أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل وأما السؤال عن تعليل أفعال الله

    ج/ 8 ص -377-وقال الشيخ قدس الله روحه‏:‏
    فصل
    وأما السؤال‏:‏ عن تعليل أفعال الله ‏.‏
    فالذي عليه جمهور المسلمين من السلف والخلف أن الله تعالى يخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقه والعلم، ووافقهم على ذلك أكثر أهل الكلام، من المعتزلة والكرامية وغيرهم‏.‏
    وذهب طائفة من أهل الكلام، ونفاة القياس، إلى نفي التعليل في خلقه وأمره، وهو قول الأشعري، ومن وافقه وقالوا‏:‏ ليس في القرآن لام تعليل في فعل الله وأمره، ولا يأمر الله بشىء لحصول مصلحة، ولا دفع مفسدة، بل ما يحصل من مصالح العباد ومفاسدهم بسبب من الأسباب، فإنما خلق ذلك عندها، لا أنه يخلق هذا لهذا، ولا هذا لهذا، واعتقدوا أن التعليل يستلزم الحاجة والاستكمال بالغير، وأنه يفضي إلى التسلسل‏.‏
    والمعتزلة، أثبتت التعليل، لكن علي أصولهم الفاسدة في التعليل، والتجويز،

    ج/ 8 ص -378-و أما أهل الفقه والعلم، وجمهور المسلمين‏.‏ الذين يثبتون التعليل، فلا يثبتونه على قاعدة القدرية، ولا ينفونه نفي الجهمية، وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في مواضع‏.‏
    لكن قول الجمهور‏:‏ هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، والمعقول الصريح، وبه يثبت أن الله حكيم، فإنه من لم يفعل شيئًا لحكمة لم يكن حكيمًا، والكلام في هذا يبني على أصول‏.‏
    أحدها‏:‏ إثبات محبة الله ورضاه، وأنه يستحق أن يعبد لذاته، ويحب لذاته، وليس شىء سواه يستحق أن يحب إلا هو، وكل محبة لغيره فهي فاسدة، وهذا من معاني الإلهية فإن الإله هو المألوه الذي يستحق من يؤله فيعبد، والعباد تجمع غاية الذل، وغاية الحب، وهذا لا يستحقه إلا هو، وهو سبحانه يحمد نفسه، ويثنى على نفسه، ويمجد نفسه، ويفرح بتوبة التائبين، ويرضى عن عباده المؤمنين‏.‏
    والحمد‏:‏ هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها‏.‏ فلو أخبر مخبر بمحاسن غيره من غير محبة لها لم يكن حامدًا ولو أحبها ولم يخبر بها لم يكن حامدا‏.‏ والرب سبحانه وتعالى إذا حمد نفسه، فذكر أسماءه الحسنى وصفاته العلى، وأفعاله الجميلة، وأحب نفسه المقدسة، فكان هو الحامد والمحمود، والمثني والمثنى عليه، والممجد والممجد، والمحب والمحبوب، كان هذا غاية

    ج/ 8 ص -379-الكمال، الذي لا يستحقه غيره، ولا يوصف به إلا هو ‏.‏
    وهو سبحانه رب كل شىء، فلا يكون شىء إلا به، وهو الإله الذي لا إله إلا هو، ولا يجوز أن نعبد إلا هو، فما لا يكون به لا يكون، ومالا يكون له لا ينفع ولا يدوم، وكل عمل لم يرد به وجهه فهو باطل،
    ‏"إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏"‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏‏.‏
    وهو الذي جعل المسلم مسلمًا، والمصلي مصليًا، والتائب تائبًا، والحامد حامدًا، فإذا يسر عبده لليسرى، فتاب إليه وفرح الله بتوبته، وشكره فرضي بشكره وعمل صالحًا فأحبه، لم يكن المخلوق هو الذي جعل الخالق راضيًا محبًا فرحًا بتوبته، بل الرب هو الذي جعل المخلوق فاعلا لما يفرحه ويرضيه ويحبه، وكل ذلك حاصل بمشيئته وقدرته لا شريك له في إحداث شىء من المحدثات، ولا هو مفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن كل ما سواه من كل وجه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه، فإذا خلق شيئًا لحكمة يحبها ويرضاها لم يجز أن يقال‏:‏ هو مفتقر إلى غيره، إلا إذا كان هناك خالق غيره يفعل ما يحبه ويرضاه، وهذا يجىء على قول القدرية، الذين يزعمون أنه لم يخلق أفعال العباد، وإن الطاعات وجدت بدون قدرته وخلقه، فإذا قيل‏:‏ إنه يحبها ويرضاها، لزم أن يكون المخلوق جعله كذلك‏.‏
    وأما على قول أهل السنة الذين يقولون‏:‏ إنه خالق كل شىء من

    ج/ 8 ص -380-أفعال العباد وغيرها، فلم يوجد إلا ما خلقه هو، وله في ذلك من الحكمة البالغة ما يعلمه هو علي وجه التفصيل، وقد يعلم بعض عباده من ذلك ما يعلمه إياه إذ لا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء‏.‏
    وأما كون ذلك يستلزم قيام الأمور الاختيارية بذاته، فهذا قول السلف، وأئمة الحديث والسنة، وكثير من أهل الكلام‏.‏
    وأما كون ذلك يستلزم التسلسل في المستقبل، فإنه إذا خلق شيئًا لحكمة توجد بعد وجوده، وتلك الحكمة لحكمة أخري لزم التسلسل في المستقبل، فهذا جائز عند المسلمين وغيرهم ممن يقول بدوام نعيم أهل الجنة، وإنما يخالف في ذلك من شك، كالجهم بن صفوان الذي يقول بفناء الجنة والنار، وكأبي الهذيل الذي يقول بانقطاع حركات أهل الجنة والنار‏.‏ فإن هذين ادعيا امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل‏.‏ وخالفهم جماهير المسلمين‏.‏
    والجواب الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ التسلسل نوعان‏:‏
    أحدهما‏:‏ في الفاعلين وهو أن يكون لكل فاعل فاعل‏.‏ فهذا باطل بصريح العقل، واتفاق العقلاء‏.‏
    والثاني‏:‏ التسلسل في الآثار، مثل أن يقال‏:‏ إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ويقال‏:‏ إن كلمات الله لا نهاية لها‏.‏ فهذا التسلسل يجوزه أئمة أهل

    ج/ 8 ص -381-الملل، وأئمة الفلاسفة، ولكن الفلاسفة يدعون قدم الأفلاك، وأن حركات الفلك لا بداية لها، ولا نهاية لها‏.‏ هذا كفر مخالف لدين الرسل‏.‏ وهو باطل في صريح المعقول‏.‏
    وكذلك القول‏:‏ بأن الرب لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته، ثم صار يمكنه الكلام، والفعل بمشيئته كما يقول ذلك الجهمية والقدرية، ومن وافقهم من أهل الكلام قول باطل‏.‏ وهو الذي أوقع الاضطراب بين ملاحدة المتفلسفة ومبتدعة أهل الكلام‏.‏ في هذا الباب، والكلام علي هذه الأمور مبسوط في موضعه وهذه مطالب غالية، إنما يعرف قدرها من عرف مقالات الناس والإشكالات اللازمة علي كل قول حتى أوقعت كثيرًا من فحول النظار في بحور الشك والارتياب، وهي مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

    ج/ 8 ص -382-قال شيخ الإسلام رحمه الله‏:‏
    فصل
    حدثني بعض ثقات أصحابنا، أن شيخنا أبا عبد الله محمد بن عبد الوهاب، عاد شيخنا أبا زكريا بن الصرمي وعنده جماعة فسألوه الدعاء‏.‏
    فقال في دعائه‏:‏ اللهم بقدرتك التي قدرت بها أن تقول بها للسموات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا، قالتا أتينا طائعين‏.‏ افعل كذا وكذا‏.‏ قال أبو عبد الوهاب‏:‏ ولم أخاطبه فيه بحضرة الناس حتى خلوت به وقلت له‏:‏ هذا لا يقال لو قلت‏:‏ قدرت بها علي خلقك جاز، فأما قدرت بها أن تقول، فلا يجوز؛ لأن هذا يقتضي أن يكون قوله مقدورًا له مخلوقًا، وذكر لي الحاكي وهو من فضلاء أصحاب الشافعي أنه بلغ الإمام أبا زكريا النواوي فلم يتفطن لوجه الإنكار في هذا الدعاء حتي تبين له فعرف ذلك‏.‏
    قلت‏:‏ هذه المسألة مثل مسألة المشيئة، وهو قولنا‏:‏ يتكلم إذا شاء، فإن

    ج/ 8 ص -383-ما تعلقت به المشيئة تعلقت به القدرة، فإن ما شاء الله كان ولا يكون شىء إلا بقدرته، وما تعلقت به القدرة من الموجودات تعلقت به المشيئة، فإنه لا يكون شىء إلا بقدرته ومشيئته، وما جاز أن تتعلق به القدرة جاز أن تتعلق به المشيئة، وكذلك بالعكس، وما لا فلا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏"إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏، والشىء في الأصل مصدر شاء يشاء شيئًا كنال ينال نيلاً، ثم وضعوا المصدر موضع المفعول فسموا المشىء شيئًا، كما يسمى المنيل نيلاً، فقالوا‏:‏ نيل المعدن، وكما يسمى المقدور قدرة، والمخلوق خلقا، فقوله‏:‏ ‏"عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏"‏ أي على كل ما يشاء، فمنه ما قد شىء فوجد، ومنه ما لم يشأ لكنه شىء في العلم بمعنى أنه قابل لأن يشاء وقوله‏:‏ ‏"عَلَى كُلِّ شَيْءٍ‏"‏، يتناول ما كان شيئًا في الخارج والعلم، أو ما كان شيئًا في العلم فقط، بخلاف مالا يجوز أن تتناوله المشيئة وهو الحق تعالى وصفاته، أو الممتنع لنفسه، فإنه غير داخل في العموم؛ ولهذا اتفق الناس على أن الممتنع لنفسه ليس بشىء، وتنازعوا في المعدوم الممكن‏:‏
    فذهب فريق من أهل الكلام من المعتزلة والرافضة، وبعض من وافقهم من ضلال الصوفية، إلي أنه شىء في الخارج لتعلق الإرادة والقدرة به وهذا غلط، وإنما هو معلوم لله ومراد له إن كان مما يوجد، وليس له في نفسه لا موت ولا وجود ولا حقيقة أصلا، بل وجوده وثبوته وحصوله شىء واحد، وماهيته وحقيقته في الخارج هي نفس وجوده، وحصوله وثبوته ليس في

    ج/ 8 ص -384-الخارج شيئان، وإن كان العقل يميز الماهية المطلقة عن الوجود المطلق‏.‏
    إذا عرف ذلك فهذه المسألة مبنية على مسألة كلام الله، ونحو ذلك من صفاته، هل هي قديمة لازمة لذاته لا يتعلق شىء منها بفعله وبمشيئته ولا قدرته‏؟‏ أو يقال‏:‏ إنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء، وإنها مع ذلك صفات فعليه‏؟‏ وهذا فيه قولان لأصحابنا وغيرهم من أهل السنة‏.‏ قلت‏:‏ وهذا الدعاء الذي دعا به الشيخ أبو زكريا مأثور عن الإمام أحمد، ومن هناك حفظه الشيخ، والله أعلم‏.‏ فإنه كان كثير المحبة لأحمد وآثاره، والنظر في مناقبه وأخباره وقد ذكروه في مناقبه‏.‏ ورواه الحافظ البيهقي في مناقب أحمد وهي رواية الشيخ أبي زكريا عن الحافظ عبد القادر الرهاوي إجازة، و قد سمعوها عليه عنه إجازة، قال البيهقي‏:‏ وفيما أنبأني أبو عبد الله الحافظ إجازة‏.‏ حدثني أبو بكر محمد بن إسماعيل بن العباس، حدثني أبو محمد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم البغوي، حدثنا أبو جعفر محمد ابن يعقوب الصفار قال‏:‏ كنا عند أحمد بن حنبل فقلنا‏:‏ ادع الله لنا، فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنا نعلم أنك لنا على أكثر ما نحب، فاجعلنا نحن لك علي ما تحب، قال‏:‏ ثم جلست ساعة، فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الله زدنا، فقال‏:‏ اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر فنطغى، ولا تقل علينا فننسى،

    ج/ 8 ص -385-وهب لنا من رحمتك، وسعة من رزقك تكون بلاغًا في دنياك وغنى من فضلك‏.‏ قلت‏:‏ هذا على المعنى المتقدم موافق لقوله‏:‏ يتكلم إذا شاء، فجعله معلقًا بالقدرة والمشيئة‏.‏ وإن جعل القول هنا عبارة عن سرعة التكوين بلا قول حقيقي، فهذا خلاف ما احتج به أحمد في كتاب الرد على الجهمية في هذه، فإنه احتج بهذه الآية على أن الكلام لا يقف على لسان وأدوات ‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML