم السلام وغيرهم كل يقول‏:‏ ‏"اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏"‏لا سيما أفضل

    ج/ 10 ص -52-الرسل الذين اتخذ اللّه كلاهما خليلًا‏:‏ إبراهيم ومحمدًا عليهما السلام فإن هذا الأصل بينه اللّه بهما وأيدهما فيه ونشره بهما، فإبراهيم هو الإمام الذي قال اللّه فيه‏:‏ ‏"إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏"‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏، وفي ذريته جعل النبوة والكتاب والرسل، فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك اللّه عليهم، قال سبحانه‏:‏ ‏"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ‏.‏ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي ‏.‏ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26 - 28‏]‏‏.‏
    فهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص للّه وهي البراءة من كل معبود إلا من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يس‏:‏
    ‏"وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏.‏ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي ‏.‏ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 2224‏]‏، وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلال من اتخذ بعض الكواكب ربًا يعبده من دون اللّه، قال‏:‏ ‏"فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏.‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا‏"‏[‏الأنعام‏:‏ 78-81‏]‏، وقال إبراهيم الخليل عليه السلام‏:‏ ‏"قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏.‏ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ ‏.‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏.‏ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي ‏.‏ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي ‏.‏ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي ‏.‏ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ‏"‏[‏الشعراء‏:‏ 75-81‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

    ج/ 10 ص -53-ونبينا ﷺ هو الذي أقام اللّه به الدين الخالص للّه دين التوحيد، وقمع به المشركين من كان مشركًا في الأصل، ومن الذين كفروا من أهل الكتب، وقال ﷺ فيما رواه الإمام أحمد وغيره‏:‏ ‏"بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏"‏، وقد تقدم بعض ما أنزل اللّه عليه من الآيات المتضمنة للتوحيد‏.‏
    وقال تعالى أيضًا‏:‏
    ‏"وَالصَّافَّاتِ صَفًّا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ‏.‏ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ُ‏.‏ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ‏.‏ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ‏"‏ إلى ما ذكره من قصص الأنبياء في التوحيد وإخلاص الدين للّه، إلى قوله‏:‏ ‏"سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏.‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‏"‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 159 160‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏.‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏"‏ [‏النساء‏:‏ 145، 146‏]‏‏.‏
    وفي الجملة فهذا الأصل في سورة الأنعام، والأعراف، والنور، وآل طسم،

    ج/ 10 ص -54-وآل حم، وآل الر، وسور المفصل وغير ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر، فهو أصل الأصول وقاعدة الدين حتى في سورتي الكافرون والإخلاص‏:‏ ‏"قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ‏"‏ و‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏ وهاتان السورتان كان النبي ﷺ يقرأ بهما في صلاة التطوع كركعتي الطواف، وسنة الفجر، وهما متضمنتان للتوحيد‏.‏
    فأما ‏
    "قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ‏"‏‏:‏ فهي متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وهو إخلاص الدين للّه بالقصد والإرادة، وهو الذي يتكلم به مشائخ التصوف غالبًا، وأما سورة ‏"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏"‏‏:‏ فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رجلًا كان يقرأ‏:‏ قل هو اللّه أحد في صلاته، فقال النبي ﷺ‏:‏ ‏"سلوه لم يفعل ذلك‏؟‏‏"‏ فقال‏:‏ لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال‏:‏ ‏"أخبروه أن اللّه يحبه‏"‏‏.‏
    ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف اللّه سبحانه وتعالى الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل، ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع‏.‏ وذكرنا اعتماد الأئمة عليها مع ما تضمنته من تفسير الأحد الصمد، كما جاء تفسيره عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين، وما دل على ذلك من الدلائل‏.‏
    لكن المقصود هنا هو‏:‏ التوحيد العملي، وهو إخلاص الدين للّه وإن /

    ج/ 10 ص -55-كان أحد النوعين مرتبطًا بالآخر‏.‏ فلا يوجد أحد من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين اللّه وبين خلقه، أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي لا تستلزم مدحًا ولا ثبوت كمال، أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص، وكما يسوون إذا أثبتوا هم ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم، ويجعلون له أندادًا ويسوون المخلوقات برب العالمين‏.‏
    واليهود كثيرًا ما يعدلون الخالق بالمخلوق، ويمثلونه به حتى يصفوا اللّه بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه، والنصارى كثيرًا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في المخلوقات من نعوت الربوبية، وصفات الإلهية، ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏
    واللّه سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غيرالمغضوب عليهم ولا الضالين‏.‏ وقد قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون‏"‏‏.‏ وفي هذه الأمة من فيه شبه من هؤلاء وهؤلاء كما قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القُذَّة بالقذة، حتى لو

    ج/ 10 ص -56-دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه‏"‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، اليهود والنصارى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"فمن‏؟‏‏"‏ والحديث في الصحيحين‏.‏
    فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين للّّه، وهو إرادة اللّّه وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله‏:‏ ‏
    "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏"‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ وأمثال هذا، والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودًا، والمعظم الذي لا يحب، لا يكون معبودًا؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏"وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون اللّّه أندادًا، وإن كانوا يحبونهم كما يحبون اللّه، فالذين آمنوا أشد حبًا للّه منهم للّه ولأوثانهم، لأن المؤمنين أعلم باللّه، والحب يتبع العلم؛ ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم للّّه وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏‏.‏
    واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب اللّه ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة اللّه، وإن كانت المحبة التي للّه /

    ج/ 10 ص -57-لا يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة اللّه سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له، ونحو ذلك‏.‏ فكل هذه الأسماء تتضمن محبة اللّه سبحانه وتعالى‏.‏
    ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين، فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها، فإن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏
    " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل اللّه‏"‏‏.‏ فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"أَجْرٌ عَظِيمٌٌ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 1922‏]‏، والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة‏.‏ وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين‏:‏ ‏"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏"‏‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وإنهم يجاهدون في سبيل اللّه، ولا يخافون لومة لائم‏.‏

    ج/ 10 ص -58-فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك‏.‏ وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له، كما قال النبي ﷺ لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال‏:‏ ‏"لعلك أغضبتهم لإن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك‏"‏‏.‏ فقال لهم‏:‏ يا إخوتي، هل أغضبتكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، يغفر اللّه لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا‏:‏ ما أخذت السيوف من عدو اللّه مأخذها، فقال لهم أبو بكر‏:‏ أتقولون هذا لسيد قريش ‏؟‏ وذكر أبو بكر ذلك للنبي ﷺ فقال له ما تقدم؛ لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا للّه؛ لكمال ما عندهم من الموالاة للّه ورسوله، والمعاداة لأعداء اللّه ورسوله‏.‏
    ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه‏
    :‏ ‏"لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه‏"‏ فبين سبحانه أنه يتردد لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحب عبده

    ج/ 10 ص -59-ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال‏:‏ ‏"وأنا أكره مساءته‏"‏، وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت‏.‏ فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك‏.‏
    وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه‏.‏ وقد يقال له‏:‏ اتحاد نوعي وصفي، وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع، والقائل به كافر، وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم، وهو الاتحاد المقيد في شيء بعينه‏.‏
    وأما الاتحاد المطلق الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق فهذا تعطيل للصانع وجحود له، وهو جامع لكل شرك، فكما أن الاتحاد نوعان، فكذلك الحلول نوعان‏:‏ قوم يقولون‏:‏ بالحلول المقيد في بعض الأشخاص، وقوم يقولون‏:‏ بحلوله في كل شيء، وهم الجهمية الذين يقولون‏:‏ إن ذات اللّه في كل مكان‏.‏
    وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه، ويغيب بمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، وبموجوده عن وجوده، حتى لا يشهد إلا محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه‏.‏ كما قيل‏:‏ إن محبوبًا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه، فقال‏:‏

    ج/ 10 ص -60-أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ‏؟‏ فقال، غبت بك عني، فظننت أنك أني، فلا ريب أن هذا خطأ وضلال‏.‏
    لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورًا في زوال عقله، فلا يكون مؤاخذًا بما يصدر منه من الكلام في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور، كما قيل في عقلاء المجانين‏:‏ إنهم قوم آتاهم اللّه عقولًا وأحوالًا، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب‏.‏
    وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورًا لم يكن السكران معذورًا، وإن كان لا يحكم بكفره في أصح القولين، كما لا يقع طلاقه في أصح القولين، وإن كان النزاع في الحكم مشهورًا‏.‏ وقد بسطنا الكلام في هذا، وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم في قاعدة ذلك‏.‏
    وبكل حال، فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص، وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد ﷺ وهو أفضل الرسل، وإن كان لهؤلاء في صعق موسى نوع تعلق، وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الإلهية على بعض التابعين ومن بعدهم، وإن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، فمن المعلوم أن من

    ج/ 10 ص -61-أحب اللّه المحبة الواجبة فلابد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ‏"‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏‏.‏
    والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة، كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب اللّه ويرضاه من جهاد أعدائه، فإن الملام على ذلك كثير‏.‏ وأما الملام على فعل ما يكرهه اللّه أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل‏.‏ وبهذا يحصل الفرق بين ‏[‏الملامية‏]‏ الذين يفعلون ما يحبه اللّه ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين ‏[‏الملامية‏]‏ الذين يفعلون ما يبغضه اللّه ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك‏.
    فَصْل
    وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه‏.‏ والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب‏.‏ قال تعالى‏:‏
    ‏"أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ‏"‏الآية ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏،

    ج/ 10 ص -62-وقال‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏‏.‏
    ورحمته اسم جامع لكل خير‏.‏ وعذابه اسم جامع لكل شر‏.‏ ودار الرحمة الخالصة هي الجنة، ودار العذاب الخالص هي النار، وأما الدنيا فدار امتزاج، فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم، وأعلاه النظر إلى وجه اللّه، كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند اللّه موعدًا يريد أن ينجزكموه‏.‏ فيقولون‏:‏ ما هو‏؟‏ ألم يبيض وجوهنا‏؟‏ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ ‏"فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه‏"‏ وهو الزيادة‏.‏
    ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول من قال‏:‏ ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من نارك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك، فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة لايدخل في مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية اللّه من الجهمية، أو من يقربها ويزعم أنه لا تمتع بنفس رؤية اللّه، كما يقوله طائفة من المتفقهة‏.‏ فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة

    ج/ 10 ص -63-لا يدخل فيه إلا التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله‏:‏ ‏"مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ قال فأين من يريد اللّه، وقال آخر في قوله تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ قال‏:‏ إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه، وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخل فيها النظر‏.‏
    والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها النظر إلى وجه اللّه، وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة، كما أخبرت به النصوص‏.‏ وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم، ويدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفًا بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق نارًا أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق‏.‏
    وأما عمل الحي بغير حب ولا إرادة أصلا، فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك، وظن أن كمال العبد ألا تبقى له إرادة أصلا؛ فذاك لأنه تكلم في حال الفناء والفاني الذي يشتغل بمحبوبه له إرادة ومحبة ولكن لا يشعر بها، فوجود المحبة شيء، والإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر‏.‏ فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط، فالعبد لا يتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وإرادة؛ ولهذا قال النبي ﷺ‏:‏
    ‏"أصدق الأسماء حارث وهمام‏"‏‏.‏ فكل إنسان له حرث وهو العمل، وله هم وهو أصل

    ج/ 10 ص -64-الإرادة، ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة اللّه ما يدعوه إلى طاعته، ومن إجلاله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته، كما قال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ نعم العبد صهيب، لو لم يخف اللّه لم يعصه أي‏:‏ هو لم يعصه ولو لم يخفه، فكيف إذا خافه، فإن إجلاله وإكرامه للّه يمنعه من معصيته‏.‏
    فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه، والتنعم بتجليه له، فمعلوم أن هذا من توابع محبته له، فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الاحتجاب، وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به، فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة اللّه المستلزمة محبته، ثم إذا وجد حلاوة محبة اللّه وجدها أحلى من كل محبة؛ ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء، كما في الحديث‏:‏ ‏"إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النَّفَس‏"‏ وهو يبين غاية تنعمهم بذكر اللّه ومحبته‏.‏ فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة اللّه التي هي الأصل‏.‏
    وهذا كله ينبني على أصل المحبة، فيقال‏:‏ قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين، كما في قوله‏:‏
    ‏"وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏ وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان‏:‏ أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للّه، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقى في النار‏"‏‏.‏

    ج/ 10 ص -65-بل محبة رسول اللّه ﷺ وجبت لمحبة اللّه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏"أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏"‏، وكما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين‏"‏، وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ واللّه يا رسول اللّه لأنت أحب إلىَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال‏:‏ ‏"لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك‏"‏، فقال‏:‏ واللّه لأنت أحب إلىَّ من نفسي، قال‏:‏ ‏"الآن يا عمر‏"‏‏.‏
    وكذلك محبة صحابته وقرابته، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏
    ‏"آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار‏"‏، وقال‏:‏ ‏"لا يبغض الأنصار رجل يؤمن باللّه واليوم الآخر‏"‏، وقال على رضي اللّه عنه‏:‏ إنه لعهد النبي الأمي إلىَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق‏.‏ وفي السنن أنه قال للعباس‏:‏ ‏"والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم للّه ولقرابتي‏"‏ يعني‏:‏ بني هاشم، وقد روى حديث عن ابن عباس مرفوعًا أنه قال‏:‏ ‏"أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب اللّه، وأحبوا أهل بيتي لأجلي‏"‏‏.‏
    وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال تعالى‏:‏
    ‏"وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏"‏‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، ‏"وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏"‏‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏،

    ج/ 10 ص -66-"فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏"‏‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏، ‏"فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏"‏‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏، ‏"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ‏"‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏، ‏"بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 76‏]‏‏.‏
    وأما الأعمال التي يحبها اللّه من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة، وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء اللّه المتقون‏.‏
    وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون، وأئمة التصوف إن اللّه سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى‏:
    ‏ ‏"وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ وكذلك هو سبحانه يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية‏.‏
    وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين، زعمًا منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري أمير العراق والمشرق بواسط‏.‏ خطب الناس يوم الأضحى فقال‏:‏ أيها الناس، ضَحُّوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم

    ج/ 10 ص -67-موسي تكليمًا، ثم نزل فذبحه، وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك‏.‏
    وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلًا، وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام وهم يعبدون الكواكب ويبنون الهياكل للعقول والنجوم وغيرها، وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلًا، وموسى كليما، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل‏:‏

    قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى الخليل خليلًا

    ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه‏"‏ يعني‏:‏ نفسه، وفي رواية‏:‏ ‏"إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"إن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم

    ج/ 10 ص -68-خليلًا‏"‏، فبين ﷺ أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلًا، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه‏.‏ مع أنه ﷺ قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصًا كما قال لمعاذ‏:‏ ‏"واللّه إني لأحبك‏"‏ وكذلك قوله للأنصار‏.‏ وكان زيد بن حارثة حب رسول اللّه ﷺ، وكذلك ابنه أسامة حبه، وأمثال ذلك‏.‏ وقال له عمرو بن العاص‏:‏ أي الناس أحب إليك ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"عائشة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فمن الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏"أبوها‏"‏، وقال لفاطمة ابنته رضي اللّه عنها‏:‏ ‏"ألا تحبين ما أحب‏؟‏‏"‏ قالت‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏"فأحبي عائشة‏"‏‏.‏ وقال للحسن‏:‏ ‏"اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه‏"‏ وأمثال هذا كثير‏.‏
    فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال‏:‏ ‏"إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا‏"‏، فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها محبوبًا لذاته لا لشيء آخر؛ إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب‏.‏
    فالخلة تنافى المزاحمة، وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبًا لذاته

    ج/ 10 ص -69-محبة لا يزاحمه فيها غيره، وهذه محبة لا تصلح إلا للّّه، فلا يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة، وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره إذا كان محبوبًا بحق فإنما يحب لأجله، وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان للّه تعالى‏.‏ وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون اللّه محبوبًا لذاته ينكر مخاللته‏.‏ وكذلك أيضًا إن أنكر محبته لأحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خليلًا بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد‏.‏
    وكذلك تكليمه لموسى أنكروه؛ لإنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الأفعال، فكما ينكرون أن يتصف بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوى أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم، فهذا حقيقة قولهم‏.‏
    ‏"كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 118‏]‏‏.‏
    لكن لما كان الإسلام ظاهرًا والقرآن متلوا، لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام، أخذوا يلحدون في أسماء اللّه ويحرفون الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه، وهذا جهل عظيم؛ فإن محبة المتقرب إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه، فمن لا يحب الشيء لا يمكن أن يحب التقرب إليه؛ إذ التقرب وسيلة، ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود، فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود بالوسيلة‏.‏

    ج/ 10 ص -70-وكذلك العبادة والطاعة، إذا قيل في المطاع المعبود‏:‏ إن هذا يحب طاعته وعبادته، فإن محبته ذلك تبع لمحبته، وإلا فمن لا يحب لا يحب طاعته وعبادته، ومن كان لا يعمل لغيره إلا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاوضًا له أو مفتديًا منه لا يكون محبًا له‏.‏ ولا يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته، فإن محبة المقصود وإن استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة، فإن ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين‏:‏ محبة العوض والسلامة عن محبة العمل‏.‏ أما محبة اللّه فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض، ألا ترى أن من استأجر أجيرًا بعوض لا يقال‏:‏ إن الأجير يحبه بمجرد ذلك‏.‏ بل قد يستأجر الرجل من لا يحبه بحال بل من يبغضه، وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب لا يقال‏:‏ إنه يحبه بل يكون مبغضًا له‏.‏ فعلم أن ما وصف اللّه به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع ألا يكون معناه إلا مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الأغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبًا أصلا‏.‏
    وأيضًا، فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم؛ ولهذا كانت محبة القلب للبشرعلىطبقات‏:‏
    أحدها‏:‏ العلاقة‏:‏ وهو تعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة‏:‏ وهو انصباب القلب إليه، ثم الغرام‏:‏ وهو الحب اللازم، ثم العشق وآخر

    ج/ 10 ص -71-المراتب هو التتيم‏:‏ وهو التعبد للمحبوب، والمتيم المعبود، وتيم اللّه عبد اللّه فإن المحب يبقى ذاكرًا معبدًا مذللًا لمحبوبه‏.‏
    وأيضًا، فاسم الإنابة إليه يقتضى المحبة أيضًا، وما أشبه ذلك من الأسماء، كما تقدم‏.‏
    وأيضًا، فلو كان هذا الذي قالوه حقًا من كون ذلك مجازًا لما فيه من الحذف والإضمار، فالمجاز لا يطلق إلا بقرينة تبين المراد‏.‏ ومعلوم أن ليس في كتاب اللّه وسنة رسوله ما ينفي أن يكون اللّه محبوبًا، وألا يكون المحبوب إلا الأعمال لا في الدلالة المتصلة ولا المنفصلة بل ولا في العقل أيضًا‏.‏ وأيضًا‏:‏ فمن علامات المجاز صحة إطلاق نفيه، فيجب أن يصح إطلاق القول بأن اللّه لا يُحِبّ ولا يُحَبّ، كما أطلق إمامهم الجعد ابن درهم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين، فعلم دلالة الإجماع على أن هذا ليس مجازًا، بل هي حقيقة‏.‏
    و أيضًا، فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له في قوله تعالى‏:‏
    ‏"أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ‏"‏‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، كما فرق بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى‏:‏ ‏"أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏"‏ فلو كان المراد بمحبته ليس إلا محبة العمل لكان هذا تكريرًا، أو من باب عطف الخاص على العام، وكلاهما على خلاف ظاهر الكلام الذي لا يجوز المصير إليه إلا بدلالة تبين المراد‏.‏ وكما أن

    ج/ 10 ص -72-محبته لا يجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله، فكذلك لا يجوز تفسيرها بمجرد محبة العمل له، وإن كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له‏.‏
    وأيضًا، فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته لا عن محبة نفسه أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازًا، فحمل الكلام عليه تحريف محض أيضا‏.‏ وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار أنه لا يجوز أن يكون غير اللّه محبوبًا مرادًا لذاته كما لا يجوز أن يكون غير اللّه موجودًا بذاته، بل لا رب إلا اللّه، ولا إله إلا هو المعبود، الذي يستحق أن يحب لذاته ويعظم لذاته، كمال المحبة والتعظيم‏.‏
    وكل مولود يولد على الفطرة فإنه سبحانه فطر القلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه وتنتهى إليه إلا اللّه وحده، وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه أن قلبه يطلب شيئًا سواه، ويحب أمرًا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الأجناس؛ ولهذا قال اللّه تعالى في كتابه‏:‏
    ‏"أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‏"‏‏[‏الرعد‏:‏ 28‏]‏، وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ عن الله تعالى قال‏:‏ ‏"إني خلقت عبادي حنفاءَ فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا‏"‏، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج /

    ج/ 10 ص -73-البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء‏"‏، ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏"فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ‏"‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.‏
    وأيضًا، فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فاللّه هو المستحق له على الكمال، وكل ما في غيره من محبوب فهو منه سبحانه وتعالى فهو المستحق لأن يحب على الحقيقة والكمال‏.‏ وإنكار محبة العبد لربه هو في الحقيقة إنكار لكونه إلهًا معبودًا، كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه ربًا خالقًا فصار إنكارها مستلزمًا لإنكار كونه رب العالمين، ولكونه إله العالمين‏.‏ وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود‏.‏
    ولهذا اتفقت الأمتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى صلوات اللّه عليهما وسلامه أن أعظم الوصايا أن تحب اللّه بكل قلبك وعقلك وقصدك، وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة والإنجيل والقرآن، وإنكار ذلك هو مأخوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل، ومن وافقهم على ذلك من متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذه عن هؤلاء، وظهر ذلك في القرامطة الباطنية من الإسماعيلية؛ ولهذا قال الخليل إمام الحنفاء صلوات اللّه وسلامه عليه ‏:‏
    ‏"أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ‏.‏ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ ‏.‏ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 7577‏]‏ ،

    ج/ 10 ص -74-وقال أيضًا‏:‏ ‏"لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ‏.‏ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏"‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 88، 89‏]‏ وهو السليم من الشرك‏.‏
    وأما قولهم‏:‏ إنه لا مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر إليه‏.‏ فهذا الكلام مجمل، فإن أرادوا بالمناسبة أنه ليس بينهما توالد فهذا حق، وإن أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والآكل والمأكول أو نحو ذلك فهذا أيضًا حق، وإن أرادوا أنه لا مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبًا عابدًا والآخر معبودًا محبوبًا فهذا هو رأس المسألة، فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب، ويكفي في ذلك المنع‏.‏
    ثم يقال‏:‏ بل لا مناسبة تقتضي المحبة الكاملة إلا المناسبة التي بين المخلوق والخالق، الذي لا إله غيره، الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، وله المثل الأعلى في السموات والأرض‏.‏ وحقيقة قول هؤلاء جحد كون اللّه معبودًا في الحقيقة؛ ولهذا وافق على هذه المسألة طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون اللّه محبًا في الحقيقة، فأقروا بكونه محبوبًا ومنعوا كونه محبًا؛ لأنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة، فأخذوا عن الصوفية مذهبهم في المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه، وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية، فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكارًا‏.‏ ومنكروها قسمان‏:‏

    ج/ 10 ص -75-قسم يتأولونها بنفس المفعولات التي يحبها العبد فيجعلون محبته نفس خلقه‏.‏
    وقسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولات‏.‏ وقد بسطنا الكلام في ذلك في قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها‏.‏
    ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على أن اللّه يحب ويرضى ما أمر بفعله من واجب ومستحب، وإن لم يكن ذلك موجودًا، وعلى أنه قد يريد وجود أمور يبغضها ويسخطها من الأعيان والأفعال كالفسق والكفر، وقد قال اللّه تعالى‏:‏
    ‏"وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏
    والمقصود هنا إنما هو ذكر محبة العباد لإلههم‏.‏
    وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال الإيمان، ولم يتبين بين أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع في ذلك، وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع اللّه أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية، كالعرفان الإيماني والسماع الفرقاني، قال تعالى‏:‏
    ‏"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ‏"‏إلى آخر السورة ‏[‏الشورى‏:‏ 52، 53‏]‏‏.‏

    ج/ 10 ص -76-ثم إنه لما طال الأمد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة‏.‏
    وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير، وسماع المكاء والتصدية، فيسمعون من الأقوال والأشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح لمحب الأوثان والصلبان والإخوان والأوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن، ولكن كان الذين يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والإمكان والخلان، وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان، ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي، بل إلى أنواع من الفسوق، بل خرج فيه طوائف إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الأشعار التي فيها الكفر والإلحاد، مما هو من أعظم أنواع الفساد، وينتج ذلك لهم من الأحوال بحسبه، كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها‏.‏
    والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد رحمه اللّه‏:‏ من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به، ومعنى ذلك أنه لا يشرع الاجتماع لهذا السماع المحدث، ولا يؤمر به، ولا يتخذ ذلك دينًا، وقربة، فإن القرب والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم فكما أنه لا حرام إلا ما حرمه اللّه ولا دين إلا ما شرعه اللّه‏.‏

    ج/ 10 ص -77-قال اللّه تعالى‏:‏ ‏"أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏"قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏"[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، فجعل محبتهم للّه موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة اللّه لهم، قال أبي بن كعب رضي اللّه عنه‏:‏ عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه فاقشعر جلده من مخافة اللّه إلا تحاتت عنه خطاياه، كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه من خشية اللّه إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصادًا واجتهادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
    فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب، لكان ذلك مما دلت الأدلة الشرعية عليه‏.‏ ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها النبي ﷺ‏:‏
    ‏"خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏ لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في العراق، ولا في مصر، ولا في خُرَاسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلاح القلوب؛ ولهذا كرهه الأئمة كالإمام أحمد وغيره، حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال‏:‏ خلفت ببغداد شيئًا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن‏.‏

    ج/ 10 ص -78-وأما ما لم يقصده الإنسان من الاستماع، فلا يترتب عليه لا نهي ولا ذم باتفاق الأئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح على الاستماع لا على السماع، فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة لا يثاب على ذلك؛إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملاهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك، فلو سمع السامع بيتًا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما ينهى عنه، وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها اللّه ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه اللّه وترك ما يكرهه اللّه، كالذي اجتاز بيتًا فسمع قائلًا يقول‏:‏

    كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل

    فأخذ منه إشارة تناسب حاله، فإن الإشارات من باب القياس والاعتبار وضرب الأمثال‏.‏
    ومسألة ‏[‏السماع‏]‏ كبيرة منتشرة قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع الإيماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏
    "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ‏"‏

    ج/ 10 ص -79-إلى قوله‏:‏ ‏"إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏"‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 107 109‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏"‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏"‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏
    وكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قوله‏:‏ ‏
    "وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏"‏‏[‏لقمان‏:‏ 6، 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏ 73‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين َ‏.‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏.‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏"‏‏[‏المدثر‏:‏ 49 51‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:
    ‏ ‏"إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏.‏ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ‏"‏ الآية ‏[‏الأنفال‏:‏ 22، 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏"‏‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏،

    ج/ 10 ص -80-وقال تعالى‏:‏ ‏"فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين َ‏.‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏.‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏"‏[‏المدثر‏:‏ 49 51‏]‏ ومثل هذا كثير في القرآن‏.‏
    وهذا كان سماع سلف الأمة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وأمثال هؤلاء‏.‏
    وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول لأبي موسى الأشعري‏:‏ يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون ويبكون‏.‏ وكان أصحاب محمد ﷺ إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون، وقد ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي ﷺ مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته وقال‏:‏
    ‏"لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود‏"‏، وقال‏:‏ ‏"مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك‏"‏، فقال‏:‏ لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا، أي‏:‏ لحسنته لك تحسينًا، وقال ﷺ‏:‏ ‏"زينوا القرآن بأصواتكم‏"‏، وقال‏:‏ ‏"للّه أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته‏"‏ أذنا أي‏:‏ استماعًا كقوله‏:‏ ‏"وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏"‏[‏الانشقاق‏:‏ 2‏]‏ أي‏:‏ استمعت، وقال ﷺ‏:‏ ‏"ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به‏"‏، وقال‏:‏ ‏"ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏"‏‏.‏

    ج/ 10 ص -81-ولهذا السماع من المواجيد العظيمة، والأذواق الكريمة، ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة ما لا يتسع له خطاب، ولا يحويه كتاب، كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم والإيمان ما لا يحيط به بيان‏.‏
    ومما ينبغي التفطن له أن اللّه سبحانه قال في كتابه‏:‏ ‏
    "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، قال طائفة من السلف‏:‏ ادعي قوم على عهد النبي ﷺ أنهم يحبون اللّه فأنزل اللّه هذه الآية‏:‏ ‏"قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏"‏ الآية ، فبين سبحانه أن محبته توجب اتباع الرسول، وأن اتباع الرسول يوجب محبة اللّه للعبد، وهذه محبة امتحن اللّه بها أهل دعوى محبة اللّه، فإن هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والاشتباه؛ ولهذا يروي عن ذي النون المصري أنهم تكلموا في مسألة المحبة عنده فقال‏:‏ اسكتوا عن هذه المسألة لئلا تسمعها النفوس فتدعيها‏.‏
    وقال بعضهم‏:‏ من عبد اللّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد اللّه بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، وذلك؛ لأن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع في أهوائها، إذا لم يزعها وازع الخشية للّه حتى قالت اليهود والنصارى‏:‏
    ‏"نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏"‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏، ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله‏:‏

    ج/ 10 ص -82-"هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ‏.‏ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ‏.‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ‏"‏‏[‏ق‏:‏ 3234‏]‏‏.‏
    وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة، وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد، والأعمال أوجب إنكار طوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية، حتى صار المنحرفون صنفين ‏:‏
    صنف يقر بحقها وباطلها‏.‏
    وصنف ينكر حقها وباطلها، كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه‏.‏
    والصواب إنما هو الإقرار بما فيها ، وفي غيرها من موافقة الكتاب، والسنة ، والإنكار لما فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏"‏، فاتباع سنة رسوله ﷺ وشريعته باطنًا وظاهرًا هي موجب محبة اللّه، كما أن الجهاد في سبيله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه هو حقيقتها، كما في الحديث‏:‏ ‏"أوثق عرى الإيمان الحب في اللّه، والبغض في اللّه‏"‏،

    ج/ 10 ص -83-وفي الحديث‏:‏ ‏"من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه، فقد استكمل الإيمان‏"‏‏.‏
    وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة، وعن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللّه، ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة للّه ليس فيه غيره، ولا غضب للّه، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور، يقول اللّه تعالى يوم القيامة‏:‏ ‏"أين المتحابون بجلالي‏؟‏ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي‏"‏، فقوله‏:‏ أين المتحابون بجلال اللّه تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال اللّه وتعظيمه مع التحاب فيه، وبذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم، وهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث‏:‏ ‏"حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في‏"‏، والأحاديث في المتحابين في اللّه كثيرة‏.‏
    وفي الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه‏:
    ‏ ‏"سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللّه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا وتفرقا عليه‏.‏ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة

    ج/ 10 ص -84-ذات منصب وجمال فقال‏:‏ إني أخاف الله رب العالمين‏"‏‏.‏
    وأصل المحبة‏:‏ هو معرفة اللّه سبحانه وتعالى ولها أصلان‏:‏
    أحدهما‏:‏ وهو الذي يقال له‏:‏ محبة العامة؛ لأجل إحسانه إلى عباده، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، واللّه سبحانه هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة، فإنه المتفضل بجميع النعم، وإن جرت بواسطة، إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب الأسباب، ولكن هذه المحبة في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة اللّه نفسه، فما أحب العبد في الحقيقة إلا نفسه، وكذلك كل من أحب شيئًا لأجل إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إلا نفسه‏.‏ وهذا ليس بمذموم بل محمود‏.‏
    وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله ﷺ‏:
    ‏ ‏"أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب اللّه، وأحبوا أهلي بحبي‏"‏، والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة اللّه ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه، وهذا كما قالوا‏:‏ إن الحمد للّه على نوعين‏:‏
    حمد هو شكر، وذلك لا يكون إلا على نعمته‏.‏
    وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه سبحانه

    ج/ 10 ص -85-فكذلك الحب، فإن الأصل الثاني فيه هو محبته لما هو له أهل، وهذا حب من عرف من اللّه ما يستحق أن يحب لأجله، وما من وجه من الوجوه التي يعرف اللّه بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حال، ويستحق أن يحمد على السراء، والضراء، وهذا أعلى وأكمل، وهذا حب الخاصة‏.‏
    وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم، ويتلذذون بذكره ومناجاته، ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك، حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون، وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ مر النبي ﷺ بجبل يقال له‏:‏ جمدان، فقال‏:‏
    ‏"سيروا هذا جمدان، سبق المفردون‏"‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، من المفردون‏؟‏ قال‏:‏ ‏"الذاكرون اللّه كثيرًا والذاكرات‏"‏، وفي رواية أخرى قال‏:‏ ‏"المستهترون بذكر اللّه يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون الله يوم القيامة خفافًا‏"‏ والمستهتر بذكر الله يتولع به ينعم به كلف لا يفتر منه‏.‏
    وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ قال موسى‏:‏ يا رب، أي عبادك أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ الذي يذكرني ولا ينساني، قال‏:‏ أي عبادك أعلم‏؟‏ قال‏:‏ الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على /

    ج/ 10 ص -86-هدى أو ترده عن ردى، قال أي عبادك أحكم‏؟‏ قال‏:‏ الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه‏"3‏"‏‏.‏ فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير‏.‏
    ومما ينبغي التفطن له أنه لا يجوز أن يظن في باب محبة اللّه تعالى ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس التجني، والهجر، والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك، مما قد يغلط فيه طوائف من الناس، حتى يتمثلون في حبه بجنس ما يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب، أو يبعد من يتقرب إليه، وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في رسائلهم حتى يكون مضمون كلامهم إقامة الحجة على اللّه، بل للّه الحجة البالغة‏.‏
    وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال ‏
    :‏ ‏"يقول اللّه تعالى‏:‏ من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة‏"‏‏.‏ وفي بعض الآثار يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏"أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، وإن تابوا فأنا حبيبهم لأن اللّه يحب التوابين وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب‏"‏‏.‏

    ج/ 10 ص -87-وقد قال تعالى‏:‏ ‏"وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏، قالوا‏:‏ الظلم‏:‏ أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم‏:‏ أن ينقص من حسنات نفسه‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏"‏[‏النحل‏:‏ 118‏]‏، وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ قال‏:‏ ‏"يقول اللّه تعالى‏:‏ يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه‏"‏‏.‏
    ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال

    ج/ 10 ص -88-رسول اللّه ﷺ‏:‏ ‏"سيد الاستغفار أن يقول العبد‏:‏ اللهم أنت ربي لا إله إلا اللّه أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي فاغفرلي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏.‏ من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات في يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة‏"‏‏.‏
    فالعبد دائما بين نعمة من اللّه يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم اللّه وآلائه، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار‏.‏
    ولهذا كان سيد ولد آدم، وإمام المتقين محمد ﷺ يستغفر في جميع الأحوال‏.‏ وقال ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري‏:‏
    ‏"أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإني لأستغفر اللّه، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة‏"‏، وفي صحيح مسلم أنه قال‏:‏ ‏"إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مرة‏"‏، وقال عبد اللّه بن عمر‏:‏ كنا نعد لرسول اللّه ﷺ في المجلس الواحد يقول‏:‏ ‏"رب اغفر لي وتب على، إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة‏"‏‏.‏

    ج/ 10 ص -89-ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏، وقال بعضهم‏:‏ أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر، أمروا بالاستغفار، وفي الصحيح أن النبي ﷺ كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال‏:‏ ‏"اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام‏"‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 198، 199‏]‏، وقد أمر اللّه نبيه بعد أن بلغ الرسالة، وجاهد في اللّه حق جهاده، وأتى بما أمر اللّه به مما لم يصل إليه أحد غيره ، فقال تعالى‏:‏ ‏"جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏.‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏.‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏"‏ ‏[‏سورة النصر‏]‏‏.‏
    ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار، كما قال اللّه تعالى‏:‏
    ‏"الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ‏.‏ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏.‏ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا‏"‏ الآية ‏[‏هود‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ‏"‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏"‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏‏.‏
    ولهذا جاء في الحديث ‏:‏ ‏"يقول الشيطان ‏:‏ أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا اللّه والاستغفار‏"‏ وقد قال يونس‏:‏

    ج/ 10 ص -90-"لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، وكان النبي ﷺ إذا ركب دابته يحمد اللّه ثم يكبر ثلاثا ويقول‏:‏ ‏"لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي‏"‏ ، وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس‏:‏ ‏"سبحانك اللّهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك‏"‏‏.‏ واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وسلم‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML