أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
(للإنتقال إلى الصفحة الرئيسية للموسوعة الإسلامية اضغط هنا)

(اختيار من أقسام الكتاب والفتاوى)

سئل عن أقوام يحتجون بسابق القدر

    ج/ 8 ص -262-سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام بقية السلف أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن أقوام يحتجون بسابق القدر، ويقولون‏:‏ إنه قد مضي الأمر، والشقي شقي، والسعيد سعيد، محتجين بقول الله سبحانه‏:‏ ‏"إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏"‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏101‏]‏ قائلين‏:‏ بأن الله قدر الخير والشر، والزنا مكتوب علينا، ومالنا في الأفعال قدرة، وإنما القدرة لله، ونحن نتوقي ما كتب لنا،وأن آدم ما عصى، وأن من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة، محتجين بقوله ﷺ‏:‏ ‏"‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق‏"‏ فبينوا لنا فساد قول هذه الطائفة بالبراهين القاطعة‏؟‏
    فأجاب رحمه الله تعالى‏:‏
    الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يؤمنون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، لكن حرفوا وبدلوا وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"
    إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏.‏ أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏.‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏"[‏النساء‏:‏150-152‏]‏،

    ج/ 8 ص -263-فإذا كان من آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر حقًا، فكيف بمن كفر بالجميع، ولم يقر بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده، بل ترك ذلك محتجًا بالقدر، فهو أكفر ممن آمن ببعض وكفر ببعض‏.‏
    وقول هؤلاء يظهر بطلانه من وجوه‏:‏
    أحدها‏:‏ أن الواحد من هؤلاء إما أن يرى القدر حجة للعبد، وإما ألا يراه حجة للعبد، فإن كان القدر حجة للعبد، فهو حجة لجميع الناس، فإنهم كلهم مشتركون في القدر، وحينئذ فيلزم ألا ينكر على من يظلمه ويشتمه ويأخذ ماله ويفسد حريمه ويضرب عنقه ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء جميعهم كذابون متناقضون، فإن أحدهم لا يزال يذم هذا، ويبغض هذا، ويخالف هذا، حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات وترك الواجبات؛ لزمهم ألا يذموا أحدًا، ولا يبغضوا أحدًا، ولا يقولوا في أحد‏:‏ إنه ظالم، ولو فعل ما فعل‏.‏ ومعلوم أن هذا لا يمكن أحدا فعله، ولو فعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل، كما أنه كفر في الشرع، وأنهم كذابون مفترون في قولهم‏:‏ إن القدر حجة للعبد‏.‏
    الوجه الثاني‏:‏ أن هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون وقوم نوح/

    ج/ 8 ص -264-وعاد وكل من أهلكه الله بذنوبه معذورًا، وهذا من الكفر الذي اتفق عليه أرباب الملل‏.‏
    الوجه الثالث‏:‏ أن هذا يلزم منه ألا يفرق بين أولياء الله وأعداء الله، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا أهل الجنة وأهل النار، وقد قال تعالى‏:‏ ‏
    "وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏.‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏.‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏.‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ‏"‏ ‏[‏فاطر‏:‏19-22‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏"‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏"‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏ ‏.‏
    وذلك أن هؤلاء جميعهم سبقت لهم عند الله السوابق، وكتب الله مقاديرهم قبل أن يخلقهم، وهم مع هذا قد انقسموا إلى سعيد بالإيمان والعمل الصالح، وإلى شقي بالكفر والفسق والعصيان، فعلم بذلك أن القضاء والقدر ليس بحجة لأحد على معاصي الله ‏.‏
    الوجه الرابع‏:‏ أن القدر نؤمن به ولا نحتج به، فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول، ولو كان الاحتجاج مقبولا ؛ لقبل من إبليس وغيره من العصاة، ولو كان القدر حجة للعباد؛ لم يعذب أحد من الخلق، لا في الدنيا ولا في الآخرة ولو كان القدر حجة لم تقطع يد

    ج/ 8 ص -265-سارق، ولا قتل قاتل، ولا أقيم حد على ذي جريمة، ولا جوهد في سبيل الله ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر‏.‏
    الوجه الخامس‏:‏ أن النبي ﷺ سئل عن هذا فإنه قال‏
    :‏ ‏"‏ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار‏"‏ فقيل‏:‏ يارسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب قال‏:‏ ‏"‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏"‏ رواه البخاري ومسلم، وفي حديث آخر في الصحيح أنه قيل‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون، أفيما جفت به الأقلام، وطويت به الصحف‏؟‏ أم فيما يستأنفون مما جاءهم به‏؟‏ أو كما قيل فقال‏:‏ ‏"‏بل فيما جفت به الأقلام، وطويت به الصحف‏"‏، فقيل‏:‏ ففيم العمل‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏"‏‏.‏
    الوجه السادس‏:‏ أن يقال‏:‏ إن الله علم الأمور وكتبها على ما هي عليه، فهو سبحانه قد كتب أن فلانًا يؤمن، ويعمل صالحًا فيدخل الجنة، وفلانا يعصى ويفسق فيدخل النار، كما علم وكتب أن فلانًا يتزوج امرأة ويطؤها فيأتيه ولد، وأن فلانًا يأكل ويشرب فيشبع ويروى، وأن فلانا يبذر البذر فينبت الزرع، فمن قال‏:‏ إن كنت من أهل الجنة فأنا أدخلها بلا عمل صالح، كان قوله قولاً باطلاً متناقضًا؛ لأنه علم أنه يدخل الجنة بعمله الصالح، فلو دخلها بلا عمل، كان هذا مناقضًا لما علمه الله وقدره‏.‏

    ج/ 8 ص -266-ومثال ذلك من يقول‏:‏ أنا لا أطأ امرأة، فإن كان قد قضى الله لي بولد فهو يولد، فهذا جاهل، فإن الله إذا قضى بالولد قضى أن أباه يطأ امرأة فتحبل فتلد، وأما الولد بلا حبل ولا وطء، فإن الله لم يقدره ولم يكتبه، كذلك الجنة إنما أعدها الله للمؤمنين، فمن ظن أنه يدخل الجنة بلا إيمان كان ظنه باطلاً، وإذا اعتقد أن الأعمال التي أمر الله بها لا يحتاج إليها، ولا فرق بين أن يعملها أو لا يعملها، كان كافراً، والله قد حرم الجنة على الكافرين، فهذا الاعتقاد يناقض الإيمان الذي لا يدخل صاحبه النار‏.‏
    فصل
    وأما قوله تعالى‏:‏
    ‏"إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ‏"‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏، فمن سبقت له من الله الحسنى، فلابد أن يصير مؤمنا تقيًا، فمن لم يكن من المؤمنين لم يسبق له من الله حسنى، ولكن إذا سبقت للعبد من الله سابقة استعمله بالعمل الذي يصل به إلى تلك السابقة، كمن سبق له من الله أن يولد له ولد، فلابد أن يطأ امرأة يحبلها، فإن الله سبحانه قدر الأسباب والمسببات، فسبق منه هذا وهذا، فمن ظن أن أحدًا سبق له من الله حسنى بلا سبب فقد ضل، بل هو سبحانه ميسر الأسباب والمسببات، وهو قد قدر فيما مضى هذا وهذا‏.‏

    ج/ 8 ص -267-فصل
    وأما قول القائل‏:‏ ما لنا في جميع أفعالنا قدرة فقد كذب، فإن الله سبحانه فرق بين المستطيع القادر وغير المستطيع، فقال‏:‏ ‏
    "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏"‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏، وقال‏:‏ ‏"وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا‏"‏ ‏[‏آل عمران‏:‏97‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏"اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً‏"‏[‏الروم‏:‏54‏]‏، والله قد أثبت للعبد مشيئة وفعلا، كما قال تعالى‏:‏ ‏"لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏.‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏"‏ ‏[‏التكوير‏:‏28، 29‏]‏، وقال‏:‏‏"جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏"‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17، الأحقاف‏:‏ 14، الواقعة‏:‏ 24‏]‏؛ لكن الله سبحانه خالقه وخالق كل ما فيه من قدرة ومشيئة وعمل، فإنه لا رب غيره، ولا إله سواه، وهو خالق كل وربه ومليكه‏.‏

    ج/ 8 ص -268-فصل
    وأما قول القائل‏:‏ الزنا وغيره من المعاصي مكتوب علينا، فهو كلام صحيح، لكن هذا لا ينفعه الاحتجاج به، فإن الله كتب أفعال العباد خيرها وشرها، وكتب ما يصيرون إليه من الشقاوة والسعادة، وجعل الأعمال سببًا للثواب والعقاب، وكتب ذلك، كما كتب الأمراض وجعلها سببًا للموت، وكما كتب أكل السم وجعله سببًا للمرض والموت، فمن أكل السم فإنه يمرض أو يموت، والله قدر وكتب هذا وهذا، كذلك من فعل ما نهى عنه من الكفر والفسق والعصيان، فإنه يعمل ما كتب عليه، وهو مستحق لما كتبه الله من الجزاء لمن عمل ذلك‏.‏
    وحجة هؤلاء بالقدر على المعاصي، من جنس حجة المشركين، الذين قال الله عنهم‏:‏
    ‏"وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏"‏[‏النحل‏:‏35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏"سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏"‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏، قال الله تعالى‏:‏ "كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏.‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏"[‏الأنعام‏:‏148، 149‏]‏‏.‏

    ج/ 8 ص -269-فصل
    ومن قال‏:‏ إن آدم ما عصى فهو مكذب للقرآن، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله قال‏:‏
    ‏"وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏"‏[‏طه‏:‏121‏]‏ والمعصية‏:‏ هي مخالفة الأمر الشرعي، فمن خالف أمر الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه فقد عصى، وإن كان داخلا فيما قدره الله وقضاه، وهؤلاء ظنوا أن المعصية هي الخروج عن قدر الله، وهذا لا يمكن، فإن أحدًا من المخلوقات لا يخرج عن قدر الله، فإن لم تكن المعصية إلا هذا، فلا يكون إبليس وفرعون وقوم نوح وعاد وثمود وجميع الكفار عصاة أيضًا؛ لأنهم داخلون في قدر الله، ثم قائل هذا يضرب ويهان، وإذا تظلم ممن فعل هذا به قيل له‏:‏ هذا الذي فعل هذا ليس بعاص، فإنه داخل في قدر الله كسائر الخلق، وقائل هذا القول متناقض لا يثبت على حال‏.‏

    ج/ 8 ص -270-فصل
    وأما قول القائل‏:‏ من قال‏:‏ لا إله إلا الله دخل الجنة‏؟‏ واحتجاجه بالحديث المذكور‏.‏
    فيقال له‏:‏ لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏
    "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏"‏[‏النساء‏:‏10‏]‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏.‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏"‏ [‏النساء‏:‏29، 30‏]‏، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، والعبد عليه أن يصدق بهذا وبهذا، لا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فهؤلاء المشركون أرادوا أن يصدقوا بالوعد، ويكذبوا بالوعيد‏.‏
    والحرورية والمعتزلة‏:‏ أرادوا أن يصدقوا بالوعيد دون الوعد، وكلاهما أخطأ، والذي عليه أهل السنة والجماعة، الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب، قد بين سبحانه أنه بشروط‏:‏ بألا يتوب، فإن تاب تاب الله عليه، وبألا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فإن الحسنات يذهبن

    ج/ 8 ص -271-السيئات وبألا يشاء الله أن يغفر له ف ‏"إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏"‏[‏النساء‏:‏48‏]‏، فهكذا الوعد له تفسير وبيان، فمن قال بلسانه‏:‏ لا إله إلا الله، وكذب الرسول، فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئًا مما أنزل الله‏.‏
    فلابد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول، ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدًا، كان في النار، فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة، ومن كان له حسنات وسيئات، فإن الله لا يظلمه، بل من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، والله تعالى قد يتفضل عليه، ويحسن إليه بمغفرته ورحمته‏.‏
    ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار، فالزاني والسارق لا يخلد في النار، بل لابد أن يدخل الجنة، فإن النار يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهؤلاء المسؤول عنهم يسمون‏:‏ القدرية المباحية المشركين، وقد جاء في ذمهم من الآثار ما يضيق عنه هذا المكان، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏


    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة PDF
    تحميل كتاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية بصيغة XML