أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

فصل في قوله فحج آدم موسى

    ج/ 8 ص -303-قال شيخ الإسلام قدس الله روحه‏:‏
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا‏.‏
    فصل
    في قوله ﷺ ‏:‏ ‏"‏فحج آدم موسى‏"‏ لما احتج عليه بالقدر‏.‏
    وبيان أن ذلك في المصائب لا في الذنوب، وأن الله أمر بالصبر والتقوى فهذا في الصبر لا في التقوى، وقال‏:‏ ‏"فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏"‏ ‏[‏غافر‏:‏55‏]‏،

    ج/ 8 ص -304-فأمر بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب‏.‏
    وذلك أن بني آدم اضطربوا في هذا المقام مقام تعارض الأمر والقدر وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع‏.‏
    والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحيحين حديث أبي هريرة، عن النبي ﷺ، قال‏:‏ ‏"‏احتج آدم وموسى، فقال موسى‏:‏ يا آدم ‏؟‏ أنت أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ فقال له آدم‏:‏ أنت موسى الذي كلمك الله تكليمًا وكتب لك التوراة‏.‏ فبكم تجد فيها مكتوبًا ‏:‏‏
    "وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏"[‏طه‏:‏121‏]‏، قبل أن أخلق، قال‏:‏ بأربعين سنة، قال فحج آدم موسى‏"‏‏.‏
    وهو مروي أيضًا من طريق عمر بن الخطاب بإسناد حسن، وقد ظن كثير من الناس أن آدم احتج بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظن ثلاثة أحزاب‏:‏
    فريق كذبوا بهذا الحديث‏:‏ كأبي على الجبائي وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبي ﷺ بل وجميع الأنبياء وأتباع الأنبياء أن يجعلوا القدر حجة لمن عصى الله ورسوله‏.‏

    ج/ 8 ص -305-وفريق تأولوه بتأويلات معلومة الفساد‏:‏ كقول بعضهم‏:‏ إنما حجه لأنه كان أباه والابن لا يلوم أباه، وقول بعضهم‏:‏ لأن الذنب كان في شريعة، والملام في أخرى، وقول بعضهم‏:‏ لأن الملام كان بعد التوبة، وقول بعضهم‏:‏ لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة‏.‏
    وفريق ثالث جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالفين لأمر الله ورسوله، ثم لم يمكنهم طرد ذلك، فلا بد في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضر نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتج بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره كما قيل في مثل هؤلاء‏:‏ أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتج بالقدر، ولو أذنب غيره أو ظلمه لم يعذره، وهؤلاء ظالمون معتدون‏.‏
    ومنهم من يقول‏:‏ هذا في حق أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبية وفنوا عما سوي الله، فيرون ألا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلاً، بل لا يرون فاعلاً إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلاً فإنه يذم ويعاقب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفية المدعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم‏.‏

    ج/ 8 ص -306-قال أبو المظفر السمعاني‏:‏ وأما الكلام فيما جرى بين آدم وموسى من المحاجة في هذا الشأن، فإنما ساغ لهما الحجاج في ذلك؛ لأنهما نبيان جليلان خصا بعلم الحقائق، وأذن لهما في استكشاف السرائر، وليس سبيل الخلق الذين أمروا بالوقوف عند ما حد لهم والسكوت عما طوي عنهم سبيلها، وليس قوله‏:‏ ‏"‏فحج آدم موسى‏"‏ إبطال حكم الطاعة، ولا إسقاط العمل الواجب، ولكن معناه ترجيح أحد الأمرين، وتقديم رتبة العلة على السبب، فقد تقع الحكمة بترجيح معني أحد الأمرين، فسبيل قوله‏:‏ ‏"‏فحج آدم موسى‏"‏، هذا السبيل، وقد ظهر هذا في قضية آدم، قال الله تعالى‏:‏ ‏"إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏‏.‏
    إلى أن قال‏:‏ فجاء من هذا أن آدم لم يتهيأ له أن يستديم سكنى الجنة إلا بألا يقرب الشجرة؛ لسابق القضاء المكتوب عليه في الخروج منها، وبهذا صال على موسى عند المحاجة، وبهذا المعنى قضى له على موسى فقال‏:‏ فحج آدم موسى‏.‏
    قلت‏:‏ ولهذا يقول الشيخ عبد القادر قدس الله روحه ‏:‏ كثير من الرجال إذا وصلوا إلي القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي فيه روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعًا للقدر لا موافقًا له، وهو رضي الله عنه كان يعظم الأمر والنهي، ويوصي باتباع ذلك، وينهي عن الاحتجاج بالقدر، وكذلك شيخه حماد الدباس وذلك لما رأوه في

    ج/ 8 ص -307-كثير من السالكين من الوقوف عند القدر المعارض للأمر والنهي، والعبد مأمور بأن يجاهد في سبيل الله ويدفع ما قدر من المعاصي بما يقدر من الطاعة، فهو منازع للمقدور المحظور بالمقدور المأمور لله تعالى وهذا هو دين الله الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏
    وممن يشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة‏:‏ كقول ابن سينا بأن يشهد سر القدر، والرازي يقرر ذلك؛ لأنه كان جبريًا محضًا‏.‏
    وفي الجملة، فهذا المعني دائر في نفوس كثير من الخاصة من أهل العلم والعبادة فضلاً عن العامة، وهو مناقض لدين الإسلام‏.‏
    ومن هؤلاء من يقول‏:‏ الخضر إنما سقط عنه الملام؛ لأنه كان مشاهدًا لحقيقة القدر، ومن شيوخ هؤلاء من كان يقول‏:‏ لو قتلت سبعين نبيًا لما كنت مخطئًا، ومنهم من يقول بطرد قوله بحسب الإمكان فيقول‏:‏ كل من قدر على فعل شيء وفعله فلا ملام عليه، فإن قدر أنه خالف غرض غيره فذلك ينازعه، والأقوى منهما يقمر الآخر، فأيهما أعانه القدر فهو المصيب، باعتبار أنه غالب وإلا فما ثم خطأ‏.‏
    ومن هؤلاء الاتحادية الذين يقولون‏:‏ الوجود واحد، ثم يقولون‏:‏/

    ج/ 8 ص -308-بعضه أفضل من بعض والأفضل يستحق أن يكون ربًا للمفضول، ويقولون‏:‏ إن فرعون كان صادقًا في قوله‏:‏ ‏"أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى‏"‏ ‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏، وهذا قول طائفة من ملاحدة المتصوفة المتفلسفة الاتحادية، كالتلمساني، والقول بالاتحاد العام المسمى وحدة الوجود، هو قول ابن عربي الطائي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم، لكن لهم في المعاد والجزاء نزاع، كما أن لهم نزاعًا في أن الوجود هل هو شيء غير الذوات أم لا‏؟‏ وهؤلاء ضلوا من وجوه‏:‏ منها جهة عدم الفرق بين الوجود الخالق والمخلوق‏.‏
    وأما شهود القدر فيقال‏:‏ لا ريب أن الله تعالى خالق كل شيء ومليكه، والقدر هو قدرة الله، كما قال الإمام أحمد‏:‏ وهو المقدر لكل ما هو كائن، لكن هذا لا ينفي حقيقة الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من الأفعال ما ينفع صاحبه،فيحصل له به نعيم، ومنها ما يضر صاحبه فيحصل له به عذاب، فنحن لا ننكر اشتراك الجميع من جهة المشيئة والربوبية وابتداء الأمور، لكن نثبت فرقًا آخر من جهة الحكمة والأوامر الإلهية ونهاية الأمور، فإن العاقبة للتقوى، لا لغير المتقين، وقد قال تعالى‏:‏‏
    "أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏"‏ ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏"‏[‏القلم‏:‏35‏]‏‏.‏
    وإذا كان كذلك فحقيقة الفرق‏:‏ أن من الأمور ما هو ملائم للإنسان نافع له فيحصل له به اللذة، ومنها ما هو مضاد له ضار له يحصل به الألم، فرجع

    ج/ 8 ص -309-الفرق إلى الفرق بين اللذة والألم، وأسباب هذا وهذا، وهذا الفرق معلوم بالحس والعقل، والشرع مجمع عليه بين الأولين والآخرين، بل هو معلوم عند البهائم، بل هذا موجود في جميع المخلوقات، وإذا أثبتنا الفرق بين الحسنات والسيئات، وهو الفرق بين الحسن والقبيح، فالفرق يرجع إلى هذا‏.‏
    والعقلاء متفقون على أن كون بعض الأفعال ملائمًا للإنسان، وبعضها منافيًا له، إذا قيل هذا حسن وهذا قبيح، فهذا الحسن والقبح مما يعلم بالعقل باتفاق العقلاء‏.‏ وتنازعوا في الحسن والقبح، بمعنى كون الفعل سببًا للذم والعقاب، هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالشرع، وكان من أسباب النزاع أنهم ظنوا أن هذا القسم مغاير للأول، وليس هذا خارجًا عنه، فليس في الوجود حسن إلا بمعنى الملائم، ولا قبيح إلا بمعنى المنافي، والمدح والثواب ملائم، والذم والعقاب مناف، فهذا نوع من الملائم والمنافي ‏.‏
    يبقى الكلام في بعض أنواع الحسن والقبيح لا في جميعه، ولا ريب أن من أنواعه ما لا يعلم إلا بالشرع، ولكن النزاع فيما قبحه معلوم لعموم الخلق، كالظلم والكذب ونحو ذلك‏.‏
    والنزاع في أمور‏:‏
    منها ‏:‏هل للفعل صفة صار بها حسنًا وقبيحًا، وأن الحسن العقلي هو كونه موافقا لمصلحة العالم، والقبح العقلي بخلافه، فهل في الشرع زيادة على

    ج/ 8 ص -310-ذلك‏؟‏ وفي أن العقاب في الدنيا والآخرة هل يعلم بمجرد العقل‏؟‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏
    ومن الناس من أثبت قسمًا ثالثا للحسن والقبح، وادعى الاتفاق عليه، وهو كون الفعل صفة كمال أو صفة نقص، وهذا القسم لم يذكره عامة المتقدمين المتكلمين في هذه المسألة، ولكن ذكره بعض المتأخرين‏:‏ كالرازي، وأخذه عن الفلاسفة‏.‏
    والتحقيق‏:‏ أن هذا القسم لا يخالف الأول، فإن الكمال الذي يحصل للإنسان ببعض الأفعال هو يعود إلى الموافقة والمخالفة، وهو اللذة أو الألم، فالنفس تلتذ بما هو كمال لها، وتتألم بالنقص فيعود الكمال،والنقص إلى الملائم والمنافي، وهذا مبسوط في موضع آخر‏.‏
    والمقصود هنا أن الفرق بين الأفعال الحسنة التي يحصل لصاحبها بها لذة، وبين السيئة التي يحصل له بها ألم أمر حسي يعرفه جميع الحيوان، فمن قال من المدعين للحقيقة القدرية، والفناء في توحيد الربوبية، والاصطلام‏:‏ إنه يبقي في عين الجمع بحيث لا يفرق بين ما يؤلم أو ما يلذ،، كان هذا مما يعلم كذبه فيه، إن كان يفهم ما يقول، وإلا كان ضالا يتكلم بما لايعرف حقيقته، وهو الغالب على من يتكلم في هذا‏.‏
    فإن القوم قد يحصل لأحدهم هذا المشهد مشهد الفناء في توحيد/

    ج/ 8 ص -311-الربوبية فلا يشهد فرقًا ما دام فى هذا المشهد، وقد يغيب عنه الإحساس بما يوجب الفرق مدة من الزمان، فيظن هذا الفناء مقامًا محمودًا، ويجعله إما غاية، وإما لازمًا للسالكين، وهذا غلط، فإن عدم الفرق بين ما ينعم ويعذب أحيانًا هو مثل عدم الفرق بين النوم والنسيان، والغفلة والاشتغال بشيء عن آخر وهو لا يزيل الفرق الثابت في نفس الأمر، ولا يزيل الإحساس به إذا وجد سببه‏.‏
    والواحد من هؤلاء لابد أن يجوع أو يعطش، فلا يسوى بين الخبز والشراب، وبين الملح الأجاج، والعذب الفرات، بل لابد أن يفرق بينهما ويقول‏:‏ هذا طيب وهذا ليس بطيب، وهذا هو الفرق بين كل ما أمر الله ورسوله به ونهى عنه، فإنه أمر بالطيب من القول والعمل، ونهى عن الخبيث‏.‏
    وإذا عرف أن المراد بالفرق هو أن من الأمور ما ينفع، ويوجب اللذة والنعيم، ومنها ما يضر ويوجب الألم والعذاب، فبعض هذه الأمور تدرك بالحس، وبعضها يدركه الناس بعقولهم لأمور الدنيا، فيعرفون ما يجلب لهم منفعة في الدنيا وما يجلب لهم مضرة، وهذا من العقل الذي ميز به الإنسان، فإنه يدرك من عواقب الأفعال مالا يدركه الحس، ولفظ العقل في القرآن يتضمن ما يجلب به المنفعة وما يدفع به المضرة‏.‏

    ج/ 8 ص -312-والله تعالى بعث الرسل بتكميل الفطرة، فدلوهم على ما ينالون به النعيم في الآخرة وينجون من عذاب الآخرة، فالفرق بين المأمور والمحظور هو كالفرق بين الجنة والنار، واللذة والألم، والنعيم والعذاب، ومن لم يدرك هذا الفرق، فإن كان لسبب أزال عقله هو به معذور، وإلا كان مطالبًا بما فعله من الشر وتركه من الخير‏.‏
    ولا ريب أن في الناس من قد يزول عقله في بعض الأحوال، ومن الناس من يتعاطى ما يزيل العقل؛ كالخمر وكسماع الأصوات المطربة، فإن ذلك قد يقوى حتى يسكر أصحابها، ويقترن بهم شياطين، فيقتل بعضهم بعضًا في السماع المسكر، كما يقتل شراب الخمر بعضهم بعضا إذا سكروا، وهذا مما يعرفه كثير من أهل الأحوال، لكن منهم من يقول‏:‏ المقتول شهيد، والتحقيق‏:‏ أن المقتول يشبه المقتول في شرب الخمر، فإنهم سكروا سكرًا غير مشروع، لكن غالبهم يظن أن هذا من أحوال أولياء الله المتقين، فيبقى القتيل فيهم كالقتيل في الفتنة، وليس هو كالذي تعمد قتله،ولا هو كالمقتول ظلمًا من كل وجه‏.‏
    فإن قيل‏:‏ فهل هذا الفناء يزول به التكليف ‏؟‏
    قيل‏:‏ إن حصل للإنسان سبب يعذر فيه، زال به عقله الذي يميز به، فكان بمنزلة النائم والمغمي عليه، والسكران سكرًا لا يأثم به، كمن سكر قبل التحريم أو أوجر الخمر، أو أكره على شربها عند الجمهور، وأما إن كان السكر لسبب محرم، فهذا فيه نزاع معروف بين العلماء‏.‏

    ج/ 8 ص -313-والذين يذكرون عن أبي يزيد وغيره كلمات من الاتحاد الخاص، ونفي الفرق ويعذرونه في ذلك يقولون‏:‏ إنه غاب عقله حتى قال‏:‏ أنا الحق وسبحاني وما في الجبة إلا الله، ويقولون‏:‏ إن الحب إذا قوى على صاحبه وكان قلبه ضعيفًا يغيب بمحبوبه عن حبه وبموجوده عن وجده، وبمذكوره عن ذكره حتي يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ويحكون أن شخصًا ألقى بنفسه في الماء فألقى محبة نفسه خلفه، فقال‏:‏ أنا وقعت، فلم وقعت أنت‏؟‏ فقال‏:‏ غبت بك عني فظننت أنك أني‏.‏ فمثل هذا الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد، وبين المأمور والمحظور ليست علمًا ولا حقًا، بل غايته أنه نقص عقله الذي يفرق به بين هذا وهذا، وغايته أن يعذر، لا أن يكون قوله تحقيقًا‏.‏
    وطائفة من الصوفية المدعين للتحقيق يجعلون هذا تحقيقًا وتوحيدًا، كما فعله صاحب منازل السائرين، وابن العريف وغيرهما، كما أن الاتحاد العام جعله طائفة تحقيقًا وتوحيدًا، كابن عربي الطائي‏.‏
    وقد ظن طائفة أن الحلاج كان من هؤلاء ثم صاروا حزبين‏:‏
    حزب يقول‏:‏ وقع في ذلك الفناء فكان معذورًا في الباطن، ولكن قتله واجب في الظاهر، ويقولون‏:‏ القاتل مجاهد، والمقتول شهيد، ويحكون عن بعض الشيوخ أنه قال‏:‏ عثر عثرة لو كنت في زمنه لأخذت بيده، ويجعلون حاله من جنس حال أهل الاصطلام والفناء‏.‏

    ج/ 8 ص -314-وحزب ثان‏:‏ وهم الذين يصوبون حال أهل الفناء في توحيد الربوبية، ويقولون‏:‏ هو الغاية، يقولون‏:‏ بل الحلاج كان في غاية التحقيق والتوحيد‏.‏
    ثم هؤلاء في قتله فريقان‏:‏
    فريق يقول‏:‏ قتل مظلومًا وما كان يجوز قتله، ويعادون الشرع وأهل الشرع لقتلهم الحلاج، ومنهم من يعادي جنس الفقهاء وأهل العلم، ويقولون‏:‏ هم قتلوا الحلاج، وهؤلاء من جنس الذين يقولون‏:‏ لنا شريعة ولنا حقيقة تخالف الشريعة، والذين يتكلمون بهذا الكلام لا يميزون ما المراد بلفظ الشريعة في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، ولا المراد بلفظ الحقيقة أو الحق أو الذوق أو الوجد أو التوحيد في كلام الله ورسوله وكلام سائر الناس، بل فيهم من يظن الشرع عبارة عما يحكم به القاضي‏.‏
    ومن هؤلاء من لا يميز بين القاضي العالم العادل والقاضي الجاهل والقاضي الظالم، بل ما حكم به حاكم سماه شريعة، ولا ريب أنه قد تكون الحقيقة في نفس الأمر التي يحبها الله ورسوله خلاف ماحكم به الحاكم، كما قال النبي ﷺ ‏:
    ‏ ‏"‏إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه

    ج/ 8 ص -315-شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار‏"‏‏.‏ فالحاكم يحكم بما يسمعه من البينة والإقرار، و قد يكون للآخر حجج لم يبينها، وأمثال هذا‏.‏
    فالشريعة في نفس الأمر هي الأمر الباطن، وما قضى به القاضي ينفذ ظاهرًا، وكثير من الأمور قد يكون باطنها بخلاف ما يظهر لبعض الناس، ومن هذا قصة موسى والخضر فإنه كان الذي فعله مصلحة، وهو شريعة أمره الله بها، ولم يكن مخالفًا لشرع الله، لكن لما لم يعرف موسى الباطن، كان في الظاهر عنده أن هذا لا يجوز، فلما بين له الخضر الأمور وافقه، فلم يكن ذلك مخالفًا للشرع‏.‏
    وهذا الباب يقال فيه‏:‏ قد يكون الأمر في الباطن بخلاف ما يظهر، وهذا صحيح، لكن تسمية الباطن حقيقة، والظاهر شريعة، أمر اصطلاحي‏.‏
    ومن الناس من يجعل الحقيقة هي الأمر الباطن مطلقا، والشريعة الأمور الظاهرة‏.‏
    وهذا كما أن لفظ الإسلام إذا قرن بالإيمان أريد به الأعمال الظاهرة، ولفظ الإيمان يراد به الإيمان الذي في القلب، كما في حديث جبريل، فإذا جمع بينهما فقيل‏:‏شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، كان هذا كلامًا صحيحًا، لكن متى

    ج/ 8 ص -316-أفرد أحدهما تناول الآخر، فكل شريعة ليس لها حقيقة باطنة، فليس صاحبها من المؤمنين حقًا، وكل حقيقة لا توافق الشريعة التي بعث الله بها محمدًا ﷺ فصاحبها ليس بمسلم، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين‏.‏
    وقد يراد بلفظ الشريعة ما يقوله فقهاء الشريعة باجتهادهم، وبالحقيقة ما يذوقه ويجده الصوفية بقلوبهم، ولا ريب أن كلا من هؤلاء مجتهدون‏:‏ تارة مصيبون، وتارة مخطئون، وليس لواحد منهما تعمد مخالفة الرسول ﷺ، ثم إن اتفق اجتهاد الطائفتين، وإلا فليس على واحدة أن تقلد الأخرى إلا أن تأتي بحجة شرعية توجب موافقتها‏.‏
    فمن الناس من يظهر أن الحلاج قتل باجتهاد فقهى يخالف الحقيقة الذوقية التي عليها هؤلاء، وهذا ظن كثير من الناس، وليس كذلك، بل الذي قتل عليه إنما هو الكفر، وقتل باتفاق الطائفتين، مثل دعواه أنه يقدر أن يعارض القرآن بخير منه، ودعواه أنه من فاته الحج أنه يبني بيتًا يطوف به، ويتصدق بشيء قدره، وذلك يسقط الحج عنه، إلى أمور أخرى توجب الكفر باتفاق المسلمين الذين يشهدون أن محمدًا رسول الله، علماؤهم وعبادهم وفقهاؤهم وفقراؤهم وصوفيتهم‏.‏
    وفريق يقولون‏:‏ قتل لأنه باح بسر التوحيد والتحقيق الذي ما

    ج/ 8 ص -317-كان ينبغي أن يبوح به، فإن هذا من الأسرار التي لا يتكلم بها إلا مع خواص الناس، وهي مما تطوى ولا تروى وينشدون ‏:‏

    من باح بالسر كان القتل شيمته من الرجال ولم يأخذ له ثار

    باحوا بالسر تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح

    وحقيقة قول هؤلاء يشبه قول قائل‏:‏ إن ما قاله النصارى في المسيح حق، وهو موجود لغيره من الأنبياء والأولياء، لكن ما يمكن التصريح به؛ لأن صاحب الشرع لم يأذن في ذلك، وكلام صاحب منازل السائرين وأمثاله يشير إلى هذا، وتوحيده الذي قال فيه ‏:‏

    ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

    توحيد من يخبر عن نعته عارية أبطلها الواحد

    توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لا حد

    فإن حقيقة قول هؤلاء‏:‏ أن الموحد هو الموحد، وأن الناطق بالتوحيد على لسان العبد هو الحق، وأنه لا يوحده إلا نفسه فلا يكون الموحد إلا الموحد، ويفرقون بين قول فرعون‏:‏ ‏"أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى‏"‏[‏النازعات‏:‏24‏]‏، وبين قول الحلاج‏:‏ أنا الحق وسبحاني، فإن فرعون قال ذلك وهو يشهد نفسه، فقال عن نفسه، وأما أهل الفناء فغابوا عن نفوسهم، وكان الناطق على لسانهم غيرهم‏.‏

    ج/ 8 ص -318-وهذا مما وقع فيه كثير من المتصوفة المتأخرين، ولهذا رد الجنيد رحمه الله على هؤلاء لما سئل عن التوحيد فقال‏:‏ هو الفرق بين القديم والمحدث، فبين الجنيد سيد الطائفة أن التوحيد لا يتم إلا بأن يفرق بين الرب القديم، والعبد المحدث، لا كما يقوله هؤلاء الذين يجعلون هذا هو هذا، وهؤلاء أهل الاتحاد والحلول الخاص والمقيد، وأما القائلون بالحلول والاتحاد العام المطلق، فأولئك هم الذين يقولون‏:‏ إنه بذاته في كل مكان، أو أنه وجود المخلوقات، وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضوع‏.‏
    والمقصود هنا أن الحلاج لم يكن مقيدًا بصنف من هذه الأصناف، بل كان قد قال من الأقوال التي توجب الكفر والقتل باتفاق طوائف المسلمين ما قد ذكر في غير هذا الموضع، وكذلك أنكره أكثر المشايخ، وذموه‏:‏ كالجنيد، وعمر بن عثمان المكي، وأبي يعقوب النهرجوري‏.‏
    ومن التبس عليه حاله منهم فلم يعرف حقيقة ما قاله إلا من كان يقول بالحلول والاتحاد مطلقًا أو معينًا فإنه يظن أن هذا كان قول الحلاج وينصر ذلك؛ ولهذا كانت فرقة ابن سبعين فيها من رجال الظلم جماعة منهم الحلاج، وعند جماهير المشايخ الصوفية، وأهل العلم أن الحلاج لم يكن من المشايخ الصالحين،بل كان زنديقًا وزهده لأسباب متعددة يطول وصفها، ولم يكن من أهل الفناء في توحيد الربوبية، بل كان قد

    ج/ 8 ص -319-تعلم السحر وكان له شياطين تخدمه إلى أمور أخرى مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏
    وبكل حال آدم لما أكل هو وحواء من الشجرة، لم يكن زائل العقل ولا فانيا في شهود القدر العام، ولا احتج على موسى بذلك، بل قال‏:‏ لم تلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق‏؟‏ فاحتج بالقدر السابق لا بعدم تمييزه بين المأمور والمحظور‏.‏
    فصل
    إذا عرف هذا، فنقول‏:‏ الصواب في قصة آدم وموسى، أن موسى لم يلم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنب عاص؛ ولهذا قال‏:‏ لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة‏؟‏ لم يقل‏:‏ لماذا خالفت الأمر‏؟‏ ولماذا عصيت‏؟‏ والناس مأمورون عند المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم بالتسليم للقدر، وشهود الربوبية، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏"‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏‏.‏ قال ابن مسعود أو غيره‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ ‏:‏ ‏"‏احرص على

    ج/ 8 ص -320-ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت، لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏"‏‏.‏
    فأمره بالحرص على ما ينفعه وهو طاعة الله ورسوله، فليس للعباد أنفع من طاعة الله ورسوله، وأمره إذا أصابته مصيبة مقدرة ألا ينظر إلى القدر ولا يتحسر بتقدير لا يفيد، ويقول‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، ولا يقول‏:‏ لو أني فعلت لكان كذا، فيقدر ما لم يقع، يتمني أن لو كان وقع؛ فإن ذلك إنما يورث حسرة وحزنًا لا يفيد، والتسليم للقدر هو الذي ينفعه، كما قال بعضهم‏:‏ الأمر أمران‏:‏ أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه‏.‏
    ومازال أئمة الهدى من الشيوخ وغيرهم يوصون الإنسان بأن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على المقدور، وإن كانت تلك المصيبة بسبب فعل آدمي‏.‏
    فلو أن رجلاً أنفق ماله في المعاصي حتى مات، ولم يخلف لولده مالا، أو ظلم الناس بظلم صاروا لأجله يبغضون أولاده، ويحرمونهم ما يعطونه لأمثالهم، لكان هذا مصيبة في حق الأولاد حصلت بسبب فعل الأب، فإذا قال أحدهم لأبيه‏:‏ أنت فعلت بنا هذا، قيل للابن‏:‏ هذا كان مقدورًا

    ج/ 8 ص -321-عليكم، وأنتم مأمورون بالصبر على ما يصيبكم، والأب عاص لله فيما فعله من الظلم والتبذير، ملوم علي ذلك، لا يرتفع عنه ذم الله وعقابه بالقدر السابق، فإن كان الأب قد تاب توبة نصوحًا وتاب الله عليه وغفر له، لم يجز ذمه ولا لومه بحال، لا من جهة حق الله، فإن الله قد غفر له، ولا من جهة المصيبة التي حصلت لغيره بفعله؛ إذ لم يكن هو ظالمًا لأولئك، فإن تلك كانت مقدرة عليهم‏.‏
    وهذا مثال قصة آدم‏:‏ فإن آدم لم يظلم أولاده، بل إنما ولدوا بعد هبوطه من الجنة، وإنما هبط آدم وحواء، ولم يكن معهما ولد حتى يقال‏:‏ إن ذنبهما تعدي إلى ولدهما، ثم بعد هبوطهما إلى الأرض جاءت الأولاد، فلم يكن آدم قد ظلم أولاده ظلمًا يستحقون به ملامه، وكونهم صاروا في الدنيا دون الجنة أمر كان مقدرًا عليهم لا يستحقون به لوم آدم، وذنب آدم كان قد تاب منه، قال الله تعالى ‏:
    ‏‏"وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏.‏ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏121، 122‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏37‏]‏، فلم يبق مستحقًا لذم ولا عقاب‏.‏
    وموسى كان أعلم من أن يلومه لحق الله على ذنب قد علم أنه تاب منه، فموسى أيضًا فد تاب من ذنب عمله، وقد قال موسى‏:‏ ‏
    "أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ‏"‏[‏الأعراف‏:‏155‏]‏، وآدم أعلم من أن يحتج بالقدر على أن المذنب لا ملام عليه، فكيف وقد علم أن إبليس لعنه الله بسبب

    ج/ 8 ص -322-ذنبه وهو أيضًا كان مقدرًا عليه،وآدم قد تاب من الذنب واستغفر، فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له عند ربه لاحتج ولم يتب ويستغفر‏.‏
    وقد روى في الإسرائيليات أنه احتج به، وهذا مما لا يصدق به لو كان محتملا،فكيف إذا خالف أصول الإسلام، بل أصول الشرع والعقل، نعم إن كان ذكر القدر مع التوبة فهذا ممكن، لكن ليس فيما أخبر الله به عن آدم شيء من هذا، ولا يجوز الاحتجاج في الدين بالإسرائيليات إلا ما ثبت نقله بكتاب الله أو سنة رسوله، فإن النبي ﷺ قد قال‏:‏
    ‏"‏إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم‏"‏‏.‏
    وأيضًا فلو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له فلماذا أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض‏؟‏‏!‏
    فإن قيل‏:‏ وهو قد تاب، فلماذا بعد التوبة أهبط إلى الأرض‏؟‏
    قيل‏:‏ التوبة قد يكون من تمامها عمل صالح يعمله فيبتلى بعد التوبة لينظر دوام طاعته، قال الله تعالى ‏:
    ‏‏"إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 89‏]‏ في التائب من الردة، وقال في كاتم العلم‏:‏ ‏"إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏"‏[‏البقرة‏:‏160‏]‏، وقال‏:‏ ‏"أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏54‏]‏، وقال في القذف‏:‏‏"إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏"‏[‏ النور‏:‏ 5 ‏]‏،

    ج/ 8 ص -323-وقال ‏:‏‏"إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏.‏ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا‏"‏[‏الفرقان‏:‏70، 71‏]‏، وقال‏:‏‏"وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى‏"‏ [‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.‏
    ولما تاب كعب بن مالك وصاحباه، أمر رسول الله ﷺ المسلمين بهجرهم حتى نسائهم ثمانين ليلة، وقال النبي ﷺ في الغامدية لما رجمها‏:‏
    ‏"‏لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله‏"‏‏.‏ وقد أخبر الله عن توبته على بني إسرائيل حيث قال لهم موسى ‏:‏‏"يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ‏"‏[‏البقرة‏:‏54‏]‏‏.‏
    وإذا كان الله تعالى قد يبتلى العبد من الحسنات والسيئات، والسراء والضراء بما يحصل معه شكره وصبره، أم كفره وجزعه وطاعته أم معصيته فالتائب أحق بالابتلاء، فآدم أهبط إلى الأرض ابتلاء له، ووفقه الله في هبوطه لطاعته فكان حاله بعد الهبوط،خيرًا من حاله قبل الهبوط، وهذا بخلاف ما لو كان الاحتجاج بالقدر نافعًا له، فإنه لا يكون عليه ملام البتة ولا هناك توبة تقتضي أن يبتلى صاحبها ببلاء ‏.‏
    وأيضًا فإن الله قد أخبر في كتابه بعقوبات الكفار‏:‏ مثل قوم

    ج/ 8 ص -324-نوح وهود وصالح وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون وقومه ما يعرف بكل واحدة من هذه الوقائع ألا حجة لأحد في القدر، وأيضًا فقد شرع الله من عقوبة المحاربين من الكفار وأهل القبلة وقتل المرتد وعقوبة الزاني والسارق والشارب ما يبين ذلك‏.‏
    فصل
    فقد تبين أن آدم حج موسى لما قصد موسى أن يلوم من كان سببًا في مصيبتهم، وبهذا جاء الكتاب والسنة، قال الله تعالى‏:‏‏
    "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏"‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏"‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏‏.‏
    وسواء في ذلك المصائب السمائية، والمصائب التي تحصل بأفعال الآدميين، قال تعالى‏:‏
    ‏"وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا‏"‏ ‏[‏المزمل‏:‏10‏]‏، ‏"وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏34‏]‏، وقال في سورة الطور بعد قوله‏:‏ ‏"فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ‏.‏ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ‏.‏ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَ‏"‏ وإلى قوله‏:‏ ‏"أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ‏.‏ أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏"‏، ‏"وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ‏"‏ ‏[‏الطور‏:‏29-48‏]‏،

    ج/ 8 ص -325-وقال تعالى‏: ‏في سورة ن‏:‏ ‏"أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ‏.‏ أَمْ عِنْدَهُمْ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏.‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ‏"‏ ‏[‏القلم ‏:‏46-48‏]‏‏.‏
    وقد قيل في معناه‏:‏ اصبر لما يحكم به عليك، وقيل ‏:‏اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت، والأول أصح‏.‏
    وحكم الله نوعان‏:‏ خلق، وأمر‏.‏
    فالأول‏:‏ ما يقدره من المصائب‏.‏
    والثاني‏:‏ ما يأمر به وينهى عنه، والعبد مأمور بالصبر على هذا وعلى هذا، فعليه أن يصبر لما أمر به، ولما نهى عنه، فيفعل المأمور، ويترك المحظور، وعليه أن يصبر لما قدره الله عليه‏.‏
    وبعض المفسرين يقول‏:‏ هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهذا يتوجه إن كان في الآية النهى عن القتال، فيكون هذا النهي منسوخًا، ليس جميع أنواع الصبر منسوخة، كيف والآية لم تتعرض لذلك هنا لا بنفي ولا إثبات‏؟‏‏!‏ بل الصبر واجب لحكم الله ما زال واجبًا، وإذا أمر بالجهاد فعليه أيضًا أن يصبر لحكم الله، فإنه يبتلى من قتالهم بما هو أعظم من، كلامهم، كما ابتلى به يوم أحد والخندق، وعليه حينئذ أن يصبر ويفعل ما أمر به من الجهاد‏.‏

    ج/ 8 ص -326-والمقصود هنا قوله‏:‏ ‏"وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ‏"‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏، فإن ما فعلوه من الأذى هو مما حكم به عليك قدرًا، فاصبر لحكمه وإن كانوا ظالمين في ذلك، وهذا الصبر أعظم من الصبرعلى ما جرى وفعل بالأنبياء، وقوله‏:‏ ‏"فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ‏"‏[‏القلم‏:‏ 48‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏87‏]‏ وسواء كان مغاضبًا لقومه أو لربه،فكانت مغاضبته من أمر قدر عليه،وبصبره صبر لحكم ربه الذى قدره وقضاه،وإن كان إنما تأذى من تكذيب الناس له‏.‏
    وقالت الرسل لقومهم‏:‏
    "وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ‏"‏[‏إبراهيم‏:‏12‏]‏، وقال موسى لقومه لما قال فرعون‏:‏ ‏"سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ‏.‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏"‏ ‏[‏الأعراف‏:‏127، 128‏]‏، وقال‏:‏ ‏"فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏"‏[‏غافر‏:‏55‏]‏‏.‏
    وقال تعالى‏:‏
    ‏"وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏.‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏"‏ [‏النحل ‏:‏41، 42‏]‏، فهؤلاء ظلموا فصبروا على ظلم الظالم لهم، وسبب نزولها المهاجرون إلى رسول الله ﷺ، وهي عامة في كل ما اتصف بهذه الصفة‏.‏

    ج/ 8 ص -327-و أصل المهاجر،من هجر ما نهى الله عنه كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ، فكل من هجر السوء فظلمه الناس على ترك الكفر والفسوق والعصيان حتى أخرجوه لا هجر بعض أمور في الدنيا فصبر على ظلمهم،فإن الله يبوئه في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر، كيوسف الصديق فإنه هجر الفاحشة حتي ألجأه ذلك هجر منزله‏.‏ واللبث في السجن بعد ما ظلم، فمكنه الله حتى تبوأ من الأرض حيث يشاء‏.‏
    وقال الذين لقوا الكفار‏:
    ‏ ‏"رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏250، الأعراف‏:‏126‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ‏.‏ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏65، 66‏]‏، وقال‏:‏ ‏"كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏، فهذا كله صبر على ما قدر من أفعال الخلق، والله سبحانه مدح في كتابه الصبار الشكور، قال تعالى‏:‏ ‏"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏"‏[‏إبراهيم‏:‏5، لقمان‏:‏31، سبأ‏:‏19، الشورى‏:‏ 33‏]‏ في غير موضع‏.‏
    فالصبر والشكر على ما يقدره الرب على عبده من السراء والضراء، من النعم والمصائب، من الحسنات التي يبلوه بها والسيئات، فعليه أن يتلقى المصائب بالصبر، والنعم بالشكر، ومن النعم ما ييسره له من أفعال الخير، ومنها ما هي خارجة عن أفعاله، فيشهد القدر عند فعله للطاعات، وعند إنعام الله عليه فيشكره

    ج/ 8 ص -328-ويشهده عند المصائب فيصبر، وأما عند ذنوبه فيكون مستغفرا تائبًا، كما قال‏:‏"فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏"‏[‏غافر‏:‏55‏]‏‏.‏
    وأما من عكس هذا فشهد القدر عند ذنوبه، وشهد فعله عند الحسنات فهو من أعظم المجرمين، ومن شهد فعله فيهما فهو قدري، ومن شهد القدر فيهما ولم يعترف بالذنب ويستغفره فهو من جنس المشركين‏.‏
    وأما المؤمن فيقول‏:‏ أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، كما في الحديث الصحيح الإلهي‏:‏ ‏"‏يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏"‏‏.‏
    وكان نبينا ﷺ متبعًا ما أمر به من الصبر على أذى الخلق، ففي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادمًا له، ولا دابة، ولا شيء قط؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله‏"‏ وقال أنس‏:‏ خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، فما قال لشيء فعلته‏:‏ لم فعلته‏؟‏ ولا لشيء لم أفعله‏:‏ لم لا فعلته‏؟‏ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول‏:‏ ‏"‏دعوه، دعوه، فلو قضى شيء لكان‏"‏، وفي السنن عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه ذكر للنبي

    ج/ 8 ص -329-ﷺ قول بعض من آذاه فقال‏:‏ ‏"‏دعنا منك، فقد أوذي موسي بأكثر من هذا فصبر‏"‏، فكان يصبر على أذى الناس له من الكفار والمنافقين وأذى بعض المؤمنين، كما قال تعالى‏:‏‏"إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ‏"‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏53‏]‏ وكان يذكر‏:‏ أن هذا مقدر‏.‏
    والمؤمن مأمور بأن يصبر على المقدور، ولذلك قال‏:‏ ‏
    "وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏120‏]‏، فالتقوى فعل المأمور وترك المحظور، والصبر على أذاهم، ثم إنه حيث أباح المعاقبة قال‏:‏‏"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ‏.‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ‏"‏ ‏[‏النحل‏:‏126، 127‏]‏‏.‏
    فأخبر أن صبره بالله، فالله هو الذي يعينه عليه، فإن الصبر على المكاره بترك الانتقام من الظالم ثقيل على الأنفس، لكن صبره بالله كما أمره أن يكون لله في قوله‏:‏ ‏
    "وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏"‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 7‏]‏، لكن هناك ذكره في الجملة الطلبية الأمرية؛ لأنه مأمور أن يصبر لله لا لغيره، وهنا ذكره في الخبرية فقال‏:‏ ‏"وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ‏"‏ [‏النحل‏:‏ 127‏]‏، فإن الصبر وسائر الحوادث لا تقع إلا بالله، ثم قد يكون ذلك وقد لا يكون، فمالا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم، ولا يقال‏:‏ واصبر بالله فإن الصبر لا يكون إلا بالله، لكن يقال‏:‏ استعينوا بالله واصبروا فنستعين بالله على الصبر‏.‏

    ج/ 8 ص -330-وكما أن الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب، فهو مأمور بذلك عند ما ينعم الله عليه من فعل الطاعات، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له، وتحقق قوله‏:‏ ‏"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏] ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له علي فعل الطاعات، كقوله‏:‏ ‏"‏أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏يامقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، ويا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك‏"‏، وقوله‏:‏ ‏"رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 8‏]‏، وقوله‏:‏ ‏"رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا‏"‏[‏الكهف‏:‏ 10‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏"‏اللهم ألهمني رشدي واكفني شر نفسي‏"‏‏.‏
    ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله‏:‏ ‏
    "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏.‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ‏"‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏ ، فهذا الدعاء أفضل الأدعية وأوجبها على الخلق، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة، وكذلك الدعاء، بالتوبة فإنه يتضمن الدعاء بأن يلهم العبد التوبة، وكذلك دعاء الاستخارة ، فإنه طلب تعليم العبد ما لم يعلمه وتيسيره له، وكذلك الدعاء الذي كان النبي ﷺ يدعو به إذا قام من الليل وهو في الصحيح‏:‏ ‏"‏اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنى لما اختلف فيه

    ج/ 8 ص -331-من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏"‏‏.‏
    وكذلك الدعاء الذي فيه‏:‏ ‏"‏اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا‏"‏، وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر، وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏اللهم أصلح لي قلبي ونيتي‏"‏، ومثل قول الخليل وإسماعيل‏:‏
    ‏"رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً‏"‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏‏.‏
    وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء، شهد إنعام الله فيه، وكان في مقام الشكر والعبودية لله، وإن هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته‏.‏
    فشهود القدر في الطاعات من أنفع الأمور للعبد، وغيبته عن ذلك من أضر الأمور به، فإنه يكون قدريا منكرًا لنعمة الله عليه بالإيمان والعمل الصالح، وإن لم يكن قدري الاعتقاد كان قدري الحال، وذلك يورث العجب والكبر، ودعوى القوة والمنة بعمله، واعتقاد استحقاق الجزاء على الله به، فيكون من يشهد العبودية مع الذنوب والاعتراف بها لا مع الاحتجاج بالقدر عليها خيرًا من هذا الذي يشهد الطاعة منه، لا من إحسان الله إليه، ويكون أولئك المذنبون بما معهم من الإيمان، أفضل من طاعة بدون هذا الإيمان‏.‏

    ج/ 8 ص -332-وأما من أذنب وشهد ألا ذنب له أصلا لكون الله هو الفاعل، وعند الطاعة يشهد أنه الفاعل، فهذا شر الخلق، وأما الذي يشهد نفسه فاعلا للأمرين، والذي يشهد ربه فاعلاً للأمرين، ولا يرى له ذنبًا؛ فهذا أسوأ عاقبة من القدري، والقدري أسوأ بداية منه، كما هو مبسوط في موضع آخر‏.‏
    والناس في هذا المقام أربعة أقسام‏:‏ من يغضب لربه لا لنفسه، وعكسه، ومن يغضب لهما، ومن لا يغضب لهما، كما أنهم في شهود القدر أربعة أقسام‏:‏ من يشهد الحسنة من فعل الله والسيئة من فعل نفسه، وعكسه، ومن يشهد الثنتين من فعل ربه، ومن يشهد الثنتين من فعل نفسه، فهذه الأقسام الأربعة في شهود الربوبية، نظير تلك الأقسام الأربعة في شهود الإلهية، فهذا تقسيم العباد فيما لله ولهم، وذاك تقسيمهم فيما هو بالله وبهم، والقسم المحض أن يعمل لله بالله، فلا يعمل لنفسه ولا بنفسه‏.‏
    والمقصود هنا، تقسيمهم فيما لله، فأعلاهم حال النبي ﷺ ومن اتبعه‏:‏ أن يصبروا على أذى الناس لهم باليد واللسان، ويجاهدون في سبيل الله، فيعاقبون ويغضبون وينتقمون لله لا لنفوسهم يعاقبون؛ لأن الله يأمر بعقوبة ذلك الشخص، ويحب الانتقام منه، كما في جهاد الكفار وإقامة الحدود، وأدناهم عكس هؤلاء يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، لا لربهم، فإذا أوذى أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه؛ لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين‏.‏

    ج/ 8 ص -333-وبين هذين وهذين قسمان‏:‏ قسم يغضبون لربهم ولنفوسهم، وقسم يميلون إلى العفو في حق الله وحقوقهم، فموسى في غضبه علي قومه لما عبدوا العجل كان غضبه لله، وقد مثل النبي ﷺ في حقوق الله أبا بكر وعمر بإبراهيم وعيسى ونوح وموسى، فقال‏:‏ ‏"‏إن الله يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجر، ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وعيسى، ومثلك يا عمر كمثل نوح وموسى‏"‏‏.‏
    وأما عفو الإنسان عن حقوقه، فهذا أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وكذلك غضبه لنفسه، تركه أفضل، وإن كان الاقتصاص جائزًا، وأما ما كان من باب المصائب الحاصلة بقدر الله ولم يبق فيها مذنب يعاقب، فليس فيها إلا الصبر والتسليم للقدر‏.‏
    وقصة آدم وموسى كانت من هذا الباب، فإن موسى لامه لأجل ما أصابه والذرية، وآدم كان قد تاب من الذنب وغفر له، والمصيبة كانت مقدرة، فحج آدم موسى‏.‏
    وهكذا قد يصيب الناس مصائب بفعل أقوام مذنبين تابوا، مثل كافر يقتل مسلمًا ثم يسلم ويتوب الله عليه، أو يكون متأولاً لبدعة ثم يتوب من المبدعة، أو يكون مجتهدًا، أو مقلدًا مخطئًا، فهؤلاء إذا أصاب العبد أذى بفعلهم، فهو من جنس المصائب السماوية التي لا يطلب فيها قصاص من آدمي‏.‏

    ج/ 8 ص -334-ومن هذا الباب‏:‏ القتال في الفتنة‏.‏ قال الزهري‏:‏ وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، وكذلك، قتال البغاة المتأولين، حيث أمر الله بقتالهم إذا قاتلهم أهل العدل فأصابوا من أهل العدل نفوسًا وأموالاً لم تكن مضمونة عند جماهير العلماء‏:‏ كأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وهذا ظاهر مذهب أحمد‏.‏
    وكذلك المرتدون إذا صار لهم شوكة فقتلوا المسلمين، وأصابوا من دمائهم وأموالهم، كما اتفق الصحابة في قتال أهل الردة‏:‏ أنهم لا يضمنون بعد إسلامهم ما أتلفوه من النفوس والأموال، فإنهم كانوا متأولين، وإن كان تأويلهم باطلاً، كما أن سنة رسول الله ﷺ المتواترة عنه مضت بأن الكفار إذا قتلوا بعض المسلمين وأتلفوا أموالهم ثم أسلموا، لم يضمنوا ما أصابوه من النفوس والأموال، وأصحاب تلك النفوس والأموال كانوا يجاهدون، قد اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فعوض ما أخذ منهم على الله لا على أولئك الظالمين الذين قاتلهم المؤمنون‏.‏
    وإذا كان هذا في الدماء والأموال فهو في الأعراض أولى، فمن كان مجاهدًا في سبيل الله باللسان‏:‏ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الدين وتبليغ مافي الكتاب والسنة من الأمر والنهي والخير، وبيان الأقوال المخالفة لذلك، والرد على من خالف الكتاب والسنة، أو باليد كقتال الكفار، فإذا

    ج/ 8 ص -335-أوذي على جهاده بيد غيره أو لسانه فأجره في ذلك على الله لا يطلب من هذا الظالم عوض مظلمته، بل هذا الظالم إن تاب وقبل الحق الذي جوهد عليه فالتوبة تجب ما قبلها ‏"قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏"‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏، وإن لم يتب بل أصر على مخالفة الكتاب والسنة، فهو مخالف لله ورسوله، والحق في ذنوبه لله ولرسوله، وإن كان أيضًا للمؤمنين حق تبعًا لحق الله، وهذا إذا عوقب عوقب لحق الله ولتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله لا لأجل القصاص فقط‏.‏
    والكفار إذا اعتدوا على المسلمين مثل أن يمثلوا بهم، فللمسلمين أن يمثلوا بهم كما مثلوا، والصبر أفضل، وإذا مثلوا كان ذلك من تمام الجهاد، والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشرع القنوت والدعاء للمؤمنين، والدعاء على الكافرين‏.‏
    وأما الدعاء على معينين، كما كان النبي ﷺ يلعن فلانًا وفلانًا، فهذا قد روى أنه منسوخ بقوله‏:‏ ‏
    "لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، فيما كتبته في قلعة مصر؛ وذلك لأن المعين لا يعلم أن رضى الله عنه أن يهلك، بل قد يكون ممن يتوب الله عليه، بخلاف الجنس، فإنه إذا دعى عليهم بما فيه عز الدين وذل عدوه وقمعهم كان هذا دعاء بما يحبه الله ويرضاه، فإن الله يحب الإيمان وأهل الإيمان وعلو أهل الإيمان وذل الكفار، فهذا دعاء بما يحب الله، وأما الدعاء على المعين بما لا يعلم أن الله

    ج/ 8 ص -336-يرضاه فغير مأمور به، وقد كان يفعل ثم نهى عنه؛ لأن الله قد يتوب عليه أو يعذبه‏.‏
    ودعاء نوح على أهل الأرض بالهلاك، كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومع هذا فقد ثبت في حديث الشفاعة في الصحيح أنه يقول‏:‏ ‏"‏إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها‏"‏، فإنه وإن لم ينه عنها فلم يؤمر بها، فكان الأولى أن لا يدعو إلا بدعاء مأمور به واجب أو مستحب، فإن الدعاء من العبادات، فلا يعبد الله إلا بمأمور به واجب أو مستحب، وهذا لو كان مأمورًا به لكان شرعًا لنوح، ثم ننظر في شرعنا هل نسخه أم لا‏؟‏
    وكذلك دعاء موسى بقوله‏:‏ ‏
    "رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ‏"‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏ إذا كان دعاء مأمورًا به، بقى النظر في موافقة شرعنا له، والقاعدة الكلية في شرعنا‏:‏ أن الدعاء إن كان واجبًا أو مستحبًا فهو حسن يثاب عليه الداعي، وإن كان محرمًا كالعدوان في الدماء فهو ذنب ومعصية، وإن كان مكروها فهو ينقص مرتبة صاحبه، وإن كان مباحًا مستوى الطرفين فلا له ولا عليه، فهذا هذا، والله سبحانه أعلم‏.

    ج/ 8 ص -337-فصل
    وكلا الطائفتين ، الذين يسلكون إلى الله محض الإرادة والمحبة والدنو والقرب منه من غير اعتبار بالأمر والنهي المنزلين من عند الله، الذين ينتهون إلى الفناء في توحيد الربوبية، يقولون بالجمع والاصطلام في توحيد الربوبية، ولا يصلون إلى الفرق الثاني، ويقولون‏:‏ إن صاحب الفناء لا يستحسن حسنة، ولا يستقبح سيئة، ويجعلون هذا غاية السلوك‏.‏
    والذين يفرقون بين ما يستحسنونه، ويستقبحونه ويحبونه ويكرهونه، ويأمرون به وينهون عنه، لكن بإرادتهم ومحبتهم وهواهم لا بالكتاب المنزل من عند الله، كلا الطائفتين متبع لهواه بغير هدى من الله، وكلا الطائفتين لم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله، فإن تحقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي ألا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما أبغضه، ويأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى الله عنه، وإنك لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تسأل إلا الله، هذا ملة إبراهيم، وهذا الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين‏.‏

    ج/ 8 ص -338-والفناء في هذا هو الفناء المأمور به، الذي جاءت به الرسل، وهو أن يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبرجائه وخوفه عن رجاء ما سواه وخوفه، فيكون مع الحق بلا خلق، كما قال الشيخ عبد القادر‏:‏ كن مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس‏.‏
    وتحقيق الشهادة بأن محمدًا رسول الله، يوجب أن تكون طاعته طاعة الله وإرضاؤه إرضاء الله، ودين الله ما أمر به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ولهذا طالب الله المدعين لمحبته بمتابعته، فقال‏:‏ ‏
    "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏ وضمن لمن اتبعه أن الله يحبه بقوله‏:‏ ‏"يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏"‏ وصاحب هذه المتابعة لا يبقى مريدًا إلا ما أحبه الله ورسوله، ولا كارهًا إلا لما كرهه الله ورسوله، وهذا هو الذي يحبه الحق كما قال‏:‏ ‏"‏ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه‏"‏‏.‏

    ج/ 8 ص -339-فهذا محبوب الحق، ومن اتبع الرسول فهو محبوب الحق وهو المتقرب إلى الله بما دعا إليه الرسول من فرض ونفل، ومعلوم أن من كان هكذا فهو يحب طاعة الله ورسوله، ويبغض معصية الله ورسوله، فإن الفرائض والنوافل كلها من العبادات التي يحبها الله ورسوله، ليس فيها كفر ولا فسوق، والرب تعالى أحبه لما قام بمحبوب الحق، فإن الجزاء من جنس العمل، فلما لم يزل متقربًا إلى الحق بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الحق فإنه استفرغ وسعه في محبوب الحق، فصار الحق يحبه المحبة التامة التي لا يصل إليها من هو دونه في التقرب إلى الحق بمحبوباته، حتى صار يعلم بالحق ويعمل بالحق، فصار به يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي‏.‏
    وأما الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، فهذا لم تبق عنده الأمور نوعان محبوب للحق، ومكروه، بل كل مخلوق فهو عنده محبوب للحق، كما أنه مراد، فإن هؤلاء أصل قولهم‏:‏ هو قول جهم بن صفوان من القدرية، فهم من غلاة الجهمية الجبرية في القدر، وإن كانوا في الصفات يكفرون الجهمية نفاة الصفات، كحال أبي إسماعيل الأنصاري صاحب منازل السائرين، وذم الكلام، والفاروق وتكفير الجهمية وغير ذلك، فإنه في باب إثبات الصفات في غاية المقابلة للجهمية والنفاة، وفي باب الأفعال والقدر قوله يوافق الجهم ومن اتبعه من غلاة الجبرية، وهو قول الأشعري وأتباعه، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ومن أهل الحديث والصوفية‏.‏

    ج/ 8 ص -340-فإن هؤلاء أقروا بالقدر موافقة للسلف وجمهور الأئمة، وهم مصيبون في ذلك، وخالفوا القدرية من المعتزلة وغيرهم في نفي القدر، ولكن سلكوا في ذلك مسلك الجهم ابن صفوان وأتباعه فزعموا‏:‏ أن الأمور كلها لم تصدر إلا عن إرادة تخصيص أحد المتماثلين بلا سبب‏.‏ وقالوا‏:‏ الإرادة والمحبة والرضا سواء، فوافقوا في ذلك القدرية، فإن الجهمية والمعتزلة كلاهما يقول‏:‏ إن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح، وكلاهما يقول‏:‏ لا فرق بين الإرادة والمحبة والرضا‏.‏
    ثم قالت القدرية‏:‏ وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، قالوا‏:‏ فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي واقعًا بدون مشيئته وإرادته كما هو واقع على خلاف أمره، وخلاف محبته ورضاه وقالوا‏:‏ إن محبته ورضاه لأعمال عباده هو بمعنى أمره بها، فكذلك إرادته لها بمعنى أمره بها، فلا يكون قط عندهم مريدًا لغير ما أمر به، وأخذ هؤلاء يتأولون ما في القرآن من إرادته لكل ما يحدث ومن خلقه لأفعال العباد بتأويلات محرفة‏.‏
    وقالت الجهمية ومن اتبعها من الأشعرية وأمثالهم‏:‏ قد علم بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شىء وربه ومليكه، ولا يكون خالقًا إلا بقدرته ومشيئته؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل ما في الوجود فهو

    ج/ 8 ص -341-بمشيئته وقدرته، وهو خالقه، سواء في ذلك أفعال العباد وغيرها، ثم قالوا‏:‏ وإذا كان مريدًا لكل حادث والإرادة هي المحبة والرضا، فهو محب راض لكل حادث، وقالوا‏:‏ كل مافي الوجود من كفر وفسوق وعصيان فإن الله راض به محب له، كما هو مريد له‏.‏
    فقيل لهم‏:‏ فقد قال تعالى‏:‏
    ‏"لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ‏"‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏، ‏"وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ‏"‏[‏الزمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا بمنزلة أن يقال‏:‏ لا يريد الفساد، ولا يريد لعباده الكفر، وهذا يصح علي وجهين‏:‏
    وإما أن يكون خاصًا بمن لم يقع منه الكفر والفساد، ولا ريب أن الله لا يريد ولا يحب مالم يقع عندهم، فقالوا‏:‏ معناه لا يحب الفساد لعباده المؤمنين، ولا يرضاه لهم‏.‏
    وحقيقة قولهم‏:‏ أن الله أيضًا لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار‏.‏ فالمحبة والرضا عندهم كالإرادة عندهم متعلقة بما وقع دون مالم يقع، سواء كان مأمورًا به أو منهيًا عنه‏.‏ وسواء كان من أسباب سعادة العباد أو شقاوتهم، وعندهم أن الله يحب ما وجد من الكفر والفسوق والعصيان، ولا يحب ما لم يوجد من الإيمان والطاعة، كما أراد هذا دون هذا‏.‏
    والوجه الثاني‏:‏ قالوا‏:‏ لا يحب الفساد دينا، ولا يرضاه دينا، وحقيقة هذا القول أنه لا يريده دينا، فإنه إذا أراد وقوع الشيء على صفة لم يكن مريدًا له علي خلاف تلك الصفة، وهو إذا أراد وقوع شىء مع شىء

    ج/ 8 ص -342-لم يرد وقوعه وحده فإنه إذا أراد أن يخلق زيدًا من عمرو لم يرد أن يخلقه من غيره‏.‏ وإذا أراد أن ينزل مطرًا فتنبت الأرض به، فإنه أراد إنزاله على تلك الصفة، وإذا أراد أن يركب البحر قوم فيغرق بعضهم، ، ويسلم بعضهم، ويربح بعضهم، فإنما أراده على تلك الصفة، فكذلك الإيمان والكفر، قرن بالإيمان نعيم أصحابه، و بالكفر عذاب أصحابه، وإن لم يكن عندهم جعل شىء لشىء سببًا، ولا خلق شىء لحكمة، لكن جعل هذا مع هذا‏.‏
    وعندهم جعل السعادة مع الإيمان، لا به كما يقولون‏:‏ أنه خلق الشبع عند الأكل، لا به، فالدين الذي أمر به هو ما قرن به سعادة صاحبه في الآخرة، والكفر والفسوق والعصيان عندهم أحبه ورضيه كما أراده، لكن لم يحبه مع سعادة صاحبه، فلم يحبه دينا، كما أنه لم يرده مع سعادة صاحبه دينا‏.‏
    وهذا المشهد الذي شهده أهل الفناء في توحيد الربوبية، فإنهم رأوا الرب تعالي خلق كل شىء بإرادته وعلم أن سيكون ما أراد، ولا سبب عندهم لشىء ولا حكمة، بل كل الحوادث تحدث بالإرادة‏.‏
    ثم الجهم بن صفوان ونفاة الصفات من المعتزلة ونحوهم لا يثبتون إرادة قائمة بذاته، بل إما أن ينفوها، وإما أن يجعلوها بمعنى الخلق والأمر، وإما أن يقولوا‏:‏ أحدث إرادة لا في محل ‏.‏
    وأما مثبتة الصفات، كابن كلاب والأشعري وغيرهما ممن يثبت

    ج/ 8 ص -343-الصفات، ولا يثبت إلا واحدًا معينًا فلا يثبت إلا إرادة واحدة تتعلق بكل حادث، وسمعًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مسموع، وبصرًا واحدًا معينًا متعلقًا بكل مرئي، وكلامًا واحدًا بالعين يجمع جميع أنواع الكلام، كما قد عرف من مذهب هؤلاء، فهؤلاء يقولون‏:‏ جميع الحادثات صادرة عن تلك الإرادة الواحدة العين المفردة التي ترجح أحد المتماثلين لا بمرجح، وهي المحبة والرضا وغير ذلك‏.‏
    وهؤلاء إذا شهدوا هذا لم يبق عندهم فرق بين جميع الحوادث في الحسن والقبح إلا من حيث موافقتها للإنسان، ومخالفة بعضها له، فما وافق مراده ومحبوبه كان حسنًا عنده، وما خالف ذلك كان قبيحًا عنده، فلا يكون في نفس الأمر حسنة يحبها الله ولا سيئة يكرهها إلا بمعنى أن الحسنة هي ما قرن بها لذة صاحبها، والسيئة ما قرن بها ألم صاحبها من غير فرق يعود إليه‏.‏ ولا إلى الأفعال أصلاً؛ ولهذا كان هؤلاء لا يثبتون حسنًا ولا قبيحًا‏.‏ لا بمعنى الملائم للطبع والمنافى له، والحسن والقبح الشرعي هو ما دل صاحبه على أنه قد يحصل لمن فعله لذة، أو حصول ألم له‏.‏
    ولهذا يجوز عندهم أن يأمر الله بكل شىء حتى الكفر والفسوق والعصيان، وينهى عن كل شىء حتى عن الإيمان والتوحيد، ويجوز نسخ كل ما أمر به بكل ما نهى عنه، ولم يبق عندهم في الوجود خير ولا شر، ولا حسن ولا قبيح، إلا بهذا الاعتبار، فما في الوجود ضر ولا نفع، والنفع والضر

    ج/ 8 ص -344-أمران إضافيان، فربما نفع هذا ما ضر هذا‏.‏ كما يقال‏:‏ مصائب قوم عند قوم فوائد‏.‏
    فلما كان هذا حقيقة قولهم الذي يعتقدونه ويشهدونه صاروا حزبين‏:‏
    حزبًا من أهل الكلام والرأي أقروا بالفرق الطبيعي، وقالوا‏:‏ ما ثم فرق إلا الفرق الطبيعي، ليس هنا فرق يرجع إلى الله بأنه يحب هذا ويبغض هذا‏.‏
    ثم منهم من يضعف عنده الوعد والوعيد، إما لقوله بالإرجاء، وإما لظنه أن ذلك لمصالح الناس في الدنيا إقامة للعدل، كما يقول‏:‏ ذلك من يقوله من المتفلسفة، فلا يبقى عنده فرق بين فعل وفعل إلا ما يحبه هو ويبغضه، فما أحبه هو كان الحسن الذي ينبغي فعله، وما أبغضه كان القبيح الذي ينبغي تركه، وهذا حال كثير من أهل الكلام والرأي؛ الذين يرون رأي جهم والأشعري ونحوهما في القدر، تجدهم لا ينتهون في المحبة والبغضة والموالاة والمعاداة إلا إلى محض أهوائهم وإرادتهم، وهو الفرق الطبيعي‏.‏
    ومن كان منهم مؤمنًا بالوعد فإنه قد يفعل الواجبات، ويترك المحرمات لكن لأجل ما قرن بهما من الأمور الطبيعية في الآخرة من أكل وشرب ، ونكاح، وهؤلاء ينكرون محبة الله، والتلذذ بالنظر إليه، وعندهم إذا قيل‏:‏ إن

    ج/ 8 ص -345-العباد يتلذذون بالنظر إليه فمعناه أنهم عند النظر يخلق لهم من اللذات بالمخلوقات ما يتلذذون به، لا أن نفس النظر إلى الله يوجب لذة، وقد ذكر هذا غير واحد منهم أبو المعالي في الرسالة النظامية‏.‏ وجعل هذا من أسرار التوحيد وهو من إشراك التوحيد، الذي يسميه هؤلاء النفاة توحيدًا، لا من أسرار التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فإن المحبة لا تكون إلا لمعنى في المحبوب يحبه المحب، وليس عندهم في الموجودات شىء يحبه الرب إلا بمعنى يريده، وهو مريد لكل الحوادث، ولا في الرب عندهم معني يحبه العبد، وإنما يحب العبد ما يشتهيه، وإنما يشتهي الأمور الطبعية الموافقة لطبعه، ولا يوافق طبعه عندهم إلا اللذات البدنية كالأكل والشرب والنكاح‏.‏
    والحزب الثاني‏:‏ من الصوفية الذي كان هذا المشهد هو منتهي سلوكهم، عرفوا الفرق الطبيعي، وهم قد سلكوا على ترك هذا الفرق الطبيعي، وإنهم يزهدون في حظوظ النفس وأهوائها لا يريدون شيئًا لأنفسهم، وعندهم أن من طلب شيئًا للأكل والشرب في الجنة، فإنما طلب هواه وحظه، وهذا كله نقص عندهم ينافي حقيقة الفناء في توحيد الربوبية وهو بقاء مع النفس وحظوظها‏.‏
    والمقامات كلها عندهم التوكل والمحبة، وغير ذلك إنما هي منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شهدوا توحيد الربوبية كان ذلك عندهم عللا في الحقيقة، إما لنقص المعرفة والشهود، وإما لأنه ذب عن

    ج/ 8 ص -346-النفس وطلب حظوظها، فإنه من شهد أن كل مافي الوجود فالرب يحبه ويرضاه ويريده، لا فرق عنده بين شىء وشىء، إلا أن من الأمور ما معه حظ لبعض الناس من لذة يصيبها، ومنها ما معه ألم لبعض الناس، فمن كان هذا مشهده فإنه قطعًا يرى أن كل من فرق بين شىء وشىء لم يفرق إلا لنقص معرفته، وشهوده أن الله رب كل شىء ومريد لكل شىء ومحب على قولهم لكل شىء، وإنما لفرق يرجع إلى حظه وهواه، فيكون طالبًا لحظه ذابًا عن نفسه، وهذا علة وعيب عندهم‏.‏
    فصار عندهم كل من فرق، إما ناقص المعرفة والشهادة، وإما ناقص القصد والإرادة‏.‏ وكلاهما علة، لخلاف صاحب الفناء في مشهد الربوبية، فإنه يشهد كل مافي الوجود بإرادته ومحبته ورضاه عندهم، لا فرق بين شىء وشىء، فلا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، كما قاله صاحب منازل السائرين‏.‏
    ولهذا في الكلام المنقول عن الذبيلي، وأبي يزيد أنه قال‏:‏ إذا رأيت أهل الجنة يتنعمون في الجنة، وأهل النار يعذبون في النار، فوقع في قلبك فرق، خرجت عن حقيقة التوكل، أو قال‏:‏ عن التوحيد الذي هو أصل التوكل، ومعلوم أن هذا الفرق لا يعدم من الحيوان دائمًا بل لابد له منه يميل إلى ما لا بد له منه من أكل وشرب، لكنه في حال الفناء قد يكون مستغرقًا في ذلك المشهد، ولكن لابد أن يميل إلى أمور يحتاج إليها فيريدها، وأمور تضره فيكرهها وهذا فرق طبيعي لا يخلو منه بشر‏.‏

    ج/ 8 ص -347-لكن قد يقولون بالفرق في الأمور الضرورية التي لا يقوم الإنسان إلا بها من طعام ولباس ونحو ذلك، فيكتفون في الدنيا والآخرة بما لابد منه من طعام ولباس، ويرون هذا الزهد هو الغاية، فيزهدون في كل شىء، بمعنى أنهم لا يريدونه ولا يكرهونه، ولا يحبونه ولا يبغضونه، ويكون زهدهم في المساجد كزهدهم في الحانات، ولهذا إذا قدم الشيخ الكبير منهم بلدًا يبدأ بالبغايا في الحانات ويقول‏:‏ كيف أنتم في قدر الله، فإنه لا فرق عنده في هذا المشهد بين المساجد والكنائس والحانات، وبين أهل الصلاة والإحرام وقراءة القرآن وأهل الكفر وقطاع الطريق والمشركين بالرحمن‏.‏
    ولا ريب أن فناءهم وغيبتهم عن شهود الإلهية والنبوة، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وما تضمنه من الفرق يرجع إلى نقص العلم والشهود والإيمان والتوحيد، فشهدوا نعتًا من نعوت الرب، وغابوا عن آخر وهذا نقص‏.‏
    وقد يرون أن شهود الذات مجردة عن الصفات أكمل، ويقولون‏:‏ شهود الأفعال، ثم شهود الصفات، ثم شهود الذات المجردة، وربما جعلوا الأول للنفس، والثاني للقلب، والثالث للروح، ويجعلون هذا النقص من إيمانهم ومعرفتهم وشهودهم هو الغاية، فيكونون مضاهين للجهمية نفاة الصفات، حيث أثبتوا ذاتًا مجردة عن الصفات، وقالوا‏:‏ هذا هو الكمال، لكن أولئك يقولون‏:‏ بانتفائها في الخارج، فيقولون‏:‏ إنهم يشهدون أنها منتفية وهؤلاء يثبتونها في

    ج/ 8 ص -348-الخارج علمًا واعتقادًا، ولكن يقولون‏:‏ الكمال في أن يغيب عن شهودها ولا يشهدون نفيها، لكن لا يشهدون ثبوتها، وهذا نقص عظيم وجهل عظيم‏.‏
    أما أولاً، فلأنهم شهدوا الأمر على خلاف ما هو عليه، فذات مجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج‏.‏
    وأما الثاني، فهو مطلوب الشيطان من التجهم ونفي الصفات، فإن عدم العلم والشهود لثبوتها يوافق فيه الجهمي المعتقد لانتفائها، ومن قال‏:‏ أعتقد أن محمدا ليس برسول، وقال الآخر‏:‏ وإن كنت أعلم رسالته فأنا أفنى عنها فلا أذكرها ولا أشهدها، فهذا كافر كالأول‏.‏ فالكفر عدم تصديق الرسول، سواء كان معه اعتقاد تكذيب أم لا، بل وعدم الإقرار بما جاء به والمحبة له، فمن ألزم قلبه أن يغيب عن معرفة صفات الله كما يعرف ذاته، وألزم قلبه أن يشهد ذاتًا مجردة عن الصفات، فقد ألزم قلبه أن لا يحصل له مقصود الإيمان بالصفات وهذا من أعظم الضلال‏.‏
    وأهل الفناء في توحيد الربوبية قد يظن أحدهم أنه إذا لم يشهد إلا فعل الرب فيه فلا إثم عليه، وهم في ذلك بمنزلة من أكل السموم القاتلة، وقال‏:‏ أنا أشهد أن الله هو الذي أطعمني، فلا يضرني، وهذا جهل عظيم، فإن الذنوب والسيئات تضر الإنسان أعظم مما تضره السموم، وشهوده أن الله فاعل ذلك

    ج/ 8 ص -349-لا يدفع ضررها، ولو كان هذا دافعًا لضررها لكان أنبياء الله، وأولياؤه المتقون أقدر على هذا الشهود الذي يدفعون به عن أنفسهم ضرر الذنوب‏.‏
    ومن هؤلاء من يظن أن الحق، إذا وهبه حالاً يتصرف به وكشفا لم يحاسبه على تصرفه به، وهذا بمنزلة من يظن أنه إذا أعطاه ملكًا لم يحاسبه على تصرفه فيه، وقد قال النبي ﷺ‏:
    ‏ ‏"‏اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد‏"‏، فبين أنه مع أنه المعطي المانع، فلا ينفع المجدود جده، إنما ينفعه الإيمان و العمل الصالح‏.‏
    فهذا أصل عظيم ضل بالخطأ فيه خلق كثير، حتى آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى أن جعلوا أولياء الله المتقين يقاتلون أنبياءه، ويعاونون أعداءه، وأنهم مأمورون بذلك، وهو أمر شيطاني قدري، ولهذا يقول من يقول منهم‏:‏ أن الكفار لهم خفراء من أولياء الله، كما للمسلمين خفراء من أولياء الله، ويظن كثير منهم أن أهل الصفة قاتلوا النبي ﷺ في بعض المغازي فقال‏:‏ ‏"
    ‏يا أصحابي، تخلوني وتذهبون عني‏"‏ ‏؟‏‏!‏ فقالوا‏:‏ نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه‏.‏
    ويجوزون قتال الأنبياء وقتلهم كما قال شيخ مشهور منهم كان بالشام ‏:‏ لو قتلت سبعين نبيًا ما كنت مخطئًا فإنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضى مراد إلا ما وقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، ومالم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه،

    ج/ 8 ص -350-والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه؛ لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم، وإذا كان الرسول منصورًا كانوا معه، وإذا غلب أصحابه كانوا مع الكفار الذين غلبوهم‏.‏
    وهؤلاء الذين يصلون إلى هذا الحد غالبهم لا يعرف وعيد الآخرة، فإن من أقر بوعيد الآخرة وأنه للكفار لم يمكنه أن يكون معاونًا للكفار مواليا لهم على ما يوجب وعيد الآخرة، لكن قد يقولون بسقوطه مطلقًا، وقد يقولون‏:‏ بسقوطه عمن شهد توحيد الربوبية، وكان في هذه الحقيقة القدرية، وهذا يقوله طائفة من شيوخهم، كالشيخ المذكور وغيره‏.‏
    فلهذا يوجد هؤلاء الذين يشهدون القدر المحض، وليس عندهم غيره إلا ما هو قدر أيضًا من نعيم أهل الطاعة، وعقوبة أهل المعصية لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل ولا يدعون الله بنصر المؤمنين على الكفار، بل إذا رأى أحدهم من يدعو، قال الفقير أو المحقق أو العارف‏:‏ ما له ‏؟‏‏!‏ يفعل الله ما يشاء، وينصر من يريد، فإن عنده أن الجميع واحد بالنسبة إلى الله، و بالنسبة إليه أيضًا، فإنه ليس له غرض في نصر إحدى الطائفتين لا من جهة ربه، فإنه لا فرق على رأيه عند الله تعالى بينهما، ولا من جهة نفسه، فإن حظوظه لا تنقص باستيلاء الكفار، بل كثير منهم تكون

    ج/ 8 ص -351-حظوظه الدنيوية مع استيلاء الكفار والمنافقين والظالمين أعظم، فيكون هواه أعظم‏.‏
    وعامة من معهم من الخفراء هم من هذا الضرب، فإن لهم حظوظًا ينالونها باستيلائهم، لا تحصل لهم باستيلاء المؤمنين‏.‏ وشياطينهم تحب تلك الحظوظ المذمومة، وتغريهم بطلبهم، وتخاطبهم الشياطين بأمر ونهي وكشف يظنونه من جهة الله، وإن الله هو أمرهم ونهاهم، وأنه حصل لهم من المكاشفة، ما حصل لأولياء الله المتقين، ويكون ذلك كله من الشياطين، وهم لا يفرقون بين الأحوال الرحمانية، والشيطانية؛ لأن الفرق مبني على شهود الفرق من جهة الرب تعالى وعندهم لا فرق بين الأمور الحادثة كلها من جهة الله تعالى إنما هو مشيئة محضة تناولت الأشياء تناولاً واحدًا، فلا يحب شيئًا ولا يبغض شيئًا‏.‏
    ولهذا يشترك هؤلاء في جنس السماع الذي يثير مافي النفوس، من الحب والوجد والذوق، فيثير من قلب كل أحد حبه وهواه، وأهواؤهم متفرقة، فإنهم لم يجتمعوا على محبة ما يحبه الله ورسوله، إذ كان محبوب الحق على أصل قولهم هو ما قدره فوقع، وإذا اختلفت أهواؤهم في الوجد، اختلفت أهواء شياطينهم، فقد يقتل بعضهم بعضا بشياطينه؛ لأنها أقوى من شياطين ذاك وقد يسلبه ما معه من الحال الذي هو التصرف والمكاشفة الحاصلة له بسبب شياطينهم، فتكون شياطينه هربت من شياطين ذلك‏.‏ فيضعف أمره، ويسلب حاله، كمن كان ملكًا له أعوان فأخذت أعوانه، فيبقى ذليلاً لا ملك له،

    ج/ 8 ص -352-فكثير من هؤلاء كالملوك الظلمة الذين يعادي بعضهم بعضًا، إما مقتول وإما مأسور، وإما مهزوم‏.‏ فإن منهم من يأسر غيره فيبقى تحت تصرفه، ومنهم من يسلبه غيره، فيبقى لا حال له، كالملك المهزوم، فهذا كله من تفريع أصل الجهمية الغلاة في الجبر في القدر‏.‏
    وإنما يخلص من هذا كله من أثبت لله محبته لبعض الأمور وبغضه لبعضها، وغضبًا من بعضها، وفرحًا ببعضها، وسخطًا لبعضها، كما أخبرت به الرسل، ونطقت به الكتب، وهذا هو الذي يشهد، أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويعلم أن التوحيد الذي بعثت به الرسل أن يعبد الله وحده لا شريك له، فيعبد الله دون ما سواه‏.‏
    وعبادته تجمع كمال محبته وكمال الذل له ، كما قال تعالى‏:‏
    ‏"وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ‏"‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54‏]‏ ، فينيب قلبه إلى الله ويسلم له، ويتبع ملة إبراهيم حنيفًا ‏"وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏"‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏، ويعلم أن ما أمر الله ورسوله به فإن الله يحبه ويرضاه، وما نهى عنه فإنه يبغضه وينهى عنه ويمقت عليه ويسخط على فاعله، فصار يشهد الفرق من جهة الحق تعالى ‏.‏
    ويعلم أن الله تعالى يحب أن يعبد وحده لا شريك له، ويبغض من يجعل له أندادًا يحبونهم كحب الله، وإن كانوا مقرين بتوحيد الربوبية كمشركي

    ج/ 8 ص -353-العرب وغيرهم، وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية، حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا‏:‏ ‏"لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏.‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148، 149‏]‏‏.‏
    فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي، وأنكروا التوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهم يقرون بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شىء، ما بقى عندهم من فرق من جهة الله تعالى بين مأمور ومحظور، فقالوا‏:‏ ‏
    "لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، وهذا حق، فإن الله لو شاء ألا يكون هذا لم يكن، لكن أي فائدة لهم في هذا، هذا غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر، ولا يلزم إذا كان مقدورًا أن يكون محبوبًا مرضيًا لله، ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه بل ليسوا في ذلك إلا على ظن وخرص‏.‏
    فإن احتجوا بالقدر، فالقدر عام لا يختص بحالهم‏.‏
    وإن قالوا‏:‏ نحن نحب هذا، ونسخط هذا، فنحن نفرق الفرق الطبيعي؛ لانتفاء الفرق من جهة الحق، قال تعالى‏:‏ لا علم عندكم بانتفاء الفرق من جهة الله تعالى، والجهمية المثبتة للشرع تقول‏:‏ بأن الفرق الثابت هو أن التوحيد

    ج/ 8 ص -354-قرن به النعيم، والشرك قرن به العذاب وهو الفرق الذي جاء به الرسول ﷺ، وهو عندهم يرجع إلي علم الله بما سيكون وإخباره، بل هؤلاء لا يرجع الفرق عندهم إلى محبة منه، لهذا وبغض لهذا‏.‏
    وهؤلاء يوافقون المشركين في بعض قولهم لا في كله، كما أن القدرية من الأمة الذين هم مجوس الأمة يوافقون المجوس المحضة في بعض قولهم لا في كله، وإلا فالرسول قد دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى محبة الله دون ما سواه، وإلى أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والمحبة تتبع الحقيقة فإن لم يكن المحبوب في نفسه مستحقًا أن يحب لم يجز الأمر بمحبته فضلاً عن أن يكون أحب إلينا من كل ما سواه‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ محبته، محبة عبادته وطاعته، قيل‏:‏ محبة العبادة والطاعة فرع على محبة المعبود المطاع، وكل من لم يحب في نفسه لم تحب عبادته وطاعته؛ ولهذا كان الناس يبغضون طاعة الشخص الذي يبغضونه، ولا يمكنهم مع بغضه محبة طاعته، إلا لغرض آخر محبوب، مثل عوض يعطيهم على طاعته، فيكون المحبوب في الحقيقة هو ذلك العوض، فلا يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، إلا بمعنى أن العوض الذي يحصل من المخلوقات أحب إليهم من كل شىء‏.‏ ومحبة ذلك العوض مشروط بالشعور به، فما لا يشعر به تمتنع محبته، فإذا قيل‏:‏ هم قد وعدوا على محبة الله ورسوله بأن يعطوا أفضل محبوباتهم المخلوقة

    ج/ 8 ص -355-قيل‏:‏ لامعنى لمحبة الله ورسوله عندكم إلا محبة ذلك العوض، والعوض غير مشعور به حتي يحب، وإذا قيل‏:‏ بل إذا قال‏:‏ من قال‏:‏ لا يحب غيره إلا لذاته‏.‏ المعنى‏:‏ أنك إذا أطعتني أعطيتك أعظم ما تحبه صار محبًا لذلك الآمر له، قيل‏:‏ ليس الأمر كذلك بل يكون قلبه فارغًا من محبة ذلك الآمر، وإنما هو معلق بما وعده من العوض على عمله كالفعلة الذين يعملون من البناء والخياطة والنساجة وغير ذلك ما يطلبون به أجورهم، فهم قد لا يعرفون صاحب العمل أو لا يحبونه ولا لهم غرض فيه، إنما غرضهم في العوض الذي يحبونه‏.‏
    وهذا أصل قول الجهمية القدرية والمعتزلة الذي ينكرون محبة الله تعالى ولهذا قالت المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة‏:‏ إن معرفة الله وجبت لكونها لطفًا في أداء الواجبات العقلية فجعلوا أعظم المعارف تبعًا لما ظنوه واجبًا بالعقل، وهم ينكرون محبة الله والنظر إليه فضلاً عن لذة النظر‏.‏
    وابن عقيل لما كان في كثير من كلامه طائفة من كلام المعتزلة سمع رجلاً يقول‏:‏ اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال‏:‏ يا هذا ‏!‏ هب أن له وجهًا أفتتلذذ بالنظر إليه‏؟‏‏!‏ وهذا اللفظ مأثور عن النبي ﷺ في الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن عمار عن النبي ﷺ أنه قال في الدعاء‏:‏
    ‏"‏اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك

    ج/ 8 ص -356-الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين‏"‏‏.
    وقد روى هذا اللفظ من وجه آخر عن النبي ﷺ أظنه من رواية زيد بن ثابت ومعناه في الصحيح من حديث صهيب عن النبي ﷺ قال‏:‏
    ‏"‏إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون‏:‏ ما هو ‏؟‏ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار‏؟‏ قال‏:‏ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة‏"‏ يعني قوله‏:‏ ‏"لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ‏"‏[‏يونس‏:‏ 26‏]‏‏.‏
    فقد أخبر أنه ليس فيما أعطوه من النعيم أحب إليهم من النظر، وإذا كان النظر إليه أحب الأشياء إليهم علم أنه نفسه أحب الأشياء إليهم، وإلا لم يكن النظر أحب أنواع النعيم إليهم، فإن محبة الرؤية تتبع محبة المرئي، وما لا يحب ولا يبغض في نفسه لا تكون رؤيته أحب إلى الإنسان من جميع أنواع النعيم‏.‏
    وفي الجملة، فإنكار الرؤية والمحبة والكلام أيضًا معروف من كلام الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، والأشعرية ومن تابعهم يوافقونهم على

    ج/ 8 ص -357-نفي المحبة ويخالفونهم في إثبات الرؤية ولكن الرؤية التي يثبتونها لا حقيقة لها‏.‏
    وأول من عرف عنه في الإسلام أنه أنكر أن الله يتكلم، وأن الله يحب عباده‏:‏ الجعد ابن درهم، ولهذا أنكر أن يكون اتخذ الله إبراهيم خليلاً، أو كلم موسى تكليمًا، فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسري، وقال‏:‏ ضحوا أيها الناس، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقوله الجعد علوًا كبيرًا، ثم نزل فذبحه‏.‏
    وأما الصوفية، فهم يثبتون المحبة بل هذا أظهر عندهم من جميع الأمور، وأصل طريقتهم إنما هي الإرادة والمحبة، وإثبات محبة الله مشهور في كلام أوليهم وآخريهم، كما هو ثابت بالكتاب والسنة واتفاق السلف‏.‏
    والمحبة جنس تحته أنواع كثيرة فكل عابد محب لمعبوده، فالمشركون يحبون آلهتهم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، وفيه قولان‏:‏
    أحدهما‏:‏ يحبونهم كحب المؤمنين لله، والثاني‏:‏ يحبونهم كما

    ج/ 8 ص -358-يحبون الله؛ لأنه قد قال‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، فلم يمكن أن يقال‏:‏ إن المشركين يعبدون آلهتهم كما يعبد الموحدون الله، بل كما يحبون هم الله، فإنهم يعدلون آلهتهم برب العالمين، كما قال‏:‏ ‏"ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏، وقال‏:‏ ‏"تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏.‏ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 97، 98‏]‏‏.‏
    وقد قال‏:‏ بعض من نصر القول الأول في الجواب عن حجة القول الثاني قال المفسرون‏:‏ قوله‏:‏
    ‏"وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏"‏، أي‏:‏ أشد حبًا لله من المشركين لآلهتهم‏.‏ فيقال له‏:‏ ما قاله هؤلاء المفسرون مناقض لقولك، فإنك تقول‏:‏ إنهم يحبون الأنداد كحب المؤمنين لله، وهذا يناقض أن يكون المؤمنون أشد حبًا لله من المشركين لأربابهم، فتبين ضعف هذا القول وثبت أن المؤمنين يحبون الله أكثر من محبة المشركين لله ولآلهتهم، لأن أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلها لله‏.‏
    وأيضًا، فقوله‏:‏
    ‏"كَحُبِّ اللَّهِ‏"‏ أضيف فيه المصدر إلى المحبوب المفعول، وحذف فاعل الحب، فإما أن يراد كما يحب الله من غير تعيين فاعل فيبقى عامًا في حق الطائفتين، وهذا يناقض قوله‏:‏ ‏"وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏"‏، وإما أن يراد كحبهم لله، ولا يجوز أن يراد كما يحب غيرهم لله، إذ ليس في الكلام ما يدل على هذا بخلاف حبهم، فإنه قد دل عليه قوله‏:‏"وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ‏"‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، فأضاف الحب المشبه إليهم

    ج/ 8 ص -359-فكذلك الحب المشبه لهم إذ كان سياق الكلام يدل عليه إذا قال‏:‏ يحب زيدًا كحب عمرو، أو يحب عليا كحب أبي بكر، أو يحب الصالحين من غير أهله كحب الصالحين من أهله، أو قيل‏:‏ يحب الباطل كحب الحق، أو يحب سماع المكاء والتصدية كحب سماع القرآن، وأمثال ذلك لم يكن المفهوم إلا أنه هو المحب للمشبه والمشبه به، وأنه يحب هذا كما يحب هذا، لا يفهم منه أنه يحب هذا كما يحب غيره هذا‏.‏ إذ ليس في الكلام ما يدل على محبة غيره أصلا‏.‏
    والمقصود أن المحبة تكون لما يتخذ إلها من دون الله، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏"‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، فمن كان يعبد ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، فما هويه هوية إلهه، فهو لا يتأله من يستحق التأله، بل يتأله ما يهواه وهذا المتخذ إلهه هواه له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، و محبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله، وهذه محبة أهل الشرك‏.‏
    والنفوس قد تدعي محبة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله، وقد يخفى الهوى على النفس فإن حبك الشىء يعمي ويصم‏.‏
    وهكذا الأعمال التي يظن الإنسان ، أنه يعملها لله، وفي نفسه شرك قد خفى

    ج/ 8 ص -360-عليه، وهو يعمله، إما لحب رياسة، وإما لحب مال، وإما لحب صورة، ولهذا قالوا‏:‏ يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏"‏‏.‏
    فلما صار كثير من الصوفية النساك المتأخرين يدعون المحبة، ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسنة، دخل فيها نوع من الشرك، واتباع الأهواء والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله‏.‏ فقال‏:‏
    ‏"قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏؛ وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شىء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه، وليس شىء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه، فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات‏.‏
    فكل من ادعى أنه يحب الله، ولم يتبع الرسول فقد كذب، ليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوي اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب، فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين‏.‏
    وهكذا أهل البدع، فمن قال‏:‏ إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد

    ج/ 8 ص -361-اتباع الرسول والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى، بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر‏.‏
    وأيضًا، فمن تمام محبة الله ورسوله بغض من حاد الله ورسوله، والجهاد في سبيله، لقوله تعالى‏:‏
    ‏"لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ‏"‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏.‏ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏"‏[‏المائدة‏:‏ 80، 81‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏"‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏‏.‏
    فأمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم، ومن معه، حيث أبدوا العداوة والبغضاء لمن أشرك حتى يؤمنوا بالله وحده، فأين هذا من حال من لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ‏؟‏‏!‏

    ج/ 8 ص -362-وهؤلاء سلكوا طريق الإرادة والمحبة، مجملا من غير اعتصام بالكتاب والسنة، كما سلك أهل الكلام والرأي طريق النظر والبحث، من غير اعتصام بالكتاب والسنة، فوقع هؤلاء في ضلالات وهؤلاء في ضلالات، كما قال تعالي‏:‏ ‏"فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏.‏ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏.‏ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ‏.‏ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏"‏ ‏[‏طه‏:‏ 123- 126‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، وقال‏:‏ ‏"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ‏"‏[‏الإسراء‏:‏ 9‏]‏، وقال‏:‏ ‏"قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏"‏[‏يونس‏:‏ 108‏]‏‏.‏ ومثل هذا كثير في القرآن ‏.‏
    وقد بسط الكلام على هذا الأصل في غير هذا الموضع‏.‏
    فإن قيل‏:‏ صاحب الفناء في توحيد الربوبية قد شهد أن الرب خلق كل شىء، وقد يكون ممن يثبت الحكمة، فيقول‏:‏ إنما خلق المخلوقات لحكمة، وهو يحب تلك الحكمة ويرضاها، وإنما خلق ما يكرهه لما يحبه، والذين فرقوا بين المحبة والإرادة، قالوا‏:‏ المريض يريد الدواء ولا يحبه، وإنما يحب ما يحصل به وهو العافية وزوال المرض، فالرب تعالي خلق الأشياء كلها بمشيئته فهو مريد لكل ما خلق، ولما أحبه من الحكمة، وإن كان لا يحب بعض المخلوقات من الأعيان والأفعال، لكنه يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فالعارف إذا شهد

    ج/ 8 ص -363-هذا أحب أيضًا أن يخلق لتلك الحكمة وتكون الأشياء مرادة محبوبة له كما هي للحق فهو وإن كره الكفر والفسوق والعصيان، لكن ما خلقه الله منه خلقه لحكمة، وإرادة، فهو مراد محبوب باعتبار غايته لا باعتباره في نفسه‏.‏
    قيل‏:‏ من شهد هذا المشهد، فهو يستحسن ما حسنه الله وأحبه ورضيه، ويستقبح ما كرهه الله وسخطه، ولكن إذا كان الله خلق هذا المكروه لحكمة يحبها، فالعارف هو أيضًا يكرهه ويبغضه كما كرهه الله، ولكن يحب الحكمة التي خلق لأجلها، فيكون حبه وعلمه موافقًا لعلم الله وحبه، لا مخالفًا ‏.‏ والله عليم حكيم، فهو يعلم الأشياء على ما هي عليه، وهو حكيم فيما يحبه ويريده، ويتكلم به وما يأمر به ويفعله، فإن كان يعلم أن الفعل الفلاني والشىء الفلاني متصف بما هو مذموم لأجله، مستحق للبغض والكراهة كان من حكمته أن يبغضه ويكرهه، وإذا كان يعلم أن في وجوده حصول حكمة محبوبة محمودة، كان من حكمته أنه يخلقه ويريده؛ لأجل تلك الحكمة المحبوبة التي هي وسيلة إلى حصوله‏.‏
    وإذا قيل‏:‏ إن هذا الوسط يحب باعتبار أنه وسيلة إلى محبوب لذاته، ويبغض باعتبار ما اتصف به من الصفات المذمومة كان هذا حسنا كما تقول‏:‏ إن الإنسان قد يبغض الدواء من وجه ويحبه من وجه، وكذلك أمور كثيرة تحب من وجه وتبغض من وجه‏.‏

    ج/ 8 ص -364-وأيضًا يجب الفرق بين أن يكون مضرًا بالشخص مكروهًا له بكل اعتبار، وبين أن يكون الله خلقه لحكمة في ذلك‏.‏
    وإذا كان الله خلق كل شىء لحكمة له في ذلك، فإذا شهد العبد أن له حكمة ورأي هذا مع الجمع الذي يشترك فيه المخلوقات، فلا يمنعه ذلك أن يشهد ما بينهما من الفرق الذي فرق الله به بين أهل الجنة، وأهل النار، بل لابد من شهود هذا الفرق في ذلك الجمع وهذا الشهود مطابق لعلم الله وحكمته‏.‏ والله أعلم‏.‏
    وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏"‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏، فأخبر أن من كانت محبوباته أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، فهو من أهل الوعيد، وقال في الذين يحبهم ويحبونه‏:‏ ‏"فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ‏"‏[‏ المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏
    فلابد لمحب الله من متابعة الرسول، والمجاهدة في سبيل الله، بل هذا لازم لكل مؤمن‏.‏ قال تعالى‏:‏
    ‏"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏"‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏،

    ج/ 8 ص -365-فهذا حب المؤمن لله‏.‏
    وأما المحبة الشركية، فليس فيها متابعة للرسول، ولا بغض لعدوه ومجاهدة له، كما يوجد في اليهود والنصارى والمشركين يدعون محبة الله، ولا يتابعون الرسول، ولا يجاهدون عدوه‏.‏
    وكذلك أهل البدع المدعون للمحبة لهم، من الإعراض عن اتباع الرسول بحسب بدعتهم، وهذا من حبهم لغير الله، وتجدهم من أبعد الناس عن موالاة أولياء الرسول، ومعاداة أعدائه، والجهاد في سبيله لما فيهم من البدع التي هي شعبة من الشرك‏.‏
    والذين ادعوا المحبة من الصوفية وكان قولهم في القدر من جنس قول الجهمية المجبرة هم في آخر الأمر، لا يشهدون للرب محبوبًا إلا ما وقع وقدر، وكل ما وقع من كفر وفسوق وعصيان فهو محبوبه عندهم، فلا يبقى في هذا الشهود فرق بين موسى، وفرعون، ولا بين محمد، وأبى جهل، ولا بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين عبادة الله وحده، وعبادة الأوثان، بل هذا كله عند الفاني في توحيد الربوبية سواء، ولا يفرق بين حادث وحادث إلا من جهة ما يهواه ويحبه، وهذا هو الذي اتخذ إلهه هواه، إنما يأله ويحب ما يهواه وهو وإن كان عنده محبة لله، فقد اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحب الله، وهم

    ج/ 8 ص -366-من يهواه، هذا ما دام فيه محبة لله، وقد ينسلخ منها حتي يصير إلى التعطيل، كفرعون وأمثاله الذي هو أسوء حالاً من مشركي العرب ونحوهم‏.‏
    ولهذا هؤلاء يحبون بلا علم، ويبغضون بلا علم، والعلم ما جاء به الرسول، كما قال‏:‏
    ‏"فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ‏"‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏، وهوالشرع المنزل؛ ولهذا كان الشيوخ العارفون كثيرًا ما يوصون المريدين باتباع العلم والشرع، كما قد ذكرنا قطعة من كلامهم في غير هذا الموضع، لأن الإرادة والمحبة إذا كانت بغير علم وشرع، كانت من جنس محبة الكفار وإرادتهم، فهؤلاء السالكون المريدون الصوفية والفقراء الزاهدون العابدون، الذين سلكوا طريق المحبة والإرادة إن لم يتبعوا الشرع المنزل، والعلم الموروث عن النبي ﷺ فيحبون ما أحب الله ورسوله، ويبغضون ما أبغض الله ورسوله، وإلا أفضى بهم الأمر إلى شعب من شعب الكفر والنفاق‏.‏
    ولا يتم الإيمان والمحبة لله، إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر‏.‏
    ومن الإيمان بما أخبر، الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فمن نفى الصفات فقد كذب خبره‏.‏
    ومن الإيمان بما أمر فعل ما أمر وترك ما حظر، ومحبة الحسنات وبغض/

    ج/ 8 ص -367-السيئات، ولزوم هذا الفرق إلى الممات، فمن لم يستحسن الحسن المأمور به، ولم يستقبح السيئ المنهي عنه لم يكن معه من الإيمان شىء، كما قال ﷺ في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏ وكما قال في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ قال‏:‏ ‏"‏ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل‏"‏‏.‏ رواه مسلم‏.‏
    فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب، فمن لم يكن في قلبه بغض المنكر الذي يبغضه الله ورسوله، لم يكن معه من الإيمان شىء؛ ولهذا يوجد المبتدعون الذين يدعون المحبة المجملة المشتركة التي تضاهى محبة المشركين، يكرهون من ينكر عليهم شيئًا من أحوالهم، ويقولون‏:‏ فلان ينكر، وفلان ينكر، وقد يبتلون كثيرًا بمن ينكر ما معهم من حق وباطل، فيصير هذا يشبه النصراني الذي يصدق بالحق والباطل، ويحب الحق والباطل، كالمشرك الذي يحب الله ويحب الأنداد، وهذا كاليهودي الذي يكذب بالحق والباطل، ويبغض الحق والباطل، فلا يحب الله، ولا يحب الأنداد، بل يستكبر عن عبادة الله، كما استكبر فرعون وأمثاله‏.‏

    ج/ 8 ص -368-وهذا موجود كثيرا في أهل البدع من أهل الإرادة، والبدع من أهل الكلام، هؤلاء يقرون بالحق والباطل مضاهاة للنصارى، وهؤلاء يكذبون بالحق والباطل مضاهاة لليهود، وإنما دين الإسلام وطريق أهل القرآن والإيمان إنكار ما يبغضه الله ورسوله، ومحبة ما يحبه الله ورسوله والتصديق بالحق، والتكذيب بالباطل، فهم في تصديقهم ومحبتهم معتدلون يصدقون بالحق، ويكذبون بالباطل، ويحبون الحق ويبغضون الباطل، يصدقون بالحق الموجود ويكذبون بالباطل المفقود، ويحبون الحق الذي يحبه الله ورسوله، وهو المعروف الذي أمر الله ورسوله به، ويبغضون المنكر الذي نهى الله ورسوله عنه، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، لا طريق المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق، فلا يصدقون به ولا يحبونه، ولا الضالين الذين يعتقدون ويحبون مالم ينزل الله به سلطانًا‏.‏
    والمقصود هنا‏:‏ أن المحبة الشركية البدعية هي التي أوقعت هؤلاء في أن آل أمرهم إلى ألا يستحسنوا حسنة، ولا يستقبحوا سيئة؛ لظنهم أن الله لا يحب مأمورًا ولا يبغض محظورًا، فصاروا في هذا من جنس من أنكر أن الله يحب شيئا ويبغض شىئًا، كما هو قول الجهمية نفاة الصفات، وهؤلاء قد يكون أحدهم مثبتًا لمحبة الله ورضاه، وفي أصل اعتقاده إثبات الصفات، لكن إذا جاء إلى القدر لم يثبت شيئًا غير الإرادة الشاملة، وهذا وقع فيه

    ج/ 8 ص -369-طوائف من مثبتة الصفات، تكلموا في القدر بما يوافق رأي جهم والأشعرية، فصاروا مناقضين لما أثبتوه من الصفات، كحال صحاب ‏[‏منازل السائرين‏]‏ وغيره‏.‏
    وأما أئمة الصوفية، والمشايخ المشهورون من القدماء مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزومًا للأمر والنهي، وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرًا من المشي مع القدر، كما مشى أصحابهم أولئك، وهذا هو الفرق الثاني الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه، والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور، ولا يثبت طريقًا تخالف ذلك أصلا لا هو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين، ويحذر عن ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي، كما أصاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية، وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي، الذي يفرق بين محبوب الحق ومكروهه، ويثبت أنه لا إله إلا هو‏.‏
    وهذا من أعظم ما تجب رعايته على أهل الإرادة والسلوك، فإن كثيرًا من المتأخرين زاغ عنه فضل سواء السبيل، وإنما يعرف هذا من توجه بقلبه وانكشفت له حقائق الأمور، وصار يشهد الربوبية العامة والقيومية الشاملة، فإن لم يكن معه نور الإيمان والقرآن الذي يحصل به الفرقان، حتى يشهد الإلهية التي تميز بين أهل التوحيد والشرك، وبين ما يحبه الله وما يبغضه، وبين

    ج/ 8 ص -370- ما أمر به الرسول، وبين ما نهى عنه، وإلا خرج عن دين الإسلام بحسب خروجه عن هذا، فإن الربوبية العامة قد أقر بها المشركون الذين قال فيهم ‏:‏ ‏"وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏"‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏
    وإنما يصير الرجل مسلمًا حنيفًا موحدًا إذا شهد أن لا إله إلا الله‏.‏ فعبد الله وحده بحيث لا يشرك معه أحدًا في تألهه، ومحبته له وعبوديته وإنابته إليه، وإسلامه له، ودعائه له، والتوكل عليه، وموالاته فيه، ومعاداته فيه، ومحبته ما يحب؛ وبغضه ما يبغض ويفنى بحق التوحيد عن باطل الشرك، وهذا فناء يقارنه البقاء فيفنى عن تأله ما سوى الله بتأله الله تحقيقًا لقوله‏:‏ لا إله إلا الله، فينفي ويفنى من قلبه تأله ما سواه، ويثبت، ويبقى في قلبه تأله الله وحده، وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح ‏:
    ‏ ‏"‏من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة‏"‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏من كان آخر كلامه، لا إله إلا الله دخل الجنة‏"‏، وقال في الصحيح‏:‏ ‏"‏لقنوا موتاكم لا إله إلا الله‏"‏، فإنها حقيقة دين الإسلام فمن مات عليها مات مسلمًا ‏.‏
    والله تعالى قد أمرنا ألا نموت إلا على الإسلام في غير موضع‏.‏ كقوله تعالى‏:
    ‏ ‏"اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏، وقال الصديق‏:‏ ‏"تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏"‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، والصحيح من القولين أنه لم يسأل الموت، ولم يتمنه، وإنما سأل أنه إذا مات يموت على الإسلام، فسأل الصفة لا الموصوف كما أمر الله بذلك، وأمر به خليله إبراهيم وإسرائيل، وهكذا قال غير واحد من العلماء، منهم ابن عقيل وغيره، والله تعالى أعلم‏.


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML