ج/ 8 ص -197-سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الأقضية، هل هي مقتضية للحكمة أم لا؟ فإذا كانت مقتضية للحكمة، فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه؟ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت. فما معنى وجود العذر والحالة هذه؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، قد أحاط ربنا سبحانه وتعالى بكل شىء علمًا، وقدرة وحكما، ووسع كل شىء رحمة وعلمًا، فما من ذرة في السموات والأرض، ولا معنى من المعاني إلا وهو شاهد لله تعالى بتمام العلم والرحمة، وكمال القدرة والحكمة، وما خلق الخلق باطلاً، ولا فعل شيئًا عبثًا، بل هو الحكيم في أفعاله وأقواله سبحانه وتعالى ثم من حكمته ما أطلع بعض خلقه عليه، ومنه ما استأثر سبحانه بعلمه.
وإرادته قسمان: إرادة أمر وتشريع، وإرادة قضاء وتقدير.
فالقسم الأول: إنما يتعلق بالطاعات دون المعاصي، سواء وقعت أو لم تقع كما في قوله: "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ" [النساء:26]، وقوله: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ" [البقرة:185]
ج/ 8 ص -198-وأما القسم الثاني: وهو إرادة التقدير، فهي شاملة لجميع الكائنات، محيطة بجميع الحادثات، وقد أراد من العالم ما هم فاعلوه بهذا المعنى لا بالمعنى الأول، كما في قوله تعالى: "يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا" [الأنعام:125]، وفي قوله:"وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ" [هود :34]، وفي قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ونظائره كثيرة.
وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي، دون ما لم يحدث، كما أن الأولى تتناول الطاعات حدثت أو لم تحدث، والسعيد من أراد منه تقديرًا ما أراد به تشريعًا، والعبد الشقي من أراد به تقديرا ما لم يرد به تشريعًا، والحكم يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيرًا، ومن نظر إلى القدر دون الشرع أو الشرع دون القدر كان أعور، مثل قريش الذين قالوا: "لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ" [الأنعام:148]، قال الله تعالى: "كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ" [الأنعام:148].
فإن هؤلاء اعتقدوا أن كل ما شاء الله وجوده وكونه وهي الإرادة القدرية فقد أمر به ورضيه دون الإرادة الشرعية، ثم رأوا أن شركهم بغير شرع مما قد شاء الله وجوده قالوا: فيكون قد رضيه وأمر به، قال الله :"كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" [الأنعام:148] بالشرائع من الأمر والنهي:"حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا"
ج/ 8 ص -199-بأن الله شرع الشرك وتحريم ما حرمتموه "إِنْ تَتَّبِعُونَ" في هذا "إِلَّا الظَّنَّ" وهو توهمكم أن كل ما قدره فقد شرعه "وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ"أي: تكذبون وتفترون بإبطال شريعته، "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ" [الأنعام:149] على خلقه حين أرسل الرسل إليهم فدعوهم إلى توحيده وشريعته، ومع هذا فلو شاء هدى الخلق أجمعين إلى متابعة شريعته، لكنه يمن على من يشاء فيهديه فضلاً منه وإحسانًا، ويحرم من يشاء؛ لأن المتفضل له أن يتفضل، وله ألا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة.
وهو يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرادته الشرعية، وإن كان ذلك بإرادته القدرية، فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى أيضًا بعقابها، كما أنه سبحانه قد يقدر على العبد أمراضًا تعقبة آلامًا، فالمرض بقدره والألم بقدره، فإذا قال العبد: قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض: قد تقدمت الإرادة بالمرض فلا أتألم، وقد تقدمت الإرادة بأكل الحار فلا يحم مزاجي، أو قد تقدمت بالضرب فلا يتألم المضروب، وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه؛ بل اعتلاله بالقدر ذنب ثان يعاقب عليه أيضًا، وإنما اعتل بالقدر إبليس حيث قال: "بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ" [الحجر:39]، وأما آدم فقال: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ" [الأعراف:23].
فمن أراد الله سعادته، ألهمه أن يقول كما قال آدم عليه السلام أو نحوه
ج/ 8 ص -200-ومن أراد شقاوته، اعتل بعلة إبليس أو نحوها، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومثله مثل رجل طار إلى داره شرارة نار، فقال له العقلاء: أطفئها لئلا تحرق المنزل، فأخذ يقول: من أين كانت ؟ هذه ريح ألقتها، وأنا لا ذنب لي في هذه النار فما زال يتعلل بهذه العلل حتى استعرت وانتشرت وأحرقت الدار وما فيها، هذه حال من شرع يحيل الذنوب على المقادير، ولا يردها بالاستغفار والمعاذير، بل حاله أسوأ من ذلك بالذنب الذي فعله، بخلاف الشرارة فإنه لا فعل له فيها، والله سبحانه يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه فإنها لا تنال طاعته إلا بمعونته، ولا تترك معصيته إلا بعصمته، والله أعلم.
ج/ 8 ص -201-وسئل قدس الله روحه عن الأقضية، هل هي مقتضية للحكمة أم لا؟ وإذا كانت مقتضية للحكمة، فهل أراد من الناس ما هم فاعلوه أم لا؟ وإذا كانت الإرادة قد تقدمت، فما معنى وجود العذر والحالة هذه؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. نعم، لله حكمة بالغة في أقضيته وأقداره، وإن لم يعلمه العباد، فإن الله علم علمًا وعلمه لعباده، أو لمن يشاء منهم، وعلم علما لم يعلِّمه لعباده "وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا" [البقرة:255]
وهو سبحانه أراد من العباد ما هم فاعلوه إرادة تكوين، كما اتفق المسلمون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكما قال: "فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا" [الأنعام:125]، وكما قال: "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" [هود:118، 119]، وكما قال: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" [البقرة:253]، وكما قال: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" [إبراهيم :27].
ج/ 8 ص -202-ولكن لم يرد المعاصي من أصحابها إرادة أمر وشرع ومحبة ورضى ودين، بل ذلك كما قال تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ" [البقرة: 185]، وكما قال تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" [النساء:26]، "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا" [النساء:27، 28]، وقال تعالى:"مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ" [المائدة:6]، وكما قال تعالى:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]. وبالتقسيم والتفصيل في المقال، يزول الاشتباه، ويندفع الضلال، وقد بسطت الكلام في ذلك بما يليق به في غير موضع من القواعد، إذ ليس هذا موضع بسط ذلك.
وأما قول السائل: ما معنى وجود العذر؟ فالمعذور الذي يعرف أنه معذور هو من كان عاجزًا عن الفعل مع إرادته له: كالمريض العاجز عن القيام، والصيام، والجهاد، والفقير العاجز عن الإنفاق، ونحو ذلك، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا معاقبين على ما تركوه، وكذلك العاجز عن السماع والفهم: كالصبي والمجنون، ومن لم تبلغه الدعوة.
ج/ 8 ص -203-وأما من جعل محبا مختارًا راضيًا بفعل السيئات حتى فعلها، فليس مجبورًا على خلاف مراده، ولا مكرها على ما يرضاه، فكيف يسمى هذا معذورا ؟! بل ينبغي أن يسمى مغرورًا .ولكن بسط ذلك يحتاج إلى الحكمة في الخلق والأمر، فهذا مذكور في موضعه، وهذا المكان لا يسعه، والله أعلم وصلى الله على محمد.