ج/ 7 ص -641- سئل رحمه الله:
عن الإيمان بالله ورسوله: هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال أم لا؟ وهل يدخل فيه جميع المقامات
والأحوال المحمودة عند الله ورسوله أم لا؟ وهل تكون صفة الإيمان نورًا يوقعه الله في قلب العبد، ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل أم لا؟ وهل يكون لأول حصوله سبب من الأسباب مثل رؤية أهل الخير أو مجالستهم وصحبتهم أو تعلم عمل من الأعمال أو غير ذلك؟
فإن كان لأول حصوله سبب، فما هو ذلك السبب ؟ وما الأسباب أيضًا التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل، على ترتيبها؟ هل يبدأ بالزهد حتى يصححه؟ أم بالعلم حتى يرسخ فيه؟ أم بالعبادة حتى يجهد نفسه، أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته؟ أم كيف يتوصل إلى حقيقة الإيمان الذي مدحه الله ورسوله؟ بينوا لنا الأسباب وأنواعها وشرحها، التي يتوصل بها إلى حقيقة الإيمان، وما وصف صاحبه رضى الله عنكم؟
ج/ 7 ص -642-فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. اسم الإيمان يستعمل مطلقًا، ويستعمل مقيدًا، وإذا استعمل مطلقًا، فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه، وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالاً؛ مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك.
ومن هذا ما خرج في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". فذكر أعلى شعب الإيمان، وهو قول لا إله إلا الله، فإنه لا شيء أفضل منها كما في الموطأ وغيره عن النبي ﷺ أنه قال:"أفضل الدعاء؛ دعاء يوم
ج/ 7 ص -643-عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، وفي الترمذي وغيره أنه قال:"من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة"، وفي الصحيح عنه أنه قال لعمه عند الموت: "يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله".
وقد تظاهرت الدلائل على أن أحسن الحسنات هو التوحيد، كما أن أسوأ السيئات هو الشرك، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى:"إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" [النساء: 48] وتلك الحسنة التي لابد من سعادة صاحبها كما ثبت في الصحيح عنه حديث الموجبتين: موجبة السعادة وموجبة الشقاوة، فمن مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، وأما من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار، وذكر في الحديث أنها أعلى شعب الإيمان.
وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال لوفد عبد القيس:"آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا خمس المغنم"، فجعل هذه الأعمال من الإيمان، وقد جعلها من الإسلام في حديث جبرائيل الصحيح لما أتاه في صورة أعرابي وسأله عن الإيمان، فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، وسأله عن الإسلام فقال:"أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله،
ج/ 7 ص -644- وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، وفي حديث في المسند قال: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب".
فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه؛ ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه :إن القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال:"إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب".
ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة، وما على الجوارح ليس داخلا في مسماه، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه، حتى آل الأمر بغلاتهم كجهم وأتباعه إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه، ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر، مع قدرته على إظهارها، فيكون الذي في القلب إيمانًا نافعًا له في الآخرة، وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب. وقولهم متناقض، فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزمًا لانتفاء الإيمان الذي في القلب، امتنع أن يكون الإيمان ثابتًا في
ج/ 7 ص -645-القلب، مع الدليل المستلزم لنفيه، وإن لم يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر والباطن.
والله سبحانه في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة، كقوله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" [الأنفال:2: 4] وقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحجرات: 15]، وقال تعالى:"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ" [النور:62]، وقال تعالى:"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء: 65].
فإذا قال القائل: هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور، لا يدل على أنها من الإيمان، قيل: هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة، فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة، لا قول ولا عمل وهو المطلوب وذلك تصديق وذلك لأن القلب إذ تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتًا استلزم موالاة أوليائه
ج/ 7 ص -646-ومعاداة أعدائه، "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ" [المجادلة: 22]، "وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء" [المائدة: 81] فهذا التلازم أمر ضروري.
ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة، مع القدرة التامة بدون الفعل، حتى تنازعوا: هل يعاقب على الإرادة بلا عمل؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليست إرادة جازمة، وأن الإرادة الجازمة لابد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد، والعفو وقع عمن هم بسيئة ولم يفعلها؛ لا عمن أراد وفعل المقدور عليه، وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما، فإن هذا يعاقب؛ لأنه أراد وفعل المقدور من المراد، ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها.
بقى أن يقال: فهل اسم الإيمان للأصل فقط، أو له ولفروعه؟ والتحقيق: أن الاسم المطلق يتناولهما، وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران، وقد لا يتناول إلا الأصل، إذا لم يخص إلا هو، كاسم الشجرة، فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت، ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة يتناول الأصل وحده، وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن، وواجب،
ج/ 7 ص -647-ومستحب، وهو حج أيضًا تام بدون المستحبات، وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم.
والشارع ﷺ لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب، بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال الواجب، والكمال المستحب، كما يقول بعض الفقهاء: الغسل ينقسم إلى: كامل، ومجزئ، فإذا قال النبي ﷺ:"لا إيمان لمن لا أمانة له "، و "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ونحو ذلك، كان لانتفاء بعض ما يجب فيه، لا لانتفاء الكمال المستحب، والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه، كالحج، والصلاة؛ ولهذا قال ﷺ:"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومثقال شعيرة من إيمان".
وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدًا، كما في قوله تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [البينة:7]، وقوله: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" [يونس: 63]، وقول النبي ﷺ: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت" ونحو ذلك، فهناك قد يقال: إنه متناول لذلك، وإن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام، كقوله تعالى:"وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ" [البقرة: 98]، وقوله:"وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ" [الأحزاب: 7].
ج/ 7 ص -648-وقد يقال: إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران، كلفظ الفقير والمسكين، فإن أحدهما إذا أفرد تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كانا صنفين، كما في آية الصدقة، ولا ريب أن فروع الإيمان مع أصوله كالمعطوفين، وهي مع جميعه كالبعض مع الكل، ومن هذا الموضع نشأ نزاع واشتباه، هل الأعمال داخلة في الإيمان أم لا؟ لكونها عطفت عليه.
ومن هذا الباب قد يعطف على الإيمان بعض شعبه العالية، أو بعض أنواعه الرفيعة؛ كاليقين، والعلم، ونحو ذلك، فيشعر العطف بالمغايرة، فيقال: هذا أرفع الإيمان أي اليقين والعلم أرفع من المؤمن الذي ليس معه هذا اليقين والعلم، كما قال الله تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" [المجادلة:11].
ومعلوم أن الناس يتفاضلون في نفس الإيمان والتصديق في قوته وضعفه، وفي عمومه وخصوصه، وفي بقائه ودوامه، وفي موجبه ونقيضه، وغير ذلك من أموره، فيخص أحد نوعيه باسم يفضل به على النوع الآخر، ويبقى اسم الإيمان، في مثل ذلك متناولاً للقسم الآخر، وكذلك يفعل في نظائر ذلك، كما يقال: الإنسان خير من الحيوان، والإنسان خير من الدواب، وإن كان الإنسان يدخل في الدواب، في قوله:"إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ" [الأنفال: 22].
فإذا عرف هذا، فحيث وجد في كلام مقبول تفضيل شيء على الإيمان، فإنما هو تفضيل نوع خاص على عمومه، أو تفضيل بعض شعبه العالية على غيره،ض
ج/ 7 ص -649-واسم الإيمان قد يتناول النوعين جميعًا، وقد يخص أحدهما كما تقدم، وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة أسمائه.
فصل
وأما قول القائل: هل تكون صفة الإيمان نورًا يوقعه الله في قلب العبد، ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل؟
فيقال له:قد قال الله تعالى:"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ" قال أبي بن كعب وغيره: مثل نوره في قلب المؤمن، إلى قوله:"وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" [النور:35: 40]، وقال تعالى: "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ" [الأنعام:122]، فالإيمان الذي يهبه الله لعبده سماه نورًا، وسمى الوحي النازل من السماء الذي به يحصل الإيمان "نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا" [الشورى:52]، وقال تعالى: "فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ" [الأعراف:157] وأمثال ذلك، ولا ريب أن المؤمن يفرق بين الحق والباطل، بل يفرق بين أعظم الحق، لكن لا يمكن أن يقال بأن كل من له إيمان يفرق بمجرد ما أعطيه من الإيمان بين كل حق وكل باطل.
ج/ 7 ص -650-فصل
وأما قوله: هل يكون لأول حصوله سبب ؟
فلا ريب أنه يحصل بسبب، مثل استماع القرآن، ومثل رؤية أهل الإيمان، والنظر في أحوالهم، ومثل معرفة أحوال النبي ﷺ، ومعجزاته، والنظر في ذلك، ومثل النظر في آيات الله تعالى ومثل التفكر في أحوال الإنسان نفسه، ومثل الضروريات التي يحدثها الله للعبد التي تضطره إلى الذل لله، والاستسلام له، واللجأ إليه، وقد يكون هذا سببًا لشيء آخر، بل كل ما يكون في العالم من الأمور فلابد له من سبب، وسبب الإيمان وشعبه يكون تارة من العبد، وتارة من غيره، مثل من يقيض له من يدعوه إلى الإيمان، ومن يأمره بالخير، وينهاه عن الشر، ويبين له علامات الدين، وحججه وبراهينه، وما يعتبره وينزل به ويتعظ به، وغير ذلك من الأسباب.
ج/ 7 ص -651-فصل
وأما قوله: فالأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل على ترتيبها، هل يبدأ بالزهد؟ أو بالعلم، أو بالعبادة ؟ أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته؟
فيقال له: لابد من الإيمان الواجب، والعبادة الواجبة، والزهد الواجب، ثم الناس يتفاضلون في الإيمان، كتفاضلهم في شعبه، وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه، ويقدم ما يقدر على تقديمه من الفاضل.
والناس يتفاضلون في هذا الباب، فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير، كما قال تعالى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن:16]. وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقًا، إذا كان متعذرًا في حقه أو متعسرا يفوته ما هو أفضل له وأنفع، كمن يقرأ القرآن بالليل فيتدبره وينتفع بتلاوته، والصلاة تثقل عليه، ولا ينتفع منها بعمل، أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة.
ج/ 7 ص -652-فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه بل على وجه ناقص، ويفوته به ما هو أنفع له، ومعلوم أن الصلاة آكد من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء، ومعلوم أيضًا أن الذكر في فعله الخاص كالركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن في ذلك المحل، وأن الذكر والقراءة والدعاء عند طلوع الشمس وغروبها خير من الصلاة.
والزهد هو ضد الرغبة، وهو كالبغض المخالف للمحبة، والكراهة المخالفة للإرادة، وكل من الإرادة والكراهة له أقسام في نفسه، وفي متعلقه، فالزهد فيه انقسام إلى: المزهود فيه، وإلى نفس الزهد.
أما الأول: فإن الزهد... وأما نفس الزهد الذي هو ضد الرغبة، وهو الكراهة والبغض فحقيقة المشروع منه، أن يكون كراهة العبد وبغضه وحبه تابعًا لحب الله وبغضه ورضاه وسخطه، فيحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويرضى ما يرضاه، ويسخط ما يسخطه الله، بحيث لا يكون تابعًا هواه، بل لأمر مولاه، فإن كثيرًا من الزهاد في الحياة الدنيا أعرضوا عن فضولها، ولم يقبلوا على ما يحبه الله ورسوله، وليس مثل هذا الزهد يأمر الله به ورسوله، ولهذا كان في المشركين زهاد , وفي أهل الكتاب زهاد، وفي أهل البدع زهاد.
ج/ 7 ص -653-ومن الناس من يزهد لطلب الراحة من تعب الدنيا ومنهم من يزهد لمسألة أهلها والسلامة من أذاهم , ومنهم من يزهد في المال لطلب الراحة , إلى أمثال هذه الأنواع التي لا يأمر الله بها ولا رسوله , وإنما يأمر الله ورسوله أن يزهد فيما لا يحبه الله ورسوله , ويرغب فيما يحبه الله ورسوله , فيكون زهده هو الإعراض عما لا يأمر الله به ورسوله، أمر إيجاب ولا أمر استحباب، سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا مستوى الطرفين في حق العبد , ويكون مع ذلك مقبلا على ما أمر الله به ورسوله، وإلا فترك المكروه بدون فعل المحبوب ليس بمطلوب، وغنما المطلوب بالمقصود الأول فعل ما يحبه الله ورسوله وترك المكروه متعين كذلك به تزكو النفس؛ فإن الحسنات إذا انتفت عنها السيئات زكت فبالزكاة تطيب النفس من الخبائث، وتعظم في الطاعات , كما أن الزرع إذا أزيل عنه الدغل زكا وظهر وعظم.
فصل:
وأما طريق الوصول إلى ذلك: فبالاجتهاد في فعل المأمور وترك المحظور والاستعانة به على ذلك ففي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح
ج/ 7 ص -654-عمل الشيطان" وفي السنن أن النبي ﷺ قضى على رجل فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي ﷺ: "إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل". فأمر النبي ﷺ العبد بأن يحرص على ما ينفعه ويستعين بالله على ذلك والحرص على ما ينفعه هو الاجتهاد في الخير وهو العبادة؛ فإن كل ما ينفع العبد فهو مأمور بطلبه وإنما ينهى عن طلب ما يضره - وإن اعتقد أنه ينفعه - كما يطلب المحرمات وهي تضره ويطلب المفضول الذي لا ينفعه والله تعالى أباح للمؤمنين الطيبات وهي ما ينفعهم وحرم عليهم الخبائث وهي ما يضرهم والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ج/ 7 ص -655-قال شيخ الإسلام قدس الله روحه
فصل:
وأما الإيمان: هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟. فالجواب أن هذه المسألة نشأ النزاع فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟ وهي محنة الإمام أحمد وغيره من علماء المسلمين وقد جرت فيها أمور يطول وصفها هنا لكن لما ظهر القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأطفأ الله نار الجهمية المعطلة صارت طائفة يقولون إن كلام الله الذي أنزله مخلوق ويعبرون عن ذلك باللفظ فصاروا يقولون ألفاظنا بالقرآن مخلوقة أو تلاوتنا أو قراءتنا مخلوقة وليس مقصودهم مجرد كلامهم وحركاتهم بل يدخلون في كلامهم نفس كلام الله الذي نقرأ بأصواتنا وحركاتنا وعارضهم طائفة أخرى فقالوا: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة فرد الإمام أحمد على الطائفتين وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع.
ج/ 7 ص -656-وتكلم الناس حينئذ في الإيمان فقالت طائفة: الإيمان مخلوق وأدرجوا في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان مثل: قول لا إله إلا الله فصار مقتضى قولهم أن نفس هذه الكلمة مخلوقة ولم يتكلم الله بها فبدع الإمام أحمد هؤلاء وقال: قال النبي ﷺ: "الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله" أيكون قول لا إله إلا الله مخلوقا. ومراده أن من قال: هي مخلوقة مطلقا كان مقتضى قوله إن الله لم يتكلم بهذه الكلمة كما أن من قال: إن ألفاظنا وتلاوتنا وقراءتنا للقرآن مخلوقة كان مقتضى كلامه أن الله لم يتكلم بالقرآن الذي أنزله وأن القرآن المنزل ليس هو كلام الله وأن يكون جبريل نزل بمخلوق ليس هو كلام الله والمسلمون يقرءون قرآنا مخلوقا ليس هو كلام الله وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى وإن كان مسموعا من المبلغ عنه فإن الكلام قد سمع من المتكلم به كما سمعه موسى بلا واسطة وهذا سماع مطلق - كما يرى الشيء رؤية مطلقة وقد يسمعه من المبلغ عنه فيكون قد سمعه سمعا مقيدا - كما يرى الشيء في الماء والمرآة رؤية مقيدة لا مطلقة أو كما قال تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ" [ التوبة:6] كان معلوما عند جميع من خوطب بالقرآن أنه يسمع سماعا مقيدا من المبلغ ليس المراد به أنه يسمع من الله. ومن هؤلاء من قال: إنه يسمع صوت القارئ من الله ثم من هؤلاء من
ج/ 7 ص -657-يقول: إن صوت الرب حل في العبد ومنهم من يقول ظهر فيه - ولم يحل فيه ومنهم من يقول لا أقول ظهر ولا حل ومنهم من قال الصوت المسموع غير مخلوق أو قديم ومنهم من يقول يسمع منه صوتان: مخلوق وغير مخلوق. ومن القائلين بأنه مسموع من الله من يقول: بأنه يسمع المعنى القديم القائم بذات الرب مع سماع الصوت المحدث؛ قال هؤلاء يسمع القديم والمحدث كما قال أولئك يسمع صوتين قديما ومحدثا؛ وطائفة أخرى قالت: لم يسمع الناس كلام الله؛ لا من الله ولا من غيره؛ قالوا: لأن الكلام لا يسمع إلا من المتكلم؛ ثم من هؤلاء من قال: تسمع حكايته ومنهم من قال: تسمع عبارته لا حكايته؛ ومن القائلين بأنه مخلوق من قال: يسمع شيئان: الكلام المخلوق؛ والذي خلقه؛ والصوت الذي للعبد. وهذه الأقوال كلها مبتدعة مخترعة لم يقل السلف شيئا منها؛ وكلها باطلة شرعا وعقلا ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ؛ واشتباه في المعاني؛ فإنه إذا قيل سمعت كلام زيد أو قيل هذا كلام زيد فإن هذا يقال: على كلامه الذي تكلم به بلفظه ومعناه سواء كان مسموعا منه أو من المبلغ عنه مع العلم بالفرق بين الحالين وأنه إذا سمع منه سمع بصوته وإذا سمع من غيره سمع بصوت ذلك المبلغ لا بصوت المتكلم وإن كان اللفظ لفظ المتكلم وقد يقال مع القرينة هذا كلام فلان وإن ترجم عنه بلفظ آخر كما يحكي الله كلام من يحكي قوله من الأمم باللسان العربي وإن كانوا إنما قالوه بلفظ عبري أو سرياني
ج/ 7 ص -658-أو قبطي أو غير ذلك وهذه الأمور مبسوطة في مواضع أخر. و المقصود هنا أنه نشأ بين أهل السنة والحديث النزاع في [مسألتي: القرآن والإيمان ]بسبب ألفاظ مجملة ومعاني متشابهة وطائفة من أهل العلم والسنة: كالبخاري صاحب الصحيح ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما قالوا: الإيمان مخلوق؛ وليس مرادهم شيئا من صفات الله. وإنما مرادهم بذلك أفعال العباد وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أفعال العباد مخلوقة وقال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة. وصار بعض الناس يظن أن البخاري وهؤلاء خالفوا أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة وجرت للبخاري محنة بسبب ذلك حتى زعم بعض الكذابين أن البخاري لما مات أمر أحمد بن حنبل ألا يصلى عليه وهذا كذب ظاهر فإن أبا عبد الله البخاري - رحمه الله - مات بعد أحمد بن حنبل بنحو خمس عشرة سنة فإن أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي البخاري سنة ست وخمسين ومائتين وكان أحمد بن حنبل يحب البخاري ويجله ويعظمه وأما تعظيم البخاري وأمثاله للإمام أحمد فهو أمر مشهور ولما صنف البخاري كتابه في خلق أفعال العباد وذكر في آخر الكتاب أبوابا في هذا المعنى؛ ذكر أن كلا من الطائفتين القائلين: بأن لفظنا بالقرآن مخلوق والقائلين بأنه غير مخلوق ينسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل
ج/ 7 ص -659-ويدعون أنهم على قوله وكلا الطائفتين لم تفهم دقة كلام أحمد - رضي الله عنه -. وطائفة أخرى: كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وغيرهم ممن يقولون إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل وأئمة أهل السنة والحديث قالوا: أحمد وغيره كرهوا أن يقال: لفظي بالقرآن؛ فإن اللفظ هو الطرح والنبذ وطائفة أخرى كأبي محمد بن حزم وغيره ممن يقول أيضا: إنه متبع لأحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة إلى غير هؤلاء ممن ينتسب إلى السنة ومذهب الحديث يقولون إنهم على اعتقاد أحمد بن حنبل ونحوه من أهل السنة وهم لم يعرفوا حقيقة ما كان يقوله أئمة السنة؛ كأحمد بن حنبل وأمثاله وقد بسطنا أقوال السلف والأئمة: أحمد بن حنبل وغيره في غير هذا الموضع. وأما البخاري وأمثاله فإن هؤلاء من أعرف الناس بقول أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة؛ وقد رأيت طائفة تنتسب إلى السنة والحديث: كأبي نصر السجزي وأمثاله ممن يردون على أبي عبد الله البخاري يقولون. إن أحمد بن حنبل كان يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق; وذكروا روايات كاذبة لا ريب فيها; والمتواتر عن أحمد بن حنبل من رواية بنيه: صالح وعبد الله وحنبل والمروذي؛ وقوزان ومن لا يحصي عددهم إلا الله تبين أن أحمد كان ينكر على هؤلاء وهؤلاء وقد صنف أبو بكر المروذي في ذلك مصنفا ذكر فيه قول
ج/ 7 ص -660-أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم؛ وقد ذكر ذلك الخلال - في كتاب [السنة ]وذكر بعضه أبو عبد الله بن بطة في كتاب [ الإبانة ] وقد ذكر كثيرا من ذلك أبو عبد الله بن منده فيما صنفه في [ مسألة اللفظ ]. وقال أبو محمد بن قتيبة الدينوري: لم يختلف أهل الحديث في شيء من اعتقادهم إلا في مسألة اللفظ؛ ثم ذكر ابن قتيبة: أن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظا؛ ويراد به نفس الكلام الذي هو فعل العبد وصوته وهو مخلوق وأما نفس كلام الله الذي يتكلم به العباد فليس مخلوقا وكذلك [ مسألة الإيمان ] لم يقل قط أحمد بن حنبل أن الإيمان غير مخلوق؛ ولا قال أحمد ولا غيره من السلف أن القرآن قديم؛ وإنما قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ولا قال أحمد بن حنبل ولا أحد من السلف أن شيئا من صفات العبد وأفعاله غير مخلوقة ولا صوته بالقرآن ولا لفظه بالقرآن؛ ولا إيمانه ولا صلاته ولا شيء من ذلك. لكن المتأخرون انقسموا في هذا الباب انقساما كثيرا؛ فالذين كانوا يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق؛ منهم من أطلق القول بأن الإيمان غير مخلوق ومنهم من يقول قديم في هذا وهذا؛ ومنهم من يفرق بين الأقوال الإيمانية والأفعال فيقولون: الأقوال غير مخلوقة وقديمة; وأفعال الإيمان مخلوقة؛ ومنهم من يقول في أفعال الإيمان إن المحرم منها مخلوق وأما الطاعات كالصلاة وغيرها فمنهم من يقول: هي غير مخلوقة; ومنهم من يمسك فلا يقول: هي
ج/ 7 ص -661-مخلوقة ولا غير مخلوقة ومنهم من يمسك عن الأفعال المحرمة ومنهم من يقول: بل أفعال العباد كلها غير مخلوقة أو قديمة؛ ويقول ليس مرادي بالأفعال الحركات؛ بل مرادي الثواب الذي يجيء يوم القيامة ويحتج هذا بأن القدر غير مخلوق والشرع غير مخلوق. ويجعل أفعال العباد هي: القدر والشرع ولا يفرق بين القدر والمقدور والشرع والمشروع؛ فإن الشرع الذي هو أمر الله ونهيه غير مخلوق وأما الأفعال المأمور بها والمنهي عنها فلا ريب أنها مخلوقة؛ وكذلك القدر الذي هو علمه ومشيئته وكلامه غير مخلوق وأما المقدرات: الآجال والأرزاق والأعمال فكلها مخلوقة وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وقائليها في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة ومن اتبعه كلهم بريئون من الأقوال المبتدعة المخالفة للشرع والعقل ولم يقل أحد منهم أن القرآن قديم لا معنى قائم بالذات ولا إنه تكلم به في القديم بحرف وصوت ولا تكلم به في القديم بحرف قديم؛ لم يقل أحد منهم لا هذا ولا هذا وإن الذي اتفقوا عليه أن كلام الله منزل غير مخلوق والله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكلامه لا نهاية له. كما قال الله تعالى: "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي" [الكهف:109] وهو قديم بمعنى: أنه لم يزل الله متكلما بمشيئته؛ لا بمعنى أن الصوت المعين قديم كما بسطت الكلام في غير هذا الموضع على اختلاف أهل الأرض في كلام الله تعالى: منهم من يجعله فيضا من العقل الفعال على
ج/ 7 ص -662-النفوس. كقول طائفة من الصابئة والفلاسفة وهو أفسد الأقوال ومنهم من يقول هو مخلوق خلقه بائنا عنه: كقول الجهمية والنجارية والمعتزلة ومنهم من يقول هو معنى قديم قائم بالذات: كقول ابن كلاب والأشعري ومنهم من يقول هو حروف وأصوات: كقول ابن سالم وطائفة ومنهم من يقول تكلم بعد أن لم يكن متكلما: كقول ابن كرام وطائفة. والصواب من هذه الأقوال قول السلف والأئمة: كما قد بسطت ألفاظهم في غير هذا الموضع. ولما ظهرت المحنة كان أهل السنة يقولون: كلام الله غير مخلوق. وكانت [الجهمية] من المعتزلة وغيرهم. يقولون: إنه مخلوق وكان أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان له فضيلة ومعرفة رد بها على الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات وبين أن الله نفسه فوق العرش؛ وبسط الكلام في ذلك ولم يتخلص من شبهة الجهمية كل التخلص؛ بل ظن أن الرب لا يتصف بالأمور الاختيارية التي تتعلق بقدرته ومشيئته فلا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يحب العبد ويرضى عنه بعد إيمانه وطاعته ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته؛ بل محبا راضيا أو غضبان ساخطا على من علم أنه يموت مؤمنا أو كافرا. ولا يتكلم بكلام بعد كلام وقد قال تعالى: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [آل عمران:59] وقال تعالى: "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ" [آل عمران:31] وقال تعالى: "فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ" [الزخرف :55] وقال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" [محمد:28]
ج/ 7 ص -663-وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ" [الحديد:4] وهذا أصل كبير قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. وإنما المقصود هنا التنبيه على مآخذ اختلاف المسلمين في مثل [هذه المسائل] وإذا عرف ذلك فالواجب أن نثبت ما أثبته الكتاب والسنة وننفي ما نفى الكتاب والسنة. واللفظ المجمل الذي لم يرد في الكتاب والسنة لا يطلق في النفي والإثبات حتى يتبين المراد به كما إذا قال القائل: الرب متحيز أو غير متحيز أو هو في جهة أو ليس في جهة قيل هذه الألفاظ مجملة لم يرد بها الكتاب والسنة لا نفيا ولا إثباتا ولم ينطق أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بإثباتها ولا نفيها. فإن كان مرادك بقولك إنه يحيط به شيء من المخلوقات؛ وليس هو بقدرته يحمل العرش وحملته وليس هو العلي الأعلى الكبير العظيم الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو سبحانه أكبر من كل شيء فليس هو متحيزا بهذا الاعتبار وإن كان مرادك أنه بائن عن مخلوقاته عال عليها فوق سمواته على عرشه؛ فهو سبحانه بائن من خلقه كما ذكر ذلك أئمة السنة مثل: عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أعلام الإسلام وكما دل على ذلك صحيح المنقول وصريح المعقول كما هو مبسوط في مواضع أخر. وكذلك لفظ [الجهة] إن أراد بالجهة أمرا موجودا يحيط بالخالق أو
ج/ 7 ص -664-يفتقر إليه فكل موجود سوى الله فهو مخلوق. والله خالق كل شيء وكل ما سواه فهو فقير إليه وهو غني عما سواه وإن كان مراده أن الله سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذا صحيح. سواء عبر عنه بلفظ الجهة أو بغير لفظ الجهة. وكذلك لفظ [الجبر] إذا قال: هل العبد مجبور أو غير مجبور ؟ قيل: إن أراد بالجبر أنه ليس له مشيئة؛ أو ليس له قدرة؛ أو ليس له فعل؛ فهذا باطل فإن العبد فاعل لأفعاله الاختيارية وهو يفعلها بقدرته ومشيئته وإن أراد بالجبر أنه خالق مشيئته وقدرته وفعله فإن الله تعالى خالق ذلك كله. وإذا قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق ؟ قيل له: ما تريد [بالإيمان] ؟ أتريد به شيئا من صفات الله وكلامه كقوله: لا إله إلا الله و [إيمانه] الذي دل عليه اسمه المؤمن فهو غير مخلوق أو تريد شيئا من أفعال العباد وصفاتهم فالعباد كلهم مخلوقون وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة ولا يقول هذا من يتصور ما يقول فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات إذا فصل فيها الخطاب ظهر الخطأ من الصواب. والواجب على الخلق أن ما أثبته الكتاب والسنة أثبتوه وما نفاه الكتاب
ج/ 7 ص -665-والسنة نفوه وما لم ينطق به الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات استفصلوا فيه قول القائل؛ فمن أثبت ما أثبته الله ورسوله فقد أصاب ومن نفى ما نفاه الله ورسوله فقد أصاب ومن أثبت ما نفاه الله أو نفى ما أثبته الله فقد لبس دين الحق بالباطل فيجب أن يفصل ما في كلامه من حق وباطل فيتبع الحق ويترك الباطل وكلما خالف الكتاب والسنة فإنه مخالف أيضا لصريح المعقول فإن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح كما أن المنقول عن الأنبياء عليهم السلام لا يخالف بعضه بعضا ولكن كثير من الناس يظن تناقض ذلك وهؤلاء من الذين اختلفوا في الكتاب "َإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" [البقرة:176] ونسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.