ج/ 7 ص -461-وقال الشيخ العالم العامل الورع الناسك، شيخ الإسلام، بقية السلف الكرام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الشامي رحمه الله: كتاب الإيمان الأوسط
فصل
تضمن حديث سؤال النبي ﷺ عن [الإسلام] و[الإيمان] و[الإحسان] وجوابه عن ذلك، وقوله في آخر الحديث: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
فجعل هذا كله من الدين.
وللناس في [الإسلام]، و[الإيمان] من الكلام الكثير، مختلفين تارة، ومتفقين أخرى، ما يحتاج الناس معه إلى معرفة الحق في ذلك، وهذا يكون بأن تبين الأصول المعلومة المتفق عليها، ثم بذلك يتوصل إلى معرفة الحقيقة المتنازع فيها.
فنقول: ما علم من الكتاب، والسنة، والإجماع، وهو من المنقول نقلاً متواترًا
ج/ 7 ص -462-عن النبي ﷺ، بل هو من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام دين النبي ﷺ أن الناس كانوا على عهده بالمدينة ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق ظاهره الإسلام وهو في الباطن كافر. ولهذا التقسيم أنزل الله في أول سورة البقرة ذكر الأصناف الثلاثة، فأنزل أربع آيات في صفة المؤمنين، وآيتين في صفة الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين. فقوله تعالى: "هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [البقرة:2: 5] في صفة المؤمنين.
وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" الآيتين[البقرة:6، 7] في صفة الكفار الذين يموتون كفارًا.
وقوله: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ"الآيات[البقرة:8: 20] في صفة المنافقين، إلى أن ضرب لهم مثلين:أحدهما بالنار، والآخر بالماء، كما ضرب المثل بهذين للمؤمنين في قوله تعالى: "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" الآية [الرعد:17]
ج/ 7 ص -463- وأما قبل الهجرة فلم يكن الناس إلا مؤمن أو كافر، لم يكن هناك منافق فإن المسلمين كانوا مستضعفين، فكان من آمن آمن باطنًا وظاهرًا، ومن لم يؤمن فهو كافر. فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، وصار للمؤمنين بها عز وأنصار، ودخل جمهور أهلها في الإسلام طوعًا واختيارًا، كان بينهم من أقاربهم ومن غير أقاربهم من أظهر الإسلام موافقة، ورهبة أو رغبة وهو في الباطن كافر. وكان رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول، وقد نزل فيه وفي أمثاله من المنافقين آيات.
والقرآن يذكر المؤمنين والمنافقين في غير موضع، كما ذكرهم في سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وسورة العنكبوت، والأحزاب.وكان هؤلاء في أهل المدينة والبادية، كما قال تعالى: "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ" [التوبة:101]. وكان في المنافقين من هو في الأصل من المشركين، وفيهم من هو في الأصل من أهل الكتاب.
وسورة الفتح، والقتال، والحديد، والمجادلة، والحشر، والمنافقين، بل عامة السور المدنية يذكر فيها المنافقين. قال تعالى في سورة آل عمران: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ" إلى قوله: "وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ" الآيات [آل عمران:165: 167]،
ج/ 7 ص -464-وقال فيها أيضًا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ"إلى قوله: "وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ" [آل عمران:118: 120] وقال تعالى في سورة النساء: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا" إلى قوله: "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" [النساء:60: 65]، وقال: "فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ" الآيات [النساء:88: 90] وقال: "بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا" إلى قوله:
ج/ 7 ص -465-"إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ" إلى قوله: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً" إلى قوله: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 138: 146].
وقال تعالى في سورة المائدة: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ" [المائدة:41]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ" إلى قوله: "فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ": [المائدة:51: 53].
ج/ 7 ص -466-وقال تعالى: "وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" [المائدة: 61، 62]، وقال تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ" إلى قوله: "تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" [المائدة:77: 81].
وأما سورة براءة، فأكثرها في وصف المنافقين وذمهم؛ ولهذا سميت: الفاضحة، والمبعثرة، وهي نزلت عام تبوك، وكانت تبوك سنة تسع من الهجرة، وكانت غزوة تبوك آخر مغازي النبي ﷺ، التي غزاها بنفسه، وتميز فيها من المنافقين من تميز، فذكر الله من صفاتهم ما ذكره في هذه السورة، وقد قال تعالى في سورة النور: "وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ" إلى قوله: "إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"الآيات [النور: 47، 5]وقال تعالى في سورة العنكبوت: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ" [العنكبوت:10، 11].
ج/ 7 ص -467-وقال تعالى في سورة الأحزاب: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا" [الأحزاب:1] وذكر فيه شأنهم في الأحزاب، وذكر من أقوال المنافقين وجبنهم وهلعهم، كما قال تعالى: "وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا" إلى قوله: "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا" [الأحزاب:12: 20]، وقال تعالى:"لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا" إلى قوله: "لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" [الأحزاب: 60: 73].
وقال تعالى في سورة القتال:"أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ" [محمد:29، 30] إلى ما في السورة من نحو ذلك.
ج/ 7 ص -468-وقال تعالى في سورة الفتح: "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا" [الفتح:4، 6]، وقال تعالى في سورة الحديد: "يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ" [الحديد:12: 15].
وقال في سورة المجادلة:"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ" إلى قوله: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ" إلى آخر السورة [المجادلة:7: 16]،
ج/ 7 ص -469-وقوله: "مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ"كقوله: "مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء" [النساء:143]، وقال النبي ﷺ: " مثل المنافق كمثل الشاة العَائِرَة بين الغَنَمَيْن، تَعِيرُ إلى هذه مرة وإلى هذه مرة".
وقال تعالى: "أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ" الآية [الحشر:11: 13]، وقد ذكر في سورة المنافقين في قوله: "إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" إلى آخر السورة [المنافقون:1: 11] والمقصود بيان كثرة ما في القرآن من ذكر المنافقين وأوصافهم. والمنافقون: هم في الظاهر مسلمون، وقد كان المنافقون على عهد النبي ﷺ يلتزمون أحكام الإسلام الظاهرة لاسيما في آخر الأمر ما لم يلتزمه كثير من المنافقين الذين من بعدهم؛ لعز الإسلام وظهوره إذ ذاك بالحجة والسيف، تحقيقًا لقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" [الصف:9]،
ج/ 7 ص -470-ولهذا قال حذيفة بن اليمان وكان من أعلم الصحابة بصفات المنافقين وأعيانهم وكان النبي ﷺ قد أسر إليه عام تبوك أسماء جماعة من المنافقين بأعيانهم، فلهذا كان يقال: هو صاحب السر الذي لا يعلمه غيره. ويروى أن عمر ابن الخطاب لم يكن يصلي على أحد حتى يصلي عليه حذيفة؛لئلا يكون من المنافقين الذين نهى عن الصلاة عليهم، قال حذيفة رضي الله عنه: النفاق اليوم أكثر منه على عهد رسول الله ﷺ. وفي رواية: كانوا على عهد النبي ﷺ يسرونه، واليوم يظهرونه. وذكر البخاري في صحيحه عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقد أخبر الله عن المنافقين أنهم يصلون ويزكون وأنه لا يقبل ذلك منهم.
وقال تعالى: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً" [النساء:142]، وقال تعالى: "قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ" [التوبة:53، 54]، وقد كانوا يشهدون مع النبي ﷺ مغازيه كما شهد عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من المنافقين الغزوة التي قال فيها عبد الله بن أبي: "لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ" [المنافقون:8]
ج/ 7 ص -471-وأخبر بذلك زيد بن أرقم النبي ﷺ، وكذبه قوم، حتى أنزل الله القرآن بتصديقه.
والمقصود أن الناس ينقسمون في الحقيقة إلى: مؤمن، ومنافق كافر في الباطن مع كونه مسلمًا في الظاهر، وإلى كافر باطنًا وظاهرًا.
ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ الزنديق، وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق: هل تقبل توبته؟ في الظاهر: إذا عرف بالزندقة، ودفع إلى ولي الأمر قبل توبته، فمذهب مالك وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وطائفة من أصحاب الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة: أن توبته لا تقبل. والمشهور من مذهب الشافعي: قبولها، كالرواية الأخرى عن أحمد، وهو القول الآخر في مذهب أبي حنيفة، ومنهم من فصل.
والمقصود هنا أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي ﷺ.وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينًا من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهم أو كان معطلاً جاحدًا للصانع، والمعاد، والأعمال الصالحة.
ومن الناس من يقول:الزنديق:هو الجاحد المعطل. وهذا يسمى
ج/ 7 ص -472-الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس، ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه: هو الأول؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره، وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان، بقوله: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ" [التوبة:37] وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله: "الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ" [النحل:88].
فهذا أصل ينبغي معرفته، فإنه مهم في هذا الباب. فإن كثيرًا ممن تكلم في مسائل الإيمان والكفر لتكفير أهل الأهواء لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم، بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن تدبر هذا، علم أن كثيرًا من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمنًا مخطئًا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول ﷺ، وقد يكون منافقًا زنديقًا يظهر خلاف ما يبطن.
وهنا أصل آخر، وهو أنه قد جاء في الكتاب والسنة وصف أقوام بالإسلام دون الإيمان، فقال تعالى:
ج/ 7 ص -473-"قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [الحجرات:14]، وقال تعالى في قصة قوم لوط: "فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ" [الذاريات:35، 36] وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الآية تقتضي أن مسمى الإيمان والإسلام واحد، وعارضوا بين الآيتين، وليس كذلك، بل هذه الآية توافق الآية الأولى؛ لأن الله أخبر أنه أخرج من كان فيها مؤمنًا، وأنه لم يجد إلا أهل بيت من المسلمين.
وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، ولم تكن من المخرجين الذين نجوا؛ بل كانت من الغابرين، الباقين في العذاب، وكانت في الظاهر مع زوجها على دينه، وفي الباطن مع قومها علي دينهم، خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه، كما قال الله تعالى فيها: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا" [التحريم:10]. وكانت خيانتهما لهما في الدين لا في الفراش فإنه ما بغت امرأة نبي قط؛ إذ نكاح الكافرة قد يجوز في بعض الشرائع، ويجوز في شريعتنا نكاح بعض الأنواع وهن الكتابيات، وأما نكاح البغي فهو دِيَاثَة، وقد صان الله النبي عن أن يكون دَيُّوثًا؛ ولهذا كان الصواب قول من قال من الفقهاء بتحريم نكاح البغي حتى تتوب.
ج/ 7 ص -474-والمقصود أن امرأة لوط لم تكن مؤمنة، ولم تكن من الناجين المخرجين، فلم تدخل في قوله: "فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [الذاريات:35]، وكانت من أهل البيت المسلمين وممن وجد فيه؛ ولهذا قال تعالى: "فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ" [الذاريات:36]، وبهذا تظهر حكمة القرآن؛ حيث ذكر الإيمان لما أخبر بالإخراج، وذكر الإسلام لما أخبر بالوجود.وأيضًا فقد قال تعالى: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" [الأحزاب:35]. ففرق بين هذا وهذا. فهذه ثلاثة مواضع في القرآن.
وأيضًا، فقد ثبت في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: أعطى رسول الله ﷺ رجالا، ولم يعط رجلا. فقلت: يا رسول الله أعطيت فلانًا وتركت فلانًا، وهو مؤمن فقال: "أو مسلم؟" قال: ثم غلبني ما أجد، فقلت: يا رسول الله أعطيت فلانًا وفلانًا، وتركت فلانًا وهو مؤمن.فقال "أو مسلم؟" مرتين أو ثلاثًا، وذكر في تمام الحديث أنه يعطي رجالا، ويدع من هو أحب إليه منهم؛خشية أن يكبهم الله في النار على مناخرهم.
قال الزهري: فكانوا يرون أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، فأجاب سعدًا بجوابين، أحدهما: أن هذا الذي شهدت له بالإيمان قد يكون مسلمًا لا مؤمنًا. الثاني: إن كان مؤمنًا، وهو أفضل من أولئك فأنا قد أعطى من هو أضعف إيمانًا؛ لئلا يحمله الحرمان على الردة، فيكبه الله في
ج/ 7 ص -475-النار على وجهه. وهذا من إعطاء المؤلفة قلوبهم.
وحينئذ، فهؤلاء الذين أثبت لهم القرآن والسنة الإسلام دون الإيمان هل هم المنافقون الكفار في الباطن؟ أم يدخل فيهم قوم فيهم بعض الإيمان؟ هذا مما تنازع فيه أهل العلم على اختلاف أصنافهم. فقالت طائفة من أهل الحديث والكلام وغيرهم: بل هم المنافقون الذين استسلموا، وانقادوا في الظاهر ولم يدخل إلى قلوبهم شيء من الإيمان.
وأصحاب هذا القول قد يقولون: الإسلام المقبول هو الإيمان، ولكن هؤلاء أسلموا ظاهرًا لا باطنًا فلم يكونوا مسلمين في الباطن ولم يكونوا مؤمنين. وقالوا: إن الله سبحانه يقول: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ" [آل عمران:85] بيانه: كل مسلم مؤمن، فما ليس من الإسلام، فليس مقبولاً يوجب أن يكون الإيمان منه، وهؤلاء يقولون: كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، إذا كان مسلمًا في الباطن. وأما الكافر المنافق في الباطن، فإنه خارج عن المؤمنين المستحقين للثواب باتفاق المسلمين.
ولا يسمون بمؤمنين عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا عند أحد من طوائف المسلمين، إلا عند طائفة من المرجئة، وهم الكَرّامية الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق في الظاهر، فإذا فعل ذلك كان مؤمنًا وإن كان مكذبًا في الباطن، وسلموا أنه معذب مخلد في الآخرة، فنازعوا في اسمه لا في
ج/ 7 ص -476-حكمه، ومن الناس من يحكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة، وهو غلط عليهم. ومع هذا فتسميتهم له مؤمنًا بدعة ابتدعوها، مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية، دون سائر مقالاتهم.
قال الجمهور من السلف والخلف: بل هؤلاء الذين وصفوا بالإسلام دون الإيمان، قد لا يكونون كفارًا في الباطن، بل معهم بعض الإسلام المقبول. وهؤلاء يقولون: الإسلام أوسع من الإيمان؛ فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا. ويقولون: في قول النبي ﷺ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"؛ أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام. ودوروا للإسلام دارة، ودوروا للإيمان دارة أصغر منها في جوفها، وقالوا: إذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلى الكفر.
ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" [الحجرات:14: 17].
ج/ 7 ص -477-فقد قال تعالى: "لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ" وهذا الحرف أي [لما]، ينفي به ما قرب وجوده، وانتظر وجوده، ولم يوجد بعد. فيقول لمن ينتظر غائبًا أي: [لما]، ويقول: قد جاء لما يجيء بعد. فلما قالوا: "آمنا" قيل: "لَّمْ تُؤْمِنُوا" بعد، بل الإيمان مرجو منتظر منهم. ثم قال: "وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم" أي: لا ينقصكم من أعمالكم المثبتة "شّيًئْا"، أي: في هذه الحال؛ فإنه لو أرادوا طاعة الله ورسوله بعد دخول الإيمان في قلوبهم لم يكن في ذلك فائدة لهم ولا لغيرهم؛ إذ كان من المعلوم أن المؤمنين يثابون على طاعة الله ورسوله وهم كانوا مقرين به. فإذا قيل لهم: المطاع يثاب، والمراد به المؤمن الذي يعرف أنه مؤمن، لم يكن فيه فائدة جديدة.
و أيضًا، فالخطاب لهؤلاء المخاطبين قد أخبر عنهم لما يدخل في قلوبهم وقيل لهم: "وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا"فلو لم يكونوا في هذه الحال مثابين على طاعة الله ورسوله لكان خلاف مدلول الخطاب، فبين ذلك أنه وصف المؤمنين الذين أخرج هؤلاء منهم فقال تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"،
ج/ 7 ص -478-وهذا نعت محقق الإيمان، لا نعت من معه مثقال ذرة من إيمان، كما في قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" [الأنفال:2: 4]، وقوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ" [النور:62]، ومنه قوله ﷺ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". وأمثال ذلك.
فدل البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب، هو هذا الإيمان الذي نفى عن فساق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار، بل قد يكون مع أحدهم مثقال ذرة من إيمان، ونفى هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد صاحبه في النار.
وبتحقق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع، ويعلم أن في المسلمين قسمًا ليس هو منافقًا محضًا في الدرك الأسفل من النار، وليس هو من المؤمنين الذين قيل فيهم: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"ولامن الذين قيل فيهم"أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" فلاهم منافقون، ولا هم
ج/ 7 ص -479-من هؤلاء الصادقين المؤمنين حقًا، ولا من الذين يدخلون الجنة بلا عقاب.بل له طاعات ومعاص وحسنات وسيئات. ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار، وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار. وهذا القسم قد يسميه بعض الناس: الفاسق الملِّي، وهذا مما تنازع الناس في اسمه وحكمه. والخلاف فيه أول خلاف ظهر في الإسلام في مسائل أصول الدين.
فنقول: لما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وسار علي بن أبي طالب إلى العراق، وحصل بين الأمة من الفتنة والفرقة يوم الجمل، ثم يوم صِفِّين ما هو مشهور، خرجت الخوارج المارقون على الطائفتين جميعًا، وكان النبي ﷺ قد أخبر بهم وذكر حكمهم، قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وهذه العشرة أخرجها مسلم في صحيحه موافقة لأحمد، وروى البخاري منها عدة أوجه، وروى أحاديثهم أهل السنن والمسانيد من وجوه أخر.
ومن أصح حديثهم حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ حديثًا فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض، أحب إلى من أن أكذب عليه، وإن حدثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خِدْعَة، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان
ج/ 7 ص -480-أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة".
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: بعث علي بن أبي طالب إلى النبي ﷺ من اليمن بذُهَيْبَة في آدَمٍ مقروض، لم تُحَصَّلْ من ترابها فقال: فقسمها بين أربعة نفر، فقال رجل من أصحابه: كنا أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً" قال: فقام رجل غَائِر العينين، مُشْرِف الوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزَ الجبهة، كَثَّ اللحية، محلوق الرأس، مُشَمِّر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال: "ويلك ! أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟!". قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد:يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال: "لا، لعله أن يكون يصلي "قال خالد:وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه.فقال رسول الله ﷺ "إني لم أومر أن أنقِّب عن قلوب الناس؛ولا أشق بطونهم"، قال:ثم نظر إليه وهو مقف فقال: "إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة" قال: أظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد". اللفظ لمسلم.
ج/ 7 ص -481-ولمسلم في بعض الطرق عن أبي سعيد؛ أن النبي ﷺ ذكر قومًا يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التحليق، ثم قال: "شر الخلق أو من شر الخلق يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق". قال أبو سعيد: أنتم قتلتموهم يا أهل العراق، وفي لفظ له: "تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق"، وهذا الحديث مع ما ثبت في الصحيح عن أبي بكرة أن النبي ﷺ قال للحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين"، فبين أن كلا الطائفتين كانت مؤمنة، وأن اصطلاح الطائفتين كما فعله الحسن، كان أحب إلى الله سبحانه ورسوله ﷺ من اقتتالهما، وأن اقتتالهما وإن لم يكن مأمورًا به، فعلي بن أبي طالب وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وإن قتال الخوارج مما أمر به ﷺ؛ولذلك اتفق على قتالهم الصحابة والأئمة.
وهؤلاء الخوارج لهم أسماء، يقال لهم: الحَرُورِيَّة لأنهم خرجوا بمكان يقال له: حَرُوراء، ويقال لهم: أهل النَّهْرَوَان؛ لأن عليًا قاتلهم هناك. ومن أصنافهم: الأبَاضِيَّة أتباع عبد الله بن أباض، والأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، والنَّجَدَات أصحاب نَجْدَة الحروري.
وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك، فكانوا كما نعتهم النبي ﷺ:
ج/ 7 ص -482-"يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان"، وكفروا علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان ومن والاهما، وقتلوا علي ابن أبي طالب مستحلين لقتله، قتله عبد الرحمن بن مِلْجَم المرادي منهم، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة، لكن كانوا جهالاً فارقوا السنة والجماعة، فقال هؤلاء: ما الناس إلا مؤمن أو كافر، والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر، مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك، فقالوا: إن عثمان وعليًا ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفارًا.
ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة؛ فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرًا مرتدًا لوجب قتله؛لأن النبي ﷺ قال: "من بَدَّل دينه فاقتلوه".وقال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كُفْرٌ بعد إسلام، وزِنًا بعد إحصان، أو قتل نفس يقتل بها" وأمر سبحانه بأن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما، وأمر سبحانه بأن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة، ولو كان كافرًا لأمر بقتله، وكان النبي ﷺ يجلد شارب الخمر ولم يقتله، بل قد ثبت عنه ﷺ في صحيح البخاري وغيره، أن رجلاً كان يشرب الخمر، وكان اسمه عبد الله حمارًا، وكان يُضْحِك النبي ﷺ وكان كلما أتى به إليه جلده، فأتى به إليه مرة فلعنه رجل، فقال النبي ﷺ:
ج/ 7 ص -483-"لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، فنهى عن لعنه بعينه وشهد له بحب الله ورسوله، مع أنه قد لعن شارب الخمر عمومًا.
وهذا من أجود ما يحتج به على أن الأمر بقتل الشارب في الثالثة والرابعة منسوخ؛ لأن هذا أتى به ثلاث مرات، وقد أعيا الأئمة الكبار جواب هذا الحديث، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز، فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حدًا مقدرًا في أصح قولي العلماء، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ترجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة، كغيرها من أنواع التعزير، وكذلك صفة الضرب، فإنه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، بخلاف الزاني والقاذف فيجوز أن يقال: قتله في الرابعة من هذا الباب.
وأيضًا فإن الله سبحانه قال: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ" [الحجرات:9، 10] فقد وصفهم بالإيمان والأخوة، وأمرنا بالإصلاح بينهم.
فلما شاع في الأمة أمر الخوارج، تكلمت الصحابة فيهم، ورووا عن
ج/ 7 ص -484-النبي ﷺ الأحاديث فيهم، وبينوا ما في القرآن من الرد عليهم، وظهرت بدعتهم في العامة، فجاءت بعدهم المعتزلة الذين اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري وهم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء الغزال، وأتباعهما فقالوا: أهل الكبائر مخلدون في النار، كما قالت الخوارج، ولا نسميهم لا مؤمنين ولا كفارًا، بل فساق، ننزلهم منزلة بين منزلتين، وأنكروا شفاعة النبي ﷺ لأهل الكبائر من أمته، وأن يخرج من النار بعد أن يدخلها. قالوا: ما الناس إلا رجلان: سعيد لا يعذب، أو شقي لا ينعم، والشقي نوعان: كافر، وفاسق، ولم يوافقوا الخوارج على تسميتهم كفارًا.
وهؤلاء يرد عليهم بمثل ما ردوا به على الخوارج. فيقال لهم: كما أنهم قسموا الناس إلى مؤمن لا ذنب له، وكافر لا حسنة له، قسمتم الناس إلى مؤمن لا ذنب له، وإلى كافر وفاسق لا حسنة له، فلو كانت حسنات هذا كلها محبطة وهو مخلد في النار، لاستحق المعاداة المحضة بالقتل والاسترقاق، كما يستحقها المرتد، فإن هذا قد أظهر دينه بخلاف المنافق. وقد قال تعالى في كتابه: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء" [النساء:48]، فجعل ما دون ذلك الشرك معلقًا بمشيئته.
ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب فإن التائب لا فرق في حقه بين
ج/ 7 ص -485-الشرك وغيره، كما قال سبحانه في الآية الأخرى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا" [الزمر:53] فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق.
وقال تعالى: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ" [فاطر:32: 35]
فقد قسم سبحانه الأمة التي أورثها الكتاب واصطفاها ثلاثة أصناف: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، وهؤلاء الثلاثة ينطبقون على الطبقات الثلاث المذكورة في حديث جبريل: [الإسلام] و [الإيمان] و [الإحسان]، كما سنذكره إن شاء الله.
ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر والتائب من جميع الذنوب فذلك مقتصد أو سابق، فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصدًا، أو سابقًا، كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات، كما قال تعالى: "إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ" [النساء:31]، فلابد أن يكون هناك ظالم لنفسه موعود بالجنة ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا، فإن النبي ﷺ ذكر: أن ما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب مما يجزي به، ويكفر عنه خطاياه، كما في الصحيحين
ج/ 7 ص -486-عنه ﷺ أنه قال: "ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حزَن، ولا غَمٍّ، ولا أذًى، حتى الشوكة يُشَاكُهَا، إلا كَفَّر الله بها من خطاياه"، وفي المسند وغيره أنه لما نزلت هذه الآية: "مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ" [النساء:123] قال أبو بكر: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا، فقال: " يا أبا بكر، ألست تَنْصَب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ فذلك مما تجزون به".
وأيضًا، فقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ في أنه يخرج أقوام من النار بعد ما دخلوها، وأن النبي ﷺ يشفع في أقوام دخلوا النار. وهذه الأحاديث حجة على الطائفتين: [الوعيدية] الذين يقولون: من دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها، وعلى [المرجئة الواقفة] الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد، أم لا؟! كما يقول ذلك طوائف من الشيعة والأشعرية، كالقاضي أبي بكر وغيره. وأما ما يذكر عن غلاة المرجئة أنهم قالوا: لن يدخل النار من أهل التوحيد أحد، فلا نعرف قائلاً مشهورًا من المنسوبين إلى العلم يذكر عنه هذا القول. وأيضًا، فإن النبي ﷺ قد شهد لشارب الخمر المجلود مرات بأنه يحب الله ورسوله، ونهى عن لعنته، ومعلوم أن من أحب الله ورسوله أحبه الله ورسوله بقدر ذلك. وأيضًا، فإن الذين قذفوا عائشة أم
ج/ 7 ص -487-المؤمنين كان فيهم مُسْطَح بن أثاثَة، وكان من أهل بدر، وقد أنزل الله فيه لما حلف أبو بكر ألا يصله: "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" [النور: 22]. وإن قيل: إن مسطحًا وأمثاله تابوا، لكن الله لم يشرط في الأمر بالعفو عنهم، والصفح والإحسان إليهم التوبة. وكذلك حَاطِبُ بن أبي بَلْتَعَةَ كاتب المشركين بأخبار النبي ﷺ، فلما أراد عمر قتله، قال النبي ﷺ: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن الله قد اطَّلَعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم".
وكذلك ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة" وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات ولم يشترط مع ذلك توبة، وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا، والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل. وإذا قيل: إن هذا لأن أحدًا من أولئك لم يكن له إلا صغائر، لم يكن ذلك من خصائصه أيضًا. وأن هذا يستلزم تجويز الكبيرة من هؤلاء المغفور لهم، وأيضًا قد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:
أحدها: التوبة، وهذا متفق عليه بين المسلمين، قال تعالى:
ج/ 7 ص -488-"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر:53]، وقال تعالى: "أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [التوبة:104]، وقال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ" [الشورى:25]. وأمثال ذلك.
السبب الثاني: الاستغفار، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: " إذا أذنب عبد ذنبًا فقال: أي رب، أذنبت ذنبًا فاغفرلي. فقال: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي. ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال: أي رب، أذنبت ذنبًا آخر فاغفره لي، فقال ربه:علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء"، قال ذلك في الثالثة، أو الرابعة، وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: "لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولَجَاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون فيغفر لهم".
وقد يقال على هذا الوجه: الاستغفار هو مع التوبة، كما جاء في حديث: "ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم مائة مرة"، وقد يقال: بل الاستغفار بدون التوبة ممكن واقع، وبسط هذا له موضع آخر، فإن هذا الاستغفار إذا كان مع التوبة مما يحكم به عام في كل تائب، وإن لم يكن مع التوبة فيكون في حق بعض المستغفرين، الذين قد يحصل لهم عند الاستغفار من الخشية والإنابة ما يمحو الذنوب، كما في حديث البطاقة بأن قول: لا إله
ج/ 7 ص -489-إلا الله ثقلت بتلك السيئات؛ لما قالها بنوع من الصدق والإخلاص الذي يمحو السيئات، وكما غفر للبغي بسقى الكلب لما حصل في قلبها إذ ذاك من الإيمان، وأمثال ذلك كثير.
السبب الثالث: الحسنات الماحية، كما قال تعالى: "وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" [هود:114]، وقال ﷺ: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكَفِّرَاتٌ لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر"، وقال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال: "من حج هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، وقال: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده، تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وقال: "من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار حتى فرجه بفرجه".وهذه الأحاديث وأمثالها في الصحاح. وقال: "الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".
وسؤالهم على هذا الوجه أن يقولوا: الحسنات إنما تكفر الصغائر فقط، فأما الكبائر فلا تغفر إلا بالتوبة، كما قد جاء في بعض الأحاديث: " ما اجتنبت الكبائر"، فيجاب عن هذا بوجوه:
ج/ 7 ص -490-أحدها: أن هذا الشرط جاء في الفرائض، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصيام شهر رمضان، وذلك أن الله تعالى يقول: "إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ" [النساء:31]، فالفرائض مع ترك الكبائر مقتضية لتكفير السيئات، وأما الأعمال الزائدة من التطوعات فلابد أن يكون لها ثواب آخر، فإن الله سبحانه يقول: "فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" [الزلزلة:7، 8].
الثاني: أنه قد جاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر، كما في قوله ﷺ: "غفر له وإن كان فَرَّ من الزَّحْفِ". وفي السنن: أتينا رسول الله ﷺ في صاحب لنا قد أوجب. فقال: "اعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار" .وفي الصحيحين في حديث أبي ذر: "وإن زنا، وإن سرق".
الثالث: أن قوله لأهل بدر ونحوهم: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" إن حمل على الصغائر، أو على المغفرة مع التوبة لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم. فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر، لما قد علم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة، لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر.
الرابع: أنه قد جاء في غير حديث: "أن أول ما يحاسب عليه العبد من
ج/ 7 ص -491-عمله يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل: انظروا، هل له من تَطَوُّع، فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر أعماله كذلك".ومعلوم أن ذلك النقص المكمل لا يكون لترك مستحب، فإن ترك المستحب لا يحتاج إلى جُبْرَان، ولأنه حينئذ لا فرق بين ذلك المستحب المتروك والمفعول، فعلم أنه يكمل نقص الفرائض من التطوعات. وهذا لا ينافي من أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، مع أن هذا لو كان معارضًا للأول لوجب تقديم الأول لأنه أثبت وأشهر، وهذا غريب رفعه، وإنما المعروف أنه في وصية أبي بكر لعمر، وقد ذكره أحمد في [رسالته في الصلاة].
وذلك لأن قبول النافلة يراد به الثواب عليها. ومعلوم أنه لا يثاب على النافلة حتى تؤدى الفريضة، فإنه إذا فعل النافلة مع نقص الفريضة كانت جبرًا لها وإكمالا لها. فلم يكن فيها ثواب نافلة، ولهذا قال بعض السلف: النافلة لا تكون إلا لرسول الله ﷺ؛ لأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره يحتاج إلى المغفرة، وتأول على هذا قوله:"وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ" [الإسراء:79]. وليس إذا فعل نافلة وضيع فريضة تقوم النافلة مقام الفريضة مطلقًا، بل قد تكون عقوبته على ترك الفريضة أعظم من ثواب النافلة.
فإن قيل: العبد إذا نام عن صلاة أو نسيها، كان عليه أن يصليها إذا ذكرها بالنص والإجماع، فلو كان لها بدل من التطوعات لم يجب القضاء. قيل: هذا خطأ، فإن قيل: هذا يقال في جميع مسقطات العقاب، فيقال: إذا كان العبد
ج/ 7 ص -492-يمكنه رفع العقوبة بالتوبة لم ينه عن الفعل، ومعلوم أن العبد عليه أن يفعل المأمور ويترك المحظور؛ لأن الإخلال بذلك سبب للذم والعقاب، وإن جاز مع إخلاله أن يرتفع العقاب بهذه الأسباب، كما عليه أن يحتمى من السموم القاتلة، وإن كان مع تناوله لها يمكن رفع ضررها بأسباب من الأدوية. والله عليم حكيم رحيم، أمرهم بما يصلحهم، ونهاهم عما يفسدهم، ثم إذا وقعوا في أسباب الهلاك لم يؤيسهم من رحمته، بل جعل لهم أسبابًا يتوصلون بها إلى رفع الضرر عنهم؛ ولهذا قيل: إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرئهم على معاصى الله؛ ولهذا يؤمر العبد بالتوبة كلما أذنب، قال بعضهم لشيخه: إني أذنب. قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: ثم أعود، قال: تب، قال: إلى متى؟! قال: إلى أن تُحزِن الشيطان. وفي المسند عن علي عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله يحب العبد المُفَتَّنَ التواب".
وأيضًا، فإن من نام عن صلاة، أو نسيها فصلاته إذا استيقظ أو ذكرها كفارة لها، تبرأ بها الذمة من المطالبة ويرتفع عنه الذم والعقاب، ويستوجب بذلك المدح والثواب، وأما ما يفعله من التطوعات فلا نعلم القدر الذي يقوم ثوابه مقام ذلك، ولو علم فقد لا يمكن فعله مع سائر الواجبات، ثم إذا قدر أنه أمر بما يقوم مقام ذلك صار واجبًا، فلا يكون تطوعًا والتطوعات شرعت لمزيد التقرب إلى الله، كما قال تعالى في الحديث الصحيح: "ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه"، الحديث.
ج/ 7 ص -493-فإذا لم يكن العبد قد أدى الفرائض كما أمر، لم يحصل له مقصود النوافل، ولا يظلمه الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، بل يقيمها مقام نظيرها من الفرائض، كمن عليه ديون لأناس يريد أن يتطوع لهم بأشياء، فإن وفاهم وتطوع لهم كان عادلا محسنا، وإن وفاهم ولم يتطوع كان عادلاً، وإن أعطاهم ما يقوم مقام دينهم وجعل ذلك تطوعًا، كان غالطا في جعله، بل يكون من الواجب الذي يستحقونه.
ومن العجب أن المعتزلة يفتخرون بأنهم أهل التوحيد، والعدل! وهم في توحيدهم نفوا الصفات نفيًا يستلزم التعطيل، والإشراك، وأما العدل الذي وصف الله به نفسه، فهو ألا يظلم مثقال ذرة، وأنه: من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، وهم يجعلون جميع حسنات العبد وإيمانه حابطًا بذنب واحد من الكبائر، وهذا من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه، فكان وصف الرب سبحانه بالعدل الذي وصف به نفسه أولى من جعل العدل هو التكذيب بقدر الله.
الخامس:أن الله لم يجعل شيئًا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما أنه لم يجعل شيئًا يحبط جميع السيئات إلا التوبة. والمعتزلة، مع الخوارج يجعلون الكبائر محبطة لجميع الحسنات حتى الإيمان، قال الله تعالى: "وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة:217]، فعلق الحبوط بالموت على الكفر، وقد ثبت أن هذا ليس بكافر، و المعلق بشرط يعدم عند عدمه، وقال تعالى:
ج/ 7 ص -494-"وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ" [المائدة:5]، وقال تعالى لما ذكر الأنبياء: "وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" [الأنعام:87، 88]، وقال: "لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الزمر:65]، مطابق لقوله تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ" [النساء:48]، فإن الإشراك إذا لم يغفر وأنه موجب للخلود في النار، لزم من ذلك حبوط حسنات صاحبه، ولما ذكر سائر الذنوب غير الكفر لم يعلق بها حبوط جميع الأعمال، وقوله: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ" [محمد:28]، لأن ذلك كفر، وقوله تعالى: "لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ" [الحجرات:2]؛ لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، كراهية أن يحبط، أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك؛ لأنه يفضي إلى الكفرالمقتضى للحبوط.
ولا ريب أن المعصية قد تكون سببًا للكفر، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط، كما قال تعالى: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور:63]، وإبليس خالف أمر الله فصار كافرًا، وغيره أصابه عذاب أليم.
وقد احتجت الخوارج، والمعتزلة بقوله تعالى: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" [المائدة:27]،
ج/ 7 ص -495-قالوا: فصاحب الكبيرة ليس من المتقين، فلا يتقبل الله منه عملاً، فلا يكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان، فلا يكون معه إيمان فيستحق الخلود في النار، وقد أجابتهم المرجئة، بأن المراد بالمتقين، من يتقي الكفر، فقالوا لهم: اسم المتقين في القرآن يتناول المستحقين للثواب، كقوله تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ" [القمر:54، 55]، وأيضا فابنا آدم حين قربا قربانا، لم يكن المقرب المردود قربانه حينئذ كافرًا، وإنما كفر بعد ذلك، إذ لو كان كافرًا لم يتقرب، وأيضًا فما زال السلف يخافون من هذه الآية ولو أريد بها من يتقى الكفر لم يخافوا، وأيضا فإطلاق لفظ المتقين، والمراد به من ليس بكافر، لا أصل له في خطاب الشارع، فلا يجوز حمله عليه.
والجواب الصحيح:أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل، كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" [الملك: 2] قال: أخلصه، وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه، وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنة، فمن عمل لغير الله كأهل الرياء لم يقبل منه ذلك، كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشركه". وقال ﷺ في الحديث الصحيح: "لا يقبل الله صلاة بغير طُهُور، ولا صدقة من غلول"، وقال: "لا يقبل الله صلاة
ج/ 7 ص -496- حائض إلا بخمارٍ"، وقال في الحديث الصحيح: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أي فهو مردود غير مقبول. فمن اتقى الكفر وعمل عملاً ليس عليه أمر النبي ﷺ. لم يقبل منه، وإن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقيًا في ذلك العمل، وإن كان متقيا للشرك.
وقد قال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ" [المؤمنون:6]، وفي حديث عائشة عن النبي ﷺ أنها قالت: يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق، ويشرب الخمر، ويخاف أن يعذب ؟ قال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف ألا يقبل منه".
وخوف من خاف من السلف ألا يتقبل منه، لخوفه ألا يكون أتى بالعمل على وجهه المأمور، وهذا أظهر الوجوه في استثناء من استثنى منهم في الإيمان، وفي أعمال الإيمان كقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله، وصليت إن شاء الله؛ لخوف ألا يكون آتى بالواجب على الوجه المأمور به، لا على جهة الشك فيما بقلبه من التصديق، لا يجوز أن يراد بالآية: أن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقيًا، فإن كان قبول العمل مشروطًا بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له، امتنع قبول التوبة، بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير،
ج/ 7 ص -497-لم يخلص من الذنب، بل هو متق في حال تخلصه منه.
وأيضًا، فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة، ثم تاب، لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة، وتقبل منه تلك الحسنات، وهو حين أتى بها كان فاسقًا.
وأيضًا، فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل، وغصب، وقذف وكذلك الذمي إذا أسلم قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه، لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، بل يكون مع إسلامه مخلدًا، وقد كان الناس مسلمين على عهد رسول الله ﷺ، ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات، فيقبل إسلامهم، ويتوبون إلى الله سبحانه من التبعات. كما ثبت في الصحيح: أن المغيرة بن شعبة لما أسلم وكان قد رافق قومًا في الجاهلية فغدر بهم، وأخذ أموالهم وجاء فأسلم، فلما جاء عروة بن مسعود عام الحديبية، والمغيرة قائم على رأس النبي ﷺ بالسيف، دفعه المغيرة بالسيف فقال: من هذا ؟ فقالوا: ابن أختك المغيرة، فقال: يا غُدَرُ، ألست أسعى في غَدْرتكَ ؟ فقال النبي ﷺ: "أما الإسلام فأقبله، وأما المال فلست منه في شيء"، وقد قال تعالى: "وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ" [الأنعام:52]، وقالوا
ج/ 7 ص -498-لنوح: "قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ" [الشعراء:111: 113]، ولا نعرف أحدًا من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له: لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب، وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة.
السبب الرابع الدافع للعقاب : دعاء المؤمنين للمؤمن، مثل صلاتهم على جنازته، فعن عائشة وأنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه".وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه" رواهما مسلم. وهذا دعاء له بعد الموت. فلا يجوز أن تحمل المغفرة على المؤمن التقى الذي اجتنب الكبائر، وكفرت عنه الصغائر وحده، فإن ذلك مغفور له عند المتنازعين. فعلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت.
السبب الخامس: ما يعمل للميت من أعمال البر، كالصدقة ونحوها، فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة، واتفاق الأئمة وكذلك العتق، والحج، بل قد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، وثبت مثل ذلك في الصحيح من صوم النذر من
ج/ 7 ص -499-وجوه أخرى، ولا يجوز أن يعارض هذا بقوله: "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" [النجم:39] لوجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت بالنصوص المتواترة وإجماع سلف الأمة أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه، كدعاء الملائكة، واستغفارهم له، كما في قوله تعالى: "الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا" الآية [غافر: 7]. ودعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى:"وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ"[التوبة:103]، وقوله سبحانه: "وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ" [التوبة:99]، وقوله عز وجل: "وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" [محمد:19]، وكدعاء المصلين للميت، ولمن زاروا قبره من المؤمنين.
الثاني: أن الآية ليست في ظاهرها إلا أنه ليس له إلا سعيه، وهذا حق، فإنه لا يملك ولا يستحق إلا سعى نفسه، وأما سعى غيره فلا يملكه ولا يستحقه، لكن هذا لا يمنع أن ينفعه الله ويرحمه به، كما أنه دائمًا يرحم عباده بأسباب خارجة عن مقدورهم. وهو سبحانه بحكمته ورحمته يرحم العباد بأسباب يفعلها العباد؛ ليثيب أولئك على تلك الأسباب. فيرحم الجميع كما في الحديث الصحيح عنه ﷺ أنه قال: "ما من رجل يدعو لأخيه بدعوة، إلا وكل الله به ملكًا، كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين، ولك
ج/ 7 ص -500-بمثل"، وكما ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، أصغرهما مثل أحُد"، فهو قد يرحم المصلي على الميت بدعائه له، ويرحم الميت أيضًا بدعاء هذا الحي له.
السبب السادس: شفاعة النبي ﷺ وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة، كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة، مثل قوله ﷺ في الحديث الصحيح: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".وقوله ﷺ: "خُيِّرْتُ بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر، أترونها للمتقين؟ لا، ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين".
السبب السابع: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا، كما في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: "ما يصيب المؤمن من وَصَبٍ، ولا نصب، ولا هَمٍّ، ولا حَزَنٍ، ولا غَمٍّ، ولا أذًى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كَفَّر الله بها من خطاياه".
السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة فإن هذا مما يكفر به الخطايا
ج/ 7 ص -501-السبب التاسع: أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها.
السبب العاشر: رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد.
فإذا ثبت أن الذم والعقاب قد يدفع عن أهل الذنوب بهذه الأسباب العشرة، كان دعواهم: أن عقوبات أهل الكبائر لا تندفع إلا بالتوبة مخالف لذلك.
فصل
فهذان القولان قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب، ويخلدون في النار، وقول من يخلدهم في النار ويجزم بأن الله لا يغفر لهم إلا بالتوبة، ويقول: ليس معهم من الإيمان شيء لم يذهب إليهما أحد من أئمة الدين أهل الفقه والحديث، بل هما من الأقوال المشهورة عن أهل البدع.
وكذلك قول من وقف في أهل الكبائر من غلاة المرجئة وقال: لا أعلم أن أحدًا منهم يدخل النار، وهو أيضًا من الأقوال المبتدعة، بل السلف والأئمة متفقون على ما تواترت به النصوص من أنه لابد أن يدخل النار قوم من أهل القبلة، ثم يخرجون منها. وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من
ج/ 7 ص -502-أهل القبلة فهذا لا نعرفه قولاً لأحد. وبعده قول من يقول: ما ثم عذاب أصلا، وإنما هو تخويف لا حقيقة له، وهذا من أقوال الملاحدة والكفار.
وربما احتج بعضهم بقوله: "ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ" [الزمر:16]، فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفًا إذا كان هناك مخوف يمكن وقوعه بالمخوف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له، كما توهم الصبي الصغير، ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخويف للعقلاء المميزين، لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف، وهذا شبيه بما تقول الملاحدة المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: من أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له فإنما يعقل لمصلحتهم في الدنيا، إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريقة.
وهذا القول مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل، فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة، من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم. فإن البارع منهم في العلم
ج/ 7 ص -503-والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، وتنكشف أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن، حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون، فلو كان والعياذ بالله دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه، وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، كانوا أعظم الأمة لزومًا لطاعة أمره سرًا وعلانية ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه وبه أخص وبباطنه أعلم كأبي بكر وعمر كانوا أعظمهم لزومًا للطاعة سرَّا وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم، باطنًا وظاهرًا، وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة، الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور واجبًا على السالك حتى يصير عارفًا محققًا في زعمهم، وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" [الحجر:99]، زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، واليقين هنا الموت وما بعده، كما قال تعالى عن أهل النار: "وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ" [المدثر: 45: 48].
قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعباده المؤمنين أجلاً دون الموت،
ج/ 7 ص -504-وتلا هذه الآية. ومنه قوله ﷺ لما توفى عثمان بن مظعون: "أما عثمان بن مظعون فقد أتاه اليقين من ربه".وهؤلاء قد يشهدون القَدَر أولاً، وهي الحقيقة الكونية، ويظنون أن غاية العارف أن يشهد القدر، ويفنى عن هذا الشهود، وذلك المشهد لا تمييز فيه بين المأمور والمحظور، ومحبوبات الله ومكروهاته وأوليائه وأعدائه.
وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولا الطاعة والمعصية، ثم شهد طاعة بلا معصية يريد بذلك طاعة القدر كقول بعض شيوخهم: أنا كافر برب يعصى، وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام فقال: إن كان عصى الأمر، فقد أطاع الإرادة. ثم ينتقلون إلى المشهد الثالث: لا طاعة ولا معصية، و هو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان. وفيها من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب، والله أعلم.
فصل
ثم بعد ذلك تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعًا كثيرًا، منه لفظي،
ج/ 7 ص -505-وكثير منه معنوي، فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام وإن كان بعضهم أعلم بالدين وأقوم به من بعض، ولكن تنازعوا في الأسماء كتنازعهم في الإيمان: هل يزيد وينقص؟ وهل يستثنى فيه أم لا ؟ وهل الأعمال من الإيمان أم لا؟ وهل الفاسق المِلِّي مؤمن كامل الإيمان أم لا؟
والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه، كما قال عُمَيْر بن حبيب الخَطْمِي وغيره من الصحابة: الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ فقال: إذا ذكرنا الله، وحمدناه، وسبحناه، فتلك زيادته. وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا، فذلك نقصانه، فهذه الألفاظ المأثورة عن جمهورهم.
وربما قال بعضهم وكثير من المتأخرين: قول وعمل ونية، وربما قال آخر: قول وعمل ونية واتباع السنة، وربما قال: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، أي بالجوارح. وروى بعضهم هذا مرفوعًا إلى النبي ﷺ في النسخة المنسوبة إلى أبي الصلت الهروي عن علي بن أبي موسى الرضا. وذلك من الموضوعات على النبي ﷺ، باتفاق أهل العلم بحديثه.وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان
ج/ 7 ص -506-بدون اعتقاد القلب هوقول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد، كقوله تعالى: "يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" [الفتح:11]، وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله. فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر، لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك، قال بعضهم: ونية، ثم بين آخرون: أن مطلق القول والعمل والنية لا يكون مقبولا إلا بموافقة السنة. وهذا حق أيضًا، فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال، وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسمًا لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولابد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل حب الله، وخشية الله، والتوكل على الله، ونحو ذلك. فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها.
وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه؛ لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذا إحدى الروايتين عن مالك، والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم:إنه يزيد وينقص، وبعضهم عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل، فقال: أقول: الإيمان يتفاضل ويتفاوت، ويروى هذا عن ابن المبارك
ج/ 7 ص -507-وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع، إلى معنى لا ريب في ثبوته.وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء، وأما إبراهيم النَّخعِيّ إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبي سليمان وأمثاله، ومن قبله من أصحاب ابن مسعود؛ كعلقمة، والأسود فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة، وكانوا يستثنون في الإيمان، لكن حماد ابن أبي سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة، ومن بعدهم.
ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم، وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحدًا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك، وقد نص أحمد وغيره من الأئمة: على عدم تكفير هؤلاء المرجئة. ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرًا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم، فقد غلط غلطًا عظيمًا. والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة، وأمثال هؤلاء، ولم يكفر أحمد الخوارج ولا القدرية إذا أقروا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال، وعموم المشيئة، لكن حكى عنه في تكفيرهم روايتان.
وأما المرجئة، فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في
ج/ 7 ص -508-بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة. وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين، وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالاً مبتدعين، وظلمة فاسقين.
وهؤلاء المعروفون مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة كانوا يجعلون قول اللسان، واعتقاد القلب من الإيمان، وهو قول أبي محمد بن كلاب وأمثاله، لم يختلف قولهم في ذلك، ولا نقل عنهم أنهم قالوا: الإيمان مجرد تصديق القلب.
لكن هذا القول حكوه عن الجهم بن صفوان، ذكروا أنه قال: الإيمان مجرد معرفة القلب، وإن لم يقر بلسانه، واشتد نكيرهم لذلك حتى أطلق وكيع بن الجراح، وأحمد ابن حنبل وغيرهما كفر من قال ذلك، فإنه من أقوال الجهمية، وقالوا: إن فرعون وإبليس وأبا طالب واليهود وأمثالهم، عرفوا بقلوبهم وجحدوا بألسنتهم، فقد كانوا مؤمنين. وذكروا قول الله:
ج/ 7 ص -509-"وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل:14]، وقوله: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ" [البقرة:146]، وقوله: "فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ" [الأنعام:33]، وقالوا: إبليس لم يكذب خبرًا، ولم يجحد، فإن الله أمره بلا رسول، ولكن عصى واستكبر، وكان كافرًا من غير تكذيب في الباطن، وتحقيق هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وحدث بعد هؤلاء قول الكرامية: إن الإيمان قول اللسان، دون تصديق القلب، مع قولهم: إن مثل هذا يعذب في الآخرة ويخلد في النار. وقال أبو عبد الله الصالحي: إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم، فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب، وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر، كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة، وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما؛ ولهذا عدهم أهل المقالات من المرجئة. والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث: إن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه، ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان.
والإيمان المطلق عنده ما يحصل به الموافاة، والاستثناء عنده يعود إلى ذلك،
ج/ 7 ص -510-لا إلى الكمال والنقصان والحال. وقد منع أن يطلق القول بأن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، وصنف في ذلك مصنفًا معروفًا عند أهل السنة، في [كتاب المقالات]. وقال: إنه يقول بقولهم.
وقد ذهب طائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة كأبي منصور الماتريدي وأمثاله إلى نظير هذا القول في الأصل، وقالوا:إن الإيمان هو ما في القلب، وأن القول الظاهر شرط لثبوت أحكام الدنيا، لكن هؤلاء يقولون بالاستثناء ونحو ذلك كما عرف من أصلهم وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، كما قال النبي ﷺ: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان".
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان. وقالت المرجئة، والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئًا واحدًا لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءًا منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج، لكن قد يكون له لوازم ودلائل
ج/ 7 ص -511-فيستدل بعدمه على عدمه.
وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين، حيث قالوا: الإيمان قول وعمل، وقالوا مع ذلك: لا يزول بزوال بعض الأعمال، حتى إن ابن الخطيب وأمثاله جعلوا الشافعي متناقضًا في ذلك، فإن الشافعي كان من أئمة السنة، وله في الرد على المرجئة كلام مشهور، وقد ذكر في كتاب الطهارة من [الأم] إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على قول أهل السنة، فلما صنف ابن الخطيب تصنيفًا فيه، وهو يقول في الإيمان بقول جهم والصالحي، استشكل قول الشافعي ورآه متناقضًا.
وجماع شبهتهم في ذلك: أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة. وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا. قالوا: فإذا كان الإيمان مركبًا من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها. وهذا قول الخوارج والمعتزلة، قالوا: ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمنًا بما فيه من الإيمان، كافرًا بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع، ولهذه الشبهة والله أعلم امتنع من امتنع من أئمة الفقهاء أن يقول بنقصه، كأنه ظن: إذا قال ذلك يلزم ذهابه كله، بخلاف ما إذا زاد.
ج/ 7 ص -512-ثم إن هذه الشبهة هي شبهة من منع أن يكون في الرجل الواحد طاعة ومعصية؛ لأن الطاعة جزء من الإيمان، والمعصية جزء من الكفر. فلا يجتمع فيه كفر وإيمان، وقالوا: ما ثم إلا مؤمن محض أو كافر محض، ثم نقلوا حكم الواحد من الأشخاص إلى الواحد من الأعمال، فقالوا: لا يكون العمل الواحد محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه، وغلا فيه أبو هاشم فنقله إلى الواحد بالنوع فقال: لا يجوز أن يكون جنس السجود أو الركوع أو غير ذلك من الأعمال بعض أنواعه طاعة، وبعضها معصية؛ لأن الحقيقة الواحدة لا توصف بوصفين مختلفين، بل الطاعة والمعصية تتعلق بأعمال القلوب، وهو قصد الساجد دون عمله الظاهر، واشتد نكير الناس عليه في هذا القول وذكروا من مخالفته للإجماع وجحده للضروريات شرعًا وعقلاً، ما يتبين به فساده.
وهؤلاء منتهى نظرهم أن يروا حقيقة مطلقة مجردة تقوم في أنفسهم، فيقولون: الإيمان من حيث هو هو، والسجود من حيث هو هو، لا يجوز أن يتفاضل، ولا يجوز أن يختلف وأمثال ذلك، ولو اهتدوا لعلموا أن الأمور الموجودة في الخارج عن الذهن متميزة بخصائصها، وأن الحقيقة المجردة المطلقة لا تكون إلا في الذهن، وأن الناس إذا تكلموا في التفاضل والاختلاف، فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمر مطلق مجرد في الذهن لا وجود له في الخارج، ومعلوم أن السواد مختلف، فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان. وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق
ج/ 7 ص -513-الذي يتصوره الذهن فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، لكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان.
ومثل هذا الغلط وقع فيه كثير من الخائضين في أصول الفقه، حيث أنكروا تفاضل العقل أو الإيجاب أو التحريم، وإنكار التفاضل في ذلك قول القاضي أبي بكر وابن عقيل وأمثالهما، لكن الجمهور على خلاف ذلك، وهو قول أبي الحسن التميمي، وأبي محمد البربهاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب وغيرهم. وكذلك وقع نظير هذا لأهل المنطق والفلسفة ولمن تابعهم من أهل الكلام والاتحاد، في توحيد واجب الوجود ووحدته، حتى أخرجهم الأمر إلى ما يستلزم التعطيل المحض، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وأهل المنطق اليونان مضطربون في هذا المقام، يقول أحدهم القول، ويقول نقيضه، كما هو مذكور في موضعه، ونحن نذكر ما يتعلق بهذا الموضع فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله: الكلام في طرفين:
أحدهما: أن شعب الإيمان هل هي متلازمة في الانتفاء؟
والثاني: هل هي متلازمة في الثبوت؟
ج/ 7 ص -514-أما الأول:
فإن الحقيقة الجامعة لأمور سواء كانت في الأعيان أو الأعراض إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها. وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.
فيقال: أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقى على تركيبه فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقى ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد: إن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض
ج/ 7 ص -515-أعضائه بقى مجموعًا.
كما قال النبي ﷺ: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِه، أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِهِ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء.
وأما زوال الاسم فيقال لهم: هذا أولا بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله ﷺ في الحديث المتفق عليه: "الإيمان بضع وسبعون شُعْبَة، أعلاها قول:لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، و نحن نسلم لهم أنه ما بقى إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت.
يبقى النزاع: هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء، فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين، منها: ما يكون التركيب شرطًا في إطلاق الاسم، ومنها: ما لا يكون كذلك، فالأول كاسم العشرة، وكذلك السكنجبين، ومنها
ج/ 7 ص -516-ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك.
وكذلك لفظ العبادة، والطاعة، والخير، والحسنة، والإحسان، والصدقة، والعلم، ونحو ذلك، مما يدخل فيه أمور كثيرة، يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض، وكذلك لفظ [القرآن] فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآنا، وقد تسمى الكتب القديمة قرآنًا، كما قال النبي ﷺ: "خفف على داود القرآن"، وكذلك لفظ القول والكلام والمنطق ونحو ذلك، يقع على القليل من ذلك وعلى الكثير.
وكذلك لفظ الذكر والدعاء، يقال للقليل والكثير، وكذلك لفظ الجبل؛ يقال على الجبل وإن ذهب منه أجزاء كثيرة.
ولفظ البحر والنهر؛يقل عليه وإن نقصت أجزاؤه، وكذلك المدينة والدار والقرية والمسجد ونحو ذلك، يقال على الجملة المجتمعة، ثم ينقص كثير من أجزائها والاسم باق، وكذلك أسماء الحيوان والنبات كلفظ الشجرة، يقال على جملتها، فيدخل فيها الأغصان وغيرها، ثم يقطع منها ما يقطع والاسم باق، وكذلك لفظ الإنسان والفرس والحمار، يقال على الحيوان المجتمع الخلق، ثم
ج/ 7 ص -517-يذهب كثير من أعضائه والاسم باق، وكذلك أسماء بعض الأعلام؛ كزيد وعمرو، يتناول الجملة المجتمعة، ثم يزول بعض أجزائها والاسم باق. وإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع، لم يصح قولهم: إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي.
ومعلوم أن اسم [الإيمان] من هذا الباب؛ فإن النبي ﷺ قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبه، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان.
وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيحين أنه قال: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان"، فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة، ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن، والصلاة، والحج، ونحو ذلك، أما الحج ونحوه ففيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل كرمي الجمار، والمبيت بمنى، ونحو ذلك، وفيه أجزاء ينقص بزوالها من كماله المستحب، كرفع الصوت بالإهلال، والرَّمل والاضطباع في الطواف الأول.
وكذلك الصلاة، فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال الاستحباب، وفيها
ج/ 7 ص -518-أجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة، في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ما له أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك. فقد رأيت أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعًا وطبعًا، فإذا قال المعترض:هذا الجزء داخل في الحقيقة، وهذا خارج من الحقيقة، قيل له: ماذا تريد بالحقيقة؟ فإن قال: أريد بذلك ما إذا زال صار صاحبه كافرًا، قيل له: ليس للإيمان حقيقة واحدة، مثل حقيقة مسمى [مسلم] في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار، مثل حقيقة السواد والبياض، بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف وبلوغ التكليف له، وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك.
وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق، لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت، فإن الله لما بعث محمدا رسولاً إلى الخلق، كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت، ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافرًا.
قال الإمام أحمد: كان بدء الإيمان ناقصًا، فجعل يزيد حتى كمل؛ ولهذا
ج/ 7 ص -519-قال تعالى عام حجة الوداع: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" [المائدة:3].
وأيضًا، فبعد نزول القرآن وإكمال الدين، إذا بلغ الرجل بعض الدين دون بعض، كان عليه أن يصدق ما جاء به الرسول جملة، وما بلغه عنه مفصلاً، وأما ما لم يبلغه ولم يمكنه معرفته، فذاك إنما عليه أن يعرفه مفصلا إذا بلغه، وأيضًا. فالرجل إذا آمن بالرسول إيمانًا جازمًا، ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال، مات كامل الإيمان الذي وجب عليه، فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك. وكذلك القادر على الحج والجهاد يجب عليه ما لم يجب على غيره من التصديق المفصل، والعمل بذلك.
فصار ما يجب من الإيمان يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضًا. ومعلوم أن الواجب على كل من هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر. فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع؛ كالإقرار بالخالق، وإخلاص الدين له والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات.
ج/ 7 ص -520-يبقى أن يقال: فالبعض الآخر قد يكون شرطًا في ذلك البعض، وقد لا يكون شرطًا فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم، كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا" [النساء:150، 151]. وقد يكون البعض المتروك ليس شرطًا في وجود الآخر ولا قبوله.
وحينئذ، فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق. وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر"، وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: "من مات ولم يغْزُ ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق"، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، وفي الصحيح عنه ﷺ قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لن يدعوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم". وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: "سباب المسلم فسوق،
ج/ 7 ص -521-وقتاله كفر"، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: "لا ترْغَبُوا عن آبائكم، فإن كُفْرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم"، وهذا من القرآن الذي نسخت تلاوته: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن أبائكم"، وفي الصحيحين عن أبي ذر، سمع رسول الله ﷺ يقول: "ليس من رجل ادَّعَى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كَفَر، ومن ادَّعَى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلاً بالكفر، أو قال: ياعدو الله وليس كذلك، إلا رجع عليه".
وفي لفظ البخاري: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر بالله ومن ادعى قومًا ليس منهم، فليتبوأ مقعده من النار"، وفي الصحيحين من حديث جرير وابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال في حجة الوداع: "لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض" ورواه البخاري من حديث ابن عباس، وفي البخاري عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما"، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية في إثْرِ سَمَاء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من
ج/ 7 ص -522-عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب".
وفي صحيح مسلم قال: قال رسول الله ﷺ: "ألم تروا إلى ما قال ربكم ؟! قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة، إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: بالكواكب، وبالكواكب" و نظائر هذا موجودة في الأحاديث. وقال ابن عباس وغير واحد من السلف في قوله تعالى: "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة:44] "فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [المائدة:47] و"الظَّالِمُونَ" [المائدة: 45]: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. وقد ذكر ذلك أحمد والبخاري وغيرهما.
الأصل الثاني:
أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة، ولا تتلازم عند الضعف، فإذا قوى ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله، أوجب بغض أعداء الله، كما قال تعالى: "وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء" [المائدة:81]، وقال: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ" [المجادلة:22].وقد تحصل للرجل موادتهم
ج/ 7 ص -523-لرحم أو حاجة فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بَلْتَعَة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي ﷺ، وأنزل الله فيه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ" [الممتحنة:1].
وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أُبَيّ في قصة الإفك، فقال لسعد بن معاذ: كذبت والله، لا تقتله، ولا تقدر على قتله، قالت عائشة: وكان قبل ذلك رجلاً صالحًا، ولكن احتملته الحَمِيَّة، ولهذه الشبهة سمى عمر حاطبًا منافقًا، فقال: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه شهد بَدْرًا" فكان عمر متأولاً في تسميته منافقًا للشبهة التي فعلها.
وكذلك قول أسَيْد بن حُضَيْر لسعد بن عبادة، كذبت لعمر الله! لنقتلنه، إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين، هو من هذا الباب. وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدُّخْشُم: منافق، وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين.
ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعًا واحدًا، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب، وفيه شعبة من النفاق، وكان كثير ذنوبهم بحسب ظهور الإيمان، ولما قوى الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك، صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكونوا يعاتبون عليه قبل ذلك.
ج/ 7 ص -524-ومن هذا الباب، ما يروي عن الحسن البصري ونحوه من السلف، أنهم سموا الفساق منافقين، فجعل أهل المقالات هذا قولاً مخالفًا للجمهور، إذا حكوا تنازع الناس في الفاسق المِلِّي، هل هو كافر؟ أو فاسق ليس معه إيمان؟ أو مؤمن كامل الإيمان؟ أو مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق بما معه من الفسق؟ أو منافق، والحسن رحمه الله تعالى لم يقل ما خرج به عن الجماعة، لكن سماه منافقًا على الوجه الذي ذكرناه.
والنفاق كالكفر نفاق دون نفاق؛ ولهذا كثيرًا ما يقال: كفر ينقل عن الملة، وكفر لا ينقل، ونفاق أكبر، ونفاق أصغر، كما يقال: الشرك شركان: أصغر، وأكبر، وفي صحيح أبي حاتم وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" فقال أبو بكر: يا رسول الله، كيف ننجو منه، وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال: "ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك، وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم"، وفي الترمذي عن النبي ﷺ أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" قال الترمذي: حديث حسن.
وبهذا تبين أن الشارع ينفي اسم الإيمان عن الشخص، لانتفاء كماله الواجب، وإن كان معه بعض أجزائه، كما قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن"، ومنه قوله: "من غَشَّنَا فليس مِنَّا، ومن حمل علينا
ج/ 7 ص -525-السلاح فليس منا". فإن صيغة [أنا] و [نحن] ونحو ذلك من ضمير المتكلم في مثل ذلك، يتناول النبي ﷺ، والمؤمنين معه الإيمان المطلق الذي يستحقون به الثواب، بلا عقاب، ومن هنا قيل: إن الفاسق المِلي يجوز أن يقال: هو مؤمن باعتبار، ويجوز أن يقال: ليس مؤمنًا باعتبار.
وبهذا تبين أن الرجل قد يكون مسلمًا لا مؤمنًا، ولا منافقًا مطلقًا، بل يكون معه أصل الإيمان دون حقيقته الواجبة، ولهذا أنكر أحمد وغيره من الأئمة على من فسر قوله ﷺ: "ليس منا": ليس مثلنا، أو ليس من خيارنا، وقال: هذا تفسير المرجئة، وقالوا: لو لم يفعل هذه الكبيرة، كان يكون مثل النبي ﷺ.وكذلك تفسير الخوارج والمعتزلة، بأنه يخرج من الإيمان بالكلية، ويستحق الخلود في النار، تأويل منكر، كما تقدم، فلا هذا ولا هذا.
ومما يبين ذلك أنه من المعلوم أن معرفة الشيء المحبوب تقتضي حبه، ومعرفة المعظم تقتضي تعظيمه، ومعرفة المخوف تقتضي خوفه، فنفس العلم والتصديق بالله وما له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى يوجب محبة القلب له وتعظيمه وخشيته، وذلك يوجب إرادة طاعته وكراهية معصيته. والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه منه، فالعبد إذا كان مريدًا
ج/ 7 ص -526-للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صلى، فإذا لم يصل مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة.
وبهذا يزول الاشتباه في هذا المقام، فإن الناس تنازعوا في الإرادة بلا عمل، هل يحصل بها عقاب؟ وكثر النزاع في ذلك. فمن قال: لا يعاقب احتج بقول النبي ﷺ الذي في الصحيحين: "إن الله تجاوز لأمتي عما حَدَّثَتْ به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به"، وبما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "إذا هَمَّ العبد بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإذا هم بحسنة كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف" وفي رواية: "فإن تركها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جَرَّائي".
ومن قال: يعاقب، احتج بما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه"، وبالحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي كَبْشَةَ الأنماري عن النبي ﷺ: في الرجلين الذين أوتى أحدهما علمًا ومالاً فهو ينفقه في طاعة الله، ورجل أوتي علما ولم يؤت مالا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، قال: "فهما في الأجر سواء"، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علمًا فهو ينفقه في معصية الله، ورجل لم يؤته الله علمًا ولا مالا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، قال: "فهما في الوِزْر سواء".
ج/ 7 ص -527-والفصل في ذلك أن يقال: فرق بين الهم والإرادة، فالهم قد لا يقترن به شيء من الأعمال الظاهرة، فهذا لا عقوبة فيه بحال، بل إن تركه لله، كما ترك يوسف همه، أثيب على ذلك كما أثيب يوسف؛ ولهذا قال أحمد: الهَمُّ هَمَّانِ: هَمّ خطرات، وهمّ إصرار، ولهذا كان الذي دل عليه القرآن أن يوسف لم يكن له في هذه القضية ذنب أصلاً، بل صرف الله عنه السوء والفحشاء إنه من عباده المخلصين، مع ما حصل من المراودة، والكذب، والاستعانة عليه بالنسوة، وحبسه، وغير ذلك من الأسباب التي لا يكاد بشر يصبر معها عن الفاحشة، ولكن يوسف اتقى الله وصبر، فأثابه الله برحمته في الدنيا، "وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ" [يوسف:57].
وأما الإرادة الجازمة، فلابد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور ولو بنظرة، أو حركة رأس، أو لفظة، أو خطوة، أو تحريك بدن، وبهذا يظهر معنى قوله ﷺ: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" فإن المقتول أراد قتل صاحبه فعمل ما يقدر عليه من القتال، وعجز عن حصول المراد، وكذلك الذي قال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، فإنه أراد فعل ما يقدر عليه وهو الكلام، ولم يقدر على ذلك؛ ولهذا كان من دعا إلى ضلالة، كان عليه مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا؛ لأنه أراد ضلالهم ففعل ما يقدر عليه من دعائهم، إذ لا يقدر إلا على ذلك.
ج/ 7 ص -528-وإذا تبين هذا في الإرادة، والعمل، فالتصديق الذي في القلب وعلمه يقتضي عمل القلب، كما يقتضي الحس الحركة الإرادية؛ لأن النفس فيها قوتان: قوة الشعور بالملائم والمنافي والإحساس بذلك، والعمل والتصديق به، وقوة الحب للملائم والبغض للمنافي، والحركة عن الحس بالخوف والرجاء والموالاة والمعاداة، وإدراك الملائم يوجب اللذة، والفرح والسرور، وإدراك المنافي، يوجب الألم والغم، وقد قال النبي ﷺ "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرَانِه أو يُمَجِّسَانِهِ كما تُنْتِج البهيمةُ بَهِيمةً جَمْعَاء هل تحسون فيها من جَدْعَاء".
فالقلوب مفطورة على الإقرار بالله، تصديقًا به ودينًا له، لكن يعرض لها ما يفسدها، ومعرفة الحق تقتضي محبته، ومعرفة الباطل تقتضي بغضه، لما في الفطرة من حب الحق وبغض الباطل، لكن قد يعرض لها ما يفسدها إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن اتباعه؛ ولهذا أمرنا الله أن نقول في الصلاة: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" [الفاتحة:6، 7]، وقال النبي ﷺ"اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون"؛ لأن اليهود يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، ولا يتبعونه لما فيهم من الكبر والحسد الذي يوجب بغض الحق ومعاداته، والنصارى لهم عبادة، وفي قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها، لكن بلا علم، فهم ضلال. هؤلاء لهم معرفة بلا قصد صحيح، وهؤلاء
ج/ 7 ص -529-لهم قصد في الخير بلا معرفة له، وينضم إلى ذلك الظن، واتباع الهوى، فلا يبقى في الحقيقة معرفة نافعة، ولا قصد نافع، بل يكون كما قال تعالى عن مشركي أهل الكتاب: "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك:10]، وقال تعالى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" [الأعراف:179].
فالإيمان في القلب لا يكون إيمانًا بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك، كما أنه لا يكون إيمانًا بمجرد ظن وهوى، بل لابد في أصل الإيمان من قول القلب، وعمل القلب.
وليس لفظ الإيمان مرادفًا للفظ التصديق، كما يظنه طائفة من الناس، فإن التصديق يستعمل في كل خبر، فيقال لمن أخبر بالأمور المشهورة مثل:الواحد نصف الاثنين والسماء فوق الأرض، مجيبًا: صدقت، وصدقنا بذلك، ولا يقال: آمنا لك، ولا آمنا بهذا، حتى يكون المخبر به من الأمور الغائبة، فيقال للمخبر: آمنا له، وللمخبر به: آمنا به، كما قال إخوة يوسف: "وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا" [يوسف:17] أي بمقر لنا، ومصدق لنا، لأنهم أخبروه عن غائب، ومنه قوله تعالى: "أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ" [الشعراء:111]، وقوله تعالى: "يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ" [التوبة:61]، وقوله تعالى: "أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ" [المؤمنون:47]، وقوله تعالى: "وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ" [الدخان:21]، "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ" [يونس:83] أي: أقر له.
ج/ 7 ص -530-وذلك أن الإيمان يفارق التصديق، أي: لفظًا ومعنى، فإنه أيضًا يقال: صدقته، فيتعدى بنفسه إلى المصدق، ولا يقال: أمنته، إلا من الأمان الذي هو ضد الإخافة، بل آمنت له، وإذا ساغ أن يقال: ما أنت بمصدق لفلان، كما يقال: هل أنت مصدق له؟ لأن الفعل المتعدى بنفسه إذا قدم مفعوله عليه، أو كان العامل اسم فاعل، ونحوه مما يضعف عن الفعل، فقد يعدونه باللام تقوية له، كما يقال: عرفت هذا، وأنا به عارف، وضربت هذا، وأنا له ضارب، وسمعت هذا ورأيته، وأنا له سامع، وراء، كذلك يقال: صدقته وأنا له مصدق، ولا يقال: صدقت له به، وهذا خلاف آمن، فإنه لا يقال إذا أردت التصديق: آمنته كما يقال: أقررت له، ومنه قوله: آمنت له كما يقال: أقررت له، فهذا فرق في اللفظ.
والفرق الثاني: ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة، ونحوها مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الأخبار.
وأما المعنى: فإن الإيمان مأخوذ من الأمن، الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار: مأخوذ من قَرَّ يَقِرُّ، وهو قريب من آمن يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره، والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال: الصدق طمأنينة والكذب رِيبَةٌ، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام ثم إنه يكون على وجهين:
ج/ 7 ص -531-أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق، والشهادة ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتزام كما في قوله تعالى: "أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ" [آل عمران:81]. وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد، فإنه سبحانه قال: "وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي" فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر؛ لا يقال فيه: آمن له بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمنًا للمخبر، إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد؛ فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
وأيضًا، فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الإخبار، فإن التصديق
ج/ 7 ص -532-أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق، والشهادة ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتزام كما في قوله تعالى: "أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ" [آل عمران:81]. وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد، فإنه سبحانه قال: "وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي" فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر؛ لا يقال فيه: آمن له بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمنًا للمخبر، إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد؛ فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
وأيضًا، فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الإخبار، فإن التصديق
ج/ 7 ص -533-مريم: "وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ" [التحريم:12]، فجعل التصديق بالكلمات والكتب، ومنه الحديث الذي في الصحيح عن النبي ﷺ: "تَكَفَّل الله لمن خرج في سبيله لا يُخْرِجُه إلا إيمان بي، وتصديق بكلماتي"، ويروى: "إيمان بي، وتصديق برسلي"، ويروى: "لا يخرجه إلا جهاد في سبيل الله وتصديق كلماته".ففي جميع الألفاظ جعل لفظ التصديق بالكلمات والرسل.
وكذلك قوله في الحديث الذي في الصحيح ذكر النبي ﷺ منازل عالية في الجنة، فقيل له: يا رسول الله، تلك منازل لا يبلغها إلا الأنبياء. فقال"بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين".وما يحصى الآن الاستعمال المعروف في كلام السلف، صدقت بالله، أو فلان يصدق بالله، أو صدق بالله ونحو ذلك، كما جاء: فلان يؤمن وآمن بالله وإيمانًا بالله ونؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ونؤمن بالله وحده ونحو ذلك، فإن القرآن والحديث وكلام الخاصة والعامة مملوء من لفظ الإيمان بالله، وآمن بالله، ونؤمن بالله، ويأيها الذين آمنوا، وما أعلم قيل: التصديق بالله، أو صدقوا بالله أو يأيها الذي صدق الله ونحو ذلك، اللهم إلا أن يكون في ذلك شيء لا يحضرني الساعة، وما أظنه.
ولفظ الإيمان يستعمل في الخبر أيضًا، كما يقال: كل آمن بالله أي أقر له، والرسول يؤمن له من جهة أنه مخبر، ويؤمن به من جهة أن رسالته مما أخبر بها، كما يؤمن بالله وملائكته وكتبه. فالإيمان متضمن للإقرار بما أخبر
ج/ 7 ص -534- به، والكفر تارة يكون بالنظر إلى عدم تصديق الرسول والإيمان به، وهو من هذا الباب يشترك فيه كل ما أخبر به، وتارة بالنظر إلى عدم الإقرار بما أخبر به، والأصل في ذلك هو الإخبار بالله وبأسمائه؛ ولهذا كان جحد ما يتعلق بهذا الباب أعظم من جحد غيره، وإن كان الرسول أخبر بكليهما ثم مجرد تصديقه في الخبر والعلم بثبوت ما أخبر به، إذا لم يكن معه طاعة لأمره، لا باطنًا ولا ظاهرًا ولا محبة لله ولا تعظيم له لم يكن ذلك إيمانًا.
وكفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم، فإن إبليس لم يخبره أحد بخبر، بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، فكفره بالإباء والاستكبار وما يتبع ذلك، لا لأجل تكذيب. وكذلك فرعون وقومه جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا، وقال له موسى: "لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" [الإسراء:102]، فالذي يقال هنا أحد أمرين:
إما أن يقال: الاستكبار والإباء والحسد ونحو ذلك مما الكفر به مستلزم لعدم العلم، والتصديق الذي هو الإيمان، وإلا فمن كان علمه وتصديقه تامًا أوجب استسلامه وطاعته مع القدرة، كما أن الإرادة الجازمة تستلزم وجود المراد مع القدرة، فعلم أن المراد إذا لم يوجد مع القدرة، دل على أنه ما في القلب همة ولا إرادة، فكذلك إذا لم يوجد موجب التصديق والعلم من حب القلب وانقياده، دل على أن الحاصل في القلب ليس بتصديق ولا علم، بل هنا شبهة
ج/ 7 ص -535-وريب، كما يقول ذلك طوائف من الناس، وهو أصل قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه كالقاضي أبي بكر ومن اتبعه، ممن يجعل الأعمال الباطنة والظاهرة من موجبات الإيمان لا من نفسه، ويجعل ما ينتفي الإيمان بانتفائه من لوازم التصديق لا يتصور عنده تصديق باطن مع كفر قط.
أو أن يقال: قد يحصل في القلب علم بالحق وتصديق به، ولكن ما في القلب من الحسد والكبر ونحو ذلك مانع من استسلام القلب وانقياده ومحبته، وليس هذا كالإرادة مع العمل؛ لأن الإرادة مع القدرة مستلزمة للمراد، وليس العلم بالحق والتصديق به مع القدرة على العمل بموجب ذلك العمل، بل لابد مع ذلك من إرادة الحق والحب له.
فإذا قال القائل: القدرة التامة بدون الإرادة الجازمة، مستلزمة لوجود المراد المقدور موجبة لحصول المقدور، لم يكن مصيبًا، بل لابد من الإرادة. وبهذا يتبين خطأ من قال: إن مجرد علم الله بالمخلوقات موجب لوجودها، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الفلسفة، كما يغلط الناس من يقول: إن مجرد إرادة الممكنات بدون القدرة موجب وجودها، وكما خطؤوا من قال: إن مجرد القدرة كافية، بل لابد من العلم والقدرة والإرادة في وجود المقدور والمراد، والإرادة مستلزمة لتصور المراد والعلم به، والعلم والإرادة والقدرة، ونحو ذلك؛ وإن كان قد يقال: إنها متلازمة في الحي، أو أن الحياة مستلزمة لهذه الصفات، أو أن بعض الصفات مشروط بالبعض، فلا ريب أنه ليس كل معلوم مرادًا
ج/ 7 ص -536-محبوبًا ولا مقدورًا ولا كل مقدور مرادًا محبوبًا، وإذا كان كذلك لم يلزم من كون الشيء معلومًا مصدقًا به أن يكون محبوبًا معبودًا، بل لابد من العلم، وأمر آخر به يكون هذا محبًا وهذا محبوبًا.
فقول من جعل مجرد العلم والتصديق في العبد هو الإيمان، وأنه موجب لأعمال القلب، فإذا انتفت دل على انتفاء العلم، بمنزلة من يقول: مجرد علم الله بنظام العالم موجب لوجوده، بدون وجود إرادة منه، وهو شبيه بقول المتفلسفة: إن سعادة النفس في مجرد أن تعلم الحقائق، ولم يقرنوا ذلك بحب الله تعالى وعبادته التي لا تتم السعادة إلا بها، وهو نظير من يقول: كمال الجسم أو النفس في الحب من غير اقتران الحركة الإرادية به، ومن يقول: اللذة في مجرد الإدراك والشعور، وهذا غلط باتفاق العقلاء، بل لابد من إدراك الملائم، والملائمة لا تكون إلا بمحبة بين المدرك والمدرك، وتلك المحبة والموافقة والملائمة ليست نفس إدراكه والشعور به.
وقد قال كثير من الناس من الفلاسفة والأطباء ومن اتبعهم: إن اللذة إدراك الملائم، وهذا تقصير منهم، بل اللذة حال يعقب إدراك الملائم، كالإنسان الذي يحب الحلو ويشتهيه فيدركه بالذوق والأكل، فليست اللذة مجرد ذوقه، بل أمر يجده من نفسه يحصل مع الذوق، فلابد أولاً من أمرين، وآخرًا من أمرين:لابد أولا:من شعور بالمحبوب، ومحبة له، فما لا شعور به لا يتصور أن يشتهى، وما يشعر به وليس في النفس محبة له لا يشتهى، ثم إذا
ج/ 7 ص -537-حصل إدراكه بالمحبوب نفسه، حصل عقيب ذلك اللذة والفرح مع ذلك.
ولهذا قال النبي ﷺ في الدعاء المأثور: "اللهم إني أسألك لذَّةَ النَّظَرِ إلى وجهك، والشَّوْقَ إلى لقائك، من غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فِتْنَةٍ مُضِلَّة"، وفي الحديث الصحيح: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزكُمُوه، فيقولون: ما هو ؟ ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، و يُثْقِلْ موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويُجَرنَا من النار؟!" قال: "فيكشف الحجاب، فينظرون إليه؛ فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه" رواه مسلم وغيره.فاللذة مقرونة بالنظر إليه، ولا أحب إليهم من النظر إليه، لما يقترن بذلك من اللذة، لا أن نفس النظر هو اللذة.
وفي الجملة، فلابد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله، وحب الله ورسوله، وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ولرسوله، ومعاداة الله ورسوله، ليس إيمانًا باتفاق المسلمين، وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب، إلا إذا كان القلب سليمًا من المعارض، كالحسد والكبر؛ لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها. ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله، وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلاً، وقد قال تعالى: "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" [الشعراء:88، 89]. فليس مجرد
ج/ 7 ص -538-العلم موجبًا لحب المعلوم، إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلائم المعلوم، وهذه القوة موجودة في النفس.
وكل من القوتين تقوى بالأخرى، فالعلم يقوي العمل، والعمل يقوي العلم، فمن عرف الله وقلبه سليم أحبه، وكلما ازداد له معرفة ازداد حبه له، وكلما ازداد حبه له ازداد ذكره له ومعرفته بأسمائه وصفاته، فإن قوة الحب توجب كثرة ذكر المحبوب، كما أن البغض يوجب الإعراض عن ذكر المبغض، فمن عادى الله ورسوله وحاد الله ورسوله كان ذلك مقتضيًا لإعراضه عن ذكر الله ورسوله بالخير، وعن ذكر ما يوجب المحبة، فيضعف علمه به حتى قد ينساه، كما قال تعالى: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ" [الحشر:19]، وقال تعالى: "وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" [الكهف:28]، وقد يحصل مع ذلك تصديق وعلم مع بغض ومعاداة، لكن تصديق ضعيف، وعلم ضعيف، ولكن لولا البغض والمعاداة لأوجب ذلك من محبة الله ورسوله ما يصير به مؤمنًا.
فمن شرط الإيمان وجود العلم التام؛ ولهذا كان الصواب: أن الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرًا، إذا كان مقرًا بما جاء به الرسول ﷺ، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضى كفره إذا لم يعلمه، كحديث الذي أمر أهله بتحريقه ثم تذريته، بل العلماء بالله يتفاضلون في العلم به، ولهذا يوصف من لم يعمل بعلمه بالجهل وعدم العلم، قال تعالى: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ" [النساء:17]، قال أبو العالية:
ج/ 7 ص -539-سألت أصحاب محمد عن هذه الآية، فقالوا لي: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. ومنه قول ابن مسعود: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً. وقيل للشعبي: أيها العالم؟ فقال: العالم من يخشى الله، وقد قال تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء" [فاطر:28].
وقال أبو حَيَّان التَّيْمِيّ: العلماء ثلاثة: عالم بالله وبأمر الله، وعالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، فالعلم بالله الذي يخشاه، والعالم بأمر الله الذي يعلم حدوده وفرائضه، وقد قال تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء". وهذا يدل على أن كل من خشى الله فهو عالم، وهو حق ولا يدل على أن كل عالم يخشاه، لكن لما كان العلم به موجبًا للخشية عند عدم المعارض كان عدمه دليلاً على ضعف الأصل، إذ لو قوى لدفع المعارض.
وهكذا لفظ العقل يراد به الغريزة التي بها يعلم، ويراد بها أنواع من العلم، ويراد به العمل بموجب ذلك العلم.
وكذلك لفظ [الجهل] يعبر به عن عدم العلم، ويعبر به عن عدم العمل بموجب العلم، كما قال النبي ﷺ: "إذا كان أحدكم صائمًا فلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم".والجهل هنا هو الكلام الباطل، بمنزلة الجهل المركب، ومنه قول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ج/ 7 ص -540-ومن هذا سميت [الجاهلية] جاهلية، وهي متضمنة لعدم العلم أو لعدم العمل به، ومنه قول النبي ﷺ لأبي ذر"إنك امرؤ فيك جاهلية" لما سَابَّ رجلاً وعَيَّرَهُ بأمِّه، وقد قال تعالى: "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ" [الفتح:26] فإن الغضب والحمية تحمل المرء على فعل ما يضره وترك ما ينفعه، وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره، وترك ما يعلم أنه ينفعه؛ لما في نفسه من البغض والمعاداة الأشخاص وأفعال، وهو في هذه الحال ليس عديم العلم والتصديق بالكلية، لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك لموجب العلم، فدل على ضعف العلم لعدم موجبه ومقتضاه. ولكن ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده، بل عنه وعما في النفس من حب ما ينفعها، وبغض ما يضرها، فإذا حصل لها مرض ففسدت به، أحبت ما يضرها، وأبغضت ما ينفعها، فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له، مع علمه أنه يضره.
قلت: هذا معنى ما روي عن النبي ﷺ"إن الله يحب البَصَرَ النافذ عند وُرُودِ الشُبُهَات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات" رواه البيهقي مرسلاً، وقد قال تعالى: "وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ" [ص: 45]، فوصفهم بالقوة في العمل والبصيرة في العلم، وأصل القوة قوة القلب الموجبة لمحبة الخير وبغض الشر، فإن المؤمن قوته في قلبه وضعفه في جسمه، والمنافق قوته في جسمه وضعفه في قلبه، فالإيمان لابد
ج/ 7 ص -541-فيه من هذين الأصلين: التصديق بالحق والمحبة له، فهذا أصل القول، وهذا أصل العمل.
ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر، والعمل الظاهر ضرورة كما تقدم، فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجبًا لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان، وكل ما سمى إيمانًا فقد غلط بل لابد من العلم والحب، والعلم شرط في محبة المحبوب، كما أن الحياة شرط في العلم، لكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في المحب أحب لأجله؛ ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها وهو يبغضها كما يصدق بوجود الشياطين والكفار ويبغضهم، ونفس التصديق بوجود الشيء لا يقتضي محبته، لكن الله سبحانه يستحق لذاته أن يحب ويعبد، وأن يحب لأجله رسوله، والقلوب فيها معنى يقتضي حبه وطاعته كما فيها معنى يقتضي العلم والتصديق به، فمن صدق به وبرسوله ولم يكن محبًا له ولرسوله لم يكن مؤمنًا حتى يكون فيه مع ذلك الحب له ولرسوله.
وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلوله كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضًا تأثير فيما في القلب. فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له والفرع يستمد من أصله والأصل يثبت ويقوى بفرعه، كما في الشجرة التي يضرب بها المثل لكلمة الإيمان، قال
ج/ 7 ص -542-تعالى: "ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا" [إبراهيم:24، 25] وهي كلمة التوحيد والشجرة كلما قوى أصلها وعرق وروي قويت فروعها، وفروعها أيضًا إذا اغتذت بالمطر والريح أثر ذلك في أصلها.
وكذلك [الإيمان] في القلب و [الإسلام] علانية، ولما كانت الأقوال والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة كان يستدل بها عليها، كما في قوله تعالى: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ" [المجادلة:22]، فأخبر أن من كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر لا يوجدون موادين لأعداء الله ورسوله، بل نفس الإيمان ينافي مودتهم فإذا حصلت الموادة دل ذلك على خلل الإيمان وكذلك قوله: "تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء" [المائدة:80، 81]
وكذلك قوله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحجرات:15]، فأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في قولهم: آمنا، ودل ذلك على أن الناس في قولهم: آمنا، صادق وكاذب، والكاذب فيه نفاق بحسب كذبه، قال تعالى في المنافقين:
ج/ 7 ص -543-"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ" إلى قوله: "وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" [البقرة: 8: 10] وفي "يَكْذِبُونَ" قراءتان مشهورتان.
وفي الحديث "أساس النفاق الذي يبني عليه: الكذب"، وقال تعالى: "إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" [المنافقون:1]، وقال تعالى: "وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ" [التوبة:75: 77]، وقال: "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ" [التوبة:58] ومثل هذا كثير.
وبالجملة، فلا يستريب من تدبر ما يقول، في أن الرجل لا يكون مؤمنًا بمجرد تصديق في القلب مع بغضه لله ولرسوله، واستكباره عن عبادته ومعاداته له ولرسوله؛ ولهذا كان جماهير المرجئة على أن عمل القلب داخل في الإيمان كما نقله أهل المقالات عنهم، منهم الأشعري، فإنه قال في كتابه في [المقالات]: اختلف المرجئة في الإيمان ما هو ؟ وهم اثنتا عشرة فرقة:
الفرقةالأولى منهم: يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسوله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان، والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله، والتعظيم لهما والخوف والعمل بالجوارح فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به وهذا قول يحكى عن الجهم
ج/ 7 ص -544-بن صفوان، قال: وزعمت الجهمية أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة، ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون الجوارح، قال:
والفرقة الثانية من المرجئة: يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر به هو الجهل به فقط، فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به، وأن قول القائل: "إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ" [ المائدة:73] ليس بكفر ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وذلك أن الله كفر من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر، وزعموا أن معرفة الله هي المحبة له وهي الخضوع لله، وأصحاب هذا القول لا يزعمون أن الإيمان بالله إيمان بالرسول، ويقولون: إنه لا يؤمن بالله إلا من آمن بالرسول، ليس ذلك لأن ذلك مستحيل، ولكن الرسول قال"من لم يؤمن بي فليس بمؤمن بالله"، وزعموا أيضًا أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به، وهو معرفته، والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وهو خصلة واحدة، وكذلك الكفر. والقائل بهذا القول أبو الحسين الصالحي.
وقد ذكر الأشعري في كتابه [الموجز] قول الصالحي هذا وغيره، ثم قال: والذي أختاره في الأسماء قول الصالحي: وفي الخصوص والعموم إني لا أقطع بظاهر الخبر على العموم، ولا على الخصوص إذ كان يحتمل في اللغة أن يكون خاصًا ويحتمل أن يكون عامًا، وأقف في ذلك ولا أقطع على عموم ولا على خصوص إلا بتوقيف أو إجماع. ثم قال في [المقالات]:
والفرقةالثالثة من المرجئة: يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله
ج/ 7 ص -545-والخضوع له، وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة لله، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال، فهو مؤمن، وزعموا أن إبليس كان عارفًا بالله غير أنه كفر باستكباره على الله، وهذا قول قوم من أصحاب يونس السمري.
والفرقة الرابعة: وهم أصحاب أبي شَمِر ويونس: يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والمحبة له والخضوع له بالقلب والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء، وإن كانت قد قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم، والمعرفة لما جاء من عند الله عنهم داخل في الإيمان، ولا يسمون كل خصلة من هذه الخصال إيمانًا ولا بعض إيمان، حتى تجتمع هذه الخصال، فإذا اجتمعت سموها إيمانًا لاجتماعها، وشبهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بَلْقاء إلا مع السواد، وجعلوا ترك كل خصلة من هذه الخصال كفرًا ولم يجعلوا الإيمان متبعضًا ولا محتملاً للزيادة والنقصان.
وذكر عن الخامسة أصحاب أبي ثَوْبَان : أن الإيمان هو الإقرار بالله وبرسله وما لا يجوز في العقل إلا أن يفعله.
وذكر عن الفرقة السادسة: أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله وفرائضه المجمع عليها، والخضوع له بجميع ذلك والإقرار باللسان، وزعموا أن خصال الإيمان كل منها طاعة، وأن كل واحدة إذا فعلت دون الأخرى لم تكن طاعة كالمعرفة بلا إقرار، وأن ترك كل خصلة من ذلك معصية، وأن الإنسان لا يكفر
ج/ 7 ص -546-بترك خصلة واحدة، وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم، ويكون بعضهم أعلم وأكثر تصديقًا له من بعض، وأن الإيمان يزيد ولا ينقص، وهذا قول الحسين بن محمد النجار وأصحابه.
والفرقة السابعة: الغَيْلانِيَّة أصحاب غَيْلان: يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية، والمحبة والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله، وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار، فلذلك لم يجعلها من الإيمان، وكل هؤلاء الذين حكينا قولهم من الشَّمريَّة والجَهْمِيَّة والغَيْلانيّة والنَّجَّارية ينكرون أن يكون في الكفار إيمان وأن يقال فيهم بعض إيمان إذ كان الإيمان لا يتبعض عندهم.
قال: والفرقة الثامنة من المرجئة أصحاب محمد بن شبيب يزعمون أن الإيمان: الإقرار بالله والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء. والإقرار والمعرفة بأنبيائه وبرسله وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نص عليه المسلمون ونقلوه عن النبي ﷺ من الصلاة والصيام ونحو ذلك لا نزاع بينهم فيه، والخضوع لله وهو ترك الاستكبار عليه، وزعموا أن إبليس قد عرف الله وأقر به، وإنما كان كافرًا لأنه استكبر، ولولا استكباره ما كان كافرًا، وأن الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله، وأن الخصلة من الإيمان قد تكون طاعة وبعض إيمان، ويكون صاحبها كافرًا بترك بعض الإيمان ولا يكون مؤمنًا إلا بإصابة الكل، وكل رجل يعلم أن الله واحد ليس كمثله
ج/ 7 ص -547-شيء ويجحد الأنبياء فهو كافر بجحده الأنبياء وفيه خصلة من الإيمان، وهي معرفته بالله سبحانه.
الفرقة التاسعة من المرجئة: المنتسبين إلى أبي حنيفة وأصحابه: يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله وبالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير.
الفرقة العاشرة من المرجئة: أصحاب أبي معاذ التُّوْمَنِيّ، يزعمون أن الإيمان ترك ما عظم من الكبائر، وهو اسم لخصال إذا تركها أو ترك خصلة منها كان كافرًا، فتلك الخصلة التي يكفر بتركها إيمان، وكل طاعة إذا تركها التارك لم يجمع المسلمون على تكفيره، فتلك الطاعة شريعة من شرائع الإيمان، تاركها إن كانت فريضة يوصف بالفسق، فيقال له: إنه يفسق ولا يسمى بالفسق، ولا يقال: فاسق، وليست تخرج الكبائر من الإيمان إذا لم تكن كفرًا، وتارك الفرائض مثل الصلاة والصيام والحج على الجحود بها، والرد لها، والاستخفاف بها كافر بالله، وإنما كفر للاستخفاف والرد والجحود، وإن تركها غير مستحل لتركها متشاغلاً مسوفًا، يقول: الساعة أصلي، وإذا فرغت من لهوي وعملي، فليس بكافر، وإن كان يصلي يومًا ووقتًا من الأوقات، ولكن نفسقه. وكان أبو معاذ يقول: من قتل نبيًا أو لطمه كفر، وليس من أجل اللطمة كفر، ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له.
ج/ 7 ص -548-والفرقة الحادية عشرة من المرجئة: أصحاب بِشْر المْريْسِيّ، يقولون: إن الإيمان هو التصديق؛ لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وما ليس بتصديق فليس بإيمان، ويزعم أن التصديق يكون بالقلب وباللسان جميعًا، وإلى هذا القول كان يذهب ابن الراوندي، وكان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد، والإنكار والستر والتغطية، وليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفرًا، ولا يجوز إيمان إلا ما كان في اللغة إيمانًا، وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر، ولا السجود لغير الله كفر، ولكنه علم على الكفر، لأن الله بين أنه لا يسجد للشمس إلا كافر.
قال: والفرقة الثانية عشرة من المرجئة: الكَرَّامِيَّة: أصحاب محمد بن كرام، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب، وأنكروا أن تكون معرفة القلب، أو شيء غير التصديق باللسان إيمانًا.
فهذه الأقوال التي ذكرها الأشعري عن المرجئة يتضمن أكثرها أنه لابد في الإيمان من بعض أعمال القلوب عندهم وإنما نازع في ذلك فرقة يسيرة؛ كجهم والصالحي.
وقد ذكر أيضًا في [المقالات] جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة. قال:
جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله ﷺ، ولا يردون من ذلك شيئًا، وأن الله إله واحد فرد صمد، لم يتخذ صاحبة
ج/ 7 ص -549-ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" [طه:5]، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: "خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" [ص:75]، وكما قال: "بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" [المائدة:64]، وأن له عينين، كما قال: "تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا" [القمر:14]، وأن له وجهًا، كما قال: "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامٌِ" [الرحمن:27]، وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج. إلى أن قال:
ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ بدعة، من قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق. إلى أن قال:
ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وما أصابهم لم يكن ليخطئهم، والإسلام هو: أن تشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان. إلى أن قال:
ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق. وذكر كلامًا طويلاً ثم قال في آخره:
وبكل ما ذكرناه
ج/ 7 ص -550-من قولهم نقول: وإليه نذهب.
فهذا قوله في هذا الكتاب وافق فيه أهل السنة وأصحاب الحديث بخلاف القول الذي نصره في الموجز.
والمقصود هنا أن عامة فرق الأمة تدخل ما هو من أعمال القلوب، حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك، وأما المعتزلة والخوارج وأهل السنة وأصحاب الحديث فقولهم في ذلك معروف، وإنما نازع في ذلك من اتبع جهم بن صفوان من المرجئة، وهذا القول شاذ، كما أن قول الكرامية الذين يقولون: هو مجرد قول اللسان شاذٌّ أيضًا.
وهذا أيضًا مما ينبغي الاعتناء به، فإن كثيرًا ممن تكلم في مسألة الإيمان: هل تدخل فيه الأعمال؟ وهل هو قول وعمل؟ يظن أن النزاع إنما هو في أعمال الجوارح، وأن المراد بالقول قول اللسان، وهذا غلط؛ بل القول المجرد عن اعتقاد الإيمان ليس إيمانًا باتفاق المسلمين، فليس مجرد التصديق بالباطن هو الإيمان عند عامة المسلمين إلا من شذ من أتباع جهم والصالحي، وفي قولهم من السفسطة العقلية والمخالفة في الأحكام الدينية أعظم مما في قول ابن كرام، إلا من شذ من أتباع ابن كرام، وكذلك تصديق القلب الذي ليس معه حب الله ولا تعظيم، بل فيه بغض وعداوة لله ورسله ليس إيمانًا باتفاق المسلمين.
وقول ابن كرام فيه مخالفة في الاسم دون الحكم، فإنه وإن سمى المنافقين مؤمنين يقول: إنهم مخلدون في النار، فيخالف الجماعة في الاسم دون الحكم، وأتباع جهم يخالفون في الاسم والحكم جميعًا.
ج/ 7 ص -551-فصل
إذا عرف أن أصل الإيمان في القلب، فاسم [الإيمان] تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية والأعمال القلبية من التصديق والمحبة والتعظيم ونحو ذلك، وتكون الأقوال الظاهرة والأعمال لوازمه وموجباته ودلائله، وتارة على ما في القلب والبدن جعلا لموجب الإيمان ومقتضاه داخلا في مسماه، وبهذا يتبين أن الأعمال الظاهرة تسمى إسلامًا، وأنها تدخل في مسمى الإيمان تارة، ولا تدخل فيه تارة.
وذلك أن الاسم الواحد تختلف دلالته بالإفراد والاقتران، فقد يكون عند الإفراد فيه عموم لمعنيين، وعند الاقتران لا يدل إلا على أحدهما، كلفظ الفقير والمسكين، إذا أفرد أحدهما تناول الآخر، وإذا جمع بينهما كان لكل واحد مسمى يخصه، وكذلك لفظ المعروف والمنكر إذا أطلقا، كما في قوله تعالى: "يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ" [الأعراف:157] دخل فيه الفحشاء والبغي، وإذا قرن بالمنكر أحدهما، كما في قوله: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" [العنكبوت:45] أو كلاهما كما في قوله تعالى: "وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ" [النحل:90] كان اسم المنكر مختصًا بما خرج من ذلك على قول، أو متناولاً للجميع على قول بناء على
ج/ 7 ص -552-أن الخاص المعطوف على العام هل يمنع شمول العام له؟ أو يكون قد ذكر مرتين. فيه نزاع والأقوال والأعمال الظاهرة نتيجة الأعمال الباطنة ولازمها.
وإذا أفرد اسم [الإيمان] فقد يتناول هذا وهذا، كما في قول النبي ﷺ "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول:لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق".وحينئذ فيكون الإسلام داخلا في مسمى الإيمان وجزءًا منه، فيقال حينئذ: إن الإيمان اسم لجميع الطاعات الباطنة والظاهرة. ومنه قوله ﷺ لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتؤدوا خمس المغنم" أخرجاه في الصحيحين.
ففسر الإيمان هنا بما فسر به الإسلام؛ لأنه أراد بالشهادتين هنا أن يشهد بهما باطنًا وظاهرًا، وكان الخطاب لوفد عبد القيس، وكانوا من خيار الناس وهم أول من صلى الجمعة ببلدهم بعد جمعة أهل المدينة، كما قال ابن عباس: أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة المدينة جمعة ب [جُواثي] قرية من قرى البحرين وقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فَصْلٍ نعمل به وندعو إليه من وراءنا، وأرادوا بذلك أهل نَجْد، من تَمِيم وأسَد وغَطَفَان وغيرهم، كانوا كفارًا، فهؤلاء كانوا صادقين راغبين في طلب الدين، فإذا أمرهم النبي
ج/ 7 ص -553-ﷺ بأقوال وأعمال ظاهرة فعلوها باطنًا وظاهرًا فكانوا بها مؤمنين.
وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام، فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في المسند عن النبي ﷺ أنه قال: "الإسلام عَلانِيَة، والإيمان في القلب، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره".ومتى حصل له هذا الإيمان، وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان، والصلاة والزكاة والصيام والحج، لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله، والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنًا ولا يحصل ذلك في الظاهر، مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد.
وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانًا جازمًا امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام، وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه، في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبًا جازمًا وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك.
وأبو طالب إنما كانت محبته للنبي ﷺ لقرابته منه، لا لله وإنما
ج/ 7 ص -554-نصره وذب عنه لحَمِيَّة النَّسَب والقرابة؛ ولهذا لم يتقبل الله ذلك منه، وإلا فلو كان ذلك عن إيمان في القلب لتكلم بالشهادتين ضرورة، والسبب الذي أوجب نصره للنبي ﷺ وهو الحمية هو الذي أوجب امتناعه من الشهادتين، بخلاف أبي بكر الصديق ونحوه، قال الله تعالى: "وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى" [الليل:17: 21]، ومنشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه:
أحدها: أن العلم والتصديق مستلزم لجميع موجبات الإيمان.
الثاني: ظن الظان أن ما في القلوب لا يتفاضل الناس فيه.
الثالث: ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه.
الرابع:ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق، وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح. والصواب أن القلب له عمل مع التصديق، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر، وكلاهما مستلزم للباطن. والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضًا وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين، ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن،
ج/ 7 ص -555-فبقى النزاع في أن العمل الظاهر: هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان؟
والتحقيق أنه تارة يدخل في الاسم، وتارة يكون لازمًا للمسمى بحسب إفراد الاسم واقترانه فإذا قرن الإيمان بالإسلام كان مسمى الإسلام خارجًا عنه، كما في حديث جبريل، وإن كان لازمًا له، وكذلك إذا قرن الإيمان بالعمل، كما في قوله: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [البينة:7] فقد يقال: اسم الإيمان لم يدخل فيه العمل وإن كان لازمًا له، وقد يقال: بل دخل فيه وعطف عليه عطف الخاص على العام، وبكل حال فالعمل تحقيق لمسمى الإيمان وتصديق له؛ ولهذا قال طائفة من العلماء كالشيخ أبي إسماعيل الأنصاري، وغيره :الإيمان كله تصديق، فالقلب يصدق ما جاءت به الرسل، واللسان يصدق ما في القلب، والعمل يصدق القول، كما يقال:صدق عمله قوله.ومنه قول النبي ﷺ: "العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليد تزني وزناها البَطْش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفَرْج يصدق ذلك أو يكذبه"، والتصديق يستعمل في الخبر، وفي الإرادة، يقال: فلان صادق العزم وصادق المحبة، وحملوا حملة صادقة.
والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة، لما أخرجوا العمل من الإيمان، وقالوا: إن الإيمان يتماثل الناس فيه، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس
ج/ 7 ص -556-من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق، ولا في الحب، ولا في الخشية ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة.
وأيضًا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضًا وهذا باطل قطعًا، فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعًا بالضرورة، وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطؤوا أيضًا لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن.
وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه، هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه، وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول؟ فمن المعلوم أن هذا ممتنع، فلهذا كان الجهاد المتعين بحسب الإمكان من الإيمان، وكان عدمه دليلاً على انتفاء حقيقة الإيمان، بل قد ثبت في الصحيح عنه: "من مات ولم يَغْزُ ولم يُحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق"، وفي الحديث دلالة على أنه يكون فيه بعض شعب النفاق، مع ما معه من الإيمان، ومنه قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحجرات:15].
وأيضًا فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال:
ج/ 7 ص -557-"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، وفي رواية: "وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل".فهذا يبين أن القلب إذا لم يكن فيه بغض ما يكرهه الله من المنكرات كان عادمًا للإيمان، والبغض والحب من أعمال القلوب، ومن المعلوم أن إبليس ونحوه يعلمون أن الله عز وجل حرم هذه الأمور ولا يبغضونها، بل يدعون إلى ما حرم الله ورسوله.
وأيضا، فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث، وكل كلمة من كلام الكفر، ليس هو كفرًا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفًا بالله، موحدًا له، مؤمنا به، فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنًا وظاهرًا، قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك، فيقال لهم: معنا أمرانمعلومان.
أحدهما: معلوم بالاضطرار من الدين.
والثاني: معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل.
أما الأول: فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعًا بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعًا غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله، فهو
ج/ 7 ص -558-كافر باطنًا وظاهرًا، وأن من قال: إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمنًا بالله وإنما هو كافر في الظاهر، فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين. وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن، وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها، ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر، لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبًا، بل كان ينبغي ألا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة، وهذا كقوله تعالى: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ" [المائدة:73]، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ" [المائدة:72] وأمثال ذلك.
وأما الثاني: فالقلب إذا كان معتقدًا صدق الرسول، وأنه رسول الله، وكان محبًا لرسول الله معظمًا له، امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه، فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيمانًا إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب.
وأيضًا، فإن الله سبحانه قال: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ" [النساء:51]، وقال: "الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ" [البقرة:156]، فتبين أن الطاغوت يؤمن به ويكفر به. ومعلوم أن مجرد التصديق بوجوده وما هو عليه من الصفات يشترك فيه المؤمن والكافر؛ فإن الأصنام والشيطان والسحر يشترك في العلم بحاله المؤمن والكافر، وقد قال الله تعالى في السحر: "حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ"
ج/ 7 ص -559-إلى قوله: "وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ" [البقرة:102] فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، يعلمون أنه لا خلاق لهم في الآخرة، ومع هذا فيكفرون.
وكذلك المؤمن بالجبت والطاغوت، إذا كان عالمًا بما يحصل بالسحر من التفريق بين المرء وزوجه، ونحو ذلك من الجبت، وكان عالمًا بأحوال الشيطان والأصنام، وما يحصل بها من الفتنة، لم يكن مؤمنا بها مع العلم بأحوالها. ومعلوم أنه لم يعتقد أحد فيها أنها تخلق الأعيان، وأنها تفعل ما تشاء ونحو ذلك من خصائص الربوبية، ولكن كانوا يعتقدون أنه يحصل بعبادتها لهم نوع من المطالب، كما كانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام وتخبرهم بأمور، وكما يوجد مثل ذلك في هذه الأزمان في الأصنام التي يعبدها أهل الهند والصين والترك وغيرهم، وكان كفرهم بها الخضوع لها والدعاء والعبادة واتخاذها وسيلة ونحو ذلك، لا مجرد التصديق بما يكون عند ذلك من الآثار، فإن هذا يعلمه العالم من المؤمنين ويصدق بوجوده، لكنه يعلم ما يترتب على ذلك من الضرر في الدنيا والآخرة فيبغضه، والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر. يبين ذلك قوله:
ج/ 7 ص -560- "مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ" [النحل:106: 109] فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ" وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا.ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة، والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ماله في الآخرة من خلاق.
وأيضًا، فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره، لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه.
وقوله تعالى: "وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا" أي:لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قول النبي ﷺ: "يصبح الرجل مؤمنًا ويمسى كافرًا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرًا، يبيع دِينَهُ بعَرَضٍ من الدنيا"، والآية نزلت في عمار بن ياسر، وبلال بن رباح، وأمثالهما من المؤمنين
ج/ 7 ص -561-المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي ﷺ، ونحو ذلك من كلمات الكفر، فمنهم من أجاب بلسانه كعَمَّار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه، بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه، لم يتكلم إلا وصدره منشرح به.
وأيضًا، فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي، فقالوا: نشهد إنك لرسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: "فلم لا تتبعوني؟" قالوا:نخاف من يهود، فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم.
فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فكانوا كفارًا في الباطن، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين، فكانوا كفارًا في الظاهر والباطن، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد وأنشد عنه:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينًا
لكن امتنع من الإقرار بالتوحيد والنبوة حبًا لدين سلفه، وكراهة أن يعيره قومه، فلما لم يقترن بعلمه الباطن الحب والانقياد الذي يمنع ما يضاد ذلك من حب الباطل وكراهة الحق لم يكن مؤمنًا.
ج/ 7 ص -562- وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد منع من حب الله، وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، وصار في القلب من كراهية رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كفرًا لا ينفع معه العلم.
فصل
والتفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة:
أحدها: الأعمال الظاهرة: فإن الناس يتفاضلون فيها، وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان. فالنفاة يقولون: هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال: قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازمًا أو جزءًا منه فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان مفردًا، أو مقرونًا بلفظ الإسلام والعمل، كما تقدم.
وأما قولهم: الزيادة في العمل الظاهر لا في موجبه ومقتضيه فهذا غلط،
ج/ 7 ص -563-فإن التفاضل معلول الأشياء. ومقتضاها يقتضي تفاضلها في أنفسها، وإلا فإذا تماثلت الأسباب الموجبة لزم تماثل موجبها ومقتضاها. فتفاضل الناس في الأعمال الظاهرة يقتضي تفاضلهم في موجب ذلك ومقتضيه، ومن هذا يتبين:
الوجه الثاني: في زيادة الإيمان ونقصه: وهو زيادة أعمال القلوب ونقصها، فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن: أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم و نحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"، وقال تعالى: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ" إلى قوله: "أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ" [التوبة:24]. وقال رسول الله ﷺ: "والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده"، وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"، وقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلى من كل شىء إلا من نفسي، قال: "لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك"، قال: فلأنت أحب إلى من نفسي، قال: "الآن يا عمر".
ج/ 7 ص -564-وهذه الأحاديث ونحوها في الصحاح، وفيها بيان تفاضل الحب والخشية، وقد قال تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" [البقرة: 165]، وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة. ولهذا كان أهل المعرفة من أعظم الناس قولاً بدخول الزيادة والنقصان فيه، لما يجدون من ذلك في أنفسهم، ومن هذا قوله تعالى: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران: 173]، وإنما زادهم طمأنينة وسكونًا.
وقال ﷺ: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا".
الوجه الثالث:أن نفس التصديق والعلم في القلب يتفاضل باعتبار الإجمال والتفصيل، فليس تصديق من صدق الرسول مجملاً من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره، كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته، والجنة والنار والأمم وصدقه في ذلك كله، وليس من التزم طاعته مجملاً، ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به، كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلاً وأطاعه فيه.
الوجه الرابع: أن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي، من القدرة، والإرادة، والسمع والبصر، والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك، فإذا كانت القدرة على الشيء تتفاوت فكذلك الإخبار عنه يتفاوت، وإذا قال القائل: العلم بالشيء
ج/ 7 ص -565-الواحد لا يتفاضل، كان بمنزلة قوله:القدرة على المقدور الواحد لا تتفاضل، وقوله: ورؤية الشيء الواحد لا تتفاضل. ومن المعلوم أن الهلال المرئي يتفاضل الناس في رؤيته، وكذلك سمع الصوت الواحد يتفاضلون في إدراكه، وكذلك الكلمة الواحدة يتكلم بها الشخصان ويتفاضلون في النطق بها، وكذلك شم الشيء الواحد وذوقه يتفاضل الشخصان فيه.
فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته، وحركاته، بل وغير صفات الحي، إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر، حتى يقال: ليس أحد من المخلوقين يعلم شيئًا من الأشياء مثل ما يعلمه الله من كل وجه، بل علم الله بالشيء أكمل من علم غيره به كيف ما قدر الأمر، وليس تفاضل العلمين من جهة الحدوث والقدم فقط، بل من وجوه أخري. والإنسان يجد في نفسه أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه كما يتفاضل حاله في سمعه لمسموعه، ورؤيته لمرئيه، وقدرته على مقدوره، وحبه لمحبوبه، وبغضه لبغيضه، ورضاه بمرضيه، وسخطه لمسخوطه، وإرادته لمراده، وكراهيته لمكروهه، ومن أنكر التفاضل في هذه الحقائق كان مسفسطًا.
الوجه الخامس: أن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستند تصديقه ومحبته أدلة توجب اليقين، وتبين فساد الشبهة العارضة، لم يكن بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك، بل من جعل له علوم ضرورية لا يمكنه دفعها عن نفسه لم يكن بمنزلة من تعارضه
ج/ 7 ص -566-الشبه ويريد إزالتها بالنظر والبحث، ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك، وبيان بطلان حجة المحتج عليها ليس كالعلم الذي هو الحاصل عن دليل واحد، من غير أن يعلم الشبه المعارضة له، فإن الشيء كلما قويت أسبابه وتعددت وانقطعت موانعه واضمحلت، كان أوجب لكماله، وقوته وتمامه.
الوجه السادس: أن التفاضل يحصل في هذه الأمور من جهة دوام ذلك وثباته وذكره واستحضاره، كما يحصل البغض من جهة الغفلة عنه والإعراض والعلم والتصديق والحب والتعظيم وغير ذلك، فما في القلب هي صفات وأعراض وأحوال تدوم وتحصل بدوام أسبابها وحصول أسبابها. والعلم وإن كان في القلب فالغفلة تنافي تحققه، والعالم بالشيء في حال غفلته عنه دون العالم بالشيء في ذكره له، قال عُمَير بن حبيب الخَطْمي من أصحاب النبي ﷺ: الإيمان يزيد وينقص، قالوا: وما زيادته ونقصه؟ قال: إذا حمدنا الله وذكرناه وسبحناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه.
الوجه السابع: أن يقال:ليس فيما يقوم بالإنسان من جميع الأمور أعظم تفاضلا وتفاوتًا من الإيمان، فكلما تقرر إثباته من الصفات والأفعال مع تفاضله، فالإيمان أعظم تفاضلا من ذلك. ومثال ذلك أن الإنسان يعلم من نفسه تفاضل الحب الذي يقوم بقلبه، سواء كان حبًا لولده، أو لامرأته،
ج/ 7 ص -567-أو لرياسته، أو وطنه، أو صديقه، أو صورة من الصور، أو خيله، أو بستانه، أو ذهبه، أو فضته، وغير ذلك من أمواله، فكما أن الحب أوله علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب نحوه، ثم غرام للزومه القلب كما يلزم الغريم غريمه، ثم يصير عشقًا إلي أن يصير تَتَيُّمًا والتَّتَيُّم: التَّعَبُّد، وتيم الله: عبد الله فيصير القلب عبدًا للمحبوب مطيعًا له لا يستطيع الخروج عن أمره، وقد آل الأمر بكثير من عشاق الصور إلى ما هو معروف عند الناس، مثل من حمله ذلك على قتل نفسه وقتل معشوقه أو الكفر والردة عن الإسلام أو أفضى به إلى الجنون وزوال العقل، أو أوجب خروجه عن المحبوبات العظيمة من الأهل والمال والرياسة، أو أمراض جسمه وأسنانه.
فمن قال: الحب لا يزيد ولا ينقص، كان قوله من أظهر الأقوال فسادًا، ومعلوم أن الناس يتفاضلون في حب الله أعظم من تفاضلهم في حب كل محبوب، فهو سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ محمد أيضًا خليلاً، كما استفاض عنه أنه قال: "لو كنت متخذًا خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله"، يعني نفسه ﷺ. وقال: "إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلا"، والخُلَّة أخص من مطلق المحبة، فإن الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يحبون الله ويحبهم الله، كما قال: "فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" الآية [المائدة:54]، وقال تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ" [البقرة:165]، وقد أخبر الله أنه يحب المتقين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب
ج/ 7 ص -568-الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وكان النبي ﷺ يخبر بحبه لغير واحد، كما ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال للحسن وأسامة: "اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما"، وقال له عمرو بن العاص: "أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة.قال:فمن الرجال؟ قال: أبوها. وقال: والله إني لأحبكم".
والناس في حب الله يتفاوتون، ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم، إلى أدني الناس درجة، مثل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، و ما بين هذين الحدين من الدرجات لا يحصيه إلا رب الأرض والسموات، فإنه ليس في أجناس المخلوقات ما يتفاضل بعضه على بعض كبني آدم، فإن الفرس الواحدة ما تبلغ أن تساوي ألف ألف. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر أنه كان جالسًا عند النبي ﷺ، إذ مر به رجل من أشراف الناس، فقال: "يا أبا ذر، أتعرف هذا؟". قلت: نعم، يا رسول الله، هذا حَرِيٌّ إن خطب أن ينكح، وإن قال أن يُسْمَع لقوله، وإن غاب أن يسأل عنه. ثم مر برجل من ضعفاء المسلمين، فقال: "يا أبا ذر، أتعرف هذا؟". قلت: نعم يا رسول الله هذا رجل من ضعفاء الناس، هذا حري إن خطب ألا يُنْكَح، وإن قال ألا يُسْمَع لقوله، وإن غاب ألا يسأل عنه، فقال: "يا أبا ذر، لَهَذَا خير من ملء الأرض مثل هذا".
فقد أخبر الصادق الذي لا يجاوز فيما يقول: أن الواحد من بني آدم
ج/ 7 ص -569-يكون خيرًا من ملء الأرض من الآدميين، وإذا كان الواحد منهم أفضل من الملائكة، والواحد منهم شر من البهائم، كان التفاضل الذي فيهم أعظم من تفاضل الملائكة، وأصل تفاضلهم إنما هو بمعرفة الله ومحبته، فعلم أن تفاضلهم في هذا لا يضبطه إلا الله، وكل ما يعلم من تفاضلهم في حب الشيء من محبوباتهم، فتفاضلهم في حب الله أعظم.
وهكذا تفاضلهم في خوف ما يخافونه، وتفاضلهم في الذل والخضوع لما يذلون له ويخضعون، وكذلك تفاضلهم فيما يعرفونه من المعروفات، ويصدقون به ويقرون به، فإن كانوا يتفاضلون في معرفة الملائكة وصفاتهم، والتصديق بهم، فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم.
وكذلك إن كانوا يتفاضلون في معرفة روح الإنسان وصفاتها والتصديق بها، أو في معرفة الجن وصفاتهم وفي التصديق بهم، أو في معرفة ما في الآخرة من النعيم والعذاب كما أخبروا به من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات والمسكونات فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم من تفاضلهم في معرفة الروح التي هي النفس الناطقة، ومعرفة ما في الآخرة من النعيم والعذاب، بل إن كانوا متفاضلين في معرفة أبدانهم وصفاتها وصحتها ومرضها وما يتبع ذلك، فتفاضلهم في معرفة الله أعظم وأعظم، فإن كل ما يعلم ويقال يدخل في معرفة الله، إذ لا موجود إلا وهو خلقه، وكل ما في المخلوقات من الصفات والأسماء والأقدار والأفعال فإنها شواهد ودلائل على
ج/ 7 ص -570- ما لله سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، إذ كل كمال في المخلوقات فمن أثر كماله، وكل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه، وهذا على طريق كل طائفة واصطلاحها. فهذا يقول: كمال المعلول من كمال علته، وهذا يقول: كمال المصنوع المخلوق من كمال صانعه وخالقه.
وفي الحديث الذي رواه أحمد في المسند، ورواه ابن حِبَّان في صحيحه عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ أنه قال: "ما أصاب عبدًا هَمٌّ ولا حَزَن فقال: اللهم إني عَبْدُك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عَدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن رَبيع قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذهاب هَمِّى وغَمِّي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا". قالوا: يا رسول الله، ألا نتعلمهن؟ قال: "بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن".
فقد أخبر في هذا الحديث:أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، وأسماء الله متضمنة لصفاته ليست أسماء أعلام محضة، بل أسماؤه تعالى كالعليم والقدير والسميع والبصير والرحيم والحكيم ونحو ذلك، كل اسم يدل على ما لم يدل عليه الاسم الآخر من معاني صفاته، مع اشتراكها كلها في الدلالة على ذاته، وإذا كان من أسمائه ما اختص هو بمعرفته، ومن أسمائه ما خص به
ج/ 7 ص -571-من شاء من عباده، علم أن تفاضل الناس في معرفته أعظم من تفاضلهم في معرفة كل ما يعرفونه.
وبهذا يتبين لك أن من زعم من أهل الكلام والنظر أنهم عرفوا الله حق معرفته، بحيث لم يبق له صفة إلا عرفوها، وأن ما لم يعرفوه ولم يقم لهم دليل على ثبوته، كان معدومًا منتفيًا في نفس الأمر، قوم غالطون مخطئون مبتدعون ضالون، وحجتهم في ذلك داحضة، فإن عدم الدليل القطعي والظني على الشيء دليل على انتفائه، إلا أن يعلم أن ثبوته مستلزم لذلك الدليل. مثل أن يكون الشيء لو وجد لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، فيكون هذا لازمًا لثبوته، فيستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم، كما يعلم أنه لو كان بين الشام والحجاز مدينة عظيمة مثل بغداد ومصر لكان الناس ينقلون خبرها، فإذا نقل ذلك واحد واثنان وثلاثة علم كذبهم.
وكما يعلم أنه لو ادعى النبوة أحد على عهد النبي ﷺ مثل مُسَيْلَمَة والْعَنْسِيّ وطُلَيْحَة وسَجَاح لنقل الناس خبره، كما نقلوا أخبار هؤلاء، ولو عارض القرآن معارضٌ أتى بما يظن الناس أنه مثل القرآن، لنقل كما نقل قرآن مسيلمة الكذاب، وكما نقلوا الفصول والغايات لأبي العلاء المعَرِّي، وكما نقلوا غير ذلك من أقوال المعارضين، لو بخرافات لا يظن عاقل أنها مثله، فكان النقل لما تظهر فيه المشابهة والمماثلة أقوى في العادة والطباع في ذلك وأرغب سواء كانوا محبين أو مبغضين هذا أمر جُبِل عليه بنو آدم.
ج/ 7 ص -572-كما يعلم أن علي بن أبي طالب لو طلب الخلافة على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وقاتل عليها لنقل ذلك الناس، كما نقلوا ما جرى بعد هؤلاء، كما يعلم أن النبي ﷺ لو أمره أن يصلي بالناس صلاتهم لنقلوا ذلك، كما نقلوا أمره لأبي بكر وصلاته بالناس، وكما يعلم أنه لو عهد له بالخلافة لنقلوا ذلك كما نقلوا ما دونه، بل كما يعلم أنه لم يكن يجتمع هو وأصحابه على استماع دف أو كف ولا على رقص وزمر، بل كما يعلم أنه لم يكن بعد الصلوات يجتمع هو وهم على دعاء ورفع أيد، ونحو ذلك، إذ لو فعل ذلك لنقلوه، بل كما يعلم أنه لم يصل في السفر الظهر والعصر والعشاء أربعًا، وأنه لو صلى في السفر أربعًا بعض الأوقات لنقل الناس ذلك، كما نقلوا جَمْعَه بين الصلاتين بعض الأوقات.
بل كما يعلم أنه لم يكن يصلي المكتوبات وحده، بل إنما كان يصليهن في الجماعة، بل كما يعلم أنه لم يكن هو وأصحابه يحملون التراب في السفر للتيمم، ولا يصلون كل ليلة على من يموت من المسلمين، ولا ينوون الاعتكاف كلما دخلوا مسجدًا للصلاة، بل كما يعلم أنه لم يصل على غائب غير النجاشي، بل كما يعلم أنه لو كان دائمًا يَقْنُتُ في الفجر أو غيرها بقنوت مسنون يجهر به لنقل الناس ذلك كما نقلوا قنوته العارض الذي دعا فيه لقوم وعلى قوم، وكان نقلهم لذلك أوكد وكما يعلم أنه لما صلى بعرفة ومزدلفة قصرًا وجمعًا لو أمر أحدًا خلفه أن يتم صلاته، أو ألا يجمع معه لنقل الناس ذلك، كما نقلوا ما هو دون ذلك.
ج/ 7 ص -573-وكما يعلم أنه لم يأمر الحُيَّض في زمانه المبتدآت بالحيض، أن يغتسلن عند انقضاء يوم وليلة، وأنه لم يأمر أصحابه أن يغسلوا ما يصيب أبدانهم وثيابهم من المني، وأنه لم يوقت للناس لفظًا معينًا لا في نكاح ولا في بيع ولا إجارة ولا غير ذلك. ولما حج حجة الوداع لم يعتمر عقيب الحج، وأنه لما أفاض من منى إلى مكة يوم النحر، ما طاف وسعى أولاً ثم طاف ثانيًا، إلى غير ذلك مما يطول ذكره، ومن تتبع كتب الصحيحين ونحوها من الكتب المعتمدة، ووقف على أقوال الصحابة والتابعين ومن قفا منهاجهم من الأئمة المرضيين قديماً وحديثًا علم صحة ما أوردناه في هذا الباب.
والمقصود هنا أن المدلول إذا كان وجوده مستلزمًا لوجود دليله، كان انتفاء دليله دليلاً على انتفائه، أما إذا أمكن وجوده وأمكن ألا نعلم نحن دليل ثبوته لم يكن عدم علمنا بدليل وجوده دليلاً على عدمه، فأسماء الله وصفاته إذا لم يكن عندنا ما يدلنا عليها لم يكن ذلك مستلزمًا لانتفائها، إذ ليس في الشرع ولا في العقل ما يدل على أنا لابد أن نعلم كل ما هو ثابت له تعالى من الأسماء والصفات، بل قد قال أفضل الخلق وأعلمهم بالله في الحديث الصحيح: "لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، وفي الحديث الصحيح، حديث الشفاعة: "فأخر ساجدًا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها عليَّ لا أحصيها الآن".
فإذا كان أفضل الخلق لا يحصى ثناء عليه، ولا يعرف الآن محامده التي يحمده بها عند السجود للشفاعة، فكيف يكون غيره عارفًا بجميع محامد الله
ج/ 7 ص -574-والثناء عليه، وكل ما له من الأسماء الحسنى فإنه داخل في محامده وفيما يثنى عليه به وإذا كان كذلك فمن كان بما له من الأسماء والصفات أعلم وأعرف كان بالله أعلم وأعرف، بل من كان بأسماء النبي ﷺ وصفاته أعلم كان بالنبي ﷺ أعلم، فليس من علم أنه نبي كمن علم أنه رسول، ولا من علم أنه رسول كمن يعلم أنه خاتم الرسل ولا من علم أنه خاتم الرسل كمن علم أنه سيد ولد آدم، ولا من علم ذلك كمن علم ما خصه الله به من الشفاعة والحوض والمقام المحمود والملة وغير ذلك من فضائله ﷺ، وليس كل من جهل شيئًا من خصائصه يكون كافرًا، بل كثير من المؤمنين لم يسمع بكثير من فضائله وخصائصه، فكذلك ليس كل من جهل بعض أسماء الله وصفاته يكون كافرًا، إذ كثير من المؤمنين لم يسمع كثيرًا مما وصفه به رسوله، وأخبر به عنه.
فهذه الوجوه ونحوها مما تبين تفاضل الإيمان الذي في القلب، وأما تفاضلهم في الأقوال والأعمال الظاهرة فلا تشتبه على أحد، والله أعلم.
ج/ 7 ص -575-فصل
إذا تبين هذا، وعلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد، وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه زالت الشبه العلمية في هذه المسألة، ولم يبق إلا نزاع لفظي، في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه فيكون لفظ الإيمان دالاً عليه بالتضمن والعموم؟ أو هو لازم للإيمان ومعلول له وثمرة له، فتكون دلالة الإيمان عليه بطريق اللزوم؟
وحقيقة الأمر: أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا، كما قد تقدم، فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو العمل كان دالاً على الباطن فقط، وأن إفراد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص، فقوله: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول:لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، أفرد لفظ الإيمان فدخل فيه الباطن والظاهر، وقوله ﷺ في حديث جبريل: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" ذكره مع قوله ﷺ: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
ج/ 7 ص -576-الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت"، فلما أفرده عن اسم الإسلام ذكر ما يخصه الاسم في ذاك الحديث مجردًا عن الاقتران. وفي هذا الحديث مقرون باسم الإسلام، وقوله تعالى: "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ" [ آل عمران:85] دخل فيه الباطن، فلو أتى بالعمل الظاهر دون الباطن لم يكن ممن أتى بالدين الذي هو عند الله الإسلام.
وأما إذا قرن الإسلام بالإيمان، كما في قوله تعالى: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا" [الحجرات:14]، وقوله: "فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ" [الذاريات:35، 36]، وقوله تعالى: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" [الأحزاب:35] فقد يراد بالإسلام الأعمال الظاهرة كما في حديث أنس الذي في [المسند] عن النبي ﷺ أنه قال: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب"، ومن علم أن دلالة اللفظ تختلف بالإفراد والاقتران، كما في اسم الفقير والمسكين، والمعروف والمنكر والبغي وغير ذلك من الأسماء، وكما في لغات سائر الأمم عربها وعجمها زاحت عنه الشبهة في هذا الباب والله أعلم.
فإن قال قائل: اسم الإيمان إنما يتناول الأعمال مجازًا. قيل أولا: ليس هذا بأولى ممن قال: إنما تخرج عنه الأعمال مجازًا، بل هذا أقوى، لأن خروج العمل عنه إنما هو إذا كان مقرونًا باسم الإسلام والعمل، وأما دخول العمل فيه فإذا أفرد كما في قوله ﷺ: "الإيمان بضع وسبعون شعبة
ج/ 7 ص -577-أعلاها قول:لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" فإن ما يدل مع الاقتران أولى باسم المجاز مما يدل عند التجريد والإطلاق.
وقيل له ثانيا: لا نزاع في أن العمل الظاهر هو فرع عن الباطن وموجب له ومقتضاه، لكن هل هو داخل في مسمى الاسم وجزء منه، أو هو لازم للمسمى كالشرط المفارق، والموجب التابع؟ ومن المعلوم أن الأسماء الشرعية والدينية: كاسم [الصلاة]و[الزكاة] و[الحج] ونحو ذلك، هي باتفاق الفقهاء اسم لمجموع الصلاة الشرعية والحج الشرعي، ومن قال: إن الاسم إنما يتناول ما يتناوله عند الإطلاق في اللغة، وإن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم، كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى، ومن وافقهما، على أن الشرع زاد أحكامًا شرعية جعلها شروطًا في القصد، والأعمال والدعاء، ليست داخلة في مسمي الحج والصيام، والصلاة، فقولهم مرجوع عند الفقهاء وجماهير المنسوبين إلى العلم؛ ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول.
فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقًا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مستلزمًا لحب الله ورسوله ونحو ذلك، هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول فليس دونه في الضعف، فكذلك من قال: الأعمال الظاهرة
ج/ 7 ص -578-لوازم للباطن، لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء، والشارع إذا قرن بالإيمان العمل فكما يقرن بالحج ما هو من تمامه، كما إذا قال: من حج البيت وطاف وسعى ووقف بعرفة ورمى الجمار، ومن صلى فقرأ وركع وسجد، كما قال: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ومعلوم أنه لم يكن صومًا شرعيا إن لم يكن إيمانًا واحتسابًا.
وقال: "من حج هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه". ومعلوم أن الرفث الذي هو الجماع يفسد الحج، والفسوق ينقص ثوابه، وكما قال ﷺ: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا". فلا يكون مصليًا إن لم يستقبل قبلتنا في الصلاة، وكما قال ﷺ: "خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له".فذكر المحافظ عليها، ومعلوم أنه لا يكون مصليًا لها على الوجه المأمور إلا بالمحافظة عليها، ولكن بين أن الوعيد مشروط بذلك؛ ولهذا لا يلزم من عدم المحافظة ألا يصليها بعد الوقت فلا يكون محافظا عليها؛ إذ المحافظة تستلزم فعلها كما قال: "حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى" [البقرة:238] نزلت لما أخرت العصر عام الخندق، قال النبي ﷺ: "ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس".
ج/ 7 ص -579-وبهذا يظهر أن الاحتجاج بذلك على أن تارك الصلاة لا يكفر حجة ضعيفة، لكنه يدل على أن تارك المحافظة لا يكفر، فإذا صلاها بعد الوقت لم يكفر، ولهذا جاءت في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قيل: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا"، وكذلك لما سئل ابن مسعود عن قوله تعالى: "أَضَاعُوا الصَّلَاةَ" [مريم:59]، قال: هو تأخيرها عن وقتها، فقيل له: كنا نظن ذلك تركها، فقال: لو تركوها كانوا كفارا.
والمقصود أنه قد يدخل في الاسم المطلق أمور كثيرة وإن كانت قد تخص بالذكر.
وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي، فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبًا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن، فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيًا وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة، قيل لك: فهذا يناقض قولك: إن الظاهر لازم له وموجب له، بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم، وهذا حقيقة قولك.
ج/ 7 ص -580-وهو أيضًا خطأ عقلاً كما هوخطأ شرعًا، وذلك أن هذا ليس بدليل قاطع، إذ هذا يظهر من المنافق فإنما يبقى دليلاً في بعض الأمور المتعلقة بدار الدنيا كدلالة اللفظ على المعنى، وهذا حقيقة قولك، فيقال لك: فلا يكون ما يظهر من الأعمال ثمرة للإيمان الباطن ولاموجبًا له ومن مقتضاه، وذلك أن المقتضى لهذا الظاهر إن كان هو نفس الإيمان الباطن لم يتوقف وجوده على غيره، فإن ما كان معلولاً للشيء وموجبا له لا يتوقف على غيره، بل يلزم من وجوده وجوده، فلو كان الظاهر موجب الإيمان الباطن لوجب ألا يتوقف على غيره، بل إذا وجد الموجب وجد الموجب.
وأما إذا وجد معه تارة وعدم أخرى أمكن أن يكون من موجب ذلك الغير، وأمكن أن يكون موقوفًا عليهما جميعًا، فإن ذلك الغير إما مستقل بالإيمان أو مشارك للإيمان، وأحسن أحواله أن يكون الظاهر موقوفًا عليهما معًا على ذلك الغير، وعلى الإيمان، بل قد علم أنه يوجد بدون الإيمان كما في أعمال المنافق، فحينئذ لا يكون العمل الظاهر مستلزمًا للإيمان، ولا لازمًا له، بل يوجد معه تارة ومع نقيضه تارة، ولا يكون الإيمان علة له ولا موجبًا ولا مقتضيًا، فيبطل حينئذ أن يكون دليلاً عليه؛ لأن الدليل لابد أن يستلزم المدلول، وهذا هو الحق فإن مجرد التكلم بالشهادتين ليس مستلزمًا للإيمان النافع عند الله.
ولهذا قال النبي ﷺ لسعد لما قال:هو مؤمن.قال "أو
ج/ 7 ص -581-مسلم؟"، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ" [الممتحنة:10]، فدل ذلك على أن مجرد إظهار الإسلام لا يكون دليلاً على الإيمان في الباطن؛ إذ لو كان كذلك لم تحتج المهاجرات اللاتي جئن مسلمات إلى الامتحان، ودل ذلك على أنه بالامتحان والاختبار يتبين باطن الإنسان، فيعلم أهو مؤمن أم ليس بمؤمن، كما في الحديث المرفوع: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان".فإن الله يقول: "إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ" الآية [التوبة:18].
فإذا قيل:الأعمال الظاهرةتكون من موجب الإيمان تارة، وموجب غيره أخرى، كالتكلم بالشهادتين، تارة يكون من موجب إيمان القلب، وتارة يكون تقية كإيمان المنافقين، قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ" [البقرة: 8]، ونحن إذا قلنا: هي من ثمرة الإيمان إذا كانت صادرة عن إيمان القلب لا عن نفاق، قيل: فإذا كانت صادرة عن إيمان، إما أن يكون نفس الإيمان موجبًا لها، وإما أن تقف على أمر آخر، فإذا كان نفس الإيمان موجبًا لها ثبت أنها لازمة لإيمان القلب معلولة لا تنفك عنه، وهذا هو المطلوب، وإن توقفت على أمر آخر كان الإيمان جزء السبب جعلها ثمرة للجزء الآخر ومعلولة له، إذ حقيقة الأمر أنها معلولة لهما وثمرة لهما.
فتبين أن الأعمال الظاهرة الصالحة لا تكون ثمرة للإيمان الباطن ومعلولة
ج/ 7 ص -582-له، إلا إذا كان موجبًا لها ومقتضيًا لها، وحينئذ فالموجب لازم لموجبه والمعلول لازم لعلته، وإذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما يلزم من نقص هذا نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع.
وبهذا وغيره، يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في [الإيمان] كالأشعري في أشهر قوليه، و أكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة، كالماتريدي ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد لا يتبعض، وأنه يمكن وجود الإيمان تامًا في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعًا من غير إكراه، وأن ما علم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر، فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب، في الأفعال... وأن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب، بل يوجد إيمان القلب تامًا بدونها، فإن هذا القول فيه خطأ من وجوه:
أحدها: أنهم أخرجوا ما في القلوب من حب الله وخشيته ونحو ذلك
ج/ 7 ص -583-أن يكون من نفس الإيمان.
وثانيها: جعلوا ما علم أن صاحبه كافر مثل إبليس وفرعون واليهود وأبي طالب، وغيرهم أنه إنما كان كافرًا، لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن، وهذا مكابرة للعقل والحس، وكذلك جعلوا من يبغض الرسول ويحسده كراهة دينه مستلزمًا لعدم العلم بأنه صادق ونحو ذلك.
وثالثها: أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر من سب الله ورسوله والتثليث وغير ذلك قد يكون مجامعًا لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحب ذلك مؤمنًا عند الله حقيقة، سعيدًا في الدار الآخرة، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام.
ورابعها: أنهم جعلوا من لا يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه وقدرته، يكون مؤمنًا بالله تام الإيمان سعيدًا في الدار الآخرة. وهذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء وغيرهم.
وخامسها: وهو يلزمهم ويلزم المرجئة، أنهم قالوا: إن العبد قد يكون مؤمنِا تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين، ولو لم يعمل خيرًا لا صلاة، ولا صلة ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها، فيكون
ج/ 7 ص -584-الرجل عندهم، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذ ائتمن خان، هو مُصِرٌّ على دوام الكذب والخيانة ونقض العهود، لا يسجد لله سجدة، ولا يحسن إلى أحد حسنة، ولا يؤدي أمانة، ولا يدع ما يقدر عليه من كذب وظلم وفاحشة إلا فعلها، وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء، وهذا يلزم كل من لم يقل: إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان الباطن، فإذا قال: إنها من لوازمه، وأن الإيمان الباطن يستلزم عملاً صالحًا ظاهرًا كان بعد ذلك قوله: إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان، أو جزءًا منه نزاعًا لفظيًا، كما تقدم.
وسادسها: أنه يلزمهم أن من سجد للصليب والأوثان طوعًا، وألقى المصحف في الحُش ِّعمدًا، وقتل النفس بغير حق، وقتل كل من رآه يصلي، وسفك دم كل من يراه يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين، يجوز أن يكون مع ذلك مؤمنًا وليًا لله، إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين، ؛ لأن الإيمان الباطن إما أن يكون منافيًا لهذه الأمور وإما ألا يكون منافيًا، فإن لم يكن منافيًا أمكن وجودها معه، فلا يكون وجودها إلا مع عدم الإيمان الباطن.
وإن كان منافيا للإيمان الباطن كان ترك هذه من موجب الإيمان ومقتضاه ولازمه، فلا يكون مؤمنًا في الباطن الإيمان الواجب إلا من ترك هذه الأمور، فمن لم يتركها دل ذلك على فساد إيمانه الباطن، وإذا كانت الأعمال والتروك
ج/ 7 ص -585-الظاهرة لازمة للإيمان الباطن كانت من موجبه ومقتضاه، وكان من المعلوم أنها تقوى بقوته، وتزيد بزيادته، وتنقص بنقصانه، فإن الشيء المعلول لا يزيد إلا بزيادة موجبه ومقتضيه، ولا ينقص إلا بنقصان ذلك، فإذا جعل العمل الظاهر موجب الباطن ومقتضاه لزم أن تكون زيادته لزيادة الباطن، فيكون دليلاً على زيادة الإيمان الباطن ونقصه لنقص الباطن، فيكون نقصه دليلاً على نقص الباطن، وهو المطلوب.
وهذه الأمور كلها إذا تدبرها المؤمن بعقله، تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق، الذي لا عدول عنه، وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول، وصحيح المنقول كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والأئمة، والله أعلم.
وقول جهم ومن وافقه: إن الإيمان مجرد العلم والتصديق، وهو بذلك وحده يستحق الثواب والسعادة، يشبه قول من قال من الفلاسفة المشائين وأتباعهم: إن سعادة الإنسان في مجرد أن يعلم الوجود على ما هو عليه، كما أن قول الجهمية وهؤلاء الفلاسفة في [مسائل الأسماء والصفات] و[مسائل الجبر، والقدر] متقاربان، وكذلك في [مسائل الإيمان]، وقد بسطنا الكلام على ذلك وبينا بعض ما فيه من الفساد في غير هذا الموضع، مثل أن العلم هو أحد قوتي النفس، فإن النفس لها قوتان: قوة العلم والتصديق، وقوة الإرادة والعمل، كما أن الحيوان له قوتان: قوة الحس، وقوة الحركة بالإرادة.
ج/ 7 ص -586-وليس صلاح الإنسان في مجرد أن يعلم الحق، دون ألا يحبه ويريده ويتبعه. كما أنه ليس سعادته في أن يكون عالما بالله، مقرًا بما يستحقه، دون أن يكون محبًا لله، عابدًا لله، مطيعًا لله، بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فإذا علم الإنسان الحق وأبغضه وعاداه، كان مستحقًا من غضب الله وعقابه، ما لا يستحقه من ليس كذلك، كما أن من كان قاصدًا للحق طالبًا له وهو جاهل بالمطلوب وطريقه كان فيه من الضلال، وكان مستحقًا من اللعنة التي هي البعد عن رحمة الله ما لا يستحقه من ليس مثله؛ ولهذا أمرنا الله أن نقول: "اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" [الفاتحة:6، 7].
والمغضوب عليهم علموا الحق فلم يحبوه ولم يتبعوه، والضالون قصدوا الحق لكن بجهل وضلال به وبطريقه، فهذا بمنزلة العالم الفاجر، وهذا بمنزلة العابد الجاهل، وهذا حال اليهود فإنه مغضوب عليهم، وهذا حال النصارى فإنهم ضالون، كما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون".
والمتفلسفة أسوأ حالا من اليهود والنصارى، فإنهم جمعوا بين جهل هؤلاء وضلالهم، وبين فجور هؤلاء وظلمهم، فصار فيهم من الجهل والظلم ما ليس في اليهود ولا النصارى، حيث جعلوا السعادة في مجرد أن يعلموا الحقائق حتى يصير الإنسان عالمًا معقولاً مطابقًا للعالم الموجود، ثم لم ينالوا من معرفة الله
ج/ 7 ص -587-وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وخلقه وأمره إلا شيئًا نزرًا قليلاً، فكان جهلهم أعظم من علمهم، وضلالهم أكبر من هداهم، وكانوا مترددين بين الجهل البسيط، والجهل المركب، فإن كلامهم في الطبيعات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي، وكلامهم فيه: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل.
فإن كلامهم في واجب الوجود ما بين حق قليل، وباطل فاسد كثير، وكذلك في العقول والنفوس التي تزعم أتباعهم من أهل الملل أنها الملائكة التي أخبرت بها الرسل، وليس الأمر كذلك، بل زعمهم أن هؤلاء هم الملائكة من جنس زعمهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق مع اعترافهم بأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان، وكذلك كلامهم في العقول والنفوس يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان، ثم فيه من الشرك بالله وإثبات رب مبدع لجميع العالم سواه لكنه معلول له وإثبات رب مبدع لكل ما تحت فلك القمر هو معلول الرب، فوقه ذلك الرب معلول لرب فوقه، ما هو أقبح من كلام النصارى في قولهم: إن المسيح ابن الله بكثير كثير، كما بسط في غير هذا الموضع.
وليس لمقدميهم كلام في النبوات البتة، ومتأخروهم حائرون فيها، منهم من يكذب بها، كما فعل ابن زكريا الرازي وأمثاله مع قولهم بحدوث العالم.
ج/ 7 ص -588-أثبتوا القدماء الخمسة وأخذوا من المذاهب ما هو من شرها وأفسدها، ومنهم من يصدق بها مع قوله بقدم العالم، كابن سينا، وأمثاله، لكنهم يجعلون النبي بمنزلة ملك عادل، فيجعلون النبوة كلها من جنس ما يحصل لبعض الصالحين من الكشف والتأثير والتخيل، فيجعلون خاصة النبي ثلاثة أشياء: قوة الحدس الصائب، التي يسمونه القوة القدسية، وقوة التأثير في العالم، وقوة الحس، التي بها يسمع ويبصر المعقولات متخيلة في نفسه، فكلام الله عندهم هو ما في نفسه من الأصوات، وملائكته هي ما في أنفسهم من الصور والأنوار، وهذه الخصال تحصل لغالب أهل الرياضة والصفا؛ فلهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة.
وصار كل من سلك سبيلهم كالسهروردي المقتول، وابن سبعين المغربي وأمثالهما يطلب النبوة ويطمع أن يقال له: قم فأنذر، هذا يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر وهذا يجاور بمكة ويعمد إلى غار حراء، ويطلب أن ينزل عليه فيه الوحي، كما نزل على المزمل والمدثر مثله، وكل منهما ومن أمثالهما يسعى بأنواع السيمياء التي هي من السحر، ويتوهم أن معجزات الأنبياء كانت من جنس السحر السيمائي.
ومن لم يمكنه طلب النبوة وادعاؤها لعلمه بقول الصادق المصدوق: "لا نبى بعدى"، أو غير ذلك كابن عربي وأمثاله طلب ما هو أعلا من النبوة، وأن خاتم الأولياء أعظم من خاتم الأنبياء، وأن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة،
ج/ 7 ص -589-والنبي يأخذ بواسطة الملك. وبنى ذلك على أصل متبوعيه الفلاسفة، فإن عندهم ما يتصور في نفس النبي أو الولي هي الملائكة من الأشكال النورانية الخيالية، [فالملائكة] عندهم ما يتخيله في نفسه، و[النبي] عندهم ما يتلقى بواسطة هذا التخيل، [والولي] يتلقى المعارف العقلية بدون هذا التخيل، ولا ريب أن من تلقى المعارف بلا تخيل كان أكمل ممن تلقاها بتخيل.
فلما اعتقدوا في النبوة ما يعتقده هؤلاء المتفلسفة، صاروا يقولون أن الولاية أعظم من النبوة، كما يقول كثير من الفلاسفة أن الفيلسوف أعظم من النبي، فإن هذا قول الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما، وهؤلاء يقولون: النبوة أفضل الأمور عند الجمهورلا عند الخاصة، ويقولون: خاصة النبي جودة التخييل، والتخيل.
فجاء هؤلاء الذين أخرجوا الفلسفة في قالب الولاية، وعبروا عن المتفلسف بالولي، وأخذوا معاني الفلاسفة، وأبرزوها في صورة المكاشفة، والمخاطبة. وقالوا: أن الولي أعظم من النبي، لأن المعاني المجردة يأخذها عن الله بلا واسطة تخيل لشيء في نفسه، والنبي يأخذها بواسطة ما يتخيل في نفسه من الصور والأصوات.
ولم يكفهم هذا البهتان حتى ادعوا أن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم هؤلاء الأولياء، الذي هو من أجهل الخلق بالله، وأبعدهم عن دين الله.
والعلم بالله هو عندهم بأنه الوجود المطلق الساري في الكائنات، فوجود كل موجود هو عين وجود واجب الوجود، وحقيقة هذا القول قول الدهرية الطبعية، الذين ينكرون أن يكون للعالم
ج/ 7 ص -590-مبدع ابدعه هو واجب الوجود بنفسه، بل يقولون العالم نفسه واجب الوجود بنفسه، فحقيقة قول هؤلاء شر من قول الدهرية الالهيين، وهو يعود عند التحقق إلى قول الدهرية الطبيعيين.
وقد حدثونا أن ابن عربي تنازع هو والشيخ أبو حفص السهروردي، هل يمكن وقت تجلي الحق لعبد مخاطبة له أم لا؟ فقال الشيخ أبو حفص السهروردي: نعم يمكن ذلك. فقال ابن عربي: لا يمكن ذلك. وأظن الكلام كان في غيبة كل منهما عن صاحبه، فقيل لابن عربي: أن السهروردي يقول: كذا وكذا. فقال: مسكين! نحن تكلمنا في مشاهدة الذات، وهو يتكلم في مشاهدة الصفات.
وكان كثير من أهل التصوف، والسلوك، والطالبين لطريق التحقيق والعرفان؛ مع أنهم يظنون أنهم متابعون للرسل، وأنهم متقون للبدع المخالفة له، يقولون هذا الكلام ويعظمونه ويعظمون ابن عربي لقوله مثل هذا، ولا يعلمون أن هذا الكلام بناه على أصله الفاسد في الإلحاد، الذي يجمع بين التعطيل والاتحاد، فإن حقيقة الرب عنده وجود مجرد لا اسم له، ولا صفة، ولا يمكن أن يرى في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا له كلام قائم به، ولا علم ولا غير ذلك، ولكن يرى ظاهرا في المخلوقات متجليا في المصنوعات، وهو عنده غير وجود الموجودات، وشبهه تارة بظهور الكلي في جزئياته، كظهور الجنس في أنواعه والنوع في الخاصة، كما تظهر الحيوانية في كل حيوان، والانسانية في كل إنسان.
وهذا بناه على غلط أسلافه المنطقيين اليونانيين حيث ظنوا أن
ج/ 7 ص -591-الموجودات العينية يقارنها جواهر عقلية بحسب ما تحمل لها من الكليات، فيظنون أن في الانسان المعين انسانا عقليا، وحيوانا عقليا، وناطقا عقليا، وحساساعقليا، وجسما عقليا، وذاك هو الماهية التى يعرض لها الوجود، وتلك الماهية مشتركة بين جميع المعينات، وهذا الكلام له وقع عند من لم يفهمه ويتدبره، فإذا فهم حقيقته تبين له أنه بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء، وإنما ذلك لمخالفته للحس والعقل، وإنما أتى فيه هؤلاء من حيث أنهم تصوروا في أنفسهم معاني كلية مطلقة فظنوا أنها موجودة في الخارج فضلا لهم في هذا عكس ضلالهم في أمر الأنبياء شاهدت أمورا خارجة عن أنفسهم، فزعم هؤلاء الملاحدة أن تلك كانت في أنفسهم، وهؤلاء الملاحدة شهدوا في أنفسهم أمورا كلية مطلقة فظنوا أنها في الخارج وليست إلا في أنفسهم، فجعلوا ما في أنفسهم في الخارج وليس فيه، وجعلوا ما أخبرت به الانبياء في أنفسهم، وإنما هو في الخارج، فلهذا كانوا مكذبين بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، ثم جعلوا وجود الرب الخالق للعالمين البائن عن مخلوقاته أجمعين هو من جنس وجود الإنسانية في الأناسي، والحيوانية في الحيوان، أو ما أشبه ذلك كوجود الوجود في الثبوت عند من يقول المعدوم شيء، فإنهم أرادوا أن يجعلوه شيئا موجودا في المخلوقات مع مغايرته لها، فضربوا له مثلا تارة بالكليات، وتارة بالمادة والصورة، وتارة بالوجود المغاير للثبوت، وإذا مثلوه بالمحسوسات مثلوه بالشعاع في الزجاج أو بالهواء في الصوفة،
ج/ 7 ص -592-فضربوا لرب العالمين الأمثال، فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، وهم في هذه الأمثال ضالون من وجوه:
أحدها: إنما مثلوا به من المادة مع الصورة، والكليات مع الجزئيات، والوجود مع الثبوت، كل ذلك يرجع عند التحقيق إلى شيء واحد لا شيئين، فجعلوا الواحد اثنين، كما جعلوا الاثنين واحدا في مثل صفات الله يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو المعلوم، والعلم هو القدرة، والعلم هو الإرادة، وأنواع هذه الأمور التي إذا تدبرها العاقل تبين له أن هؤلاء من أجهل الناس بالأمور الالهية، وأعظم الناس قولا للباطل مع ما في نفوسهم ونفوس أتباعهم من الدعاوي الهائلة الطويلة العريضة، كما يدعي إخوانهم القرامطة الباطنية أنهم أئمة معصومون مثل الأنبياء، وهم من أجهل الناس وأضلهم وأكفرهم.
الثاني: أنهم على كل تقدير من هذه التقديرات يجعلون وجوده مشروطا بوجود غيره الذي ليس هو مبدعا له، فإن وجود الكليات في الخارج مشروط بالجزئيات، ووجود المادة مشروط بالصورة، وكذلك بالعكس، ووجود الأعيان مشروط بثبوتها المستقر في العدم فيلزمهم على كل تقدير أن يكون واجب الوجود مشروطا بما ليس هو من مبدعاته، وما كان وجوده موقوفا على غيره، الذي ليس هو مصنوعا له لم يكن واجب الوجود بنفسه، وهذا بين.
ج/ 7 ص -593-الثالث: أن هذا الكلام يعود عند التحقيق إلى أن يكون وجود الخالق عين وجودالمخلوقات، وهم يصرحون بذلك، لكن يدعون المغايرة بين الوجود والثبوت أو بين الوجود والماهية وبين الكل والجزء، وهو المغايرة بين المطلق
والمعين؛ فلهذا كانوا يقولون بالحلول تارة يجعلون الخالق حالا في المخلوقات
وتارة محلا لها، وإذا حقق الأمر عليهم بعدم المغايرة كان حقيقة قولهم أن الخالق هو نفس المخلوقات، فلا خالق ولا مخلوق وإنما العالم واجب الوجود بنفسه.
الرابع: أنهم يقرون بما يزعمونه من التوحيد عن التعدد في صفاته الواجبة وأسمائه، وقيام الحوادث به وعن كونه جسما أو جوهرا ثم هم عند التحقيق يجعلونه عين الأجسام الكائنة الفاسدة المستقذرة، ويصفونه بكل نقص، كما صرحوا بذلك قالوا: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص، وبصفات الذم. وقالوا: العلي لذاته هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، فهو متصف عندهم بكل صفة مذمومة، كما هو متصف بكل صفة محمودة.
وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، فإن أمرهم أعظم من أن يبسط هنا.
ولكن المقصود التنبيه على تشابه رؤوس الضلال حتى إذا فهم المؤمن
ج/ 7 ص -594-قول أحدهم أعانه على فهم قول الآخر، واحترز منهم وبين ضلالهم لكثرة ما أوقعوا في الوجود من الضلالات، فابن عربي بزعمه إنما تجلي الذات عنده شهود مطلق، هو وجود الموجودات مجردا مطلقا لا اسم له ولا نعت، ومعلوم
أن من تصور هذا لم يمكن أن يحصل له عند خطاب، فلهذا زعم أن عند تجلي الذات لا يحصل خطاب. وأما أبو حفص السهروردي، فكان أعلم بالسنة، وأتبع للسنة من هذا، وخير منه، وقد رأى أن ما جاءت به الأحاديث من أن الله يتجلى لعباده ويخاطبهم حين تجليه لهم فآمن بذلك، لكن ابن عربي في فلسفته أشهر من هذا في سنته، ولهذا كان أتباعهما يعظمون ابن عربي عليه مع إقرارهم بأن السهروردي أتبع للسنة، كما حدثني الشيخ الملقب بحسام الدين القادم السالك طريق ابن حمويه، الذي يلقبه أصحابه سلطان الأقطاب، وكان عنده من التعظيم لابن عربي وابن حمويه والغلو فيهما أمر عظيم، فبينت له كثيرا مما يشتمل عليه كلامهما من الفساد، والالحاد، والأحاديث المكذوبة على النبى ﷺ، وجرى في ذلك فصول لما كان عنده من التعظيم مع عدم فهم حقيقة أقوالهما، وما تضمنته من الضلالات، وكان ممن حدثني عن شيخه الطاووسي، الذي كان بهمدان عن سعد الدين
ج/ 7 ص -595-ابن حمويه أنه قال: محيي الدين ابن عربي بحر لا تكدره الدلاء، لكن نور المتابعة النبوية على وجه الشيخ شهاب الدين السهروردي شيء آخر. فقلت له: هذا كما يقال كان هؤلاء أوتوا من ملك الكفار ملكا عظيا، لكن نور الإسلام الذي على شهاب غازي صاحب ميافارقين شيء آخر، فإنهم كانوا يعظمون ابن عربي، وذلك لأن الشيخ شهاب الدين لم يكن متمكنا من معرفة السنة، ومتابعتها، وتحقيق ما جاءت به الرسل، كتمكن ابن عربي في طريقه التي سلكها، وجمع فيها بين الفلسفة والتصوف؛ وهؤلاء إنما يقطع دابرهم المباينة بين الخالق والمخلوق، وإثبات تعينه منفصلا عن المخلوق ترفع إليه الأيدي بالدعاء، وإليه كان معراج خاتم الأنبياء؛ وقد ذكر السهروردي في عقيدته المشهورة قوله بلا إشارة ولا تعيين، وهذه هي التي استطال بها عليه هؤلاء، فإنه متى نفيت الإشارة والتعيين لم يبق إلا العدم المحض والتعطيل أو الالحاد والوحدة والحلول.
وابن سبعين وأمثاله من هؤلاء الملاحدة يقولون هكذا لا إشارة ولا تعيين، بل عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى، ويقولون في أذكارهم ليس إلا الله بدل قول المسلمين لا إله إلا الله، لأن معتقدهم أنه وجود كل موجود، فلا موجود إلا هو؛ والمسلمون يعلمون أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ليس هو المخلوقات ولا جزءا منها ولا صفة لها بل هو بائن عنها ويقولون: أنه هو الإله الذي يستحق العبادة دون ما سواه من
ج/ 7 ص -596-الموجودات فلا إله إلا هو، كما قال تعالى: "فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ" [الشعراء:213] وكما قال تعالى: "قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ" [الزمر :64] وقال: "قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" [الأنعام:14] وهؤلاء الملاحدة ما عندهم غير يمكن أن يعبد، ولا غير يمكن أن يتخذ وليا، ولا إلها بل هو العابد والمعبود والمصلي والمصلى له.
كما قال شاعرهم ابن الفارض في قصيدته: [نظم السلوك]
لها صلواتى بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلتى
كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
إلى قوله:
وما كان لي صلى سواي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلي رسولا كنت مني مرسلا وذاتى بآياتى علي إستدلت
وقوله:
وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتى لذاتى أحبت
فهؤلاء [الجهمية]من المتكلمة والصوفية في قولهم: أن الايمان هو مجرد المعرفة والتصديق، يقولون: المعروف هو الموجود الموصوف بالسلب والنفي، كقولهم لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين العالم، ولا محايث، ثم
ج/ 7 ص -597-يعودون فيجعلونه حالا في المخلوقات أو محلا لها أو هو عينها أو يعطلونه بالكلية؛ فهم في هذا نظير المتفلسفة المشائين، الذين يجعلون كمال الانسان بالعلم. [والعلم الأعلى] عندهم و [الفلسفة الأولى] عندهم: النظر في الوجود ولواحقه، ويجعلون واجب الوجود وجودا مطلقا بشرط الاطلاق، لكن أولئك يغيرون العبارات، ويعبرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية واليونانية، وهذا كله قد قرر؛ وبسط القول فيه في غير هذا الموضع.
فصل:
أول ما في الحديث سؤاله عن [الإسلام]: فأجابه بأن "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت". وهذه الخمس هي المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا". وهذا قاله النبي ﷺ بعد أن فرض الله الحج، فلهذا ذكر الخمس: وأكثر الأحاديث لا يوجد فيها ذكر الحج في حديث وفد عبد القيس "آمركم بالإيمان بالله وحده. أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس".
ج/ 7 ص -598-وحديث وفد عبد القيس من أشهر الأحاديث وأصحها. وفي بعض طرق البخاري لم يذكر الصيام، لكن هو مذكور في كثير من طرقه وفي مسلم، وهو أيضا مذكور في حديث أبي سعيد الذي ذكر فيه قصة وفد عبد القيس رواه مسلم، في صحيحه عنه، واتفقا على حديث ابن عباس وفيه أنه أمرهم بإيتاء الخمس من المغنم ; والخمس إنما فرض في غزوة بدر , وشهر رمضان فرض قبل ذلك.
ووفد عبد القيس من خيار الوفد الذين وفدوا على النبي ﷺ، وقدومهم على النبي ﷺ كان قبل فرض الحج، وقد قيل قدموا سنة الوفود: سنة تسع والصواب أنهم قدموا قبل ذلك، فإنهم قالوا: إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر - يعنون أهل نجد - وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، وسنة تسع كانت العرب قد ذلت وتركت الحرب، وكانوا بين مسلم أو معاهد خائف لما فتح الله مكة ثم هزموا هوازن يوم حنين، وإنما كانوا ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، وقد بعث النبي ﷺ أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأردفه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لتنفيذ العهود التي كانت بين النبي ﷺ وبين العرب، إلا أنه أجلهم أربعة أشهر من حين حجة أبي بكر، وكانت في ذي القعدة. وقد قال تعالى: "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ" الآية[التوبة: 5]، وهذه الأربعة التي أجلوها الأربعة الحرم.
ج/ 7 ص -599-ولهذا غزا النبي ﷺ النصارى بأرض الروم عام تبوك سنة تسع قبل إرسال أبي بكر أميرا على الموسم، وإنما أمكنه غزو النصارى لما اطمأن من جهة مشركي العرب، وعلم أنه لا خوف على الإسلام منهم; ولهذا لم يأذن لأحد ممن يصلح للقتال في التخلف فلم يتخلف إلا منافق، أو الثلاثة الذين تيب عليهم أو معذور؛ ولهذا لما استخلف عليا على المدينة عام تبوك طعن المنافقون فيه لضعف هذا الاستخلاف وقالوا: إنما خلفه لأنه يبغضه. فاتبعه علي وهو يبكي فقال: أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وكان قبل ذلك يستخلف على المدينة من يستخلفه وفيها رجال من أهل القتال، وذلك لأنه لم يكن حينئذ بأرض العرب لا بمكة ولا بنجد ونحوهما من يقاتل أهل دار الإسلام - مكة والمدينة وغيرهما - ولا يخيفهم، ثم لما رجع من تبوك أقر أبا بكر على الموسم يقيم الحج والصلاة، ويأمر ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأتبعه بعلي لأجل نقض العهود ; إذ كانت عادة العرب أن لا يقبلوا إلا من المطاع الكبير أو من رجل من أهل بيته.
والمقصود: أن هذا يبين أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل ذلك؛ وأما
[حديث ضمام] فرواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: "نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل يسأله، ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق
ج/ 7 ص -600- قال: فمن خلق السماء ؟ قال: الله قال: فمن خلق الأرض ؟ قال: الله قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال: الله قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا؟ قال: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: صدق ثم ولى الرجل وقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال: رسول الله ﷺ لئن صدق ليدخلن الجنة ". وعن أنس قال: بينما نحن جلوس مع النبي ﷺ في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله; ثم قال لهم: أيكم محمد ؟ - والنبي ﷺ متكئ بين ظهرانيهم فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ ؟ فقال له الرجل: ابن عبد المطلب ؟ فقال له: النبي ﷺ قد أجبتك فقال الرجل للنبي ﷺ: إنني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك ; فقال: سل عما بدا لك ؟ فقال: أسألك بربك ورب من قبلك ؟ آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ فقال: اللهم نعم وذكر أنه سأله عن الصلاة والزكاة ; ولم يذكر الصيام والحج فقال: الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي ; وأنا ضمام
ج/ 7 ص -601-بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر".
هذان الطريقان في الصحيحين، لكن البخاري لم يذكر في الأول الحج، بل ذكر الصيام ; والسياق الأول أتم، والناس يجعلون الحديثين حديثا واحدا. ويشبه - والله أعلم - أن يكون البخاري رأى أن ذكر الحج فيه وهما لأن سعد بن أبي بكر ; هم من هوازن وهم أصهار رسول الله ﷺ وهوازن كانت معهم وقعة حنين بعد فتح مكة، فأسلموا كلهم بعد الوقعة، ودفع إليهم النبي ﷺ النساء والصبيان بعد أن قسمها على المعسكر، واستطاب أنفسهم في ذلك فلا تكون هذه الزيارة إلا قبل فتح مكة، والحج لم يكن فرض إذ ذاك.
وحديث طلحة بن عبيد الله ليس فيه إلا الصلاة والزكاة والصيام وقد قيل: إنه حديث ضمام وهو في الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله ﷺ فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله ﷺ "خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غير ذلك ؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسول الله ﷺ الزكاة قال: هل علي غيرها قال: لا إلا أن تطوع قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله ﷺ: أفلح إن صدق" وليس في شيء من
ج/ 7 ص -602-طرقه ذكر الحج بل فيه ذكر الصلاة والزكاة والصيام كما في حديث وفد عبد القيس.
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة فقال "تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه فلما ولى قال النبي ﷺ: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"، وهذا يحتمل أن يكون ضماما، وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر الصلاة والزكاة فقط، كما في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن أعرابيا عرض لرسول الله ﷺ وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله أو يا محمد. أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار قال: فكف رسول الله ﷺ ثم نظر في أصحابه ثم قال: "لقد وفق أو لقد هدي ثم قال: كيف قلت؟ قال: فأعاد فقال رسول الله ﷺ: تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصل الرحم فلما أدبر قال رسول الله ﷺ: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة" هذه الألفاظ في مسلم.
وقد جاء ذكر الصلاة والصيام في حديث النعمان بن قوقل رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل النبي ﷺ قال: "أرأيت إذا
ج/ 7 ص -603-صليت الصلوات المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أدخل الجنة ؟ قال: نعم قال: والله لا أزيد على ذلك شيئا".
وفي لفظ أتى النبي ﷺ النعمان بن قوقل. وحديث النعمان هذا قديم ; فإن النعمان بن قوقل قتل قبل فتح مكة قتله بعض بني سعد بن العاص، كما ثبت ذلك في الصحيح؛ فهذه الأحاديث خرجت جوابا لسؤال سائلين.
أما حديث ابن عمر فإنه مبتدأ، وأحاديث الدعوة، والقتال فيها الصلاة والزكاة، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله".
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رواه مسلم عن جابر "قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. فكان من فقه أبي بكر أنه فهم من ذلك الحديث المختصر أن القتال على الزكاة قتال على حق المال وقد بين النبي ﷺ مراده بذلك في اللفظ المبسوط الذي رواه ابن عمر.
والقرآن صريح في موافقة حديث ابن عمر كما قال تعالى: "فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ" [التوبة: 5].
ج/ 7 ص -604-وحديث معاذ لما بعثه إلى اليمن لم يذكر فيه النبي ﷺ إلا الصلاة والزكاة. فلما كان في بعض الأحاديث ذكر بعض الأركان دون بعض أشكل ذلك على بعض الناس. فأجاب بعض الناس بأن سبب هذا أن الرواة اختصر بعضهم الحديث الذي رواه، وليس الأمر كذلك ; فإن هذا طعن في الرواة ونسبة لهم إلى الكذب إذ هذا الذي ذكره إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث وفد عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره , وحديث ضمام حيث ذكر بعضهم الخمس وبعضهم لم يذكره، وحديث النعمان بن قوقل حيث ذكر بعضهم فيه الصيام , وبعضهم لم يذكره، فبهذا يعلم أن أحد الراويين اختصر البعض أو غلط في الزيادة. فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيهما كذلك لا سيما والأحاديث قد تواترت بكون الأجوبة كانت مختلفة وفيهما ما بين قطعا أن النبي ﷺ تكلم بهذا تارة وبهذا تارة والقرآن يصدق ذلك؛ فإن الله علق الأخوة الإيمانية في بعض الآيات بالصلاة والزكاة فقط كما في قوله تعالى: "فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ" [التوبة: 11] كما أنه علق ترك القتال على ذلك في قوله تعالى: "فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ" [التوبة: 5] وقد تقدم حديث ابن عمر الذي في الصحيحين موافقا لهذه الآية و [أيضا] فإن في حديث وفد عبد القيس ذكر خمس المغنم، لأنهم كانوا طائفة ممتنعة يقاتلون،
ج/ 7 ص -605-ومثل هذا لا يذكر جواب سؤال سائل بما يجب عليه في حق نفسه، ولكن عن هذا [جوابان]:
أحدهما: أن النبي ﷺ أجاب بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي ; بل قد ثبت في الصحيح أن أول ما أنزل عليه: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" "خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ" - إلى قوله - "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 1: 5] ثم أنزل عليه بعد ذلك "يَا أَيُّهَاالْمُدَّثِّرُ" "قُمْ فَأَنذِرْ" [المدثر: 1، 2] فهذا الخطاب إرسال له إلى الناس والإرسال بعد الإنباء ; فإن الخطاب الأول ليس فيه إرسال وآخر سورة اقرأ "وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ" [العلق: 19] . فأول السورة أمر بالقراءة وآخرها أمر بالسجود؛ والصلاة مؤلفة من أقوال وأعمال فأفضل أقوالها القراءة وأفضل أعمالها السجود؛ والقراءة أول أقوالها المقصودة، وما بعده تبع له. وقد روي أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرضت الخمس ليلة المعراج وكانت ركعتين ركعتين ; فلما هاجر أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، وكانت الصلاة تكمل شيئا بعد شيء، فكانوا أولا يتكلمون في الصلاة، ولم يكن فيها تشهد ثم أمروا بالتشهد ; وحرم عليهم الكلام ; وكذلك لم يكن بمكة لهم أذان.
وإنما شرع الأذان بالمدينة بعد الهجرة; وكذلك صلاة الجمعة والعيد; والكسوف، والاستسقاء، وقيام رمضان وغير ذلك. إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة.
ج/ 7 ص -606-وأمروا بالزكاة، والإحسان في مكة أيضا، ولكن فرائض الزكاة ونصبها إنما شرعت بالمدينة. وأما [صوم شهر رمضان] فهو إنما فرض في السنة الثانية من الهجرة؛ وأدرك النبي ﷺ تسع رمضانات. وأما [الحج] فقد تنازع الناس في وجوبه ; فقالت طائفة فرض سنة ست من الهجرة عام الحديبية باتفاق الناس. قالوا: وهذه الآية تدل على وجوب الحج ووجوب العمرة أيضا، لأن الأمر بالإتمام يتضمن الأمر بابتداء الفعل وإتمامه. وقال الأكثرون: إنما وجب الحج متأخرا قيل سنة تسع ; وقيل سنة عشر وهذا هو الصحيح; فإن آية الإيجاب إنما هي قوله تعالى: "وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ" [آل عمران: 97] وهذه الآية في آل عمران في سياق مخاطبته لأهل الكتاب , وصدر آل عمران وما فيها من مخاطبة أهل الكتاب نزل لما قدم على النبي ﷺ وفد نجران النصارى وناظروه في أمر المسيح ; وهم أول من أدى الجزية من أهل الكتاب، وكان ذلك بعد إنزال سورة براءة التي شرع فيها الجزية، وأمر فيها بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وغزا النبي ﷺ غزوة تبوك التي غزا فيها النصارى لما أمر الله بذلك في قوله: "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" [التوبة: 29]
ج/ 7 ص -607-ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث وإنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
وقد قدم على النبي ﷺ وفد عبد القيس، وكان قدومهم قبل فتح مكة على الصحيح، كما قد بيناه وقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر يعنون بذلك أهل نجد: من تميم وأسد وغطفان، لأنهم بين البحرين وبين المدينة، وعبد القيس هم من ربيعة ليسوا من مضر؛ ولما فتحت مكة زال هذا الخوف، ولما قدم عليه وفد عبد القيس أمرهم بالصلاة والزكاة ; وصيام رمضان ; وخمس المغنم ; ولم يأمرهم بالحج وحديث ضمام قد تقدم أن البخاري لم يذكر فيه الحج، كما لم يذكره في حديث طلحة وأبي هريرة وغيرهما مع قولهم: إن هذه الأحاديث هي من قصة ضمام وهذا ممكن ; مع أن تاريخ قدوم ضمام هذا ليس متيقنا.
وأما قوله: "وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ" [البقرة: 196] فليس في هذه الآية إلا الأمر بإتمام ذلك وذلك يوجب إتمام ذلك على من دخل فيه، فنزل الأمر بذلك لما أحرموا بالعمرة عام الحديبية، ثم أحصروا فأمروا بالإتمام وبين لهم حكم الإحصار، ولم يكن حينئذ قد وجب عليهم لا عمرة ولا حج.
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض الظاهرة التي تقاتل على تركها الطائفة الممتنعة كالصلاة والزكاة،
ج/ 7 ص -608-ويذكر تارة ما يجب على السائل، فمن أجابه بالصلاة والصيام، لم يكن عليه زكاة يؤديها ومن أجابه بالصلاة والزكاة والصيام: فإما أن يكون قبل فرض الحج؛ وهذا هو الواجب في مثل حديث عبد القيس ونحوه، وإما أن يكون السائل ممن لا حج عليه.
وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ; ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما; لأنهما عبادتان; بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد; فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم، وأن يأكل سرا كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وأما الصلاة والزكاة، فأمر ظاهر لا يمكن الإنسان بين المؤمنين أن يمتنع من ذلك. وهو ﷺ يذكر في الإسلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل عليها الناس، ويصيرون مسلمين بفعلها ; فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان الصوم واجبا، كما في آيتي براءة، فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس.
وكذلك "لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما أهل كتاب ; فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك; فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ; فإن هم أطاعوك لذلك
ج/ 7 ص -609-فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه في الصحيحين.
ومعاذ أرسله إلى اليمن في آخر الأمر بعد فرض الصيام; بل بعد فتح مكة بل بعد تبوك وبعد فرض الحج والجزية فإن النبي ﷺ مات ومعاذ باليمن وإنما قدم المدينة بعد موته; ولم يذكر في هذا الحديث الصيام لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج ; لأن وجوبه خاص ليس بعام وهو لا يجب في العمر إلا مرة.
ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئا من هذه الفرائض الأربع بعد الاقرار بوجوبها؛ فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهوكافر بإتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وائمتها، وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة، وهم جهمية المرجئة: كجهم والصالحى وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن؛ وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة. وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الايمان الباطن تصديقا وحبا وإنقيادا بدون الإقرار الظاهر ممتنع.
وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة
ج/ 7 ص -610-فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها، كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك، وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الاسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل. وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد:
أحدها: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد إختارها أبو بكر
والثاني: أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الاقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره.
ج/ 7 ص -611-والثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من
السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعى، وطائفة من أصحاب أحمد.
والرابع: يكفر بتركها وترك الزكاة فقط.
والخامس: بتركها، وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج وهذه المسألة لها طرفان:
أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.
والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
فأما الطرف الثاني: فهو مبنى على مسألة كون الايمان قولا وعملا؛ كما تقدم ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح؛ ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ" [القلم: 42، 43].
ج/ 7 ص -612-وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما،
في الحديث الطويل، حديث التجلي "أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق لا يستطيع السجود" فإذا كان هذا حال من سجد رياء، فكيف حال من لم يسجد قط؛ وثبت أيضا في الصحيح "أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء الا موضع السجود فان الله حرم على النار أن تأكله" فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله؛ وكذلك ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ يعرف أمته يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فدل على أن من لم يكن غرا محجلا لم يعرفه النبى ﷺ، فلا يكون من أمته وقوله تعالى:"كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" [المرسلات: 46: 49]
وقوله تعالى:"وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ" [الإنشقاق:21: 23] وكذلك قوله تعالى:"فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى" [القيامة:31، 32] وكذلك قوله تعالى: "مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ" [المدثر:42: 47] فوصفه بترك الصلاة، كما وصفه بترك التصديق، ووصفه بالتكذيب والتولي و[المتولي] هو العاصي الممتنع من الطاعة. كما قال
ج/ 7 ص -613-تعالى: "سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" [الفتح: 16] وكذلك وصف أهل سقر بأنهم لم يكونوا من المصلين، وكذلك قرن التكذيب بالتولي في قوله:"أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ" [العلق:9: 16]
وأيضا في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فاذا انتفي ذلك انتفت الأخوة وأيضا فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وفي المسند "من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة".
وأيضا فإن شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها فيقال: اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
وفي الصحيح "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا" وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليست لهم حجة إلا وهي
ج/ 7 ص -614-متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك؛ مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله:"من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه... أدخله الله الجنة" ونحو ذلك من النصوص.
وأجود ما إعتمدوا عليه قوله ﷺ: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة".
قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة، ولا دلالة في هذا؛ فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى:"حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى" [البقرة:238] وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي ﷺ صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها، وعلى غيرها من الصلوات، وقد قال تعالى:"فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" [مريم: 59] فقيل لابن مسعود وغيره: ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها. فقالوا: ما كنا نظن
ذلك إلا تركها. فقال: لو تركوها لكانوا كفارا. وكذلك قوله:"فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ" [الماعون:4، 5]
ج/ 7 ص -615-ذمهم مع أنهم يصلون، لأنهم سهوا عن حقوقها الواجبة، من فعلها في الوقت، وإتمام أفعالها المفروضة، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: "تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" فجعل هذه صلاة المنافقين لكونه أخرها عن الوقت، ونقرها؛ وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر؛ وقالوا يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال:"لا ما صلوا" وثبت عنه أنه قال: "سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة" فنهى عن قتالهم إذا صلوا، وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، وذلك ترك المحافظة عليها لا تركها وإذا عرف الفرق بين الأمرين، فالنبى ﷺ، إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها ولا يتناول من لم يحافظ، فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفارا مرتدين بلا ريب، ولا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزما لشريعة النبي ﷺ وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطن قط لا يكون إلا كافرا، ولو قال: أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها،
ج/ 7 ص -616-كان هذا القول مع هذه الحال كذبا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذبا فيما أظهره من القول؛ فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في [مسألة الإيمان] وأن الأعمال ليست من الإيمان وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم ايمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه .
وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات، ويترك بعضها، كان معه من الايمان بحسب ما فعله، والإيمان يزيد وينقص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق؛ كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
ج/ 7 ص -617-وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيرا من الناس؛ بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة بل يصلون أحيانا، ويدعون أحيانا، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الأسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام؛ فإن هذه الاحكام إذا جرت على المنافق المحض كابن أبي وأمثاله من المنافقين فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى.
وبيان[هذا الموضع] مما يزيل الشبهة، فإن كثيرا من الققهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر. وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه كابن أبي وأمثاله ومع هذا، فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماؤهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته.
ولما خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب رضي الله عنه واعتزلوا جماعة المسلمين قال لهم: إن لكم علينا ألا نمنعكم المساجد، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء، فلما استحلوا قتل المسلمين وأخذ أموالهم، قاتلهم بأمر النبي ﷺ؛
ج/ 7 ص -618-حيث قال:"يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، ، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة".
فكانت الْحَرُورِيَّة قد ثبت قتالهم بسنة النبي ﷺ، واتفاق أصحابه، ولم يكن قتالهم قتال فتنة كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين في المسلمين، بل قد ثبت عن النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أنه قال للحسن ابنه:"إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، وقال في الحديث الصحيح: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، فتقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق"، فدل بهذا على أن ما فعله الحسن من ترك القتال إما واجبًا أو مستحبًا، لم يمدحه النبي ﷺ على ترك واجب أو مستحب، ودل الحديث الآخر على أن الذين قاتلوا الخوارج وهم علي وأصحابه، كان أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن قتال الخوارج أمر به النبي ﷺ ليس قتالهم كالقتال في الجمل وصفين، الذي ليس فيه أمر من النبي.
والمقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه، لم يحكموا بكفرهم ولا قاتلوهم حتى بدؤوهم بالقتال. والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكى عنه في ذلك قولان،
ج/ 7 ص -619-كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد.
والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول. فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع.
ج/ 7 ص -620-فإن قيل: فالله قد أمر بجهاد الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن، فإذا كان المنافق تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر، فكيف يمكن مجاهدته؟
قيل: ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق، لابد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وقد قال تعالى في حق المنافقين:"وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ" [محمد:30]. فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات، وفعل المحرمات ما يستحق عليه العقوبة، عوقب على الظاهر، ولا يعاقب على ما يعلم من باطنه، بلا حجة ظاهرة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يعلم من المنافقين، من عرفه الله بهم، وكانوا يحلفون له وهم كاذبون، وكان يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله. وأساس النفاق الذي بني عليه وأن المنافق لابد أن تختلف سريرته وعلانيته وظاهره وباطنه؛ ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى: "وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" [البقرة:10]، وقال: "وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" [المنافقون:1] وأمثال هذا كثير، وقال تعالى:"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحجرات:15]، وقال "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"إلى قوله: "أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [البقرة:177].
وبالجملة فأصل هذه المسائل: أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر،
ج/ 7 ص -621-وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة، كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا، فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين.
وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد.
ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازمًا له، أو جزءًا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئًا خطأ بينًا، وهذه بدعة الإرجاء، التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها.
ج/ 7 ص -622-فصل
وأما الإحسان، فقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قد قيل: إن الإحسان هو الإخلاص.
والتحقيق:أن الإحسان يتناول الإخلاص وغيره، والإحسان يجمع كمال الإخلاص لله، ويجمع الإتيان بالفعل الحسن الذي يحبه الله، قال تعالى:"بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة:112]، وقال تعالى:"وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً" [النساء:125]، فذكر إحسان الدين أولاً، ثم ذكر الإحسان ثانيا، فإحسان الدين هو والله أعلم الإحسان المسؤول عنه في حديث جبريل، فإنه سأله عن الإسلام والإيمان، ففي...
ج/ 7 ص -623-وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
فصل
قد ذكرت فيما تقدم من القواعد: أن الإسلام الذي هو دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو أن يسلم العبد لله رب العالمين، فيستسلم لله وحده لا شريك له، ويكون سالمًا له بحيث يكون متألها له غير متأله لما سواه، كما بينته أفضل الكلام، ورأس الإسلام وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، وله ضدان: الكبر والشرك؛ ولهذا روي أن نوحًا عليه السلام أمر بنيه ب لا إله إلا الله، وسبحان الله، ونهاهم عن الكبر والشرك، في حديث قد ذكرته في غير هذا الموضع، فإن المستكبر عن عبادة الله لا يعبده فلا يكون مستسلمًا له، والذي يعبده ويعبد غيره يكون مشركًا به فلا يكون سالمًا له، بل يكون له فيه شرك.
ولفظ [الإسلام] يتضمن الاستسلام والسلامة التي هي الإخلاص، وقد علم أن الرسل جميعهم بعثوا بالإسلام العام المتضمن لذلك، كما قال تعالى:"يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ" [المائدة:44]، وقال موسى:"إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" [يونس:84]، وقال تعالى:"بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ" [البقرة:112]،
ج/ 7 ص -624-وقال الخليل لما قال له ربه: "أَسْلَمَ" قال : "أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ" ويعقوب أيضًا وصى بها بنيه:"يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" [البقرة:131، 132]، وقال يوسف:"تَوَفَّنِي مُسْلِمًا" [يوسف:101] ونظائره كثيرة.
وعلم أن إبراهيم الخليل هو إمام الحنفاء المسلمين بعده، كما جعله أمة وإمامًا، وجاءت الرسل من ذريته بذلك، فابتدعت اليهود والنصارى ما ابتدعوه، مما خرج بهم عن دين الله الذي أمروا به وهو الإسلام العام؛ ولهذا أمرنا أن نقول:"اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" [الفاتحة:6، 7] وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون"، وكل من هاتين الأمتين خرجت عن الإسلام وغلب عليها أحد ضديه، فاليهود يغلب عليهم الكبر ويقل فيهم الشرك، والنصاري يغلب عليهم الشرك ويقل فيهم الكبر.وقد بين الله ذلك في كتابه فقال في اليهود:"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ"وهذا هو أصل الإسلام إلى قوله: "ٌوَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ" [البقرة:83: 87].
وهذا اللفظ الذي هو لفظ الاستفهام هو إنكار لذلك عليهم، وذم لهم عليه، وإنما يذمون على ما فعلوه، فعلم أنهم كانوا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى
ج/ 7 ص -625-أنفسهم استكبروا، فيقتلون فريقًا من الأنبياء، ويكذبون فريقًا، وهذا حال المستكبر الذي لا يقبل ما لا يهواه، فإن النبي ﷺ قد فسر الكبر في الحديث الصحيح بأنه: "بَطَر الحق وغَمْط الناس"، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي ﷺ:"لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". فقال رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا أفمن الكبر ذاك؟ فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بَطَر الحق وغَمْط الناس"، وبطر الحق: جحده ودفعه، وغمط الناس: احتقارهم وازدراؤهم.
وكذلك ذكر الله الكبر في قوله بعد أن قال: "وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ" إلى أن قال: "سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً" [الأعراف:145، 146]. وهذا حال الذي لا يعمل بعلمه بل يتبع هواه وهو الغاوي كما قال:"وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ"الآية [الأعراف:175، 176]، وهذا مثل علماء السوء، وقد قال لما رجع موسى إليهم: "وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ" [الأعراف: 154]، فالذين يرهبون ربهم، خلاف الذين يتبعون أهواءهم، كما قال تعالى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" [النازعات:40، 41].
ج/ 7 ص -626-فأولئك المستكبرون المتبعون أهواءهم مصروفون عن آيات الله لا يعلمون ولا يفهمون، لما تركوا العمل بما علموه استكبارًا واتباعًا لأهوائهم عوقبوا بأن منعوا الفهم والعلم، فإن العلم حرب للمتعالي، كما أن السيل حرب للمكان العالي، والذين يرهبون ربهم عملوا بما علموه، فأتاهم الله علمًا ورحمة؛إذ من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم؛ ولهذا لما وصف الله النصارى:"بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا" والرهبان: من الرهبنة "وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ"كانوا بذلك أقرب مودة إلى الذين آمنوا، كما قال: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" [المائدة:82]
فلما كان فيهم رهبة وعدم كبر، كانوا أقرب إلى الهدى، فقال في حق المسلمين منهم: "وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" [المائدة:83]. قال ابن عباس: مع محمد وأمته، وهم الأمة الشهداء، فإن النصارى لهم قصد وعبادة، وليس لهم علم وشهادة؛ ولهذا فإن كان اليهود شرًا منهم، بأنهم أكثر كبرًا وأقل رهبة، وأعظم قسوة، فإن النصارى شر منهم فإنهم أعظم ضلالا وأكثر شركًا، وأبعد عن تحريم ما حرم الله ورسوله.
وقد وصفهم الله بالشرك الذي ابتدعوه، كما وصف اليهود بالكبر الذي هووه، فقال تعالى:"اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة:31]،
ج/ 7 ص -627- وقال تعالى:"وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ"إلى قوله: "أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ"الآية [المائدة:116، 117] وقد ذكر الله قولهم: أن الله هو المسيح ابن مريم، وأن الله ثالث ثلاثة، وقولهم: اتخذ الله ولدًا، في مواضع من كتابه، بين عظيم فريتهم وشتمهم لله، وقولهم: الإد الذي:"تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا" [مريم:90]، ولهذا يدعوهم في غير موضع إلى ألا يعبدوا إلا إلهًا واحدًا، كقوله: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ"إلى قوله: "وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ"إلى قوله: "لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا" [النساء: 171، 172]، وهذا لأن المشركين بمخلوق من البشر أو غيرهم، يصيرون هم مشركون، ويصير الذي أشركوا به من الإنس والجن مستكبرًا، كما قال: "وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا" [الجن:6]، فأخبر الله أن عباده لا يستكبرون عن عبادته وإن أشرك بهم المشركون. وكذلك قال تعالى:"لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ" إلى قوله: "مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ"الآية: [المائدة:73: 75]، وقال تعالى:"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ" [المائدة:72]
ج/ 7 ص -628-فأخبر أنه أمرهم بالتوحيد ونهاهم عن أن يشركوا به، أو بغيره كما فعلوه.
ولما كان أصل دين اليهود الكبر عاقبهم بالذلة "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ" [آل عمران: 112].ولما كان أصل دين النصارى الإشراك لتعديد الطرق إلى الله أضلهم عنه، فعوقب كل من الأمتين على ما اجترمه بنقيض قصده: "وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" [فصلت:46]. كما جاء في الحديث:"يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم".وكما في الحديث عن عمر بن الخطاب موقوفًا ومرفوعًا: "ما من أحد إلا في رأسه حكمة، فإن تواضع قيل له: انتعش نعشك الله، وإن رفع رأسه قيل له: انتكس نكسك الله"، وقال سبحانه وتعالى:"إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر:60]، وقال تعالى:"بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ" [الزمر:59: 61].
ولهذا استوجبوا الغضب والمقت.والنصارى لما دخلوا في البدع أضلهم عن سبيل الله فضلوا عن سبيل الله وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل، وهم إنما ابتدعوها ليتقربوا بها إليه ويعبدوه، فأبعدتهم عنه وأضلتهم عنه وصاروا يعبدون غيره.
ج/ 7 ص -629-فتدبر هذا والله تعالى يهدينا صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وقد وصف بعض اليهود بالشرك، في قوله:"وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ" [التوبة:30]، وفي قوله:"قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ" [المائدة:60]، ففي اليهود من عبد الأصنام، وعبد البشر، وذلك أن المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل، فيكون المستكبر مشركًا، كما ذكر الله عن فرعون وقومه: أنهم كانوا مع استكبارهم وجحودهم مشركين، فقال عن مؤمن آل فرعون: "وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ" [غافر:41: 43]، وقال: "وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ" الآية [غافر:34].وقال يوسف الصديق لهم:"يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" [يوسف:39، 40]، وقد قال تعالى:"وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ" [الأعراف:127].
فإن قيل:كيف يكون قوم فرعون مشركين؟ وقد أخبر الله عن فرعون
ج/ 7 ص -630-أنه جحد الخالق فقال: "وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء:23]، وقال:"مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي" [القصص:38]وقال:"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" [النازعات:24]، وقال عن قومه: "فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل:13، 14]، والإشراك لا يكون إلا من مقر بالله، وإلا فالجاحد له لم يشرك به.
قيل: لم يذكر الله جحود الصانع إلا عن فرعون موسى، وأما الذين كانوا في زمن يوسف فالقرآن يدل على أنهم كانوا مقرين بالله، وهم مشركون به؛ ولهذا كان خطاب يوسف للملك وللعزيز ولهم يتضمن الإقرار بوجود الصانع، كقوله: "أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ"، "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ" إلى قوله: "إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ" [يوسف:50]، "وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ" إلى قوله:"إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [يوسف:52، 53]، وقد قال مؤمن آل حم: "وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا" [غافر:34]، فهذا يقتضي أن أولئك الذين بعث إليهم يوسف كانوا يقرون بالله.
ولهذا كان أخوة يوسف يخاطبونه قبل أن يعرفوا أنه يوسف، ويظنونه من آل فرعون بخطاب يقتضي الإقرار بالصانع، كقولهم:"تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ" [يوسف:73] وقال لهم:"أَنتُمْ" [يوسف:77]، وقال:"مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ" [يوسف:79] وقالوا له:
ج/ 7 ص -631-"يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ" [يوسف:88]، وذلك أن فرعون الذي كان في زمن يوسف أكرم أبويه وأهل بيته لما قدموا إكرامًا عظيمًا مع علمه بدينهم، واستقراء أحوال الناس يدل على ذلك.
فإن جحود الصانع لم يكن دينًا غالبًا على أمة من الأمم قط، وإنما كان دين الكفار الخارجين عن الرسالة هو الإشراك، وإنما كان يجحد الصانع بعض الناس، وأولئك كان علماؤهم من الفلاسفة الصابئة المشركين، الذين يعظمون الهياكل والكواكب والأصنام، والأخبار المروية من نقل أخبارهم وسيرهم كلها تدل على ذلك، ولكن فرعون موسى: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ" [الزخرف:54] وهو الذي قال لهم دون الفراعنة المتقدمين : "مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي" [القصص:38]، ثم قال لهم بعد ذلك:"أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى" [النازعات: 24، 25] نكال الكلمة الأولى، ونكال الكلمة الأخيرة، وكان فرعون في الباطن عارفًا بوجود الصانع وإنما استكبر كإبليس وأنكر وجوده، ولهذا قال له موسى: "لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ" [الإسراء: 102] فلما أنكر الصانع، وكانت له آلهة يعبدها بقى على عبادتها ولم يصفه الله تعالى بالشرك، وإنما وصفه بجحود الصانع وعبادة آلهة أخرى. والمنكر للصانع منهم مستكبر كثيرًا ما يعبد آلهة، ولا يعبد الله قط، فإنه يقول: هذا العالم واجب الوجود بنفسه. وبعض أجزائه مؤثر في بعض، ويقول: إنما انتفع بعبادة الكوكب والأصنام، ونحو ذلك؛ ولهذا كان باطن قول هؤلاء الاتحادية، المنتسبة إلى الإسلام هو قول فرعون.
ج/ 7 ص -632-وكنت أبين أنه مذهبهم، وأبين أنه حقيقة مذهب فرعون، حتى حدثني الثقة عن بعض طواغيتهم أنه قال: نحن على قول فرعون؛ ولهذا يعظمون فرعون في كتبهم تعظيمًا كثيرًا. فإنهم لم يجعلوا ثَمَّ صانعًا للعالم خلق العالم، ولا أثبتوا ربًا مدبرًا للمخلوقات، وإنما جعلوا نفس الطبيعة هي الصانع؛ ولهذا جوزوا عبادة كل شيء، وقالوا: من عبده فقد عبد الله، ولا يتصور عندهم أن يعبد غير الله فما من شيء يعبد إلا وهو الله، وهذه الكائنات عندهم أجزاؤه، أو صفاته، كأجزاء الإنسان أو صفاته، فهؤلاء إذا عبدوا الكائنات فلم يعبدوها لتقربهم إلى الله زلفى، لكن لأنها عندهم هي الله أو مجلى من مجاليه، أو بعض من أبعاضه، أو صفة من صفاته، أو تعين من تعيناته، وهؤلاء يعبدون ما يعبده فرعون وغيره من المشركين، لكن فرعون لا يقول: هي الله، ولا تقربنا إلى الله، والمشركون يقولون: هي شفعاؤنا وتقربنا إلى الله، وهؤلاء يقولون: هي الله، كما تقدم، وأولئك أكفر من حيث اعترفوا بأنهم عبدوا غير الله أو جحدوه، وهؤلاء أوسع ضلالاً من حيث جوزوا عبادة كل شىء وزعموا أنه هو الله، وأن العابد هو المعبود، وإن كانوا إنما قصدوا عبادة الله.
وإذا كان أولئك كانوا مشركين كما وصفوا بذلك، وفرعون موسى هو الذي جحد الصانع وكان يعبد الآلهة، ولم يصفه الله بالشرك.
فمعلوم أن المشركين قد يحبون آلهتهم كما يحبون الله، أو تزيد محبتهم لهم على محبتهم لله؛ ولهذا يشتمون الله إذا شتمت آلهتهم، كما قال تعالى:
ج/ 7 ص -633-"وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ" [الأنعام:108]. فقوم فرعون قد يكونون أعرضوا عن الله بالكلية بعد أن كانوا مشركين به، واستجابوا لفرعون في قوله: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" [النازعات:24]، و"مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي" [القصص:38]؛ ولهذا لما خاطبهم المؤمن ذكر الأمرين فقال: "تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ" [غافر:42]. فذكر الكفر به الذي قد يتناول جحوده، وذكر الإشراك به أيضًا، فكان كلامه متناولاً للمقالتين والحالين جميعًا.
فقد تبين أن المستكبر يصير مشركًا، إما بعبادة آلهة أخرى مع استكباره عن عبادة الله، لكن تسمية هذا شركًا نظير من امتنع مع استكباره عن إخلاص الدين لله، كما قال تعالى: "إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ" [الصافات:35، 36]. فهؤلاء مستكبرون مشركون؛ وإنما استكبارهم عن إخلاص الدين لله، فالمستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر كفرعون أعظم كفرًا منهم، وإبليس الذي يأمر بهذا كله ويحبه ويستكبر عن عبادة ربه وطاعته أعظم كفرًا من هؤلاء، وإن كان عالمًا بوجود الله وعظمته كما أن فرعون كان أيضًا عالمًا بوجود الله.
وإذا كانت البدع والمعاصي شعبة من الكفر وكانت مشتقة من شعبه، كما أن الطاعات كلها شعبة من شعب الإيمان ومشتقة منه، وقد علم أن الذي يعرف الحق ولا يتبعه غاو يشبه اليهود، وأن الذي يعبد الله من غير علم وشرع وهو ضال يشبه النصارى، كما كان يقول من يقول من السلف: من فسد من العلماء
ج/ 7 ص -634-ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى.
فعلى المسلم أن يحذر من هذين الشبهين الفاسدين، من حال قوم فيهم استكبار وقسوة عن العبادة والتأله، وقد أوتى نصيبًا من الكتاب وحظًا من العلم، وقوم فيهم عبادة وتأله بإشراك بالله وضلال عن سبيل الله ووحيه وشرعه، وقد جعل في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها، وهذا كثير منتشر في الناس، والشبه تقل تارة وتكثر أخرى، فأما المستكبرون المتألهون لغير الله الذين لا يعبدون الله، وإنما يعبدون غيره للانتفاع به، فهؤلاء يشبهون فرعون.
ج/ 7 ص -635-وقال رحمه الله تعالى:
فصل
لفظ [الإسلام] يستعمل على وحهين:
متعديا كقوله: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ" [النساء:125]، وقوله: "فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ" الآية [آل عمران:20]، وقوله في دعاء المنام. "أسلمت نفسي إليك".
ويستعمل لازمًا كقوله: "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" [البقرة:131]، وقوله:"وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" [آل عمران:83]، وقوله عن بلقيس: "وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [النمل:44]. وهو يجمع معنيين:
أحدهما: الانقياد والاستسلام.
والثلااني: إخلاص ذلك وإفراده، كقوله: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ" [الزمر: 29]، وعنوانه قول: لا إله إلا الله. وله معنيان:
ج/ 7 ص -636-أحدهما: الدين المشترك، وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي بعث به جميع الأنبياء، كما دل على اتحاد دينهم نصوص الكتاب والسنة.
والثاني: ما اختص به محمد من الدين والشرعة والمنهاج وهو الشريعة والطريقة والحقيقة وله مرتبتان:
أحدهما: الظاهر من القول والعمل، وهي المباني الخمس.
والثاني: أن يكون ذلك الظاهر مطابقًا للباطن: فبالتفسير الأول جاءت الآيتان في كتاب الله، والحديثان عن رسول الله ﷺ وهو أعم من الإيمان، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنًا. وبالتفسير الثاني يقال: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ٍ" [آل عمران:19]، وقوله: "وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" [البينة:5]، وقوله: "آمركم بالإيمان بالله"، وفسره بخصال الإسلام. وعلى هذا التفسير فالإيمان التام والدين والإسلام سواء، وهو الذي لم يفهم المعتزلة غيره. وقد يراد به معنى ثالث هو كماله وهو قوله:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" فيكون أسلم غيره، أي جعله سالمًا منه.
ولفظ [الإيمان] قيل: أصله التصديق وليس مطابقًا له، بل لابد أن يكون تصديقًا عن غيب، وإلا فالخبر عن مشهود ليس تصديقه إيمانًا؛ لأنه من الأمن الذي هو الطمأنينة، وهذا إنما يكون في المخبر الذي قد يقع فيه ريب، والمشهودات لا ريب فيها إلا على هذا فإما تصديق القلب فقط كما تقول
ج/ 7 ص -637-الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية، وإما القلب واللسان كما تقوله المرجئة، أو باللسان كما تقوله الكَرَّامِيَّة، وأما التصديق بالقلب والقول والعمل فإن الجميع يدخل في مسمى التصديق على مذهب أهل الحديث، كما فسره شيخ الإسلام وغيره. وقيل: بل هو الإقرار؛ لأن التصديق إنما يطابق الخبر فقط، وأما الإقرار فيطابق الخبر والأمر، كقوله: "أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا" [آل عمران:81]؛ ولأن قر وآمن متقاربان، فالإيمان دخول في الأمن، والإقرار دخول في الإقرار، وعلى هذا فالكلمة إقرار، والعمل بها إقرار أيضًا.
ثم هو في الكتاب بمعنيين: أصل، وفرع واجب، فالأصل الذي في القلب وراء العمل؛ فلهذا يفرق بينهما بقوله: "آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [البينة:7] والذي يجمعهما كما في قوله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ" [الأنفال:2]، و "لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ" [التوبة:44]. وحديث الحياء، ووفد عبد القيس، وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصًا يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه ومقتصد وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرهما من الأعيان، والأعمال والصفات، فمن سواء أجزائه ما إذا ذهب نقص عن الأكمل ومنه ما نقص عن الكمال، وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول، الذي يزعم المرجئة والجهمية أنه مسمى فقط، وبهذا تزول شبهات الفرق، وأصله القلب وكماله العمل الظاهر، بخلاف الإسلام فإن أصله الظاهر، وكماله القلب.
ج/ 7 ص -638-وقال رحمه الله:
فصل
معلوم أن أصل الإيمان هو: الإيمان بالله ورسوله، وهو أصل العلم الإلهي، كما بينته في أول الجزء.
فأما الإيمان بالله، فهو في الجملة قد أقر به جمهور الخلائق، إلا شواذ الفرق من الفلاسفة الدهرية، والإسماعيلية ونحوهم، أو من نافق فيه، من المظهرين للتمسك بالملل، وإنما يقع اختلاف أهل الملل في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعبادته ونحو ذلك.
وأما الإيمان بالرسول، فهو المهم؛ إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه ولهذا كان ركنا الإسلام:"أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار، لا مجرد التصديق.والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد تصديق الرسول
ج/ 7 ص -639-فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار بالله هو الاعتراف به والعبادة له، فالنفاق يقع كثيرًا في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته. والكفر هو عدم الإيمان، سواء كان معه تكذيب، أو استكبار أو إباء أو إعراض، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر.
ثم هنا نفاقان: نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة؛ فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه، فألا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر علما وعملاً وأنه يجوز تصديقه وطاعته، لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدًا، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته، إما بطريق الفلسفة والصبو، أو بطريق التهود والتنصر، كما هو قول الصابئة الفلاسفة، في هذه المسألة وفي غيرها، فإنهم وإن صدقوه وأطاعوه فإنهم لا يعتقدون وجوب ذلك على جميع أهل الأرض، بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذبًا، بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أوطاعة ملك، وهذا دين التتار ومن دخل معهم.
أما النفاق الذي هو دون هذا، فأن يطلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يبتلى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة، فهم يعتقدون أنه يجب تصديقه أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي
ج/ 7 ص -640- والعملي غير سالكين هذا المسلك بل يسلكون مسلكًا آخر: إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوَجْد، وإما من جهة التقليد، وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه وإما أن يردوه إلى ما سلكوه، فانظر نفاق هذين الصنفين! مع اعترافهم باطنًا وظاهرًا بأن محمدًا أكمل الخلق وأفضل الخلق، وأنه رسول وأنه أعلم الناس، لكن إذا لم يوجبوا متابعته وسوغوا ترك متابعته كفروا، وهذا كثير جدًا، لكن بسط الكلام في حكم هؤلاء له موضع غير هذا.