أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل في ضبط كليات المنطق والخلل فيه

    ج/ 9 ص -255-قال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    فصل
    في ضبط كليات ‏[‏المنطق‏]‏ والخلل فيه
    بنوه على أن مدارك العلم منحصرة في الحد وجنسه من الرسم ونحوه وفي القياس ونحوه من الاستقراء والتمثيل؛ لأن العلم إما تصور وهو معرفة المفردات، وإما تصديق وهو العلم بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات، وكل من العلمين إما بديهي لايحتاج إلى طريق، وإما نظري مفتقر إلى الطريق، وطريق التصور هو الحد، وطريق التصديق هو القياس الذي يسمونه البرهان إن كانت مقدماته يقينية‏.‏
    ثم قالوا‏:‏ الحد‏:‏ هو القول الدال على ماهية الشيء، وإن كان يراد به نفس المحدود، كما أن الاسم هو القول الدال على المسمى ويراد به المسمى،/

    ج/ 9 ص -256-

    ج/ 9 ص -257-ففرقوا بينهما بأن الذاتي يسبق تصوره تصور الماهية، بحيث لا تفهم الذات بدونه بخلاف لازم الماهية‏.‏
    ثم كل من الذاتي والعرضي، إما أن يشترك فيه الجنس، وهو الجنس العام والعرض العام‏.‏ وإما ينفرد به نوع وهو الفصل والخاصة، وإما أن يجمع بين المشترك والمميز وهو النوع، فهذه ‏[‏الكليات الخمس‏]‏ الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام‏.‏ فالكلام في هذه الصفات وأقسامها غالب منفعته في الحدود والحقائق، وأما القياس، فإنه قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، ولابد فيه من مقدمتين و ‏[‏المقدمة‏]‏ هي القضية وهي الجملة الخبرية ولابد فيها من مفردين، فكان الكلام فيه في ثلاث مراتب‏:‏
    الأولى‏
    :‏ الكلام في المفردات؛ ألفاظها ومعانيها لدلالة المطابقة والتضمن والالتزام، والأسماء المترادفة والمتباينة والمشتركة والمتواطئة والمفردة والمركبة والكلى والجزئي‏.‏
    والمرتبة الثانية‏:‏ الكلام في القضايا وأقسامها؛ من الخاص والعام والمطلق، والإيجاب والسلب وجهات القضايا، وفي أحكام القضايا، مثل كذب النقيض، وصدق العكس، وعكس النقيض‏.‏

    ج/ 9 ص -258-و المرتبة الثالثة‏:‏ الكلام في القياس وضروبه وشروط نتاجه من أنه لابد فيه من قضية عامة إيجابية، وأن النتاج لا يحصل عن سالبتين ولا خاصيتين جزئيتين ولا سالبة صغرى وجزئية كبرى، بل إما موجبتان فيهما كلية، وإما صغرى سالبة وكبرى جزئية وغير ذلك من أحكام صور القياس وأنواعه، التي تتبين ببرهان الخلف المردود إلى حكم نقيض القضية، أو بالرد إلى عكس القضية أو عكس نقيضها‏.‏
    ثم بينوا بعد ذلك مواد القياس فقسموه إلى‏:‏
    برهانى‏
    :‏ وهو ما كانت مواده يقينية وحصروا اليقينيات فيما ذكروه من الحسيات الباطنة والظاهرة والبديهيات والمتواترات والمجربات، وزاد بعضهم الحدسيات‏.‏
    وإلى خطابي‏:‏ وهو ما كانت مواده مشهورة يقينية، أو غير يقينية ‏.‏
    وإلى جدلي‏:‏ وهو ما كانت مواده مسلمة من المنازع، يقينية أو مشهورة أو غير ذلك‏.‏
    وإلى شعري‏:‏ وهو ما كانت مواده مشعورًا بها غير معتقدة كالمفرحة والمحزنة والمضحكة‏.‏
    وإلى مغلطي سوفسطائي‏:‏ وهو ما كانت مواده مموهة بشبه الحق‏.

    ج/ 9 ص -259-فصل
    الناس في مسمى القياس على ثلاثة أقوال‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه حقيقة في التمثيل مجاز في الشمول، وهو قول الغزالي وأبي محمد‏.‏
    والثاني‏:‏ العكس وهو قول ابن حزم‏.‏
    والثالث‏:‏ أنه حقيقة فيهما، وهو الأصح الذي عليه الجمهور، فإن القياس عند أصحابنا والجمهور ينقسم إلى‏:‏ عقلي، وهو‏:‏ ما يكتفي فيه بالعقل، وإلى شرعي وهو‏:‏ ما لا بد فيه من أصل معلوم بالشرع‏.‏
    وكل من العقلي والشرعي وكل ما يسمى قياسًا ينقسم، إلي قياس تمثيل وقياس شمول‏.‏ فالأول إلحاق الشيء بنظيره، والثاني إدخال الشيء تحت حكم المعنى العام الذي يشمله، ثم كل منهما متصل بالآخر؛ لأنه لابد بين المثلين من معنى مشترك يكون شاملا لهما، ولابد في المعنى الشامل لاثنين فصاعدًا من تسوية أحد الاثنين بالآخر في ذلك المعنى، فالقياس ثابت فيهما وهو التقدير والاعتبار والحسبان‏.‏

    ج/ 9 ص -260-فصل
    الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد‏.‏
    أما ‏[‏البرهان‏]‏ فصورته صورة صحيحة وإذا كانت مواده صحيحة فلا ريب أنه يفيد علمًا صحيحًا لكن الخطأ من و جهين‏:‏
    أحدهما‏:‏ أن حصر مواده فيما ذكروه من الأجناس المذكورة لا دليل عليه البتة، فأصابوا فيما أثبتوه دون ما نفوه، فمن أين يحكم بأنه لا يقين إلا من هذه الجهات المعينة، فإن رجع فيه الإنسان إلى ما يجده من نفسه فمن أين له أن سائر النوع حتى الأنبياء والأولياء لا يحصل لهم يقين بغير ذلك، ثم الواقع خلاف ذلك‏.‏
    الثاني‏:‏ أن هذا البرهان يفيد العلم، لكن من أين علم أنه لا يحصل لقلب بشر علم إلا بهذا البرهان الموصوف بل قد رأينا علومًا كثيرة هي لقوم ضرورية أو حسية، ولآخرين نظرية قياسية، فلهذا كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وهو ما حصل من العلوم بغير هذه المواد المحصورة، أو بغير قياس أصلا، بل زعم أفضل المتأخرين منهم أن علوم الأنبياء والأولياء لا تحصل إلا

    ج/ 9 ص -261-بواسطة القياس، وكلامهم يقتضى أن علم الرب كذلك ولا دليل له على ذلك أصلا سوى محض قياس الأنبياء والأولياء على نفسه، وقياس الرب والملائكة على البشر‏.‏
    فهذا موضع ينبغي للمؤمن أن يتيقنه،ويعلم أن هؤلاء القوم وغيرهم إنما ضلوا غالبًا من جهة ما نفوه وكذبوا به، لا من جهة ما أثبتوه وعلموه؛ ولهذا كان المنطق مظنة الزندقة لمن لم يقو الإيمان في قلبه، حيث اعتقد أنه لا علم إلا بهذه المواد المعينة، وهذه الصورة، وذلك مفقود عنده في غالب ما أخبرت به الأنبياء فيشك في ذلك أو يكذب به أو يعرض عن اعتقاده والتصديق به، فيكون عدم إيمانه وعلمه من اعتقاده الفاسد أنه لا علم إلا من هذه المواد المعينة ولا دليل عليه البتة، وإن كانت مفيدة للعلم، فالفرق ظاهر بين كونها تفيده وبين كونها تفيده ولا يحصل بغيرها‏.‏
    ومما يبين ذلك أن القياس لا يدل على علم كلي، وهم معترفون بذلك؛ لأنه لابد فيه من مقدمة كلية إيجابية، والكلي لا يدل إلا على القدر المشترك وهو الكلي، فجميع الحقائق المعينة لا يدل عليها القياس بأعيانها، وإنما يعلم به إن علم صفة مشتركة بينها وبين غيرها فلا يعلم به شيء من خواص الربوبية البتة، ولا شيء من خواص ملك من الملائكة ولا نبي من الأنبياء ولا ولي من الأولياء، بل ولا ملك من الملوك، ولا أحد من الموجودات العلوية ولا السفلية، فإذا العلم بهذه الأشياء إما أن يكون منتفيًا أو حاصلًا

    ج/ 9 ص -262-بغير القياس، وكلا القسمين واقع فإنه منتف عندهم؛ إذ لا طريق لهم غير القياس، وحاصل ذلك عند الأنبياء وأتباعهم بل حاصل ذلك في الجملة عند جميع أولى العلم من الملائكة والنبيين وسائر الآدميين‏.‏
    وأيضًا، فإذا كان لابد فيه من مقدمة كلية فإن كانت نظرية افتقرت إلى أخرى وإن كانت بديهية، فإذا جاز أن يحصل العلم بجميع أفرادها بديهة، فما المانع أن يحصل ببعض الأفراد وهو أسهل‏.‏
    وأما الحد، فالكلام عليه في مواضع‏:‏
    أحدها‏:‏ دعواهم أن التصورات النظرية لا تعلم إلا بالحد الذي ذكروه فالقول فيه، كالقول في أن التصديقات النظرية لا تحصل إلا بالبرهان الذي حصروا مواده، ولا دليل على ذلك، ويدل على ضعفه أن الحاد إن عرف المحدود بحد غيره فقد لزم الدور أو التسلسل، وإن عرفه بغير حد بطل المدعى‏.‏ فإن قيل‏:‏ بل عرفه بالحد الذي انعقد في نفسه كما عرف التصديق بالبرهان الذي انعقد في نفسه قبل أن يتكلم به، قيل‏:‏ البرهان مباين للنتيجة؛ فإن العلم بالمقدمتين ليس هو عين العلم بالنتيجة، وأما الحد المنعقد في النفس فهو نفس العلم بالمحدود، وهو المطلوب، فأين الحد المفيد للعلم بالمحدود، وهذا أحد ما يبين‏.‏

    ج/ 9 ص -263-الموضع الثاني‏:‏ وهو أنه قد يقال‏:‏ إن الحد لا تعرف به ماهية المحدود بحال، بخلاف البرهان فإنه دليل على المطلوب أما بالنسبة إلى الحاد؛ فلأنه عرف الشيء قبل أن يحده، وإلا لم يصح حده؛ لأن الحد يجب أن يطابقه عمومًا و خصوصًا ولولا معرفته به قبل أن يحده لم تصح معرفته بالمطابقة، وأما بالنسبة إلى المستمع، فلأن معرفته بذلك إذا لم تكن بديهية ولم يقم الحاد عليه دليلا، امتنع أن يحصل له علم بمجرد دعوى الحاد المتكلم بالحد؛ ولهذا تجد المستمع يعارض الحد ويناقضه في طرده وعكسه ولولا تصوره المحدود بدون الحد لا متنعت المعارضة والمناقضة‏.‏
    وإنما فائدة الحد التمييز بين المحدود وغيره لا تصويره، وهو مطابق لاسم الحد في اللغة فإنه الفاصل بينه وبين غيره؛ وذلك أنه قد يتصور ماهية الشيء مطلقًا، مثل من يتصور الأمر والخبر والعلم، فيتصوره مطلقًا لا عامًا، فالحد يميز العام الذي يدخل فيه كل خبر وعلم وأمر‏.‏ ومن هنا يتبين لك أن الذي يتصور بالبديهة من مسميات هذه الأسماء وهو الحقيقة المطلقة غير المطلوب بالحد، وهو الحقيقة العامة، ثم التمييز للأسماء تارة وللصفات أخرى فالحد إما بحسب الاسم وهو الحد اللفظي الذي يحتاج إليه في الاستدلال بالكتاب والسنة وكلام كل عالم، وإما بحسب الوصف وهو تفهيم الحقيقة التي عرفت صفتها وهذا يحصل بالرسم والخواص وغير ذلك‏.‏
    الموضع الثالث‏:‏ الفرق بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية بحيث يدعي

    ج/ 9 ص -264-أن هذا لا تفهم الماهية بدونه بخلاف الآخر، فإن العاقل إذا رجع إلى ذهنه لم يجد أحدهما سابقًا والآخر لاحقًا، ثم إذا كان المرجع في معرفة الذاتي إلى تصور الذات، والمرجع في تصورها إلى معرفة الذاتي كان دورًا؛ لأنا لا نعرف الماهية إلا بالصفات الذاتية، ولا نعرف الصفات الذاتية حتى نتصور الذات؛ فإن الصفات الذاتية ما تقف معرفة الذات عليها، فلا تعرف الذاتية إلا بأن نعرف أن فهم الذات موقوف عليها، فلا تريد أن تفهم الذات حتى تعرف الذاتية وبسط هذا كثير‏.‏
    الموضع الرابع‏:‏ دعواهم أن الماهيات مركبة ولا تركيب في الذهن‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML