ج/ 9 ص -5-"المنطق"
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
كتاب المنطق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سُئل شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية قدس الله روحه:
ما تقولون في [المنطق]، وهل من قال: إنه فرض كفاية، مصيب أم مخطئ؟
فأجاب:
الحمد للّه، أما المنطق: فمن قال: إنه فرض كفاية، وأن من ليس له به خبرة فليس له ثقة بشىء من علومه، فهذا القول في غاية الفساد من وجوه
ج/ 9 ص -6-كثيرة التعداد، مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوى باطلة كثيرة، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها.
بل الواقع قديمًا وحديثًا : أنك لا تجد من يلزم نفسه أن ينظر في علومه به، ويناظر به إلا وهو فاسد النظر والمناظرة، كثير العجز عن تحقيق علمه وبيانه.
فأحسن ما يحمل عليه كلام المتكلم في هذا، أن يكون قد كان هو وأمثاله في غاية الجهالة والضلالة، وقد فقدوا أسباب الهدى كلها، فلم يجدوا ما يردهم عن تلك الجهالات إلا بعض ما في المنطق من الأمور التي هي صحيحة، فإنه بسبب بعض ذلك رجع كثير من هؤلاء عن بعض باطلهم، وإن لم يحصل لهم حق ينفعهم، وإن وقعوا في باطل آخر. ومع هذا، فلا يصح نسبة وجوبه إلى شريعة الإسلام بوجه من الوجوه؛ إذ من هذه حاله فإنما أتى من نفسه بترك ما أمر اللّه به من الحق، حتى احتاج إلى الباطل.
ومن المعلوم أن القول بوجوبه قول غلاته وجهال أصحابه. ونفس الحذاق منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم، بل يعرضون عنها. إما لطولها، وإما لعدم فائدتها، وإما لفسادها، وإما لعدم تميزها وما فيها من الإجمال والاشتباه. فإن فيه مواضع كثيرة هي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
ج/ 9 ص -7- ولهذا مازال علماء المسلمين وأئمة الدين يذمونه ويذمون أهله، وينهون عنه وعن أهله حتى رأيت للمتأخرين فتيا فيها خطوط جماعة من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية وغيرهم، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله، حتى إن من الحكايات المشهورة التى بلغتنا: أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا، مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرًا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما، وأمثلهم اعتقادًا.
ومن المعلوم أن الأمور الدقيقة - سواء كانت حقا أو باطلًا، إيمانًا أو كفرًا لا تعلم إلا بذكاء وفطنة، فكذلك أهله قد يستجهلون من لم يشركهم في علمهم، وإن كان إيمانه أحسن من إيمانهم، إذا كان فيه قصور في الذكاء والبيان، وهم كما قال اللّه تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ّ. وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ. هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" [المطففين: 29-36].
فإذا تقلدوا عن طواغيتهم أن كل ما لم يحصل بهذه الطريق القياسية فليس يعلم، وقد لا يحصل لكثير منهم من هذه الطريق القياسية ما يستفيد
ج/ 9 ص -8- به الإيمان الواجب، فيكون كافرا زنديقًا منافقًا جاهلًا ضالًا مضلا، ظلوما كفورا، ويكون من أكابر أعداء الرسل، الذين قال اللّه فيهم: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا. وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا. وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا" [الفرقان : 31-33].
وربما حصل لبعضهم إيمان، إما من هذه الطريق أو من غيرها. ويحصل له أيضا منها نفاق، فيكون فيه إيمان ونفاق، ويكون في حال مؤمنًا وفي حال منافقا، ويكون مرتدًا، إما عن أصل الدين، أو عن بعض شرائعه، إما ردة نفاق، وإما ردة كفر. وهذا كثير غالب، لاسيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق.
فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال ما لا يتسع لذكره المقام.
ولهذا لما تفطن كثير منهم لما في هذا النفي من الجهل والضلال، صاروا يقولون: النفوس القدسية كنفوس الأنبياء والأولياء تفيض عليها المعارف بدون الطريق القياسية.
وهم متفقون جميعهم على أن من النفوس من تستغني عن وزن علومها
ج/ 9 ص -9- بالموازين الصناعية في المنطق، لكن قد يقولون: هو حكيم بالطبع.
والقياس ينعقد في نفسه بدون تعلم هذه الصناعة، كما ينطق العربي بالعربية بدون النحو، وكما يقرض الشاعر الشعر بدون معرفة العروض. لكن استغناء بعض الناس عن هذه الموازين لا يوجب استغناء الآخرين، فاستغناء كثير من النفوس عن هذه الصناعة لا ينازع فيه أحد منهم.
والكلام هنا: هل تستغني النفوس في علومها بالكلية عن نفس القياس المذكور، ومواده المعينة؟ فالاستغناء عن جنس هذا القياس شيء، وعن الصناعة القانونية التي يوزن بها القياس شيء آخر، فإنهم يزعمون أنه آلة قانونية تمنع مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وفساد هذا مبسوط مذكور في موضع غير هذا.
ونحن بعد أن تبينا عدم فائدته، وإن كان قد يتضمن من العلم ما يحصل بدونه، ثم تبينا أنا لو قدرنا أنه قد يفيد بعض الناس من العلم ما يفيده هو، فلا يجوز أن يقال: ليس إلى ذلك العلم لذلك الشخص، ولسائر بني آدم طريق إلا بمثل القياس المنطقي؛ فإن هذا قول بلا علم، وهو كذب محقق؛ ولهذا مازال متكلمو المسلمين وإن كان فيهم نوع من البدعة لهم من الرد عليه وعلى أهله وبيان الاستغناء عنه، وحصول الضرر والجهل به والكفر، ما
ج/ 9 ص -10- ليس هذا موضعه؛ دع غيرهم من طوائف المسلمين وعلمائهم وأئمتهم، كما ذكره القاضي أبو بكر ابن الباقلاني في كتاب ]الدقائق[.
فأما الشعري وهو ما يفيد مجرد التخييل وتحريك النفس، وذلك يظهر بأنهم جعلوا الأقيسة خمسة: البرهاني، والخطابي، والجدلي، والشعري، والمغلطي السوفسطائي، وهو ما يشبه الحق وهو باطل، وهو الحكمة المموهة فلا غرض لنا فيه هنا، ولكن غرضنا تلك الثلاثة.
قالوا: [الجدلي] ما سلم المخاطب مقدماته. والخطابي: ما كانت مقدماته مشهورة بين الناس، والبرهاني: ما كانت مقدماته معلومة.
وكثير من المقدمات تكون مع كونها خطابية أو جدلية يقينية برهانية، بل وكذلك مع كونها شعرية، ولكن هي من جهة التيقن بها تسمى: برهانية، ومن جهة شهرتها عند عموم الناس وقبولهم لها تسمى: خطابية، ومن جهة تسليم الشخص المعين لها تسمي: جدلية.
وهذا كلام أولئك المبتدعة من الصابئة الذين لم يذكروا النبوات، ولا تعرضوا لها بنفي ولا إثبات. وعدم التصديق للرسل واتباعهم كفر وضلال، وإن لم يعتقد تكذيبهم فالكفر والضلال أعم من التكذيب.
ج/ 9 ص -11-وأما قول بعض المتأخرين في المشهورات: هي المقبولات لكون صاحبها مؤيدًا بأمر يوجب قبول قوله ونحو ذلك فهذه من الزيادات التي ألزمتهم إياها الحجة، ورأوا وجوب قبولها على طريقة الأولين؛ ولهذا كان غالب صابئة المتأخرين الذين هم الفلاسفة ممتزجين بالحنيفية، كما أن غالب من دخل في الفلسفة من الحنفاء مزج الحنيفية بالصبء، ولبس الحق بالباطل. أعني بالصبء: المبتدع الذي ليس فيه إيمان بالنبوات، كصبء صاحب المنطق وأتباعه.
وأما الصبء القديم، فذاك أصحابه منهم المؤمنون باللّه واليوم الآخر، الذين آمنوا وعملوا الصالحات. فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما أن التهود والتنصر منه ما أهله مبتدعون ضلال قبل إرسال محمد ﷺ، ومنه ما كان أهله متبعين للحق، وهم الذين آمنوا باللّه واليوم الآخر وعملوا الصالحات، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ومن قال من العلماء المصنفين في المنطق: إن القياس الخطابي هو ما يفيد الظن، كما أن البرهاني ما يفيد العلم، فلم يعرف مقصود القوم، ولا قال حقا. فإن كل واحد من الخطابي والجدلي قد يفيد الظن، كما أن البرهاني قد تكون مقدماته مشهورة ومسلمة.
فالتقسيم لمواد القياس وقع باعتبار الجهات التي يقبل منها، فتارة يقبل
ج/ 9 ص -12-القول؛ لأنه معلوم؛ إذ العلم يوجب القبول. وأما كونه لا يفيد العلم فلا يوجب قبوله إلا لسبب؛ فإن كان لشهرته، فهو خطابي، ولو لم يفد علمًا ولا ظنًا. وهو أيضًا خطابي إذا كانت قضيته مشهورة، وإن أفاد علما أو ظنا. والقول في الجدلي كذلك.
ثم إنهم قد يمثلون المشهورات المقبولات التي ليست علمية بقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، والعدل حسن، والظلم قبيح، ونحو ذلك من الأحكام العملية العقلية التي يثبتها من يقول بالتحسين والتقبيح، ويزعمون أنا إذا رجعنا إلى محض العقل لم نجد فيه حكما بذلك. وقد يمثلونها بأن الموجود لابد أن يكون مباينا للموجود الآخر أو محايثا له، أو أن الموجود لابد أن يكون بجهة من الجهات، أو يكون جائز الرؤية ويزعمون أن هذا من أحكام الوهم لا الفطرة العقلية.
قالوا: لأن العقل يسلم مقدمات يعلم بها فساد الحكم الأول.
وهذا كله تخليط ظاهر لمن تدبره.
فأما تلك القضايا التي سموها مشهورات غير معلومة، فهي من العلوم العقلية البديهية التي جزم العقول بها أعظم من جزمها بكثير من العلوم الحسابية والطبيعية، وهي كما قال أكثر المتكلمين من أهل الإسلام، بل أكثر متكلمي أهل الأرض من جميع الطوائف: أنها قضايا بديهية عقلية، لكن
ج/ 9 ص -13-قد لا يحسنون تفسير ذلك؛ فإن حسن ذلك وقبحه هو حسن الأفعال وقبحها، وحسن الفعل هو كونه مقتضيا لما يطلبه الحي لذاته ويريده من المقاصد، وقبحه بالعكس، والأمر كذلك.
فإن العلم والصدق والعدل هي كذلك محصلة لما يطلب لذاته ويراد لنفسه من المقاصد، فحسن الفعل وقبحه هو لكونه محصلا للمقصود المراد بذاته أو منافيا لذلك.
ولهذا كان الحق يطلق تارة بمعنى النفي والإثبات فيقال: هذا حق، أي ثابت، وهذا باطل، أي: منتف. وفي الأفعال بمعنى: التحصيل للمقصود، فيقال: هذا الفعل حق، أي: نافع، أو محصل للمقصود، ويقال: باطل، أي: لا فائدة فيه ونحو ذلك.
وأما زعمهم: أن البديهة والفطرة قد تحكم بما يتبين لها بالقياس فساده، فهذا غلط؛ لأن القياس لابد له من مقدمات بديهية فطرية؛ فإن جوز أن تكون المقدمات الفطرية البديهية غلطًا من غير تبيين غلطها إلا بالقياس، لكان قد تعارضت المقدمات الفطرية بنفسها، ومقتضى القياس الذي مقدماته فطرية. فليس رد هذه المقدمات الفطرية لأجل تلك بأولى من العكس، بل الغلط فيما تقل مقدماته أولى، فما يعلم بالقياس وبمقدمات فطرية أقرب إلى الغلط مما يعلم بمجرد الفطرة.
ج/ 9 ص -14-وهذا يذكرونه في نفي علو الله على العرش ونحو ذلك من أباطيلهم.
والمقصود هنا أن متقدميهم لم يذكروا المقدمات المتلقاة من الأنبياء، ولكن المتأخرون رتبوه على ذلك؛ إما بطريق الصابئة الذين لبسوا الحنيفية بالصابئة، كابن سينا ونحوه، وإما بطريق المتكلمين الذين أحسنوا الظن بما ذكره المنطقيون، وقرروا إثبات العلم بموجب النبوات به.
أما الأول، فإنه جعل علوم الأنبياء من العلوم الحدسية؛ لقوة صفاء تلك النفوس القدسية وطهارتها، وأن قوى النفوس في الحدس لا تقف عند حد، ولابد للعالم من نظام ينصبه حكيم، فيعطي النفوس المؤيدة من القوة ما تعلم به ما لا يعلمه غيرها بطريق الحدس، ويتمثل لها ما تسمعه وتراه في نفسها من الكلام ومن الملائكة ما لا يسمعه غيرها، ويكون لها من القوة العملية التي تطيعها بها هيولي العالم ما ليس لغيرها. فهذه الخوارق في قوى العلم مع السمع والبصر، وقوة العمل والقدرة، هي النبوة عندهم.
ومعلوم أن الحدس راجع إلى قياس التمثيل كما تقدم وأما ما يسمع ويرى في نفسه، فهو من جنس الرؤيا، وهذا القدر يحصل مثله لكثير من عوام الناس وكفارهم، فضلا عن أولياء الله وأنبيائه، فكيف يجعل ذلك هو غاية النبوة؟ وإن كان الذي يثبتونه للأنبياء أكمل وأشرف، فهو كملك أقوى من ملك؛ ولهذا صاروا يقولون: النبوة مكتسبة، ولم يثبتوا نزول
ج/ 9 ص -15-ملائكة من عند اللّه إلى من يختاره ويصطفيه من عباده، ولا قصد إلى تكليم شخص معين من رسله؛ كما يذكر عن بعض قدمائهم أنه قال لموسى بن عمران: أنا أصدقك في كل شيء إلا في أن علة العلل كلمك، ما أقدر أن أصدقك في هذا؛ ولهذا صار من ضل بمثل هذا الكلام يدعي مساواة الأنبياء والمرسلين أو التقدم عليهم، وهذا كثير فى كثير من الناس الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم أكمل النوع، وهم من أجهل الناس وأظلمهم وأكفرهم وأعظمهم نفاقا.
وأما المتكلمون المنطقيون فيقولون: يعلم بهذا القياس ثبوت الصانع وقدرته وجواز إرسال الرسل، وتأييد الله لهم بما يوجب تصديقهم فيما يقولونه. وهذه الطريقة أقرب إلى طريقة العلماء المؤمنين، وإن كان قد يكون فيها أنواع من الباطل، تارة من جهة ما تقلدوه عن المنطقيين، وتارة من جهة ما ابتدعوه هم، مما ليس هذا موضعه.
ومنطقية اليهود والنصارى كذلك، لكن الهدى والعلم والبيان في فلاسفة المسلمين ومتكلميهم أعظم منه في أهل الكتابين؛ لما في تينك الملتين من الفساد.
ولكن الغرض تقرير جنس النبوات؛ فإن أهل الملل متفقون عليها، لكن اليهود والنصارى آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، والصابئة الفلاسفة ونحوهم آمنوا ببعض صفات الرسالة دون بعض، فإذا اتفق متفلسف من أهل
ج/ 9 ص -16-الكتاب جمع الكفرين؛ الكفر بخاتم المرسلين، والكفر بحقائق صفات الرسالة في جميع المرسلين، فهذا هذا.
فيقال لهم مع علمهم بتفاوت قوى بني آدم في الإدراك : ما المانع من أن يخرق سمع أحدهم وبصره، حتى يسمع ويرى من الأمور الموجودة في الخارج ما لا يراه غيره، كما قال النبي ﷺ: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد"، فهذا إحساس بالظاهر أو الباطن لما هو في الخارج.
وكذلك العلوم الكلية البديهية، قد علمتم أنها ليس لها حد في بني آدم، فمن أين لكم أن بعض النفوس يكون لها من العلوم البديهية ما يختص بها وحدها أو بها وبأمثالها ما لا يكون من البديهيات عندكم؟ وإذا كان هذا ممكنا وعامة أهل الأرض على أنه واقع لغير الأنبياء دع الأنبياء فمثل هذه العلوم ليس في منطقكم طريق إليها؛ إذ ليست من المشهورات ولا الجدليات، ولا موادها عندكم يقينية، وأنتم لا تعلمون نفيها، وجمهور أهل الأرض من الأولين والآخرين على إثباتها، فإن كذبتم بها، كنتم مع الكفر والتكذيب بالحق وخسارة الدنيا والآخرة تاركين لمنطقكم أيضا، وخارجين عما أوجبتموه على أنفسكم؛ أنكم لا تقولون إلا بموجب القياس، إذ ليس لكم بهذا النفي قياس
ج/ 9 ص -17-ولا حجة تذكر؛ ولهذا لم تذكروا عليه حجة؛ وإنما اندرج هذا النفي في كلامكم بغير حجة.
وإن قلتم: بل هي حق، اعترفتم بأن من الحق ما لا يوزن بميزان منطقكم. وإن قلتم: لا ندري أحق هي أم باطل؟ اعترفتم بأن أعظم المطالب وأجلها لا يوزن بميزان المنطق.
فإن صدقتم لم يوافقكم المنطق، وإن كذبتم لم يوافقكم المنطق، وإن ارتبتم لم ينفعكم المنطق.
ومن المعلوم أن موازين الأموال لا يقصد أن يوزن بها الحطب والرصاص دون الذهب والفضة. وأمر النبوات وما جاءت به الرسل أعظم في العلوم من الذهب في الأموال. فإذا لم يكن في منطقكم ميزان له، كان الميزان مع أنه ميزان عائلا جائرًا، وهو أيضا عاجز. فهو ميزان جاهل ظالم؛ إذ هو إما أن يرد الحق ويدفعه فيكون ظالما، أو لا يزنه ولا يبين أمره فيكون جاهلا، أو يجتمع فيه الأمران فيرد الحق ويدفعه وهو الحق الذي ليس للنفوس عنه عوض، ولا لها عنه مندوحة، وليست سعادتها إلا فيه ولا هلاكها إلا بتركه فكيف يستقيم مع هذا أن تقولوا: إنه وما وزنتموه به من المتاع الخسيس الذي أنتم في وزنكم إياه به ظالمون عائلون، لم تزنوا بالقسطاس المستقيم، و لم تستدلوا بالآيات البينات: هو معيار العلوم الحقيقية، والحكمة اليقينية،
ج/ 9 ص -18-التي فاز بالسعادة عالمها، وخاب بالشقاوة جاهلها، ورأس مال السادة، وغاية العالم المنصف منكم أن يعترف بعجز ميزانكم عنه.
وأما عوام علمائكم فيكذبون به ويردونه، وإن كان منطقكم يرد عليهم، فلستم بتحريف أمر منطقكم أحسن حالا من اليهود والنصارى في تحريف كتاب اللّه، الذي هو في الأصل حق هاد، لا ريب فيه، فهذا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأيضًا، هم متفقون على أنه لا يفيد إلا أمورًا كلية مقدرة في الذهن، لا يفيد العلم بشيء موجود محقق في الخارج إلا بتوسط شىء آخر غيره. والأمور الكلية الذهنية ليست هي الحقائق الخارجية، ولا هي أيضًا علما بالحقائق الخارجية؛ إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها عن غيره، هو بها هو، وتلك ليست كلية، فالعلم بالأمر المشترك لا يكون علما بها، فلا يكون في القياس المنطقي علم تحقيق شىء من الأشياء وهو المطلوب.
وأيضًا، هم يطعنون في قياس التمثيل، إنه لا يفيد إلا الظن، وربما تكلموا على بعض الأقيسة الفرعية، أو الأصلية التي تكون مقدماتها ضعيفة أو مظنونة، مثل كلام السهروردى المقتول على الزندقة صاحب [التلويحات] و[الألواح] و [حكمة الإشراق]. وكان في فلسفته مستمدًا من الروم الصابئين والفرس
ج/ 9 ص -19-المجوس. وهاتان المادتان هما مادتا القرامطة الباطنية، ومن دخل ويدخل فيهم من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم، وهم ممن دخل في قوله ﷺ في الحديث الصحيح: "لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، قالوا: فارس والروم؟ قال: "فمن؟!".
والمقصود أن ذكر كلام السهروردي هذا على قياس ضربه، وهو أن يقال: السماء محدثة، قياسًا على البيت، بجامع ما يشتركان فيه من التأليف، فيحتاج أن يثبت أن علة حدوث البناء هو التأليف، وأنه موجود في الفرع.
والتحقيق: أن [قياس التمثيل] أبلغ في إفادة العلم واليقين من [قياس الشمول]، وإن كان علم قياس الشمول أكثر فذاك أكبر، فقياس التمثيل في القياس العقلي كالبصر في العلم الحسي، وقياس الشمول كالسمع في العلم الحسي. ولا ريب أن البصر أعظم وأكمل، والسمع أوسع وأشمل، فقياس التمثيل بمنزلة البصر، كما قيل: من قاس ما لم يره بما رأى. وقياس الشمول يشابه السمع من جهة العموم.
ثم إن كل واحد من القياسين في كونه علميًا أو ظنيًا يتبع مقدماته،
ج/ 9 ص -20- فقياس التمثيل في الحسيات وكل شيء؛ إذا علمنا أن هذا مثل هذا، علمنا أن حكمه حكمه، وإن لم نعلم علة الحكم، وإن علمنا علة الحكم استدللنا بثبوتها على ثبوت الحكم، فبكل واحد من العلم بقياس التمثيل وقياس التعليل يعلم الحكم.
وقياس التعليل هو في الحقيقة من نوع قياس الشمول، لكنه امتاز عنه بأن الحد الأوسط الذي هو الدليل فيه هو علة الحكم، ويسمى قياس العلة، وبرهان العلة. وذلك يسمى قياس الدلالة وبرهان الدلالة، وإن لم نعلم التماثل والعلة، بل ظنناها ظنًا كان الحكم كذلك.
وهكذا الأمر في قياس الشمول، إن كانت المقدمتان معلومتين كانت النتيجة معلومة، وإلا فالنتيجة تتبع أضعف المقدمات.
فأما دعواهم: أن هذا لا يفيد العلم، فهو غلط محض محسوس، بل عامة علوم بني آدم العقلية المحضة هي من قياس التمثيل.
وأيضًا، فإن علومهم التي جعلوا هذه الصناعة ميزانًا لها بالقصد الأول، لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليلا. فإن العلوم الرياضية من حساب العدد، وحساب المقدار الذهني والخارجي قد علم أن الخائضين فيها من الأولين والآخرين مستقلون بها من غير التفات إلى هذه
ج/ 9 ص -21-الصناعة المنطقية واصطلاح أهلها. وكذلك ما يصح من العلوم الطبيعية الكلية والطبية، تجد الحاذقين فيها لم يستعينوا عليها بشىء من صناعة المنطق، بل إمام صناعة الطب بقراط له فيها من الكلام الذي تلقاه أهل الطب بالقبول ووجدوا مصداقه بالتجارب، وله فيها من القضايا الكلية التي هي عند عقلاء بني آدم من أعظم الأمور، ومع هذا فليس هو مستعينًا بشيء من هذه الصناعة، بل كان قبل واضعها.
وهم وإن كان العلم الطبيعي عندهم أعلم وأعلى من علم الطب، فلا ريب أنه متصل به. فبالعلم بطبائع الأجسام المعينة المحسوسة تعلم طبائع سائر الأجسام، ومبدأ الحركة والسكون الذي في الجسم، ويستدل بالجزء على الكل؛ ولهذا كثيرًا ما يتناظرون في مسائل، ويتنازع فيها هؤلاء وهؤلاء، كتناظر الفقهاء والمتكلمين في مسائل كثيرة تتفق فيها الصناعتان، وأولئك يدعون عموم النظر، ولكن الخطأ والغلط عند المتكلمين والمتفلسفة أكثر مما هو عند الفقهاء والأطباء، وكلامهم وعلمهم أنفع، وأولئك أكثر ضلالا وأقل نفعًا؛ لأنهم طلبوا بالقياس ما لا يعلم بالقياس، وزاحموا الفطرة والنبوة مزاحمة أوجبت من مخالفتهم للفطرة والنبوة ما صاروا به من شياطين الإنس والجن الذين يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، بخلاف الطب المحض، فإنه علم نافع، وكذلك الفقه المحض.
وأما علم ما بعد الطبيعة وإن كانوا يعظمونه، ويقولون: هو الفلسفة الأولى، وهو العلم الكلي الناظر في الوجود ولواحقه، ويسميه متأخروهم العلم
ج/ 9 ص -22-الإلهي، وزعم المعلم الأول لهم أنه غاية فلسفتهم ونهاية حكمتهم فالحق فيه من المسائل قليل نزر، وغالبه علم بأحكام ذهنية لا حقائق خارجية. وليس على أكثرهم قياس منطقي؛ فإن الوجود المجرد والوجوب والإمكان والعلة المجردة والمعلول، وانقسام ذلك إلى جزء الماهية، وهو المادة والصورة، وإلى علتي وجودها. وهما الفاعل والغاية، والكلام في انقسام الوجود إلى الجواهر والأعراض التسعة؛ التي هي: الكم والكيف والإضافة والأين ومتى والوضع والملك، وأن يفعل وأن ينفعل، كما أنشد بعضهم فيها :
زيد الطويل الأسود بن مالك في داره بالأمس كان يتكي
في يده سيف نضاه فانتضى فهذه عشر مقولات سواء
ليس عليها ولا على أقسامها قياس منطقي، بل غالبها مجرد استقراء، قد نوزع صاحبه في كثير منه.
فإذا كانت صناعتهم بين علوم لا يحتاج فيها إلى القياس المنطقي، وبين ما لا يمكنهم أن يستعملوا فيه القياس المنطقي، كان عديم الفائدة في علومهم، بل كان فيه من شغل القلب عن العلوم والأعمال النافعة ما ضر كثيرًا من الناس،
ج/ 9 ص -23- ككما سد على كثير منهم طريق العلم، وأوقعهم في أودية الضلال والجهل. فما الظن بغير علومهم من العلوم التي لا تحد للأولين والآخرين.
وأيضًا، لا تجد أحدًا من أهل الأرض حقق علمًا من العلوم وصار إمامًا فيه مستعينًا بصناعة المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والحساب والكتاب ونحوهم يحققون ما يحققون من علومهم وصناعاتهم بغير صناعة المنطق.
وقد صنف في الإسلام علوم النحو واللغة والعروض والفقه وأصوله والكلام وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرب هذا المنطق اليوناني.
وأما العلوم الموروثة عن الأنبياء صرفًا، وإن كان الفقه وأصوله متصلا بذلك، فهي أجل وأعظم من أن يظن أن لأهلها التفاتًا إلى المنطق؛ إذ ليس في القرون الثلاثة من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس وأفضلها القرون الثلاثة، من كان يلتفت إلى المنطق أو يعرج عليه، مع أنهم في تحقيق العلوم وكمالها بالغاية التي لا يدرك أحد شأوها، كانوا أعمق الناس علمًا، وأقلهم تكلفا، وأبرهم قلوبًا. ولا يوجد لغيرهم كلام فيما تكلموا فيه إلا وجدت بين الكلامين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق، بل الذي وجدناه بالاستقراء أن من المعلوم أن من الخائضين في العلوم من أهل هذه
ج/ 9 ص -24- الصناعة أكثر الناس شكا واضطرابًا، وأقلهم علمًا وتحقيقًا، وأبعدهم عن تحقيق علم موزون، وإن كان فيهم من قد يحقق شيئًا من العلم. فذلك لصحة المادة والأدلة التي ينظر فيها، وصحة ذهنه وإدراكه، لا لأجل المنطق، بل إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطول العبارة ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدًا، واليسير منه عسيرًا. ولهذا تجد من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك، لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق، مع قلة العلم والتحقيق.
فعلم أنه من أعظم حشو الكلام، وأبعد الأشياء عن طريقة ذوي الأحلام.
نعم لا ينكر أن في المنطق ما قد يستفيد ببعضه من كان في كفر وضلال، وتقليد، ممن نشأ بينهم من الجهال، كعوام النصارى واليهود والرافضة ونحوهم، فأورثهم المنطق ترك ما عليه أولئك من تلك العقائد، ولكن يصير غالب هؤلاء مداهنين لعوامهم، مضلين لهم عن سبيل اللّه، أو يصيرون منافقين زنادقة، لا يقرون بحق ولا بباطل، بل يتركون الحق كما تركوا الباطل.
فأذكياء طوائف الضلال إما مضللون مداهنون، وإما زنادقة منافقون، لا يكاد يخلو أحد منهم عن هذين،
ج/ 9 ص -25-فأما أن يكون المنطق وقفهم على حق يهتدون به، فهذا لا يقع بالمنطق.
ففي الجملة، ما يحصل به لبعض الناس من شحذ ذهن، أو رجوع عن باطل أو تعبير عن حق، فإنما هو لكونه كان في أسوأ حال، لا لما في صناعة المنطق من الكمال.
ومن المعلوم أن المشرك إذا تمجس، والمجوسي إذا تهود، حسنت حاله بالنسبة إلى ما كان فيه قبل ذلك، لكن لا يصلح أن يجعل ذلك عمدة لأهل الحق المبين.
وهذا ليس مختصًا به، بل هذا شأن كل من نظر في الأمور التي فيها دقة ولها نوع إحاطة، كما تجد ذلك في علم النحو؛ فإنه من المعلوم أن لأهله من التحقيق والتدقيق والتقسيم والتحديد ما ليس لأهل المنطق، وأن أهله يتكلمون في صورة المعاني المعقولة على أكمل القواعد. فالمعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى وضع خاص، بخلاف قوالبها التي هي الألفاظ، فإنها تتنوع، فمتى تعلموا أكمل الصور والقوالب للمعاني مع الفطرة الصحيحة، كان ذلك أكمل وأنفع وأعون على تحقيق العلوم من صناعة اصطلاحية في أمور فطرية عقلية لا يحتاج فيها إلى اصطلاح خاص.
هذا لعمري عن منفعته في سائر العلوم.
ج/ 9 ص -26-وأما منفعته في علم الإسلام خصوصًا فهذا أبين من أن يحتاج إلى بيان؛ ولهذا تجد الذين اتصلت إليهم علوم الأوائل، فصاغوها بالصيغة العربية بعقول المسلمين، جاء فيها من الكمال والتحقيق والإحاطة والاختصار ما لا يوجد في كلام الأوائل، وإن كان في هؤلاء المتأخرين من فيه نفاق وضلال، لكن عادت عليهم في الجملة بركة ما بعث به رسول الله ﷺ من جوامع الكلم وما أوتيته أمته من العلم والبيان الذي لم يشركها فيه أحد.
وأيضًا، فإن صناعة المنطق وضعها معلمهم الأول أرسطو، صاحب التعاليم التي لمبتدعة الصابئة، يزن بها ما كان هو وأمثاله يتكلمون فيه من حكمتهم وفلسفتهم، التي هي غاية كمالهم. وهي قسمان: نظرية وعملية.
فأصح النظرية وهي المدخل إلى الحق هي الأمور الحسابية الرياضية.
وأما العملية: فإصلاح الخلق والمنزل والمدينة. ولا ريب أن في ذلك من نوع العلوم والأعمال الذي يتميزون بها عن جهال بني آدم، الذين ليس لهم كتاب منزل ولا نبي مرسل ما يستحقون به التقدم على ذلك. وفيه من منفعة صلاح الدنيا وعمارتها ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل.
وفيها أيضًا من قول الحق واتباعه والأمر بالعدل والنهي عن الفساد، ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل.
ج/ 9 ص -27-فهم بالنسبة إلى جهال الأمم كبادية الترك ونحوهم أمثل إذا خلوا عن ضلالهم، فأما مع ضلالهم فقد يكون الباقون على الفطرة من جهال بني آدم أمثل منهم.
فأما أضل أهل الملل مثل جهال النصارى وسامرة اليهود فهم أعلم منهم وأهدى وأحكم وأتبع للحق. وهذا قد بسطته بسطًا كثيرًا في غير هذا الموضع.
وإنما المقصود هنا: بيان أن هذه الصناعة قليلة المنفعة عظيمة الحشو.
وذلك أن الأمور العملية الخلقية قل أن ينتفع فيها بصناعة المنطق؛ إذ القضايا الكلية الموجبة وإن كانت توجد في الأمور العملية لكن أهل السياسة لنفوسهم ولأهلهم ولملكهم، إنما ينالون تلك الآراء الكلية من أمور لا يحتاجون فيها إلى المنطق، ومتى حصل ذلك الرأي كان الانتفاع به بالعمل.
ثم الأمور العملية لا تقف على رأى كلي، بل متى علم الإنسان انتفاعه بعمل، عمله، وأي عمل تضرر به، تركه. وهذا قد يعلمه بالحس الظاهر أو الباطن لا يقف ذلك على رأي كلي.
فعلم أن أكثر الأمور العملية لا يصح استعمال المنطق فيها؛ ولهذا كان
ج/ 9 ص -28-المؤدبون لنفوسهم ولأهلهم، السائسون لملكهم، لا يَزِنُون آراءهم بالصناعة المنطقية، إلا أن يكون شيئًا يسيرًا، والغالب على من يسلكه التوقف والتعطيل.
ولو كان أصحاب هذه الآراء تقف معرفتهم بها واستعمالهم لها على وزنها بهذه الصناعة، لكان تضررهم بذلك أضعاف انتفاعهم به، مع أن جميع ما يأمرون به من العلوم والأخلاق والأعمال لا تكفي في النجاة من عذاب الله، فضلا عن أن يكون محصلا لنعيم الآخرة قال تعالى: "حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ" [الأعراف : 38]، كذلك قال: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" إلى قوله: "الْكَافِرُونَ" [غافر: 82- 85].
فأخبر هنا بمثل ما أخبر به في الأعراف، أن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرسل لما رأوا بأس الله وحدوا الله، وتركوا الشرك فلم ينفعهم ذلك.
وكذلك أخبر عن فرعون وهو كافر بالتوحيد وبالرسالة أنه لمَّا أدركه الغرق قال: "آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ" قال الله: "أَلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ" [يونس: 91]،
ج/ 9 ص -29-وقال تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ" [الأعراف: 172، 173] وقال تعالى: "أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ. قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ" [إبراهيم: 9، 10].
وهذا في القرآن في مواضع أخر، يبين فيها أن الرسل كلهم أمروا بالتوحيد بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة شىء من المخلوقات سواه، أو اتخاذه إلهًا، ويخبر أن أهل السعادة هم أهل التوحيد، وأن المشركين هم أهل الشقاوة، وذكر هذا عن عامة الرسل، ويبين أن الذين لم يؤمنوا بالرسل مشركون.
فعلم أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازمان، وكذلك الإيمان باليوم الآخر هو والإيمان بالرسل متلازمان فالثلاثة متلازمة؛ ولهذا يجمع بينها في مثل قوله: "وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ" [الأنعام: 150]؛
ج/ 9 ص -30-ولهذا أخبر أن الذين لا يؤمنون بالآخرة مشركون، فقال تعالى: "وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ" [الزمر: 45].
وأخبر عن جميع الأشقياء: أن الرسل أنذرتهم باليوم الآخر، كما قال تعالى: "كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ" [الملك: 8، 9] فأخبر أن الرسل أنذرتهم، وأنهم كذبوا بالرسالة.
وقال تعالى: "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا" الآية [الزمر: 71]. فأخبر عن أهل النار أنهم قد جاءتهم الرسالة، وأنذروا باليوم الآخر.
وقال تعالى: "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ" إلى قوله: "وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ" الآية [الأنعام: 128130].
فأخبر عن جميع الجن والإنس أن الرسل بلغتهم رسالة الله، وهي آياته
ج/ 9 ص -31-
وأنهم أنذروهم اليوم الآخر، وكذلك قال: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" إلى قوله: "أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ" [الكهف: 103105]. فأخبر أنهم كفروا بآياته، وهي رسالته، وبلقائه وهو اليوم الآخر.
وقد أخبر أيضًا في غير موضع - بأن الرسالة عمت بني آدم، وأن الرسل جاؤوا مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ" [فاطر: 24]، وقال تعالى: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ" إلى قوله : "وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء: 163165] وقال تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ" [الأنعام: 48، 49]. فأخبر أن من آمن بالرسل وأصلح من الأولين والآخرين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقال تعالى: "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة: 38] ومثل ذلك قوله: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا" إلى قوله: "فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ" الآية [البقرة: 62].
فذكر أن المؤمنين بالله وباليوم الآخر من هؤلاء هم أهل النجاة والسعادة، وذكر في تلك الآية الإيمان بالرسل، وفي هذه الإيمان باليوم الآخر؛ لأنهما
ج/ 9 ص -32-متلازمان، وكذلك الإيمان بالرسل كلهم متلازم. فمن آمن بواحد منهم فقد آمن بهم كلهم، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم، كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ" إلى قوله: "أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا" الآية والتي بعدها [النساء: 150، 151]. فأخبر أن المؤمنين بجميع الرسل هم أهل السعادة، وأن المفرقين بينهم بالإيمان ببعضهم دون بعض هم الكافرون حقًا.
وقال تعالى: "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا. اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا" [الإسراء: 13 15].
فهذه الأصول الثلاثة: توحيد الله، والإيمان برسله، وباليوم الآخر هي أمور متلازمة.
والحاصل: أن توحيد الله والإيمان برسله واليوم الآخر هي أمور متلازمة مع العمل الصالح، فأهل هذا الإيمان والعمل الصالح هم أهل السعادة من الأولين والآخرين، والخارجون عن هذا الإيمان مشركون أشقياء، فكل من كذب الرسل فلن يكون إلا مشركًا، وكل مشرك مكذب للرسل، وكل مشرك وكافر بالرسل، فهو كافر باليوم الآخر، وكل من كفر باليوم الآخر فهو كافر بالرسل وهو مشرك؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى:
ج/ 9 ص -33-"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ" [الأنعام: 112، 113].
فأخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء، وهم شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف، وهو المزين المحسن، يغررون به. والغرور: هو التلبيس والتمويه. وهذا شأن كل كلام وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل، من أمر المتفلسفة والمتكلمة وغيرهم من الأولين والآخرين، ثم قال: "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ" فأخبر أن كلام أعداء الرسل تصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة.
فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان، فمن لم يؤمن بالآخرة أصغى إلى زخرف أعدائهم، فخالف الرسل، كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمة. وقال تعالى: "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا" الآية [الأعراف: 52، 53]. فأخبر أن الذين تركوا اتباع الكتاب وهو الرسالة يقولون إذا جاء تأويله وهو ما أخبر به : جاءت رسل ربنا بالحق، وهذا كقوله: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى" [طه: 124 126]
ج/ 9 ص -34- أخبر أن الذين تركوا اتباع آياته يصيبهم ما ذكرنا.
فقد تبين أن أصل السعادة، وأصل النجاة من العذاب، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح.
وهذه الأمور ليست في حكمتهم وفلسفتهم المبتدعة، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة المخلوقات، بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم، إذ بنوه على ما في الأرواح والأجسام من القوى والطبائع، وأن صناعة الطلاسم والأصنام والتعبد لها يورث منافع ويدفع مضار. فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر بالشرك منهم فلم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحًا ما، فقد يرجح غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعًا. فتدبر هذا، فإنه نافع جدًا.
ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك. فالأولون يسمون الكواكب الآلهة الصغرى، ويعبدونها بأصناف العبادات، كذلك كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك أو يأمرون به، أو لا يوجبون التوحيد.
ج/ 9 ص -35-وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الكواكب والملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك.
وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل. والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وهذا شىء لا يعرفونه. والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات، وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك.
فلو كانوا موحدين بالقول والكلام وهو أن يصفوا اللّه بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة، بل لابد من أن يعبد الله وحده ويتخذ إلهًا، دون ما سواه، وهو معني قول: لا إله إلا الله، فكيف وهم في القول والكلام معطلون جاحدون، لا موحدون ولا مخلصون ؟!
وأما الإيمان بالرسل، فليس فيه للمعلم الأول وذويه كلام معروف، والذين دخلوا في الملل منهم آمنوا ببعض صفات الرسل وكفروا ببعض.
وأما اليوم الآخر، فأحسنهم حالًا من يقر بمعاد الأرواح دون الأجساد.
ج/ 9 ص -36-ومنهم من ينكر المعادين جميعًا. ومنهم من يقر بمعاد الأرواح العالمة دون الجاهلة. وهذه الأقوال الثلاثة لمعلمهم الثاني أبي نصر الفارابي، ولهم فيه من الاضطراب ما يعلم به أنهم لم يهتدوا فيه إلى الصواب.
وقد أضلوا بشبهاتهم من المنتسبين إلى الملل من لا يحصى عدده إلا الله.
فإذا كان ما به تحصل السعادة والنجاة من الشقاوة ليس عندهم أصلا، كان ما يأمرون به من الأخلاق والأعمال والسياسات، كما قال الله تعالى: "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ " [الروم : 7].
وأما ما يذكرونه من العلوم النظرية، فالصواب منها منفعته في الدنيا. وأما "العلم الإلهي" فليس عندهم منه ما تحصل به النجاة والسعادة، بل وغالب ما عندهم منه ليس بمتيقن معلوم، بل قد صرح أساطين الفلسفة أن العلوم الإلهية لا سبيل فيها إلى اليقين، وإنما يتكلم فيها بالأحرى والأخلق، فليس معهم فيها إلا الظن"وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا" [ النجم: 28 ]؛ ولهذا يوجد عندهم من المخالفة للرسل أمر عظيم باهر، حتى قيل مرة لبعض الأشياخ الكبار ممن يعرف الكلام والفلسفة والحديث وغير ذلك : ما الفرق الذي بين الأنبياء والفلاسفة؟ فقال: السيف الأحمر. يريد أن الذي يسلك طريقتهم يريد أن يوفق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الرسل، فيدخل من السفسطة والقرمطة في أنواع من المحال الذي لا يرضاه عاقل، كما فعل أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم. ومن هنا
ج/ 9 ص -37-ضلت القرامطة والباطنية ومن شاركهم في بعض ذلك. وهذا باب يطول وصفه ليس الغرض هنا ذكره.
وإنما الغرض أن معلمهم وضع منطقهم ليزن به ما يقولونه من هذه الأمور التي يخوضون فيها، والتي هي قليلة المنفعة، وأكثر منفعتها إنما هي في الأمور الدنيوية، وقد يستغنى عنها في الأمور الدنيوية أيضًا.
فأما أن يوزن بهذه الصناعة ما ليس من علومهم وما هو فوق قدرهم، أو يوزن بها ما يوجب السعادة والنعيم والنجاة من العذاب الأليم، فهذا أمر ليس هو فيها، و"قَّدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِ شَيءٍ قَدْرًا" [الطلاق: 3]. والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة، وفيهم زهد وأخلاق، فهذا القدر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب، إلا بالأصول المتقدمة: من الإيمان باللّه وتوحيده، وإخلاص عبادته، والإيمان برسله واليوم الآخر، والعمل الصالح.
وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإرادة، فالذي يؤتي فضائل علمية وإرادية بدون هذه الأصول، يكون بمنزلة من يؤتي قوة في جسمه وبدنه بدون هذه الأصول.
وأهل الرأي والعلم بمنزلة أهل الملك والإمارة، وكل من هؤلاء
ج/ 9 ص -38-وهؤلاء لا ينفعه ذلك شيئًا إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤمن برسله وباليوم الآخر.
وهذه الأمور متلازمة، فمن عبد الله وحده لزم أن يؤمن برسله ويؤمن باليوم الآخر، فيستحق الثواب وإلا كان من أهل الوعيد يخلد في العذاب، هذا إذا قامت عليه الحجة بالرسل.
ولما كان كل واحد من أهل الملك والعلم قد يعارضون الرسل وقد يتابعونهم، ذكر الله ذلك في كتابه في غير موضع. فذكر فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه لما آتاه الله الملك، والملأ من قوم نوح، وعاد وغيرهم من المستكبرين المكذبين للرسل، وذكر قول علمائهم، كقوله: "فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون . فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ" [غافر: 83 85]، وقال تعالى: "مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ . كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ" إلى قوله: "الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" [غافر: 4 35]، والسلطان هو الوحي المنزل من عند الله، كما ذكر ذلك في غير
ج/ 9 ص -39-موضع، كقوله: "أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ" [الروم: 35]، وقوله: "مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ" [الأعراف: 71، النجم: 23]، وقال ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو الحجة. ذكره البخاري في صحيحه.
وقد ذكر في هذه السورة [سورة حم غافر] من حال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء مثل مقول الفلاسفة وعلمائهم ومجادلتهم واستكبارهم ما فيه عبرة، مثل قوله: "الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" [غافر: 56]، ومثل قوله: "أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ . الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ . إِذْ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ . فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ" إلى قوله: "ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ" [غافر: 69 75]، وختم السورة بقوله تعالى: "فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ" [غافر: 83].
وكذلك في سورة الأنعام والأعراف وعامة السور المكية، وطائفة من السور المدنية، فإنها تشتمل على خطاب هؤلاء وضرب الأمثال والمقاييس لهم، وذكر قصصهم وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم. فقال سبحانه: "وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون" [الأحقاف: 26].
ج/ 9 ص -40-فأخبر بما مكنهم فيه من أصناف الإدراكات و الحركات. وأخبر أن ذلك لم يغن عنهم حيث جحدوا بآيات الله، وهي الرسالة التي بعث بها رسله؛ ولهذا حدثني ابن الشيخ الحصيري عن والده الشيخ الحصيري شيخ الحنفية في زمنه قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرًا ذكيًا.
وقال الله تعالى: "أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ" الآية [غافر: 21]، والقوة تعم قوة الإدراك النظرية وقوة الحركة العملية، وقال في الآية الأخرى: "كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ" [غافر: 82]، فأخبر بفضلهم في الكم والكيف، وأنهم أشد في أنفسهم وفي آثارهم في الأرض، وقال تعالى: "فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون"[غافر: 82، 83]، وقال تعالى: "وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" إلى قوله: "اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [الروم: 6 11]،
وقال تعالى: "فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون" إلى قوله: "وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ" [الأنعام: 5]
ج/ 9 ص -41-وقد قال سبحانه عن أتباع هؤلاء الأئمة من أهل الملك والعلم المخالفين للرسل: "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا" [الأحزاب: 66 68]، وقال تعالى: "وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ" إلى قوله: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ" [غافر: 47، 48].
ومثل هذا في القرآن كثير، يذكر فيه من أقوال أعداء الرسل وأفعالهم وما أوتوه من قوى الإدراكات والحركات التي لم تنفعهم لما خالفوا الرسل.
وقد ذكر الله سبحانه ما في المنتسبين إلى أتباع الرسل، من العلماء والعباد والملوك من النفاق والضلال في مثل قوله: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" [التوبة: 34].
"وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" يستعمل لازما، يقال: صد صدودًا، أي: أعرض، كما قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا" [النساء: 16]، ويقال: صد غيره يصده، والوصفان يجتمعان فيهم، ومثل قوله:
ج/ 9 ص -42-"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا" [النساء: 51].
وفي الصحيحين: عن أبي موسى، عن النبي ﷺ: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة؛ طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة؛ طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة؛ ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة؛ طعمها مر، ولا ريح له"، فبين أن في الذين يقرؤون القرآن مؤمنين ومنافقين.
فصل
وهذا المقام لا أذكر فيه موارد النزاع، فيقال: هو الاستدلال على المختلف بالمختلف، لكن أنا أصف جنس كلامهم، فأقول:
لا ريب أن كلامهم كله منحصر في الحدود التي تفيد التصورات، سواء كانت الحدود حقيقية، أو رسمية أو لفظية، وفي الأقيسة التي تفيد التصديقات، سواء كانت أقيسة عموم وشمول، أو شبه وتمثيل، أو استقراء وتتبع.
وكلامهم غالبه لا يخلو من تكلف، إما في العلم وإما في القول، فإما
ج/ 9 ص -43-أن يتكلفوا علم ما لا يعلمونه، فيتكلمون بغير علم، أو يكون الشيء معلومًا لهم فيتكلفون من بيانه ما هو زيادة وحشو وعناء وتطويل طريق، وهذا من المنكر المذموم في الشرع والعقل، قال تعالى: "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ" [ص: 86]، وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: أيها الناس، من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: لا أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: لا أعلم.
وقد ذم الله القول بغير علم في كتابه، كقوله تعالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" [الإسراء: 36] لا سيما القول على الله، كقوله تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" [الأعراف: 33] ، وكذلك ذم الكلام الكثير الذي لا فائدة فيه، وأمر بأن نقول القول السديد والقول البليغ.
وهؤلاء كلامهم في الحدود غالبه من الكلام الكثير الذي لا فائدة فيه، بل قد يكثر كلامهم في الأقيسة والحجج، كثير منه كذلك، وكثير منه باطل، وهو قول بغير علم، وقول بخلاف الحق.
أما الأول، فإنهم يزعمون أن الحدود التي يذكرونها يفيدون بها تصور الحقائق، وأن ذلك إنما يتم بذكر الصفات الذاتية المشتركة والمميزة، حتى يركب الحد من الجنس المشترك، والفصل المميز. وقد يقولون: إن التصورات
ج/ 9 ص -44- لا تحصل إلا بالحدود، ويقولون: الحدود المركبة لا تكون إلا للأنواع المركبة من الجنس والفصل دون الأنواع البسيطة.
وقد ذكرت في غير هذا الموضع ملخص المنطق ومضمونه، وأشرت إلى بعض ما دخل به على كثير من الناس من الخطأ والضلال، وليس هذا موضع بسط ذلك، لكن نذكر هنا وجوها:
الوجه الأول:
قولهم: إن التصور الذي ليس ببديهي لا ينال إلا بالحد، باطل؛ لأن الحد هو قول الحاد. فإن الحد هنا هو القول الدال على ماهية المحدود. فالمعرفة بالحد لا تكون إلا بعد الحد؛ فإن الحاد الذي ذكر الحد إن كان عرف المحدود بغير حد بطل قولهم: لا يعرف إلا بالحد، وإن كان عرفه بحد آخر، فالقول فيه كالقول في الأول، فإن كان هذا الحاد عرفه بعد الحد الأول، لزم الدور، وإن كان تأخر لزم التسلسل.
ج/ 9 ص -45-الوجه الثاني:
أنهم إلى الآن لم يسلم لهم حد لشيء من الأشياء إلا ما يدعيه بعضهم وينازعه فيه آخرون. فإن كانت الأصول لا تتصور إلا بالحدود، لزم ألا يكون إلى الآن أحد عرف شيئًا من الأمور، ولم يبق أحد ينتظر صحته؛ لأن الذي يذكره يحتاج إلى معرفة بغير حد وهي متعددة، فلا يكون لبني آدم شيء من المعرفة، وهذه سفسطة ومغالطة.
الوجه الثالث:
أن المتكلمين بالحدود طائفة قليلة في بني آدم، لاسيما الصناعة المنطقية، فإن واضعها هو أرسطو، وسلك خلفه فيها طائفة من بني آدم.
ومن المعلوم أن علوم بني آدم عامتهم وخاصتهم حاصلة بدون ذلك، فبطل قولهم: إن المعرفة متوقفة عليها، أما الأنبياء فلا ريب في استغنائهم عنها، وكذلك أتباع الأنبياء من العلماء والعامة. فإن القرون الثلاثة من هذه الأمة الذين كانوا أعلم بني آدم علومًا ومعارف لم يكن تكلف
ج/ 9 ص -46-هذه الحدود من عادتهم، فإنهم لم يبتدعوها، ولم تكن الكتب الأعجمية الرومية عربت لهم، وإنما حدثت بعدهم من مبتدعة المتكلمين والفلاسفة، ومن حين حدثت صار بينهم من الاختلاف والجهل مالا يعلمه إلا الله.
وكذلك علم [الطب] و [الحساب] وغير ذلك، لا تجد أئمة هذه العلوم يتكلفون هذه الحدود المركبة من الجنس والفصل إلا من خلط ذلك بصناعتهم من أهل المنطق.
وكذلك النحاة مثل سيبويه الذي ليس في العالم مثل كتابه، وفيه حكمة لسان العرب، لم يتكلف فيه حد الاسم والفاعل ونحو ذلك، كما فعل غيره. ولما تكلف النحاة حد الاسم ذكروا حدودًا كثيرة كلها مطعون فيها عندهم . وكذلك ما تكلف متأخروهم من حد الفاعل والمبتدأ والخبر ونحو ذلك، لم يدخل فيها عندهم من هو إمام في الصناعة ولا حاذق فيها.
وكذلك الحدود التي يتكلفها بعض الفقهاء للطهارة والنجاسة، وغير ذلك من معاني الأسماء المتداولة بينهم، وكذلك الحدود التي يتكلفها الناظرون في أصول الفقه لمثل الخبر والقياس والعلم وغير ذلك، لم يدخل فيها إلا من ليس بإمام في الفن، وإلى الساعة لم يسلم لهم حد، وكذلك حدود أهل الكلام.
ج/ 9 ص -47-فإذا كان حذاق بني آدم في كل فن من العلم أحكموه بدون هذه الحدود المتكلفة، بطل دعوى توقف المعرفة عليها.
وأما علوم بني آدم الذين لا يصنفون الكتب، فهي مما لا يحصيه إلا الله، ولهم من البصائر والمكاشفات والتحقيق والمعارف ما ليس لأهل هذه الحدود المتكلفة، فكيف يجوز أن تكون معرفة الأشياء متوقفة عليها؟
الوجه الرابع:
أن الله جعل لابن آدم من الحس الظاهر والباطن ما يحس به الأشياء ويعرفها، فيعرف بسمعه وبصره وشمه وذوقه ولمسه الظاهر ما يعرف، ويعرف أيضا بما يشهده ويحسه بنفسه وقلبه ما هو أعظم من ذلك. فهذه هي الطرق التي تعرف بها الأشياء . فأما الكلام فلا يتصور أن يعرف بمجرده مفردات الأشياء إلا بقياس تمثيل أو تركيب ألفاظ، وليس شيء من ذلك يفيد تصور الحقيقة.
فالمقصود أن الحقيقة إن تصورها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحد القولي، وإن لم يتصورها بذلك امتنع أن يتصور حقيقتها بالحد القولي، وهذا أمر محسوس يجده الإنسان من نفسه، فإن من عرف المحسوسات المذوقة
ج/ 9 ص -48- مثلًا - كالعسل، لم يفده الحد تصورها. ومن لم يذق ذلك، كمن أخبر عن السكر وهو لم يذقه لم يمكن أن يتصور حقيقته بالكلام والحد، بل يمثل له ويقرب إليه، ويقال له: طعمه يشبه كذا، أو يشبه كذا وكذا، وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو الحد الذي يدعونه.
وكذلك المحسوسات الباطنة، مثل الغضب والفرح والحزن والغم والعلم ونحو ذلك، من وجدها فقد تصورها، ومن لم يجدها لم يمكن أن يتصورها بالحد؛ ولهذا لا يتصور الأكمه الألوان بالحد، ولا العِنِّين الوقاع بالحد. فإذن القائل بأن الحدود هي التي تفيد تصور الحقائق، قائل للباطل المعلوم بالحس الباطن والظاهر.
الوجه الخامس:
أن الحدود إنما هي أقوال كلية، كقولنا: حيوان ناطق، ولفظ يدل على معنى ونحو ذلك، فتصور معناها لا يمنع من وقوع الشركة فيها، وإن كانت الشركة ممتنعة لسبب آخر، فهي إذن لا تدل على حقيقة معينة بخصوصها، وإنما تدل على معنى كلي. والمعاني الكلية وجودها في الذهن لا في الخارج، فما في الخارج لا يتعين، ولا يعرف بمجرد الحد، وما في الذهن ليس هو حقائق الأشياء، فالحد لا يفيد تصور حقيقة أصلا.
ج/ 9 ص -49-الوجه السادس:
أن الحد من باب الألفاظ، واللفظ لا يدل المستمع على معناه إن لم يكن قد تصور مفردات اللفظ بغير اللفظ؛ لأن اللفظ المفرد لا يدل المستمع على معناه إن لم يعلم أن اللفظ موضوع للمعنى، ولا يعرف ذلك حتى يعرف المعنى. فتصور المعاني المفردة يجب أن يكون سابقًا على فهم المراد بالألفاظ، فلو استفيد تصورها من الألفاظ لزم الدور، وهذا أمر محسوس؛ فإن المتكلم باللفظ المفرد إن لم يبين للمستمع معناه حتى يدركه بحسه أو بنظره، وإلا لم يتصور إدراكه له بقول مؤلف من جنس وفصل.
الوجه السابع:
أن الحد هو الفصل والتمييز بين المحدود وغيره، يفيد ما تفيده الأسماء من التمييز والفصل بين المسمى وبين غيره، فهذا لا ريب في أنه يفيد التمييز. فأما تصور حقيقة فلا، لكنها قد تفصل ما دل عليه الاسم بالإجمال، وليس ذلك من إدراك الحقيقة في شيء. والشرط في ذلك: أن تكون الصفات ذاتية، بل هو بمنزلة التقسيم والتحديد للكل، كالتقسيم لجزئياته ويظهر ذلك:
ج/ 9 ص -50-الوجه الثامن:
وهو أن الحس الباطن والظاهر يفيد تصور الحقيقة تصورًا مطلقًا، أما عمومها وخصوصها فهو من حكم العقل؛ فإن القلب يعقل معنى من هذا المعين ومعنى يماثله من هذا المعين، فيصير في القلب معنى عامًا مشتركًا، وذلك هو عقله، أي عقله للمعاني الكلية.
فإذا عقل معنى الحيوانية الذي يكون في هذا الحيوان وهذا الحيوان، ومعنى الناطق الذي يكون في هذا الإنسان وهذا الإنسان، وهو مختص به، عقل أن في نوع الإنسان معنى يكون نظيره في الحيوان، ومعنى ليس له نظير في الحيوان.
فالأول هو الذي يقال له: الجنس . والثاني: الذي يقال له: الفصل . وهما موجودان في النوع.
فهذا حق، ولكن لم يستفد من هذا اللفظ ما لم يكن يعرفه بعقله من أن هذا المعنى عام للإنسان ولغيره من الحيوان، بمعنى أن ما في هذا نظير ما في هذا ؛ إذ ليس في الأعيان الخارجة عموم، وهذا المعنى يختص بالإنسان. فلا فرق بين قولك: الإنسان حيوان ناطق، وقولك: الإنسان هو الحيوان الناطق، إلا من جهة الإحاطة والحصر في الثاني، لا من جهة تصوير
ج/ 9 ص -51-حقيقته باللفظ والإحاطة. والحصر هو التمييز الحاصل بمجرد الاسم، وهو قولك: إنسان وبشر . فإن هذا الاسم إذا فهم مسماه، أفاد من التمييز ما أفاده الحيوان الناطق في سلامته عن المطاعن.
وأما تصور أن فيه معنى عامًا ومعنى خاصًا، فليس هذا من خصائص الحد، كما تقدم. والذي يختص بالحد ليس إلا مجرد التمييز الحاصل بالأسماء. وهذا بين لمن تأمله.
وأما إدراك صفات فيه، بعضها مشترك وبعضها مختص، فلا ريب أن هذا قد لا يتفطن له بمجرد الاسم، لكن هذا يتفطن له بالحد وبغير الحد. فليس في الحد إلا ما يوجد في الأسماء، أو في الصفات التي تذكر للمسمى. وهذان نوعان معروفان:
الأول: معنى الأسماء المفردة.
والثاني: معرفة الجمل المركبة الإسمية والفعلية التي يخبر بها عن الأشياء، وتوصف بها الأشياء.
وكلا هذين النوعين لا يفتقر إلى الحد المتكلف، فثبت أن الحد ليس فيه فائدة إلا وهي موجودة في الأسماء والكلام بلا تكلف، فسقطت فائدة خصوصية الحد.
ج/ 9 ص -52-الوجه التاسع:
أن العلم بوجود صفات مشتركة ومختصة حق، لكن التمييز بين تلك الصفات بجعل بعضها ذاتيًا تتقوم منه حقيقة المحدود، وبعضها لازمًا لحقيقة المحدود، تفريق باطل، بل جميع الصفات الملازمة للمحدود طردًا وعكسًا هي جنس واحد، فلا فرق بين الفصل والخاصة، ولا بين الجنس والعرض العام.
وذلك أن الحقيقة المركبة من تلك الصفات: إما أن يعني بها الخارجة أو الذهنية أو شيء ثالث. فإن عنى بها الخارجة، فالنطق والضحك في الإنسان حقيقتان لازمتان يختصان به. وإن عنى الحقيقة التي في الذهن، فالذهن يعقل اختصاص هاتين الصفتين به دون غيره.
وإن قيل: بل إحدى الصفتين يتوقف عقل الحقيقة عليها، فلا يعقل الإنسان في الذهن حتى يفهم النطق، وأما الضحك فهو تابع لفهم الإنسان. وهذا معنى قولهم: [الذاتي ما لا يتصور فهم الحقيقة بدون فهمه، أو ما تقف الحقيقة في الذهن والخارج عليه].
ج/ 9 ص -53-قيل: إدراك الذهن أمر نسبي إضافي، فإن كون الذهن لا يفهم هذا إلا بعد هذا، أمر يتعلق بنفس إدراك الذهن، ليس هو شيئًا ثابتًا للموصوف في نفسه، فلابد أن يكون الفرق بين الذاتي والعرضي بوصف ثابت في نفس الأمر، سواء حصل الإدراك له أو لم يحصل، إن كان أحدهما جزءًا للحقيقة دون الآخر وإلا فلا.
الوجه العاشر:
أن يقال: كون الذهن لا يعقل هذا إلا بعد هذا، إن كان إشارة إلى أذهان معينة، وهي التي تصورت هذا، لم يكن هذا حجة ؛ لأنهم هم وضعوها هكذا. فيكون التقدير: أن ما قدمناه في أذهاننا على الحقيقة فهو الذاتي، وما أخرناه فهو العرضي. ويعود الأمر إلى أنا تحكمنا بجعل بعض الصفات ذاتيًا وبعضها عرضيًا لازمًا وغير لازم، وإن كان الأمر كذلك، كان هذا الفرقان مجرد تحكم بلا سلطان. ولا يستنكر من هؤلاء أن يجمعوا بين المفترقين ويفرقوا بين المتماثلين. فما أكثر هذا في مقاييسهم التي ضلوا بها وأضلوا . وهم أول من أفسد دين المسلمين، وابتدع ما غير به الصابئة مذاهب أهل الإيمان المهتدين.
وإن قالوا: بل جميع أذهان بني آدم والأذهان الصحيحة لا تدرك الإنسان
ج/ 9 ص -54-إلا بعد خطور نطقه ببالها دون ضحكه.
قيل لهم: ليس هذا بصحيح، ولا يكاد يوجد هذا الترتيب إلا فيمن يقلد عنكم هذه الحدود من المقلدين لكم في الأمور التي جعلتموها ميزان المعقولات، وإلا فبنو آدم قد لا يخطر لأحدهم أحد الوصفين، وقد يخطر له هذا دون هذا وبالعكس، ولو خطر له الوصفان وعرف أن الإنسان حيوان ناطق ضاحك، لم يكن بمجرد معرفته هذه الصفات مدركًا لحقيقة الإنسان أصلًا، وكل هذا أمر محسوس معقول.
فلا يغالط العاقل نفسه في ذلك لهيبة التقليد لهؤلاء، الذين هم من أكثر الخلق ضلالًا مع دعوى التحقيق، فهم في الأوائل كمتكلمة الإسلام في الأواخر. ولما كان المسلمون خيرًا من أهل الكتابين والصابئين، كانوا خيرًا منهم وأعلم وأحكم، فتدبر هذا فإنه نافع جدًا.
ومن هنا يقولون: الحدود الذاتية عسرة، وإدراك الصفات الذاتية صعب، وغالب ما بأيدي الناس حدود رسمية؛ وذلك كله لأنهم وضعوا تفريقًا بين شيئين بمجرد التحكم الذي هم أدخلوه.
ومن المعلوم أن ما لا حقيقة له في الخارج ولا في المعقول، وإنما هو ابتداع مبتدع وضعه، وفرق به بين المتماثلين فيما تماثلا فيه لا تعقله القلوب
ج/ 9 ص -55-الصحيحة إذ ذاك من باب معرفة المذاهب الفاسدة التي لا ضابط لها، وأكثر ما تجد هؤلاء الأجناس يعظمونه من معارفهم ويدعون اختصاص فضلائهم به، هو من الباطل الذي لا حقيقة له، كما نبهنا على هذا فيما تقدم.
الوجه الحادي عشر:
قولهم: الحقيقة مركبة من الجنس والفصل، والجنس هو الجزء المشترك والفصل هو الجزء المميز.
يقال لهم: هذا التركيب، إما أن يكون في الخارج أو في الذهن. فإن كان في الخارج فليس في الخارج نوع كلي يكون محدودًا بهذا الحد إلا الأعيان المحسوسة، والأعيان في كل عين صفة يكون نظيرها لسائر الحيوانات كالحس والحركة الإرادية، وصفة ليس مثلها لسائر الحيوان وهي النطق. وفي كل عين يجتمع هذان الوصفان، كما يجتمع سائر الصفات والجواهر القائمة لأمور مركبة من الصفات المجعولة فيها.
وإن أردتم بالحيوانية والناطقية جوهرًا، فليس في الإنسان جوهران، أحدهما حي، والآخر ناطق، بل هو جوهر واحد له صفتان. فإن كان
ج/ 9 ص -56- الجوهر مركبًا من عرضين، لم يصح. وإن كان من جوهر عام وخاص فليس فيه ذلك، فبطل كون الحقيقة الخارجة مركبة.
وإن جعلوها تارة جوهرًا وتارة صفة، كان ذلك بمنزلة قول النصارى في الأقانيم، وهو من أعظم الأقوال تناقضًا باتفاق العلماء.
وإن قالوا: المركب الحقيقية الذهنية المعقولة، قيل أولا: تلك ليست هي المقصودة بالحدود، إلا أن تكون مطابقة للخارج، فإن لم يكن هناك تركيب لم يصح أن يكون في هذه تركيب، وليس في الذهن إلا تصور الحي الناطق. وهو جوهر واحد له صفتان، كما قدمنا، فلا تركيب فيه بحال.
واعلم أنه لا نزاع أن صفات الأنواع والأجناس منها ما هو مشترك بينها وبين غيرها، كالجنس والعرض العام، ومنها ما هو لازم للحقيقة، ومنها ما هو عارض لها، وهو ما ثبت لها في وقت دون وقت كالبطىء الزوال وسريعه، وإنما الشأن في التفريق بين الذاتي والعرضي اللازم، فهذا هو الذي مداره على تحكم ذهن الحاد.
ولا تنازع في أن بعض الصفات قد يكون أظهر وأشرف، فإن النطق أشرف من الضحك، ولهذا ضرب اللّه به المثل في قوله: "إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْتَنطِقُونَ"[الذاريات: 23]، ولكن الشأن في جعل هذا ذاتيًا تتصور به الحقيقة دون الآخر.
ج/ 9 ص -57-الوجه الثاني عشر:
أن هذه الصفات الذاتية قد تعلم ولا يتصور بها كنه المحدود، كما في هذا المثال وغيره، فعلم أن ذلك ليس بموجب لفهم الحقيقة.
الوجه الثالث عشر:
أن الحد إذا كان له جزءان، فلابد لجزأيه من تصور، كالحيوان والناطق، فإن احتاج كل جزء إلى حد، لزم التسلسل أو الدور.
فإن كانت الأجزاء متصورة بنفسها بلا حد وهو تصور الحيوان، أو الحساس، أو المتحرك بالإرادة، أو النامي، أو الجسم فمن المعلوم أن هذه أعم. وإذا كانت أعم لكون إدراك الحس لأفرادها أكثر، فإن كان إدراك الحس لأفرادها كافيًا في التصور فالحس قد أدرك أفراد النوع . وإن لم يكن كافيًا في ذلك لم تكن الأجزاء معروفة، فيحتاج المعرف إلى معرف، وأجزاء الحد إلى حد.
ج/ 9 ص -58-الوجه الرابع عشر:
أن الحدود لابد فيها من التمييز، وكلما قلت الأفراد كان التمييز أيسر، وكلما كثرت كان أصعب، فضبط العقل الكلي تقل أفراده مع ضبط كونه كليًا أيسر عليه مما كثرت أفراده، وإن كان إدراك الكلى الكثير الأفراد أيسر عليه، فذاك إذا أدركه مطلقًا؛ لأن المطلق يحصل بحصول كل واحد من الأفراد.
وإذا كان ذلك كذلك، فأقل ما في أجزاء المحدود أن تكون متميزة تمييزًا كليًا ؛ ليعلم كونها صفة للمحدود أو محمولة عليه أم لا . فإذا كان ضبطها كلية أصعب وأتعب من ضبط أفراد المحدود، كان ذلك تعريفًا للأسهل معرفة بالأصعب مفردة، وهذا عكس الواجب.
الوجه الخامس عشر:
أن الله سبحانه علَّم آدم الأسماء كلها، وقد ميز كل مسمى باسم يدل على ما يفصله من الجنس المشترك، ويخصه دون ما سواه، ويبين به ما يرسم معناه
ج/ 9 ص -59-في النفس. ومعرفة حدود الأسماء واجبة ؛ لأنه بها تقوم مصلحة بني آدم في النطق الذي جعله الله رحمة لهم، لاسيما حدود ما أنزل الله في كتبه من الأسماء كالخمر والربا.
فهذه الحدود هي الفاصلة المميزة بين ما يدخل في المسمى ويتناوله ذلك الاسم وما دل عليه من الصفات، وبين ما ليس كذلك؛ ولهذا ذم الله من سمى الأشياء بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فإنه أثبت للشيء صفة باطلة كإلهية الأوثان.
فالأسماء النطقية سمعية، وأما نفس تصور المعاني ففطري، يحصل بالحس الباطن والظاهر، وبإدراك الحس وشهوده ببصر الإنسان بباطنه وبظاهره وبسمعه يعلم أسماءها، وبفؤاده يعقل الصفات المشتركة والمختصة.
والله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة.
فأما الحدود المتكلفة فليس فيها فائدة، لا في العقل، ولا في الحس، ولا في السمع، إلا ما هو كالأسماء مع التطويل، أو ما هو كالتمييز كسائر الصفات.
ولهذا لما رأوا ذلك جعلوا الحد نوعين: نوعًا بحسب الاسم؛ وهو بيان ما يدخل فيه، ونوعا بحسب الصفة أو الحقيقة أو المسمى، وزعموا كشف
ج/ 9 ص -60-الحقيقة وتصويرها، والحقيقة المذكورة إن ذكرت بلفظ دخلت في القسم الأول، وإن لم تذكر بلفظ فلا تدرك بلفظ ولا تحد بمقال إلا كما تقدم.
وهذه نكت تنبه على جمل المقصود، وليس هذا موضع بسط ذلك.
الوجه السادس عشر:
أن في الصفات الذاتية المشتركة والمختصة كالحيوانية والناطقية إن أرادوا بالاشتراك: أن نفس الصفة الموجودة في الخارج مشتركة فهذا باطل؛ إذ لا اشتراك في المعينات التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها.
وإن أرادوا بالاشتراك: أن مثل تلك الصفة حاصلة للنوع الآخر، قيل لهم: لا ريب أن بين حيوانية الإنسان وحيوانية الفرس قدرًا مشتركًا، وكذلك بين صوتيهما وتمييزهما قدرًا مشتركًا، فإن الإنسان له تمييز وللفرس تمييز، ولهذا صوت هو النطق، ولذاك صوت هو الصهيل، فقد خص كل صوت باسم يخصه. فإذا كان حقيقة أحد هذين يخالف الآخر ويختص بنوعه، فمن أين جعلتم حيوانية أحدهما مماثلة لحيوانية الآخر في الحد والحقيقة؟!
وهلاَّ قيل: إن بين حيوانيتهما قدرًا مشتركًا ومميزًا، كما أن بين صوتيهما
ج/ 9 ص -61-كذلك؟ وذلك أن الحس والحركة الإرادية إما أن توجد للجسم أو للنفس . فإن الجسم يحس ويتحرك بالإرادة ، والنفس تحس وتتحرك بالإرادة، وإن كان بين الوصفين من الفرق ما بين الحقيقتين.وكذلك النطق هو للنفس بالتمييز والمعرفة، والكلام النفساني، وهو للجسم أيضًا بتمييز القلب ومعرفته والكلام اللساني. فكل من جسمه ونفسه يوصف بهذين الوصفين، وليست حركة نفسه وإرادتها ومعرفتها ونطقها مثل ما للفرس، وإن كان بينهما قدر مشترك، وكذلك ما يقوم بجسمه من الحس والحركة الإرادية ليس مثل ما للفرس، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن الذي يلائم جسمه من مطعم ومشرب وملبس ومنكح ومشموم ومرئى ومسموع، بحيث يحسه ويتحرك إليه حركة إرادية ليس هو مثل ما للفرس.
فالحس والحركة الإرادية هي بالمعنى العام لجميع الحيوان، وبالمعنى الخاص ليس إلا للإنسان، وكذلك التمييز سواء؛ ولهذا قال النبي ﷺ: "أحب الأسماء إلى اللّه عبد الله وعبد الرحمن، وأصدق الأسماء: حارث وهمام ، وأقبحها: حرب ومرة". رواه مسلم.
فالحارث هو العامل الكاسب المتحرك، والهمام هو الدائم الهم الذي هو مقدم الإرادة، فكل إنسان حارث فاعل بإرادته، وكذلك مسبوق بإحساسه.
ج/ 9 ص -62-فحيوانية الإنسان ونطقه، كل منهما فيه ما يشترك مع الحيوان فيه، وفيه ما يختص به عن سائر الحيوان، وكذلك بناء بنيته، فإن نموه واغتذاءه وإن كان بينه وبين النبات فيه قدر مشترك، فليس مثله هو؛ إذ هذا يغتذي بما يلذ به ويسر نفسه، وينمو بنمو حسه وحركته وهمه وحرثه، وليس النبات كذلك.
وكذلك أصناف النوع وأفراده. فنطق العرب بتمييز قلوبهم وبيان ألسنتهم أكمل من نطق غيرهم، حتى ليكون في بني آدم من هو دون البهائم في النطق والتمييز، ومنهم من لا تدرك نهايته.
وهذا كله يبين أن اشتراك أفراد الصنف، وأصناف النوع، وأنواع الجنس والأجناس السافلة في مسمى الجنس الأعلى، لا يقتضي أن يكون المعنى المشترك فيها بالسواء، كما أنه ليس بين الحقائق الخارجة شيء مشترك، ولكن الذهن فَهِمَ معنى يوجد في هذا ويوجد نظيره في هذا. وقد تبين أنه ليس نظيرًا له على وجه المماثلة، لكن على وجه المشابهة، وأن ذلك المعنى المشترك هو في أحدهما على حقيقة تخالف حقيقة ما في الآخر.
ومن هنا يغلط القياسيون الذين يلحظون المعنى المشترك الجامع دون الفارق المميز.
والعرب من أصناف الناس، والمسلمون من أهل الأديان، أعظم الناس
ج/ 9 ص -63-إدراكا للفروق، وتمييزًا للمشتركات. وذلك يوجد في عقولهم ولغاتهم وعلومهم وأحكامهم؛ ولهذا لما ناظر متكلمو الإسلام العرب هؤلاء المتكلمة الصابئة عجم الروم، وذكروا فضل منطقهم وكلامهم على منطق أولئك وكلامهم ظهر رُجْحَان كلام الإسلاميين، كما فعله القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب [الدقائق] الذي رد فيه على الفلاسفة كثيرًا من مذاهبهم الفاسدة في الأفلاك والنجوم، والعقول والنفوس، وواجب الوجود وغير ذلك. وتكلم على منطقهم وتقسيمهم الموجودات، كتقسيمهم الموجود إلى الجوهر والعرض، ثم تقسيم الأعراض إلى المقولات التسعة، وذكر تقسيم متكلمة المسلمين الذي فيه من التمييز والجمع والفرق ما ليس في كلام أولئك.
وذلك أن الله علّم الإنسان البيان، كما قال تعالى: "الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" [الرحمن: 1-4]، وقال تعالى: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" [البقرة: 31]، وقال: "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 5]، والبيان: بيان القلب واللسان، كما أن العمى والبكم يكون في القلب واللسان، كما قال تعالى: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" [البقرة: 18]، وقال: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ" [البقرة: 171]، وقال النبي ﷺ: "هلا سألوا إذا لم يعلموا ؛ إنما شفاء العي السؤال"، وفي الأثر: العي عي القلب لا عي اللسان. أو قال: شر العي عي القلب، وكان ابن مسعود يقول: إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، وسيأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه.
ج/ 9 ص -64-وتبين الأشياء للقلب ضد اشتباهها عليه، كما قال ﷺ: "الحلال بيِّن والحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات" الحديث. وقد قرئ قوله تعالى: "وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ" [الأنعام: 55] بالرفع والنصب، أي: ولتتبين أنت سبيلهم.
فالإنسان يستبين الأشياء . وهم يقولون: قد بان الشيء، وبينته، وتبين الشيء وتبينته، واستبان الشيء واستبنته، كل هذا يستعمل لازمًا ومتعديًا، ومنه قوله تعالى: "إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا" [الحجرات: 6]، هو هنا متعد، ومنه قوله: "بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ" [النساء: 19]، أي: متبينة. فهنا هو لازم. والبيان كالكلام، يكون مصدر بان الشيء بيانا، ويكون اسم مصدر لبين، كالكلام والسلام لسلم وبين فيكون البيان بمعنى تبين الشيء، ويكون بمعنى بينت الشيء، أي: أوضحته. وهذا هو الغالب عليه. ومنه قوله ﷺ: "إن من البيان لسحرًا".
والمقصود ببيان الكلام حصول البيان لقلب المستمع، حتى يتبين له الشيء ويستبين؛ كما قال تعالى: "هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ" الآية [آل عمران: 138]. ومع هذا، فالذي لا يستبين له كما قال تعالى: "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى" [فصلت: 44]، وقال: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل: 44]، وقال: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" [إبراهيم: 4]، وقال: "وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" [النور: 54]، وقال: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ" [التوبة: 115] ، وقال: "يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا" [النساء: 176]،
ج/ 9 ص -65-وقال: "قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي" الآية [الأنعام: 57]، وقال: "أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ" [هود: 17]، وقال: "وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ" [النور: 34]، وقال: "يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [النور: 61].
فأما الأشياء المعلومة التي ليس في زيادة وصفها إلا كثرة كلام وتفيهق وتشدق وتكبر، والإفصاح بذكر الأشياء التي يستقبح ذكرها، فهذا مما ينهي عنه، كما جاء في الحديث: "إن الله يَبْغِضُ البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها"، وفي الحديث: "الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق"؛ ولهذا قال ﷺ: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنّة من فقهه".وفي حديث سعد لما سمع ابنه أو لما وجد ابنه يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، قال: يابني، إني سمعت رسول الله ﷺ، يقول: "سيكون قوم يعْتَدُون في الدعاء، فإياك أن تكون منهم، إنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن عذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر".
وعامة الحدود المنطقية هي من هذا الباب ، حشو لكلام كثير، يبينون به الأشياء، وهي قبل بيانهم أبين منها بعد بيانهم. فهي مع كثرة ما فيها من تضييع الزمان وإتعاب الفكر واللسان لا توجب إلا العمى والضلال، وتفتح باب
ج/ 9 ص -66-المراء والجدال ؛ إذ كل منهم يورد على حد الآخر من الأسئلة ما يفسد به، ويزعم سلامة حده منه، وعند التحقيق تجدهم متكافئين أو متقاربين، ليس لأحدهم على الآخر رجحان مبين، فإما أن يقبل الجميع أو يرد الجميع، أو يقبل من وجه ويرد من وجه.
هذا في الحدود التي تشترك في تمييز المحدود وفصله عما سواه، وأما متى أدخل أحدهما في الحد ما أخرجه الآخر، أو بالعكس، فالكلام في هذا علم يستفاد به حد الاسم ومعرفة عمومه وخصوصه، مثل الكلام في حد الخمر: هل هي عصير العنب المشتد، أم هي كل مسكر؟ وحد الغيبة ونحو ذلك.
وهذا هو الذي يتكلم فيه العلماء، كما قيل للنبي ﷺ: ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره" الحديث، وكذلك قوله: "كل مسكر خمر"، وقول عمر على المنبر: الخمر ما خامر العقل. وكذلك قوله ﷺ: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال له رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون نعله حسنًا وثوبه حسنًا، أفمن الكبر ذلك؟ فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطْر الحق وغمط الناس" ومنه تفسير الكلام وشرحه وبيانه.
فكل من شرح كلام غيره وفسره وبين تأويله، فلابد له من معرفة حدود الأسماء التي فيه.
ج/ 9 ص -67-
ج/ 9 ص -68-في الصحيح: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" أراد أن يبين لهم أن جميع المسكرات داخلة في مسمى الخمر الذي حرمه الله، فهو بيان لمعنى الخمر، وهم قد علموا أن الله حرم الخمر وكانوا يسألونه عن أشربة من عصير العنب، كما في الصحيحين عن أبى موسى أنه ﷺ سئل عن شراب يصنع من الذرة يسمى المزْر، وشراب يصنع من العسل يسمى البِتْع، وكان قد أوتي جوامع الكلم، فقال: "كل مسكر حرام". فأراد أن يبين لهم بالكلمة الجامعة وهي القضية الكلية أن "كل مسكر خمر"، ثم جاء بما كانوا يعلمونه من أن "كل خمر حرام" حتى يثبت تحريم المسكر في قلوبهم، كما صرح به في قوله: "كل مسكر حرام"، ولو اقتصر على قوله: "كل مسكر حرام"، لتأوله متأول على أنه أراد القدح الأخير كما تأوله بعضهم.
ولهذا قال أحمد: قوله: "كل مسكر خمر" أبلغ ؛ فإنهم لا يسمون القدح الأخير خمرًا، ولو قال: "كل مسكر خمر" فقط لتأوله بعضهم على أنه يشبه الخمر في التحريم، فلما زاد: "وكل خمر حرام" علم أنه أراد دخوله في اسم الخمر التي حرمها الله.
والغرض هنا أن صورة القياس المذكورة فطرية لا تحتاج إلى تعلم، بل هي عند الناس بمنزلة الحساب، ولكن هؤلاء يطولون العبارات ويغربونها.
ج/ 9 ص -69-وكذلك انقسام المقدمة التي تسمى [القضية] وهي الجملة الخبرية إلى خاص وعام، ومنفى ومثبت ونحو ذلك، وأن القضية الصادقة يصدق عكسها وعكس نقيضها، ويكذب نقيضها، وإن جملتها تختلف ونحو ذلك.
وكذلك تقسيم القياس إلى الحملي الإفرادي، والاستثنائي التلازمي والتعاندي وغير ذلك، غالبه وإن كان صحيحًا ففيه ما هو باطل. والحق الذي هو فيه، فيه من تطويل الكلام وتكثيره بلا فائدة، ومن سوء التعبير والعي في البيان، ومن العدول عن الصراط المستقيم القريب إلى الطريق المستدير البعيد، ما ليس هذا موضع بيانه.
فحقه النافع فطري لا يحتاج إليه، وما يحتاج إليه ليس فيه منفعة إلا معرفة اصطلاحهم وطريقهم أو خطئهم.
وهذا شأن كل ذي مقالة من المقالات الباطلة، فإنه لابد منه في معرفة لغته وضلاله، فاحتيج إليه لبيان ضلاله الذي يعرف به الموقنون حاله، ويستبين لهم ما بين الله من حكمه جزاءً وأمرًا؛ وأن هؤلاء داخلون فيما يذم به من تكلف القول الذي لا يفيد، وكثرة الكلام الذي لا ينفع.
والمقصود هنا ذكر وجوه:
ج/ 9 ص -70-الوجه الأول:
أن القياس المذكور لا يفيد علمًا إلا بواسطة قضية كلية موجبة. فلابد من كلية جامعة ثابتة في كل قياس. وهذا متفق عليه معلوم أيضًا؛ ولهذا قالوا: لا قياس عن سالبتين، ولا عن جزئيتين.وإذا كان كذلك وجب أن تكون العلوم الكلية الكلمات الجامعة هي أصول الأقيسة والأدلة، وقواعدها التي تبني عليها وتحتاج إليها.
ثم قالوا: إن مبادئ القياس البرهاني هي العلوم اليقينية التي هي الحسيات الباطنة والظاهرة، والعقليات والبديهيات والمتواترات والمجربات، وزاد بعضهم: الحدسيات. وليس في شيء من الحسيات الباطنة والظاهرة قضايا كلية؛ إذ الحس الباطن والظاهر لا يدرك إلا أمورًا معينة لا تكون إلا إذا كان المخبر أدرك ما أخبر به بالحس، فهي تبع للحسيات. وكذلك التجربة إنما تقع على أمور معينة محسوسة. وإنما يحكم العقل على النظائر بالتشبيه، وهو قياس التمثيل، والحدسيات عند من يثبتها منهم من جنس التجريبيات.
لكن الفرق: أن التجربة تتعلق بفعل المجرب كالأطعمة والأشربة والأدوية،
ج/ 9 ص -71-والحدس يتعلق بغير فعل، كاختلاف أشكال القمر عند اختلاف مقابلته للشمس، وهو في الحقيقة تجربة علمية بلا عمل، فالمستفاد به أيضًا أمور معينة جزئية، لا تصير عامة إلا بواسطة قياس التمثيل.
وأما البديهيات وهي العلوم الأولية التي يجعلها الله في النفوس ابتداء بلا واسطة، مثل الحساب، وهي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين فإنها لا تفيد العلم بشيء معين موجود في الخارج، مثل الحكم على العدد المطلق والمقدار المطلق، وكالعلم بأن الأشياء المساوية لشيء واحد هي متساوية في أنفسها، فإنك إذا حكمت على موجود في الخارج لم يكن إلا بواسطة الحس مثل العقل، فإن العقل؛ إنما هو عقل ما علمته بالإحساس الباطن أو الظاهر بعقل المعاني العامة أو الخاصة.
فأما أن العقل الذي هو عقل الأمور العامة التي أفرادها موجودة في الخارج يحصل بغير حس، فهذا لا يتصور. وإذا رجع الإنسان إلى نفسه وجد أنه لا يعقل ذلك مستغنيًا عن الحس الباطن والظاهر لكليات مقدرة في نفسه، مثل الواحد، والاثنين، والمستقيم والمنحنى، والمثلث والمربع، والواجب والممكن والممتنع، ونحو ذلك مما يفرضه هو ويقدره. فأما العلم بمطابقة ذلك المقدر للموجود في الخارج والعلم بالحقائق الخارجية، فلابد فيه من الحس الباطن أو الظاهر. فإذا اجتمع الحس والعقل كاجتماع البصر والعقل أمكن أن يدرك الحقائق الموجودة المعينة ويعقل حكمها العام
ج/ 9 ص -72-الذي يندرج فيه أمثالها لا أضدادها، ويعلم الجمع والفرق. وهذا هو اعتبار العقل وقياسه.
وإذا انفرد الإحساس الباطن أو الظاهر، أدرك وجود الموجود المعين. وإذا انفرد المعقول المجرد، علم الكليات المقدرة فيه التي قد يكون لها وجود في الخارج وقد لا يكون، ولا يعلم وجود أعيانها وعدم وجود أعيانها إلا بإحساس باطن أو ظاهر.
فإنك إذا قلت: موجود أن المائة عُشْر الألف لم تحكم على شيء في الخارج، بل لو لم يكن في العالم ما يعد بالمائة والألف لكنت عالما بأن المائة المقدرة في عقلك عشر الألف. ولكن إذا أحسست بالرجال والدواب والذهب والفضة، وأحسست بحسك أو بخبر من أحس أن هناك مائة رجل أو درهم، وهناك ألف ونحو ذلك، حكمت على أحد المعدودين بأنه عُشْر الآخر. فأما المعدودات فلا تدرك إلا بالحس، والعدد المجرد يعقل بالقلب، وبعقل القلب والحس، يعلم العدد والمعدود جميعًا، وكذلك المقادير الهندسية هي من هذا الباب.
فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة، ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار، لا في الأمور الخارجية الموجودة.
ج/ 9 ص -73-فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلا أمور معينة ليست كلية، وهي الحس الباطن والظاهر، والتواتر والتجربة والحدس والذي يدرك الكليات البديهية الأولية، إنما يدرك أمورًا مقدرة ذهنية، لم يكن في مبادئ البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة في الخارج، والقياس لا يفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية، فامتنع حينئذ أن يكون فيما ذكروه من صورة القياس ومادته حصول علم يقيني.
وهذا بين لمن تأمله، وبتحريره وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف، وسنبين إن شاء الله من أي وجه وقع عليهم اللبس.
فتدبر هذا، فإنه من أسرار عظائم العلوم التي يظهر لك به ما يجل عن الوصف من الفرق بين الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية، وبين الطريقة القياسية المنطقية الكلامية.
وقد تبين لك بإجماعهم وبالعقل أن القياس المنطقي لا يفيد إلا بواسطة قضية، وتبين لك أن القضايا التي هي عندهم مواد البرهان وأصوله ليس فيها قضية كلية للأمور الموجودة، وليس فيها ما تعلم به القضية الكلية إلا العقل المجرد الذي يعقل المقدرات الذهنية، وإذا لم يكن في أصول برهانهم علم بقضية عامة للأمور الموجودة لم يكن في ذلك علم.
ج/ 9 ص -74-وليس فيما ذكرناه ما يمكن النزاع فيه إلا القضايا البديهية، فإن فيها عمومًا، وقد يظن أنه به تعلم الأمور الخارجة، فيفرض أنها تفيد العلوم الكلية، لكن بقية المبادئ ليس فيها علم كلي.
فكان الواجب ألا يجعل مقدمة البرهان إلا القضايا العقلية البديهية المحضة؛ إذ هي الكلية. وأما بقية القضايا فهي جزئية، فكيف يصلح أن تجعل من مقدمات البرهان؟ إلا أن يقال: تعلم بها أمور جزئية وبالعقل أمور كلية، فبمجموعهما يتم البرهان، كما يعلم بالحس أن مع هذا ألف درهم ومع هذا ألفان، ويعلم بالعقل أن الاثنين أكثر من الواحد، فيعلم أن مال هذا أكثر.
فيقال: هذا صحيح، لكن هذا إنما يفيد قضية جزئية معينة، وهو كون مال هذا أكثر من مال هذا. والأمور الجزئية المعينة لا تحتاج في معرفتها إلى قياس، بل قد تعلم بلا قياس، وتعلم بقياس التمثيل، وتعلم بالقياس عن جزئيتين، فإنك تعلم بالحس أن هذا مثل هذا، وتعلم أن هذا من نعته كيت وكيت، فتعلم أن الآخر مثله، وتعلم أن حكم الشيء حكم مثله. وكذلك قد يعلم أن زيدًا أكبر من عمرو، وعمرًا أكبر من خالد، وأمثال هذه الأمور المعينة التي تعلم بدون قياس الشمول الذي اشترطوا فيه ما اشترطوا.
ج/ 9 ص -75-فقد تبين أن هذا القياس العقلي المنطقي الذي وضعوه وحددوه لا يعلم بمجرده شيء من العلوم الكلية الثابتة في الخارج، فبطل قولهم: إنه ميزان العلوم الكلية البرهانية، ولكن يعلم به أمور معينة شخصية جزئية، وتلك تعلم بغيره أجود مما تعلم به. وهذا هو:
الوجه الثاني:
فنقول: أما الأمور الموجودة المحققة فتعلم بالحس الباطن والظاهر، وتعلم بالقياس التمثيلي، وتعلم بالقياس الذي ليس فيه قضية كلية ولا شمول ولا عموم بل تكون الحدود الثلاثة فيه الأصغر والأوسط والأكبر أعيانًا جزئية، والمقدمتان والنتيجة قضايا جزئية. وعلم هذه الأمور المعينة بهذه الطرق أصح وأوضح وأكمل؛ فإن من رأى بعينه زيدًا في مكان وعمرًا في مكان آخر، استغنى عن أن يستدل على ذلك بكون الجسم الواحد لا يكون في مكانين، وكذلك من وزن دراهم كل منها ألف درهم، استغنى عن أن يستدل على ألف درهم منها بأنها مساوية للصنجة، وهي شيء واحد، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وأمثال ذلك كثير؛ ولهذا يسمى هؤلاء [أهل كلام] أي لم يفيدوا علمًا لم يكن معروفًا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما ضربوه من القياس؛ لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا
ج/ 9 ص -76- القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس، كما سنذكره إن شاء الله.
وكذلك إذا علم الإنسان أن هذا الدينار مثل هذا، وهذا الدرهم مثل هذا، وأن هذه الحنطة والشعير مثل هذا، ثم علم شيئًا من صفات أحدهما وأحكامه الطبيعية، مثل الاغتذاء والانتفاع، أو العادية مثل القيمة والسعر، أو الشرعية مثل الحل والحرمة علم أن حكم الآخر مثله.
فأقيسة التمثيل تفيد اليقين بلا ريب، أعظم من أقيسة الشمول، ولا يحتاج مع العلم بالتماثل إلى أن يضرب لهما قياس شمول، بل يكون من زيادة الفضول.
وبهذا الطريق عرفت القضايا الجزئية بقياس التمثيل.
ومن قال: إن ذلك بواسطة قياس شمول ينعقد في النفس، وهو أن هذا لو كان اتفاقيًا لما كان أكثريًا، فقد قال الباطل؛ فإن الناس العالمين بما جربوه لا يخطر بقلوبهم هذا، ولكن بمجرد علمهم بالتماثل يبادرون إلى التسوية في الحكم؛ لأن نفس العلم بالتماثل يوجب ذلك بالبديهة العقلية، فكما علم بالبديهة العقلية أن الواحد نصف الاثنين، علم بها أن حكم الشيء
ج/ 9 ص -77-حكم مثله، وأن الواحد مثل الواحد، كما علم أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.
فالتماثل والاختلاف في الصفة أو القدر قد يعلم بالإحساس الباطن والظاهر، والعلم بأن المثلين سواء، وأن الأكثر والأكبر أعظم وأرجح، يعلم ببديهة العقل.
وكذلك القياس المؤلف من قضايا معينة، مثل العلم بأن زيدًا أخو عمرو، وعمرو أخو بكر، فزيد أخو بكر. ومثل العلم بأن أبا بكر أفضل من عمر، وعمر أفضل من عثمان وعلي، فأبو بكر أفضل من عثمان وعلي. وأن المدينة أفضل من بيت المقدس والمدينة لا يجب أن يحج إليها، فبيت المقدس لا يحج إليه. وقبر الرسول ﷺ أفضل القبور، ولا يشرع استلامه ولا تقبيله، فقبر فلان وفلان وفلان لا يشرع استلامه ولا تقبيله، وأمثال هذه الأقيسة ملء العالم. وهذا أبلغ في إفادة حكم المعين من ذكر العام. فدلالة الاسم الخاص على المعين أبلغ من الدلالة عليه بالاسم العام، وإن كان في العام أمور أخرى ليست في الخاص.
فتبين أن المعلوم من الأمور المعينة يعلم بالحس وبقياس التمثيل والأقيسة المعينة أعظم مما يعلم أعيانها بقياس الشمول، فإذا كان قياس الشمول الذي حرروه لا يفيد الأمور الكلية، كما تقدم، ولا تحتاج إليه الأمور المعينة،
ج/ 9 ص -78-كما تبين، لم يبق فيه فائدة أصلًا، ولم يحتج إليه في علم كلي، ولا علم معين، بل صار كلامهم في القياس الذي حرروه كالكلام في الحدود، وهذا هذا، فتدبره فإنه عظيم القدر.
الوجه الثالث:
أن يقال: إذا كان لابد في القياس من قضية كلية والحس لا يدرك الكليات، وإنما تدرك بالعقل. ولا يجوز أن تكون معلومة بقياس آخر، لما يلزم من الدور أو التسلسل، فلابد من قضايا كلية تعقل بلا قياس، كالبديهيات التي جعلوها.
فنقول: إذ وجب الاعترف بأن من العلوم الكلية العقلية ما يبتدئ في النفوس ويبدهها بلا قياس، وجب الجزم بأن العلوم الكلية العقلية قد تستغني عن القياس، وهذا مما اعترفوا به هم وجميع بني آدم؛ أن من التصور والتصديق ما هو بديهي لا يحتاج إلى كسب بالحد والقياس، وإلا لزم الدور أو التسلسل.
وإذا كان كذلك، فنقول:إذا جاز هذا في علم كلي، جاز في آخر؛ إذ ليس بين ما يمكن أن يعلم ابتداء من العلوم البديهية وما لا يجوز أن يعلم
ج/ 9 ص -79-فصل يطرد، بل هذا يختلف باختلاف قوة العقل وصفائه، وكثرة إدراك الجزئيات التي تعلم بواسطتها الأمور الكلية، فما من علم من الكليات إلا وعلمه يمكن بدون القياس المنطقي، فلا يجوز الحكم بتوقف شيء من العلوم الكلية عليه، وهذا يتبين ب:
الوجه الرابع:
وهو أن نقول: هب أن صورة القياس المنطقي ومادته تفيد علومًا كلية، لكن من أين يعلم أن العلم الكلي لا ينال حتى يقول هؤلاء المتكلفون القافون ما ليس لهم به علم، هم ومن قلدهم من أهل الملل وعلمائهم: إن ما ليس ببديهي من التصورات والتصديقات لا يعلم إلا بالحد والقياس، وعدم العلم ليس علما بالعدم. فالقائل لذلك لم يمتحن أحوال نفسه، ولو امتحن أحوال نفسه لوجد له علومًا كلية بدون القياس المنطقي، وتصورات كثيرة بدون الحد. وإن علم ذلك من نفسه أو بني جنسه، فمن أين له أن جميع بني آدم- مع تفاوت فطرهم وعلومهم ومواهب الحق لهم - هم بمنزلته، وأن الله لا يمنح أحدًا علمًا إلا بقياس منطقي ينعقد في نفسه، حتى يزعم هؤلاء أن الأنبياء كانوا كذلك، بل صعدوا إلى رب العالمين، وزعموا أن علمه بأمور خلقه إنما هو بواسطة القياس المنطقي. وليس معهم بهذا النفي الذي لم يحيطوا بعلمه من حجة إلا عدم
ج/ 9 ص -80-العلم، فيدعون العلم، وقد تكلموا بهذه القضية الكلية السالبة التي تعم ما لا يحصى عدده إلا الله بلا علم لهم بها أصلا. ويزيد هذا بيانا:
الوجه الخامس:
وهو أن المبادئ المذكورة التي جعلوها مفيدة لليقين وهي الحسيات الباطنة والظاهرة، والبديهيات والتجريبيات والحدسيات لا ريب أنها تفيد اليقين الحسي، فمن أين لهم أن اليقين لا يحصل بغيرها؟ لابد من دليل على النفي، حتى يصح قولهم: لا يحصل اليقين بدونها.
فهذا صحيح، لكنه ليس هو قول رؤوسهم.
ولا ريب أن من له عقل وإيمان، يجب أن يخالفهم في تكذيبهم بالحق الخارج عن هذا الطريق.
ومن هذا الموضع صار منافقًا وتزندق من نافق منهم، وصار عند عقلاء الناس من أهل الملل وغيرهم أن المنطق مظنة التكذيب بالحق والعناد والزندقة والنفاق، حتى حكى لنا بعض الناس: أن شخصًا من الأعاجم جاء ليقرأ على بعض شيوخهم منطقًا، فقرأ منه قطعة، ثم قال: حواجًا، أي باب ترك الصلاة؟ فضحكوا منه.
ج/ 9 ص -81-وهذا موجود بالاستقراء أن من حسن الظن بالمنطق وأهله إن لم يكن له مادة من دين وعقل يستفيد بها الحق الذي ينتفع به، وإلا فسد عقله ودينه.
ولهذا يوجد فيهم من الكفر والنفاق والجهل والضلال وفساد الأقوال والأفعال ما هو ظاهر لكل ناظر من الرجال؛ ولهذا كان أول من خلطه بأصول الفقه ونحوه من العلوم الإسلامية كثير الاضطراب.
فإنه كان كثير من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون: المنطق كالحساب ونحوه، مما لا يعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه.
فهذا كلام من رأى ظاهره وما فيه من الكلام على الأمور المفردة لفظًا ومعنى، ثم على تأليف المفردات، وهو القضايا ونقيضها وعكسها المستوي وعكس النقيض، ثم على تأليفها بالحد والقياس، وعلى مواد القياس، وإلا فالتحقيق: أنه مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوي باطلة كثيرة، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله محمد، الداعي إلى الهدى والرشاد، وعلى آله ومن اتبع هداه.