ج/ 2 ص -15-وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس اللّه روحه:
فصل في تمهيد الأوائل، وتقرير الدلائل
وذلك ببيان وتحرير أصل العلم والإيمان، كما قد كتبته أولا في بيان أصل العلم الإلهي. والذي أكتبه هنا: بيان الفرق بين المنهاج النبوي، الإيماني، العلمي، الصلاحي، والمنهاج الصابئ الفلسفي، وما تشعب عنه من المنهاج الكلامي والعبادي، المخالف لسبيل الأنبياء وسنتهم.
وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام - دعوا الناس إلى عبادة اللّه أولا بالقلب واللسان، وعبادته متضمنة لمعرفته، وذكره.
فأصل علمهم وعملهم هو العلم باللّه،والعمل للّه، وذلك فطري كما قد قررته في غير هذا الموضع، في موضعين أو ثلاثة، وبينت أن أصل العلم الإلهي فطري ضروري، وأنه أشد رسوخًا في النفوس من مبدأ العلم الرياضي كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، ومبدأ العلم الطبيعي،كقولنا: إن الجسم
ج/ 2 ص -16- لا يكون في مكانين؛ لأن هذه المعارف أسماء قد تعرض عنها أكثر الفطر، وأما العلم الإلهي، فما يتصور أن تعرض عنه فطرة. وبسط هذا له موضع غير هذا.
وإنما الغرض هنا: أن اللّه - سبحانه - لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات، والآخر الذي إليه تصير الحادثات،فهو الأصل الجامع،فالعلم به أصل كل علم وجامعه، وذكره أصل كل كلام وجامعه، والعمل له أصل كل عمل وجامعه. وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته. وإذا حصل لهم ذلك، فما سواه إما فضل نافع وإما فضول غير نافعة، وإما أمر مضر.
ثم من العلم به، تتشعب أنواع العلوم، ومن عبادته وقصده، تتشعب وجوه المقاصد الصالحة، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك، قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي، والبرهان الوثيق، فلا يزال إما في زيادة العلم والإيمان، وإما في السلامة عن الجهل والكفر.
وبهذا جاءت النصوص الإلهية، في أنه بالإيمان يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وضرب مثل المؤمن وهو المقر بربه علمًا، وعملا بالحي، والبصير، والسميع، والنور، والظل.
وضرب مثل الكافر بالميت،والأعمى، والأصم، والظلمة، والحرور. وقالوا في الوسواس الخناس: هو الذي إذا ذكر اللّه خنس، وإذا غفل عن ذكر اللّه وسوس.
ج/ 2 ص -17-فتبين بذلك أن ذكر اللّه أصل لدفع الوسواس الذي هو مبدأ كل كفر وجهل، وفسق وظلم. وقال اللّه تعالى "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ِ" [الحجر: 42]،وقال: "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"[النحل: 99]، وقال: "وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"[آل عمران: 101] ونحو ذلك من النصوص.
وفي الدعاء الذي علمه الإمام أحمد لبعض أصحابه: يا دليل الحيارى، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين. ولهذا كان عامة أهل السنة من أصحابنا وغيرهم على أن اللّه يسمى دليلا، ومنع ابن عقيل، وكثير من أصحاب الأشعري أن يسمي دليلا؛ لاعتقادهم أن الدليل هو ما يستدل به، وأن اللّه هو الدال، وهذا الذي قالوه بحسب ما غلب في عرف استعمالهم من الفرق بين الدال، والدليل. وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن الدليل معدول عن الدال، وهو ما يؤكد فيه صفة الدلالة، فكل دليل دال، وليس كل دال دليلًا، وليس هو من أسماء الآلات التي يفعل بها، فإن فعيل ليس من أبنية الآلات كمِفْعَل، ومِفْعَال.
وإنما سمي ما يستدل به من الأقوال والأفعال والأجسام أدلة باعتبار أنها تدل من يستدل بها، كما يخبر عنها بأنها تهدي، وترشد، وتعرف، وتعلم، وتقول، وتجيب، وتحكم، وتفتى، و تقص، وتشهد، وإن لم يكن لها في ذلك قصد وإرادة، ولا حس وإدراك كما هو مشهور في الكلام العربي وغيره. فما ذكروه من الفرق والتخصيص لا أصل له في كلام العرب.
ج/ 2 ص -18-الثاني: أنه لو كان الدليل من أسماء الآلات التي يفعل بها، فقد قال اللّه - تعالى - فيما روى عنه نبيه في عبده المحبوب: "فبي يسمع وبي يبصر، وبي يعقل، وبي ينطق، وبي يبطش، وبي يسعى" والمسلم يقول: استعنت باللّه واعتصمت به.
وإذا كان ما سوى اللّه من الموجودات: الأعيان، والصفات،يستدل بها،سواء كانت حية أو لم تكن، بل ويستدل بالمعدوم، فلأن يستدل بالحي القيوم أولى وأحرى، على أن الذي في الدعاء المأثور: يا دليل الحياري دلني علي طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين، يقتضى أن تسميته دليلا باعتبار أنه دال لعباده، لا بمجرد أنه يستدل به، كما قد يستدل بما لا يقصد الدلالة والهداية، من الأعيان، والأقوال، والأفعال.
ومن أسمائه الهادي، وقد جاء - أيضا - البرهان؛ ولهذا يذكر عن بعضهم أنه قال: عرفت الأشياء بربي،ولم أعرف ربي بالأشياء. وقال بعضهم: هو الدليل لي علي كل شىء، وإن كان كل شىء - لئلا يعذبني - عليه دليلا. وقيل لابن عباس: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارجًا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، عرفته بما عرف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه. فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف اللّه، وهو نور الإيمان، وأن وصف اللسان حصل بكلام اللّه، وهو نور القرآن.
ج/ 2 ص -19-وقال آخر للشيخ:
قالوا ائتنا ببراهين فقلت لهم أنى يقوم على البرهان برهان؟
وقال الشيخ العارف للمتكلم: اليقين عندنا واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، فأجابه بأنه ضروري.
وقال الشيخ إسماعيل الكوراني للشيخ المتكلم: أنتم تقولون: إن اللّه يعرف بالدليل. ونحن نقول: إنه تعرف إلينا فعرفناه. يعني: أنه تعرف بنفسه، وبفضله. مع أن كلام هذين الشيخين فيه إشارة إلى الطريقة العبادية،وقد تكلمت عليها في غير هذا الموضع.
فإذا كان الحق، الحي، القيوم، الذي هو رب كل شىء ومليكه،ومؤصل كل أصل، ومسبب كل سبب وعلة، هو الدليل والبرهان والأول والأصل، الذي يستدل به العبد، ويفزع إليه، ويرد جميع الأواخر إليه في العلم، كان ذلك سبيل الهدى وطريقه، كما أن الأعمال والحركات لما كان اللّه مصدرها، وإليه مرجعها كان المتوكل عليه في عمله، القائل أنه لا حول ولا قوة إلا باللّه مؤيدًا منصورًا.
فجماع الأمر: أن اللّه هو الهادي وهو النصير،"وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا" [الفرقان: 31]. وكل علم فلابد له من هداية، وكل عمل فلابد له من قوة. فالواجب
ج/ 2 ص -20-أن يكون هو أصل كل هداية وعلم، وأصل كل نصرة وقوة، ولا يستهدي العبد إلا إياه، ولا يستنصر إلا إياه.
والعبد لما كان مخلوقًا مربوبا، مفطورًا، مصنوعا، عاد في علمه وعمله إلى خالقه، وفاطره، وربه، وصانعه، فصار ذلك ترتيبًا مطابقًا للحق، وتأليفًا موافقًا للحقيقة؛ إذ بناء الفرع على الأصل، وتقديم الأصل على الفرع هو الحق، فهذه الطريقة الصحيحة، الموافقة لفطرة اللّه وخلقته ولكتابه وسنته.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن رسول اللّه ﷺ كان إذا قام إلي صلاة الليل يقول: "اللّهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
وأما الطريقة الفلسفية الكلامية، فإنهم ابتدؤوا بنفوسهم، فجعلوها هي الأصل الذي يفرعون عليه، والأساس الذي يبنون عليه، فتكلموا في إدراكهم للعلم: أنه تارة يكون بالحس، وتارة بالعقل، وتارة بهما.
وجعلوا العلوم الحسية، والبديهية ونحوها،هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها. ثم زعموا أنهم إنما يدركون بذلك الأمور القريبة منهم، من الأمور الطبيعية والحسابية، والأخلاق، فجعلوا هذه الثلاثة هي الأصول
ج/ 2 ص -21-التي يبنون عليها سائر العلوم، ولهذا يمثلون ذلك في أصول العلم والكلام، بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الجسم لا يكون في مكانين، وأن الضدين كالسواد والبياض لا يجتمعان.
فهذان الفنان متفق عليهما.
وأما الأخلاق مثل: استحسان العلم، والعدل، والعفة، والشجاعة، فجمهور الفلاسفة والمتكلمين، يجعلونها من الأصول، لكنها من الأصول العامة، ومنهم من لا يجعلها من الأصول، بل يجعلها من الفروع، التي تفتقر إلي دليل. وهو قول غالب المتكلمة، المنتصرين للسنة في تأويل القدر، فكان الذي أصلوه واتفقوا عليه من المعارف، أمر قليل الفائدة، نزر الجدوى، وهو الأمور السفلية.
ثم إذا صعدوا من هذه المقدمات، والدلائل إلى الأمور العلوية فلهم طريقان:
أما المتكلمة المتبعون للنبوات، فغرضهم في الغالب إنما هو إثبات صانع العالم، والصفات التي بها تثبت النبوة على طريقهم، ثم إذا أثبتوا النبوة، تلقوا منها السمعيات وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، وفروع ذلك.
وأما المتفلسفة، فهم في الغالب يتوسعون في الأمور الطبيعية ولوازمها، ثم يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها. ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب
ج/ 2 ص -22-الوجود، وإلى العقول والنفوس. ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداء من جهة أن الوجود لابد فيه من واجب.
وهذه الطرق فيها فساد كثير من جهة الوسائل، والمقاصد. أما المقاصد فإن حاصلها - بعد التعب الكثير، والسلامة - خير قليل، فهي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. ثم إنه يفوت بها من المقاصد الواجبة والمحمودة ما لا ينضبط هنا.
وأما الوسائل، فإن هذه الطرق كثيرة المقدمات، ينقطع السالكون فيها كثيرا قبل الوصول، ومقدماتها في - الغالب - إما مشتبهة يقع النزاع فيها، وإما خفية لا يدركها إلا الأذكياء.
ولهذا لا يتفق منهم اثنان رئيسان على جميع مقدمات دليل إلا نادرًا، فكل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريقة في الاستدلال، تخالف طريقة الرئيس الآخر، بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريقة الآخر، ويعتقد كل منهما أن اللّه لا يعرف إلا بطريقته، وإن كان جمهور أهل الملة، بل عامة السلف يخالفونه فيها.
مثال ذلك: أن غالب المتكلمين يعتقدون أن اللّه لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم، ثم الاستدلال بذلك على محدثه، ثم لهم في إثبات حدوثه طرق: فأكثرهم يستدلون بحدوث الأعراض، وهي صفات الأجسام. ثم القدرية من المعتزلة وغيرهم يعتقدون أن إثبات الصانع، والنبوة لا يمكن إلا بعد اعتقاد
ج/ 2 ص -23-أن العبد هو المحدث لأفعاله، وإلا انتقض الدليل، ونحو ذلك من الأصول التي يخالفهم فيها جمهور المسلمين.
وجمهور هؤلاء المتكلمين المستدلين على حدوث الأجسام بحدوث الحركات، يجعلون هذا هو الدليل على نفي ما دل عليه ظاهر السمعيات، من أن اللّه يجيء، وينزل ونحو ذلك.
والمعتزلة وغيرهم يجعلون هذا هو الدليل على أن اللّه ليس له صفة، لا علم ولا قدرة، ولا عزة، ولا رحمة، ولا غير ذلك؛ لأن ذلك - بزعمهم - أعراض تدل على حدوث الموصوف.
وأكثر المصنفين في الفلسفة - كابن سينا - يبتدئ بالمنطق، ثم الطبيعي والرياضي، أو لا يذكره. ثم ينتقل إلى ما عنده من الإلهي. وتجد المصنفين في الكلام يبتدؤون بمقدماته في الكلام: في النظر والعلم، والدليل - وهو من جنس المنطق - ثم ينتقلون إلى حدوث العالم، وإثبات محدثه.
ومنهم من ينتقل إلى تقسيم المعلومات إلى: الموجود، والمعدوم، وينظر في الوجود وأقسامه، كما قد يفعله الفيلسوف في أول العلم الإلهي.
فأما الأنبياء فأول دعوتهم: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه.
ج/ 2 ص -24-وقد اعترف الغزالي بأن طريق الصوفية هو الغاية؛ لأنهم يطهرون قلوبهم مما سوى اللّه، ويملؤونه بذكر اللّه، وهذا مبدأ دعوة الرسول، لكن الصوفي الذي ليس معه الأثارة النبوية مفصلة، يستفيد بها إيمانا مجملا، بخلاف صاحب الأثارة النبوية، فإن المعرفة عنده مفصلة. فتدبر طرق العلم والعمل، ليتميز لك طريق أهل السنة والإيمان من طريق أهل البدعة والنفاق، وطريق العلم والعرفان، من طريق الجهل والنكران.