أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

مختصر نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان

    ج/ 9 ص -82-وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدس الله روحه‏:‏ أما بعد‏:‏مختصر نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان
    فإني كنت دائمًا أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد‏.‏ ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأينا من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه وكتبت في ذلك شيئًا، ولما كنت بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرت له بعض ما يستحقونه من التجهيل والتضليل، واقتضى ذلك أني كتبت في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة‏.‏
    ولم يكن ذلك من همتي؛ لأن همتي كانت فيما كتبته عليهم في ‏[‏الإلهيات‏]‏، وتبين لي أن كثيرًا مما ذكروه في المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات،

    ج/ 9 ص -83-مثل ما ذكروه من تركيب الماهيات من الصفات التي سموها ذاتيات، وما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من الحدود والأقيسة البرهانيات، بل ما ذكروه من الحدود التي بها تعرف التصورات، بل ما ذكروه من صور القياس ومواده اليقينيات‏.‏
    فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته؛ إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق فأذنت في ذلك؛ لأنه يفتح باب معرفة الحق ، وإن كان ما فتح من باب الرد عليهم يحتمل أضعاف ما علقته‏.‏
    فاعلم أنهم بنوا ‏[‏المنطق‏]‏ على الكلام في الحد ونوعه، والقياس البرهاني ونوعه‏.‏ قالوا‏:‏ لأن العلم إما تصور وإما تصديق، فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد، والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس‏.‏ فنقول‏:‏
    الكلام في أربع مقامات‏:‏ مقامين سالبين، ومقامين موجبين‏.‏
    فالأولان‏:‏ أحدهما‏:‏ في قولهم‏:‏ إن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد‏.‏
    والثاني‏:‏ أن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس‏.‏
    والآخران‏:‏ في أن الحد يفيد العلم بالتصورات، وأن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات‏.‏

    ج/ 9 ص -84-المقام الأول‏:‏
    في قولهم‏:‏ إن التصور لا ينال إلا بالحد، والكلام عليه من وجوه‏:‏
    الأول‏:‏ لا ريب أن النافي عليه الدليل كالمثبت، والقضية سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية لابد لها من دليل، وأما السلب بلا علم، فهو قول بلا علم، فقولهم‏:‏ لا تحصل التصورات إلا بالحد، قضية سالبة وليست بديهية، فمن أين لهم ذلك‏؟‏ وإذا كان هذا قولا بلا علم، وهو أول ما أسسوه، فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم ولما يزعمون أنها آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن أن يزل في فكره‏؟‏
    الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ الحد يراد به نفس المحدود وليس مرادهم هنا‏.‏ ويراد به القول الدال على ماهية المحدود، وهو مرادهم هنا‏.‏ وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال‏.‏ فيقال‏:‏ إذا كان الحد قول الحاد، فالحاد إما أن يكون عرف المحدود بحد أو بغير حد؛ فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول وهو مستلزم للدور أو التسلسل، وإن كان الثاني، بطل سلبهم، وهو قولهم‏:‏ إنه لا يعرف إلا بالحد‏.‏
    الثالث‏:‏ أن الأمم جميعهم من أهل العلوم والمقالات وأهل الأعمال

    ج/ 9 ص -85-والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد، ولا نجد أحدًا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود‏:‏ لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب، ولا أهل الصناعات مع أنهم يتصورون مفردات علمهم، فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود‏.‏
    الرابع‏:‏ إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم، بل أظهر الأشياء الإنسان وحده بالحيوان الناطق، عليه الاعتراضات المشهورة وكذا حد الشمس وأمثاله، حتى إن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود، ذكروا للاسم بضعة وعشرين حدًا، وكلها معترضة على أصلهم‏.‏ والأصوليون ذكروا للقياس بضعة وعشرين حدًا، وكلها أيضًا معترضة‏.‏ وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة وأهل الأصول والكلام معترضة لم يسلم منها إلا القليل، فلو كان تصور الأشياء موقوفًا على الحدود، ولم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئًا من هذه الأمور، والتصديق موقوف على التصور‏.‏ فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق، فلا يكون عند بني آدم علم من عامة علومهم، وهذا من أعظم السفسطة‏.‏
    الخامس‏:‏ أن تصور الماهية إنما يحصل عندهم بالحد الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة، وهو المركب من الجنس والفصل وهذا الحد إما متعذر أو متعسر كما قد أقروا بذلك؛ وحينئذ فلا يكون قد تصور

    ج/ 9 ص -86-حقيقة من الحقائق دائما أو غالبًا‏.‏ وقد تصورت الحقائق، فعلم استغناء التصور عن الحد‏.‏
    السادس‏:‏ أن الحدود عندهم إنما تكون للحقائق المركبة، وهي الأنواع التي لها جنس وفصل، فأما ما لا تركيب فيه، وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس، كما مثله بعضهم بالعقل، فليس له حد وقد عرفوه، وهو من التصورات المطلوبة عندهم، فعلم استغناء التصور عن الحد، بل إذا أمكن معرفة هذا بلا حد، فمعرفة تلك الأنواع أولى؛ لأنها أقرب إلى الجنس وأشخاصها مشهورة‏.‏
    وهم يقولون‏:‏ إن التصديق لا يتوقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي، بل يكفي فيه أدنى تصور ولو بالخاصة، وتصور العقل من هذا الباب، وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يتوقف على الحد الحقيقي‏.‏
    السابع‏:‏ أن سامع الحد إن لم يكن عارفًا قبل ذلك بمفردات ألفاظه ودلالتها على معانيها المفردة، لم يمكنه فهم الكلام، والعلم بأن اللفظ دال على المعنى وموضوع له مسبوق بتصور المعنى، وإن كان متصورًا لمسمى اللفظ ومعناه قبل سماعه، امتنع أن يقال‏:‏ إنما تصوره بسماعه‏.‏
    الثامن‏:‏ إذا كان الحد قول الحاد، فمعلوم أن تصور المعاني

    ج/ 9 ص -87- لا يفتقر إلى الألفاظ، فإن المتكلم قد يصور معنى ما يقوله بدون لفظ، والمستمع يمكنه ذلك من غير مخاطب بالكلية فكيف يقال‏:‏ لا تتصور المفردات إلا بالحد ‏؟‏‏!‏
    التاسع‏:‏ أن الموجودات المتصورة إما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات، أو الباطنة كالجوع والحب والبغض والفرح والحزن واللذة والألم والإرادة والكراهة وأمثال ذلك، وكلها غنية عن الحد‏.‏
    العاشر‏:‏ أنهم يقولون للمعترض أن يطعن على الحد بالنقض في الطرد أو في المنع وبالمعارضة بحد آخر، فإذا كان المستمع للحد يبطله بالنقض تارة وبالمعارضة أخرى، ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود، علم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب‏.‏
    الحادي عشر‏:‏ أنهم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد، وحينئذ فيقال‏:‏ كون العلم بديهيا أو نظريا من الأمور النسبية الإضافية، فقد يكون النظري عند رجل بديهيا عند غيره لوصوله إليه بأسبابه من مشاهدة أو تواتر أو قرائن‏.‏ والناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتًا لا ينضبط فقد يصير البديهي عند هذا دون ذاك بديهيا كذلك أيضًا بمثل الأسباب التي حصلت لهذا ولا يحتاج إلى حد‏.‏

    ج/ 9 ص -88-المقام الثاني‏:‏
    وهو الحد يفيد تصور الأشياء فنقول‏:‏
    المحققون من النظار على أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره، كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود، وتعريف حقيقته‏.‏ وإنما يدعي هذا أهل المنطق اليونانيون، أتباع أرسطو، ومن سلك سبيلهم تقليدًا لهم من الإسلاميين وغيرهم‏.‏ فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلي خلاف هذا، وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة، وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني‏.‏ وأما سائر النظار من جميع الطوائف الأشعرية، والمعتزلة والكرّامية والشيعة وغيرهم، فعندهم إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره، وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي إسحاق وابن فُورَك والقاضي أبي يعلي وابن عقيل وإمام الحرمين والنسفي وأبي على وأبي هاشم وعبد الجبار والطوسي ومحمد بن الهيصم وغيرهم‏.‏
    ثم إن ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد، لا ريب أنهم وضعوها وضعًا، وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع، وعامة الأمم

    ج/ 9 ص -89-بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم‏.‏ وهم إذا تدبروا، وجدوا أنفسهم يعلمون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية‏.‏
    ثم إن هذه الصناعة الوضعية زعموا أنها تفيد تعريف حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها، وكلا هذين غلط، ولما راموا ذلك، لم يكن بُدٌّ من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض؛ إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيًا، فلابد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم، وما ليس كذلك‏.‏ فأدى ذلك إلى التفريق بين المتماثلات، حيث جعلوا صفة ذاتية دون أخرى، مع تساويهما أو تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات ممتنع، وبين المتقاربات عسر‏.‏ فالمطلوب إما متعذر أو متعسر، فإن كان متعذرًا بطل بالكلية، وإن كان متعسرًا فهو بعد حصوله ليس فيه فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله، فصاروا بين أن يمتنع عليهم ما شرطوه أو ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه على التقديرين، فليس ما وضعوه من الحد طريقًا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد وإن كان قد يفيد من تمييز المحدود ما تفيده الأسماء‏.‏
    وقد تفطن الفخر الرازي لما عليه أئمة الكلام وقرر في محصله وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة‏.‏ وهذا هو حقيقة قولنا‏:‏ إن الحد لا يفيد تصور المحدود‏.‏
    وهذا مقام شريف، ينبغي أن يعرف؛ فإنه لسبب إهماله دخل الفساد

    ج/ 9 ص -90-في العقول أو الأديان على كثير من الناس، إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت بها الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصاري وسائر العلوم؛ الطب والنحو وغير ذلك، وصاروا يعظمون أمر الحدود، ويزعمون أنهم هم المحققون لذلك، وأن ما ذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية، لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم، ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة‏.‏ و ليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان، وشغل النفوس بما لا ينفعها ، بل قد يصدها عما لابد منه‏.‏ وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعت أنه أصل المعرفة والتحقيق، وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه، وإن كان الذي ينهى عنه السلف خيرًا وأحسن من هذا؛ إذ هو كلام في أدلة وأحكام‏.‏
    ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين، كما جد في ذلك متأخروهم، الذين ظنوا ذلك من التحقيق، وإنما هو زيغ عن سواء الطريق؛ ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها، لا تفيد الإنسان علمًا لم يكن عنده، وإنما تفيده كثرة كلام سموهم‏:‏ ‏[‏أهل الكلام‏]‏‏.‏ وهذا لعمري في الحدود التي ليس فيها باطل، فأما حدود المنطقيين التي يدعون

    ج/ 9 ص -91-أنهم يصورون بها الحقائق، فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين، ويفرقون بين المتماثلين‏.‏
    والدليل على أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه، فقوله مثلا‏:‏ حد الإنسان حيوان ناطق، قضية خبرية، ومجرد دعوى خلية عن حجة، فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول أو لا، فإن كان الأول، ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد‏.‏ وإن كان الثاني عنده، فمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، وكيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله، فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة المحدود‏.‏
    فإن قيل‏:‏ يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك المسؤول عنه مثلا أو غيره‏.‏
    قلنا‏:‏ فحينئذ يكون كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه، وهو دلالة الاسم على مسماه، وهذا تحقيق ما قلناه‏:‏ من أن دلالة الحد كدلالة الاسم، ومجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره دون ذلك بلا نزاع، فكذلك الحد‏.‏
    الثاني‏:‏ أنهم يقولون‏:‏ الحد لا يمنع ولا يقام عليه دليل، وإنما يمكن

    ج/ 9 ص -92-إبطاله بالنقض والمعارضة‏.‏ فيقال‏:‏ إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد، امتنع أن يعرف المستمع المحدود به، إذا جوز عليه الخطأ، فإنه إذا لم يعرف صحة الحد بقوله، وقوله محتمل الصدق والكذب، امتنع أن يعرفه بقوله‏.‏
    ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية، ويجعلون العلم بالمفرد أصل العلم بالمركب، ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا دليل، وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي، يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب‏.‏ ثم يعيبون على من يعتمد على الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني، زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وخبر الواحد وإن لم يفد العلم، لكن هذا بعينه قولهم في الحد، فإنه خبر واحد لا دليل على صدقه، بل ولا يمكن عندهم إقامة الدليل على صدقه، فلم يكن الحد مفيدًا لتصور المحدود‏.‏ ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد، وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده، وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصور وهذا بَيِّن‏.‏
    وتلخيصه‏:‏ أن تصور المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد، وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر، فلا يعلم المحدود بالحد‏.‏
    الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ لو كان الحد مفيدًا لتصور المحدود، لم يحصل

    ج/ 9 ص -93-ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد‏.‏ فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن يعلم المعرف المحدود قبل العلم بصحة المعرف، والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود؛ إذ الحد خبر عن مخبر هو المحدود، فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبر عنه من غير تقليد للخبر، وقبول قوله فيما يشترك في العلم به المخبر، والمخبر ليس هو من باب الإخبار عن الأمور الغائبة‏.‏
    الرابع‏:‏ أنهم يحدون المحدود بالصفات التي يسمونها الذاتية والعرضية، ويسمونها أجزاء الحد وأجزاء الماهية والمقومة لها والداخلة فيها، ونحو ذلك من العبارات، فإن لم يعلم المستمع أن المحدود موصوف بتلك الصفات امتنع تصوره، وإن علم أنه موصوف بها كان قد تصوره بدون الحد، فثبت أنه على التقديرين لا يكون قد تصوره بالحد، وهذا بين‏.‏
    فإنه إذا قيل‏:‏ الإنسان هو الحيوان الناطق، ولا يعلم أنه الإنسان، احتاج إلى العلم بهذه النسبة، وإن لم يكن متصورًا لمسمى الحيوان الناطق احتاج إلى شيئين‏:‏تصور ذلك، والعلم بالنسبة المذكورة، وإن عرف ذلك كان قد تصور الإنسان بدون الحد ، نعم الحد قد ينبه على تصور المحدود، كما ينبه الاسم، فإن الذهن قد يكون غافلا عن الشيء، فإذا سمع اسمه وحده أقبل بذهنه إلى الشيء الذي أشير إليه بالاسم أو الحد، فيتصوره، فتكون فائدة الحد من جنس فائدة الاسم، وتكون الحدود للأنواع بالصفات كالحدود

    ج/ 9 ص -94-للأعيان بالجهات‏.‏ كما إذا قيل‏:‏ حد الأرض من الجانب القبلي كذا، ومن الجانب الشرقي كذا، ميزت الأرض باسمها وحدها، و حد الأرض يحتاج إليه إذا خيف من الزيادة في المسمى أو النقص منه، فيفيد إدخال المحدود جميعه وإخراج ما ليس منه كما يفيد الاسم، وكذلك حد النوع، وهذا يحصل بالحدود اللفظية تارة، وبالوضعية أخرى‏.‏ وحقيقة الحد في الموضعين بيان مسمى الاسم فقط، وتمييز المحدود عن غيره، لا تصور المحدود‏.‏
    وإذا كان فائدة الحد بيان مسمى الاسم، والتسمية أمر لغوي وضعي، رجع في ذلك إلى قصد ذلك المسمى ولغته؛ ولهذا يقول الفقهاء‏:‏ من الأسماء ما يعرف حده بالشرع، ومنها ما يعرف حده بالعرف‏.‏
    ومن هذا ‏[‏تفسير الكلام وشرحه‏]‏ إذا أريد به تبيين مراد المتكلم، فهذا يبنى على معرفة حدود كلامه، وإذا أريد به تبيين صحته وتقريره، فإنه يحتاج إلى معرفة دليل بصحته‏.‏ فالأول فيه بيان تصوير كلامه أو تصوير كلامه لتصوير مسميات الأسماء بالترجمة‏:‏ تارة لمن يكون قد تصور المسمى، ولم يعرف أن ذلك اسمه، وتارة لمن لم يكن قد تصور المسمى فيشار إلى المسمى بحسب الإمكان، إما إلى عينه، وإما إلى نظيره؛ ولهذا يقال‏:‏ الحد تارة يكون للاسم، وتارة يكون للمسمى‏.‏
    وأئمة المصنفين في صناعة الحدود على طريقة المنطقيين يعترفون عند

    ج/ 9 ص -95-التحقيق بهذا، كما ذكره الغزالي في ‏[‏كتاب المعيار‏]‏ الذي صنفه في المنطق، وكذا يوجد في كلام ابن سينا والرازي والسهروردي وفي غيرهم‏:‏ أن الحدود فائدتها من جنس فائدة الأسماء، وأن ذلك من جنس الترجمة بلفظ عن لفظ‏.‏ ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن والحديث وغيرهما، بل تفسير القرآن وغيره من أنواع الكلام، هو في أول درجاته من هذا الباب، فإن المقصود ذكر مراد المتكلم بتلك الأسماء، وبذلك الكلام‏.‏
    وهذا الحد هم متفقون على أنه من الحدود اللفظية، مع أن هذا هو الذي يحتاج إليه في إقراء العلوم المصنفة، بل في قراءة جميع الكتب، بل في جميع أنواع المخاطبات‏.‏ فإن من قرأ كتب النحو، أو الطب، أو غيرهما لابد أن يعرف مراد أصحابها بتلك الأسماء، ويعرف مرادهم بالكلام المؤلف، وكذلك من قرأ كتب الفقه والكلام والفلسفة وغير ذلك، وهذه الحدود معرفتها من الدين في كل لفظ هو في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ، ثم قد تكون معرفتها فرض عين ، وقد تكون فرض كفاية؛ ولهذا ذم الله تعالى من لم يعرف هذه الحدود بقوله‏:‏ ‏"
    ‏الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏، والذي أنزله على رسوله فيه ما قد يكون الاسم ‏[‏غريبًا‏]‏ بالنسبة إلى المستمع كلفظ‏:‏‏"‏ضِيزَى‏"‏‏[‏النجم‏:‏22‏]‏، و‏"‏قَسْوَرَةٍ‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏51‏]‏، و‏"‏عَسْعَسَ‏"‏ ‏[‏التكوير‏:‏17‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏ وقد يكون ‏[‏مشهورًا‏]‏ لكن لا يعلم حده، بل يعلم معناه على سبيل الإجمال؛ كاسم الصلاة، والزكاة والصيام والحج،

    ج/ 9 ص -96-فتبين أن تعريف الشيء إنما هو بتعريف عينه أو ما يشبهه فمن عرف عين الشيء لا يفتقر في معرفته إلى حد، ومن لم يعرفه، فإنما يعرف به إذا عرف ما يشبهه ولو من بعض الوجوه، فيؤلف له من الصفات المشتبهة المشتركة بينه وبين غيره ما يخص المعرف، ومن تدقق هذا وجد حقيقته، وعلم معرفة الخلق بما أخبروا به من الغيب من الملائكة، واليوم الآخر، وما في الجنة والنار من أنواع النعيم والعذاب، وبطل قولهم في الحد‏.‏
    الخامس‏:‏ أن التصورات المفردة يمتنع أن تكون مطلوبة، فيمتنع أن يعلم بالحد؛ لأن الذهن إن كان شاعرًا بها امتنع الطلب؛ لأن تحصيل الحاصل ممتنع، وإن لم يكن شاعرًا بها امتنع من النفس طلب ما لا تشعر به، فإن الطلب والقصد مسبوق بالشعور‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فالإنسان يطلب تصور الملك والجن والروح وأشياء كثيرة، وهو لا يشعر بها‏.‏ قيل‏:‏ قد سمع هذه الأسماء، فهو يطلب تصور مسماها، كما يطلب من سمع ألفاظًا لا يفهم معانيها تصور معانيها، وهو إذا تصور مسمى هذه الأسماء فلابد أن يعلم أنها مسماة بهذا الاسم؛ إذ لو تصور حقيقة، و لم يكن ذلك الاسم فيها، لم يكن تصور مطلوبه، فهنا المتصور ذات وأنها مسماة بكذا، وهذا ليس تصورًا بالمعنى فقط، بل للمعنى ولاسمه، وهذا لا ريب أنه يكون مطلوبًا، ولكن لا يوجب أن يكون المعنى المفرد مطلوبًا‏.‏

    ج/ 9 ص -97-وأيضًا، فإن المطلوب هنا لا يحصل بمجرد الحد، بل لابد من تعريف المحدود بالإشارة إليه أو غير ذلك، مما لا يكتفى فيه بمجرد اللفظ، وإذا ثبت امتناع الطلب للتصورات المفردة، فإما أن تكون حاصلة للإنسان، فلا تحصل بالحد، فلا يفيد الحد التصور، وإما ألا تكون حاصلة، فمجرد الحد لا يوجب تصور المسميات لمن لا يعرفها، ومتى كان له شعور بها لم يحتج إلى الحد في ذلك الشعور إلا من جنس ما يحتاج إلى الاسم، والمقصود هو التسوية بين فائدة الحد وفائدة الاسم‏.‏
    السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ المفيد لتصور الحقيقة عندهم هو الحد العام المؤلف من الذاتيات، دون العرضيات‏.‏ ومبنى هذا الكلام على الفرق بين الذاتي والعرضي، وهم يقولون‏:‏الذاتي ما كان داخل الماهية، والعرضي ما كان خارجًا عنها، وقسموه إلى لازم للماهية، ولازم لوجودها‏.‏
    وهذا الكلام الذي ذكروه مبني على أصلين فاسدين‏:‏الفرق بين الماهية ووجودها، ثم الفرق بين الذاتي لها واللازم لها‏.‏ فالأصل الأول‏:‏ قولهم‏:‏ إن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها، وهذا شبيه بقول من يقول‏:‏ المعدوم شيء، وهو من أفسد ما يكون‏.‏ وأصل ضلالهم أنهم رأوا الشيء قبل وجوده يعلم ويراد، ويميز بين المقدور عليه والمعجوز عنه ونحو ذلك، فقالوا‏:‏ لو لم يكن ثابتًا لما كان كذلك‏.‏ كما أنا نتكلم في حقائق

    ج/ 9 ص -98-الأشياء التي هي ماهياتها مع قطع النظر عن وجودها في الخارج فتخيل الغالط أن هذه الحقائق والماهيات أمور ثابتة في الخارج‏.‏
    والتحقيق‏:‏ أن ذلك كله أمر ثابت في الذهن‏.‏ والمقدر في الأذهان أوسع من الموجود في الأعيان، وهو موجود وثابت في الذهن، وليس هو في نفس الأمر لا موجودًا ولا ثابتًا، فالتفريق بين الوجود والثبوت وكذلك التفريق بين الوجود والماهية مع دعوى أن كليهما في الخارج غلط عظيم‏.‏
    وهؤلاء ظنوا أن الحقائق النوعية كحقيقة الإنسان والفرس وأمثال ذلك ثابتة في الخارج غير الأعيان الموجودة في الخارج، وأنها أزلية لا تقبل الاستحالة وهذه التي تسمى‏:‏ ‏[‏المثل الأفلاطونية‏]‏‏.‏ ولم يقتصروا على ذلك؛ بل أثبتوا أيضًا ذلك في المادة والماهية والمكان، فأثبتوا مادة مجردة عن الصور، ثابتة في الخارج‏:‏ وهي الهيولي الأولية التي بنوا عليها قدم العالم، وغلطهم فيها جمهور العقلاء‏.‏ والكلام على من فرق بين الوجود والماهية مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود هنا التنبية على أن ما ذكروه في المنطق من الفرق بين الماهية ووجودها في الخارج هو مبني على هذا الأصل الفاسد‏.‏ وحقيقة الفرق الصحيح أن الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيء، والوجود ما يكون في الخارج منه،

    ج/ 9 ص -99-وهذا فرق صحيح؛ فإن الفرق بين ما في النفس وما في الخارج ثابت معلوم لا ريب فيه‏.‏ وأما تقدير حقيقة لا تكون ثابتة في العلم ولا في الوجود فهو باطل‏.‏
    والأصل الثاني‏:‏ وهو الفرق بين اللازم للماهية والذاتي لا حقيقة له، فإنه إن جعلت الماهية التي في الخارج مجردة عن الصفات اللازمة، وأمكن أن يجعل الوجود الذي في الخارج مجردًا عن هذه الصفات اللازمة وإن جعل هذا هو نفس الماهية بلوازمها، كان هذا بمنزلة أن يقال‏:‏ هذا‏]‏الوجود بلوازمه‏]‏ وهما باطلان، فإن الزوجية والفردية للعدد مثلا، مثل الحيوانية والنطق للإنسان، وكلاهما إذا خطر بالبال منه الموصوف مع الصفة لم يمكن تقدير الموصوف دون الصفة، و ما ذكروه من أن ما جعلوه هو الذاتي يتقدم بصورة في الذهن، فباطل من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن هذا خبر عن وضعهم؛ إذ هم يقدمون هذا في أذهانهم ويؤخرون هذا، وهذا حكم محض‏.‏ وكل من قدم هذا دون ذا، فإنما قلدهم في ذلك‏.‏
    ومعلوم أن الحقائق الخارجية المستغنية عنا لا تكون تابعة لتصوراتنا، فليس إذا فرضنا هذا مقدما، وهذا مؤخرًا، يكون هذا في الخارج كذلك‏.‏ وسائر بني آدم الذين يقلدونهم في هذا الموضع لا يستحضرون هذا التقديم

    ج/ 9 ص -100- والتأخير، ولو كان هذا فطريًا كانت الفطرة تدركه بدون التقليد، كما تدرك سائر الأمور الفطرية‏.‏ والذي في الفطرة أن هذه اللوازم كلها لوازم للموصوف وقد يخطر بالبال، وقد لا يخطر‏.‏ أما أن يكون هذا خارجًا عن الذات، وهذا داخلا في الذات، فهذا تحكم محض ليس له شاهد لا في الخارج ولا في الفطرة‏.‏
    والثاني‏:‏ أن كون الوصف ذاتيًا للموصوف، هو أمر تابع لحقيقته التي هو بها سواء تصورته أذهاننا، أو لم تتصوره، فلابد إذا كان أحد الوصفين ذاتيًا دون الآخر أن يكون الفرق بينهما أمرًا يعود إلى حقيقتهما الخارجة الثابتة بدون الذهن، وإما أن يكون بين الحقائق الخارجية ما لا حقيقة له إلا مجرد التقدم والتأخر في الذهن، فهذا لا يكون إلا أن تكون الحقيقة والماهية هي ما يقدر في الذهن لا ما يوجد في الخارج‏.‏ وذلك أمر يتبع تقدير صاحب الذهن، وحينئذ فيعود حاصل هذا الكلام إلى أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج وهي التخيلات والتوهمات الباطلة، وهذا كثير في أصولهم‏ .‏ السابع‏:‏ أن يقال‏:‏ هل يشترطون في الحد التام وكونه يفيد تصور الحقيقة أن تتصور جميع صفاته الذاتية المشتركة بينه وبين غيره أم لا‏؟‏‏.‏ فإن شرطوا، لزم استيعاب جميع الصفات‏.‏ وإن لم يشترطوا واكتفوا بالجنس القريب دون غيره فهو تحكم محض، وإذا عارضهم من يوجب ذكر جميع

    ج/ 9 ص -101-الأجناس، أو يحذف جميع الأجناس، لم يكن لهم جواب، إلا أن هذا وضعهم واصطلاحهم‏.‏ ومعلوم أن العلوم الحقيقية لا تختلف باختلاف الأوضاع، فقد تبين أن ما ذكروه هو من باب الوضع والاصطلاح الذي جعلوه من باب الحقائق الذاتية والمعارف، وهذا عين الضلال والإضلال كمن يجىء إلى شخصين متماثلين فيجعل هذا مؤمنًا وهذا كافرًا ،وهذا عالمًا و هذا جاهلا، وهذا سعيدًا وهذا شقيًا، من غير افتراق بين ذاتيهما بل بمجرد وضعه واصطلاحه‏.‏ فهم مع دعواهم القياس العقلي يفرقون بين المتماثلات ويسوون بين المختلفات‏.‏
    الثامن‏:‏ أن اشتراطهم ذكر الفصول المميزة مع تفريقهم بين الذاتي والعرضي غير ممكن؛ إذ ما من مميز هو من خواص المحدود المطابقة له في العموم والخصوص إلا ويمكن الآخر أن يجعله عرضىًا لازمًا للماهية‏.‏
    التاسع‏:‏ أن فيما قالوه دورًا فلا يصح؛ وذلك أنهم يقولون‏:‏ إن المحدود لا يتصور إلا بذكر صفاته الذاتية‏.‏ ثم يقولون‏:‏ الذاتي هو ما لا يمكن تصور الماهية بدون تصوره، فإذا كان المتعلم لا يتصور المحدود حتى يتصور صفاته الذاتية، ولا يعرف أن الصفة ذاتية حتى يتصور الموصوف الذي هو المحدود، ولا يتصور الموصوف حتى يتصور الصفات الذاتية ويميز بينها وبين غيرها، فتتوقف معرفة الذات على معرفة

    ج/ 9 ص -102-الذاتيات ويتوقف معرفة الذاتيات على معرفة الذات، فلا يعرف هو ولا تعرف الذاتيات‏.‏ وهذا كلام متين يجتاح أصل كلامهم، ويبين أنهم متحكمون فيما وضعوه لم يبنوه على أصل علمي تابع للحقائق، لكن قالوا‏:‏ هذا ذاتي، وهذا غير ذاتي بمجرد التحكم، ولم يعتمدوا على أمر يمكن الفرق به بين الذاتي وغيره، فإذا لم يعرف المحدود إلا بالحد، والحد غير ممكن لم يعرف، وذلك باطل‏.‏
    العاشر‏:‏ أنه يحصل بينهم في هذا الباب نزاع لا يمكن فصله على هذا الأصل، وما استلزم تكافؤ الأدلة فهو باطل‏.
    فصل
    قولهم‏:‏ إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس الذي ذكروا صورته ومادته، قضية سلبية، ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا عليها دليلًا أصلًا‏.‏ وصاروا مدعين ما لم يثبتوه قائلين بغير علم؛ إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم، فمن أين لهم أنه لا يمكن أحدًا من بني آدم أن يعلم شيئًا من التصديقات التي ليست بديهة عندهم إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته‏؟‏‏!‏

    ج/ 9 ص -103-ثم هم معترفون بما لابد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري، وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري إلى البديهي، وحينئذ فيأتي ما تقدم في التصورات من أن الفرق بينهما إنما هو بالنسبة والإضافة، فقد يكون النظري عند شخص بديهيا عند غيره‏.‏ والبديهي من التصديقات، ما يكفي تصور طرفيه موضوعه ومحموله في حصول تصديقه، فلا يتوقف على وسط يكون بينهما، وهو الدليل الذي هو الحد الأوسط سواء كان تصور الطرفين بديهيا أم لا، ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان‏.‏
    فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كثيرة، وحينئذ فيتصور الطرفين تصورًا تامًا بحيث يتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لمن لم يتصوره، وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض أمر بين، فإن كثيرًا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة، وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدلال؛ ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل لنفسه بل لغيره، ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها حتى يضرب له أمثالًا‏.‏

    ج/ 9 ص -104-وقد ذكر المناطقة أن القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحواس يختص بها من علمها، ولا تكون حجة على غيره، بخلاف غيرها، فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع، وهذا تفريق فاسد، وهو أصل من أصول الإلحاد والكفر‏.‏ فإن المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها‏.‏ يقول أحد هؤلاء بناء على هذا الفرق ‏:‏ هذا لم يتواتر عندي فلا تقوم به الحجة على، وليس ذلك بشرط، ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث من الآثار النبوية؛ فإن هؤلاء يقولون‏:‏ إنها غير معلومة لنا كما يقول من يقول من الكفار ‏:‏ إن معجزات الأنبياء غير معلومة له؛ وهذا لكونهم لم يعلموا السبب الموجب للعلم بذلك، والحجة قائمة عليهم تواتر عندهم أم لا‏.‏
    وقد ذهب الفلاسفة أهل المنطق إلى جهالات قولهم‏:‏ إن الملائكة هي العقول العشرة، وإنها قديمة أزلية، وإن العقل رب ما سواه، وهذا شيء لم يقل مثله أحد من اليهود والنصارى ومشركي العرب،ولم يقل أحد‏:‏ إن ملكا من الملائكة رب العالم كله، ويقولون‏:‏ إن العقل الفعال مبدع كل ما تحت فلك القمر، وهذا أيضًا كفر لم يصل إليه أحد من كفار أهل الكتاب ومشركي العرب، ويقولون‏:‏ إن الرب لا يفعل بمشيئته وقدرته، وليس عالمًا بالجزئيات، ولا يقدر أن يغير العالم، بل العالم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه،

    ج/ 9 ص -105-وأنه إذا توجه المستشفع إلى من يعظمه من الجواهر العالية؛ كالعقول والنفوس والكواكب والشمس والقمر، فإنه يتصل بذلك المعظم المستشفع به، فإذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا من جهة شفيعه، ويمثلونه بالشمس إذا طلعت على مرآة، فانعكس الشعاع الذي على المرآة على موضع آخر فأشرق بذلك الشعاع، فذلك الشعاع حصل له من مقابلة المرآة وحصل للمرآة بمقابلة الشمس‏.‏
    ويقولون‏:‏ إن الملائكة هي العقول العشرة، أو القوى الصالحة في النفس، وإن الشياطين هي القوى الخبيثة، وغير ذلك مما عرف فساده بالدلائل العقلية، بل بالضرورة من دين الرسول‏.‏ فإذا كان شرك هؤلاء وكفرهم أعظم من شرك مشركي العرب وكفرهم، فأي كمال للنفس في هذه الجهالات‏؟‏‏!‏‏.‏ وهذا وأمثاله مفتقر إلى بسط كثير‏.‏ والمقصود ذكر ما ادعوا في البرهان المنطقي‏.‏
    وأيضًا، فإذا قالوا‏:‏ إن العلوم لا تحصل إلا بالبرهان الذي هو عندهم قياس شمولي، وعندهم لابد فيه من قضية كلية موجبة؛ ولهذا قالوا ‏:‏ إنه لا نتاج عن قضيتين سالبتين ولا جزئيتين في شيء من أنواع القياس، لا بحسب صورته - كالحملى والشرطي المتصل والمنفصل- ولا بحسب مادته لا البرهاني ولا الخطابي ولا الجدلي، بل ولا الشعري‏.‏

    ج/ 9 ص -106-فيقال‏:‏ إذا كان لابد في كل ما يسمونه برهانًا من قضية كلية، فلابد من العلم بتلك القضية الكلية‏:‏ أي من العلم بكونها كلية، وإلا فمتى جوز عليها ألا تكون كلية بل جزئية لم يحصل العلم بموجبها‏.‏ والمهملة والمطلقة التي يحتمل لفظها أن تكون كلية، وجزئية في قوة الجزئية، وإذا كان لابد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم بقضية كلية موجبة، فيقال‏:‏ العلم بتلك القضية إن كان بديهيا، أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيًا بطريق الأولى، وإن كان نظريًا احتاج إلى علم بديهي، فيفضي إلى الدور المعي أو التسلسل في المتواترات وكلاهما باطل‏.‏
    وهكذا يقال في سائر القضايا الكلية التي يجعلونها مبادئ البرهان،ويسمونها ‏"‏الواجب قبولها‏"‏ سواء كانت حسية ظاهرة أو باطنة وهي التي يحسها بنفسه أو كانت من التجريبيات أو المتواترات أو الحدسيات عند من يجعل منها ما هو من النفسيات الواجب قبولها، مثل العلم بكون نور القمر مستفادًا من الشمس إذا رأى اختلاف أشكاله عند اختلاف محاذاته للشمس كما يختلف إذا قاربها بعد الاجتماع كما في ليلة الهلال، وإذا كان ليلة الاستقبال عند الإبدار ‏.‏
    وهم متنازعون‏:‏ هل الحدس قد يفيد اليقين أم لا‏؟‏ ومثل العقليات المحضة، ومثل قولنا‏:‏ الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء،

    ج/ 9 ص -107-والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، والضدان لا يجتمعان، والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، فما من قضية من هذه القضايا الكلية تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان، بل هو الواقع كثيرًا‏.‏ فإذا علم أن كل واحد فهو نصف كل اثنين وأن كل اثنين نصفهم واحد، فإنه يعلم أن هذا الواحد نصف هذين الاثنين، وهلم جرا في سائر القضايا الأخر من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية، وكذلك كل جزء يعلم أن هذا الكل أعظم من جزئه بدون توسط القضية الكلية، وكذلك هذان النقيضان من تصورهما نقيضين فإنه يعلم أنهما لا يجتمعان‏.‏ وكل أحد يعلم أن هذا العين لا يكون موجودا معدومًا كما يعلم المعين الآخر، ولا يحتاج ذلك إلى أن يستدل عليه بأن كل شيء لا يكون موجودًا معدومًا معًا، وكذلك الضدان فإن الإنسان يعلم أن هذا الشيء لا يكون أسود أبيض، ولا يكون متحركًا ساكنًا كما يعلم أن الآخر كذلك، ولا يحتاج في العلم بذلك إلى قضية كلية بأن كل شيء لا يكون أسود أبيض، ولا يكون متحركًا ساكنًا‏.‏
    وكذلك في سائر ما يعلم تضادهما فإن علم تضاد المعينين علم أنهما لا يجتمعان، فإن العلم بالقضية الكلية يفيد العلم بالمقدمة الكبرى المشتملة على الحد الأكبر، وذلك لا يغني دون العلم بالمقدمة الصغرى المشتملة على الحد الأصغر، والعلم بالنتيجة وهو أن هذين المعنيين ضدان فلا يجتمعان، يمكن بدون العلم

    ج/ 9 ص -108-بالمقدمة الكبرى، وهو أن كل ضدين لا يجتمعان‏.‏ فلا يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذي خصوه باسم البرهان، وإن كان البرهان في كلام الله ورسوله وكلام سائر أصناف العلماء لا يختص بما سموه هم البرهان، وإنما خصوا هم لفظ البرهان بما اشتمل عليه القياس الذي خصوا صورته ومادته بما ذكروه‏.‏
    مثال ذلك‏:‏ أنه إذا أريد إبطال قول من يثبت الأحوال ويقول‏:‏ إنها لا موجودة ولا معدومة، فقيل‏:‏ هذان نقيضان، وكل نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن هذا جعل للواحد لا موجودًا ولا معدومًا ولا يمكن جعل الحال للواحد لا موجودة ولا معدومة، كان العلم بأن هذا المعين لا يكون موجودًا معدومًا ممكنا بدون هذه القضية الكلية، فلا يفتقر العلم بالنتيجة إلى البرهان‏.‏
    وكذلك إذا قيل‏:‏ إن هذا ممكن وكل ممكن فلابد له من مرجح لوجوده على عدمه على أصح القولين، أو لأحد طرفيه على قول طائفة من الناس‏.‏
    أو قيل‏:‏ هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، فتلك القضية الكلية، وهي قولنا‏:‏ كل محدث لابد له من محدث، وكل ممكن لابد له من مرجح، يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهاني عندهم بدون العلم

    ج/ 9 ص -109-بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها، فيعلم أن هذا المحدث لابد له من محدث‏.‏ وهذا الممكن لابد له من مرجح، فإن شك عقله وجوز أن يحدث هو بلا محدث أحدثه، أو أن يكون وهو ممكن يقبل الوجود والعدم بدون مرجح يرجح وجوده، جوز ذلك في غيره من المحدثات، والممكنات بطريق الأولى؛ وإن جزم بذلك في نفسه لم يحتج علمه بالنتيجة المعينة وهو قولنا‏:‏ وهذا محدث فله محدث، أو هذا ممكن فله مرجح إلى القياس البرهاني‏.‏
    ومما يوضح هذا‏:‏ أنك لا تجد أحدًا من بني آدم يريد أن يعلم مطلوبًا بالنظر ويستدل عليه بقياس برهاني يعلم صحته، إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس البرهاني المنطقي، ولهذا لا تجد أحدًا من سائر أصناف العقلاء غير هؤلاء ينظم دليله من المقدمتين كما ينظمه هؤلاء، بل يذكرون الدليل المستلزم للمدلول، ثم الدليل قد يكون مقدمة واحدة، وقد يكون مقدمتين، وقد يكون ثلاث مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل؛ إذ حاجة الناس تختلف‏.‏ وقد بسطنا ذلك في الكلام على المحصل‏.‏ وبينا تخطئة جمهور العقلاء لمن قال‏:‏ إنه لابد في كل علم نظري من مقدمتين لا يستغنى عنهما، ولا يحتاج إلى أكثر منهما، وهذا ينبغي أن تأخذه من المواد العقلية التي لا يستدل عليها بنصوص الأنبياء؛ فإنه يظهر بها فساد منطقهم‏.‏ وأما إذا أخذته من المواد المعلومة بنصوص الأنبياء فإنه يظهر الاحتياج إلى القضية الكلية، كما إذا أردنا تحريم

    ج/ 9 ص -110-النبيذ المتنازع فيه فقلنا‏:‏ النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، أو قلنا‏:‏ هو خمر، وكل خمر حرام‏.‏ فقولنا‏:‏ النبيذ المسكر خمر يعلم بالنص، وهو قول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏كل مسكر خمر‏"‏ وقولنا ‏:‏ كل خمر حرام، يعلم بالنص والإجماع، وليس في ذلك نزاع، وإنما النزاع في المقدمة الصغرى‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏كل مسكر خمر وكل مسكر حرام‏"‏‏.‏ وفي لفظ ‏:‏ ‏"‏كل مسكر خمر وكل خمر حرام‏"‏‏.‏
    وقد يظن بعض الناس أن النبي ﷺ ذكر هذا على النظم المنطقي لتبيين النتيجة بالمقدمتين كما يفعله المنطقيون، وهذا جهل عظيم ممن يظنه فإنه ﷺ أجل قدرًا من أن يستعمل مثل هذا الطريق في بيان العلم، بل من هو أضعف عقلا وعلما من آحاد علماء أمته لا يرضى لنفسه أن يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين، بل يعدونهم من الجهال الذين لا يحسنون إلا الصناعات كالحساب والطب، ونحو ذلك‏.‏
    وأما العلوم البرهانية الكلية اليقينية والعلوم الإلهية فلم يكونوا من رجالها‏.‏ وقد بين ذلك نظار المسلمين في كتبهم، وبسطوا الكلام عليهم؛ وذلك أن كون كل خمر حراما هو مما علمه المسلمون، فلا يحتاجون إلى معرفة ذلك بالقياس، وإنما شك بعضهم في أنواع من الأشربة المسكرة كالنبيذ المصنوع من العسل والحبوب وغير ذلك، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري

    ج/ 9 ص -111-أنه قال لرسول الله ﷺ‏:‏ عندنا شراب مصنوع من العسل يقال له‏:‏ البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له‏:‏ المزر، قال‏:‏ وكان أوتي جوامع الكلم فقال‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ فأجابهم ﷺ بقضية كلية بين بها أن كل ما يسكر فهو محرم‏.‏ وبين أيضًا أن كل ما يسكر فهو خمر، وهاتان قضيتان كليتان صادقتان متطابقتان العلم بأيهما كان يوجب العلم بتحريم كل مسكر؛ إذ ليس العلم بتحريم كل مسكر يتوقف على العلم بهما جميعًا، فإن من علم أن النبي ﷺ قال ‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ وهو من المؤمنين به علم أن النبيذ المسكر حرام، ولكن قد يحصل الشك‏:‏ هل أراد القدر المسكر أو أراد جنس المسكر، وهذا شك في مدلول قوله، فإذا علم مراده ﷺ علم المطلوب‏.‏
    وكذلك إذا علم أن النبيذ خمر‏.‏ والعلم بهذا أوكد في التحريم؛ فإن من يحلل النبيذ المتنازع فيه لا يسميه خمرًا، فإذا علم بالنص أن ‏"‏كل مسكر خمر‏"‏، كان هذا وحده دليلا على تحريم كل مسكر عند أهل الإيمان الذين يعلمون أن الخمر محرم‏.‏ وأما من لم يعلم تحريم الخمر لكونه لم يؤمن بالرسول، فهذا لا يستدل بنصه، وإن علم أن محمدًا رسول الله، ولكن لم يعلم أنه حرم الخمر فهذا لا ينفعه قوله‏:‏ ‏"‏كل مسكر خمر‏"‏ بل ينفعه قوله‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ وحينئذ يعلم بهذا تحريم الخمر؛ لأن الخمر والمسكر اسمان لمسمى واحد عند

    ج/ 9 ص -112-الشارع، وهما متلازمان عنده في العموم والخصوص عند جمهور العلماء الذين يحرمون كل مسكر‏.‏
    وليس المقصود هنا الكلام في تقرير المسألة الشرعية، بل التنبيه على التمثيل؛ فإن هذا المثال كثيرا ما يمثل به من صنف في المنطق من علماء المسلمين، والمنطقيون يمثلون بصورة مجردة عن المواد لا تدل على شيء معين، لئلا يستفاد العلم بالمثال من صورة معينة كما يقولون‏:‏ كل أ‏:‏ ب، وكل ب ‏:‏ ج‏.‏ فكل أ‏:‏ ج، ولكن المقصود هو العلم المقصود من المواد المعينة، فإذا جردت يظن الظان أن هذا يحتاج إليه في المعينات، وليس الأمر كذلك، بل إذا طولبوا بالعلم بالمقدمتين الكليتين في جميع مطالبهم العقلية التي لم تؤخذ عن المعصومين تجدهم يحتجون بما يمكن معه العلم فيها بالمعينات المطلوبة بدون العلم بالقضية الكلية فلا يكون العلم بها موقوفًا على البرهان‏.‏
    فالقضايا النبوية لا تحتاج إلى القياس العقلي الذي سموه برهانا، وما يستفاد بالعقل من العلوم أيضًا لا يحتاج إلى قياسهم البرهاني، فلا يحتاج إليه لا في السمعيات ولا في العقليات، فامتنع أن يقال‏:‏ لا يحصل علم إلا بالقياس البرهاني الذي ذكروه‏.‏
    ومما يوضح ذلك‏:‏ أن القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية، فنحن لم ندرك بالحس إلا إحراق هذه النار وهذه النار، لم ندرك أن كل نار محرقة، فإذا جعلنا هذه قضية كلية، وقلنا‏:‏ كل نار محرقة، لم يكن لنا طريق

    ج/ 9 ص -113-نعلم به صدق هذه القضية الكلية علمًا يقينيًا، إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى‏.‏
    وإن قيل‏:‏ ليس المراد العلم بالأمور المعينة؛ فإن البرهان لا يفيد إلا العلم بقضية كلية، فالنتائج المعلومة بالبرهان لا تكون إلا كلية كما يقولون هم ذلك‏.‏ والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان‏.‏
    قيل‏:‏ فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشيء موجود، بل بأمور مقدرة في الأذهان لا يعلم تحققها في الأعيان، وإذا لم يكن في البرهان علم بموجود فيكون قليل المنفعة جدًا، بل عديم المنفعة‏.‏ وهم لا يقولون بذلك بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجية والإلهية ،ولكن حقيقة الأمر كما بيناه في غير هذا الموضع أن المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة، بل الأكثرية فلا تفيد مقصود البرهان‏.‏
    وأما الإلهيات، فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعية وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلا عن أن تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان؛ ولهذا حدثونا بإسناد متصل عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب ‏[‏كشف أسرار المنطق‏]‏ و ‏[‏الموجز‏]‏ وغيرهما أنه قال عند الموت‏:‏ أموت وما عرفت

    ج/ 9 ص -114-شيئًا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى المؤثر‏.‏ ثم قال‏:‏ الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئًا‏.‏ وكذلك حدثونا عن آخر من أفاضلهم‏.‏ وهذا أمر يعرفه كل من خبرهم، ويعرف أنهم أجهل أهل الأرض بالطرق التي تنال بها العلوم العقلية والسمعية، إلا من علم منهم علمًا من غير الطرق المنطقية، فتكون علومه من تلك الجهة، لا من جهتهم، مع كثرة تعبهم في البرهان الذي يزعمون أنهم يزنون به العلوم، ومن عرف منهم شيئًا من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق ‏.‏
    ومما يبين أن حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر إلى برهانهم من قضية كلية، أن العلم بتلك القضية الكلية لابد له من سبب، فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد، وأن حكم الشيء حكم مثله، كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة، فالنار الغائبة محرقة؛ لأنها مثلها، وحكم الشيء حكم مثله، فيقال‏:‏ هذا استدلال بالقياس التمثيلي وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن، فإذا كانوا إنما علموا القضية الكلية بقياس التمثيل، رجعوا في اليقين إلى ما يقولون‏:‏ إنه لا يفيد إلا الظن‏.‏ وإن قالوا‏:‏ بل عند الإحساس بالجزئيات يحصل في النفس علم كلي من واهب العقل- أو تسعد النفس عند الإحساس بالجزئيات لأن يفيض عليها الكلي من واهب العقل - أو قالوا‏:‏ من العقل الفعال - عندهم- أو نحو ذلك، قيل لهم‏:‏ الكلام فيها به يعلم أن الحكم الكلي الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل‏.‏

    ج/ 9 ص -115-فإن قالوا‏:‏ هذا العلم بالبديهة أو الضرورة، كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية معلومة بالبديهة والضرورة، وأن النفس مضطرة إلى هذا العلم‏.‏ وهذا إن كان حقًا، فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل أيضًا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع، فإن جزم العقلاء بالشخصيات من الحسيات، أعظم من جزمهم بالكليات وجزمهم بكلية الأنواع أعظم من جزمهم بكلية الأجناس، والعلم بالجزئيات أسبق إلى الفطرة، فجزم الفطرة بها أقوى‏.‏ ثم كلما قوى العقل، اتسعت الكليات وحينئذ فلا يجوز أن يقال‏:‏ إن العلم بالأشخاص موقوف على العلم بالأنواع والأجناس، ولا أن العلم بالأنواع موقوف على العلم بالأجناس، بل قد يعلم الإنسان أنه حساس متحرك بالإرادة قبل أن يعلم أن كل إنسان كذلك، ويعلم أن الإنسان كذلك قبل أن يعلم أن كل حيوان كذلك، فلم يبق علمه بأن غيره من الحيوان حساس متحرك بالإرادة موقوفًا على البرهان، وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان، فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد، أو أنه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركًا بالإرادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الأحكام الشرعية‏.‏
    وهؤلاء يزعمون أن ذلك القياس إنما يفيد الظن، وقياسهم هو الذي يفيد اليقين، وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم هذا من أفسد الأقوال، وأن

    ج/ 9 ص -116-قياس التمثيل وقياس الشمول سواء، وإنما يختلفان بالمادة المعينة فإن كانت يقينية في أحدهما، كانت يقينية في الآخر، وإن كانت ظنية في أحدهما ،كانت ظنية في الآخر؛ وذلك أن قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة، الأصغر والأوسط والأكبر، والحد الأوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطًا وجامعًا‏.‏
    فإذا قال في مسألة النبيذ‏:‏ كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فلابد له من إثبات المقدمة الكبرى، وحينئذ يتم البرهان، وحينئذ فيمكنه أن يقول‏:‏ النبيذ مسكر فيكون حرامًا قياسًا على خمر العنب بجامع ما يشتركان فيه من الإسكار، فإن الإسكار هو مناط التحريم في الأصل، وهو موجود في الفرع فبما به يقرر أن كل مسكر حرام، به يقرر أن السكر مناط التحريم بطريق الأولى، بل التفريق في قياس التمثيل أسهل عليه لشهادة الأصل له بالتحريم، فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات، ولا يكفي في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزأين لثبوته في الجزء الآخر، لاشتراكهما في أمر لم يقم دليل على استلزامه للحكم، كما يظنه بعض الغالطين، بل لابد أن يعلم أن المشترك بينهما مستلزم للحكم، والمشترك بينهما هو الحد الأوسط‏.‏وهذا يسميه الفقهاء وأهل أصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم، وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج إليه غالبًا

    ج/ 9 ص -117-في تقدير صحة القياس، فإن المعترض قد يمنع الوصف في الأصل، وقد يمنع الحكم في الأصل، وقد يمنع الوصف في الفرع، وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم، ويقول‏:‏ لا نسلم أن ما ذكرته في الوصف المشترك هو العلة أو دليل العلة، فلابد من دليل يدل على ذلك‏:‏ من نص أو إجماع أو سبر وتقسيم أو المناسبة أو الدوران عند من يستدل بذلك، فما دل على أن الوصف المشترك مستلزم للحكم إما علة وإما دليل العلة هو الذي يدل على أن الحد الأوسط مستلزم للأكبر، وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى، فإن أثبت العلة كان برهان علة، وإن أثبت دليلها كان برهان دلالة، وإن لم يفد العلم بل أفاد الظن، فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية، وهذا أمر بين، ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولي كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلي وحقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر‏.‏
    ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأى كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم‏:‏ من أن العقليات ليس فيها قياس، وإنما القياس في الشرعيات، ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقًا، فقولهم مخالف لقول نظار المسلمين، بل وسائر العقلاء، فإن القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات، فإنه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم، كان هذا

    ج/ 9 ص -118-دليلا في جميع العلوم، وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر، كان هذا دليلا في جميع العلوم وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي‏.‏
    وأبو المعالي ومن قبله من النظار لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها، بل يستدلون بالأدلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها، غير أن المنطقيين وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزمًا للحكم، كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل‏.‏ومنازعهم يقول‏:‏ لم يثبت الحكم في الغائب لأجل ثبوته في الشاهد، بل نفس القضية الكلية كافية في المقصود من غير احتياج إلى التمثيل، فيقال لهم‏:‏ وهكذا في الشرعيات، فإنه متى قام الدليل على أن الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج إلى الأصل، بل نفس الدليل الدال على أن الحكم يتعلق بالوصف كاف، لكن لما كان هذا كليًا، والكلى لا يوجد إلا معينًا، كان تعيين الأصل مما يعلم به تحقق هذا الكلي، وهذا أمر نافع في الشرعيات والعقليات، فعلمت أن القياس حيث قام الدليل على أن الجامع مناط الحكم أو على إلغاء الفارق بين الأصل والفرع فهو قياس صحيح، ودليل صحيح، في أي شيء كان‏.‏
    وقد تنازع الناس في مسمى القياس، فقالت طائفة من أهل الأصول‏:‏ هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ بل هو بالعكس حقيقة في الشمول مجاز في التمثيل

    ج/ 9 ص -119- كابن حزم وغيره‏.‏ وقال جمهور العلماء‏:‏ بل هو حقيقة فيهما، والقياس العقلي يتناولهما جميعا‏.‏ وهذا قول أكثر من تكلم في أصول الدين وأصول الفقه وأنواع العلوم العقلية وهو الصواب، فإن حقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر ،وإنما تختلف صورة الاستدلال‏.‏
    والقياس في اللغة‏:‏ تقدير الشيء بغيره، وهذا يتناول تقدير الشيء المعين بنظيره المعين، وتقديره بالأمر الكلي المتناول له ولأمثاله، فإن الكلى هو مثال في الذهن لجزئياته؛ ولهذا كان مطابقًا موافقًا له‏.‏
    وقياس الشمول هو انتقال الذهن من المعين إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول، وهو المعين فهو انتقال من خاص إلى عام، ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص، من جزئي إلى كلي، ثم من ذلك الكلي إلى الجزئي الأول، فيحكم عليه بذلك الكلي‏.‏ ولهذا كان الدليل أخص من مدلوله الذي هو الحكم فإنه يلزم من وجود الدليل وجود الحكم، واللازم لا يكون أخص من ملزومه، بل أعم منه أو مساويه، وهو المعنى بكونه أعم‏.‏

    ج/ 9 ص -120-والمدلول الذي هو محل الحكم وهو المحكوم عليه المخبر عنه الموصوف الموضوع إما أخص من الدليل أو مساويه، فيطلق عليه القول بأنه أخص منه لا يكون أعم من الدليل؛ إذ لو كان أعم منه، لم يكن الدليل لازمًا له، فلا يعلم ثبوت الحكم له، فلا يكون الدليل دليلا، وإنما يكون إذا كان لازمًا للمحكوم عليه الموصوف المخبر عنه الذي يسمى الموضوع، والمبتدأ مستلزمًا للحكم الذي هو صفة وخبر وحكم، وهو الذي يسمى المحمول والخبر، وهذا كالسكر الذي هو أعم من النبيذ المتنازع فيه، وأخص من التحريم، وقد يكون الدليل مساويًا في العموم والخصوص للحكم لازمًا للمحكوم عليه‏.‏ فهذا هو جهة دلالته سواء صور قياس شمول وتمثيل أو لم يصور كذلك‏.‏
    وهذا أمر يعقله القلب وإن لم يعبر عنه اللسان‏.‏ ولهذا كانت أذهان بني آدم تستدل بالأدلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم، وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم، وإن لم يسلكوا اصطلاح طائفة معينة من أهل الكلام ولا المنطق ولا غيرهم‏.‏ فالعلم بذلك الملزوم لابد أن يكون بينًا بنفسه أو بدليل آخر‏.‏
    وأما قياس التمثيل، فهو انتقال الذهن من حكم معين إلى حكم معين، لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلي؛ لأن ذلك الحكم يلزم المشترك الكلي‏.‏ ثم العلم بذلك اللزوم لابد له من سبب؛ إذا لم يكن بينا كما تقدم، فهو يتصور المعينين أولا، وهما الأصل والفرع ثم ينتقل إلى لازمهما

    ج/ 9 ص -121-وهو المشترك، ثم إلى لازم اللازم وهو الحكم، ولابد أن يعرف أن الحكم لازم المشترك، وهو الذي يسمى هناك قضية كبرى، ثم ينتقل إلى إثبات هذا اللازم للملزوم الأول المعين، فهذا هو هذا في الحقيقة، وإنما يختلفان في تصوير الدليل ونظمه، وإلا فالحقيقة التي بها صار دليلًا، وهو أنه مستلزم للمدلول حقيقة واحدة‏.‏
    ومن ظلم هؤلاء وجهلهم أنهم يضربون المثل في قياس التمثيل بقول القائل‏:‏ السماء مؤلفة فتكون محدثة قياسًا على الإنسان‏.‏ ثم يوردون على هذا القياس ما يختص به، فإنه لو قيل‏:‏ السماء مؤلفة وكل مؤلف محدث، لورد عليه هذه الأسئلة وزيادة، ولكن إذا أخذ قياس الشمول في مادة بينة، لم يكن فرق بينه وبين قياس التمثيل، فإن الكلي هو مثال في الذهن لجزئياته؛ ولهذا كان مطابقًا موافقًا له بل قد يكون التمثيل أبين‏.‏ ولهذا كان العقلاء يقيسون به وكذلك قولهم في الحد ‏:‏ إنه لا يحصل بالمثال إنما ذلك في المثال الذي يحصل به التمييز بين المحدود وغيره، بحيث يعرف به ما يلازم المحدود طردًا وعكسًا بحيث يوجد حيث وجد وينتفي حيث انتفى فإن الحد المميز للمحدود هو ما به يعرف الملازم المطابق طردًا وعكسا ،فكلما حصل هذا فقد ميز المحدود من غيره‏.‏ وهذا هو الحد عند جماهير النظار، ولا يسوغون إدخال الجنس العام في الحد‏.‏ فإذا كان المقصود الحد بحسب الاسم فسأل بعض العجم عن مسمى الخبز، فأرى رغيفًا وقيل له هذا، فقد يفهم أن هذا لفظ يوجد

    ج/ 9 ص -122-فيه كل ما هو خبز، سواء كان على صورة الرغيف أو غير صورته‏.‏
    وقد بسط الكلام على ما ذكروه وذكره المنطقيون في الكلام على المحصل وغير ذلك وجد هذا في الأمثلة المجردة؛ إذا كان المقصود إثبات الجيم للألف والحد الأوسط هو الباء، فقيل‏:‏ كل ألف باء وكل باء جيم أنتج كل ألف جيم‏.‏ وإذا قيل‏:‏ كل ألف جيم قياسا على الدال؛ لأن الدال هي جيم وإنما كانت جيمًا؛ لأنها باء والألف أيضا باء، فيكون الألف جيمًا لاشتراكهما في المستلزم للجيم وهو الباء، كان هذا صحيحًا في معنى الأول لكن فيه زيادة مثال قيست عليه الألف، مع أن الحد الأوسط وهو الباء موجود فيها‏.‏
    فإن قيل‏:‏ ما ذكرتموه من كون البرهان لابد فيه من قضية كلية صحيح؛ ولهذا لا يثبتون به إلا مطلوبًا كليًا‏.‏
    ويقولون‏:‏ البرهان لا يفيد إلا الكليات، ثم أشرف الكليات هي العقليات المحضة التي لا تقبل التغيير والتبديل، وهي التي تكمل بها النفس فتصير عالما معقولا موازيًا للعالم الموجود بخلاف القضايا التي تتبدل وتتغير‏.‏
    وإذا كان المطلوب به هو الكليات العقلية التي لا تقبل التبديل والتغيير،

    ج/ 9 ص -123-فتلك إنما تحصل بالقضايا العقلية الواجب قبولها، بل إنما تكون في القضايا التي جهتها الوجوب، كما يقال‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل موجود فإما واجب وإما ممكن، ونحو ذلك من الكلية التي لا تقبل التغيير‏.‏
    ولهذا كانت العلوم ثلاثة‏:‏ إما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج، وهو ‏[‏الطبيعي‏]‏ وموضوعه الجسم، وإما مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج، وهو ‏[‏الرياضي‏]‏‏:‏ كالكلام في المقدار والعدد‏.‏ وأما ما يتجرد عن المادة منها، وهو ‏[‏الإلهي‏]‏ وموضوعه الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود، كانقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض‏.‏ وانقسام الجوهر إلى ما هو حال وإلى ما هو محل‏.‏ وما ليس بحال ولا محل، بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير، وإلى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك‏.‏
    فالأول‏:‏ هو الصورة‏.‏ والثاني‏:‏ هو المادة‏.‏ وهو الهيولى ومعناه في لغتهم المحل‏.‏ والثالث ‏:‏ هو النفس‏.‏ والرابع ‏:‏ هو العقل‏.‏
    والأول يجعله أكثرهم من مقولة الجوهر، ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرًا، وقالوا‏:‏ الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع، أي لا في محل يستغنى عن الحال فيه، وهذا إنما يكون فيما وجوده غير ماهيته، والأول ليس كذلك، فلا يكون جوهرًا‏.‏ وهذا مما

    ج/ 9 ص -124-خالفوا فيه سلفهم، ونازعوهم فيه نزاعًا لفظيًا، ولم يأتوا بفرق صحيح معقول، فإن تخصيص اسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي، وأولئك يقولون‏:‏ بل هو كل ما ليس في موضوع، كما يقول المتكلمون‏:‏ كل ما هو قائم بنفسه، أو كل ما هو متحيز، أو كل ما قامت به الصفات، أو كل ما حمل الأعراض ونحو ذلك‏.‏
    وأما الفرق المعنوي، فدعواهم أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل، ودعواهم أن الأول وجود مقيد بالسلوب أيضا باطل، كما هو مبسوط في موضعه، والمقصود هنا الكلام على البرهان‏.‏
    فيقال‏:‏ هذا الكلام، وإن ضل به طوائف، فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه، لكن ننبه هنا على بعض ما فيه، وذلك من وجوه‏:‏
    الأول‏:‏ أن يقال‏:‏ إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات، والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا موجود معين، لم يعلم بالبرهان شيء من المعينات، فلا يعلم به موجود أصلا، بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الأذهان‏.‏ ومعلوم أن النفس لو قدر أن كمالها في العلم فقط، وإن كانت هذه قضية كاذبة، كما بسط في موضعه، فليس هذا علمًا تكمل به النفس؛ إذ لم تعلم شيئًا من

    ج/ 9 ص -125-الموجودات، ولا صارت عالما معقولًا موازيًا للعالم الموجود، بل صارت عالما لأمور كلية مقدرة لا يعلم بها شيء من العالم الموجود، وأي خير في هذا فضلا عن أن يكون كمالا‏.‏
    والثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ أشرف الموجودات هو ‏[‏واجب الوجود‏]‏، ووجوده معين لا كلي؛ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، بل إنما علم أمر كلي مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود، وكذلك ‏[‏الجواهر العقلية‏]‏ عندهم، وهي العقول العشرة، أو أكثر من ذلك عند من يجعلها أكثر من ذلك عندهم، كالسهروردي المقتول، وأبي البركات وغيرهما‏.‏ كلها جواهر معينة، لا أمور كلية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم نعلم شيئًا منها، وكذلك الأفلاك التي يقولون‏:‏ إنها أزلية أبدية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم تكن معلومة، فلا نعلم واجب الوجود ولا العقول، ولا شيئًا من النفوس ولا الأفلاك ولا العناصر ولا المولدات، وهذه جملة الموجودات عندهم، فأي علم هنا تكمل به النفس‏؟‏
    الثالث‏:‏ أن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والرياضي والإلهي، وجعلهم الرياضي أشرف من الطبيعي‏.‏ والإلهي أشرف من الرياضي، هو مما قلبوا به الحقائق، فإن العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج، ومبدأ

    ج/ 9 ص -126-حركاتها وتحولاتها من حال إلى حال، وما فيها من الطبائع أشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة، فإن كون الإنسان لا يتصور إلا شكلا مدورًا أو مثلثًا أو مربعًا ولو تصور كل ما في إقليدس أو لا يتصور إلا أعدادًا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج، وليس ذلك كمال النفس، ولولا أن ذلك طلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجة التي هي أجسام وأعراض لما جعل علمًا، وإنما جعلوا علم الهندسة مبدأ تعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة، أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا، هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية‏.‏
    فإن علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل، والهندسة التي هي علم بالكم المتصل، علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة، مثل جمع الأعداد وقسمتها وضربها ونسبة بعضها إلى بعض، فإنك إذا جمعت مائة إلى مائة علمت أنهما مائتان‏.‏ فإذا قسمتها على عشرة كان لكل واحد عشرة وإذا ضربتها في عشرة، كان المرتفع مائة، والضرب مقابل للقسمة، فإن ضرب الأعداد الصحيحة تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، فإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد العددين خرج المضروب الآخر‏.‏وإذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم،فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب،فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم عليه، والنسبة

    ج/ 9 ص -127-تجمع هذه كلها، فنسبة أحد المضروبين إلى المرتفع كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر، ونسبة المرتفع إلى أحد المضروبين نسبة الآخر إلى الواحد‏.‏
    فهذه الأمور وأمثالها مما يتكلم فيه الحساب أمر معقول مما يشترك فيه ذوو العقول، وما من أحد من الناس إلا يعرف منه شيئًا فإنه ضروري في العلم، ولهذا يمثلون به في قولهم‏:‏ الواحد نصف الاثنين، ولا ريب أن قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة‏.‏
    وهذا كان مبدأ فلسفتهم التي وضعها ‏[‏فيثاغورس‏]‏ وكانوا يسمون أصحابه أصحاب العدد، وكانوا يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارجة عن الذهن، ثم تبين لأفلاطون وأصحابه غلط ذلك، وظنوا أن الماهيات المجردة كالإنسان والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وأنها أزلية أبدية، ثم تبين لأرسطو وأصحابه غلط ذلك، فقالوا‏:‏ بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الأشخاص، ومشى من مشى من أتباع أرسطو من المتأخرين على هذا، وهو أيضًا غلط‏.‏ فإن ما في الخارج ليس بكلي أصلا، وليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص‏.‏ وإذا قيل‏:‏ الكلي الطبيعي في الخارج، فمعناه إنما هو كلي في الذهن يوجد في الخارج، لكن إذا وجد في الخارج لا يكون إلا معينًا، لا يكون كليًا، فكونه كليا مشروط بكونه في الذهن، ومن أثبت ماهية لا في الذهن

    ج/ 9 ص -128- ولا في الخارج، فتصور قوله تصورًا تامًا يكفي في العلم بفساد قوله، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏
    والمقصود هنا أن هذا العلم هو الذي تقوم عليه براهين صادقة، لكن لا تكمل بذلك نفس، ولا تنجو به من عذاب، ولا تنال به سعادة؛ ولهذا قال أبوحامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء‏:‏ هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم‏.‏ يشيرون بالأول إلى العلوم الرياضية، وبالثاني إلى ما يقولونه في الإلهيات وفي أحكام النجوم ونحو ذلك؛ لكن قد تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك، فإن الإنسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه، وسماع ما لم يكن سمعه، إذا لم يكن مشغولا عن ذلك بما هو أهم عنده منه، كما قد يلتذ بأنواع من الأفعال التي هي من جنس اللهو واللعب‏.‏
    وأيضًا، ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم الصحيح، والقضايا الصحيحة الصادقة، والقياس المستقيم، فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك، وتعود النفس أنها تعلم الحق وتقوله، لنستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك، ولهذا يقال‏:‏ إنه كان أوائل الفلاسفة أول ما يعلمون أولادهم العلم الرياضي، وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك؛ لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل، ولم

    ج/ 9 ص -129-يجد في ذلك ما هو حق، أخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي، كما كان يتحرى مثل ذلك من هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره‏.‏ وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك؛ لأن فيه تفريحًا للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط‏.‏
    وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ إذا لهوتم فالهوا بالرمي، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض‏.‏ فإن حساب الفرائض علم معقول مبني على أصل مشروع، فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع، لكن ليس هو علمًا يطلب لذاته، ولا تكمل به النفس‏.‏
    وأولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ويدعونها بأنواع الدعوات‏.‏ كما هو معروف من أخبارهم، وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعة في الشرك والسحر ودعوة الكواكب والعزائم والأقسام التي بها يعظم إبليس وجنوده‏.‏ وكان الشيطان بسبب الشرك والسحر يغويهم بأشياء هي التي دعتهم إلى ذلك الشرك والسحر، وكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها، ومقادير حركاتها وما بين بعضها من الاتصالات، مستعينين بذلك على ما يرونه مناسبًا لها‏.‏

    ج/ 9 ص -130-ولما كانت الأفلاك مستديرة، ولم يمكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة وأحكام الخطوط المستقيمة والمنحنية، تكلموا في ‏[‏الهندسة‏]‏ لذلك ولعمارة الدنيا؛ فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك، وإلا فلو لم يتعلق بذلك غرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير، لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور، وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك، فإن لذات النفوس أنواع، ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار، حتى يشغله ذلك عما هو أنفع له منه‏.‏
    وكان مبدأ وضع ‏[‏المنطق‏]‏ من الهندسة، وسموه حدودًا، لحدود تلك الأشكال؛ لينتقلوا من الشكل المحسوس إلى الشكل المعقول؛ وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم إلا بالطريق البعيدة‏.‏ والله تعالى يسر للمسلمين من العلم والبيان والعمل الصالح والإيمان ما برزوا به على كل نوع من أنواع جنس الإنسان‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏
    وأما ‏[‏العلم الإلهي‏]‏ الذي هو عندهم مجرد عن المادة في الذهن والخارج، فقد تبين لك أنه ليس له معلوم في الخارج، وإنما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية إلا في الذهن، وليس في هذا من كمال النفس شيء‏.‏ وإن عرفوا واجب الوجود بخصوصه، فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وهذا مما لا يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان، فبرهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه، لا واجب الوجود ولا غيره،

    ج/ 9 ص -131-وإنما يدل على أمر كلي‏.‏ والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه‏.‏ وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه‏.‏ ومن لم يتصور ما يمنع الشركة فيه لم يكن قد عرف الله، ومن لم يثبت للرب إلا معرفة الكليات كما يزعمه ابن سينا وأمثاله، وظن أن ذلك كمال للرب، فكذلك يظنه كمالا للنفس بطريق الأولى، لا سيما إذا قال‏:‏ إن النفس لا تدرك إلا الكليات، وإنما يدرك الجزئيات البدن- فهذا في غاية الجهل، وهذه الكليات التي لا تعرف بها الجزئيات الموجودة، لا كمال فيها البتة، والنفس إنما تحب معرفة الكليات، لتحيط بها بمعرفة الجزئيات، فإذا لم يحصل ذلك لم تفرح النفس بذلك‏.‏
    الوجه الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ هب أن النفس تكمل بالكليات المجردة، كما يزعمون، فما يذكرونه في العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه ليس كذلك؛ فإن تصور معني الوجود فقط أمر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره، فليس هو المطلوب وإنما المطلوب أقسامه، ونفس أقسامه إلى واجب وممكن، وجوهر وعرض، وعلة ومعلول، وقديم وحادث‏:‏ هو أخص من مسمى الوجود، وليس في مجرد انقسام الأمر العام في الذهن إلى أقسام بدون معرفة الأقسام ما يقتضى علما كليا عظيما عاليا على تصور الوجود‏.‏
    فإذا عرفت الأقسام فليس ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغيير والاستحالة، وليس معهم دليل أصلا يدلهم أن العالم لم يزل ولا يزال هكذا، وجميع

    ج/ 9 ص -132-ما يحتجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك، فإنما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه، لا قدم شيء معين ولا دوام شيء معين‏.‏ فالجزم أن مدلول تلك الأدلة هو هذا العالم أو شيء منه، جهل محض لا مستند له، إلا عدم العلم بموجود غير هذا العالم، وعدم العلم ليس علمًا بالعدم‏.‏
    ولهذا لم يكن عند القوم إيمان بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، فهم لا يؤمنون لا بالله ولا بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ نحن نثبت العالم العقلي أو المعقول الخارج عن المحسوس، وذلك هو الغيب، فإن هذا وإن كان قد ذكره طائفة من المتكلمة والمتفلسفة خطأ وضلال، فإن ما يثبتونه من المعقولات، إنما يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان، لا موجودة في الأعيان‏.‏
    والرسل أخبرت عما هو موجود في الخارج وهو أكمل وأعظم وجودًا مما نشهده في الدنيا‏.‏ فأين هذا من هذا‏؟‏‏!‏ وهم لما كانوا مكذبين بما أخبرت به الرسل قالوا‏:‏ إن الرسل قصدوا إخبار الجمهور بما يتخيل إليهم لينتفعوا بذلك في العدل الذي أقاموه لهم‏.‏
    ثم منهم من يقول‏:‏ إن الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الأمور‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بل لم يكونوا يعرفون هذا، وإنما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية‏.‏

    ج/ 9 ص -133-وأقل أتباع الرسل إذا تصور حقيقة ما عندهم، وجده مما لا يرضى به أقل أتباع الرسل‏.‏ وإذا علم بالأدلة العقلية أن هذا العالم يمتنع أن يكون شيء منه قديمًا أزليًا، وعلم بأخبار الأنبياء المؤيدة بالعقل أنه كان قبله عالما آخر منه خلق، وأنه سوف يستحيل وتقوم القيامة ونحو ذلك، علم أن غاية ما عندهم من الأحكام الكلية ليست مطابقة بل هي جهل لا علم‏.‏
    وهب أنهم لا يعلمون ما أخبرت به الرسل، فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الأنواع الكلية في هذا العالم، أزلية أبدية، لم تزل ولا تزال‏.‏ فلا يكون العلم بذلك علما بكليات ثابتة، وعامة ‏[‏فلسفتهم الأولى‏]‏ و ‏[‏حكمتهم العليا‏]‏ من هذا النمط، وكذلك من صنف على طريقتهم؛ كصاحب ‏[‏المباحث المشرقية‏]‏، وصاحب ‏[‏حكمة الإشراق‏]‏، وصاحب ‏[‏دقائق الحقائق‏]‏، و‏[‏رموز الكنوز‏]‏، وصاحب ‏[‏كشف الحقائق‏]‏، وصاحب ‏[‏الأسرار الخفية في العلوم العقلية‏]‏، وأمثال هؤلاء، ممن لم يجرد القول لنصر مذهبهم مطلقًا، ولا تخلص من إشراك ضلالهم مطلقًا، بل شاركهم في كثير من ضلالهم، وشاركهم في كثير من محالهم، وتخلص من بعض وبالهم، وإن كان أيضا لم ينصفهم في بعض ما أصابوا، وأخطأ لعدم علمه بمرادهم أو لعدم معرفته أن ما قالوا صواب‏.‏ ثم إن هؤلاء إنما يتبعون كلام ابن سينا‏.‏
    و‏[‏ابن سينا‏]‏ تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم، ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من

    ج/ 9 ص -134-المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية‏.‏ وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض‏.‏ وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا كبارًا وصغارًا، وجاهدوهم باللسان واليد؛ إذ كانوا بذلك أحق من اليهود والنصارى‏.‏ ولو لم يكن إلا كتاب ‏[‏كشف الأسرار وهتك الأستار‏]‏ للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب، وكتاب عبد الجبار بن أحمد، وكتاب أبي حامد الغزالي، وكلام أبي إسحاق، وكلام ابن فورك، والقاضي أبي يعلي، والشهرستاني، وغير هذا مما يطول وصفه‏.‏
    والمقصود هنا أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة؛ كأرسطو وأتباعه؛ فإن أولئك ليس عندهم من العلم باللّه إلا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه‏.‏
    وقد ذكرت كلام أرسطو نفسه الذي ذكره في ‏[‏علم ما بعد الطبيعة‏]‏ في ‏[‏مقالة اللام‏]‏ وغيرها، وهو آخر منتهى فلسفته وبينت بعض ما فيه من الجهل، فإنه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الإلهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى وأهل البدع من المسلمين وغيرهم أجهل

    ج/ 9 ص -135-من هؤلاء، ولا أبعد عن العلم بالله تعالى منهم‏.‏ نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم قد يقصدون الحق، لا يظهر عليهم العناد، لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية، ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ‏.‏
    وابن سينا لما عرف شيئًا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه، ومما أحدثه مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود، ونحو ذلك، وإلا فأرسطو وأتباعه ليس في كلامهم ذكر واجب الوجود، ولا شيء من الأحكام التي لواجب الوجود، وإنما يذكرون ‏[‏العلة الأولى‏]‏ ويثبتونه من حيث هو علة غائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به‏.‏
    فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح، حتى راجت على من يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصار يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض، فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده، ولكن سلموا لهم أصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات، ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل، فصار ذلك سببًا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية، ومقاصد سامية قرآنية، خرجوا بها

    ج/ 9 ص -136-عن حقيقة العلم والإيمان، وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون، بل يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات‏.‏
    والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم، كما زعموه، مع أنه قول باطل، فإن النفس لها قوتان‏:‏ قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلابد لها من كمال القوتين بمعرفة الله وعبادته، وعبادته تجمع محبته والذل له، فلا تكمل نفس فقط إلا بعبادة الله وحده لا شريك له‏.‏
    والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له، وبهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب الإلهية كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له‏.‏ وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل، مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العملية، فيجعلون العبادات وسائل محضة إلى ما يدعونه من العلم، ولذلك يرون هذا ساقطا عمن حصل المقصود، كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية ومن دخل في الإلحاد أو بعضه، وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم‏.‏
    فالجهمية قالوا‏:‏ الإيمان مجرد معرفة الله‏.‏ وهذا القول وإن كان خيرًا من قولهم فإنه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله‏.‏ وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولواحقه، وهذا أمر

    ج/ 9 ص -137-لو كان له حقيقة في الخارج، لم يكن كمالا للنفس إلا بمعرفة خالقها سبحانه وتعالى‏.‏ فهؤلاء الجهمية من أعظم المبتدعة، بل جعلهم غير واحد خارجين عن الثنتين وسبعين فرقة، كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وهو قول طائفة من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم‏.‏ وقد كفر غير واحد من الأئمة - كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما - من يقول هذا القول‏.‏ وقالوا‏:‏ هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون واليهود - الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم - مؤمنين‏.‏
    فقول الجهمية خير من قول هؤلاء، فإن ما ذكروه هو أصل ما تكمل به النفوس، لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين إرادتها التي هي مبدأ القوة العملية، وجعلوا الكمال في نفس العلم، وإن لم يصدقه قول ولا عمل ولا اقترن به من الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك مما هو من أصول الإيمان ولوازمه‏.‏ وأما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد‏.‏
    والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط، وإنما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب أصولهم الفاسدة‏.‏
    واعلم أن بيان ما في كلامهم من الباطل والنقض، لا يستلزم كونهم أشقياء في الآخرة إلا إذا بعث الله إليهم رسولا فلم يتبعوه، بل يعرف به أن من جاءته الرسل بالحق فعدل عن طريقهم إلى طريق هؤلاء، كان من الأشقياء في الآخرة‏.

    ج/ 9 ص -138-والقوم لولا الأنبياء لكانوا أعقل من غيرهم، لكن الأنبياء جاؤوا بالحق وبقاياه في الأمم وإن كفروا ببعضه، حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين إبراهيم، فكانوا خيرًا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون أرسطو وأمثاله على أصولهم‏.‏
    الوجه الخامس ‏:‏أنه إن كان المطلوب بقياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة، فتلك ليس فيها ما هو واجب البقاء على حال واحدة أزلًا وأبدًا، بل هي قابلة للتغير والاستحالة وما قدر أنه من اللازم لموصوفه، فنفس الموصوف ليس واجب البقاء، فلا يكون العلم به علمًا بموجود واجب الوجود، وليس لهم على أزلية شيء من العالم دليل صحيح، كما بسط في موضعه، وإنما غاية أدلتهم تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة‏.‏ وذلك ممكن بوجود عين بعد عين من ذلك النوع أبدًا، مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم، كما هو مقتضى العقل الصريح والنقل الصحيح، فإن القول بأن المفعول المعين مقارن لفاعله أزلا وأبدا مما يقضي صريح العقل بامتناعه، أي شيء قدر فاعله، لاسيما إذا كان فاعلا باختياره، كما دلت عليه الدلائل اليقينية ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة أصول العلم والدين؛ كالرازي وأمثاله كما بسط في موضعه‏.‏
    وما يذكرون من اقتران المعلول بعلته، فإذا أريد بالعلة، ما يكون مبدعًا للمعلول، فهذا باطل بصريح العقل؛ولهذا تقر بذلك جميع الفطر السليمة التي

    ج/ 9 ص -139-لم تفسد بالتقليد الباطل‏.‏ ولما كان هذا مستقرًا في الفطر، كان نفس الإقرار بأنه خالق كل شيء موجبا لأن يكون كل ما سواه محدثًا مسبوقًا بالعدم، وإن قدر دوام الخالقية المخلوق بعد مخلوق، فهذا لا ينافى أن يكون خالقًا لكل شيء، وما سواه محدث مسبوق بالعدم ليس معه شيء سواه قديم بقدمه، بل ذلك أعظم في الكمال والجود والأفضال‏.‏
    وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليد، وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل في شيء، بل هو من باب المشروط، والشرط قد يقارن المشروط، وأما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين، وإن لم يمتنع أن يكون فاعلا لشيء بعد شيء، فقدم نوع الفعل كقدم نوع الحركة، وذلك لا ينافى حدوث كل جزء من أجزائها، بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه‏.‏ وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الأمم حتى أرسطو وأتباعه، فإنهم وإن قالوا بقدم العالم، فهم لم يثبتوا له مبدعًا، ولا علة فاعلية، بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها، لأن حركة الفلك إرادية‏.‏
    وهذا القول، وهو أن الأول ليس مبدعًا للعالم، وإنما هو علة غائية للتشبه به، وإن كان في غاية الجهل والكفر، فالمقصود أنهم وافقوا سائر العقلاء في أن الممكن المعلول لا يكون قديمًا بقدم علته، كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه؛ ولهذا أنكر هذا القول ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة

    ج/ 9 ص -140-أرسطو وسائر العقلاء في ذلك، وبينوا أن ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء، وكان قصده أن يركب مذهبًا من مذاهب المتكلمين ومذهب سلفه فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب، مع كونه أزليًا قديمًا بقدمه‏.‏ واتبعه على إمكان ذلك أتباعه في ذلك كالسهروردي الحلبي والرازي والآمدي والطوسي وغيرهم‏.‏
    وزعم الرازي فيما ذكره في محصله أن القول بكون المفعول المعلول يكون قديما للموجب بالذات مما اتفق عليه الفلاسفة المتقدمون الذين نقلت إلينا أقوالهم؛ كأرسطو وأمثاله‏.‏ وإنما قاله ابن سينا وأمثاله‏.‏ والمتكلمون إذ قالوا بقدم ما يقوم بالقديم من الصفات ونحوها، فلا يقولون‏:‏ إنها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة، بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم، فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب قديمًا إلا بصفاته اللازمة له، كما قد بسط في موضعه‏.‏ ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله‏.‏
    وكذلك أساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم ويمتنع أن يكون الممكن لم يزل واجبًا، سواء قيل‏:‏إنه واجب بنفسه أو بغيره‏.‏ ولكن ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أن الممكن قد يكون قديمًا واجبًا بغيره أزليا أبديًا كما يقولونه في الفلك هو الذي فتح عليهم في ‏[‏الإمكان‏]‏ من الأسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم أن يجيبوا عنه، كما بسط في موضعه‏.‏ فإن هذا ليس موضع

    ج/ 9 ص -141- تقرير هذا، ولكن نبهنا به على أن برهانهم القياسي لا يفيد أمورًا كلية واجبة البقاء في الممكنات‏.‏وأما واجب الوجود تبارك وتعالى فالقياس لا يدل على ما يختص به، وإنما يدل على أمر مشترك كلي بينه وبين غيره، إذ كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس إلا أمورًا كلية مشتركة، وتلك لا تختص بواجب الوجود رب العالمين سبحانه وتعالى فلم يعرفوا ببرهانهم شيئًا من الأمور التي يجب دوامها، لا من الواجب ولا من الممكنات‏.‏
    وإذا كانت النفس إنما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه، لم يستفيدوا ببرهانهم ما تكمل به النفس من العلم، فضلا عن أن يقال‏:‏ إن ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل إلا ببرهانهم، ولهذا كانت طريقة الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته‏.‏
    وإن استعملوا في ذلك ‏[‏القياس‏]‏، استعملوا قياس الأولى، لم يستعملوا قياس شمول تستوى أفراده، ولا قياس تمثيل محض، فإن الرب تعالى لا مثيل له، ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوى أفراده، بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه، فثبوته له بطريق الأولي‏.‏ وما تنزه غيره عنه من النقائص، فتنزهه عنه بطريق الأولى؛ ولهذا كانت الأقيسة العقلية البرهانية المذكورة

    ج/ 9 ص -142-في القرآن من هذا الباب، كما يذكره في دلائل ربوبيته وإلهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وإمكان المعاد، وغير ذلك من المطالب العالية السنية، والمعالم الإلهية التي هي أشرف العلوم وأعظم ما تكمل به النفوس من المعارف، وإن كان كمالها لابد فيه من كمال علمها وقصدها جميعًا، فلابد من عبادة الله وحده، المتضمنة لمعرفته ومحبته والذل له‏.‏
    وأما استدلاله تعالى بالآيات فكثير في القرآن ‏.‏
    والفرق بين الآيات وبين القياس‏:‏ أن ‏[‏الآية‏]‏ هي العلامة، وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول، لا يكون مدلوله أمرًا كليًا مشتركًا بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار، قال الله تعالى‏:‏
    ‏"‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏"‏‏[‏الإسراء‏:‏12‏]‏، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار، وكذلك نبوة محمد ﷺ‏:‏ العلم بنبوته بعينه لا يوجب أمرًا مشتركًا بينه وبين غيره‏.‏
    وكذلك آيات الرب تعالى نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى، لا يوجب علمًا كليا مشتركًا بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزمًا لهذا هو جهة الدليل، فكل دليل في الوجود لابد أن يكون مستلزمًا للمدلول، والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب أقرب إلى الفطرة من العلم بأن كل معين

    ج/ 9 ص -143-من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة، والقضايا الكلية هذا شأنها‏.‏
    فإن القضايا الكلية إن لم تعلم معيناتها بغير التمثيل وإلا لم تعلم إلا بالتمثيل، فلابد من معرفة لزوم المدلول للدليل الذي هو الحد الأوسط، فإذا كان كليا فلابد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الحكم الكلي المطلوب يلزم كل فرد من أفراد الدليل، كما إذا قيل‏:‏ كل أ‏:‏ ب، وكل ب‏:‏ ج، فكل ج ‏:‏أ، فلابد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الجيم يلزم كل فرد من أفراد الباء وكل فرد من أفراد الباء يلزم كل فرد من أفراد الألف‏.‏ ومعلوم أن العلم بلزوم الجيم المعين للباء المعين، والباء المعين للألف المعين أقرب إلى الفطرة من هذا‏.‏ وإذا قيل‏:‏ تلك القضية الكلية تحصل في الذهن ضرورة أو بديهة من واهب العقل‏.‏ قيل‏:‏ حصول تلك القضية المعينة في الذهن من واهب العقل أقرب‏.‏ ومعلوم أن كل ما سوى الله من الممكنات فإنه مستلزم لذات الرب تعالى‏.‏ يمتنع وجوده بدون وجود ذات الرب تعالى، وتقدس، وإن كان مستلزمًا أيضًا لأمور كلية مشتركة بينه وبين غيره فلأنه يلزم من وجوده وجود لوازمه‏.‏
    وتلك الكليات المشتركة من لوازم المعين، أعني يلزمه ما يخصه من ذلك الكلي العام، والكلي المشترك يلزمه بشرط وجوده، ووجود العالم الذي يتصور القدر المشترك وهو سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، فيعلم نفسه المقدسة بما يخصها، ويعلم الكليات أنها كليات، فيلزم من وجود الخاص وجود العام المطلق، كما يلزم من وجود هذا الإنسان وجود الإنسانية والحيوانية، فكل ما

    ج/ 9 ص -144-سوى الرب مستلزم لنفسه المقدسة بعينها، يمتنع وجود شيء سواه بدون وجود نفسه المقدسة، فإن الوجود المطلق الكلي لا تحقق له في الأعيان‏.‏ فضلا عن أن يكون خالقًا لها مبدعًا‏.‏
    ثم يلزم من وجود المعين وجود المطلق المطابق، فإذا تحقق الموجود الواجب، تحقق الوجود المطلق المطابق، وإذا تحقق الفاعل لكل شيء، تحقق الفاعل المطلق المطابق، وإذا تحقق القديم الأزلي، تحقق القديم المطلق المطابق، وإذا تحقق الغني عن كل شيء، تحقق الغني المطلق المطابق، وإذا تحقق رب كل شيء تحقق الرب المطابق، كما ذكرنا أنه إذا تحقق هذا الإنسان وهذا الحيوان تحقق الإنسان المطلق المطابق، والحيوان المطلق المطابق، لكن المطلق لا يكون مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فإذا علم إنسان وجود إنسان مطلق وحيوان مطلق لم يكن عالما بنفس العين‏.‏
    كذلك إذا علم واجبا مطلقا وفاعلا مطلقًا وغنيا مطلقا، لم يكن عالما بنفس رب العالمين وما يختص به عن غيره، وذلك هو مدلول آياته تعالى‏.‏ فآياته تستلزم عينه التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها‏.‏ وكل ما سواه دليل على عينه وآية له، فإنه ملزوم لعينه وكل ملزوم فإنه دليل على ملزوم، ويمتنع تحقق شيء من الممكنات إلا مع تحقق عينه، فكلها لازمة لنفسه دليل عليه آية له، ودلالتها بطريق قياسهم على الأمر المطلق الكلي الذي لا يتحقق إلا في الذهن فلم يعلموا ببرهانهم ما يختص بالرب تعالى‏.‏

    ج/ 9 ص -145-وأما ‏[‏ قياس الأولى ‏]‏ الذي كان يسلكه السلف اتباعًا للقرآن، فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتًا لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا ينحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم من كل ما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره‏.‏
    فكان ‏[‏قياس الأولى‏]‏ يفيده أمرًا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر، ولهذا كان الحذاق يختارون أن الأسماء المقولة عليه وعلى غيره مقولة بطريق التشكيك، ليست بطريق الاشتراك اللفظي ولا بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتماثل أفراده، بل بطريق الاشتراك المعنوي الذي تتفاضل أفراده، كما يطلق لفظ البياض والسواد على الشديد كبياض الثلج وعلى ما دونه كبياض العاج‏.‏ فكذلك لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، وهو في الواجب أكمل وأفضل من فضل هذا البياض على هذا البياض، لكن هذا التفاضل في الأسماء المشككة لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركًا كليًا فلابد في الأسماء المشككة من معنى كلي مشترك وإن كان ذلك لا يكون إلا في الذهن‏.‏
    وذلك هو مورد ‏[‏التقسيم‏]‏؛ تقسيم الكلي إلى جزئياته إذا قيل‏:‏ الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، فإن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام، ثم كون

    ج/ 9 ص -146-وجود هذا الواجب أكمل من وجود الممكن لا يمنع أن يكون مسمى الوجود معنى كليًا مشتركًا بينهما، وهكذا في سائر الأسماء والصفات المطلقة على الخالق والمخلوق، كاسم الحي والعليم والقدير والسميع والبصير، وكذلك في صفاته كعلمه وقدرته ورحمته ورضاه وغضبه وفرحه، وسائر ما نطقت به الرسل من أسمائه وصفاته‏.‏
    والناس تنازعوا في هذا الباب‏.‏ فقالت طائقة كأبي العباس الناشى من شيوخ المعتزلة الذين كانوا أسبق من أبي علي ‏:‏ هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق‏.‏ وقالت طائفة من الجهمية والباطنية والفلاسفة بالعكس‏:‏هي مجاز في الخالق حقيقة في المخلوق‏.‏ وقال جماهير الطوائف‏:‏ هي حقيقة فيهما‏.‏ وهذا قول طوائف النظار من المعتزلة الأشعرية والكرَّامية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وهو قول الفلاسفة؛ لكن كثيرًا من هؤلاء يتناقض فيقر في بعضها بأنها حقيقة كاسم الموجود والنفس والذات والحقيقة ونحو ذلك، وينازع في بعضها لشبه نفاة الجميع‏.‏ والقول فيما نفاه نظير القول فيما أثبته؛ ولكن هو لقصوره فرق بين المتماثلين، ونفى الجميع يمنع أن يكون موجودًا، وقد علم أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث، وغني وفقير، ومفعول وغير مفعول، وأن وجود الممكن يستلزم وجود الواجب، ووجود المحدث يستلزم وجود القديم، ووجود الفقير يستلزم وجود الغني، ووجود المفعول يستلزم وجود

    ج/ 9 ص -147-غير المفعول‏.‏ وحينئذ فبين الوجودين أمر مشترك، والواجب يختص بما يتميز به، فكذلك القول في الجميع‏.‏
    والأسماء المشككة هي متواطئة باعتبار القدر المشترك، ولهذا كان المتقدمون من نظار الفلاسفة وغيرهم لا يخصون المشككة باسم، بل لفظ المتواطئة يتناول ذلك كله، فالمشككة قسم من المتواطئة العامة، وقسيم المتواطئة الخاصة‏.‏ وإذا كان كذلك فلابد من إثبات قدر مشترك كلي، وهو مسمى المتواطئة العامة، وذلك لا يكون مطلقًا إلا في الذهن، وهذا مدلول قياسهم البرهاني‏.‏ ولابد من إثبات التفاضل وهو مدلول المشككة التي هي قسيم المتواطئة الخاصة، وذلك هو مدلول الأقيسة البرهانية القرآنية وهي قياس الأولى، ولابد من إثبات خاصة الرب التي بها يتميز عما سواه، وذلك مدلول آياته سبحانه التي يستلزم ثبوتها ثبوت نفسه، لا يدل على هذه قياس لا برهاني ولا غير برهاني ‏.‏
    فتبين بذلك أن قياسهم البرهاني لا يحصل المطلوب الذي به تكمل النفس في معرفة الموجودات ومعرفة خالقها، فضلا عن أن يقال‏:‏ لا تعلم المطالب إلا به، وهذا باب واسع، لكن المقصود في هذا المقام التنبيه على بطلان قضيتهم السالبة، وهي قولهم ‏:‏إن العلوم النظرية لا تحصل إلا بواسطة برهانهم‏.‏

    ج/ 9 ص -148-ثم لم يكفهم هذا السلب العام الذي تحجروا فيه واسعا؛ وقصروا العلوم على طريق ضيقة لا تحصل إلا مطلوبًا لا طائل فيه حتى زعموا أن علم الله تعالى وعلم أنبيائه وأوليائه، إنما يحصل بواسطة القياس المشتمل على الحد الأوسط، كما يذكر ذلك ابن سينا وأتباعه، وهم في إثبات ذلك خير ممن نفى علمه وعلم أنبيائه من سلفهم الذين هم من أجهل الناس برب العالمين وأنبيائه وكتبه‏.‏ فابن سينا لما تميز عن أولئك، بمزيد علم وعقل، سلك طريقهم المنطقي في تقرير ذلك‏.‏ وصار سالكو هذه الطريق، وإن كانوا أعلم من سلفهم وأكمل، فهم أضل من اليهود والنصارى وأجهل؛ إذ كان أولئك حصل لهم من الإيمان بواجب الوجود وصفاته ما لم يحصل لهؤلاء الضلال لما في صدورهم من الكبر والخيال، وهم من أتباع فرعون وأمثاله؛ ولهذا تجدهم لموسي ومن معه من أهل الملل والشرائع متنقصين أو معادين‏.‏
    قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ‏"‏[‏غافر‏:‏56‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"‏كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏"‏[‏غافر‏:‏35‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏"‏ ‏[‏غافر‏:‏83-85‏[‏‏.‏

    ج/ 9 ص -149-وقد بسط الكلام على قول فرعون ومتابعة هؤلاء له والنمروذ بن كنعان وأمثالهما من رؤوس الكفر والضلال، ومخالفتهم لموسى وإبراهيم وغيرهما من رسل الله صلوات الله عليهم في مواضع‏.‏
    وقد جعل الله آل إبراهيم أئمة للمؤمنين أهل الجنة، وآل فرعون أئمة لأهل النار، قال تعالى‏:‏
    ‏"‏وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ ‏"‏ إلى قوله‏:‏
    "‏قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏"‏ ‏[‏القصص‏:‏39-49‏]‏، وقال في آل إبراهيم‏:‏ ‏"‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏"‏[‏السجدة‏:‏24‏]‏‏.‏
    والمقصود أن متأخريهم الذين هم أعلم منهم جعلوا علم الرب يحصل بواسطة القياس البرهاني، وكذلك علم أنبيائه‏.‏ وقد بسطنا الكلام في الرد عليهم في غير هذا الموضوع‏.‏
    والمقصود هنا التنبيه على فساد قولهم‏:‏ إنه لا يحصل العلم إلا بالبرهان الذي وصفوه، وإذا كان هذا السلب باطلا في علم آحاد الناس، كان بطلانه

    ج/ 9 ص -150-أولى في علم رب العالمين سبحانه وتعالى، ثم ملائكته وأنبيائه، صلوات الله عليهم أجمعين‏.
    فصل
    وأيضًا، فإنهم قسموا جنس الدليل إلى القياس والاستقراء والتمثيل، قالوا‏:‏ لأن الاستدلال إما أن يكون بالكلي على الجزئي؛ أو بالجزئي على الكلي، أو بأحد الجزئيين على الآخر، وربما عبروا عن ذلك بالخاص والعام‏.‏ فقالوا‏:‏ إما أن يستدل بالعام على الخاص، أو بالخاص على العام، أو بأحد الخاصين على الآخر‏.‏
    قالوا‏:‏ والأول هو ‏[‏القياس‏]‏، يعنون به قياس الشمول؛ فإنهم يخصونه باسم القياس، وكثير من أهل الأصول والكلام يخصون باسم القياس التمثيل‏.‏ وأما جمهور العقلاء، فاسم القياس عندهم يتناول هذا وهذا، قالوا‏:‏ والاستدلال بالجزئيات على الكلى هو الاستقراء، فإن كان تامًا فهو الاستقراء التام، وهو يفيد اليقين، وإن كان ناقصًا لم يفد اليقين‏.‏ فالأول‏:‏ هو استقراء جميع الجزئيات والحكم عليه بما وجد في جزئياته‏.‏ والثاني‏:‏ استقراء أكثرها، وذلك كقول القائل‏:‏ الحيوان إذا أكل حرك فكه الأسفل، لأنا استقريناها فوجدناها هكذا، فيقال له‏:‏ التمساح يحرك الأعلى‏.‏

    ج/ 9 ص -151-ثم قالوا‏:‏ إن القياس ينقسم إلى اقتراني واستثنائي، فالاستثنائي‏:‏ ما تكون النتيجة أو نقيضها مذكورة فيه بالفعل، والاقتراني‏:‏ ما تكون فيه بالقوة، كالمؤلف من القضايا الحملية، كقولنا‏:‏ كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، والاستثنائي‏:‏ ما يؤلف من الشرطيات، وهو نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ متصلة، كقولنا‏:‏ إن كانت الصلاة صحيحة، فالمصلي متطهر، واستثناء عين المقدم، ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي، ينتج نقيض المقدم‏.‏
    والثاني‏:‏ المنفصلة وهي‏:‏ إما مانعة الجمع والخلو، كقولنا‏:‏ العدد إما زوج وإما فرد، فإن هذين لا يجتمعان، ولا يخلو العدد عن أحدهما، وإما مانعة الجمع فقط، كقولنا‏:‏ هذا إما أسود وإما أبيض، أي‏:‏ لا يجتمع السواد والبياض‏.‏ وقد يخلو المحل عنهما، وأما مانعة الخلو، فهي التي يمتنع فيها عدم الجزأين جميعًا ولا يمتنع اجتماعهما، وقد يقولون‏:‏ مانعة الجمع والخلو هي الشرطية الحقيقية، وهي مطابقة للنقيضين في العموم والخصوص، ومانعة الجمع، هي أخص من النقيضين، فإن الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان وهما أخص من النقيضين‏.‏ وأما مانعة الخلو فإنها أعم من النقيضين، وقد يصعب عليهم تمثيل ذلك، بخلاف النوعين الأولين؛ فإن أمثالهما كثيرة‏.‏
    ويمثلونه بقول القائل‏:‏ هذا ركب البحر أو لا يغرق فيه، أي‏:‏ لا يخلو

    ج/ 9 ص -152-منهما، فإنه لا يغرق إلا إذا كان في البحر، فإما ألا يغرق فيه وحينئذ لا يكون راكبه، وإما أن يكون راكبه، وقد يجتمع أن يركب ويغرق‏.‏ والأمثال كثيرة، كقولنا‏:‏ هذا حي، أو ليس بعالم، أو قادر أو سميع أو بصير أو متكلم، فإنه إن وجدت الحياة، فهو أحد القسمين، وإن عدمت عدمت هذه الصفات‏.‏ وقد يكون حيا من لا يوصف بذلك، فكذلك إذا قيل‏:‏ هذا متطهر، أو ليس بمصلٍ، فإنه إن عدمت الصلاة عدمت الطهارة، وإن وجدت الطهارة فهو القسم الآخر، فلا يخلو الأمر منهما‏.‏
    وكذلك كل عدم شرط ووجود مشروطه، فإنه إذا ردد الأمر بين وجود المشروط وعدم الشرط، كان ذلك مانعًا من الخلو، فإنه لا يخلو الأمر من وجود الشرط وعدمه، وإذا عدم عدم الشرط، فصار الأمر لا يخلو من وجود المشروط وعدم الشرط‏.‏ ثم قسموا الاقتراني إلى الأشكال الأربعة لكون الحد الأوسط إما محمولًا في الكبرى موضوعًا في الصغرى وهو الشكل الطبيعي، وهو ينتج المطالب الأربعة‏:‏الجزئي، والكلي، والإيجابي، والسلبي‏.‏ وإما أن يكون الأوسط محمولا فيهما، وهو الثاني ولا ينتج إلا السلب، وإما أن يكون موضوعًا فيهما ولا ينتج إلا الجزئيات، والرابع ينتج الجزئيات والسلب الكلي، لكنه بعيد عن الطبع، ثم إذا أرادوا بيان الإنتاج الثاني والثالث وغير ذلك من المطالب، احتاجوا إلى الاستدلال بالنقيض والعكس وعكس النقيض، فإنه يلزم من صدق

    ج/ 9 ص -153- القضية كذب نقيضها، وصدق عكسها المستوى، وعكس نقيضها، فإذا صدق قولنا‏:‏ ليس أحد من الحجاج بكافر، صح قولنا‏:‏ ليس أحد من الكفار بحاج‏.‏
    فنقول‏:‏ هذا الذي قالوه، إما أن يكون باطلا، وإما أن يكون تطويلا يبعد الطريق على المستدل، فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق، أو طريق طويل يتعب صاحبه حتى يصل إلى الحق، مع إمكان وصوله بطريق قريب، كما كان يمثله بعض سلفنا بمنزلة من قيل له‏:‏ أين أذنك‏؟‏ فرفع يده رفعًا شديدًا ثم أدارها إلى أذنه اليسرى، وقد كان يمكنه الإشارة إلى اليمنى أو اليسرى من طريق مستقيم‏.‏ وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله‏:‏‏
    "‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ‏"‏[‏الإسراء‏:‏9‏]‏، فأقوم الطريق إلى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله، وأما طريق هؤلاء فهي مع ضلالهم في البعض، واعوجاج طريقهم، وطولها في البعض الآخر إنما توصلهم إلى أمر لا ينجي من عذاب الله، فضلا عن أن يوجب لهم السعادة، فضلا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم‏.‏
    بيان ذلك‏:‏ أن ما ذكروه من حصر الدليل في القياس والاستقراء والتمثيل حصر لا دليل عليه، بل هو باطل‏.‏ فقولهم أيضًا‏:‏ إن العلم المطلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص، قول لا دليل عليه، بل هو باطل، واستدلالهم على الحصر بقولهم‏:‏ إما أن يستدل بالكلي على الجزئي، أو بالجزئي على الكلي،

    ج/ 9 ص -154-أو بأحد الجزأين على الآخر، والأول هو القياس، والثاني هو الاستقراء، والثالث هو التمثيل ‏.‏
    فيقال‏:‏ لم تقيموا دليلا على انحصار الاستدلال في الثلاثة، فإنكم إذا عنيتم بالاستدلال بجزئي على جزئي، قياس التمثيل، لم يكن ما ذكرتموه حاصرًا، وقد بقى الاستدلال بالكلي على الكلي الملازم له، وهو المطابق له في العموم والخصوص، وكذلك الاستدلال بالجزئي علي الجزئي الملازم له بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه، فإن هذا ليس مما سميتموه قياسًا ولا استقراء ولا تمثيلا، وهذه هي الآيات‏.‏
    وهذا كالاستدلال بطلوع الشمس على النهار، وبالنهار على طلوع الشمس، فليس هذا استدلالًا بكلى على جزئي، بل الاستدلال بطلوع معين على نهار معين استدلال بجزئي على جزئي، وبجنس النهار على جنس الطلوع استدلال بكلي على كلي، وكذلك الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة استدلال بجزئي على جزئي، كالاستدلال بالجدي وبنات نعش‏"‏1‏"‏ والكوكب الصغير القريب من القطب الذي يسميه بعض الناس القطب، وكذلك بظهور كوكب على ظهور نظيره في العرض، والاستدلال بطلوعه على غروب آخر، وتوسط آخر، ونحو ذلك من الأدلة التي اتفق عليها الناس، قال تعالى‏:‏
    ‏"‏وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ‏"‏[‏النحل‏:‏16‏]‏‏.‏

    ج/ 9 ص -155-والاستدلال على المواقيت والأمكنة بالأمكنة أمر اتفق عليه العرب والعجم وأهل الملل والفلاسفة، فإذا استدل بظهور الثريا على ظهور ما قرب منها مشرقًا ومغربا ويمينا وشمالا من الكواكب، كان استدلالًا بجزئي على جزئي لتلازمهما، وليس ذلك من قياس التمثيل‏.‏ فإن قضى به قضاء كليًا كان استدلالًا بكلى علي كلي، وليس استدلالا بكلي على جزئي، بل بأحد الكليين المتلازمين على الآخر، ومن عرف مقدار أبعاد الكواكب بعضها عن بعض، وعلم ما يقارن منها طلوع الفجر، استدل بما رآه منها على ما مضى من الليل، وما بقى منه، وهو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر‏.‏ ومن علم الجبال والأنهار والرياح، استدل بها على ما يلازمها من الأمكنة‏.‏
    ثم اللزوم إن كان دائما لا يعرف له ابتداء، بل هو منذ خلق الله الأرض، كوجود الجبال والأنهار العظيمة‏:‏ النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان، والبحر، كان الاستدلال مطردًا‏.‏
    وإن كان اللزوم أقل من ذلك مدة مثل الكعبة، شرفها الله تعالى، فإن الخليل بناها، ولم تزل معظمة لم يعل عليها جبار قط، استدل بها بحسب ذلك، فيستدل بها وعليها؛ فإن أركان الكعبة مقابلة لجهات الأرض الأربع‏:‏ الحجر الأسود يقابل المشرق، والغربي الذي يقابله ويقال له‏:‏ الشامي يقابل المغرب، واليماني يقابل الجنوب، وما يقابله يقال له‏:‏ العراقي إذا قيل

    ج/ 9 ص -156-للذي يليه من ناحية الحجر الشامي، وإن قيل لذاك ‏:‏الشامي قيل لهذا‏:‏ العراقي، فهذا الشامي العراقي يقابل الشمال، وهو يقابل القطب، وحينئذ فيستدل بها على الجهات، ويستدل بالجهات عليها‏.‏
    وما كان مدته أقصر من مدة الكعبة كالأبنية التي في الأمصار والأشجار كان الاستدلال بها بحسب ذلك‏.‏ فيقال‏:‏ علامة الدار الفلانية أن على بابها شجرة من صفتها كذا وكذا، وهما متلازمان مدة من الزمان، فهذا وأمثاله استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، وكلاهما معين جزئي، وليس هو من قياس التمثيل‏.‏
    ولهذا عدل نظار المسلمين عن طريقهم، فقالوا‏:‏ الدليل هو المرشد إلى المطلوب، وهو الموصل إلى المقصود، وهو ما يكون العلم به مستلزمًا للعلم بالمطلوب، أو ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم، أو إلى اعتقاد راجح، ولهم نزاع اصطلاحي‏:‏ هل يسمى هذا الثاني دليلا، أو يخص باسم الأمارة ‏؟‏ والجمهور يسمون الجميع دليلا، ومن أهل الكلام من لا يسمى بالدليل إلا الأول‏.‏
    ثم الضابط في الدليل أن يكون مستلزمًا للمدلول، فكلما كان مستلزمًا لغيره أمكن أن يستدل به عليه ، فإن كان التلازم من الطرفين، أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، فيستدل المستدل بما علمه منهما على الآخر الذي لم يعلمه‏.‏ ثم إن كان اللزوم قطعيًا، كان الدليل قطعيًا، وإن كان ظاهرًا

    ج/ 9 ص -157- وقد يتخلف كان الدليل ظنيًا‏.‏
    فالأول كدلالة المخلوقات على خالقها سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته، فإن وجودها مستلزم لوجود ذلك، ووجودها بدون ذلك ممتنع فلا توجد الأدلة على ذلك، ومثل دلالة خبر الرسول على ثبوت ما أخبر به عن الله؛ فإنه لا يقول عليه إلا الحق إذ كان معصومًا في خبره عن الله لا يستقر في خبره عنه خطأ البتة‏.‏ فهذا دليل مستلزم لمدلوله لزومًا واجبًا لا ينفك عنه بحال، وسواء كان الملزوم المستدل به وجودًا أو عدما، فقد يكون الدليل وجودًا وعدما، ويستدل بكل منهما على وجود وعدم، فإنه يستدل بثبوت الشيء على انتفاء نقيضه وضده، ويستدل بانتفاء نقيضه على ثبوته، ويستدل بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم، وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم، بل كل دليل يستدل به، فإنه ملزوم لمدلوله، وقد دخل في هذا كل ما ذكروه وما لم يذكروه، فإن ما يسمونه الشرطي المتصل مضمونه الاستدلال بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم، وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم، سواء عبر عن هذا بصيغة الشرط أو بصيغة الجزم، فاختلاف صيغ الدليل مع اتحاد معناه، لا يغير حقيقته، والكلام إنما هو في المعاني العقلية لا في الألفاظ‏.‏
    فإذا قال القائل‏:‏ إذا كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر، وإن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وإن كان الفاعل عالمًا قادرًا فهو حي ونحو ذلك‏.‏

    ج/ 9 ص -158-فهذا معنى قوله‏:‏ صحة الصلاة تستلزم صحة الطهارة، وقوله‏:‏ يلزم من صحة الصلاة ثبوت الطهارة، وقوله‏:‏ لا يكون مصليا إلا مع الطهارة‏.‏ وقوله‏:‏ الطهارة شرط في صحة الصلاة، وإذا عدم الشرط عدم المشروط‏.‏ وقوله‏:‏ كل مصل متطهر، فمن ليس بمتطهر فليس بمصل، وأمثال ذلك من أنواع التأليف للألفاظ والمعاني التي تتضمن هذا الاستدلال من حصر الناس في عبارة واحدة‏.‏
    وإذا اتسعت العقول وتصوراتها، اتسعت عباراتها‏.‏ وإذا ضاقت العقول والعبارات والتصورات، بقي صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان، كما يصيب أهل المنطق اليوناني‏:‏ تجدهم من أضيق الناس علمًا وبيانًا وأعجزهم تصورًا وتعبيرًا؛ ولهذا من كان ذكيا، إذا تصرف في العلوم، وسلك مسلك أهل المنطق، طول وضيق وتكلف وتعسف، وغايته بيان البين وإيضاح الواضح من العي، وقد يوقعه ذلك في أنواع من السفسطة التي عافى الله منها من لم يسلك طريقهم‏.‏
    وكذلك تكلفاتهم في حدودهم، مثل حدهم للإنسان وللشمس بأنها كوكب يطلع نهارًا، وهل من يجد الشمس مثل هذا الحد ونحوه إلا من أجهل الناس، وهل عند الناس شيء أظهر من الشمس، ومن لم يعرف الشمس فإما أن يجهل اللفظ فيترجم له، وليس هذا من الحد الذي ذكروه، وإما ألا يكون رآها لعماه فهذا لا يري النهار ولا الكواكب بطريق الأولى،

    ج/ 9 ص -159-مع أنه لابد أن يسمع من الناس ما يعرف ذلك بدون طريقهم‏.‏ وهم معترفون بأن الشكل الأول من الحمليات يغني عن جميع صور القياس، وتصويره فطري لا يحتاج إلى تعلمه منهم، مع أن الاستدلال لا يحتاج إلى تصوره على الوجه الذي يزعمونه‏.
    فصل
    وأما قولهم‏:‏ الاستدلال لابد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان، فهذا قول باطل طردًا وعكسا، وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس، فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه بما سوى ذلك، كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى استدلال، بل قد يعلمه بالضرورة ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين، ومنهم من يحتاج إلى ثلاث، ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر، فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم، فإن كان يعرف أن كل مسكر محرم، ولكن لا يعرف هل هذا المسكر المعين يسكر أم لا، لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة، وهو أن يعلم أن هذا مسكر، فإذا قيل له‏:‏ هذا حرام، فقال‏:‏ ما الدليل عليه‏؟‏ فقال المستدل‏:‏ الدليل على ذلك أنه مسكر، تم المطلوب‏.‏
    وكذلك لو تنازع اثنان في بعض أنواع الأشربة‏:‏ هل هو مسكر أم لا‏؟‏

    ج/ 9 ص -160-كما يسأل الناس كثيرًا عن بعض الأشربة ولا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر أو لا تسكر، ولكن قد علم أن كل مسكر حرام، فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير ذلك من الأدلة أنه مسكر علم تحريمه، وكذلك سائر ما يقع الشك في اندراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان، مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج‏:‏ هل هما من الميسر أم لا‏؟‏ وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه، هل هو من الخمر أم لا‏؟‏ وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق، هل هو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏"‏ [‏التحريم‏:‏2‏]‏ أم لا‏؟‏ وتنازعهم في قوله‏:‏ ‏"‏أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ‏"‏[‏البقرة‏:‏237‏]‏ هل هو الزوج أو الولي المستقل‏؟‏ وأمثال ذلك‏.‏
    وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين، لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم، ولم يعلم أن هذا المعين مسكر، فهو لا يعلم أنه محرم، حتى يعلم أنه مسكر، ويعلم أن كل مسكر حرام‏.‏ وقد يعلم أن هذا مسكر، ويعلم أن كل مسكر خمر، لكن لم يعلم أن النبي ﷺ حرم الخمر؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك، أو يعلم أن النبي ﷺ قال‏:
    ‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ أو يعلم أن هذا خمر، وأن النبي ﷺ حرم الخمر، لكن لم يعلم أن محمدًا رسول الله، أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين، بل ظن أنه أباحها لبعض الناس، فظن أنه منهم، كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك‏.‏ فهذا لا يكفيه في العلم

    ج/ 9 ص -161-بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريمًا عامًا، إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر، وأن النبي ﷺ حرم كل مسكر، وأنه رسول الله حقًا، فما حرمه حرمه الله، وأنه حرمه تحريمًا عامًا لم يبحه للتداوي أو للتلذذ‏.‏
    ومما يبين أن تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل، أنهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهاني والخطابي والجدلي والشعري والسوفسطائي‏:‏ إنه قول مؤلف من أقوال، أو عبارة عما ألف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، قالوا‏:‏ واحترزنا بقولنا‏:‏ من أقوال، عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها، وكذب نقيضها وليست قياسًا‏.‏ قالوا‏:‏ ولم نقل‏:‏ مؤلف من مقدمات؛ لأنا لا يمكننا تعريف المقدمة من حيث هي مقدمة إلا بكونها جزء القياس‏.‏ فلو أخذناها في حد القياس كان دورًا، والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة، وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة، وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية، وتسمى أيضًا قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة، وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة، بل أعم منه، فإن المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة إسمية والقضية تكون جملة إسمية وفعلية، كما لو قيل‏:‏ قد كذب زيد، ومن كذب استحق التعزير ‏.‏
    والمقصود هنا أنهم أرادوا بالقول في قولهم‏:‏ القياس قول مؤلف من أقوال القضية التي هي جملة تامة خبرية، لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو

    ج/ 9 ص -162- الحد، فإن القياس مشتمل على ثلاثة حدود‏:‏ أصغر وأوسط وأكبر، كما إذا قيل‏:‏ النبيذ المتنازع فيه مسكر، وكل مسكر حرام، فالنبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد، وهي الحدود في القياس‏.‏ فليس مرادهم بالقول هذا، بل مرادهم‏:‏ أن كل قضية قول، كما فسروا مرادهم بذلك‏.‏
    ولهذا قالوا‏:‏ القياس قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر‏.‏ واللازم إنما هي النتيجة، وهي قضية وخبر وجملة تامة وليست مفردًا‏.‏ ولذلك قالوا‏:‏ القياس قول مؤلف؛ فسموا مجموع القضيتين قولا، وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفًا من أقوال وهي القضايا لم يجب أن يراد بذلك قولان فقط؛ لأن لفظ الجميع إما أن يكون متناولا للاثنين فصاعدا كقوله‏:‏
    ‏"‏فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ‏"‏[‏النساء‏:‏11‏]‏، وإما أن يراد به الثلاثة فصاعدًا، وهو الأصل عند الجمهور‏.‏ ولكن قد يراد به جنس العدد، فيتناول الاثنين فصاعدا ، ولا يكون الجمع مختصًا باثنين‏.‏
    فإذا قالوا‏:‏ هو مؤلف من أقوال، إن أرادوا جنس العدد كان هذا المعنى من اثنين فصاعدًا، فيجوز أن يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات وأربع مقدمات، فلا يختص بالاثنين، وإن أرادوا الجمع الحقيقي، لم يكن مؤلفًا إلا من ثلاث فصاعدًا، وهم قطعًا ما أرادوا هذا، لم يبق إلا الأول‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ هم يلتزمون ذلك‏.‏ ويقولون‏:‏ نحن نقول‏:‏ أقل ما يكون القياس

    ج/ 9 ص -163-من مقدمتين، وقد يكون من مقدمات‏.‏
    فيقال‏:‏ ولا هذا خلاف ما في كتبكم، فإنكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط‏.‏ وقد صرحوا أن القياس الموصل إلى المطلوب، سواء كان اقترانيًا أو استثنائيًا، لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما، وعللوا ذلك بأن المطلوب المتحد لا يزيد على جزأين مبتدأ وخبر‏.‏
    فإن كان القياس اقترانيًا، فكل واحد من جزأي المطلوب لابد وأن يناسب مقدمة منه‏.‏ أي يكون فيها إما مبتدأ وإما خبرًا، ولا يكون هو نفس المقدمة ‏.‏
    قالوا‏:‏ وليس للمطلوب أكثر من جزأين‏.‏ فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين‏.‏ وإن كان القياس استثنائيًا فلابد فيه من مقدمة شرطية متصلة أو منفصلة تكون مناسبة لكل المطلوب أو نقيضه، فلابد من مقدمة استثنائية فلا حاجة إلى ثالثة‏.‏
    قالوا‏:‏ لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس، إما غير متعلق بالقياس أو متعلق به، والمتعلق بالقياس إما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما، ويسمون هذا القياس المركب‏.‏
    قالوا‏:‏ وحاصله يرجع إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد، إلا أن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدًا، والباقي

    ج/ 9 ص -164-لبيان مقدمات القياس، قالوا‏:‏ ربما حذفوا بعض مقدمات القياس إما تعويلًا على فهم الذهن لها أو لترويج المغلطة؛ حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها‏.‏
    قالوا‏:‏ ثم إن كانت الأقيسة لبيان المقدمات، قد صرح فيها بنتائجها، فيسمى القياس مفصولًا وإلا فموصول، ومثلوا الموصول بقول القائل‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان جوهر‏.‏ والمفصول بقولهم‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم‏.‏ ثم يقول‏:‏ كل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان حيوان، فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر‏.‏
    فيقال لهم‏:‏ أما المطلوب الذي لا يزيد على جزأين فذاك في المنطوق به‏.‏ والمطلوب في العقل إنما هو شيء واحد لا اثنان، وهو ثبوت النسبة الحكمية أو انتفاؤها‏.‏ وإن شئت قلت‏:‏ اتصاف الموصوف بالصفة نفيًا أو إثباتًا، وإن شئت قلت‏:‏ نسبة المحمول إلى الموضوع والخبر إلى المبتدأ نفيًا وإثباتًا، وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود بالقضية‏.‏ فإذا كانت النتيجة أن النبيذ حرام أو ليس بحرام، أو الإنسان حساس أو ليس بحساس ونحو ذلك، فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ أو انتفاؤه، وكذلك ثبوت الحس للإنسان أو انتفاؤه‏.‏ والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك

    ج/ 9 ص -165-المطلوب حصل بها المقصود‏.‏ وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب، وكذلك قولنا الإنسان حيوان‏.‏
    فإذا كان الإنسان يعلم أن كل خمر حرام، ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه، هل يسمى في لغة الشارع خمرًا ‏؟‏ فقيل‏:‏ النبيد حرام؛ لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"
    ‏ كل مسكر خمر‏"‏ كانت القضية وهي قولنا‏:‏ قد قال النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏إن كل مسكر خمر‏"‏‏:‏ يفيد تحريم النبيذ؛ وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية أخرى‏.‏ والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع، وهي أن ما صححه أهل العلم بالحديث، فقد وجب التصديق بأن النبي ﷺ قاله، وأن ما حرمه الرسول ﷺ فهو حرام ونحو ذلك‏.‏ فلو لزم أن نذكر كل ما يتوقف عليه العلم، وإن كان معلومًا، كانت المقدمات أكثر من اثنتين، بل قد تكون أكثر من عشر‏.‏
    وعلى ما قالوه، فينبغي لكل من استدل بقول النبي ﷺ أن يقول‏:‏ النبي حرم ذلك، وما حرمه فهو حرام، فهذا حرام، وكذلك يقول‏:‏ النبي أوجبه، وما أوجبه النبي فقد وجب، فإذا احتج على تحريم الأمهات والبنات ونحو ذلك، يحتاج أن يقول‏:‏ إن الله حرم هذا في القرآن وما حرمه الله فهو حرام‏.‏ وإذا احتج على وجوب الصلاة والزكاة والحج بمثل قول الله‏:‏ ‏
    "‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏، يقول‏:‏ إن الله أوجب الحج في

    ج/ 9 ص -166-كتابه، وما أوجبه الله فهو واجب‏.‏ وأمثال ذلك مما يعتبره العقلاء لُكْنة وعِيّا وإيضاحًا للواضح، وزيادة قول لا حاجة إليها‏.‏
    وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم؛ كقولهم في حد الشمس‏:‏ إنها كوكب تطلع نهارًا‏.‏ وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان‏.‏ ثم إن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الأمور المعروفة بدون تحديدهم، ويتنازعون في البرهان على أمور مستغنية عن براهينهم‏.‏
    وقولهم‏:‏ ليس للمطلوب أكثر من جزأين، فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين، فيقال‏:‏ إن أردتم ليس له إلا اسمان مفردان، فليس الأمر كذلك، بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة، مثل من شك في النبيذ؛ هل هو حرام بالنص أم ليس حرامًا لا بنص ولا قياس‏؟‏ فإذا قال المجيب‏:‏ النبيذ حرام بالنص، كان المطلوب ثلاثة أجزاء، وكذلك لو سأل‏:‏ هل الإجماع دليل قطعي‏؟‏ فقال‏:‏ الإجماع دليل قطعي، كان المطلوب ثلاثة أجزاء، وإذا قال‏:‏ هل الإنسان جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق أم لا‏؟‏ فالمطلوب هنا ستة أجزاء‏.‏
    وفي الجملة، فالموضوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر، وهو جملة خبرية، قد تكون جملة مركبة من لفظين، وقد تكون من ألفاظ متعددة إذا كان

    ج/ 9 ص -167-مضمونها مقيدًا بقيود كثيرة، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏، وأمثال ذلك من القيود التي يسميها النحاة الصفات والعطف والأحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك‏.‏
    وإذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين، بل من ألفاظ متعددة ومعان متعددة، وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان، سواء عبر عنهما بلفظين أو ألفاظ متعددة، قيل‏:‏ وليس الأمر كذلك، بل قد يكون المطلوب معنى واحدًا، وقد يكون معنيين، وقد يكون معان متعددة، فإن المطلوب بحسب طلب الطالب، وهو الناظر المستدل والسائل المتعلم المناظر، وكل منهما قد يطلب معنى واحدًا، وقد يطلب معنيين، وقد يطلب معاني، والعبارة عن مطلوبه، قد تكون بلفظ واحد، وقد تكون بلفظين وقد تكون بأكثر‏.‏ فإذا قال‏:‏ النبيذ حرام، فقيل له‏:‏ نعم، كان هذا اللفظ وحده كافيًا في جوابه، كما لو قيل له‏:‏ هو حرام‏.‏
    فإن قالوا‏:‏ القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا، كما ذكرتموه من التمثيل بالإنسان، فإن هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا وهي خمس مطالب، والتقدير‏:‏ هل هو جسم أم لا‏؟‏ وهل هو حساس أم لا‏؟‏ وهل

    ج/ 9 ص -168-هو نام أم لا‏؟‏ وهل هو متحرك أم لا‏؟‏ وهل هو ناطق أم لا‏؟‏وكذلك فيما تقدم‏:‏ هل النبيذ حرام أم لا‏؟‏ وإذا كان حرامًا فهل تحريمه بالنص أو بالقياس ‏؟‏ فيقال‏:‏ إذا رضيتم بمثل هذا وهو أن تجعلوا الواحد في تقدير عدد، فالمفرد قد يكون في معنى قضية، فإذا قال‏:‏ النبيذ المسكر حرام فقال المجيب‏:‏ نعم، فلفظ ‏[‏نعم‏]‏ في تقدير قوله‏:‏ هو حرام؛ وإن قال‏:‏ ما الدليل عليه‏؟‏ فقال‏:‏ تحريم كل مسكر أو أن كل مسكر حرام، وقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسمًا مفردًا، وهو جزء واحد، لم يجعله قضية مؤلفة من اسمين مبتدأ وخبر، فإن قوله‏:‏ تحريم كل مسكر اسم مضاف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏أن كل مسكر حرام‏"‏ بالفتح مفرد أيضًا، فإن أن وما في خبرها في تقدير المصدر المفرد، وإن المكسورة وما في خبرها جملة تامة‏.‏
    وكذلك إذا قلت‏:‏ الدليل عليه قول النبي ﷺ، أو الدليل عليه النص، أو إجماع الصحابة، أو الدليل عليه الآية الفلانية، أو الحديث الفلاني، أو الدليل عليه قيام المقتضي للتحريم السالم عن المعارض المقاوم، أو الدليل عليه أنه مشارك لخمر العنب فيما يستلزم التحريم، وأمثال ذلك فيما يعبر فيه عن الدليل باسم مفرد لا بالقضية التي هي جملة تامة‏.‏
    ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بألفاظ متعددة‏.‏

    ج/ 9 ص -169-والمقصود أن قولكم‏:‏ إن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزأين فقط، إن أردتم لفظين فقط، وأن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد؛ لأن ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة إلى دليل‏.‏
    قيل لكم‏:‏ وكذلك يمكن أن يقال في اللفظين‏:‏ هما دليلان لا دليل واحد، فإن كل مقدمة تحتاج إلى دليل، وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له، فإنه إذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة أو بأربعة وأكثر، فجعل الجاعل اللفظين هما الأصل الواجب دون ما زاد وما نقص، وأن الزائد إن كان في المطلوب جعل مطالب متعددة، وإن كان في الدليل تذكر مقدمات، جعل ذلك في تقدير أقيسة متعددة تحكم محض، ليس هو أولى من أن يقال‏:‏ بل الأصل في المطلوب أن يكون واحدًا ودليله جزءًا واحدًا، فإذا زاد المطلوب على ذلك جعل مطلوبين، أو ثلاثة أو أربعة بحسب دلالته، وهذا إذا قيل، فهو أحسن من قولهم؛ لأن اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردًا، والقياس هو الدليل‏.‏
    ولفظ ‏[‏القياس‏]‏ يقتضي التقدير، كما يقال‏:‏ قست هذا بهذا، والتقدير يحصل بواحد؛ وإذا قدر باثنين وثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرًا واحدًا، فتكون تلك التقديرات أقيسة لا قياسًا واحدًا، فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات في معنى أقيسة متعددة، وما نقص عن الاثنين نصف

    ج/ 9 ص -170-قياس لا قياس تام، اصطلاح محض لا يرجع إلى معنى معقول، كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة للماهية والوجود بمثل هذا التحكم‏.‏
    وحينئذ، فيعلم أن القوم لم يرجعوا فيما سموه حدًا وبرهانًا إلى حقيقة موجودة ولا أمر معقول، بل إلى اصطلاح مجرد، كتنازع الناس في ‏[‏العلة‏]‏، هل هي اسم لما يستلزم المعلول بحيث لا يتخلف عنها بحال فلا يقبل النقيض والتخصيص، أو هو اسم لما يكون مقتضيًا للمعلول، وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط أو وجود مانع، وكاصطلاح بعض أهل النظر والجدل في تسمية أحدهم ‏[‏الدليل‏]‏ لما هو مستلزم للمدلول مطلقًا، حتى يدخل في ذلك عدم المعارض، والآخر يسمى الدليل لما كان من شأنه أن يستلزم المدلول، وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط أو وجود مانع‏.‏ وتنازع أهل الجدل، هل على المستدل أن يتعرض في ذكر الدليل لتبيين المعارض جملة أو تفصيلا حيث يمكن التفصيل، أو لا يتعرض لا جملة ولا تفصيلا، أو يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلا‏.‏
    وهذه أمور وضعية اصطلاحية بمنزلة الألفاظ التي يصطلح عليها الناس للتعبير عما في أنفسهم ليست حقائق ثابتة في أنفسها لأمور معقولة تتفق فيها الأمم كما يدعية هؤلاء في منطقهم، بل هؤلاء الذين يجعلون العلة والدليل يراد به هذا أو هذا أقرب إلى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين، فإن هذا تخصيص لعدد دون عدد بلا موجب، وأولئك

    ج/ 9 ص -171- لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل، وهو وصف التمام أو مجرد الاقتضاء، فكان ما اعتبره أولئك أولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء، الذين لم يرجعوا إلا إلى مجرد التحكم‏.‏
    ولهذا كان العقلاء العارفون يصفون منطقهم بأنه أمر اصطلاحي، وضعه رجل من اليونان، لا يحتاج إليه العقلاء، ولا طلب العقلاء للعلم موقوفًا عليه كما ليس موقوفًا على التعبير بلغاتهم، مثل‏:‏ فيلاسوفيا، وسوفسطيقا، وأنولوطيقا وآثولوجيا، وقاطيغورياس، ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم فلا يقول أحد‏:‏ إن سائر العقلاء محتاجون إلى هذه اللغة‏.‏ لا سيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تتصوره الأذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف‏.‏
    وهذا مما احتج به أبو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة ل ‏[‏متى‏]‏ الفيلسوف؛ لما أخذ ‏[‏متى‏]‏ يمدح المنطق، ويزعم احتياج العقلاء إليه، ورد عليه أبو سعيد بعدم الحاجة إليه، وأن الحاجة إنما تدعو إلى تعلم العربية؛ لأن المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج إليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني، فإنه لابد فيها من التعلم، ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القرآن والحديث عليها فرضًا على الكفاية بخلاف المنطق‏.‏

    ج/ 9 ص -172-ومن قال من المتأخرين‏:‏ إن تعلم المنطق فرض على الكفاية، أو أنه من شروط الاجتهاد، فإنه يدل على جهله بالشرع، وجهله بفائدة المنطق‏.‏ وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم ويكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف المنطق اليوناني، فكيف يقال‏:‏ إنه لا يوثق بالعلم إن لم يوزن به، أو يقال‏:‏ إن فطر بني آدم في الغالب لم تستقم إلا به‏؟‏‏!‏
    فإن قالوا‏:‏ نحن لا نقول‏:‏ إن الناس يحتاجون إلى اصطلاح المنطقيين، بل إلى المعاني التي توزن بها العلوم‏.‏
    قيل‏:‏ لا ريب أن المجهول لا يعرف إلا بالمعلومات، والناس يحتاجون إلى أن يزنوا ما جهلوه بما علموه، وهذا من الموازين التي أنزلها الله، حيث قال‏:‏
    ‏"‏اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ‏"‏[‏الشورى‏:‏ 17‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ‏"‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا، ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان، فعلم أن الأمم غير محتاجة إلى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم، وهو كلامهم في المعقولات الثانية، فإن ‏[‏ موضوع المنطق‏]‏ هو المعقولات من حيث يتوصل بها إلى علم ما لم يعلم فإنه ينظر في أحوال المعقولات الثانية، وهي النسب الثانية للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها، إن كانت موصلة إلى تحصيل ما ليس بحاصل، أو معينة في ذلك لا على وجه جزئي، بل على قانون كلي ويدعون أن صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل، كما

    ج/ 9 ص -173-أن صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته، فيميز ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي‏.‏ وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض‏.‏ وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي، ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل، ويدعون أن نسبة منطقهم إلى المعاني؛ كنسبة العروض إلى الشعر، وموازين الأموال إلى الأموال، وموازين الأوقات إلى الأوقات، وكنسبة الذراع إلى المذروعات‏.‏ وهذا هو الذي قال جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء أنه باطل؛ فإن منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل، لا في صورة الدليل ولا في مادته، ولا يحتاج أن توزن به المعاني، بل ولا يصح وزن المعاني به، بل هذه الدعوى من أكذب الدعاوي‏.‏
    والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق، وزعموا أن التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها، والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها، فذكروا لمنطقهم أربع دعاوي‏:‏ دعوتان سالبتان، ودعوتان موجبتان‏.‏
    ادعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وأن التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق، وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوى كذبا ، وادعوا أن ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة، وهذا أيضا باطل‏.‏ وقد تقدم التنبية على هذه الدعاوي الثلاثة، وسيأتي

    ج/ 9 ص -174-الكلام على دعواهم الرابعة التي هي أمثل من غيرها، وهي دعواهم أن برهانهم يفيد العلم التصديقي‏.‏
    وإن قالوا‏:‏ إن العلم التصديقي أو التصوري أيضًا لا ينال بدونه، فهم ادعوا أن طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقتين اللتين ذكروهما من الحد، وما ذكروه من القياس‏.‏‏.‏ وادعوا أن ما ذكروه من الطريقتين توصلان إلى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم، بمعنى أن ما يوصل لابد أن يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره، فما ذكروه آلة قانونية بها توزن الطرق العلمية، ويميز بها بين الطريق الصحيحة والفاسدة، فمراعاة هذا القانون تعصم الذهن أن يزل في الفكر الذي ينال به تصور أو تصديق‏.‏
    هذا ملخص ما قالوه‏.‏
    وكل هذه الدعاوى كذب في النفي والإثبات، فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل، ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوا فيه، وإن كان في طرقهم ما هو حق، كما أن في طرق غيرهم ما هو باطل، فما من أحد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولابد أن يتضمن ما هو حق‏.‏ فمع اليهود والنصاري من الحق بالنسبة إلى مجموع ما معهم أكثر مما مع هؤلاء من الحق، بل ومع المشركين عباد الأصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع

    ج/ 9 ص -175-هؤلاء بالنسبة إلى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعملية للأخلاق والمنازل والمدائن‏.‏
    ولهذا كان اليونان مشركين كفارًا يعبدون الكواكب والأصنام، شرًا من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير، ولولا أن الله منَّ عليهم بدخول دين المسيح إليهم، فحصل لهم من الهدي والتوحيد ما استفادوه من دين المسيح، ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل، لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين، ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا في دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل، وهو خير من الدين الذي كان عليه أسلافهم‏.‏
    وكلامنا هنا في ‏[‏بيان ضلال هؤلاء المتفلسفة‏]‏ الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم، فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات، كقولهم‏:‏ إن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن؛ لأنهم سمعوا أنه كان وزير الإسكندر، وذو القرنين يقال له‏:‏ الإسكندر‏.‏ وهذا من جهلهم، فإن الإسكندر الذي وزر له أرسطو هو ابن فيلبس المقدوني، الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى، وهو إنما ذهب إلى أرض القدس، لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره، وكان مشركا يعبد الأصنام، وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام وذو القرنين كان موحدًا مؤمنا بالله‏.‏ وكان متقدما على هذا، ومن يسميه الإسكندر يقول‏:‏ هو الإسكندر بن دارا‏.‏

    ج/ 9 ص -176-ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين ، كالقرامطة والباطنية، الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفارًا وإما منافقين، كما نفق من نفق منهم على المنافقين الملاحدة، ثم نفق على المشركين الترك، وكذلك إنما ينفقون دائما على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين‏.‏
    وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لابد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل، وقد علم ضعفه‏.‏
    ثم إنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد تكفي فيه مقدمة واحدة، قالوا‏:‏ إنه ربما أدرج في القياس قول زائد، أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح كبيان المقدمتين، ويسمونه المركب‏.‏ قالوا‏:‏ ومضمونه أقيسة متعددة، سيقت لبيان أكثر من مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها بالذات ليس إلا واحدًا‏.‏ قالوا‏:‏ وربما حذفت إحدى المقدمات إما للعلم بها أو لغرض فاسد، وقسموا المركب إلى مفصول وموصول‏.‏
    فيقال‏:‏ هذا اعتراف منكم بأن من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات، وما يكفي فيه مقدمة واحدة‏.‏ ثم قلتم‏:‏ إن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى

    ج/ 9 ص -177-أقيسة متعددة فيقال لكم‏:‏ إذا ادعيتم أن الذي لابد منه إنما هو قياس واحد مشتمل على مقدمتين، وأن ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة، كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات، فقولوا‏:‏ إن الذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وإن ما زاد على تلك المقدمة، من المقدمات؛ فإنما هو لبيان تلك المقدمة‏.‏ وهذا أقرب إلى المعقول‏.‏ فإنه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف، وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه، وهو ثبوت الخبر للمبتدأ، أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل، فالذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وما زاد على ذلك فقد يحتاج إليه وقد لا يحتاج إليه‏.‏
    وأما دعوى الحاجة إلى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس؛ للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب، وليس تقدير عدد بأولى من عدد‏.‏
    وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو لتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة، ومن احتج على مسألة بمقدمة، لا تكفي وحدها لبيان المطلوب، أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي، طولب بالتمام الذي تحصل به كفاية‏.‏ وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع، وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال، فمن طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص قال‏:‏ هذا حرام، فقيل له‏:‏ لم ‏؟‏ قال‏:‏ لأنه نبيذ مسكر، فهذه

    ج/ 9 ص -178-المقدمة كافية إن كان المستمع يعلم أن كل مسكرحرام، إذا سلم له تلك المقدمة، وإن منعه إياها وقال‏:‏ لا نسلم أن هذا مسكر، احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره أو بالتجربة في نظيرها، وهذا قياس تمثيل، وهو مفيد لليقين، فإن الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر، علم أن الباقي منه مسكر؛ لأن حكم بعضه مثل بعضه‏.‏ وكذلك سائر القضايا التجريبية، كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وأمثال ذلك إنما مبناها على قياس التمثيل‏:‏ بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية، إنما هو بواسطة قياس التمثيل‏.‏
    وإن كان ممن ينازعه في أن النبيذ المسكر حرام، احتاج إلى مقدمتين إلى إثبات أن هذا مسكر، وإلى أن كل مسكر حرام فيثبت الثانية بأدلة متعددة، كقول النبي ﷺ‏:‏ ‏"
    ‏كل مسكر حرام‏"‏ و ‏"‏كل شراب أسكر فهو حرام‏"‏‏.‏ وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر، وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال‏:‏ ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏‏.‏ وهذه الأحاديث في الصحيح، وهي وأضعافها معروفة عن النبي ﷺ تدل على أنه حرم كل شراب أسكر‏.‏
    فإن قال‏:‏ أنا أعلم أنه خمر، لكن لا أسلم أن الخمر حرام، أو لا أسلم أنه حرام مطلقًا، أثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا‏.‏
    وما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب، أن

    ج/ 9 ص -179-الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه، كما تقدم بيانه، ولما كان الحد الأول مستلزمًا للأوسط، والأوسط للثالث، ثبت أن الأول مستلزم للثالث، فإن ملزوم الملزوم ملزوم، ولازم اللازم لازم، فإن الحكم لازم من لوازم الدليل، لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما، فالوسط ما يقرن بقولك‏:‏ لأنه‏.‏ وهذا مما ذكره المنطقيون، وابن سينا وغيره؛ ذكروا الصفات اللازمة للموصوف، وأن منها ما يكون بين اللزوم‏.‏ وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر إلى وسط بخلاف الذاتي، فقالوا له‏:‏ كثير من الصفات اللازمة لا تفتقر إلى وسط، وهي البينة اللزوم، والوسط عند هؤلاء هو الدليل‏.‏
    وأما ما ظنه بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطًا في نفس الأمر بين اللازم القريب واللازم البعيد، فهذا خطأ‏.‏ ومع هذا يستبين حصول المراد على التقديرين، فنقول‏:‏ إذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج إلى دليل يتوسط بينهما، فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له، وإن كان بينهما وسط، فذلك الوسط إن كان لزومه للملزوم الأول ولزوم الثاني له بينًا، لم يفتقر إلى وسط ثان‏.‏ وإن كان أحد الملزومين غير بين بنفسه، احتاج إلى وسط، وإن لم يكن واحد منهما بينا، احتاج إلى وسطين، وهذا الوسط هو حد يكفي فيه مقدمة واحدة، فإذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر، فقيل له‏:‏ لأنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏

    ج/ 9 ص -180-‏"‏كل مسكر خمر‏"‏ أو ‏"‏كل مسكر حرام‏"‏ فهذا الأوسط وهو قول النبي ﷺ لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر له إلى وسط، ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر إلى وسط، فإن كل أحد يعلم أنه إذا حرم كل مسكر ، حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه، وكل مؤمن يعلم أن النبي ﷺ إذا حرم شيئًا حرم‏.‏ ولو قال‏:‏ الدليل على تحريمه أنه مسكر، فالمخاطب إن كان يعرف أن ذلك مسكر، والمسكر محرم، سلم له التحريم، ولكنه غافل عن كونه مسكرًا، أو جاهل بكونه مسكرًا، وكذلك إذا قال‏:‏ لأنه خمر، فإن أقر أنه خمر ثبت التحريم، وإذا أقر بعد إنكاره، فقد يكون جاهلًا فعلم، أو غافلًا فذكر، فليس كل من علم شيئًا كان ذاكرًا له‏.‏
    ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين، هل هو كاف في العلم بالنتيجة، أم لابد من التفطن لأمر ثالث‏؟‏ وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره‏.‏ قالوا‏:‏ لأن الإنسان قد يكون عالما بأن البغلة لا تلد، ثم يغفل عن ذلك، ويرى بغلة منتفخة البطن‏.‏ فيقول‏:‏ أهذه حامل أم لا ‏؟‏ فيقال له‏:‏ أما تعلم أنها بغلة‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى‏.‏ ويقال له‏:‏ أما تعلم أن البغلة لا تلد‏.‏ فيقول‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد‏.‏ ونازعه الرازي وغيره وقالوا‏:‏ هذا ضعيف؛ لأن اندراج إحدى المقدمتين تحت الأخرى إن كان مغايرًا للمقدمتين، كان ذلك مقدمة أخرى لابد فيها من الإنتاج، ويكون الكلام في كيفية التئامها مع الأوليين كالكلام في

    ج/ 9 ص -181-كيفية التئام الأوليين‏.‏ ويفضي ذلك إلى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات‏.‏ وإن لم يكن ذلك معلومًا مغايرًا للمقدمتين، استحال أن يكون شرطًا في الإنتاج؛ لأن الشرط مغاير للمشروط‏.‏ وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطًا‏.‏ وأما حديث البغلة فذلك إنما يمكن إذا كان الحاضر في الذهن إحدى المقدمتين فقط، إما الصغرى وإما الكبرى، أما عند اجتماعهما في الذهن، فلا نسلم أنه يمكن الشك أصلا في النتيجة‏.‏
    قلت‏:‏ وحقيقة الأمر أن هذا النزاع، لزمهم في ظنهم الحاجة إلى مقدمتين، لا في الإنتاج؛ لأن الشرط مغاير للمشروط، وليس الأمر كذلك، بل المحتاج إليه ما به يعلم المطلوب سواء كان مقدمة أو اثنين أو ثلاثًا، والمغفول عنه ليس بمعلوم حال الغفلة؛ فإذا تذكر صار معلومًا بالفعل‏.‏ وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تلد، وهذه المقدمة كان ذاهلا عنها، فلم يكن عالمًا بها العلم الذي تحصل به الدلالة، فإن المغفول عنه لا يدل حينما يكون مغفولًا عنه، بل إنما يدل حال كونه مذكورًا؛ إذ هو بذلك يكون معلومًا علمًا حاضرًا‏.‏
    والرب - تعالى - منزه عن الغفلة والنسيان؛ لأن ذلك يناقض حقيقة العلم، كما أنه منزه عن السنة والنوم؛ لأن ذلك يناقض كمال الحياة والقيومية، فإن النوم أخو الموت؛ ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون، ويلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا النفس‏.‏

    ج/ 9 ص -182-والمقصود هنا أن وجه الدليل العلم بلزوم المدلول له، سواء سمى استحضارًا أو تفطنًا أو غير ذلك، فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له، علم أنه دال عليه، وهذا اللزوم إن كان بينًا له، وإلا فقد يحتاج في بيانه إلى مقدمة أو اثنتين أو ثلاث أو أكثر‏.‏ والأوساط تتنوع بتنوع الناس، فليس ما كان وسطًا مستلزمًا للحكم في حق هذا، هو الذي يجب أن يكون وسطًا في حق الآخر، بل قد يحصل له وسط آخر، فالوسط هو الدليل وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم، وهما المحكوم والمحكوم عليه، فإن الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكمًا له، والأواسط التي هي الأدلة مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية، كما إذا كان الوسط خبرًا صادقًا، فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا‏.‏ وإذا رؤى الهلال، وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس فأشاعوا ذلك في البلد، فكل قوم يحصل لهم العلم بخبر من غير المخبرين الذين أخبروا غيرهم‏.‏ والقرآن والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير وسائط غيرهم، لاسيما في القرن الثاني والثالث، فهؤلاء لهم مقرئون ومعلمون، ولهؤلاء مقرئون ومعلمون، و هؤلاء كلهم وسائط، وهم الأوساط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله، وهم الذين دلوهم على ذلك بأخبارهم وتعليمهم‏.‏
    وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل أو الحس، إذا نبه عليها منبه أو أرشد إليها مرشد، وأما من جعل الوسط في اللوازم هو الوسط في نفس ثبوتها

    ج/ 9 ص -183-للموصوف، فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه، وبتقدير صحته، فالوسط الذهني أعم من الخارجي، كما أن الدليل أعم من العلة، فكل علة يمكن الاستدلال بها على المعلول، وليس كل دليل يكون علة في نفس الأمر وكذلك ما كان متوسطًا في نفس الأمر، أمكن جعله متوسطًا في الذهن فيكون دليلا ولا ينعكس؛ لأن الدليل هو ما كان مستلزمًا للمدلول، فالعلة المستلزمة للمعلول يمكن الاستدلال بها، والوسط الذي يلزم الملزوم ويلزمه اللازم البعيد، هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به، فتبين أنه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة إذا لم يحتج إلى غيرها، وقد لا يمكن إلا بمقدمات فيحتاج إلى معرفتهن؛ فإن تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض؛ ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين، لا أكثر ولا أقل، ويجتهد في رد الزيادة إلى اثنتين‏.‏ وفي تكميل النقص بجعله مقدمتين، إلا أهل منطق اليونان، ومن سلك سبيلهم، دون من كان باقيًا على فطرته السليمة أو سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل‏.‏
    وكذلك أهل النحو والطب والهندسة، لا يدخل في هذا الباب إلا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين، كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل، وما استفادوا بما تلقوه عنهم علمًا إلا عما يستغنى عن باطل كلامهم أو ما

    ج/ 9 ص -184-يضر ولا ينفع، لما فيه من الجهل أو التطويل الكثير‏.‏
    ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين وتارة على مقدمات، كانت طريقة نظار المسلمين أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه، ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا مقدمتين، كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين، بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم، وسلوكهم في نظرهم لأنفسهم، ومناظرتهم لغيرهم تعليما وإرشادًا ومجادلة على ما ذكرت، وكذلك سائر أصناف العقلاء من أهل الملل وغيرهم إلا من سلك طريق هؤلاء‏.‏
    وما زال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، ويبينون ما فيها من العِيّ واللُّكنَة وقصور العقل وعجز النطق، ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك‏.‏ ولا يرضون أن يسلوكها في نظرهم ومناظرتهم، لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه‏.‏
    وإنما كثر استعمالها من زمن أبي حامد‏.‏ فإنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه المستصفى وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق، وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر، وصنف كتابًا سماه القسطاس المستقيم ذكر فيه خمس موازين‏:‏ الثلاث الحمليات، والشرطي المتصل والشرطي المنفصل، وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين

    ج/ 9 ص -185- وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم، وصنف كتابا في تهافتهم، وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم، وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد، وبين في آخر كتبه أن طريقهم فاسدة، لا توصل إلى يقين، وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين‏.‏ وكان أولا يذكر في كتبه كثيرًا من كلامهم، إما بعبارتهم وإما بعبارة أخرى، ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم، وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها، وفسادها أعظم من طريق المتكلمين، ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم‏.‏ والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول، ما حصل له مقصوده، ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة، ولم يغن عنه المنطق شيئًا‏.‏
    ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك، صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا، وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر صحيح مسلم عند العقلاء ولا يعلم أنه مازال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه ‏.‏وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة، وجمهور المسلمين يعيبونه عيبًا مجملا؛ لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على مافي أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال‏.‏
    والمقصود هنا أن ما يدعونه من توقف كل مطلوب على مقدمتين، لا أكثر،

    ج/ 9 ص -186-ليس كذلك، وهم يسمون القياس الذي حذفت إحدى مقدمتيه قياس الضمير، ويقولون‏:‏ إنها قد تحذف إما للعلم بها، وإما غلطا أو تغليطًا، فيقال‏:‏ إذا كانت معلومة، كانت كغيرها من المقدمات المعلومة، وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاث وأربع، فإن جاز أن يدعي في الدليل الذي لا يحتاج إلا إلى مقدمة، أن الأخرى تضمر محذوفة، جاز أن يدعي فيما يحتاج إلى ثنتين أن الثالثة محذوفة، وكذلك فيما يحتاج إلى ثلاث وليس لذلك حد، ومن تدبر هذا وجد الأمر كذلك؛ ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج اليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم، ما يوجد في كلام أهل المنطق، بل من سلك طريقهم كان من المضيقين في طريق العلم عقولا وألسنة، ومعانيهم من جنس ألفاظهم، تجد فيها من الرِّكَّة والعِيّ ما لا يرضاه عاقل‏.‏
    وكان يعقوب بن إسحاق الكندي، فيلسوف الإسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين، كما قالوا‏:‏ لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا‏:‏ ابن سينا من فلاسفة الإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ ليس للإسلام فلاسفة- كان يعقوب يقول في أثناء كلامه‏:‏ العدم فقد وجود كذا، وأنواع هذه الإضافات، ومن وجد في بعض كلامه فصاحة أو بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره، فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم، وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين،

    ج/ 9 ص -187-لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم، وهم أكثر ما ينفقون على من لم يفهم ما يقولونه، ويعظمهم بالجهل والوهم، أو يفهم بعض ما يقولونه أو أكثره أو كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول ﷺ وما يعرف بالعقول السليمة، وما قاله سائر العقلاء مناقضًا لما قالوه‏.‏ وهو إنما وصل إلى منتهى أمرهم بعد كلفة ومشقة، واقترن بها حسن ظن، فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله، ثم إن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرًا من الفضلاء الذين أحسنوا بهم الظن ابتداء، ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبرأهم منهم، بل وردهم عليهم وإلا بقى من الضلال، وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس؛ ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة‏.‏
    وإنما المنطق التبس الأمر فيه على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه، ولم يعرفوا ما قال سائر العقلاء في تناقضهم فيه، واتفق أن فيه أمورًا ظاهرة مثل الشكل الأول، ولا يعرفون أن ما فيه من الحق لا يحتاج إليهم فيه، بل طولوا فيه الطريق، وسلكوا الوعر والضيق، ولم يهتدوا فيه إلى ما يفيد التحقيق، وليس المقصود في هذا المقام بيان ما أخطؤوا في إثباته، بل ما أخطؤوا في نفيه حيث زعموا أن العلم النظري لا يحصل إلا ببرهانهم وهو من القياس‏.‏
    وجعلوا أصناف الحجج ثلاثة‏:‏ القياس، والاستقراء، والتمثيل، وزعموا أن التمثيل لا يفيد اليقين، وإنما يفيد القياس الذي تكون مادته

    ج/ 9 ص -188-من القضايا التي ذكروها‏.‏ وقد بينا في غير هذا الموضع أن قياس التمثيل وقياس الشمول متلازمان، وأن ما حصل بأحدهما عن علم أو ظن، حصل بالآخر مثله إذا كانت المادة واحدة، والاعتبار بمادة العلم لا بصورة القضية، بل إذا كانت المادة يقينية، سواء كانت صورتها في صورة قياس التمثيل أو صورة قياس الشمول، فهي واحدة، وسواء كانت صورة القياس اقترانيًا أو استثنائيًا - بعبارتهم أو بأي عبارة شئت، لاسيما في العبارات التي هي خير من عباراتهم وأبين في العقل، وأوجز في اللفظ والمعنى واحد‏.‏
    وجد هذا في أظهر الأمثلة إذا قلت‏:‏ هذا إنسان، وكل إنسان مخلوق، أو حيوان، أو حساس، أو متحرك بالإرادة، أو ناطق، أو ما شئت من لوازم الإنسان، فإن شئت صورت الدليل على هذه الصورة، وإن شئت قلت‏:‏ هو إنسان فهو مخلوق أو حساس أو حيوان أو متحرك كغيره من الناس، لاشتراكهما في الإنسانية المستلزمة لهذه الصفات، وإن شئت قلت‏:‏ هذا إنسان، والإنسانية مستلزمة لهذه الأحكام، فهي لازمة له، وإن شئت قلت‏:‏ إن كان إنسانًا فهو متصف بهذه الصفات اللازمة للإنسان، وإن شئت قلت‏:‏ إما أن يتصف بهذه الصفات وإما ألا يتصف، والثاني باطل، فتعين الأول؛ لأن هذه لازمة للإنسان لا يصور وجوده بدونها‏.‏
    وأما الاستقراء، فإنما يكون يقينيا؛ إذا كان استقراء تاما‏.‏ وحينئذ فتكون قد حكمت على القدر المشترك بما وجدته في جميع الأفراد، وهذا

    ج/ 9 ص -189-ليس استدلالا بجزئي على كلي ولا بخاص على عام، بل استدلال بأحد المتلازمين على الآخر، فإن وجود ذلك الحكم في كل فرد من أفراد الكلي العام، يوجب أن يكون لازمًا لذلك الكلي العام‏.‏ فقولهم‏:‏ إن هذا استدلال بخاص جزئي على عام كلي ليس بحق، وكيف ذلك، والدليل لابد أن يكون ملزوما للمدلول‏؟‏ فإنه لو جاز وجود الدليل مع عدم المدلول عليه، ولم يكن المدلول لازمًا له، لم يكن إذا علمنا ثبوت ذلك الدليل، نعلم ثبوت المدلول معه، إذا علمنا أنه تارة يكون معه، وتارة لا يكون معه، فإنا إذا علمنا ذلك، ثم قلنا‏:‏ إنه معه دائمًا كنا قد جمعنا بين النقيضين‏.‏
    وهذا اللزوم الذي نذكره هاهنا يحصل به الاستدلال بأي وجه حصل اللزوم، وكلما كان اللزوم أقوى وأتم وأظهر، كانت الدلالة أقوى وأتم وأظهر، كالمخلوقات الدالة على الخالق سبحانه وتعالى، فإنه ما منها مخلوق إلا وهو ملزوم لخالقه لا يمكن وجوده بدون وجود خالقه، بل ولا بدون علمه وقدرته ومشيئته وحكمته ورحمته، وكل مخلوق دال على ذلك كله‏.‏
    وإذا كان المدلول لازمًا للدليل، فمعلوم أن اللازم إما أن يكون مساويًا للملزوم، وإما أن يكون أعم منه، فالدليل لا يكون إلا أعم منه، وإذا قالوا في القياس‏:‏ يستدل بالكلي على الجزئي، فليس الجزئي هو الحكم المدلول عليه، وإنما الجزئي هو الموصوف المخبر عنه بمحل الحكم، فهذا قد يكون أخص من الدليل وقد يكون مساويا له، بخلاف الحكم الذي هو صيغة هذا، وحكمه الذي أخبر به عنه، فإنه لا يكون إلا أعم من الدليل أو مساويا له، فإن ذلك هو المدلول اللازم للدليل، والدليل هو لازم للمخبر عنه الموصوف‏.‏

    ج/ 9 ص -190-فإذا قيل‏:‏ النبيذ حرام لأنه خمر، فكونه خمرًا هو الدليل، وهو لازم للنبيذ، والتحريم لازم للخمر، والقياس المؤلف من المقدمتين إذا قلت‏:‏ كل النبيذ المتنازع فيه مسكر أو خمر، وكل خمر حرام، فأنت لم تستدل بالمسكر أو الخمر الذي هو كلي على نفس محل النزاع الذي هو أخص من الخمر والنبيذ، فليس هو استدلالا بذلك الكلي على الجزئي، بل استدللت به على تحريم هذا النبيذ، فلما كان تحريم هذا النبيذ مندرجًا في تحريم كل مسكر قال‏:‏ من قال أنه استدلال بالكلي على الجزئي‏؟‏
    والتحقيق أن ما ثبت للكلي فقد ثبت لكل واحد من جزئياته، والتحريم هو أعم من الخمر، وهو ثابت لها، فهو ثابت لكل فرد من جزئياتها، فهو استدلال بكلى على ثبوت كلي آخر لجزئيات ذلك الكلي‏.‏ وذلك الدليل هو كالجزئي بالنسبة إلى ذلك الكلي، وهو كلي بالنسبة إلى تلك الجزئيات، وهذا مما ما لا ينازعون فيه، فإن الدليل هو الحد الأوسط وهو أعم من الأصغر أو مساو له، والأكبر أعم منه أو مساو له، والأكبر هو الحكم والصفة والخبر، وهو محمول النتيجة، والأصغر هو المحكوم عليه الموصوف المبتدأ، وهو موضوع النتيجة‏.‏
    وأما قولهم في التمثيل‏:‏ أنه استدلال بجزئي على جزئي، فإن أطلق ذلك وقيل‏:‏ إنه استدلال بمجرد الجزئي على الجزئي، فهذا غلط، فإن ‏[‏قياس التمثيل‏]‏ إنما يدل بحد أوسط وهو اشتراكهما في علة الحكم، أو دليل الحكم مع العلة فإنه قياس علة أو قياس دلالة‏.‏

    ج/ 9 ص -191-وأما ‏[‏ قياس الشبه‏]‏، فإذا قيل به لم يخرج عن أحدهما، فإن الجامع المشترك بين الأصل والفرع إما أن يكون هو العلة أو ما يستلزم العلة، وما استلزمها لم يكن الاشتراك فيه مقتضيًا للاشتراك في الحكم، بل كان المشترك قد تكون معه العلة، وقد لا تكون، فلا نعلم صحة القياس، بل لا يكون صحيحًا إلا إذا اشتركا فيها‏.‏ ونحن لا نعلم الاشتراك فيها‏.‏ إلا إذا علمنا اشتراكهما فيها أو في ملزومها‏.‏ فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فإذا قدرنا أنهما لم يشتركا في الملزوم ولا فيها، كان القياس باطلا قطعًا؛ لأنه حينئذ تكون العلة مختصة بالأصل‏.‏ وإن لم يعلم ذلك لم تعلم صحة القياس، وقد يعلم صحة القياس بانتفاء الفارق بين الأصل والفرع، وإن لم تعلم عين العلة ولا دليلها، فإنه يلزم من انتفاء الفارق اشتراكهما في الحكم وإذا كان قياس التمثيل إنما يكون تاما بانتفاء الفارق‏.‏ أو بإبداء جامع، وهو كلي يجمعهما يستلزم الحكم، وكل منهما يمكن تصويره بصورة قياس الشمول‏.‏ وهو يتضمن لزوم الحكم للكلى ولزوم الكلي لجزئياته، وهذا حقيقة قياس الشمول، ليس ذلك استدلالًا بمجرد ثبوته لجزئي على ثبوته لجزئي آخر‏.‏
    فأما إذا قيل‏:‏ بم يعلم أن المشترك مستلزم للحكم‏؟‏ قيل‏:‏ بما تعلم به القضية الكبرى في القياس، فبيان الحد الأوسط هو المشترك الجامع، ولزوم الحد الأكبر له هو لزوم الحكم للجامع المشترك، كما تقدم التنبيه على هذا‏.‏ وقد يستدل بجزئي على جزئي، إذا كانا متلازمين، أو كان أحدهما ملزوم

    ج/ 9 ص -192-الآخر من غير عكس، فإن كان اللزوم عن الذات، كانت الدلالة على الذات، وإن كان في صفة أو حكم، كانت الدلالة على الصفة أو الحكم، فقد تبين ما في حصرهم من الخلل‏.‏
    وأما تقسيمهم إلى الأنواع الثلاثة، فكلها تعود إلى ما ذكر في استلزام الدليل للمدلول، وما ذكروه في ‏[‏الاقتراني‏]‏ يمكن تصويره بصورة ‏[‏الاستثنائي‏]‏، وكذلك ‏[‏الاستثنائي‏]‏ يمكن تصويره بصورة ‏[‏الاقتراني‏]‏، فيعود الأمر إلى معنى واحد، وهو مادة الدليل، والمادة لا تعلم من صورة القياس الذي ذكروه، بل من عرف المادة بحيث يعلم أن هذا مستلزم لهذا علم الدلالة ، سواء صورت بصورة قياس أو لم تصور، وسواء عبر عنها بعباراتهم أو بغيرها، بل العبارات التي صقلتها عقول المسلمين وألسنتهم خير من عباراتهم بكثير كثير‏.‏
    و‏[‏الاقتراني‏]‏ كله يعود إلى لزوم هذا لهذا، وهذا لهذا كما ذكر، وهذا بعينه هو ‏[‏الاستثنائي‏]‏ المؤلف من المتصل والمنفصل، فإن الشرطي المتصل استدلال باللزوم، بثبوت الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط على ثبوت اللازم الذي هو التالي، وهو الجزاء، أو بانتفاء اللازم وهو التالي الذي هو الجزاء على انتفاء الملزوم الذي هو المقدم وهو الشرط‏.‏
    وأما‏[‏الشرطي المنفصل‏]‏ وهو الذي يسميه الأصوليون ‏[‏السبر

    ج/ 9 ص -193-والتقسيم‏]‏، وقد يسميه أيضا الجدليون ‏[‏التقسيم والترديد‏]‏ فمضمونه الاستدلال بثبوت أحد النقيضين على انتفاء الآخر، وبانتفائه على ثبوته‏.‏ وأقسامه أربعة، ولهذا كان في مانعة الجمع والخلو الاستثناءات الأربعة وهو أنه إن ثبت هذا انتفى نقيضه وكذا الآخر، وإن انتفى هذا ثبت نقيضه وكذا الآخر، ومانعة الجمع الاستدلال بثبوت أحد الضدين على انتفاء الآخر، والأمران متنافيان، ومانعة الخلو فيها تناقض ولزوم، والنقيضان لا يرتفعان، فمنعت الخلو منهما، ولكن جزاءها وجود شيء وعدم آخر، ليس هو وجود الشيء وعدمه، ووجود شيء وعدم آخر قد يكون أحدهما لازمًا للآخر، وإن كانا لا يرتفعان؛ لأن ارتفاعهما يقتضي ارتفاع وجود شيء وعدمه معا‏.‏
    وبالجملة، ما من شيء إلا وله لازم لا يوجد بدونه، وله مناف مضاد لوجوده، فيستدل عليه بثبوت ملزومه، وعلى انتفائه بانتفاء لازمه، ويستدل على انتفائه بوجود منافيه، ويستدل بانتفاء منافيه على وجوده؛ إذا انحصر الأمر فيهما فلم يمكن عدمهما جميعًا، كما لم يمكن وجودهما جميعًا، وهذا الاستدلال يحصل من العلم بأحوال الشيء وملزومها ولازمها، وإذا تصورته الفطرة عبرت عنه بأنواع من العبارات وصورته في أنواع صور الأدلة، لا يختص شيء من ذلك بالصورة التي ذكروها في القياس، فضلا عما سموه البرهان، فإن البرهان شرطوا له مادة معينة، وهي القضايا التي ذكروها، وأخرجوا من الأوليات ما سموه وهميات، وما سموه مشهورات، وحكم الفطرة بهما لاسيما بما سموه وهميات أعظم من حكمها بكثير من اليقينيات التي جعلوها مواد البرهان‏.‏

    ج/ 9 ص -194-وقد بسطت القول على هذا وبينت كلامهم في ذلك وتناقضهم، وأن ما أخرجوه يخرج به ما ينال به أشرف العلوم من العلوم النظرية والعلوم العملية، ولا يبقى بأيديهم إلا أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان‏.‏ ولولا أن هذا الموضع لا يتسع لحكاية ألفاظهم في هذا وما أوردته عليهم لذكرته، فقد ذكرت ذلك كله في مواضعه من العلوم الكلية والإلهية، فإنها هي المطلوبة‏.‏
    والكلام في ‏[‏المنطق‏]‏ إنما وقع لما زعموا أنه آلة قانونية، تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، فاحتجنا أن ننظر في هذه الآلة، هل هي كما قالوا، أو ليس الأمر كذلك‏؟‏ ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد أقوالهم، ما يتبين به ضلالهم، وعجز عن دفع ذلك، يقول‏:‏ هذه علوم قد صقلتها الأذهان أكثر من ألف سنة وقبلها الفضلاء، فيقال له عن هذا أجوبة‏:‏
    أحدها‏:‏ أنه ليس الأمر كذلك، فما زال العقلاء الذين هم أفضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم، فأما القدماء، فالنزاع بينهم كثير معروف، وفي كتب أخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره، فأما أيام الإسلام، فإن كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما أفسدوه من أصولهم المنطقية والإلهية، بل والطبيعية والرياضية كثير، قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة،

    ج/ 9 ص -195- وأما شهادة سائر طوائف أهل الإيمان والعلماء بضلالهم، وكفرهم، فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند، والمؤمنون شهداء اللّه في الأرض ،فإذا كان أعيان الأذكياء الفضلاء من الطوائف، وسائر أهل العلم والإيمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم إما جملة وإما تفصيلا، امتنع أن يكون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن هذا ليس بحجة، فإن الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبله بالقبول طعن أرسطو في كثير منها وبين خطأهم، وابن سينا وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من أقاويلهم وبينوا خطأهم‏.‏ ورد الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض، وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله؛ لأنهم يقولون‏:‏ إنما قصدنا الحق، ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين‏.‏
    والثالث‏:‏ أن دين عباد الأصنام أقدم من فلسفتهم، وقد دخل فيه من الطوائف أعظم ممن دخل في فلسفتهم، وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو، ودين النصارى المبدل قريب من زمن أرسطو، فإن أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، فإنه كان في زمن الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى‏.‏

    ج/ 9 ص -196-الرابع‏:‏ أن يقال‏:‏ فهب أن الأمر كذلك، فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل، وإنما تعلم بمجرد العقل، فلا يجوز أن تصحح بالنقل، بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد، فإذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها، لم يجز رده، فإن أهلها لم يدعوا أنها مأخوذة عن شيء يجب تصديقه، بل عن عقل محض، فيجب التحاكم فيها إلى موجب العقل الصريح‏.
    فصل
    وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول، وأن قياس التمثيل دون الاستقراء، فقالوا‏:‏ إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن، وأن المحكوم عليه قد يكون جزئيًا، بخلاف الاستقراء، فإنه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليًا، قالوا‏:‏ وذلك أن الاستقراء هو الحكم على كلي بما تحقق في جزئياته‏.‏ فإن كان في جميع الجزئيات، كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك بالجسمية؛ لكونها محكومًا بها على جميع جزئيات المتحرك من الجماد والحيوان والنبات، والناقص كالحكم على الحيوان بأنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته، ولعله فيما لم يستقرأ على خلافه

    ج/ 9 ص -197-كالتمساح، والأول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني، وإن كان منتفعًا به في الجدليات‏.‏
    وأما قياس التمثيل‏:‏ فهو الحكم على شيء بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما، كقولهم‏:‏ العالم موجود، فكان قديما كالباري‏.‏ أو هو جسم فكان محدثَا كالإنسان، وهو مشتمل على فرع وأصل وعلة وحكم، فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال، والأصل ما هو مثل الباري أو الإنسان، والعلة الموجودة أو الجسم، والحكم القديم أو المحدث‏.‏
    قالو‏:‏ ويفارق الاستقراء من جهة أن المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيًا، والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا‏.‏ قالوا‏:‏ وهو غير مفيد لليقين؛ فإنه ليس من ضرورة اشتراك أمرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على أحدهما، إلا أن يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم، وكل ما يدل عليه فظني، فإن المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم‏.‏
    أما الطرد والعكس، فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودًا وعدما، ولابد في ذلك من الاستقراء، ولا سبيل إلى دعواه في الفرع؛ إذ هو غير

    ج/ 9 ص -198-المطلوب، فيكون الاستقراء ناقصا، لا سيما و يجوز أن تكون علة الحكم في الأصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها، ويكون وجودها في الأوصاف متحققًا فيها، فإذا وجد المشترك في الأصل ثبت الحكم لكمال علته، وعند انتفائه فينتفي لنقصان العلة، وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع، ثبوت الحكم، لجواز تخلف باقي الأوصاف أو بعضها‏.‏
    وأما السبر والتقسيم، فحاصله يرجع إلى دعوى حصر أوصاف الأصل في جملة معينة، وإبطال كل ما عدا المستبقى‏.‏ وهو أيضا غير يقيني لجواز أن يكون الحكم ثابتًا في الأصل لذات الأصل لا لخارج، و إلا لزم التسلسل، وإن ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغيرها أبدًا، وإن لم يطلع عليه مع البحث عنه، وليس الأمر كذلك في العاديات، فإنا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر زئبق وجبل من ذهب بين أيدينا، ونحن لا نشاهده، وإن كان منحصرًا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع، وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل، لجواز أن يكون في تلك معللا بعلة أخرى، ولا امتناع فيه، وإن كان لا علة له سواه، فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه، وإن بين أن ذلك الوصف يلزم لعموم ذاته الحكم، فمع بعده يستغنى عن التمثيل‏.‏

    ج/ 9 ص -199-قالوا‏:‏ والفراسة البدنية هي عين التمثيل، غير أن الجامع فيها بين الأصل والفرع دليل العلة لا نفسها، وهو المسمى في عرف الفقهاء بقياس الدلالة، فإنها استدلال بمعلول العلة على ثبوتها، ثم الاستدلال بثبوتها على معلولها الآخر؛ إذ مبناها على أن المزاج علة لخلق الباطن وخلق ظاهر، فيستدل بالخلق الظاهر على المزاج، ثم بالمزاج على الخلق الباطن، كالاستدلال بعرض الأعلى على الشجاعة، بناء على كونهما معلولي مزاج واحد كما يوجد مثل ذلك في الأسد، ثم إثبات العلة في الأصل لابد فيها من الدوران أو التقسيم كما تقدم، وإن قدر أن علة الحكمين في الأصل واحدة، فلا مانع من ثبوت أحدهما في الفرع بغير علة الأصل، وعند ذلك فلا يلزم الحكم الآخر‏.‏هذا كلامهم‏.‏
    فيقال‏:‏ تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل، بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل، بل حيث أفاد أحدهما اليقين، أفاد الآخر اليقين‏.‏ وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن، فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين‏.‏ فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا، حصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنًا، لم يفد إلا الظن‏.‏ والذي يسمى في أحدهما حدًا أوسط هو في الآخر الوصف المشترك، والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط هو بيان تأثير الوصف

    ج/ 9 ص -200-المشترك بين الأصل والفرع، فما به يتبين صدق القضية الكبرى، به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم‏.‏ فلزوم الأكبر للأوسط هو لزوم الحكم للمشترك‏.‏
    فإذا قلت‏:‏ النبيذ حرام قياسًا على الخمر؛ لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة، وهذا الوصف موجود في النبيذ، كان بمنزلة قولك‏:‏ كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام‏.‏ فالنتيجة‏:‏ قولك‏:‏ النبيذ حرام، والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر؛ والحرام محمولها وهو الحد الأكبر، والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الأوسط، المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى‏.‏
    فإذا قلت‏:‏ النبيذ حرام قياسًا على خمر العنب؛ لأن العلة في الأصل هو الإسكار وهو موجود في الفرع، فثبت التحريم لوجود علته؛ فإنما استدللت على تحريم النبيذ بالسكر وهو الحد الأوسط، لكن زدت في قياس التمثيل ذكر الأصل الذي يثبت به الفرع، وهذا لأن شعور النفس بنظير الفرع، أقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي، وإذا قام الدليل على تأثير الوصف المشترك، لم يكن ذكر الأصل محتاجًا إليه‏.‏
    والقياس لا يخلو، إما أن يكون بإبداء الجامع، أو بإلغاء الفارق، و الجامع إما العلة وإما دليلها وإما القياس بإلغاء الفارق، فهنا الغاء الفارق هو الحد الأوسط‏.

    ج/ 9 ص -201-فإذا قيل‏:‏ هذا مساو لهذا، ومساوي المساوي مساو، كانت المساواة هي الحد الأوسط وإلغاء الفارق عبارة عن المساواة‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وهو متعذر، فهو بمنزلة قولك‏:‏ هذا مساو لهذا‏.‏ وحكم المساوي حكم مساويه‏.‏
    وأما قولهم‏:‏ كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ، فظني‏.‏
    فيقال‏:‏ لا نسلم؛ فإن هذه دعوى كلية ولم تقيموا عليها دليلا‏.‏ ثم نقول‏:‏ الذي يدل به على علية المشترك هو الذي يدل به على صدق القضية الكبرى، وكل ما يدل به على صدق الكبرى في قياس الشمول يدل به على علية المشترك في قياس التمثيل، سواء كان علميًا أو ظنيًا؛ فإن الجامع المشترك في التمثيل، هو الحد الأوسط، ولزوم الحكم له هو لزوم الأكبر للأوسط، ولزوم الأوسط للأصغر هو لزوم الجامع المشترك للأصغر، وهو ثبوت العلة في الفرع‏.‏
    فإذا كان الوصف المشترك، وهو المسمى بالجامع، والعلة أو دليل العلة أو المناط أو ما كان من الأسماء إذا كان ذلك الوصف ثابتًا في الفرع، لازمًا له كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الصغرى‏.‏ وإذا كان الحكم ثابتًا للوصف لازمًا له، كان ذلك موجبا لصدق المقدمة الكبرى‏.‏ وذكر الأصل يتوصل به إلى إثبات

    ج/ 9 ص -202- إحدى المقدمتين، فإن كان القياس بإلغاء الفارق فلابد من الأصل المعين؛ فإن المشترك هو المساواة بينهما وتماثلهما، وهو إلغاء الفارق هو الحد الأوسط، وإن كان القياس بإبداء العلة، فقد يستغنى عن ذكر الأصل إذا كان الاستدلال على علية الوصف لا يفتقر إليه، وأما إذا احتاج إثبات علية الوصف إليه فيذكر الأصل؛ لأنه من تمام ما يدل على علية المشترك، وهو الحد الأكبر‏.‏ وهؤلاء الذين فرقوا بين قياس التمثيل وقياس الشمول أخذوا يظهرون كون أحدهما ظنيًا في مواد معينة، وتلك المواد التي لا تفيد إلا الظن في قياس التمثيل، لا تفيد إلا الظن في قياس الشمول، وإلا فإذا أخذوه فيما يستفاد به اليقين من قياس الشمول، أفاد اليقين في قياس التمثيل أيضًا‏.‏ وكان ظهور اليقين به هناك أتم‏.‏
    فإذا قيل في قياس الشمول‏:‏ كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم، كان الحيوان هو الحد الأوسط وهو المشترك في قياس التمثيل، بأن يقال‏:‏ الإنسان جسم، قياسًا على الفرس وغيره من الحيوانات؛ فإن كون تلك الحيوانات حيوانًا، هو مستلزم لكونها أجسامًا‏.‏ وإذا نوزع في علية الحكم في الأصل، فقيل له‏:‏ لا نسلم أن الحيوانية تستلزم الجسيمة، كان هذا نزاعًا في قوله‏:‏ كل حيوان جسم‏.‏ وذلك أن المشترك بين الأصل والفرع، إذا سمى علة، فإنما يراد به ما يستلزم الحكم؛ سواء كان هو العلة الموجبة لوجوده في الخارج، أو كان مستلزما لذلك.

    ج/ 9 ص -203-ومن الناس من يسمى الجميع علة، لاسيما من يقول‏:‏ إن العلة إنما يراد بها المعرف؛ وهو الأمارة والعلامة والدليل، لا يراد بها الباعث والداعي، ومن قال‏:‏ إنه قد يراد بها الداعي وهو الباعث فإنه يقول ذلك في علل الأفعال‏.‏ وأما غير الأفعال فقد تفسر العلة فيها بالوصف المستلزم، كاستلزام الإنسانية للحيوانية، والحيوانية للجسمية، وإن لم يكن أحد الوصفين هو المؤثر في الآخر على أنا قد بينا في غير هذا الموضع، أن ما به يعلم كون الحيوان جسمًا، يعلم أن الإنسان جسم، حيث بينا أن قياس الشمول الذي يذكرونه قليل الفائدة أو عديمها؛ وأن ما به يعلم صدق الكبرى في العقليات، يعلم صدق أفرادها التي منها الصغرى، بل وبذلك يعلم صدق النتيجة‏.‏
    ثم قال‏:‏ وتناقضهم وفساد قولهم أكثر من أن يذكر‏.‏
    والمقصود هنا الكلام على ‏[‏المنطق‏]‏، وما ذكروه من البرهان، وأنهم يعظمون قياس الشمول، ويستخفون بقياس التمثيل ويزعمون أنه إنما يفيد الظن، و أن العلم لا يحصل إلا بذاك، وليس الأمر كذلك، بل هما في الحقيقة من جنس واحد، وقياس التمثيل الصحيح أولى بإفادة المطلوب علمًا كان أو ظنًا من مجرد قياس الشمول؛ ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون بقياس التمثيل أكثر مما يستدلون بقياس الشمول، بل لا يصح قياس الشمول في الأمر العام إلا بتوسط قياس التمثيل، وكل ما يحتج به على صحة قياس الشمول في بعض الصور، فإنه يحتج به على صحة قياس التمثيل في تلك

    ج/ 9 ص -204-الصورة‏.‏ ومثلنا هذا بقولهم‏:‏ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فإنه من أشهر أقوالهم الفاسدة الإلهية‏.‏ وأما الأقوال الصحيحة، فهذا أيضًا ظاهر فيها، فإن قياس الشمول لابد فيه من قضية كلية موجبة، فلا نتاج عن سالبتين ولا عن جزئيتين باتفاقهم‏.‏
    والكلى لا يكون كليًا إلا في الذهن، فإذا عرف تحقق بعض أفراده في الخارج، كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليًا موجبًا، فإنه إذا أحس الإنسان ببعض الأفراد الخارجية، انتزع منه وصفًا كليًا، لا سيما إذا كثرت أفراده، والعلم بثبوت الوصف المشترك لأصل في الخارج هو أصل العلم بالقضية الكلية‏.‏
    وحينئذ، فالقياس التمثيلي أصل للقياس الشمولي، إما أن يكون سببًا في حصوله، وإما أن يقال‏:‏ لا يوجد بدونه، فكيف يكون وحده أقوى منه، وهؤلاء يمثلون الكليات بمثل قول القائل‏:‏ الكل أعظم من الجزء، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك‏.‏ وما من كلي من هذه الكليات إلا وقد علم من أفراده الخارجة أمور كثيرة، وإذا أريد تحقيق هذه الكلية في النفس ضرب لها المثل بفرد من أفرادها‏.‏ وبين انتفاء الفارق بينه وبين غيره أو ثبوت الجامع وحينئذ يحكم العقل بثبوت الحكم لذلك المشترك الكلي، وهذا حقيقة قياس التمثيل‏.‏

    ج/ 9 ص -205-ولو قدرنا أن قياس الشمول لا يفتقر إلى التمثيل، وأن العلم بالقضايا الكلية لا يفتقر إلى العلم بمعين أصلا، فلا يمكن أن يقال‏:‏ إذا علم الكلي مع العلم بثبوت بعض أفراده في الخارج، كان أنقص من أن يعلمه بدون العلم بذلك المعين؛ فإن العلم بالمعين ما زاده إلا كمالا، فتبين أن ما نفوه من صورة القياس أكمل مما أثبتوه‏.‏
    واعلم أنهم في ‏[‏المنطق الإلهي‏]‏ بل و ‏[‏الطبيعي‏]‏ غيروا بعض ما ذكره أرسطو، لكن ما زادوه في الإلهي هو خير من كلام أرسطو، فإني قد رأيت الكلامين‏.‏ وأرسطو وأتباعه في الإلهيات أجهل من اليهود والنصارى بكثير كثير، وأما في الطبيعيات فغالب كلامه جيد، وأما المنطق فكلامه فيه خير من كلامه في الإلهي‏.‏
    وما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل، إنما هو من كلام متأخريهم لما رأوا استعمال الفقهاء له غالبًا، والفقهاء يستعملونه كثيرًا في المواد الظنية، وهناك الظن حصل من المادة لا من صورة القياس، فلو صوروا تلك المادة بقياس الشمول، لم يفد أيضًا إلا الظن، لكن هؤلاء ظنوا أن الضعف من جهة الصورة، فجعلوا صورة قياسهم يقينيًا، وصورة قياس الفقهاء ظنيًا، ومثلوه بأمثلة كلامية ليقرروا أن المتكلمين يحتجون علينا بالأقيسة الظنية، كما مثلوه من الاحتجاج عليهم بأن الفلك جسم مؤلف فكان محدثًا قياسًا على الإنسان وغيره من المولدات، ثم أخذوا يضعفون هذا القياس، لكن إنما

    ج/ 9 ص -206-ضعفوا بضعف مادته، فإن هذا الدليل الذي ذكره الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم على حدوث الأجسام أدلة ضعيفة لأجل مادتها لا لكون صورتها ظنية، ولهذا لا فرق بين أن يصوروها بصورة التمثيل أو الشمول‏.
    فصل
    وأما المقام الرابع، وهو قولهم‏:‏ إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات، فهو أدق المقامات‏.‏
    وذلك أن خطأ المنطقيين في المقامات الثلاثة وهي منع إمكان التصور إلا بالحد، وحصول التصور بالحد، ومنع حصول التصديق بالحد،ومنع حصول التصديق بالقياس واضح بأدنى تدبر، ومدركه قريب، والعلم به ظاهر‏.‏ وإنما يلبسون على الناس بالتهويل والتطويل، وأظهرها خطأ دعواهم أن التصورات المطلوبة لا تحصل إلا بما ذكروه من الحد، ويليه قولهم‏:‏ إن شيئًا من التصديقات المطلوبة لا تنال إلا بما ذكروه من القياس، فإن هذا النفي العام أمر لا سبيل إلى العلم به، ولا يقوم عليه دليل أصلًا، مع أنه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس، كما تحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد، بخلاف هذا المقام

    ج/ 9 ص -207-الرابع فإن كون القياس المؤلف من المقدمتين يفيد النتيجة، هو أمر صحيح في نفسه‏.‏
    لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب إلى أرسطو، أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية، بل كل ما يمكن علمه بقياسهم يمكن علمه بدون قياسهم، فلم يكن في قياسهم ما يحصل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه، ولا حاجة إلى ما يمكن العلم بدونه، فصار عديم التأثير في العلم وجودًا وعدما، وفيه تطويل كثير متعب، فهو مع أنه لا ينفع في العلم فيه إتعاب الأذهان وتضييع الزمان، وكثرة الهذيان، والمطلوب من الأدلة والبراهين بيان العلم ،وبيان الطرق المؤدية إلى العلم‏.‏
    قالوا‏:‏ وهذا لا يفيد العلم المطلوب، بل قد يكون من الأسباب المعوقة له؛ لما فيه من كثرة تعب الذهن، كمن يريد أن يسلك الطريق ليذهب إلى مكة أو غيرها من البلاد، فإذا سلك الطريق المستقيم المعروف، وصل في مدة قريبة بسعي معتدل، فإذا قيض له من يسلك به التعاسيف - والعسف في اللغة الأخذ على غير طريق بحيث يدور به طرقًا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة- فإنه يتعب تعبًا كثيرًا، حتى يصل إلى الطريق المستقيمة إن وصل، وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب‏.‏ فيعتقد اعتقادات فاسدة، وقد يعجز بسبب

    ج/ 9 ص -208-ما يحصل له من التعب والإعياء، فلا هو نال مطلوبه ولا هو استراح، هذا إذا بقى في الجهل البسيط، وهكذا هؤلاء‏.‏
    ولهذا حكى من كان حاضرًا عند موت أمام المنطقيين في زمانه الخونجي، أنه قال عند موته‏:‏ أموت ولا أعلم شيئًا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب‏.‏ثم قال‏:‏ الافتقار وصف سلبي، أموت وما علمت شيئًا‏.‏
    فهذا حالهم إذا كان منتهى أحدهم الجهل البسيط، وأما من كان منتهاه الجهل المركب، فكثير‏.‏ والواصل منهم إلى علم، يشبهونه بمن قيل له‏:‏ أين أذنك‏؟‏ فأدار يده على رأسه، ومدها إلى أذنه بكلفة، وقد كان يمكنه أن يوصلها إلى أذنه من تحت رأسه؛ وهو أقرب وأسهل‏.‏
    والأمور الفطرية متى جعل لها طرق غير الفطرية، كان تعذيبًا للنفوس بلا منفعة لها، كما لو قيل لرجل‏:‏ اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية، فإن هذا ممكن بلا كلفة‏.‏ فلو قال له قائل‏:‏ اصبر، فإنه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها ،وتميز بينها وبين الضرب، فإن القسمة عكس الضرب، فإن الضرب هو تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، والقسمة توزيع أحاد العددين على آحاد العدد الآخر؛ ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم، وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الآخر‏.‏ ثم يقال‏:‏ ما ذكرته في حد الضرب لا يصح، فإنه إنما

    ج/ 9 ص -209- يتناول ضرب العدد الصحيح دون المكسور، بل الحد الجامع لهما أن يقال‏:‏ الضرب طلب جملة تكون نسبتها إلى أحد المضروبين كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر، فإذا قيل‏:‏ اضرب النصف في الربع فالخارج هوالثمن، ونسبته إلى الربع كنسبة النصف إلى الواحد‏.‏ فهذا وإن كان كلامًا صحيحًا، لكن من المعلوم أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه ألا يقسمه حتى يتصور هذا كله، كان هذا تعذيبًا له بلا فائدة، وقد لا يفهم هذا الكلام، و قد تعرض له فيه إشكالات‏.‏
    فكذلك الدليل والبرهان هو المرشد إلى المطلوب، والموصل إلى المقصود، وكل ما كان مستلزمًا لغيره فإنه يمكن أن يستدل به عليه؛ ولهذا قيل‏:‏ الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا إلى علم أو ظن‏.‏
    فالمقصود أن كل ما كان مستلزمًا لغيره بحيث يكون ملزوما له، فإنه يكون دليلا عليه وبرهانًا له، سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديًا والآخر عدميًا، فأبدًا الدليل ملزوم للمدلول عليه، والمدلول لازم للدليل‏.‏
    ثم قد يكون الدليل مقدمة واحدة متى علمت علم المطلوب، وقد يحتاج المستدل إلى مقدمتين، وقد يحتاج إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس وأكثر، ليس لذلك حد مقدر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب،بل ذلك

    ج/ 9 ص -210-بحسب علم المستدل الطالب بأحوال المطلوب، والدليل، ولوازم ذلك، وملزوماته‏.‏ فإذا قدر أنه قد عرف ما به يعلم المطلوب مقدمة واحدة، كان دليله الذي يحتاج إلى بيانه له تلك المقدمة، كمن علم أن الخمر محرم، وعلم أن النبيذ المتنازع فيه مسكر، لكن لم يعلم أن كل مسكر هو خمر، فهو لا يحتاج إلا إلى هذه المقدمة‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال‏:
    ‏ ‏"‏كل مسكر خمر‏"‏، حصل مطلوبه، ولم يحتج إلى أن يقال‏:‏ كل نبيذ مسكر، وكل مسكر خمر‏.‏ ولا أن يقال‏:‏ كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، فإن هذا كله معلوم له لم يكن يخفى عليه، إلا أن اسم الخمر هل هو مختص ببعض المسكرات كما ظنه طائفة من علماء المسلمين، أو هو شامل لكل مسكر، فإذا ثبت له عن صاحب الشرع أنه جعله عامًا لا خاصا حصل مطلوبه‏.‏ وهذا الحديث في صحيح مسلم، ويروي بلفظين‏:‏ ‏"‏كل مسكر خمر‏"‏، و‏"‏كل مسكر حرام‏"‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ كل مسكر خمر، وكل خمر حرام‏.‏ كالنظم اليوناني، فإن النبي ﷺ أجل قدرًا في علمه وبيانه من أن يتكلم بمثل هذيانهم، فإنه إن قصد مجرد تعريف الحكم لم يحتج مع قوله إلى دليل‏.‏ وإن قصد بيان الدليل كما بين الله في القرآن عامة المطالب الإلهية التي تقرر الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، فهو ﷺ أعلم الخلق بالحق، و أحسنهم بيانا له‏.‏
    فعلم أنه ليس جميع المطالب تحتاج إلى مقدمتين،ولا يكفي في جميعها

    ج/ 9 ص -211-مقدمتان، بل يذكر ما يحصل به البيان والدلالة سواء كان مقدمة، أو مقدمتين، أو أكثر‏.‏ وما قصد به هدى عام كالقرآن الذي أنزله الله بيانا للناس يذكر فيه من الأدلة ما ينتفع به الناس عامة، وهذا إنما يمكن بيان أنواعها العامة‏.‏ وأما ما يختص به كل شخص فلا ضابط له حتى يذكر في كلام، بل هذا يزول بأسباب تختص بصاحبه كدعائه لنفسه ومخاطبة شخص معين له بما يناسب حاله، ونظره فيما يخص حاله ونحو ذلك‏.‏
    وأيضًا، فما يذكرونه من القياس لا يفيد العلم بشيء معين من الموجودات، ثم تلك الأمور الكلية يمكن العلم بكل واحد منها بما هو أيسر من قياسهم، فلا تعلم كلية بقياسهم إلا والعلم بجزئياتها ممكن بدون قياسهم، وربما كان أيسر، فإن العلم بالمعينات قد يكون أبين من العلم بالكليات، وهذا مبسوط في موضعه‏.‏
    والمقصود هنا‏:‏ أن المطلوب هو العلم، والطريق إليه هو الدليل، فمن عرف دليل مطلوبه، عرف مطلوبه، سواء نظمه بقياسهم أم لا، ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم، ولا يقال‏:‏ إن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها، فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم، فإن حقيقة قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته‏.‏
    وأما كون الدليل المعين مستلزمًا لمدلوله،فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض

    ج/ 9 ص -212-له بنفي ولا إثبات، وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل، وليس في قياسهم بيان صحة شيء من المقدمات ولا فسادها، وإنما يتكلمون في هذا إذا تكلموا في مواد القياس وهو الكلام في المقدمات من جهة ما يصدق بها، وكلامهم في هذا فيه خطأ كثير، كما نبه عليه في موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم، فمن عرف أن هذا لازم لهذا، استدل بالملزوم على اللازم‏.‏ وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ، بل من عرف أن كذا لابد له من كذا، أو أنه إذا كان كذا كان كذا، وأمثال هذا، فقد علم اللزوم‏.‏ كما يعرف أن كل ما في الوجود آية لله، فإنه مفتقر إليه محتاج إليه، لابد له من محدث ،كما قال تعالى‏:‏ ‏
    "‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ‏"‏ [‏الطور‏:‏ 35‏]‏، قال جبير بن مطعم‏:‏ لما سمعت هذه الآية أحسست بفؤادي قد انصدع‏.‏ فإن هذا تقسيم حاصر يقول‏:‏ أخلقوا من غير خالق خلقهم‏؟‏ فهذا ممتنع في بدائة العقول، أم خلقوا أنفسهم، فهذا أشد امتناعا، فعلم أن لهم خالقًا خلقهم‏.‏
    وهو - سبحانه - ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار، ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس، لا يمكن لأحد إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول‏:‏ هذا أحدث نفسه‏.‏

    ج/ 9 ص -213-وكثير من النظار يسلك طريقًا في الاستدلال على المطلوب، ويقول‏:‏ لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق، ولا يكون الأمر كما قاله في النفي، وإن كان مصيبًا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج، يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة‏.‏
    وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس‏.‏ وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره‏.‏ أو من أعرض عن غيره، وبعض الناس يكون كلما كان الطريق أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له؛ لأن نفسه اعتادت النظر في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد تستعمل معه الطرق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم بالمطلوب متوقفًا عليها مطلقًا، فإن من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم، فيحب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات؛ ولهذا يرغب كثير من علماء السنة في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور وهو علم صحيح في نفسه‏.‏
    و علم الفرائض نوعان‏:‏ أحكام وحساب‏.‏ فالأحكام ثلاثة أنواع‏:‏ علم الأحكام على مذهب بعض الفقهاء، و هذا أولها، ويليه علم أقاويل الصحابة فيما

    ج/ 9 ص -214-اختلف فيه منها، ويليه علم أدلة ذلك من الكتاب والسنة‏.‏ وأما ‏"‏حساب الفرائض‏"‏ فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات‏.‏ وهذا الثاني كله علم معقول يعلم بالعقل كسائر حساب المعاملات وغير ذلك من الأنواع التي يحتاج إليها الناس‏.‏
    ثم قد ذكروا حساب المجهول الملقب بحساب الجبر والمقابلة في ذلك وهو علم قديم، لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك، أول من عرف أنه أدخله فيها محمد بن موسي الخوارزمي‏.‏ وبعض الناس يذكر عن علي بن أبي طالب أنه تكلم فيه، وأنه تعلم ذلك من يهودي، وهذا كذب على علي‏.‏
    ولفظ ‏[‏الدور‏]‏ يقال على ثلاثة أنواع‏:‏
    الدور الكوني‏
    :‏ الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا، ولا يكون هذا حتى يكون هذا‏.‏ وطائفة من النظار كانوا يقولون‏:‏ هو ممتنع‏.‏ والصواب أنه نوعان - كما يقوله الآمدي وغيره‏:‏ ‏[‏دور قبلي‏]‏ و ‏[‏دور معي‏]‏، فالقبلي ممتنع وهو الذي يذكر في العلل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك، مثل أن يقال‏:‏ لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلًا للآخر؛ لأنه يفضي إلى الدور، وهو أنه يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا‏.‏و‏[‏المعي‏]‏ ممكن وهو دور الشرط مع المشروط،وأحد المتضايفين مع الآخر مثل‏:‏ ألا تكون الأبوة إلا مع البنوة، ولا تكون البنوة إلا مع الأبوة‏.‏

    ج/ 9 ص -215-النوع الثاني‏:‏ الدور الحكمي الفقهي المذكور في المسألة السريجية وغيرها‏.‏ وقد أفردنا فيه مؤلفًا، وبينا أنه باطل عقلا وشرعًا، وبينا هل في الشريعة شيء من هذا الدور أم لا‏؟‏
    الثالث‏:‏ الدور الحسابي‏:‏ وهو أن يقال‏:‏ لا يعلم هذا حتى يعلم هذا، فهذا هو الذي يطلب حله بالحساب والجبر والمقابلة‏.‏ وقد بينا أنه يمكن الجواب عن كل مسألة شرعية جاء بها الرسول ﷺ بدون حساب الجبر والمقابلة‏.‏ وإن كان حساب الجبر والمقابلة صحيحًا، فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا، وإن كان طريقًا صحيحًا، بل طرق الجبر والمقابلة فيها تطويل، يغني الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق‏.‏
    وهكذا كل ما بعث به النبي ﷺ ،مثل العلم بجهة القبلة، والعلم بمواقيت الصلاة، والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال، فكل هذا يمكن العلم به بالطرق التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاجون معها إلى شيء آخر‏.‏ وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقًا أخر‏.‏ وكثير منهم يظن أنه لا يمكن معرفة الشريعة إلا بها‏.‏ وهذا من جهلهم، كما يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها، وهو وإن كان علما صحيحًا حسابيًا يعرف بالعقل، لكن معرفة المسلمين بقبلتهم ليست موقوفة على هذا، بل قد ثبت عن صاحب الشرع

    ج/ 9 ص -216- ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ما بين المشرق والمغرب قبلة‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث ‏[‏حسن‏]‏ صحيح‏.‏
    ولهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلي ليس عليه أن يستدل بالقطب ولا بالجدي ولا غير ذلك، بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق عن شماله صحت صلاته‏.‏ وكذلك لا يمكن ضبط وقت طلوع الهلال بالحساب، فإنهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس، وأنه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء، فإذا فارق الشمس صار فيه النور، فهم أكثر ما يمكنهم أن يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس‏.‏ هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله، فإنهم يسمونه علم التقويم والتعديل؛ لأنهم يأخذون أعلى مسير الكواكب وأدناه فيأخذون معدله، فيحسبونه فإذا قدر أنهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس، لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها؛ لأن الرؤية أمر حسي لها أسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره، وارتفاع النظر وانخفاضه، وحدة البصر وكلاله، فمن الناس من لا يراه، ويراه من هو أحد بصرًا منه ونحو ذلك‏.‏
    فلهذا كان قدماء علماء ‏"‏الهيئة‏"‏ كبطليموس صاحب المجسطي وغيره، لم يتكلموا في ذلك بحرف، وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه، لما رأوا الشريعة جاءت باعتبار الرؤية، فأحبوا أن يعرفوا ذلك، بالحساب

    ج/ 9 ص -217-فضلوا وأضلوا‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه لا يري على اثنتى عشرة درجة أو عشر ونحو ذلك، فقد أخطأ؛ فإن من الناس من يراه على أقل من ذلك، ومنهم من لا يراه على ذلك، فلا العقل اعتبروا ولا الشرع عرفوا؛ ولهذا أنكر ذلك عليهم حذاق صناعتهم‏.‏
    ثم قال‏:‏ فصورة القياس لا تدفع صحتها،لكن نبين أنه لا يستفاد به علم بالموجودات‏.‏ كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص شرط باطل، فهو وإن حصل به يقين فلا يستفاد بخصوصه يقين مطلوب بشيء من الموجودات‏.‏ فنقول‏:‏ إن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة لا ريب أنه يفيد اليقين، فإذا قيل‏:‏ كل أ‏:‏ ب، وكل ب‏:‏ ج، وكانت المقدمتان معلومتين، فلا ريب أن هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ‏:‏ ج، لكن يقال‏:‏ ما ذكروه من كثرة الأشكال وشرط نتاجها تطويل قليل الفائدة كثير التعب‏.‏
    فإنه متى كانت المادة صحيحة، أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري، فبقية الأشكال لا يحتاج إليها، وهي إنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول، إما بإبطال النقيض الذي يتضمنه قياس الخلف، وإما بالعكس المستوى، أو عكس النقيض، فإن ثبوت أحد المتناقضين يستلزم نفي الآخر، إذا رد على التناقض من كل وجه‏.‏ فهم يستدلون بصحة القضية على بطلان نقيضها، وعلى ثبوت عكسها المستوى وعكس نقيضها، بل تصور الذهن

    ج/ 9 ص -218-لصورة الدليل يشبه حساب الإنسان لما معه من الرقيق والعقار، والفطرة تتصور القياس الصحيح من غير تعليم، والناس بفطرهم يتكلمون بالأنواع الثلاثة التداخل والتلازم والتقسيم، كما يتكلمون بالحساب ونحوه، والمنطقيون قد يسلمون ذلك‏.‏
    والحاصل أنا لا ننكر أن القياس يحصل به علم إذا كانت مواده يقينية، لكن نقول‏:‏ إن العلم الحاصل به لا يحتاج فيه إلى القياس المنطقي، بل يحصل بدون ذلك، فلا يكون شيء من العلم متوقفًا على هذا القياس‏.‏
    ثم المواد اليقينية التي ذكروها لا يحصل بها علم بالأمور الموجودة، فلا يحصل بها مقصود تزكو به النفوس، بل ولا علم بالحقائق الموجودة في الخارج على ما هي عليه إلا من جنس ما يحصل بقياس التمثيل، فلا يمكن قط أن يتحصل بالقياس الشمولي المنطقي الذي يسمونه البرهاني علم إلا وذلك يحصل بقياس التمثيل الذي يستضعفونه؛ فإن ذلك القياس لابد فيه من قضية كلية‏.‏ والعلم بكون الكلية كلية لا يمكن الجزم به إلا مع الجزم بتماثل أفراده في القدر المشترك، وهذا يحصل بقياس التمثيل، ونحن نبين ذلك بوجوه‏:‏
    الأول‏:‏ أن المواد اليقينية قد حصروها في الأصناف المعروفة عندهم‏.‏

    ج/ 9 ص -219-أحدها‏:‏ الحسيات، ومعلوم أن الحس لا يدرك أمرًا كليًا عامًا، أصلا فليس في الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة في البرهان اليقيني، وإذا مثلوا ذلك بأن النار تحرق ونحو ذلك، لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية، وإنما معهم التجربة والعادة التي هي من جنس قياس التمثيل‏.‏ وإن علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة، فالعلم بأن كل نار لابد فيها من هذه القوة، هو أيضًا حكم كلي، وإن قيل‏:‏ إن الصورة النارية لابد أن تشتمل على هذه القوة‏.‏ وأن ما لا قوة فيه ليس بنار، فهذا الكلام إن صح لا يفيد الجزم بأن كل ما فيه هذه القوة يحرق ما لاقاه، وإن كان هذا هو الغالب، فهذا يشترك فيه قياس التمثيل والشمول والعادة والاستقراء الناقص إذا سلم لهم ذلك كيف وقد علم أنها لا تحرق السمندل والياقوت والأجسام المطلية بأمور مصنوعة‏؟‏‏!‏ ولا أعلم في القضايا الحسية كلية لا يمكن نقضها، مع أن القضية الكلية ليست حسية، وإنما القضية الحسية‏:‏ أن هذه النار تحرق، فإن الحس لا يدرك إلا شيئًا خاصًا‏.‏
    وأما الحكم العقلي، فيقولون‏:‏ إن النفس عند رؤيتها هذه المعينات مستعدة لأن تفيض عليها قضية كليه بالعموم، ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل، ولا يوثق بعمومه إن لم يعلم أن الحكم العام لازم للقدر المشترك‏.‏ وهذا إذا علم، علم في جميع المعينات، فلم يكن العلم بالمعينات موقوفًا على هذا، مع أنه ليس من القضايا العاديات قضية كلية لا يمكن نقضها باتفاق العقلاء‏.‏

    ج/ 9 ص -220-/الثاني‏:‏ الوجدانيات الباطنية، كإدراك كل أحد جوعه وألمه ولذته، وهذه كلها جزئيات، بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئي منها، كما قد يشتركون في إدراك بعض الحسيات المنفصلة كالشمس والقمر، ففيها من الخصوص في المدرك، والمدرك ما ليس في الحسيات المنفصلة، وإن اشتركوا في نوعها فهي تشبه العاديات، ولم يقيموا حجة على وجوب تساوي النفوس في هذه الأحوال، بل ولا على النفس الناطقة، أنها مستوية الأفراد‏.‏
    الثالث‏:‏ المجربات‏:‏ وهي كلها جزئية، فإن التجربة إنما تقع على أمور معينة‏.‏ وكذلك ‏[‏المتواترات‏]‏، فإن المتواتر إنما هو ما علم بالحس من مسموع أو مرئي‏.‏ فالمسموع قول معين، والمرئي جسم معين أو لون معين أو عمل معين أو أمر معين‏.‏ وأما ‏[‏الحدسيات‏]‏ إن جعلت يقينية، فهي نظير المجربات؛ إذ الفرق بينهما لا يعود إلى العموم والخصوص، وإنما يعود إلى أن ‏[‏المجربات‏]‏ تتعلق بما هو من أفعال المجربين، والحدسيات تكون عن أفعالهم، وبعض الناس يسمى الكل تجريبيات فلم يبق معهم إلا الأوليات التي هي البديهيات العقلية، والأوليات الكلية إنما هي قضايا مطلقة في الأعداد والمقادير ونحوها مثل قولهم‏:‏ الواحد نصف الاثنين، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك، وهذه مقدرات في الذهن ليست في الخارج كلية‏.‏

    ج/ 9 ص -221-فقد تبين أن القضايا الكلية البرهانية، التي يجب القطع بكليتها التي يستعملونها في قياسيهم لا تستعمل في شيء من الأمور الموجودة، وإنما تستعمل في مقدرات ذهنية، فإذن لايمكنهم معرفة الأمور الموجودة بالقياس البرهاني، وهذا هو المطلوب؛ ولهذا لم يكن لهم علم بحصر أقسام الموجود، بل أرسطو لما حصر أجناس الموجودات في ‏[‏المقولات العشر‏]‏‏:‏ الجوهر، والكم، والكيف، والآين، ومتى، والوضع، وأن يفعل، وأن ينفعل، والملك، والإضافة، اتفقوا على أنه لا سبيل إلى معرفة صحة هذا الحصر‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ إذا كان لابد في كل قياس من قضية كلية، فتلك القضية الكلية لابد أن تنتهي إلى أن تعلم بغير قياس، وإلا لزم الدور والتسلسل، فإذا كان لابد أن تكون لهم قضايا كلية معلومة بغير قياس، فنقول‏:‏ ليس في الموجودات ما تعلم له الفطرة قضية كلية بغير قياس، إلا وعلمها بالمفردات المعينة من تلك القضية الكلية أقوى من علمها بتلك القضية الكلية، مثل قولنا‏:‏ الواحد نصف الاثنين، والجسم لا يكون في مكانين، والضدان لا يجتمعان، فإن العلم بأن هذا الواحد نصف الاثنين في الفطرة أقوى من العلم بأن كل واحد نصف كل اثنين، وهكذا كل ما يفرض من الآحاد‏.‏
    فيقال‏:‏ المقصود بهذه القضايا الكلية إما أن يكون العلم بالموجود الخارجي،/

    ج/ 9 ص -222-أو العلم بالمقدرات الذاهنية، أما الثاني ففائدته قليلة، وأما الأول فما من موجود معين إلا وحكمه بعلم تعينه أظهر وأقوى من العلم به عن قياس كلي يتناوله، فلا يتحصل بالقياس كثير فائدة، بل يكون ذلك تطويلا، وإنما استعمل القياس في مثل ذلك لأجل الغالط والمعاند، فيضرب له المثل وتذكر الكلية ردًا لغلطه وعناده بخلاف من كان سليم الفطرة‏.‏
    وكذلك قولهم‏:‏ الضدان لا يجتمعان، فأي شيئين علم تضادهما، فإنه يعلم أنهما لا يجتمعان قبل استحضار قضية كلية بأن كل ضدين لا يجتمعان، وما من جسم معين إلا يعلم أنه لا يكون في مكانين قبل العلم بأن كل جسم لا يكون في مكانين، وأمثال ذلك كثير‏.‏
    فما من معين مطلوب علمه بهذه القضايا الكلية إلا وهو يعلم قبل أن تعلم هذه القضية، ولا يحتاج في العلم به إليها، وإنما يعلم بها ما يقدر في الذهن من أمثال ذلك مما لم يوجد في الخارج‏.‏
    وأما الموجودات الخارجية فتعلم بدون هذا القياس‏.‏ وإذا قيل‏:‏ أن من الناس من يعلم بعض الأعيان الخارجية بهذا القياس، فيكون مبناه على قياس التمثيل الذي ينكرون أنه يقيني‏.‏ فهم بين أمرين‏:‏ إن اعترفوا بأن قياس التمثيل من جنس قياس الشمول ينقسم إلى يقيني وظني، بطل تفريقهم، وإن ادعوا الفرق بينهما وأن قياس الشمول يكون يقينيا دون التمثيل منعوا ذلك، وبين لهم أن اليقين لا يحصل

    ج/ 9 ص -223-في هذه الأمور إلا أن يحصل بالتمثيل، فيكون العلم بما لم يعلم من المفردات الموجودة في الخارج قياسًا على ما علم منها، وهذا حق لا ينازع فيه عاقل، بل هذا من أخص صفات العقل التي فارق بها الحس؛ إذ الحس لا يعلم إلا معينًا، والعقل يدركه كليًا مطلقًا، لكن بواسطة التمثيل، ثم العقل يدركها كلها مع عزوب الأمثلة المعينة عنه، لكن هي في الأصل إنما صارت في ذهنه كلية عامة بعد تصوره لأمثال معينة من أفرادها، وإذا بعد عهد الذهن بالمفردات المعينة، فقد يغلط كثيرًا بأن يجعل الحكم إما أعم وإما أخص، وهذا يعرض للناس كثيرًا؛ حيث يظن أن ما عنده من القضايا الكلية صحيح، ويكون عند التحقيق ليس كذلك، وهم يتصورون الشيء بعقولهم، ويكون ما تصوروه معقولا بالعقل، فيتكلمون عليه، ويظنون أنهم تكلموا في ماهية مجردة بنفسها من حيث هي هي، من غير أن تكون ثابتة في الخارج ولا في الذهن، فيقولون‏:‏ الإنسان من حيث هو هو، والوجود من حيث هو هو، والسواد من حيث هو هو، ونحو ذلك ‏.‏
    ويظنون أن هذه الماهية التي جردوها عن جميع القيود السلبية والثبوتية محققة في الخارج على هذا التجريد، وذلك غلط، كغلط أوليهم فيما جردوه من العدد والمثل الأفلاطونية وغيرها، بل هذه المجردات لا تكون إلا مقدرة في الذهن، وليس كل ما فرضه الذهن أمكن وجوده في الخارج، وهذا الذي يسمى الإمكان الذهني، فإن الإمكان على وجهين‏:‏

    ج/ 9 ص -224-/ذهني‏:‏ وهو أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه، بل يقول يمكن هذا، لا لعلمه بإمكانه، بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذلك الشيء قد يكون ممتنعًا في الخارج‏.‏
    وخارجي‏:‏ وهو أن يعلم إمكان الشيء في الخارج، وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارج أو وجود نظيره، أو وجود ما هو أبعد عن الوجود منه‏.‏ فإذا كان الأبعد عن قبول الوجود موجودًا ممكن الوجود، فالأقرب إلى الوجود منه أولى‏.‏
    وهذه طريقة القرآن في بيان ‏[‏إمكان المعاد‏]‏؛ فقد بين ذلك بهذه الطريقة، فتارة يخبر عمن أماتهم ثم أحياهم، كما أخبر عن قوم موسى الذين قالوا‏:‏
    ‏"‏أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ‏.‏ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏"‏‏[‏البقرة‏:‏ 55، 56‏]‏، وعن ‏"‏الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 243‏]‏، وعن الذي مر على قرية فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وعن إبراهيم إذ قال‏:‏ ‏"‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى‏"‏ [‏البقرة‏:‏ 260‏]‏، القصة‏.‏ وكما أخبر عن المسيح أنه كان يحيى الموتى بإذن الله وعن أصحاب الكهف أنهم بعثوا بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين‏.‏
    وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى؛ فإن الإعادة أهون من الابتداء، كما في قوله‏:‏ ‏
    "‏إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ‏"‏الآية ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏،

    ج/ 9 ص -225-/ وقوله‏:‏ ‏"‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ‏"‏ ‏[‏يس‏:‏ 79‏]‏، ‏"‏قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏، "‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏"‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏
    وتارة يستدل على ذلك بخلق السموات والأرض، فإن خلقهما أعظم من إعادة الإنسان كما في قوله‏:‏
    ‏"‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى‏"‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏‏.‏
    وتارة يستدل على إمكانه بخلق النبات، كما في قوله‏:‏
    ‏"‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى‏"‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏‏.‏
    فقد تبين أن ما عند أئمة النظار أهل الكلام والفلسفة من الدلائل العقلية على المطالب الإلهية، فقد جاء القرآن الكريم بما فيها من الحق، وما هو أبلغ وأكمل منها على أحسن وجه، مع تنزهه عن الأغاليط الكثيرة الموجودة عند هؤلاء، فإن خطأهم فيها كثير جدًا، ولعل ضلالهم أكثر من هداهم، وجهلهم أكثر من علمهم؛ ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في آخر عمره في كتابه‏:‏ ‏[‏أقسام الذات‏]‏ لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات‏:‏ ‏
    "‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏"‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏، ‏"‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏"‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏ واقرأ في النفي‏:‏ ‏"‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏"‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏"‏وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي‏.‏

    ج/ 9 ص -226-/والمقصود أن الإمكان الخارجي يعرف بالوجود لا بمجرد عدم العلم بالامتناع، كما يقوله طائفة منهم الآمدي وأبعد من إثباته الإمكان الخارجي بالإمكان الذهني، ما يسلكه المتفلسفة كابن سينا في إثبات الإمكان الخارجي بمجرد إمكان تصوره في الذهن، كما أنهم لما أرادوا إثبات موجود في الخارج معقول لا يكون محسوسًا بحال‏.‏ استدلوا على ذلك بتصور الإنسان الكلي المطلق المتناول للأفراد الموجودة في الخارج، وهذا إنما يفيد إمكان وجود هذه المعقولات في الذهن، فإن الكلي لا يوجد كليًا إلا في الذهن، فأين طرق هؤلاء في إثبات الإمكان الخارجي من طريقة القرآن‏؟‏‏!‏
    ثم إنهم يمثلون بهذه الطرق الفاسدة، يريدون خروج الناس عما فطروا عليه من المعارف اليقينية والبراهين العقلية، وما جاءت به الرسل من الأخبار الإلهية عن الله واليوم الآخر، ويريدون أن يجعلوا مثل هذه القضايا الكاذبة، والخيالات الفاسدة أصولا عقلية يعارض بها ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه من الآيات،وما فطر الله عليه عباده، وما تقوم عليه الأدلة العقلية التي لا شبهة فيها، وأفسدوا بأصولهم العلوم العقلية والسمعية، فإن مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها، ومبنى السمع على تصديق الأنبياء- صلوات الله عليهم- ثم الأنبياء - صلوات الله عليهم - كملوا للناس الأمرين، فدلوهم على الأدلة العقلية التي بها تعلم المطالب التي يمكنهم علمهم بها بالنظر والاستدلال، وأخبروهم مع ذلك من تفاصيل الغيب بما يعجزون عن معرفته بمجرد نظرهم واستدلالهم‏.‏

    ج/ 9 ص -227-وليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورًا على مجرد الخبر كما يظنه كثير، بل هم بينوا من البراهين العقلية التي بها تعلم العلوم الإلهية ما لا يوجد عند هؤلاء البتة‏.‏ فتعليمهم صلوات الله عليهم جامع للأدلة العقلية والسمعية، جميعًا بخلاف الذين خالفوهم؛ فإن تعليمهم غير مفيد للأدلة العقلية والسمعية، مع ما في نفوسهم من الكبر الذي ما هم بالغيه،كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏"‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏"‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون‏"‏[‏غافر‏:‏ 83‏]‏ ومثل هذا كثير في القرآن‏.‏
    وقد ألفت كتاب ‏[‏دفع تعارض الشرع والعقل‏]‏؛ ولهذا لما كانوا يتصورون في أذهانهم ما يظنون وجوده في الخارج كان أكثر علومهم مبنيًا على ذلك في ‏[‏الإلهي‏]‏ و‏[‏الرياضي‏]‏
    وإذا تأمل الخبير بالحقائق كلامهم في أنواع علومهم، لم يجد عندهم علمًا بمعلومات موجودة في الخارج إلا القسم الذي يسمونه ‏[‏الطبيعي‏]‏، وما يتبعه من ‏[‏الرياضي‏]‏‏.‏ وأما ‏[‏الرياضي‏]‏ المجرد في الذهن، فهو الحكم بمقادير ذهنية لا وجود لها في الخارج‏.‏والذي سموه ‏[‏علم ما بعد الطبيعة‏]‏ إذا تدبر

    ج/ 9 ص -228-لم يوجد فيه علم بمعلوم موجود في الخارج، وإنما تصوروا أمورًا مقدرة في أذهانهم لا حقيقة لها في الخارج؛ ولهذا منتهى نظرهم وآخر فلسفتهم وحكمتهم هو الوجود المطلق الكلي، والمشروط بسلب جميع الأمور الوجودية‏.‏
    والمقصود أنهم كثيرًا ما يدعون في المطالب البرهانية والأمور العقلية، ما يكونون قدروه في أذهانهم‏.‏ ويقولون‏:‏ نحن نتكلم في الأمور الكلية والعقليات المحضة، وإذا ذكر لهم شيء قالوا‏:‏ نتكلم فيما هو أعم من ذلك، وفي الحقيقة من حيث هي هي، ونحو هذه العبارات، فيطالبون بتحقيق ما ذكروه في الخارج، ويقال‏:‏ بينوا هذا أي شيء هو‏؟‏ فهنالك يظهر جهلهم، وأن ما يقولونه هو أمر مقدر في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان‏.‏ مثل أن يقال لهم‏:‏ اذكروا مثال ذلك، والمثال أمر جزئي، فإذا عجزوا عن التمثيل، وقالوا‏:‏ نحن نتكلم في الأمور الكلية، فاعلم أنهم يتكلمون بلا علم، وفيما لا يعلمون أن له معلومًا في الخارج، بل فيما ليس له معلوم في الخارج، وفيما يمتنع أن يكون له معلوم في الخارج، وإلا فالعلم بالأمور الموجودة إذا كان كليا كانت معلوماته ثابتة في الخارج‏.‏ وقد كان الخسروشاهي من أعيانهم ومن أعيان أصحاب الرازي، وكان يقول‏:‏ ما عثرنا إلا على هذه الكليات، وكان قد وقع في حيرة وشك حتى كان يقول‏:‏ والله ما أدري ما أعتقد‏!‏ والله ما أدري ما أعتقد‏!‏

    ج/ 9 ص -229-والمقصود أن الذي يدعونه من الكليات، هو إذا كان علمًا، فهو مما يعرف بقياس التمثيل، لا يقف على القياس المنطقي الشمولي أصلا، بل ما يدعون ثبوته بهذا القياس، تعلم أفراده التي يستدل عليها بدون هذا القياس، وذلك أيسر وأسهل، ويكون الاستدلال عليها بالقياس الذي يسمونه البرهاني استدلالا على الأجلى بالأخفى، وهم يعيبون في صناعة الحد أن يعرف الجلي بالخفي، وهذا في صناعة البرهان أشد عيبًا، فإن البرهان لا يراد به إلا بيان المدلول عليه وتعريفه وكشفه وإيضاحه، فإذا كان هو أوضح وأظهر، كان بيانًا للجلي بالخفي‏.‏
    قال‏:‏ ثم إن الفلاسفة أصحاب هذا المنطق البرهاني الذي وضعه أرسطو وما يتبعه من الطبيعي والإلهي ليسوا أمة واحدة، بل أصناف متفرقون، وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله، أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافًا مضاعفة؛ فإن القوم كلما بعدوا عن اتباع الرسل والكتب كان أعظم في تفرقهم واختلافهم، فإنهم يكونون أضل، كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة، عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏"‏ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل‏"‏‏.‏ ثم قرأ قوله تعالى‏:‏
    ‏"‏مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏"‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 58‏]‏، إذا لا يحكم بين الناس فيما تنازعوا فيه إلا كتاب منزل ونبي مرسل، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهٌِ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏،

    ج/ 9 ص -230-وقال‏:‏ ‏"‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏"‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ ‏.‏
    وقد بين الله في كتابه من الأمثال المضروبة والمقاييس العقلية ما يعرف به الحق والباطل، وأمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، فقال‏:‏ ‏
    "‏وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏.‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏"‏‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏؛ ولهذا يوجد أتبع الناس للرسل أقل اختلافًا من جميع الطوائف المنتسبة للسنة، وكل من قرب للسنة كان أقل اختلافًا ممن بعد عنها، كالمعتزلة والرافضة فنجدهم أكثر الطوائف اختلافًا‏.‏
    وأما اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد، وقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ‏[‏مقالات غير الإسلاميين‏]‏، فأتى بالجم الغفير سوى ما ذكره الفارابي وابن سينا، وكذلك القاضي أبو بكر ابن الطيب في كتاب ‏[‏الدقائق‏]‏ الذي رد فيه على الفلاسفة والمنجمين، ورجح فيه منطق المتكلمين من العرب على منطق اليونان‏.‏ وكذلك متكلمة المعتزلة والشيعة وغيرهم في ردهم على الفلاسفة، وصنف الغزالي كتاب ‏[‏التهافت‏]‏ في الرد عليهم‏.‏
    ومازال نظار المسلمين يصنفون في الرد عليهم في المنطق،ويبينون خطأهم

    ج/ 9 ص -231-فيما ذكروه في الحد والقياس جميعًا، كما يبينون خطأهم في الإلهيات وغيرها، ولم يكن أحد من نظار المسلمين يلتفت إلى طريقهم، بل الأشعرية والمعتزلة والكرَّامية والشيعة وسائر الطوائف من أهل النظر كانوا يعيبونها، ويبينون فسادها، وأول من خلط منطقهم بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي، وتكلم فيه علماء المسلمين بما يطول ذكره‏.‏ وهذا الرد عليهم مذكور في كثير من كتب الكلام‏.‏
    وفي كتاب ‏[‏الآراء والديانات‏]‏ لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي فصل جيد من ذلك؛ فإنه بعد أن ذكر طريقة أرسطو في المنطق قال‏:‏
    وقد اعترض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق هذه، وقالوا‏:‏ أما قول صاحب المنطق‏:‏ إن القياس لا يبني من مقدمة واحدة، فغلط؛ لأن القائل إذا أراد مثلا أن يستدل على أن الإنسان جوهر، فله أن يستدل على نفس الشيء المطلوب من غير تقديم المقدمتين، بأن يقول‏:‏ الدليل على أن الإنسان جوهر أنه يقبل المتضادات في أزمان مختلفة، وليس يحتاج إلى مقدمة ثانية وهي‏:‏ أن يقول‏:‏ إن كل قابل للمتضادات في أزمان مختلفة جوهر؛ لأن الخاص داخل في العام، فعلى أيهما دل استغنى عن الآخر، وقد يستدل الإنسان إذا شاهد الأثر أن له مؤثرًا، والكتابة أن لها كاتبًا، من غير أن يحتاج في استدلاله على صحة ذلك إلى مقدمتين‏.‏

    ج/ 9 ص -232-قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ إنه لابد من مقدمتين، فإذا ذكرت إحداهما استغنى بمعرفة المخاطب عن الأخرى فترك ذكرها؛ لأنه مستغن عنها‏.‏ قلنا‏:‏ لسنا نجد مقدمتين كليتين يستدل بهما على صحة نتيجة؛ لأن القائل إذا قال‏:‏ الجوهر لكل حي، والحياة لكل إنسان، فتكون النتيجة‏:‏ إن الجوهر لكل إنسان، فسواء في العقول قول القائل‏:‏ الجوهر لكل حي، وقوله‏:‏ لكل إنسان، ولا يجدون من المطالب العملية أن المطلوب يقف على مقدمتين بينتين بأنفسهما، وإذا كان الأمر كذلك، كانت إحداهما كافية‏.‏ ونقول لهم‏:‏ أرونا مقدمتين أوليين لا تحتاجان إلى برهان يتقدمهما، يستدل بهما على شيء مختلف فيه، وتكون المتقدمتان في العقول أولى بالقبول من النتيجة،فإذا كنتم لا تجدون ذلك بطل ما ادعيتموه‏.‏
    قال النوبختى‏:‏ وقد سألت غير واحد من رؤسائهم أن يوجدنيه فما أوجدنيه فما ذكره أرسطاطاليس غير موجود ولا معروف‏.‏ قال‏:‏ فأما ما ذكره بعد ذلك من الشكلين الباقيين فهما غير مستعملين على ما بناهما عليه، وإذا كانا يصحان، بقلب مقدمتيهما حتى يعودا إلى الشكل الأول، فالكلام في الشكل الأول هو الكلام فيها‏.‏ انتهى‏.‏
    قال ابن تيمية‏:‏ ومقصوده أن سائر الأشكال إنما تنتج بالرد إلى الشكل الأول على ما تقدم بيانه فسائر الأشكال ونتاجها فيه كلفة ومشقة، مع أنه لا حاجة إليها، فإن الشكل الأول يمكن أن يستعمل جميع المواد الثبوتية والسلبية /

    ج/ 9 ص -233-الكلية والجزئية‏.‏ وقد علم انتفاء فائدته فانتفاء فائدة فروعه التي لا تفيد إلا بالرد إليه أولى وأحرى‏.‏
    والمقصود أن هذه الأمة ولله الحمد لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده‏.‏ وهم لما هداهم الله به يتوافقون في قبول الحق ورد الباطل رأيًا ورواية من غير تشاعر ولا تواطؤ‏.‏ وهذا الذي نبه عليه هؤلاء النظار يوافق ما نبهنا عليه، ويبين أنه يمكن الاستغناء عن القياس المنطقي، بل يكون استعماله تطويلا وتكثيًرا للفكر والنظر، والكلام بلا فائدة‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أن القضايا الكلية العامة لا توجد في الخارج كلية عامة، وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان‏.‏ وأما الموجودات في الخارج، فهي أمور معينة، كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالقياس على خصوص وجود معين، وهم معترفون بذلك وقائلون أن القياس لا يدل على أمر معين، وقد يعبرون عن ذلك بأنه لا يدل على جزئي وإنما يدل على كلي‏.‏ فإذن القياس لا يفيد معرفة أمر موجود بعينه‏.‏ وكل موجود فإنما هو موجود بعينه فلا يفيد معرفة شيء من حقائق الموجودات، وإنما يفيد أمورًا كلية مطلقة مقدرة في الأذهان لا محققة في الأعيان، فما يذكره النظار من الأدلة القياسية التي يسمونها براهين على إثبات الصانع سبحانه، لا يدل شيء منها على عينه، وإنما يدل على أمر مطلق لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه‏.‏

    ج/ 9 ص -234-فإذا قال‏:‏ هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، إنما يدل هذا على محدث مطلق كلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإنما تعلم عينه بعلم آخر يجعله الله في القلوب‏.‏ وهم معترفون بهذا؛ لأن النتيجة لا تكون أبلغ من المقدمات والمقدمات فيها قضية كلية لابد من ذلك، والكلي لا يدل على معين، وهذا بخلاف ما يذكره الله في كتابه من الآيات كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏"‏ الآية[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ إلى غير ذلك يدل على المعين كالشمس التي هي آية النهار‏.‏ والدليل أعم من القياس؛ فإن الدليل قد يكون بمعين على معين، كما يستدل بالنجم وغيره من الكواكب على الكعبة، فالآيات تدل على نفس الخالق سبحانه، لا على قدر مشترك بينه وبين غيره، فإن كل ما سواه مفتقر إليه نفسه، فيلزم من وجوده وجود عين الخالق نفسه‏.‏
    الوجه الرابع‏:‏ أن الحد الأوسط المكرر في قياس الشمول وهو الخمر من قولك‏:‏ كل مسكر خمر، وكل خمر حرام هو مناط الحكم في قياس التمثيل، وهو القدر المشترك الجامع بين الأصل والفرع، فالقياسان متلازمان، كل ما علم بهذا القياس، يمكن علمه بهذا القياس، ثم إن كان الدليل قطعيًا فهو قطعي في القياسين، أو ظنيًا فظني فيهما‏.‏
    وأما دعوى من يدعي من المنطقيين وأتباعهم أن اليقين إنما يحصل بقياس الشمول دون قياس التمثيل، فهو قول في غاية الفساد‏.‏ وهو قول

    ج/ 9 ص -235-من لم يتصور حقيقة القياسين‏.‏ وقد يعلم بنص‏:‏ أن كل مسكر حرام، كما ثبت في الحديث الصحيح، وإذا كان كذلك، لم يتعين قياس الشمول لإفادة الحكم بل ولا قياس من الأقيسة؛ فإنه قد يعلم بلا قياس، فبطل قولهم لا علم تصديقي إلا بالقياس المنطقي كما تقدم‏.‏
    والمقصود هنا بيان قلة منفعته أو عدمها، فإن المطلوب إن كان ثم قضية علمت من جهة الرسول تفيد العموم، وهو أن كل مسكر حرام حصل مدعاه، فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسول تفيد العلم في المطالب الإلهية، وأما ما يستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما منتقضة وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل، وإما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة، بل بالمقدرات الذهنية كالحساب والهندسة؛ فإنه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار، فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس بل بالحس، فلم يكن القياس محصلا للمقصود أو تكون مما لا اختصاص لهم بها، بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال، مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول‏.‏
    وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفًا على الأقيسة، بل يعلم بالآيات الدالة على معين لا شركة فيه يحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر، وما يحصل منها بالشمول فهو بمنزلة ما يحصل بالتمثيل أمر كلي، لا يحصل به العلم بما يختص به الرب، وما يختص به الرسول إلا بانضمام علم آخر إليه‏.‏

    ج/ 9 ص -236-الوجه الخامس‏:‏ أن يقال‏:‏ هذا القياس الشمولي وهو العلم بثبوت الحكم لكل فرد من الأفراد فنقول‏:‏ قد علم وسلموا أنه لابد أن يكون العلم بثبوت بعض الأحكام لبعض الأفراد بديهيًا؛ فإن النتيجة إذا افتقرت إلى مقدمتين فلابد أن ينتهي الأمر إلى مقدمتين تعلمان بدون مقدمتين، وإلا لزم الدور أو التسلسل الباطلان، وإذا فرض مقدمتان طريق العلم بهما واحد، لم يحتج إلى القياس كالعلم بأن كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة‏.‏ فالعلم بأن كل إنسان متحرك بالإرادة، أبين وأظهر‏.‏ فالمقدمتان إن كان طريق العلم بهما واحدًا‏.‏ وقد علمتا فلا حاجة إلى بيانهما‏.‏ وإن كان طريق العلم بهما مختلفا فمن لم يعلم إحداهما احتاج إلى بيانها ولم يحتج إلى بيان الأخرى التي علمها‏.‏ وهذا ظاهر في كل ما يقدره‏.‏ فتبين أن منطقهم يعطي تضييع الزمان وكثرة الهذيان وإتعاب الأذهان‏.‏
    الوجه السادس‏:‏ لا ريب أن المقدمة الكبري أعم من الصغري أو مثلها، ولا تكون أخص منها، و النتيجة أخص من الكبرى، أو مساوية لها، وأعم من الصغرى أو مثلها، ولا تكون أخص منها، والحس يدرك المعينات أولا، ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة‏.‏ فيرى هذا الإنسان وهذا الإنسان، و كل مما رآه حساس متحرك بالإرادة، فنقول‏:‏ العلم بالقضية العامة‏.‏ أما إن يكون بتوسط قياس، والقياس لابد فيه من قضية عامة،فلزم ألا يعلم العام إلا بعام، و ذلك يستلزم الدور أو التسلسل، فلابد أن ينتهي الأمر إلى قضية كلية عامة

    ج/ 9 ص -237-معلومة بالبديهة‏.‏ وهم يسلمون ذلك، وإن أمكن علم القضية العام بغير توسط قياس، أمكن علم الأخرى‏.‏ فإن كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفًا لازمًا لها يجب استواء جميع الناس فيه، بل هو أمر نسبي إضافي بحسب حال الناس، فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له، ومن احتاج إلى نظر واستدلال، كانت نظرية له، وهكذا سائر الأمور، فإذا كانت القضايا الكلية منها ما يعلم بلا دليل ولا قياس، وليس لذلك حد في نفس القضايا، بل ذلك بحسب أحوال بني آدم، لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس‏:‏ إنه لا يمكن غيره أن يعلمه بلا قياس، بل هذا نفي كاذب‏.‏
    الوجه السابع‏:‏ قد تبين فيما تقدم أن قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس‏.‏
    فإن قيل‏:‏ من أين تعلم بأن الجامع يستلزم الحكم‏؟‏
    قيل‏:‏ من حيث تعلم القضية الكبرى في قياس الشمول‏.‏
    فإذا قال القائل‏:‏ هذا فاعل محكم لفعله، وكل محكم لفعله فهو عالم، فأي شيء ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل، وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك، وفي الشمول لم يذكر شيء من الأفراد التي ثبت الحكم فيها،

    ج/ 9 ص -238-ومعلوم أن ذكر الكلي المشترك مع بعض أفراده أثبت في العقل من ذكره مجردًا عن جميع الأفراد باتفاق العقلاء‏.‏
    ولهذا قالوا‏:‏ إن العقل تابع للحس فإذا أدرك الحس الجزئيات، أدرك العقل منها قدرًا مشتركًا كليًا، فالكليات تقع في النفس بعد معرفة الجزئيات المعينة، فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الأسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفًا للقياس، وعدم ذكرها موجبا لقوته‏؟‏‏!‏ وهذه خاصة العقل؛ فإن خاصة العقل معرفة الكليات بتوسط معرفة الجزئيات‏.‏ فمن أنكرها أنكر خاصة عقل الإنسان، ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة أقوي من ذكرها مع التمثيل بمواضعها المعينة، كان مكابرًا‏.‏
    وقد اتفق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات، وأنه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجردًا عنه، ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والصناعات والتجارات وغير ذلك،وجد الأمر كذلك‏.‏ والإنسان قد ينكر أمرًا حتى يري واحدًا من جنسه فيقر بالنوع، ويستفيد بذلك حكمًا كليًا؛ ولهذا يقول سبحانه‏:‏
    ‏"‏كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ‏"‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏، ‏"‏كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ‏"‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ وكل من هؤلاء إنما جاءه رسول واحد ولكن كانوا مكذبين بجنس الرسل، لم يكن تكذيبهم بالواحد بخصوصه‏.‏

    ج/ 9 ص -239-من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، فإذا رأى الشيئين المتماثلين، علم أن هذا مثل هذا، فجعل حكمهما واحدًا، كما إذا رأى الماء والماء، والتراب والتراب، والهواء والهواء، ثم حكم بالحكم الكلي على القدر المشترك، وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير، وذكر المشترك، كان أحسن في البيان، فهذا قياس الطرد‏.‏ وإذا رأي المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما، وهذا قياس العكس‏.‏
    وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم، فيتقى تكذيب الرسل حذرًا من العقوبة، وهذا قياس الطرد‏.‏ ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك، وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين، فإن المقصود أن ما ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره‏.‏ والاعتبار يكون بهذا وبهذا‏.‏ قال تعالى‏:
    ‏ ‏"‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الْأَبْصَارِ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ‏"‏ ‏[‏الشورى 17‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏"‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ ‏.‏
    و‏[‏الميزان‏]‏ فسره السلف بالعدل، وفسره بعضهم بما يوزن به، وهما متلازمان‏.‏ وقد أخبر تعالى أنه أنزل ذلك كما أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط، فما يعرف

    ج/ 9 ص -240-به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان‏.‏ وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات، فإذا علمنا أن الله تعالى حرم الخمر لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، ثم رأينا النبيذ يماثلها في ذلك، كان القدر المشترك الذي هو العلة، هو الميزان الذي أنزله الله في قلوبنا لنزن به هذا ونجعله مثل هذا، فلا نفرق بين المتماثلين‏.‏ فالقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله به‏.‏ ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط، والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج، وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينة لم يكن بها اعتبار ،كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة، ولا ريب أنه إذا حضر أحد الموزونين واعتبر بالآخر بالميزان،كان أتم في الوزن من أن يكون الميزان وهو الوصف الكلي المشترك في العقل، أي شيء حضر من الأعيان المفردة وزن بها مع مغيب الآخر‏.‏
    ولا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان لوجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الله أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائة سنة، فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به‏؟‏‏!‏

    ج/ 9 ص -241-الثاني‏:‏ أن أمتنا - أهل الإسلام - ما زالوا يزنون بالموازين العقلية، ولم يسمع سلفًا بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبًا منها‏.‏
    الثالث‏:‏ أنه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه، يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية، ولا يقول القائل ليس فيه مما انفردوا به إلا اصطلاحات لفظية، وإلا فالمعاني العقلية مشتركة بين الأمم، فإنه ليس الأمر كذلك، بل فيه معاني كثيرة فاسدة‏.‏
    ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية، وزعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وليس الأمر كذلك، فإنه لو احتاج الميزان إلى ميزان، لزم التسلسل‏.‏
    وأيضا، فالفطرة إن كانت صحيحة وزنت بالميزان العقلي، وإن كانت بليدة أو فاسدة لم يزدها المنطق إلا بلادة وفسادًا، ولهذا يوجد عامة من يزن به علومه، لابد أن يتخبط ولا يأتي بالأدلة العقلية على الوجه المحمود ومتى أتى بها على الوجه المحمود أعرض عن اعتبارها بالمنطق؛ لما فيه من العجز والتطويل، وتبعيد الطريق، وجعل الواضحات خفيات وكثرة الغلط والتغليط‏.‏ فإنهم إذا عدلوا عن المعرفة الفطرية العقلية للمعينات إلى أقيسة كلية، وضعوا

    ج/ 9 ص -242-ألفاظها وصارت مجملة تتناول حقا وباطلا، حصل بها من الضلال ما هو ضد المقصود من الموازين، وصارت هذه الموازين عائلة لا عادلة، و كانوا فيها من المطففين، ‏"‏الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏.‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏"‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 2، 3‏]‏ وأين البخس في الأموال من البخس في العقول والأديان‏؟‏‏!‏‏.‏ مع أن أكثرهم لا يقصدون البخس، بل هم بمنزلة من ورث موازين من أبيه يزن بها تارة له، وتارة عليه، ولا يعرف أهي عادلة أم عائلة‏.‏
    والميزان التي أنزلها الله مع الكتاب ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله، وخلافه، فتسوى بين المتماثلين وتفرق بين المختلفين، بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ إن كان هذا مما يعرف بالعقل، فكيف جعله الله مما أرسل به الرسل‏؟‏
    قيل‏:‏ لأن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل دلت الناس وأرشدتهم إلى ما به يعرفون العدل، ويعرفون الأقيسة العقلية الصحيحة التي يستدل بها على المطالب الدينية‏.‏ فليست العلوم النبوية مقصورة على الخبر، بل الرسل صلوات الله عليهم بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الله علما وعملا، وضربت الأمثال فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها، لما كانت الفطرة معرضة عنه،

    ج/ 9 ص -243-أو كانت الفطرة قد فسدت بما يحصل لها من الآراء والأهواء الفاسدة، فأزالت ذلك الفساد، والقرآن والحديث مملوءان من هذا؛ يبين الله الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة، ويبين طريق التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله‏:‏ ‏"‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏"‏ الآية ‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏.‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏"‏ ‏[‏القلم‏:‏ 35، 36‏]‏ أي هذا حكم جائر لا عادل، فإن فيه تسوية بين المختلفين، ومن التسوية بين المتماثلين قوله‏:‏ ‏"‏أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ‏"‏ ‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ‏"‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ ‏.‏
    والمقصود التنبيه على أن الميزان العقلي حق كما ذكر الله في كتابه، وليست هي مختصة بمنطق اليونان، بل هي الأقيسة الصحيحة المتضمنة للتسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، سواء صيغ ذلك بصيغة قياس الشمول أو بصيغة قياس التمثيل،وصيغ التمثيل هي الأصل وهي الحمل، والميزان هو القدر المشترك وهو الجامع‏.‏
    الوجه الثامن‏:‏ أنهم كما حصروا اليقين في الصورة القياسية حصروه في المادة التي ذكروها من القضايا؛ الحسيات، والأوليات، والمتواترات، والمجربات، والحدسيات‏.‏ ومعلوم أنه لا دليل على نفي ما سوى هذه القضايا ثم مع ذلك إنما اعتبروا في الحسيات والعقليات وغيرها ما جرت العادة باشتراك

    ج/ 9 ص -244-بني آدم فيه وتناقضوا في ذلك؛ فإن بني آدم إنما يشتركون كلهم في بعض المرئيات وبعض المسموعات، فإنهم كلهم يرون عين الشمس والقمر والكواكب ويرون جنس السحاب والبرق، وإن لم يكن ما يراه هؤلاء عين ما يراه هؤلاء وكذلك يشتركون في سماع صوت الرعد، وأما ما يسمعه بعضهم من كلام بعض وصوته، فهذا لا يشترك بنو آدم في عينه، بل كل قوم يسمعون ما لم يسمع غيرهم، وكذا أكثر المرئيات‏.‏
    وأما الشم والذوق واللمس، فهذا لا يشترك جميع الناس في شيء معين فيه، بل الذي يشمه هؤلاء ويذوقونه ويلمسونه، ليس هو الذي يشمه ويذوقه ويلمسه هؤلاء، لكن قد يتفقان في الجنس لا في العين ‏.‏
    وكذلك ما يعلم بالتواتر والتجربة والحدس، فإنه قد يتواتر عند هؤلاء، ويجرب هؤلاء ما لم يتواتر عند غيرهم ويجربوه، ولكن قد يتفقان في الجنس كما يجرب قوم بعض الأدوية، ويجرب آخرون جنس تلك الأدوية فيتفق في معرفة الجنس لا في معرفة عين المجرب‏.‏
    ثم هم مع هذا يقولون في المنطق‏:‏ إن المتواترات والمجربات والحدسيات تختص بمن علمها فلا يقوم منها برهان على غيره‏.‏
    فيقال لهم‏:‏ وكذلك المشمومات والمذوقات والملموسات، بل اشتراك

    ج/ 9 ص -245-الناس في المتواترات أكثر؛ فإن الخبر المتواتر ينقله عدد كثير، فيكثر السامعون له، ويشتركون في سماعه من العدد الكثير، بخلاف ما يدرك بالحواس؛ فإنه يختص بمن أحسه، فإذا قال‏:‏ رأيت أو سمعت أو ذقت أو لمست أو شممت، فكيف يمكنه أن يقيم من هذا برهانًا على غيره، ولو قدر أنه شاركه في تلك الحسيات عدد، فلا يلزم من ذلك أن يكون غيرهم أحسها،ولا يمكن علمها لمن لم يحسها إلا بطريق الخبر‏.‏
    وعامة ما عندهم من العلوم الكلية بأحوال الموجودات هي من العلم بعادة ذلك الموجود، وهو ما يسمونه ‏[‏الحدسيات‏]‏، وعامة ما عندهم من العلوم العقلية الطبيعية، والعلوم الفلكية، كعلم الهيئة، فهو من قسم المجربات وهذه لا يقوم فيها برهان؛ فإن كون هذه الأجسام الطبيعية جربت، وكون الحركات جربت، لا يعرفه أكثر الناس إلا بالنقل، والتواتر في هذا قليل‏.‏
    وغاية الأمر أن تنقل التجربة في ذلك عن بعض الأطباء أو بعض أهل الحساب، وغاية ما يوجد، أن يقول بطليموس‏:‏ هذا مما رصده فلان، وأن يقول جالينوس‏:‏ هذا مما جربته، أو ذكر لي فلان أنه جربه، وليس في هذا شيء من المتواتر‏.‏ وإن قدر أن غيره جربه أيضًا، فذاك خبر واحد، وأكثر الناس لم يجربوا جميع ما جربوه، ولا علموا بالأرصاد ما ادعوا أنهم

    ج/ 9 ص -246-علموه، وإن ذكروا جماعة رصدوا، فغايته أنه من المتواتر الخاص الذي تنقله طائفة‏.‏
    فمن زعم أنه لا يقوم عليه برهان بما تواتر عن الأنبياء، كيف يمكنه أن يقيم على غيره برهانًا بمثل هذا التواتر‏؟‏‏!‏ ويعظم علم الهيئة والفلسفة، ويدعي أنه علم عقلي معلوم بالبرهان‏.‏ وهذا أعظم ما يقوم عليه البرهان العقلي عندهم هذا حاله،فما الظن بالإلهيات، التي إذا نظر فيها كلام معلمهم الأول أرسطو وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم كانوا من أجهل الخلق برب العالمين، وأن كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بهذه الأمور‏.‏
    الوجه التاسع‏:‏ أن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه، بل الفراسة أيضًا وأمثالها، فإن أدخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات، لم يمكنهم نفي ما لم يذكروه ولم يبق لهم ضابط وقد ذكر ابن سينا وأتباعه أن القضايا الواجب قبولها التي هي مادة البرهان، الأوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات، وربما ضموا إلى ذلك قضايا معها حدودها، ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر؛ ولهذا اعترف المنتصرون لهم أن هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه، وإذا كان كذلك، لم يلزم إن كل ما لم يدخل في قياسهم لا يكون معلومًا، وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ؛ فإنه

    ج/ 9 ص -247-إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذا الطريق، لم يمكن وزنها بهذه الأدلة‏.‏
    وعامة هؤلاء المنطقيين يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم، وهذا في غاية الجهل، لاسيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الأنبياء‏.‏
    فإذا كان أشرف العلوم لا سبيل إلى معرفته بطريقهم، لزم أمران‏:‏
    أحدهما‏:‏ ألا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه‏.‏
    والثاني‏:‏ أن ما علموه خسيس بالنسبة إلى ما جهلوه، فكيف إذا علم أنه لا يفيد النجاة ولا السعادة‏؟‏‏!‏
    الوجه العاشر‏:‏ أنهم يجعلون ما هو علم يجب تصديقه ليس علما، وما هو باطل وليس بعلم، يجعلونه علما، فزعموا أن ما جاءت به الأنبياء في معرفة الله وصفاته والمعاد لا حقيقة له في الواقع، وإنهم إنما أخبرو الجمهور بما يتخيلونه في ذلك، لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم، لا ليعرفوا بذلك الحق وأنه من جنس الكذب لمصلحة الناس، ويقولون‏:‏ إن النبي حاذق بالشرائع العملية دون العلمية، ومنهم من يفضل الفيلسوف على كل نبي؛ وعلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ولا يوجبون اتباع نبي بعينه، لا محمد، ولا

    ج/ 9 ص -248-غيره؛ ولهذا لما ظهرت التتار، وأراد بعضهم الدخول في الإسلام قيل‏:‏ إن ‏[‏هولاكو‏]‏ أشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بألا يفعل، قال‏:‏ ذاك لسانه عربي ولا تحتاجون إلى شريعته‏.‏
    ومن تبع النبي منهم في الشرائع العملية لا يتبعه في أصول الدين والاعتقاد، بل النبي عدهم بمنزلة أحد الأئمة الأربعة عند المتكلمين، فإن أئمة الكلام إذا قلدوا مذهبًا من المذاهب الأربعة، اقتصروا في تقليده على القضايا الفقهية، ولا يلتزمون موافقته في الأصول ومسائل التوحيد‏.‏ بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين أفضل منهم في ذلك‏.‏
    وقد أخبر النبي ﷺ عن الله بأسمائه وصفاته المعينة، وعن الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، وليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم، وكذا أخبر عن أمور معينة مما كان وسيكون، وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم، لا البرهاني ولا غيره، فإن أقيستهم لا تفيد إلا أمورًا كلية، وهذه أمور خاصة، وقد أخبر ﷺ بما يكون من الحوادث المعينة حتى أخبر عن التتر الذين جاؤوا بعد ستمائة سنة من إخباره، وكذلك عن النار التي خرجت قبل مجىء التتر سنة خمس وخمسين وستمائة ه، فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على آدمي معين أو أمة معينة، فضلًا عن موصوف بالصفات التي ذكرها‏؟‏

    ج/ 9 ص -249-ثم من بلاياهم وكفرياتهم أنهم قالوا‏:‏ إن الباري تعالى لا يعلم الجزئيات، و لا يعرف عين موسى وعيسى ولا غيرهما، ولا شيئًا من تفاصيل الحوادث‏.‏والكلام والرد عليهم في ذلك مبسوط في موضعه‏.‏
    والمقصود أن يعرف الإنسان أنهم يقولون‏:‏ من الجهل والكفر ما هو في غاية الضلال؛ فرارًا من لازم ليس لهم قط دليل على نفيه‏.‏
    الوجه الحادي عشر‏:‏ أنهم معترفون بالحسيات الظاهرة والباطنة كالجوع والألم واللذة‏.‏ ونفوا وجود ما يمكن أن يختص برؤيته بعض الناس كالملائكة والجن، وما تراه النفس عند الموت، والكتاب والسنة ناطقان بإثبات ذلك، ولبسط هذه الأمور موضع آخر‏.‏ وإنما المقصود أن ما تلقوه من القواعد الفاسدة المنطقية من نفي ما لم يعلم نفيه، أوجب لهم من الجهل والكفر ما صار حاجبًا، وأنهم به أسوأ حالا من كفار اليهود والنصارى‏.‏
    الوجه الثاني عشر‏:‏ أن يقال‏:‏ كون القضية ‏[‏برهانية‏]‏ معناه عندهم‏:‏ أنها معلومة للمستدل بها، وكونها ‏[‏جدلية‏]‏، معناه كونها مسلمة، وكونها ‏[‏خطابية‏]‏ معناه كونها مشهورة أو مقبولة أو مظنونة، وجميع هذه الفروق هي نسب وإضافات عارضة للقضية، ليس فيها ما هو صفة ملازمة لها، فضلا

    ج/ 9 ص -250-عن أن تكون ذاتية لها على أصلهم، بل ليس فيها ما هو صفة لها في نفسها، بل هذه صفات نسبية باعتبار شعور الشاعر بها‏.‏ ومعلوم أن القضية قد تكون حقًا‏.‏ والإنسان لا يشعر بها، فضلا عن أن يظنها أو يعلمها، و كذلك قد تكون خطابية أو جدلية وهي حق في نفسها، بل تكون برهانية أيضًا كما قد سلموا ذلك، وإذا كان كذلك ،فالرسل صلوات الله عليهم أخبروا بالقضايا التي هي حق في نفسها، لا تكون كذبًا باطلًا قط‏.‏ وبينوا من الطرق العلمية التي يعرف بها صدق القضايا ما هو مشترك‏.‏ فينتفع به جنس بني آدم، وهذا هو العلم النافع للناس‏.‏
    وأما هؤلاء المتفلسفة، فلم يسلكوا هذا المسلك، بل سلكوا في القضايا الأمر النسبي فجعلوا البرهانيات ما علمه المستدل، وغير ذلك لم يجعلوه برهانيًا، وإن علمه مستدل آخر‏.‏ وعلى هذا، فيكون من البرهانيات عند إنسان وطائفة، ما ليس من البرهانيات عند آخرين، فلا يمكن أن تحد القضايا العلمية بحد جامع، بل تختلف باختلاف أحوال من علمها ومن لم يعلمها، حتى إن أهل الصناعات عند أهل كل صناعة من القضايا التي يعلمونها ما لا يعلمها غيرهم، وحينئذ فيمتنع أن تكون طريقتهم مميزة للحق من الباطل والصدق من الكذب باعتبار ما هو الأمر عليه في نفسه عند أهل كل صناعة من الحق والباطل، ومن الصدق والكذب، ويمتنع أن تكون منفعتها مشتركة بين الآدميين، بخلاف طريقة الأنبياء؛ فإنهم أخبروا بالقضايا الصادقة التي تفرق بين الحق والباطل

    ج/ 9 ص -251-والصدق والكذب، فكل ما ناقض الصدق فهو كذب، وكل ما ناقض الحق فهو باطل؛ فلهذا جعل الله ما أنزله من الكتاب حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنزل أيضا الميزان وما يوزن به، ويعرف به الحق من الباطل‏.‏ ولكل حق ميزان يوزن به بخلاف ما فعله الفلاسفة المنطقيون؛ فإنه لا يمكن أن يكون هاديًا للحق، ولا مفرقًا بين الحق والباطل، ولا هو ميزان يعرف به الحق من الباطل‏.‏
    وأما المتكلمون فما كان في كلامهم موافقًا لما جاءت به الأنبياء، فهو منه‏.‏ وما خالفه فهو من البدع الباطلة شرعًا وعقلا‏.‏
    فإن قيل‏:‏ نحن نجعل البرهانيات إضافية، فكل ما علمه الإنسان بمقدماته، فهو برهاني عنده، وإن لم يكن برهانيا عند غيره‏.‏
    قيل‏:‏ لم يفعلوا ذلك، فإن من سلك هذا السبيل لم يجد مواد البرهان في أشياء معينة، مع إمكان علم كثير من الناس لأمور أخرى بغير تلك المواد المعينة التي عينوها‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ نحن لا نعين المواد، فقد بطل أحد أجزاء المنطق وهو المطلوب‏.‏
    الوجه الثالث عشر‏:‏ أنهم لما ظنوا أن طريقهم كلية محيطة بطرق العلم الحاصل لبني آدم مع أن الأمر ليس كذلك وقد علم الناس إما بالحس وإما

    ج/ 9 ص -252-بالعقل وإما بالأخبار الصادقة معلومات كثيرة، لا تعلم بطرقهم التي ذكروها، ومن ذلك ما علمه الأنبياء صلوات الله عليهم من العلوم أرادوا إجراء ذلك على قانونهم الفاسد،فقالوا‏:‏ النبي له قوة أقوى من قوة غيره، وهو أن يكون بحيث ينال الحد الأوسط من غير تعليم معلم، فإذا تصور أدرك بتلك القوة الحد الذي قد يتعسر أو يتعذر على غيره إدراكه بلا تعليم؛ لأن قوى الأنفس في الإدراك غير محدودة، فجعلوا ما يخبر به الأنبياء من أنباء الغيب إنما هو بواسطة القياس المنطقي، وهذا في غاية الفساد، فإن القياس المنطقي إنما تعرف به أمور كلية كما تقدم، وهم يسلمون ذلك، والرسل أخبروا بأمور معينة شخصية جزئية ماضية وحاضرة ومستقبلة، فعلم بذلك أن ما علمته الرسل لم يكن بواسطة القياس المنطقي‏.‏ بل جعل ابن سينا علم الرب بمفعولاته في هذا الباب، تعالى الله عن قوله علوًا كبيرًا‏.‏
    وقد تبين بما تقرر، فساد ما ذكروه في المنطق من حصر طريق العلم، مادة وصورة، وتبين أنهم أخرجوا من العلوم الصادقة أجل وأعظم وأكثر مما أثبتوه، وأن ما ذكروه من الطريق إنما يفيد علومًا قليلة خسيسة لا كثيرة ولا شريفة، وهذه مرتبة القوم؛ فإنهم من أخس الناس علمًا وعملا، وكفار اليهود والنصاري أشرف علمًا وعملًا منهم من وجوه كثيرة، والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل،

    ج/ 9 ص -253-فضلا عن درجتهم قبل ذلك‏.‏ وقد أنشد ابن القشيري في الرد على ‏[‏الشفاء‏]‏ لابن سينا‏:‏

    قطعنا الأخوة من معشر بهم مرض من كتاب الشفا

    وكم قلت‏:‏ يا قوم أنتم على شفا جرف من كتاب الشفا

    فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله حتى كفى

    فماتوا على دين رسطالس وعشنا على ملة المصطفى

    فإن قيل‏:‏ ما ذكره أهل المنطق من حصر طرق العلم، يوجد نحو منه في كلام متكلمي المسلمين، بل منهم من يذكره بعينه إما بعباراتهم، وإما بتغيير العبارة‏.‏
    فالجواب‏:‏ أن ليس كل ما يقوله المتكلمون حقًا، بل كل ما جاءت به الرسل فهو حق، وما قاله المتكلمون وغيرهم مما يوافق ذلك فهو حق، وما قالوه مما يخالفه، فهو باطل‏.‏ وقد عرف ذم السلف والأئمة لأهل الكلام المحدث‏.‏
    قال‏:‏ والعجب من قوم أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة، فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين

    ج/ 9 ص -254-عليه، فلا الإسلام نصروا ولا الأعداء كسروا، ثم من العجائب أنهم يتركون أتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق، ويعرضون عن تقليدهم ويقلدون ويساكنون مخالف ما جاؤوا به من يعلمون أنه ليس بمعصوم، وأنه يخطئ تارة ويصيب أخرى، والله الموفق للصواب‏.‏
    قال السيوطي‏:‏
    هذا آخر ما لخصته من كتاب ابن تيمية‏.‏ وقد أوردت عبارته بلفظه من غير تصرف في الغالب وحذفت من كتابه الكثير، فإنه في عشرين كراسًا‏.‏ ولم أحذف من المهم شيئًا، ولله الحمد والمنة‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML